أقلام فكرية

أقلام فكرية

اذا كان سقراط يناقش الفلسفة في الساحات العامة، فهو ايضا كان يتدرب كجندي مشاة قاتل ضمن كتيبة عسكرية. وحين يستخدم المناورة وهو مرتديا درعا ثقيلا يكون قد جسّد مقدارا كبيرا من القوة والرشاقة. حرب الرقص الباهضة الثمن التي كان يقوم بتمثيلها القدماء حول جثمان القائد باتروكلس، وصفها افلاطون في القوانين، وتطلبت تقليد حركات الهجوم والدفاع "باسلوب رجولي مباشر".

في حوار افلاطون (ابولوجي) ، يعلن سقراط بفخر أمام الادّعاء العام انه لم يترك واجبه في معركة بوتيديا ومعركة ديليوم وامفيبوليس خوفا من الموت، لذا هو سوف لن يتخلى الان عن حياة الفيلسوف. اولى المعارك الثلاث هي معركة بوتيديا التي وقعت عام 432 ق.م، عندما كان سقراط بعمر 38 سنة، بما يشير الى انه ربما شارك في حملات اخرى مبكرة. على خلاف أسلافه مثل فيثاغوروس وامبيدوكليس اللذان كانت لديهما رؤية سلمية، سقراط لم يشك في الحرب التي نظر اليها باعتبارها واجبا وطنيا. غير انه، رفض تنفيذ أوامر غير عادلة، كما فعل يسوع بعد أربعة قرون، حيث رفض سقراط قانون الأسلاف في الإنتقام، قائلا، في كريتو Crito، "نحن يجب ان لا ننتقم او نخلق شرا لأي شخص مهما كان الشر الذي قاسيناه منه". في القوانين، يذهب افلاطون أبعد من ذلك، مجادلا ان الحرب يجب المشاركة فيها فقط لأجل السلام.

معركة بوتيديا Potidaea

الحصار الذي فُرض على مدينة بوتيديا الثائرة ضد اثينا، استمر حتى عام 429. في ندوة افلاطون Symposium، يقول السيبياديس ان سقراط أنقذ حياته بمفرده في بوتيديا، وتحمّل صعوبة الحملة"اكثر بكثير من أي شخص آخر في الجيش".

أثناء فترة الصقيع الشديد، هو سار حافي القدمين وحتى تفوّق على رفاقه مرتدي الأحذية الذين أبدو كراهية تجاهه لأنه كان يحتقرهم". ورغم ان سقراط أنقذ حياته، لكن السيبياديس بسبب ميلاده وطبقته، هو الذي استلم جائزة البطولة. عندما احتج السيبياديس مع الجنرالات بان الجائزة يجب ان تذهب الى سقراط، كان سقراط اكثر تلهفا من أي شخص آخر في ان تذهب الجائزة الى السيبياديس .

معركة ديليوم Delium 

وقعت هذه المعركة في بوتيا عام 424، أي بعد خمس سنوات من حرب بوتيديا، وانتهت بهزيمة مؤلمة لأثينا. في حوار لاتش Laches لإفلاطون، يقول الجنرال لاتش بان سقراط كان رفيقه في الانسحاب من دليوم، ولو كان الآخرون مثله "لتعزز شرف البلاد ولما حصلت الهزيمة الكبرى". وفي تكريم لبطولته في دليوم، لاتش يدعو سقراط لتعليمه والوقوف ضده قدر ما يستطيع، دون اعتبار لكبر سنه او رتبته.

اثناء الانسحاب من ديليوم، التقى السيبيداس وهو على حصانه سقراط ولاتش. في ندوة افلاطون، هو يقول بانه حتى في الانسحاب، بدا سقراط شديد الهدوء وواثق من نفسه ويفرض على الآخرين عدم التفكير بمهاجمته او مهاجمة مرافقيه، مفضلا بدلا من ذلك متابعة منْ سلكوا اسلوب القتال المتهور.

معركة امفيبوليس Amphipolis

وقعت هذه المعركة في عام 422، بعد سنتين من معركة دليوم عندما كان سقراط بعمر 48 سنة، عمر يصعب فيه تحمّل درع المعركة. في السنة السابقة للمعركة، نظّم الكاتب الساخر اريستوفان مسرحية الغيوم التي سخر بها من سقراط واصفا اياه بالملحد ، ومن المحتمل ان شهرة سقراط، خاصة بين الناس العاديين ارتكزت على شجاعته في المعركة بنفس مقدار قدرته الفكرية. في امفيبوليس، كانت اثينا هُزمت مرة اخرى لكن وفاة كلاون في الجانب الاثني وبراسيداس في الجانب السبارطي أعدّ الارضية للسلام في نيسياس، وبالنسبة لسقراط، العودة الى الفلسفة في الشارع.

سقراط وافلاطون حول الشجاعة

في حوار لاتش لإفلاطون Laches، ويُعرف ايضا بـ (حول الشجاعة)، يستنتج الجنرال نيسياس ان الشجاعة عبارة عن المعرفة بالمخيف والمأمول في الحرب وفي كل المجالات والمواقف الاخرى. سقراط يقول اذا كان نيسياس يعني ان الشجاعة هي معرفة أساس الخوف والأمل، عندئذ فان الشجاعة هي نادرة جدا بين الرجال، بينما الحيوانات لايمكن ابدا تسميتها "شجاعة" وانما "لا تخاف"- مثلما يؤكد استخدام اللغة العادية، مضيفا ان ذات الشيء ينطبق على الأطفال.

بعد ذلك يقترح سقراط التحقيق في أصل الخوف والأمل، هو يقول، الخوف يبرز من توقّع الأشياء الشرّيرة، ولكن لايبرز من الأشياء الشريرة التي حدثت او التي تحدث، بينما الأمل، في المقابل يبرز من توّقع الأشياء الجيدة، او على الأقل توقّع الأشياء غير الشريرة او الأقل شرا.

ولكن في أي حقل من الدراسة، لا يوجد هناك علم للمستقبل وعلم للماضي وعلم للحاضر: معرفة الماضي، الحاضر والمستقبل جميعها نفس النوع من المعرفة. لذلك، الشجاعة ليست فقط معرفة بالمخيف والمؤمل، وانما معرفة بكل الاشياء بما في ذلك تلك التي في الماضي والحاضر. الشخص الذي لديه مثل هذه المعرفة لا يمكن القول عنه يفتقر للشجاعة، وانما هو لا يمكن القول عنه انه يفتقر الى أي من الفضائل الاخرى – العدالة، الإعتدال والتقوى.

سقراط في محاولته تعريف الشجاعة، يشير الى انه ومعه لاتش ونيساس نجحوا في تعريف الفضيلة ذاتها. الفضيلة هي معرفة، وهو ما يفسر لماذا الناس الذين لديهم قدر من الفضيلة عادة يمتلكون قدرا مشابه لفضائل اخرى بشكل عام – وهي الاطروحة التي تُعرف بوحدة الفضائل.

لاتش ويسياس أعجبا لكن سقراط ألحّ على انه لم يفهم بعد طبيعة الشجاعة ولا الفضيلة. في حوار لاتش، سقراط يعرّف الشجاعة كمعرفة او معرفة الخير. لكن معرفة الخير ليست كافية. ما نحتاجه ايضا هو قوة سقراط في الاستمرار على قناعاتنا من خلال المتع والرغبات وفوق كل ذلك الخوف. وهكذا، في الجمهورية، افلاطون يعيد تعريف الشجاعة كـ "الحفاظ على القناعة .. حول الاشياء المخيفة". صحيح جدا لو ان سقراط سقط في أرض المعركة، لكان لزاما علينا اليوم ان نعيش في أذهان مختلفة.

***

حاتم حميد محسن

....................................

Psychology today, July 6, 2023

يبدو لا يوجد اتفاق عند المهتمين بالشأن الفلسفيّ على النطاق الدقيق لتحديد مفهوم المنطق، لكنه في سياقه العام، يقوم على تناول أو استخدام الحجج والوسائل المعرفيّة المتاحة، للكشف من خلالها عن حقائق الظواهر موضوع البحث، وهي وسائل وحجج منها ما هو مبنيّ على البرهان والاستدلال والاستنتاج والتجربة وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا. ومنها ما هو مبنيّ على الحدس والتأمل والخيال والعاطفة والذاتيّة وغير ذلك. (1)

ويمكن القول أيضاً: إن المنطق من الناحية العلميّة، هو علم دراسة مناهج الفكر، وطرق الاستدلال والاستنباط للوصول إلى معرفة الظواهر قيد البحث. ويشار إلى أهميّته، لأنّه يساعد الناس على التمييز بين الأفكار المنطقيّة، القويّة منها والضعيفة، حتى يتمّ الوصول إلى المعرفة المنطقيّة أو العقلانيّة.

هذا وتقوم المعرفة المنطقيّة على اتجاهين رئيسيين هما:

أولاً: المنطق الشكليّ أو الصوريّ: وهو الصيغة التي تبرز سماتها وخصائصها في التالي:

1- هو منطق مجرد يتجاهل حركة الظواهر وتطورها. أي أن الظواهر مواضيع البحث تعتبر ثابتة ومطلقة في وجودها عند الحوامل الاجتماعيّة الحاملة لهذا المنطق، فهذه الحوامل تعتمد على الحدس والملاحظة الحسيّة الشكليّة للظواهر والخيال والتأمل، كما تعتمد على الاستنتاجات المنطقيّة المجردة القائمة على الحركة الذاتيّة للتفكير،

2- هو منطق يضع حدوداً صارمة بين الظواهر. أي هو يعتمد على تفكيك الظواهر، ولا يؤمن بوحدتها وتنوعها في الطبيعة والمجتمع، وبوجود علاقة جدليّة بينها، وبالتالي لا يضع بالاعتبار التحولات أو التبدلات التي تصيب الظواهر بسبب حركتها وتطورها. وهو بذلك يكون أقرب إلى المنهج التفكيكي للظواهر وتفريدها.

3- هو لا يأخذ بالحسبان الفوارق والأضداد التي تشكل لب الظواهر الطبيعيّة. أي هو ينظر إلى طبيعة الظواهر نظرة سكونيّة في جوهرها وآليّة عملها، ولا يعترف بجوهر التناقضات القائمة في بنيتها الداخليّة ودورها في حركة الظواهر وتبدلها عبر الزمان والمكان. أو بتعبير آخر هو لا يؤمن بوحدة وصراع الأضداد داخل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة.

4-  هو يعزل الصورة عن المضمون. أي هو لا يقر بتلك العلاقة الجدليّة بين شكل الظاهرة ومضمونها، بل يفصل بينهما، وغالبا ما يشتغل على شكلانيّة الظواهر ليقرر معرفتها النهائيّة. أي هو يأخذ بالدراسات المورفولوجيّة (الظاهراتيّة)، (2) كوسيلة للمعرفة ويتناسى الجوهر، كونه يعتمد على التجربة، والتجربة ليست من وسائل بحثة.

5- هو يركز كثيرا على المستقبل الذي يلعبه العقل. والعقل عنده هو العقل المجرد الميتافيزيقي أو اللاهوتيّ. أي العقل المسبق المعرفة، والمنفصل عن الواقع، أو بتعبير آخر، العقل الذي يتبنى أفكاراً وتعاليم مثاليّة تعتمد على الفرضيات والتصورات والتخيلات التي يتعذر البرهان عليها، والتي تُخضع جوهر الأشياء بشكل مسبق لمنطق الفكر الذاتي البحت، لا لقوانينها الطبيعيّة الخاصة.

ثانياً: المنطق الواقعيّ، أو العقلانيّ الجدليّ: وهو المنطق الذي تبرز سماته وخصائصه في التالي:

1- هو منطق حي. أي منطق واقعيّ عيانيّ تكشف حقائقه التجربة والممارسة أولا، لتصل أخيراً إلى الاقرار النظريّ بما تم الوصول إليه عبر هذه التجربة والممارسة ثانياً.

2- يعلمنا هذا المنطق أن الكل الكونيّ هو ما هيّة واحدة. أي أن الطبيعة والمجتمع كلاهما يشكلاًن وحدة لا يمكن الفصل بينهما، في الوقت الذي يعتبر فيه أن مكونات الطبيعة تشكل وحدة قائمة بذاتها، وكذلك المجتمع. وأن هناك علاقة جدليّة تربط هذه المكونات كلها مع بعضها، بحيث أن كل جزء منها يؤثر بالآخر ويتأثر به.

3-  هو يمثل علما مطلقاً من التطور. أي أن الحركة والتطور وبالتالي التبدل هي قيم مطلقة في الظواهر. ففي الحركة تتجدد الظواهر في الشكل والمضمون دائماً، وما السكون إلا طريقا لموت الظاهرة.

4- هو لا يكتفي بعكس التطور والتغير اللذين يجريان في العالم، بل ويتوجب عليه تفسير التناقض القائم على أساس هذا العالم. إي أن المنطق الجدليّ أو الواقعي لا يكتفي بكشف سمات وخصائص الظواهر والتأكيد على حرتها وتبدلها وتطورها فحسب، بل هو يعمل على كشف جوهر الظواهر موضوع البحث أو المعرفة، وذلك من خلال البحث عن التناقضات الداخليّة في جوهر الظواهر. أي الوحدة والصراع داخل الظواهر ذاتها التي تؤدي إلى الحركة والتطور والتبدل في هذه الظواهر. وهو هنا يرفض التعليل اللاهوتيّ والميتافيزيقيّ في التعامل مع الظواهر. أي هو يعتبر التناقض مشروعاً واقعيّاً لأنه موجود في الأشياء ذاتها.

6- إن علم المنطق العقلانيّ الجدليّ، يهتم بالعالم الواقعيّ الذي يرتبط ارتباطاً بنا وبأفكارنا. وفلسفة العمل في هذا المنطق هي المدعوة لا  لإشباع حب الاستطلاع الإنسانيّ فحسب، بل وإلى إعادة تنظيم الحياة تنظيماً عقلانيّاً أيضاً، إن تطور الفلسفة سيودي بالضرورة إلى تحويل الفكر إلى عمل.

7-  إن المنطق العقلانيّ الجدليّ ينظر إلى الظواهر نظرة ماديّة مرتبطة بالواقع، ويمكن البرهان على وجودها ومعرفتها من خلال التجربة، ومعرفة القوانين الخاصة بها، وأن ليس هناك شيء غير ماديّ في العالم، والفكر ذاته مادة عندما يشخص واقعيّاًّ. والطبيعة عمليّة ماديّة واحدة من حيث المضمون، ومتنوعة من حيث الشكل، تتم وفقاً لقوانينها الداخليّة الخاصة، وأن الطبيعة والمجتمع في حالة حركة تطور وتبدل وتحول إلى اشكال أخرى دائمة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

...........................

الهومش:

1- الويكيبيديا: المنطق (من اليونانية القديمة: λογική، بالحروف اللاتينية: logikḗ) هو الدراسة المنهجية لشكل الاستدلال الصحيح، وقوانين المعرفة الحقيقية الأكثر شيوعًا، الاستنتاج الصحيح هو الذي يُوجِد علاقات محددة للدعم المنطقي بين افتراضات الاستدلال ونتائجه.

2- راجع موقع  المعرفة:الظاهريّة (أو الظواهريّة أو الظاهراتيّة) Phenomenalism في الفلسفة هي المذهب القائل بالوجود الحقيقي للظواهر وإنكار الجوهر المادي. ويزعم أصحاب هذا المذهب أن الإدراك لا يكون إلا بظاهر الأشياء، أي بما تبدو عليه، بمعنى أنه إدراك بما ينطبع من الظواهر على الحس، وما يتخلف عن هذا الانطباع من صور، وما يترتب عليها من أفكار، وعلى ذلك يكون الحديث عن الشيء، حديثاً في الواقع عن انطباعات عنه، وليس عن الشيء نفسه، وكأن وجود الأشياء هو وجودها في الوعي، وليس وجودها في الواقع، والتفكير بها أو الحديث عنها هو إيجاد لها.

مثال: نحن نعرق الثلج بلونه وبرودته وملمسه ودرجة صلابته فقط، وليس بآلية تشكله وعلاقاته مع محيطه وغير ذلك.

كتب: روبرت مايكل رويهل

ترجمة: علي حمدان الرئيسي

***

في عدد 107. "الفلسفة الان" حرر من قبل جيمس الكسندر" تفنيد الحلزونات " لروست بيف، مقالة يشجب فيها الفيلسوف الفرنسي المعاصر الان بادو (من مواليد 1937) " تلفظ بالفرنسية باجيو". كانت نقطة انطلاق الكسندر في المراجعة غير المحببة لروجر سكروتن لبادو "مغامرة الفلسفة الفرنسية" (2012). هو يعترف "بان سكروتن بوضوح لا يحب كل ما يمثله بادو" ولكن في نفس الوقت يزعم بان سكروتن كان مع ذلك لبقا. كتب بان " بادو يستحق السخرية". وبعد جمل معينة اخرى، يزعم ان معظم ما كتبه بادو يعتبر زبالة. ويضيف "انه لا يمكن لنا سوى ان نضحك على ما كتبه بادو". وحتى تلامذة بادو لم ينجو من التعليقات السلبية للكسندر: هو يسخر بان عوضا ان يقوموا بتدوين ملاحظاتهم في محاضرات بادو فانهم يقفون مصفقين".

ورغم انني سأكون مستمتعا اكثر اذا انغمست في مثل هذا النوع من الموقف الرافض، اتجاه الكسندر عموما واتجاه هجومه على بادو خصوصا. الا انني اخترت اتجاها اخر في دفاعي عنه. انا اقدر الطريقة الجدلية لفلسفة سقراط، لذلك انا سأطرح وجهة نظر مغايرة، أوضح فيها عدم دقة الكسندر في تقليله من قيمة بادو. لن اطرح وجهات نظر مبنية على عدم معرفة كافية (الكسندر يعترف بعدم معرفته بأعمال بادو)، سأطرح موقف مبني على معرفة عميقة بفلسفة بادو.

و لصياغة موقفي المعارض لنقد الكسندر، فسأعلق على خلفية بادو الشيوعية وعلاقتها بالفلسفة. هذا سيقودنا لشرح احد الثيمات المهمة في كتابات بادو: الإمكانيات الجديدة، الرياضيات ، وكيف تساعد هذه النظرية في الثورة. لذلك موقفي يأتي مغايرا تماما لموقف الكسندر فهو يريد اسكات بادو، بينما أرى ان اعمال بادو مهمة للفلسفة. افهم ان موقف بادو بالنسبة للفلسفة متسقا مع موقف افلاطون في "رمزية الكهف" (Allegory of Cave)، فهي عوضا عن حياديتها السياسية، فهي تدافع عن حقوق الناس، الفلسفة معنية بمساعدة الناس في التحرر من اللامفكر فيه، ومن مساعدة الناس للانعتاق من الاذلال الذي يواجه الانسان يوميا في شتى مساعي الحياة. لذلك انا اخذ كلمات باديو على محمل الجد حينما يعتبر نفسه "كأفلاطوني" معاصر.

باديو سهولة قرأته وراهنيته

سأبدأ بمشكلة هامة في تصور الكسندر لبادو، فهول يقول بسخرية لماذا يريد أي شخص ان يقرا بادو. مع ذلك في السنة الأولى في فرنسا، اشترى القراء عشرين الف نسخة من كتابه "الكائن والحدث" (2001)، على سبيل المثال، كما ان بادو معروف عالميا منذ فترة. فكتابه "الكائن والحدث" على سبيل المثال تم نشره بالفرنسية، والبرتغالية، والإيطالية، والاسبانية، والألمانية، والإنكليزية. "بادو والسياسة 2001"، يكتب برونو بوستيلز، وهو احد ابرز المتخصصين في الدراسات الخاصة ببادو قائلا بان في التسعينات من القرن الماضي حينما كانت اعمال بادو بالكاد تم اكتشافها من قبل قراء اللغة الإنكليزية، كانت اعماله مصدرا مهما للعديد من المثقفين الراديكاليين، والمناضلين في أمريكا اللاتينية وفي اسبانيا وبالذات في منطقة الباسك وعلى طول الساحة حتى المكسيك والبرازيل، و الارجنتين وتشيلي. في الحقيقة ان كتب بادو وجدت طريقها الى الاسبانية منذ بداية التسعينات، والى الإيطالية في منتصف التسعينات والى الألمانية في 2001. وهذه الحقائق توضح ان اعمال بادو الفلسفية لم تكن فقط اكاديمية وان كتاباته كانت متاحة. كما انها كانت مناسبة للتحليل السياسي في أمريكا اللاتينية. لذلك على المثقفين ان لا يصرفوا النظر بسهولة عن فلسفة بادو. لذلك الهجوم الشخصي والقراءة السطحية لإعماله، تحجب، صرامة واهمية وراهنية اعمال بادو. اليوم مع ازدياد رفض اللامساواة في الاقتصاد، عنف الشرطة، والعنصرية تتطلب النظر والتفكير والعمل بصورة مغايرة، أيامنا هذه تتطلب فلسفة ملتزمة بواقع المحتجين الذين نزلوا الى الشوارع لمواجهة الظلم.

بادو والسياسة

بادو لا يسعى الى اخفاء علاقة الفلسفة بالسياسة. الجدل يحتدم عندما يعلن بادو عن انتماءه سياسيا بانه ماركسي، مخلصا لفكرة الشيوعية. لا يوجد شك حول ماركسيته، وميوله الماوي، واستخدام كلمة شيوعية تثير مشاعر الغضب لدى البعض. ولكن قبل ان يثار البعض، من المهم معرفة موقف بادو. في مقابلة مع فيلبو ديل ليشوس وجاسون سميث، حدد بادو خلفيته الشيوعية كالتالي:

" لا اعتقد انه من الضروري اطلاقا الإبقاء على كلمة الشيوعية. ولكنني احب هذه الكلمة كثيرا. احبها لإنها تعبر في العام عن فكرة عامة لمجتمع وعالم تكون فيه فكرة المساواة مهيمنة، عالم لم يعد مبني على العلاقات الاجتماعية الكلاسيكية، تللك المبنية على الثروة، تقسيم العمل، الفصل العنصري، والاضطهاد من قبل الدولة، الاختلافات الجندرية الى اخره. هذا بالنسبة لي هو الشيوعية. الشيوعية بشكل عام ببساطة تعني ان الجميع سواسية وذلك ضمن التعددية والاختلاف ضمن التنوع الإجتماعي.لا يوجد سبب ان عامل تنظيف الشوارع ان يحاصر من قبل الدولة ويكون اجره ضعيف بينما المثقفون في مكتباتهم اجورهم مرتفعة. انه سخف. ما اسميه بالشيوعية هو نهاية هذا السخف. وبهذا المعني فانا شيوعي. (نحن بحاجة لانضباط شعبي، 2007).

لتقدير نهجه الفكري، علينا ان نفهم هذا الموقف السياسي. بادو يقرر ربط الفلسفة مع التغيير الثوري وعدم الإذعان. إشارة الي سقراط، بادو يكتب في الفلسفة للمناضلين (2012).

"لإفساد الشباب، بعد ذلك هي صفة جديرة بالعمل الفلسفي، شريطة معرفتنا بما نقصده بالفساد. لإفساد معناه ان نعلم إمكانية رفض كل الاستسلام الاعمى للأفكار السائدة. لنفسد معناه ان نمنح الشباب وسائل معينة لتغيير أفكارهم بالنسبة للأعراف الاجتماعية السائدة، ليكون النقاش والتفكير النقدي بديلا عن التقليد والموافقة، وحتى تكون مسالة مبدا هو باستبدال الطاعة بالرفض.")ص 10 (كمفكر حر، بادو يصنف السياسة التحررية على انها وجه اخر للفلسفة، لذلك الفلسفة هي جزء منطقي من عملية الرفض والتي تسعى لفهم والتعبير بشكل واضح حول الإمكانيات الجديدة للرفض و التي تكشف وتنمي. الفلسفة تساعد في عملية الرفض وذلك بمساعدة القراء لتبصر حول النضال السياسي، وذلك لنكون معارضين وقادرين على تغيير العالم. لذلك من السهولة رؤية كيف ان موقف بادو قريب جدا من أفكار كارل ماركس من خلال ملاحظات في اطروحته الحادية عشر حول فيورباخ (اطروحات حول فيورباخ 1888). "لم يقم الفلاسفة سوي بتفسير العالم بطرق مختلفة لكن المهم هو تغييره". بادو أيضا يسعى الى تغيير العالم.

لذلك من خلال انغماسه في النضال السياسي، فلسفة بادو تركز علي مسالة الاحتمالات الجديدة ، مسالة مضادة تماما للرأسمالية المعاصرة وما تمثله من حداثة والتي تسعي الي مضاعفة الأرباح . بالنسبة لبادو ان حداثة الرأسمالية ماهي سوى تكرار، انه الوضع السائد للناس الذين يعيشون فقط للاستهلاك بإدمان. انه يسعى نحو الاحتمالات التي ستاتي. "ضمن الحدود المتوقعة للحياة اليومية فان الاحتمالات الجديدة تبدو مستحيلة"، لذلك بادو يرحب بالمستحيلات او تلك الاحتمالات غير المتوقعة التي تصدم هذا الواقع المقرر. ومع ذلك، فان هذه الاحتمالات التي تبدو مستحيلة، او غير ممكنة الحدوث بناء على التوقعات المهيمنة، لذلك لا يمكن ان يكون مصدر هذه التوقعات من الخارج وانما مصدرها يكون من الداخل، وأفكاراها حول ما هو مهم، وما هو ممكن وما هو مقبول. بهذه الطريقة فان الاحتمالات الجديدة هو تدخل جوهري ليضطرب الوضع السائد والمعرفة المقبولة.

وحول أهمية إمكانية التحول ضمن كل وضع، بادو يكتب " انها مسالة ان نعرض كيف ان مساحة الامكانية هي اكبر مما هو متاح، وان هناك شيء اخر ممكن". (Ethics, 2013, p.115). الإمكانيات الجديدة عطلت الهيمنة والاضطهاد في السابق، وبإمكانها عمل ذلك مرة أخرى. مستوى عملية التدمير الواسع التي تحافظ على ما يدعى بسلاسة عمل الرأسمالية ليس امرا حتميا، ان فكرة فرانسيس فوكوياما حول ان مع الديمقراطيات الرأسمالية وصلنا الى نهاية التاريخ هو مفهوما خاطئا: ان العوائق القمعية التي تسود حياتنا ليس لها علاقة بالتاريخ في مفهوم بادو. على الضد بادو يربط التاريخ بمفهوم الاضطراب في الوضع الراهن. الاحتجاج، التظاهر، وبروز السياسة هي عوامل أساسية للتاريخ القادم. لذلك بادو يكتب عن "ولادة جديدة للتاريخ"، "لذلك انا اقترح ان أقول اننا نجد انفسنا في زمن الاحتجاجات، حيث اننا في زمن إعادة ولادة التاريخ عوضا عن تكرار بسيط وخالص للاسوا الذي سيتبلور" (Rebirth of History, 2015, p5). الاحتجاجات والمظاهرات من الممكن ان تقود الى تفكير جماعي الذي سيوحد الناس المهانون من خلال النهب المستمر للرأسمالية العالمية المغطاة بالديمقراطية تحالف يسميه بادو بالبرلمانية(Parliamentarism)، عندما يصل الناس الى قناعة بانهم يجب ان يخرجوا الى الشوارع، والاتحاد مع بعضهم البعض بطريقة تتعدى حيزهم الجغرافي ومصالحهم الضيقة، وذلك للبدء بعملية تكون ولادة أخرى للتاريخ. على الناس ان لا تنسى على ان كل حالة حبلى بإمكانيات التغيير الثوري وذلك ببساطة نظرا لان الانتفاضات كانت نادرة وان الاحتكار الرأسمالي يبدو حتميا. بادو يذكرنا بان الياس يمكن تجنبه، و ان هيمنة الرأسمالية ليس امرا محدد مسبقا. في حين، ان الاحتمالات كامنة في المجتمع وعليه ان نمنح المضطهدون بريقا من الامل. في مجمل فلسفته بادو يبقى مخلصا لإمكانيات التحول ومؤمنا بإمكانية ان تكون الأمور غير ما هو عيه حاليا.

***

...........................

* روبرت مايكل روهيل أستاذ في قسم الفلسفة في مركز كلية سانت جون فيشر، روشيستر. نيويورك.

موضوعة الفلسفة الفرنسية

من المهم أن نبدأ من فكرة ذات اهمية في مغزاها، فالفلسفة التي بدأت في عصور بعيدة لم تكن فلسفة بلد معين، وحتى بعد ظهور الامم بقت تلك الفكرة راسخة، وهي من فرضت بنسب عالية عدم الوقوف عند جنس بشري معين، لذا نحن عندما نفرق بين الفلسفة الالمانية والفلسفة الفرنسية يأتي ذلك للتأشير، وعادة لا يبلغ حدود المضامين الخطابية بملامسة تامة، وفقط المسميات هي التي تحيل مباشرة الى نوع الجنس البشري، واما على مستوى الخطاب فهناك اختلاف كبير ما بين مقومات خطاب لجنس بشري واخر، وقد امتازت الفلسفة الفرنسية عن اقرانها بتلك اللغة، فهي فلسفة مضامين لغوية من جهة، وهذا ما مهد لفلسفة البنيوية أن تنتشر بسرعة زمنية اعلى من مجريات الحداثة الزمنية، واذا كان هناك مجال تاريخي قد عكسه لنا ديكارت، والذي جعل من مقولته الشهيرة عنوان بارز ذا اهمية كبيرة في التأثير، حيث العقل الفاعل تمسك تماما بتلك المقولة، والتي مثلت العنوان الاوسع في تاريخ الفلسفة، فمقولات افلاطون وارسطو، وقبلها تضحية سقراط البليغة، وحتى تفاحة نيوتن، ومقومات اخرى لم تبلغ من الانتشار مثلما بلغته مقولة ديكارت، حيث البشرية صارت ترى علاقتها بالعالم قد تغيرت، وتحولت الى صيغة اخرى ذات جذب مفاهيمي، وهذا ما جعل ديكارت المقولة الفلسفية الاجدر، وليس فقط في عصر الفلسفة الوسيط، بل حتى ما بعد الفلسفة - اذا جاز لنا أن نطلق هذا المفهوم – تكرر تلك المقولة، والتي ترى البشرية بأنها تمكنت من خلق توازن نوعي ما بين مفهوم الوجود ومفهوم الموجود .

اذا عدنا الى اصول الفلسفة الفرنسية فنجد أن ميشيل دي مونتين قد سبقه فيلسوفا حول حياته بمقدرة الاخلاص والاحساس وصدق المشاعر الى اسطورة، فحياة الفيلسوف بيتر أبيلار الذي عاش من عام 1079 الى العام 1142، تصدرها ذلك الحب الاسطوري، بالرغم من كون أبيلار يمتلك خبرة عقلية في اللاهوت والمنطق، وكما كونه داخل اطار الدرس، لكن نمط العشق الذي منحه الى إلواز  كان خارج توصيفات المألوف، ولا يمكن درجه كسمة معتادة للحب، وتلك اولى بوادر الفلسفة الفرنسية بالتوجه لتجريد المعنى العام، والمدى الاسطوري لتلك العلاقة جعل جالة الحب تدخل في تفسير مضاد لواقع الحب المتعارف، وتلك الحال الاسطوري  نقر بوجود الممكنات في ذلك التاريخ من تأهيله الى المستوى الاسطوري، وفيلسوف المنطق والعقلنة لا يمكنه كبح او منع تلك المشاعر المتصاعدة الى ذلك المستوى، وكما أن عنصر التاريخ يمثل احدى الموجهات الى الاسطورة بنسب اكبر من أن يكون موجها للمنطق العقلي، حيث يشكل نسق الحياة العام التوافق مع ظواهر الاسطورة المتجاوزة لمعنى الخرافة الملتبس، وبذلك يكون ما عاش أبيلار في مشاعره ووجدانه اهم شخصيا مما يعيشه في المنطق العقلي، ولا نقر هنا بالمفاضلة ما بين ما هو استثنائي وما بين هو طبيعي ودارج، كما لا يمكن المقارنة ما بين الدرس واسطورة العشق .

في تفسير المنطق العقلي للفلسفة لا يمكن الحكم على التجريد حكما جازما، ففي الفصل اللساني هناك جنس لغة يقابل جنس لغة اخرى، ولا يمكن لجنس اللغة الأول أن يكون قيما على الجنس الثاني للغة، وتلك من الاشكاليات التي يقع فيها العقل الفلسفي، ولا نقر هنا بأن هناك جنس لغة احادي للغة،  وعلى وجه الخصوص في كشف مضامين الخطابات، وفي تفسير ثقافة فرنسا فهي الاسرع زمنيا بسيرورة الحداثة من جهة التغيرات الثقافية، ومن جهة اخرى شكلت فرنسا تلك الواحة الحرة بشكل تام، في انكلترا حددت حرية الخطاب القولي في البيكاديلي، ففي فرنسا هناك حرية كبيرة للخطاب وعلى وجه التحديد في النصف الثاني للقرن العشرين، وتلك الحرية مكنت اللغة من أن تسابق الزمن، وشارك الأدب الفرنسي في تسريع الحداثة بشكل ملحوظ، وشكلت موجة ما بعد الحرب العالمية الثانية طرح ما بعد الخطاب اذا جاز التوصيف، وشكلت الفلسفة الفرنسية التوافق بنسب اقل مع ذلك التسريع، ومن المهم أن نشير بأن الأدب الفرنسي طرح فلسفة جديدة، قلبت موازين الأدب، فقد تخلت الذات عن موقعها التاريخي، واستبدلت الاشياء والحاجات تلك المركزية، ولم تتدخل الفلسفة الفرنسية ازاء تلك الاشكالية، والتي نشير الى صحتها في مؤشرات الواقع، ونكرانها في المسارات العامة والسياقات، و ننكر أن تكون تلك الفكرة صدمت العقل فهي منبثقة من الواقع، وفلسفة الرواية الفرنسية تجنب تزويق الهم البشري، او استعارة صور الرفاهية المنحسرة وتقديمها في تفاصيل سردية كحقيقة تمثل النسيج الاجتماعي .

اذا قنعنا بالفكرة التي تضع ديكارت كأب للفلسفة الحديثة، واعتباره هو الصيرورة الانسب لتمثيل تلك الفكرة، لكن علينا أن نقر بأن الفلسفة خارج الجنس البشري، حيث يشير مؤشر النسب الى أن الفلسفة الالمانية هي التي اكثر مساحة بعد ديكارت، واذا كان دوستوفسكي يرى بأن الأدب الروسي خرج من معطف غوغول، لكن في اطار الفلسفة يختفي الجانب القومي نسبيا، حيث ما بعد ديكارت كانت النسبة الاوسع في الخطاب للفلسفة الالمانية، ولا نحتاج الى تفسير للمعطى الفكري للفلسفة وانبثاقها الملموس في الصفة العضوية للخطاب، وعلى وجه التحديد اكدت الفلسفة الالمانية الحضور الامثل على مستوى التداول، ومن الطبيعي يختلف الامر بين الحضور العضوي للخطاب وفي اطار الذات، والذات تعكس الحضور في المحيط المعتاد لها، واما الخطاب فيتجاوز في الواقع العضوي تلك المديات بالحضور المادي، واذا نقر بفكرة التأثر والتأثير، فيكون ديكارت تلك الصيرورة الفاعلة وقطب الجذب ايضا، وايضا هناك فكرة في حدود التصور، حيث لا يمكن اغفال الجانب النفسي ومدياته، وكن نجد المثال الاساس ما تمتلكه نقطة الجذب، وعلى وجه الخصوص حيث مثل ديكارت نقطة الفصل ما بين تاريخ مدرك ومعروف من الفلسفة، واخر في حالة الصيرورة، ولكن لا نقول بأن ديكارت هو وسيلة نقل من الماضي الى الحاضر والمستقبل لذلك التاريخ الفلسفي، لكن على مستوى الانطولوجيا نقر بأن ديكارت هو نقطة التحول الديناميكية .

من البداية تنطلق الافكار الى تأكيد صيغة من الصيغ الاساس التي اعتمدتها الفلسفة الفرنسية بشكل مباشر، فتحريك الثوابت في مستويات اصطلاحية للوجه الدلالي، وكذلك بث طاقة قاهرة في الجانب المستقر او الساكن من الفلسفة، كي يتمخض عن تلك الطاقة اطر تجديد المعنى الفلسفي، وبث نفس مختلف في الخطاب، والكشف عن مناخ فلسفي جديد بمقومات جذب واثارة، وجعل مسؤولية التفسير غائبة عن الحضور المطلوب، وقد تحولت علاقة الفلسفة بالإنسان بعد طروحات ديكارت، والتي اعادت الى المعنى الإنساني هيبته الوجودية، ولكن نقر بأن سيرورة الفلسفة الفرنسية قد مرت بتحولات ومنعرجات، كان لها المساس والتأثير المباشر بالخطاب، ويمكن اعتبار الفلسفة الفرنسية قد تداخلت بالأدب في القرن العشرين على وجه الخصوص، ودرج ذلك المسعى اللساني في اطار التحديث والتطوير من خلال مقومات اللغة المشتركة، وصار  يلوح ذلك المسعى الجديد، حيث استحدثت طبيعة جديدة للعلاقة ما بين الفكر والتجربة، لذا( أن من مميزات الفكر الحديث ازدياد التوفيق قدما بين العقل والتجربة، حيث انتهى او كاد ينتهي، عصر المنافسة القديمة بين العقلانية والتجريبية )1، ومسار العقل الجديد ليس فقط اجدر واكثر حرية، حتى احيانا تجد الدلالة تعيد تشكيل نفسها، بعد ما مرت به من ثلم، ولابد أن نقرق ما بين الجديد والتجديد، فالفلسفة الفرنسية لابد أن نقر هي الجديد، وصاحبة نسب عالية جدا من التجريد الواضح في سمات الخطاب .

لقد تمكن نيتشه من تجريد هيجل، وذلك قد شمل السمات الظاهر للخطاب، وعندما تقرأ خطاب نيتشه لا تجد اثرا لهيجل، ولا تلمس تراكم خطاب في الخطاب، وتشعر بأنك امام خطاب منفصل عن التاريخ الفلسفي، وهذا يسحبنا الى هنري برغسون الذي قاد المنعرج الدينامي والسياق الفني لخلق ذلك النفس الفلسفي الجديد في تاريخ الفلسفة الفرنسية، والتركيبة النفسية لبرغسون ذات النفس الما بعد التاريخي كان لها الاثر في تلك التحولات من تاريخ الفلسفة الى المعنى المثير ادبيا وفلسفيا. وبالرغم عدم تقديم برغسون خطابه عبر مستوى الخطابات المتعالية، لكن سمات التطور الخالق والوعي جديد، اثمرت من بلورة فلسفة بنسب تجريد كبيرة للتاريخ الفلسفي، وسعي الى انقاذ  القيم الفلسفية التي حددها المذهب المادي للفلسفة، او تلك التي بلورها المنهج العلمي بسياقات العقل العلمي، وقد تميز العقل في المؤالفة ما بين الغاية الفلسفية والقصد العلمي، وذلك ما منح الفلسفة الفرنسية ميزة الخلق والتنظيم اكثر بكثير من الفلسفات الغربية الاخرى، وما يفسر سابقا السعي لتوحيد الاضداد، اصبح في ظروف جديدة بصيغة اخرى تتناسب مع التطورات العامة للمعرفة والعلم، فقد اصبح السؤال المعرفي هو من ينيب عن التزام المحمول العلمي، وهذا ما انعش العلوم من فيزياء ورياضيات، بعدما اصبحت بتماس مباشر مع الفلسفة، ونجحت التجارب المشتركة، ويعود الفضل الى التجريد المناسب، اكثر ما وصف العصر في القرن العشرين بأنه عصر العلوم، وقد وسع بالشار حدود المنطق العلمي بطرح فكرة التجريب العلمي، والذي استعار فكرة ادبية اساسا، وانعش ابعادها لصالج المنهج العلمي وغاياته واهدافه .

***

محمد يونس محمد

.......................

1- نظرة شاملة على الفلسفة الفرنسية المعاصرة – جان لاكروا – ترجمة يحيى هويدي، انور عبد العزيز- المركز القومي للترجمة - ص 16

(هناك استشراق في أكثر الرواد قلقًا، وأبعد الغرب هو أقصى الشرق) هنري ديفيد ثورو

عادت الرواية الاستشراقية إلى الظهور بقوة من جديد، بعد حادثة مقتل الشاب المهاجر ذي الأصول الجزائرية نائل، وما خلفته من تداعيات خطيرة على المجتمع الفرنسي.

الأفكار التي صيغت من قبل وسائل الإعلام الفرنسية بخاصة، والأوروبية عامة، بطريقة تعمم المفاهيم والاتجاهات والتقييمات التي بناها التفكير الاستشراقي، على منظورات وتأويلات، تأسيسا على التشويه الثقافي والتاريخي، أو على شكل "العرقية" الناتجة عن سوء استخدام متعمد أو غير مقصود للغة، على خطى "كل العمليات اللغوية هي تشوهات" لرولان بارت، هي ذاتها تلك التي سرت في ركبان أبحاث ودراسات المستشرقين المقاربين على نحو مغالط وفضفاض لصور النمطية السلبية عن الآخر، وبالغاية الدقيقة، عن العربي والمسلم؟

لاتزال مفاهيم "الرواية الاستشراقية" التي وظفها المفكر ادوارد سعيد في كتابه الأمثولة "الاستشراق: المفاهيم الغربية للشرق"، حاضرة بقوة، باعتبارها منشأ سوسيولوجيا واجتماعيا وتاريخيا تؤثث أوجه تخلصها من الهويات المعقدة في قطعة واحدة بسيطة، غير بعيد عن جدليات القضايا الكبرى المتعلقة بالإسلام والهجرة الإسلامية والجاليات المسلمة في أوروبا، وما تحمله من قطائع ونحوت في التقييمات المعاصرة لتلكم الزواحف الاستشراقية، وارتباطاتها  بسرديات وسائل الإعلام والحركات الشعبوية والرأي العام، وخاصة الاتجاهات اليمينية المتطرفة، وما تستنتجه من مجمل التأطيرات والنقاشات الغارقة في الإسفاف والمهاترة.

ويبدو أن هذه السرديات لازالت تدعم التوجهات السالفة الذكر لعالم الاستشراق وتصنيفاته، والدليل ما أتبتته الأحداث الفرنسية الأخيرة، وانفلات بعض الأحزاب السياسية السائدة والرأي العام والحركات الاجتماعية في مجمل بلدان الغرب، والتئام كل ذلك مع التقاءات التفكير الاستشراقي وتشكيلاته الجديدة.

ولهذا كنت أتوافق مع إدوارد سعيد في اعتبار "الاستشراق قوة أيديولوجية مثل أي قوة أخرى"، بل "إنه مجرد اتجاه مألوف يحاول تبسيط المجموعات الاجتماعية من أجل النفعية السياسية أو العلمية، أو حتى السيطرة". مع أن ذلك يتفوق نظريا على قاعدة أن "الاستشراق يمثِّل مبالغة في الاختلاف، وفرضية تنطوي على تفوق الغرب، وتطبيق نماذج التحليل النمطية عن العالم الشرقي".

وهو المنظور الذي ينسجم مع أنساقية الاستشراق "كمصدر للتصوير الثقافي غير الدقيق، أي أصول الأفكار والتصورات الغربية عن الشرق". بينما الأخطر في البعيدين الهائمين على أعقاب رؤية الاستشراق الأيديولوجية ومنفذها السياسي والثقافي للقوة والتحضر والاستلهام، هو تكريسها لهذا التجوهر الذاتي المغرور، والكامن في التسلط والانتهازية وتشويه الآخر؟

الاستشراق أيضا، يحتمي خلف منظومة ابتداعية غربية جديدة، تذكي نيران التجويف المخدوم لأهم القضايا المعاصرة للإسلاموفوبيا، التي يتم استخدامها إجرائيا وتضليليا للكشف عن بساطة الحجج المعادية للإسلام، والتي تتغاضى عن التعقيد وتكشف قضايا الخطاب اليميني التبسيطي، المجاهر بالكراهية والحقد وتشويه الخصوم دون أن يعني ذلك شيئا بالنسبة لمنظومة القيم المتداعية التي ترمز بالصنم الديمقراطي وتتحوط به وتجعله إلاها أو ضميرا للعالمين.

حتى أضحى رهاب الإسلام المعاصر، وجها من أوجه الاستشراق الحداثي لدى غرب يجرف بدائل "كيفية صياغة الإسلام كمفهوم"، في اتجاه تحويل الأنظار من مجرد تأويل ثنائية "شرق غرب" كحضارة متنقلة ومتفاعلة، "غالب ومغلوب" إلى افتعال تصوُّر متهارش للإسلام، من خلال النقاشات المعدمة التي تصوغ المواقف الاجتماعية والتصورات الثقافية والأيديولوجية السياسية، وتجعلها "بؤرة" و"اقتساما للغنيمة" و"تطويرا لآليات الاستعمار"، بما فيها "الثقافية" و"اللغوية" والاجتماعية وغيرها.

هل حان الآن وقت التفكير في تفكيك مقولات الاستشراق وتبعاته؟ ما الذي يجعل مركزية التجاوز الاستشراقي المعاصر للنظريات الثقافية المستحدثة، متباعدة ومتواطئة في الصلب العميق لرؤيتنا للتفكير المستقل والعقلاني، المناهض للاستبعاد والاقصاء والعدمية؟.

ما الذي يجعل الاستشراق كتوجه فكري وثقافي أممي، منكمشا ومتواريا، ومستبعدا من باراديجمات الممارسات الثقافية الجديدة، بأبعادها الحضارية المشعة واشتباكاتها مع العوامل التكنولوجية والرقمية الحديثة؟

وكيف يمكن الخروج من كل تلك المآزق والحتوف، التي أوغلت في فضح المذاهب الاستعمارية المشغولة بتكريس "الصراع الحضاري" و"الحروب النووية" و"تفشي الفاشيات" ..إلخ؟ ..

ربما نحتاج لإعادة قراءة الاستشراق، كفكر إنساني ووجداني مصلح، يرمز للتسامح والوعي بالمعرفة، والتسلح بالحقيقة وتطوير الحياة، ما يؤكد على فكرة بناء الوعي النقدي، وتحويل الذاكرة إلى مشتل لتأصيل الثقافة وتقديمها ضمن حدود ومقومات ثابتة ومتحولة وذات صيرورة متدفقة وجسورة.

***

د مصْطَفَى غَلْمَان

ثلاث عبارات هي مقولات دي سوكا ارغب التعليق الحواري عليها:

دي سوكا كاردينال لاهوتي وفيلسوف القرون الوسطى مقولته الاولى (الوعي هو نوع من التحرر من الواقع) والثانية هي (الزمن بعد سببي للزمكان) والثالثة (الزمن يسبق الوعي الحقيقي).

الوعي حين يعبّر عنه دي سوكا تحررا من الواقع بمعنى ثنائية جمع الوعي بالواقع لم تعد قائمة كون الوعي يستنفد طاقته الوظيفية بالتعريف بالواقع واعطاء وسائل فهمه بلغة التجريد التعبيري عنه في مرجعيته للعقل. اما الزمان بعد سببي للزمكان فهي بديهة منطقية قائمة كمعطى  كون الزمان هو ثنائية ملزمة له في وحدته الثنائية مع المكان. الزمن لا يخلق المكان فهو ليس فراغا استيعابيا مجردا عن ملازمته المكان كواقع وصيرورة علاقات ثابتة او متحركة. الزمان دلالة ملازمة معرفة الاشياء لكننا نفتقد ادراكنا ماهو الزمن كموضوع وليس كمفهوم ميتافيزيقي؟

بالنسبة للمقولة الاولى فالوعي ليس نتاج الواقع بل ناتج تفكير عقلي وإلا تساوى الوعي مع انطباعات الحواس الناقلة لاحساساتها الى شبكة منظومة العقل الادراكية عبر الشبكة العصبية. الوعي ناتج عقلي تجريدي يمثل فعل الادراك الحسي حول الواقع. والواقع الذي لا يدركه العقل لا يدركه الوعي ايضا فما هو موضوع للعقل يكون موضوعا للوعي..

أي بمعنى آخر الواقع ليس موضوعا يعيه الوعي باستقلالية ادراكية يحاول الافلات منه الا باشتراط ايعاز من العقل والوصاية العقلية عليه.. الوعي ليس موضوعا للعقل لكنه وسيلة العقل في ادراكه كل شيء كمواضيع. الوعي هو النسخة الكاربونية للعقل في معرفته الواقع وليس ادراكه الواقع فقط. فالادراك الشيئي هو خاصية الحواس قبل خاصية العقل.

توجد علاقة معرفية تكاملية بين الواقع والوعي، فالوعي تجريد لغوي عقلي لا ينتجه الواقع بل يحتويه معرفيا بصيغة التكامل المعرفي والتخارج بينهما ليس بصيغة جدل التضاد الديالكتيكي. الوعي هو الوسيط العقلي الذي ينقل الفهم المعرفي للعقل في تعبيره التجريدي الحيادي بوسيلة اللغة عن موضوعات الواقع لا كما هي في وجودها المادي الثابت بل في وجودها التغييري المطلوب.. الوعي صيرورة تشكيل الواقع برؤى عقلية تجديدية مغايرة. الوعي ليس ادراكات حسية انطباعية عن الاشياء وموجودات العالم بل احاطة استيعابية لمواضيع كان أعطى العقل مقولاته بشأنها كيف هي وكيف تكون؟.

مقولة دي سوكا  الزمن يسبق الوعي فرضية نظرية فلسفية صحيحة. تجمع تجريدين غير متجانسين لا في الماهية ولا بالصفات كما هما غير مدركتين عقليا في كليهما. فكما لا يمكن للزمن ان يكون موضوعا مستقلا للعقل كذلك هو الوعي.

الزمن في علاقته البينية بين الواقع والعقل هو دلالة معرفية حيادية غير مدركة عقليا كما والزمن لا يدرك ذاته ولا يدرك العلاقة الترابطية الدلالية بالمكان. . اما الوعي فهو توسيط ناتج تفكير العقل ولا يكون موضوعا مستقلا للعقل لانه هو نسخة عقل مكررة. عديدة المفردات التي تشكل حلقات منظومة العقل الادراكية مجتمعة ولا ينفرد احدها ان يكون موضوعا مستقلا للعقل الوعي احدها. كذلك الذهن، شبكة الاعصاب العنكبوتية، الضمير، الهواء، الزمن، الحواس، النفس، الاحاسيس داخل الجسم الخ.

الزمن يستبق الوعي من حيث الوعي مصنوع عقليا والزمن معطى ازلي ميتافيزيقي. الوعي في ادراكاته العقلية للاشياء يحكمه الزمكان الشيئي لكنه لا يستغني عن الزمن كدليل ادراكي لمعرفة الاشياء.في اللاشعور من خلال مثال حالة النائم الحالم نجد الزمن يتقافز ملازما تداعيات المكان التي لا يضبط انتقالاتها الحلمية زمنا غير عشوائي.

الوجود مكانا هو وجود زمكاني في ثنائية وثيقة العرى هي انك لا تستطيع ادراك الشيء مكانا الا بملازمة غير مدركة عقليا لزمانها. حين تناول فرويد علاقة الوعي او الشعور بالزمن لخصّها بعبارته القصيرة اللاوعي اي اللاشعور بمصطلح علم النفس لا يحتاج الزمن.

على اعتبار الوعي اللاشعوري الحلمي هو تداعيات عقلية غير منتظمة زمكانيا في حالة من الصيرورة المواكبة لصيروة الواقع الخيالي الغائب عن الوعي خارج سيطرة العقل. وهذا الوعي اللاشعوري لا يخضع لسطوة العقل من جهة ولا لسطوة الزمن من جنبة اخرى وهو ما يتمثل بأحلام الشخص النائم على انها تداعيات لاشعورية تفتقد العلاقات الترابطية كما في حالة الشعور عند الشخص اليقظ غير الحالم..

لقد سبق لافلاطون ان ذهب الى اننا بدلالة انتظام المكان في قوانينه الطبيعية الحاكمة له تنتظم عشوائية الزمان الملازمة له. يلاحظ ان افلاطون هو السبب الاول فلسفيا في جعل كل من ارسطو ونيوتن يؤمنان بنظرية افلاطون الزمان مطلق لا نهائي ازلي عشوائي وهو معطى لخالق مجهول بعد اعطائه لنا الطبيعة المنتظمة بقوانين حاكمة لا قدرة على الانسان اكثر من اكتشافها وليس اختراعها او التلاعب بها وتغييرها.. واعتبر وجود الطبيعة سابق وجود الزمن. ولا حتى متلازمين بالخلق الآني الواحد. ويبقى ماجاء به افلاطون نظرية فلسفية لم يؤكدها العلم تجريبيا.

الغريب بالامر هو ان افلاطون اعتبر الزمن وجودا عشوائيا وبدلالة انتظام المكان – يقصد الطبيعة بقوانينها الثابتة – يتخلص الزمان من عشوائيته وينتظم ذاتيا كما هو الحال في نظام الطبيعة. الحقيقة الفيزيائية العلمية برهنت على ان الزمن تداعيات لانهائية عشوائية على شكل حزم متماوجة بالكون تحت شروط واحكام فيزيائية كونية معينة. والزمن ليس مطلقا على خلاف ماذهب له افلاطون وتوارثه عنه ارسطو ومن بعده نيوتن حتى جاءت نسبية انشتاين ونسفت نظرية مطلق الزمان. لقد استطاع انشتاين تجريد نيوتن من مطلق الزمان لكنه عجز  تجريد عبقرية نيوتن من قانون الجاذبية المعجزة الارضية المنسوبة له التي قلبت كوسمولوجيا الفضاء..

نعود لاستطراد ينسب لفرويد حول الموضوع فهو يرى المكان وجودا محدودا بابعاد مادية ثلاثة متعارف عليها الطول والعرض والارتفاع قبل اضافة انشتاين البعد الرابع للمادة هو الزمن. وهذه اشكالية يؤكدها منطق نسبية انشتاين الفيزيائية الكونية. لكن بمنطوقنا التصوري عن ثبات فيزيائية ابعاد المادة ارضيا  تحمل نقاشا ومداخلة. المادة كمتعيّن ارضي ثابت بابعاد ثلاثة على الارض هو غير الفهم الكوسمولوجي لها. فمثلا نحن الان نؤمن بالنظرية التي تقول الزمكان كمفهوم هو ثنائية لا انفكاك لها تجمع بين المكان والزمان. ونحن ندرك الزمكان الارضي كوحدة لا تتجزا. لكن المادة التي يمكننا التعامل معها كموجود ومتعيّن ارضي نستطيع التعامل معها كاجزاء يمكن انفصالها مثل حاجتنا الطول فقط او العرض فقط او الارتفاع فقط.

الملاحظة الاولى ان قوانين الكون الفيزيائية لا تحكم قوانين الارض بشأن ابعاد المادة كاجزاء تكوينية منفصلة الواحدة عن الاخرى لها.. من البديهيات القول المادة بابعادها كي تصبح كينونة مادية مستقلة ليس في الفضاء فقط وانما على الارض ايضا.

الملاحظة الثانية ان ابعاد الجسم المادي على الارض هي مدركات عقلية يمكن تجزئتها حين يراد التعامل مع بعد مادي واحد من تكوينها. على خلاف النظرية الكونية التي هي ايضا لا تدرك الزمن الكوني موضوعا بل تدركه ملازمة احتواء للمادة وموجودات الكون كما نحن نتعامل به على الارض.

الملاحظة الثالثة كل مدرك مادي بابعاد ثلاثية متفق عليها يترتب عليه متعينا محدودا على خلاف نسبية انشتاين الفيزيائية التي اضافت لابعاد الجسم او المادة بعدا رابعا هو الزمن لكنها ايضا تتعامل معه كونيا فيزيائيا كدلالة وليس تموضعا رابعا في تكوين المادة الموجودة على الارض بثلاث ابعاد فقط.. هنا علينا التفريق بين وجوب حضور الزمن كي ندرك المادة وبين التعامل مع ابعاد المادة متجزئة منفردة التي هي ايضا تحتاج الحضور الزمني لاتمام ادراكها.

الملاحظة الرابعة قياس مقدار الزمن الكوني ياتي ضمن اشتراطات معادلات فيزيائية علمية تكون سرعة الضوء متسيدة تلك الاشتراطات. اما مقياس مقدار الزمن على الارض فهو يكون محكوما بسرعة الصوت وليس سرعة الضوء لقطع مسافة بسرعة معينة هي لا شيء بالنسبة لقياس السنوات الضوئية كونيا..

لقد سبق لافلاطون كما اشرنا له سابقا انه قال الطبيعة اقدم وجودا من الزمان، وان الطبيعة منتظمة بقوانين ثابتة والزمن سديم عشوائي كوني وبدلالة انتظام قوانين الطبيعة نستطيع تطويع عشوائية الزمان الى انتظام مشابه للطبيعة. وهي عملية ميتافيزيقية لا يدركها العقل كما ولا يوجد ما يؤكدها علميا تجريبيا. وهذا التفسير الافلاطوني بالقياس الى معطيات زمنه الماضي في فلسفة اليونان القديمة يبدو مقبولا اذا حاولنا تفسير هذه النظرية تفسيرا ميكانيكيا يرى الزمان حركة دائبة لا تدركها عقولنا، ويرى المكان ثباتا ماديا ندركه بابعاده المادية الثلاث.

لعل الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الحائز على جائزة نوبل بالادب هو الذي غرّد خارج السرب في مقولته اننا ندرك المكان بوظيفة الادراك العقلي البيولوجي مجردا عن ملازمة الزمن للمكان في ثنائية لا انفصام بينها ومن السذاجة تصديق ان ادراك المكان يشترط ملازمة زمن له. (تقريبا نقلت فحوى ما جاء به برجسون)

ماذا فعل برجسون بمقولته الاستفزازية هذه لعلماء الفيزياء والفلاسفة واشياعهم؟

اولا : الغى حقيقة وجود الزمكان. على صعيدين هما جعله الزمكان ليس مادة يدركها العقل، ولا هو فراغا استيعابيا احتوائيا خارج ادراك العقل.(يوجد نقاش فلسفي – فيزيائي حاد بين مؤيد ورافض لهذه الفرضية).

ثانيا: اثار برجسون ربما عن غير قصد فلسفي ناضج منه فرضية ان يكون الزمن (وهم) لا وجود حقيقي له يمكن اثباته.(برز حديثا في الفلسفة الاميريكية ما يدعّم صحة هذه الفرضية). لي مقال منشور كتبته مؤيدا فرضية الزمان وجود غير موجود. مستفيدا من مقالة الباحث الفلسفي حميد محسن الذي عرض فيها كتابا بالانكليزية غير مترجم للعربية لثلاثة فلاسفة اميركان ذهبوا منحى الزمن وهم افتراضي غير موجود. المقال نشره موقع المثقف مع مقالتي .

لنرى ما قاله اسبينوزا في منحى اكثر غرابة قوله في مبحثه الاثير لديه مذهب وحدة الوجود قوله اننا بدلالة ازلية الجوهر الخالق غير المخلوق – يقصد اسبينوزا بالجوهر الازلي هو الله – ندرك جواهر الاشياء بالطبيعة والوجود وظواهر العالم من حولنا. واضاف انه بدلالة الجوهر ندرك الوجود وماهية الشيء سابقة لوجوده،. وبذا اصاب اسبينوزا كلا من الماركسية والوجودية بمقتل قولهما الوجود يسبق الماهية او الجوهر.

اول ملاحظة تؤخذ على ما ذهب له اسبينوزا ان الجوهر الالهي الازلي المطلق الذي لا يتقدمه خالق. والجوهر بمعناه الفلسفي المادي المتعين وجوده خلف الصفات الشيئية افتراضا كلاهما جوهران لا يدركهما العقل وينطبق عليهما مبحث الميتافيزيقا. واسبينوزا لم يتعامل مع الوعي بعلاقته بالمكان.

ثاني ملاحظة لم يوضح لنا اسبينوزا فلسفيا فك الاشتباك التعشيقي في ثنائية الزمكان. بين زمان هو جوهر مستقل لا يشترط ادراكه، وبين المكان المتعيّن ماديا الذي لا يمكننا تجريده عن الدلالة الزمنية التعريفية له. احدث الفرضيات الفلسفية التي يؤيدها العلم اننا لا يمكننا ادراك مكان من دون ملازمته الزمانية له وهي مقولة متداولة عمرها قرونا طويلة..

صحيح اسبينوزا لم يقع بخطأ يمكن للعقل البشري اعتباره الزمن موضوعا ادراكيا مستقلا يمكن معرفته الماهوية. لكنه سقط بما هو افدح ضررا مما سبق ذكره قوله (بدلالة الجوهر الازلي ندرك الوجود، والماهية تتقدم الوجود) مع اقراره ان الجوهر النسبي الموزع خلف صفات الموجودات بالطبيعة، والجوهر الالهي الازلي الخالق لكل جوهر، كلاهما خارج ادراك العقل لهما لا كجوهرين منفردين ولا متلازمين.

ختاما لو عدنا الى ما قبل اثبات انشتاين في نظريته النسبية العامة 1915 التي قال بها ان الزمن بخلاف نيوتن ليس مطلقا بل نسبيا. لوجدنا انفسنا امام حقيقة ان مطلق الزمان ونسبيته قد يجدها علماء الفضاء اكبر انجاز كوني، لكنه لا يمثل تلك الضرورة الحياتية على الارض بان مقدار نسبية الزمن الارضي المقاسة المعتمدة هي من العملاتية التي ترجيء الفتوحات الفلكية خلفها.

***

علي محمد اليوسف

لغة العقل

العقل هو تعبير اللغة عن معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل صوريا تمثّليا لا تحضره وسيلة اللغة. ولا يوجد ادراك تصوّري عقلي لشيء يتم بلا  تعبّير اللغة عنه .

كي نفهم حقيقة العقل علينا التسليم بخاصيته الجوهرية التي هي ماهية التفكيرالمعرفي ولا يعقل العقل ما لا معنى له كما لا تستطيع اللغة التعبير عن شيء او موضوع لا يدركه العقل في معناه لغويا تفكيريا..

ان ندرك الشيء تفكيرا بلغة ابجدية صوتية ام بلغة صامتة فكلا التفكيرين هو ابجدية صورية تمثلية واحدة لغوية يحكمها الصوت ودلالة المعنى للمفردة والجملة..

كل موجود في الطبيعة والعالم الخارجي ما لم تحتوه اللغة الصورية ويتمثله العقل لا يدرك العقل معناه ولا يعيه. ادراكات الحواس هي احساسات لغوية مجردة ينقلها الذهن للعقل لذا تكون انطباعات حسيّة تعيها اللغة ماديا.

قلت بدءا العقل تفكير لغوي بينما ذهب سيلارز الامريكي قوله الوجود لغة واضيف انا العقل جوهر لغوي ولا معنى لوجود لاتعبّر عنه اللغة. العقل ماهيته التفكير اللغوي المجرد سواء اكان مصدر ادراكاته تكوينه البيولوجي (المخ) او سواء مرجعيته انه جوهر ماهيته تجريد مستقل في تعبيره اللغوي عن مدركاته الشيئية.

في نفس الوقت الذي قال به هيجل الوجود هو الله وهي فكرة معنى لهوية الله.. واجد ان هذه التعبيرات واحدة في التعبير عن مفهوم واحد متداخل غير منفصل.

أن العقل هو لغة معنى الوجود وليس هناك وجود يدركه العقل لا تحضره اللغة تصوّريا ولا يوجد ادراك عقلي لشيء لا تعبّر عنه اللغة.

الذات بين الدين والطبيعة واللغة

صحيح جدا ان الذات كخاصية انسانية يحتويها الديني ميتافيزيقيا, عندها تصبح الذات واقعا ماديا هامشيا في العمل المنتج الذي يمثل سلطة النفوذ المالي وملكية وسائل الانتاج. . لكن الاهم ان الذات تكتسب وعيها الطبيعي للاشياء سواء اكانت تحت وصاية الدين او تحت وصاية وتسلط راس المال ووسائل الانتاج.

الذات لا يمكنها الانفصال عن الحياة والوجود المجتمعي في اسوأ الظروف والمراحل. وفي هذه الخاصيّة تتجنب الذات السقوط في الاغتراب بمضمونه السلبي في فقدان الانسان جوهر وجوده الاندماجي ضمن مجتمع منتج للحياة. الاغتراب الانعزالي الايجابي هو وعي قصدي محسوب البداية ومحسوب الوصول الى نهاية وهو ميزة غالبية الفلاسفة والعلماء والمتميزين في كتابة الاجناس الادبية.

لا تحقق الذات موجوديتها في ارتباطها بالديني الذي يحتويها في علاقة دائمية وحسب. بل تحقق الذات وجودها الانطولوجي السلوكي بالمغايرة الوجودية مع غيرها من غير وحدة تشابه المجانسة النوعية بين الذات وموجودات الطبيعة. والا اصبحت الذات موجودة في كل شيء تكوينيا وليست وعيا تجريديا في فهم الحياة. ثنائية الذات مع الروح والزمن هي علاقة يجمعها ميتافيزيقا المطلق ويفصلهما فقدان الانسان لحياتة بالممات. ولا يوجد ماهو روحي خالد ولا ماهو زمني غير ازلي خالد بفناء الانسان.

كما هي الذات وجود متحقق بوعي العقل الا انها تفقد انطولوجيتها الحسية والادراكية في نهاية الانسان بالموت. مثلما لا يستطيع الانسان إثبات وجود الروح بالجسم قبل الممات فهو اعجز أكثر عندما يبحث عن مصير الروح التي غادرت الجسد بعد الممات.

الحداثة والعلمانية

في تفسيرنا العنوان يتوجب علينا توضيح العلاقة بينهما (الحداثة والعلمانية) هل هي علاقة جدلية ام علاقة معرفية تكاملية ام معرفة متوازية في توازي احدهما الاخر. العلمانية هي بداية الخروج من معطف الماقبل حداثي وبلغت اوجها في الحداثة ووصلت قمتها المتطرفة اكثر في ما بعد الحداثة..

العلمانية واقع معيش يكفل للانسان كرامته وتحفظ له كامل حقوقه بالحرية المسؤولة ديمقراطيا التي تقوم على جملة القوانين الوضعية التي ينتفع منها الانسان.

الاستقلال في التضاد الافتعالي مابين العلمانية والدين ليست علاقة نفي لاحدهما في بقاء الاخر. لكن بينهما ترابط ميتافيزيقا الدين, وتاريخية منهج العلمانية التي تسود هيمنته على كل ما يجتنب الديني الخوض في معتركه في انقياده للعقل المادي.ما يثبته العلم لا يخوض معتركه الدين.

الحداثة لا تقاطع الديني كمقدس ولا تسعفه بالتكامل المعرفي معه. لذا يكون الاسلم ان يحكمهما الاثنين نوعا من التوازي الاستراتيجي الذي يحفظ الاستقلالية لكليهما. من الخطا التفكير ان منجزات العلم ستترك الجوانب الروحية النفسية يقررها الاستفراد التدين الوضعي ويقرّه مستقلا به وحده..

اسبينوزا والالحاد

ورد في ويكيبيديا الموسوعة في دفاع هيجل عن الحاد اسبينوزا ما يلي" ان هوية الله مع الطبيعة تلغي فكرة الله. والاصح ان هذه الهوية تلغي الطبيعة. وبدلا من اتهام اسبينوزا بالالحاد ان لا يسمى بالالهية بل يسمى بالكونية او اللاطبيعية بحيث لا يكون للكون وجود في ذاته. لان كل ما يوجد انما يوجد في الله."

اجد في تعبير هيجل حول توضيح معنى مفهوم وحدة الوجود لدى اسبينوزا تحليلا دقيقا سليما في تفعيله العقل  معرفة دلالة هوية الخالق. ويذهب بعض الفلاسفة ان اسبينوزا له من الاعتقاد بالله ما يكفي او يزيد.

هيجل حينما استعار فكرة (هوية الله) المتجانسة مع الطبيعة على انها تلغي فكرة الطبيعة كانت فكرة صائبة تنظيرا لكنها خاطئة واقعيا. هذا لا يعني ان اسبينوزا لم يفهم الفرق بين هوية الله في الطبيعة التي هي مرتكز فلسفته بوحدة الوجود. وبين هوية الله الميتافيزيقية في مرجعية ما تقوله الكتب المقدسة والمعجزات الدينية..الطبيعة ادراك محدود غير كوني نهائي لا يجوز الاستدلال به في الغاء هوية الله الميتافيزيقية غير المحدودة لا بالصفات ولا باللامتناهي.

***

علي محمد اليوسف

تظل معالم الحقيقة باقيةً مهما كانت التحديات والظروف المحيطة بها، ونحن ندرك أنَّ السلطة تقدم لها تأويلاً بحسب مآربها الخاصة. وترى فيها خطراً داهماً يجب التخلص منه. ولكن نظراً لكون الحقيقة لا تتلاشى (كما سنعرف بعد قليلٍّ)، فلا تملك أيةُ سلطةٍ سوى حجبها. إنَّ فعل الحجب، الحظْر، المنع، يلائم الحقائق الإنسانية لا فعل النهاية ولا الموت. أبداً لا تموت الحقيقة، فلا أحد بإمكانة قتل الحقائق كأنها ضحية لعملية اغتيال أو دهس بالطريق العام. وهي خطر على السلطة، لأنَّ الأخيرة ترى فيها ما كانت تود أنْ تراه في نفسها، أي ترى السلطة فيها الأصل الذي لا تستطيع أنْ تكونه.

بقاء

تقف الحقيقة عصيةً على التلاشي، ليس لها حدٌ يمكن اعتباره حدَ الفناء. هي ممتنعة أيا كانت محاولات النيل منها. وعندما تتراكم السنون والأيام فوق حقيقة إنسانية معينةٍ، يتخيل الناس أنها قد دُفنت دون رجعةٍ. ولكن هذا محض وهم لا أساس له من الصحة، لأَّن الحقيقة لم يحدث أنْ دفنت، ولن يُفعل بها ذلك. لقد تحولت -حال غيابها لأي سبب من الأسباب- إلى طبيعة رمزية أخرى من التواجد المكثف.

البقاء هو نتاج لعمل الثقافة والذاكرة ضد كل نسيان، وليس هو النسيان الوارد عادةً لدى آحاد البشر، لكن أقصد أنَّ البقاء يصمدُ مع ذاكرة المجتمعات. فالمجتمعات انشئت لتتلافى آليات وقوانين النسيان. ضمن التاريخ الفعلي لا يوجد ما يُسمى بالنسيان. لأنه عبارة عن ذاكرة بنيتها الجمعية على اتساع الأزمنة وتحولاتها، إنه ذاكرة لا يعنيها فرداً بذاته، لكنها ترصدُ موقعه بكافة التفاصيل مثل تفاصيل الآخرين في حركة المجتمع الدائرةِ عن كثبٍ.

كل أدوات التذكُّر متوافرة وتعمل بقوة فائقة التقدير: الأرشيف، التسجيلات، الوثائق، التدوينات، القصص الشعبي، الأمثال العامية، الآداب، الأشعار، النصوص، الخطابات العامة، المحاضر الرسمية للمؤسسات والهيئات، ذاكرة الأجيال، سجلات القضاء، المناسبات والطقوس. أشياء تصب بطريقة أو أخرى في زاوية رصد الحقائق. وإذا كان العقل البشري ممتزجاً بقوى الضعف والوهن، فليست ذاكرة المجتمعات كذلك. المجتمعات لا تنسى، وهي تفعل هذا بملء الكلمةِ لا غير.

هكذا تبقى الحقيقة كامنة هنا أو هناك، وهي كذلك بالنسبة لجوانب التاريخ. والتاريخ من زاوية الحقائق عدة أنواع تحتفظ بآثارها وحفرياتها.

أولاً: التاريخ العام: ذلك الذي يحمل تفاصيل الأحداث الكبرى، أي بما يخص المجتمع ككل مثل الثورات والتحولات السياسية والظواهر الاجتماعية والحروب والتطورات الاقتصادية. ولا يعبأ كثيراً بالأحداث الصغيرة التي قد تقع بين ردهات الحياة اليومية. وهذا التاريخ عادةً تاريخ متجمدٌ إلى حين، لأنه ينتظر عقوداً من السنين حتى يرصد ما يقع، كما أنه يمتلك عيوناً واسعة الحدقات لا تلتقط إلاَّ الحركة الزمانية والمكانية بعيدة الخطى.

ثانياً: التاريخ الخاص: تاريخ يهتم بالأحداث الخاصة مثل مسار بعض الشخصيات الشهيرة وتاريخ المدن والقصور والتجمعات البشرية وتطورات السياسات النوعية في قطاعات المجتمع والإقتصاد. وهذا التاريخ يهتم بتلك الأشياء بقدر ما تؤثر في المجتمعات، وبقدر ما تصب في مجرى الأحداث الكبرى. إن تاريخاً كهذا يضرب موعداً مع الأحداث الخاصة (ظواهر– شخصيات– وقائع) على فترات متباعدة، لانه ليس يظهر مثلها على نحو متقارب زمنياً.

ثالثاً: التاريخ اليومي: تاريخ يرصد تفاصيل الحياة اليومية، الممارسات والعلاقات والحركة اليومية للمجتمعات. وفي الواقع يقوم الإعلام بهذا الدور مع إيقاع المجتمع وجوانب الحياة اليومية واسعة الانتشار. التاريخ اليومي تاريخ متناثر ومترامي الاطراف. كان يمثله قديماً تاريخ الجماعات والكتل البشرية والأفراد على الصعيد اليومي وطرق الحياة والعلاقات وأخبار الملوك والوزراء وتراجم الأخبار لما يحدث طوال الوقت مثل كتاب عبد الرحمن الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار). وراهنا غدت مواقع الانترنت وصفحات التواصل الاجتماعي فضاءً فسيحاً لتسجيل اليوميات، والأشياء التي لا يلتفت إليها أحد، وتسجيل أدق التفاصيل التي تسقط من غربال الأحداث الكبرى.

رابعاً: تاريخ المهمشين: تاريخ ينقب في جوانب وصور التهميش الإجتماعي والإقتصادي والسياسي، راصداً حيوات المهمشين والآثار الواقعة عليهم ضمن تفاصيل الواقع المعيش. وهذا التهميش لصيق الصلة بتكوين المجتمعات البشرية. وليس التهميش مكاناً ولا زماناً ولا نمطاً، ولكنه وظيفة لنمط العلاقات والسلطة الغالبة في المجتمعات. أي لو لم تكن السلطة مستحوذة على الاهتمام فارضةً كل ما يتعلق بها، ما كانت لتوجد هناك جماعاتٌ مهمشةٌ وحرف مهمشةٌ وعلاقات مهمشةٌ. وأن التهميش هو المعادل الموضوعي لهيمنة السلطة موضوعياً بالمثل. والحقيقة في هذا التاريخ غير الحقيقة في أنماط التاريخ الأخرى.

خامساً: تاريخ المسكوت عنه: هو تاريخ الأسرار والقصص الضمنية والخلفيات والصور الخفية من الحيوات والمهن والوظائف والسياسات والمواقف والعلاقات المسكوت عنها، ولم تجرؤ السلطة وضعها في دائرة الضوء. وهو تاريخ الصمت والممارسات غير المعلنة التي لو ظهرت لتغيرة صورة فاعلي المجتمعات في نظر الجماهير ولألقت الضوء على الصور المعتمة من الواقع والحياة. وهو تاريخ ضمني يفهم من خلال مظاهر المجتمع، ويمتد في نواح متعددة بقدر عجز الواقع عن أن يقول كل شيء.

سادساً: التاريخ المتخيل: وهو تتبع مسارات وصور وأبنية الخيال وتوظيفه في المجتمعات البشرية. ولاسيما أنَّ الخيال هو العالم المتصوّر الذي يوازن حركة الواقع ويمثل الجزء الأكبر من جبل الثلج الذي تدسه السلطة في حياة الناس لرسم معالم الحياة وتسويق السياسات والأعمال العمومية بصرف النظر عن حقيقيته من عدمه. وتدخل في هذا الجانب عمليات التقديس والسرد وبناء الصور المتضخمة للحكام والأعمال في آفاق الناس. فإذا كان الواقع لا تبلعه الجماهير بسهوله، فلا مانع من تغليفه بالخيال والسرد لتسهيل ابتلاعه.

سابعاً: التاريخ الافتراضي: وهو التاريخ الذي يفترضه الناس والقوى في المجتمعات وينتظرون تحقيقة. وكل المجتمعات تمتلك أرصدة ضخمة من الافتراض التي تفسح مجال الواقع وتضعه في إهاب المستقبل. أما الجانب الآخر، فهو التاريخ الذي يؤرشف للعوالم الموازية إفتراضياً مثل الحيوات الافتراضية ووسائط التواصل الافتراضي في مجال الذكاء الإصطناعي وما تمارسه من تأثيرات على العقول والرغبات، لأن الوسائط عوالم وبيئات وعمليات سرد تسقط دلالتها على الواقع والحياة والتاريخ وتعكس نظام الحقائق.

ثامناً: التاريخ الرمزي: وهو التاريخ المعني بتدوين الجوانب الرمزية لحيوات الإنسان وأنشطته وأسسها العملية وكيفية ممارستها وأهم الرموز المؤثرة، سواء أكانت في الأديان أم في السياسة أم في حركة المجتمع أم في الاقتصاد أم في الانثربولوجيات واسعة الانتشار أم في الثقافة. لأن العيش مع المقدسات والطقوس والعلاقات القائمة عليها والرمزية الناجمة عن كل ذلك يضرب بجذوره في تاريخ طويل وراء الرموز وبدائلها واستعاراتها. وبخاصة أن ذلكم التاريخ جزء لا يتجزأ من النظام الرمزي الذي تستند إليه السلطة، فهناك حقائق رمزية توفر لها أرصدة من الفاعلية والقدرة على التأثير والاستمرارية بين الأفراد والجماعات.

اختصاراً، فإن جميع هذه التأريخات لا تترك الحقائق تمرُ مروراً عابراً، فهي تحمل تفاصيل الحقائق بشكل أو بآخر. وأتصورها لو وضعت بجوار بعضها البعض، فستوضح أي مجال إنساني ولن تفلت جوانبه دون كشف وتدقيق. لأن التاريخ يضع بين أيدينا الحقيقة في المقام الأول ويحيي الذاكرة الجمعية التي ترى الأحداث والأفعال العامة كما هي. والمجتمعات التي تعيش تاريخها وتعي منعطفاته هي المجتمعات الحية على الأصالة.

تأثير

الحقيقة تتميز بقدرتها على التأثير، وهو تأثير في تقييم الأشياء والحياة ورؤى الناس حول ما يحدث بالضبط. وتؤثر في نمط التفاعل بينهم، وكيف يتعاملون مع مفردات الواقع، لأن الحقائق أساس التوازن والتواصل. فمن المهم عندما يستند الناس إلى تصورات وأفكار ووقائع حقيقية ومتداولة بهذا المنطق، أنْ يخلي هؤلاء الناس بينهم وبين الصور المزيفة للواقع، وأنْ يكفوا عن إعادة انتاج الكذب في الممارسات العامة.

لنتذكر قليلاً، أن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بيل كلينتون كان تحت نيران النقد المتواصل وجرت مناقشات في الكونجرس وغيره لإمكانية إقالته وتوبيخه أو استقالته من منصبه الرئاسي نظراً لملابسات علاقته اللاأخلاقية بموظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي. ولم تكن الوقائع في القضية آنذاك هي السبب المباشر، ولكن كان السبب الأقرب هو تزييف الحقائق والكذب على الشعب الأمريكي. أي هو لم يقدّر تأثير الحقيقة على الناس وإن كان يعرف ماذا حدث بالضبط؟! وكانت السلطات الأمريكية تريد أن يقول الرئيس كلينتون الحقيقة ولا شيء غيرها.

ولكن الرئيس كذب على الرأي العام وقام بتضليل العدالة حين أنكر في البداية. إن تأثير الحقيقة أكبر من الوقائع في ممارسات السياسة، فقد تكون الوقائع خاصة ولكن التأثير عمومي بالضرورة عندما تتحول المواقف إلى جانب آخر. وكذب بيل كلينتون وقع في هذا الجانب وبدا كما لو كان حجباً لحقائق مصيرية على الشعب بمجمله. في حين يعد الرئيس مسئولاً وكان يجب أن يبذل التمسك بالحقائق إلى أخر نفس، فهي الكفيلة بتجديد الثقة في وجوده. ولذلك تعالت الأصوات وقتها بضرورة خضوعه لتحقيقات ولجلسات توبيخ أمام السلطة الشعبية المتمثلة في الكونجرس الأمريكي.

هذه الخطوة تقول إن رد الفعل (التحقيق والتوبيخ) من جنس العمل (الكذب العام) بصرف النظر عن الممارسات اللاأخلاقية، لأن الحقائق تصعد الأثر إلى مرتبة التعميم الذي يمس كيان المجتمعات، كما أنه تأثير مهم من جانب السلطة الواقع على رأسها كلينتون حتى تحقق وجودها أمام الشعب. فبالرغم من كون السلطة تقدم تأويلاً للحقيقة، إلاَّ أنه يهمها في المقام الأول (غلق الدائرة) عليهما، حتى يُخيل للمتلقي أنهما (السلطة والحقيقة) شيء واحد. فلو بدا أن الاثنين شيئان مختلفان، فهنا تكون التهديدات خطيرة، وقد تلفظ السلطة أحد عناصرها كما حدث مع كلينتون على قارعة الحياة، وقد تعرضه للتوبيخ أمام العيون، حتى يتم استعادة صورتها المهتزة.

إن تأثير الحقيقة يأخذ مكانتها في اللاوعي الجمعي بالفعل، لأنها تستند إلى خلفية استراتيجية من الفاعلية غير المرئية، وتساوي عملية إخفائها مساحة القوة التي كان يأخذها التأثير. ولذلك قد يرى كلينتون أن أمر كذبه على الشعب الأمريكي أمراً بسيطاً، لكنه كان كذباً يزداد في نواحٍ أخرى من المجتمع، ويترقبه الناس انطلاقاً من حجم السلطة المفترضة له.

وعلى نطاق أكبر دولياً، سنجد تأثير الحقيقة معقداً ولا يخلو من نتائج مدمرة. تقرير مبعوثي الأمم المتحدة للتفتيش عن أسلحة الدمار الشامل لدى نظام صدام حسين في بداية القرن الواحد والعشرين، كان تقريراً يتعامل مع قضية الحقائق وجهاً لوجه. وبدا سؤاله كالتالي: هل توجد حقيقة لأسلحة الدمار الشامل لدى النظام العراقي؟! أو هل الأسلحة من هذا الصنف المجرّم دولياً حقيقة أم لا في الدولة العراقية؟ طبعاً مع رحلات ومهمام المفتشين الدوليين إلى العراق، بدت الحقيقة، ملابساتها، وما إذا كانت هناك قوى تؤثر في هذا الاتجاه أم لا، هي مصدر التأثير ذاته على المشهد العالمي.

ليست للحقيقة قيمةٌ ما لم يكن تأثيرها أكبر مما نتوقع، وهذا المعني مؤداه أن السلطة هي الكائن الخفي في الموضوع. لأن التأثير يأتي عادة من المنع أو من التلاعب بالحقائق، وعندما يكون ثمة تأثير، فهو آتٍ من ضخامة المنع أوالتلاعب. ولذلك كانت قضية أسلحة الدمار الشامل هي الستارة التي نضجت تحتها مآرب وأغراض أخرى، وتباعاً طرحت حوارات ومخاوف حول احتلال العراق، ووراؤها أيضاً تحركت القوى الدولية لمزيد من الضغط في هذا الاتجاه.

الوضع الغريب أن جرت هناك مناقشات في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن حول مهمة الجيش الأمريكي لنزع أسلحة الدمار الشامل. وكأن الموضوع مسلم به وأخذ يقفز إلى الأمام، وهو نزع لسؤال الحقيقة وتحويله إلى حركة عسكرية على الأرض، سرعان ما نتج عنها تدمير المجتمع العراقي وتدمير إمكانياته ومساندة الكيان الإسرائيلي وتوغل أمريكا وأصابعها الدولية في المنطقة العربية، وتم نهب ثروات البلاد وحدث مزيدٌ من الانقسام وفشلت الدول العربية في إقامة دول ذات مصداقية وذات وجود حقيقي هي الأخرى.

إن سؤال الحقيقة بهذا المعنى الدولي شكل سياسات ورسم خرائط النفوذ والقوى بقدر ما كان سؤالا ملتفاً مع طبيعة تكوين الدول القوية، وكذلك حين كان ملتفاً حول إدارة القوانين الدولية والمنظمات ذات الصلة. إنه سؤال حول كيفية إدارة التأثير واستغلاله على نطاق واسع. وبعد هذا السنوات التي مرت على غزو أمريكا للعراق، قد اتضح أن الدولة العراقية لم تكن تمتلك أسلحة الدمار الشامل وأن المجتمع العراقي كان مجتمعاً ككل المجتمعات العربية يعاني من فكي عنف النظام الحاكم والإرهاب، ولم تكن دولته تساند إرهاباً عالمياً بصيغة اسلاموية كما زعم نظام جورج بوش الابن. وبعد الحرب الأمريكية على العراق واحتلال دولته، غدت القضية هي: كيفية كتابة سؤال الحقيقة بهذه الإشكالية المركبة؟

لأن تأثير الحقيقة كانت له عدة خيوط:

1- طرح الفكرة المراوغة (أن هناك أسلحة دمار شامل) في العراق.

2- تجنيد الهيئات الدولية للقيام بالدور المنوط بها وفقاً لطرح أمريكا والتظاهر بكونه لصالح العالم.

3- استنفاد المهام الدولية لمفتشي الأمم المتحدة واستنزاف مصداقيتها بناء على نوايا مسبقةٍ.

4- تحريك القوى الغربية المساندة لأغراض الاحتلال والتواجد في المنطقة العربية.

5- التلاعب بالقوانين الدولية وعدم احترام سيادة الدول بحسب المواثيق والاعراف السياسية.

6- تفعيل تراث اللاهوت السياسي وفقاً للأصولية المسيحية المتمثلة آنذاك في أدبيات نظام بوش الابن وترسانته التأويلية والتكنولوجية حول لاهوت المنطقة الذي تشكل اسرائل مركزه داخل دائرة بشرية مسيحية وإسلامية.

7- إدارة الصراع العسكري مع القوى الإقليمية من دول عربية ودول متوسطية ودول أفريقية لصالح أمريكا.

8- تغطية المآرب بكم مهول من الضخ الإعلامي لأخبار الحرب ونتائجها طوال الوقت (الأيام والشهور والسنوات).

9- غسيل أيدي أمريكا مما حدث للعراق والمنطقة على طريقة الكاوبوي، وبث دراما وأفلام سينمائية لحلب التعاطف مع جنود الاحتلال على حساب الشعب الوطني.

10-   تمييع القضايا وقتل الحقائق القائلة بعدم وجود أسلحة دمار شامل وتدمير المجتمع العراقي.

11- توظيف المصطلحات السياسية وبلاغة السياسة لردم الهوة بين الواقع والمتخيل عن طريق الزعم بأن أمريكا كانت تريد نشر الديمقراطية مقابل الارهاب ونقل المجتمعات العربية إلى خانة الدول الحرة.

عودة

حقيقة بلا عودة ليست حقيقة على الاطلاق. لو أردنا تعريفاً ثانوياً للحقيقة، لقلت إنها نظام إدراك لا يمل من العودات المتواصلة دون توقف. كثيراً ما نفكر بكون الحقيقة تظهر وتنتهي إلى الأبد. وهذا تصور غير صحيح، لأنَّ الحقيقة تعود بشكل قوى، وتثبت أن هناك شيئاً معيناً قد حدث، فلا يجب أن نتناساه. وكأنها في كل مرة توقظ ذاكرتنا الجمعية كنوع من توازن الردع إزاء الأوهام، وإثبات مبدأ الواقع أمام الناس.

والعودة تأخذ أشكالاً كثيرة، منها خطاب الحقيقة الذي يوجد منتشراً في السرد والتاريخ والعبارات المتداولة. ليؤكد أن الحقيقة هي الأساس، وأن هناك من يحاول التلاعب بها أو جعلها نوعاً من الشحن المتواصل لوجوده. والأهم كون هذا الخطاب مصدراً لمعرفة كيف توجد السلطة، وكيف تُورد الحقائق لصالحها. وقد تكون العودة نوع من التواصل الذي يمتد إلى طبيعة المجتمعات. فالتواصل يظل قريناً للحقائق، لأنها أسهل الطرق للإلتقاء والتفاهم. كما أنها في لحظة واحدة تنزع عن مختلف الناس السلطة تاركة إياهم والجوانب الإنسانية.

ومن أحد أشكال العودة أيضاً، هناك عملية الالحاح على الحقائق، وتلك عملية متناثرة في مناهج التعليم وكتب المعارف والأدبيات والقصص المتداولة وبرامج الإعلام، وكأن هناك قوى تريد تثبيت الصورة على هيئة معينة وتشكل اللاوعي الجمعي الذي يوفر لها غطاءً تلقائياً في حالة غياب الحقيقة.

والالحاح لسان حال نيابة عن المُمسك بصورة الحقيقة ليقول ها هي الحقيقة كما أصورها، وإنها بمثابة الأساس الذي يجب أن نسير عليه إلى منتهاه. وهذا المُمسك بخيوط الصورة يهمه دفع الجماهير في اتجاه معين، حتى يلتقي مع أهدافه في الواقع. وليس شرطاً أن يكون الإلحاح ظاهراً، لكنه غير مباشر في غالب الأحيان.

العودة من جهة أخرى بواسطة التأويل، والتأويل إزاء الحقيقة بدل لوجودها بصورة فجة وخشنة، فالتأويل للحقائق لا يحاول تقديم تفسير لها ولا يطرح إشكاليتها، بل بإيعاز من السلطة يصوغ من نفسه بديلاً عنها. كأنه يقول إذا لم نكن نحن البشر بقادرين على تحمل عُري الحقيقة ولا مواجهتها، فليكن هناك تأويل يعطيها شكلاً مقبولاً. وليس يمنع من وجود إطار مبرر جمعياً، حتى تمر الحقيقة دون حساسية ثقافية. ولذلك ياتي كل تأويل للحقيقة من جانب ما نرغب في معرفته ورؤيته، وليس من جانب ما نكره ولا ما نريد مواجهته.

وبما أن الحقيقة لا تخلو من صدمة ودهشة، فهي أقل ما تكون من خلال العودة المؤولة لها، مع كونها لا تفتأ تذكرنا بالأصل، أصل وجودها بالأساس. وأحد وجوه التأويل كون صورة الحقائق تأتي ملحقة بصور ثقافية واجتماعية أخرى. فلو كانت هناك أحداث معينة لها مكانتها إجتماعياً مثل الانتصار في حروب أو الأعياد القومية، فبالإمكان أنْ تخلع دلالتها على مناسبات أخرى وتتبادل الأدوار معها مثل المناسبات الدينية أو الاجتماعية المختلفة.

أخيراً تشكل عودة الحقائق ذاكرة حيويةً للناس، وتمثل مصدر إلهام في جوانب أخرى من الحياة، لأنَّ الذاكرة نوع من السرد الذي يتسق مع أنماط العيش ويعطي الإنسان صيغة إشباع وتكيف مع ظروف المجتمعات، وقد تنحي الذاكرة كل ممارسات السلطة جانباً، لتلتقي إزاء الحقائق الإنسانية بما هو أصيل. والأصيل في حياة المجتمعات كثير جداً، قد نسميه روح الشعوب وطريقة ممارساتها المبدعة للثقافة وكيفية التغلب على المشكلات.

***

د. سامي عبد العال

المَنهجُ الاجتماعي الكامن في الأنساق الثقافية يُمثِّل كِيَانًا فلسفيًّا يُعَاد إنتاجُه باستمرار في التجارب الشخصية للفردِ، مِن أجلِ تَحويلِ صِيغة الوَعْي إلى فِعْلٍ اجتماعي، ونقلِ إرادة المَعرفة مِن الذِّهْن إلى الواقع . وكُلَّمَا تَكَرَّسَت التجاربُ الشخصيةُ للفردِ كَسُلطةٍ وُجوديةٍ واعيةٍ بذاتها، وواعيةٍ بالعناصر المُحيطة بها، تَجَذَّرَت الأحداثُ اليوميةُ كَسِيَاقٍ إنساني عَقْلاني يُنتِج نَفْسَه بِنَفْسِه، ويُعيد تأويلَ الجَوهرِ النَّقْدِي للعلاقات الاجتماعية ضِمْن الشُّروط التاريخية الرَّامية إلى تأسيس السُّلوك الحَيَاتي انطلاقًا مِن مَنظور لُغَوي إبداعي، يَتعامل معَ ماهيَّةِ الأفكار كَآلِيَّةٍ للتصالح معَ المُجتمع دُون التَّخَلِّي عَن النَّقْدِ البَنَّاءِ، ويَتعامل معَ هُوِيَّةِ الزَّمَن كَأدَاةٍ لاكتشاف الخصائص المَعرفية في أشكالِ الوُجود ومَضامينِ الحضارة دُون التَّخَلِّي عن البيئة المُعَاشة . وإذا كانَ الواقعُ يُكَوِّن أنساقَه الثقافية لِمُقاوَمة غُربةِ الفردِ في ذاته، واغترابِه عَن مُحيطه، فَإنَّ الزَّمَنَ يُكَوِّن تفاعلاتِه الرمزية لِمُقاوَمةِ المشاعرِ الاصطناعية، والحياةِ الاستهلاكية الميكانيكية . واللغةُ تَقُوم بِتَوحيدِ الواقعِ والزَّمَنِ في البناء الاجتماعي لتحقيقِ التوازن بَين ذاتيَّةِ الفردِ ومَوضوعيةِ التاريخ مِن جِهَة، وبَين حَتميةِ العَقْلِ الجَمْعِي واحتماليةِ التأويلِ اللغوي للتفاعلات الرمزية مِن جِهة أُخْرَى . كما تَقُوم اللغةُ بِتَعريةِ العلاقات الاجتماعية مِن أنماطِ الهَيمنةِ والاضطهادِ، إذْ إنَّ اللغة تُمثِّل فاعليَّةً وُجوديةً قادرةً على كشفِ أشكال المَعْنَى المُضْمَرِ في إرادةِ المَعرفة، وإظهارِ المَسكوتِ عَنه في الأحداث اليومية، واستدعاءِ المَكبوتِ في ذاكرة المُجتمع، واستحضارِ المَقموع في الوقائع التاريخية، وإبرازِ المُهَمَّشِ في الهُوِيَّة الحضارية، واستعادةِ المَنْسِيِّ في الأنساق الثقافية، لتحليلِ الرابطة بين البناءِ الاجتماعي وبُنيةِ الوَعْي كَمًّا وكَيْفًا، وتفسيرِ المَنظومة الأخلاقية بَيْنَ فِعْلِ الحُرِّيةِ وحُكْمِ الضَّرُورة .

2

المَنهجُ الاجتماعي المُتمركز في البُنيةِ الزَّمَنِيَّةِ يُقَدِّم تَصَوُّرَاتٍ نَظرية في مركزية اللغة في الوُجود الحَيِّ والحُرِّ، ويُقَدِّم تَصَوُّرَاتٍ تَطبيقية في البُنى الوظيفية لمصادرِ المعرفة في الحياةِ اليومية، والآلِيَّاتِ الفِكرية المُتَحَكِّمَة بِمَسَارِها ومَصِيرِها. واللغةُ هي ثَورةٌ مُستمرة في الوَعْي والإدراكِ والواقعِ لِمُساعدةِ الفرد على التَّكَيُّفِ معَ إفرازات النظامِ الاستهلاكي المادي، ومُساعدةِ المُجتمع على التَّأقْلُمِ معَ تأثيرات التجاربِ الشخصية، والشُّروطِ التاريخية، والأنساقِ الثقافية . والفردُ يَنتقل مِن وَعْيِه بذاته إلى وَعْيِه بِمُجتمعه، ويَعتمد على تفاصيل حياته الخَاصَّة لإصدار أحكام على طبيعة البناء الاجتماعي . وهذا يَعْني أنَّ زوايا الرُّؤية للأشياء في الوَعْي الفردي الجُزئي تُحَدِّد ماهيَّةَ العَقْلِ الجَمْعِي الكُلِّي، وأنَّ المَصلحة العَامَّة هي مَجْموع المصالح الشخصية، وأنَّ مركزية المُجتمع في التاريخِ والحضارةِ هي حَصِيلة الأحلام الفَرْدِيَّة البسيطة، وأنَّ العناصر الوُجودية المَنْسِيَّة في كَينونة الفردِ الذاتية تُؤَثِّر بشكل لا واعي على أنماط الحياة، لذلك، كانَ الواقعُ انعكاسًا لِقُوَّةِ الخَيَالِ في تَفسيرِ الفِعْلِ الاجتماعي، وتَغييرِ مَصادرِ المَعرفة، وكانَ الزَّمَنُ رِحلةً فِكريةً مِن سُلطةِ المَعنى الإنساني إلى فضاءات التأويل اللغوي رمزيًّا وسُلوكيًّا وقِيَمِيًّا .

3

المَنهجُ الاجتماعي المُستقِر في التأويلِ اللغوي يُؤَسِّس شرعيةَ وُجوده في المُجتمع اعتمادًا على الجَمْعِ بَين الفِعْلِ الاجتماعي والمَسؤوليةِ الأخلاقية،مِمَّا يُسَاهِم في تحقيق الوَعْي داخل الأنساق الثقافية باعتبارها تفاعُلاتٍ ناتجة عَن العَقْل الجَمْعِي الذي لا يَعِيش خارجَ الزَّمَنِ واللغةِ . وحركةُ الزَّمَنِ تَكتسب مَفهومَها مِن رمزية اللغة، بِوَصْفِهَا فَضَاءً حَاضِنًا لتاريخِ الأفكار،وحَقْلًا مَعرفيًّا مُنْدَمِجًا معَ التَّحَوُّلاتِ الجَذرية في بُنيةِ العلاقات الاجتماعية. ورَمزيةُ اللغةِ المُتمركزةُ في تفاصيل الواقع المُعَاش تَقْدِر على تَحويلِ الزَّمَن إلى كائن ثقافي مِن لَحْمٍ وَدَمٍ، وهذا يَعْني انتقالَ طبيعةِ المُجتمعِ مِن هُوِيَّةِ الفَلسفةِ إلى فَلسفةِ الهُوِيَّةِ، فَيُصبح الوَعْيُ لُغَةً مُتَجَدِّدَةً في الأحداث اليومية، وتُصبح اللغةُ وَعْيًا مُستمرًّا في التَّقَلُّبَاتِ الحَضَارية . وتبادلُ الأدوارِ بَين الوَعْيِ واللغةِ يَدفَع باتِّجَاه تَكوين تَصَوُّرَات إبداعيَّة حَوْل مَاهِيَّةِ الزَّمَنِ المُنفعِلِ بالعقل الجَمْعِي، والمُتفاعِلِ معَ الفِكْر الإنساني، والمُتَجَاوِزِ لِذَاتِه ووُجُودِه، وُصُولًا إلى الحقيقةِ التي مُفَادها أنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ جَسَدًا لِسُلطةِ المعرفة فَحَسْب، بَلْ هو أيضًا تَجسيدٌ للمَنهجِ الاجتماعي في أحلامِ الفردِ وطُموحاتِ المُجتمع .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

ستُواصل الحقيقةُ طريقها نحو (الاعتراف المُمتنِع)، وهو لونٌ من الإعتراف الباهت، حيث سيتم العودة إليها عاجلاً أم آجلاً. ولكن على كل حقيقة أنْ تخرج إلى مستوياتٍ أخرى من الوجود. الحقيقة ضرب من السعي إليها أيضاً، فهي لا تُوجد بين كائنات تأكلُّ من خشاش الأرض. إنَّ النضال لأجلها ومحاولة كشفها أمور تحسب من طبيعتها في المقام لأول. لا تعيش كلُّ حقيقة زمنها إلاَّ مع إمكانية الاعتراف بشكل من الأشكال. وهذا معناه مرحلةٌ تالية للتعامل مع الحقائق الإنسانية مثل الأحداث والممارسات سلباً وإيجاباً.

إقرار

الاقرار بالحقيقة اعتراف يأخذ صورةَ الإعلان عنها، ويتمُ طرحه بحسب الصيغ العمومية للتعبير. ومن جملةِ معاني الإقرار أنَّه منطوٍ على نبرة الحق في الوجود. وليس الحقُ غريباً على الكلمة معجمياً، لأنَّ فعل (أقرّ) يعني أنَّها لم تأتِ سهلةً من تلقاء ذاتها، ثمة ضغوط مطروحة موضوعياً وقد أتت مع أنفاس الكلمة. جعلت على المعنيين بالحقيقة أنْ يقروا بها دون تفلت إلى الوراء، عليهم أنْ ينظروا إلى الأمام دوماً.

والإقرار هو اقرار لواقع معين دون شيء آخر، أي عليك أنْ تؤكد أنَّ ما جرى قد حدث بالفعل أو أنه مازال يحدث بطرق أخرى. وهذا إقرار يُساق إليك وتساق إليه كمتابع للمسألةِ, وقد يأتي دون أسباب، وقد يكون مدفوعاً إليه المُقر بها نتيجة رغبة عميقة في القول، وألَّا يظل الإنسان صامتاً، لأنَّ الصمت معناه قطع لسان الحقيقىة. مع أنَّ الصمت في المجتمعات لون من الكلام، حتى ولو لم ينطقُ ببنت شفةٍ. إننا مطالبون بالسؤال عن السكوت المتكلم بالتبعية قبل أنْ نتكلم بالفعل. ولذلك تُسمى الحقيقة المنفية وسط الصمت بـ(المسكوت عنه)، إنها شكل من أشكال الانتماء إلى ما يجب أنْ يتكلم يوماً ما. بينما الإقرار نوع من الدمغ لهذا المسكوت عنه حتى يعرفه الجميع، أي فكْ شفراته ومعرفة ابجدياته الأساسية، تحرير ساحته من اغتصاب لسانه الفصيح كي يعبر.

الإقرار اعتراف قد وصل لتوّه بلغة الحقيقة، لكننا أدركنا أنَّ الآوان قد مضى ولا يصح التراجع عنه. فغدا الموقفُ إقراراً ممهوراً بما حدث، سواء أكان ذكريات أو أحداثاً معينة أم أفعالاً وقعت ويجب الكشف عنها. لقد واجهت حركات الثوار مع تحرير الأوطان في بداية القرن العشرين تلك المعضلة المزدوجة. متى يتم كشف الحقائق التي ارتكبتها دول الغرب في البلاد التي استعمرتها؟ وكيف يتم إقرار المستعمر بها؟ وبأية وسيلةٍ يكون المجتمع الدولي على إطلاع حقيقي بها؟! بل اتضح من الأسئلة الماضية: أنها معضلة ثلاثية الأبعاد، نظراً للأطراف الثلاثة الفاعلين في الوقت نفسه على تراب الدول والآخر والكون جنباً إلى جنب.

ألم أقل منذ قليل أنَّ الإقرار عمل تحت ضغطٍ من متغيرات عدة؟ بالقطع هذا ما يبدو عليه الأمر. إنه عمل مُوزع على تلك الدوائر الثلاث، ففي البلاد التي شهدت تطهيراً عرقياً مثل بعض البلاد الأفريقية(روندا – حالة الهوتو والتوتسي) حيث الحرب الأهلية التي شهدت قتالاً دموياً شرّد آلاف البشر وذُبح وقُطّع أمثالهم، وبعض البلاد الأسيوية(بورما– حالة البوذيين والمسلمين) التي شهدت بالأمس القريب أحداثاً دموية للاجهاز على الأقلية المسلمة. وفي الحالين يمثل اقرار الحقائق بُعداً ضرورياً لمعالجة المشكلات ومعرفة جذور الصراعات القاتلة في نسيج المجتمع الواحد.

كان الإقرار وما زال مهماً بدرجة توازي قدرتنا على الحياة، هو قدرة إيصال رسالة قوية بأن ما يحدث يمثل جرائم حرب ضد الإنسانية. وأن الاقرار يشير إلى ترجيح احتمال الاحداث لصالح من وقع في حقهم الأثر الأسوأ، وليس يجدي الإخفاء، لأنَّه إذا كان البعضُ ينتظر إخفاء (الحقائق) لأجل مصلحة طرفٍ معين، فالجميع سيتضرر ما لم تكن الحقيقة واضحةً. والإقرار إشارة إلى الكل لا البعض. أي إقرار يحمل المسألة إلى من يعنيّه الأمر ومن لا يعنيه أيضاً، هو مثل دلالة القانون الذي يؤثر في المجتمعات بقوته الناعمة (قوة ردع) لا عقاب فقط.

إقرار الحقائق أمر يُعطي لصاحب الحق فرصة أنْ ينال ما كان يبحث عنه ورد اعتبار وجودي لقضايا موضوعية كادت أنْ تفقد حياتها. وهو إعطاء حق كان ضائعاً بمنطق التناقض السلطوي. يقول طالما كون الحقيقة مُضرةً لو تم كشفها، فلن يكن هناك إقرار بها لتحقيق المصلحة. وتبلغ درجة الإقرار مرتبة حقوقية في القوانين الإنسانية العامة وفي ترسانة القوانين الدولية والقوانين المحلية لكل مجتمع. عندما أقرت بعض دول الاستعمال بجرائم تم ارتكابها أثناء فترة الاستعمار كان هذا رداً لاعتبار الشعوب، وهو إقرار بعدالة القضايا التي يدافعون عنها.

والأهم أنَّ تعتبر الشعوب مدافعةً عن حقوقها المسلُّوبة، وليست طرفاً فوضوياً ولا معتدياً على آخرين. فنحن عندما ندافع عن الحقائق، بل جينما ندخل حروباً كشفاً لها، فهذا عمل يستحق الاقرار. أي أنْ يقرر المجتمع الدولي مثلاً هؤلاء المدافعيتن عن الحقيقة التي تخصهم يقفون في دائرة النضال وليسوا إرهابيين ولا معتدين.

حُكم

لا توجد حقيقة من غير إشارة إلى جانب الحُكم بصدد حالتها، لأن ترجيح الإحتمالات والكشف عنها تباعاً بمثابة حكمٍ ينتظر الاعلان. وبالتأكيد طالما سيعرف المتابعون ملابسات الحقائق العامة تحديداً، فمن شأنهم البحث عن الأسباب والدوافع والتأثيرات.. وتلك أشياء تدل على أطراف معينةٍ وأحداث محددة.

ثمة فارق بين الإتهام والحكم بصدد الحقائق. ليست الأخيرة معنيةً في ذاتها بالاتهام، لأنَّ هذا اللفظ لفظ قانوني بكل ما تحمله الكلمةُ من معانٍ، أما الحُكم، فهو حكم تاريخي وإنساني بالمقام الأول. أنْ تكشف الحقائق فحواه أنك أصدرت حكماً تاريخياً، إنك تقول للتاريخ عليك أنْ تلتفت بقوة إلى ما جرى، أي عليك أن تسجل الأحداث، وأنْ تحتفظ بالأسرار التي ستقال للأجيال القادمة. فالحكم هو: شهادة تقرر ما حدث، شهادة يقين وشهادة توثيق وشهادة عدالة معرفة وأداء واجب النفاذ.

وهي معطيات الحقيقة على الأصالة بصرف النظر عن الإتهام من عدمه. ولن يختلف إنسان- في الظروف العادية لكلمة إنسان – حول معرفة الحق. وهذا هو رأس الأمر عندما تكون هناك ملابسات حول حقيقة صادمة مثل الجرائم أو التحولات السياسية، فالإنسان سيهتمُ بقول الحقيقة من أجل الحق لا غير أو هكذا ينبغي أنْ يكون. لدينا نحن الكائنات البشرية تلك الخاصية التي تجعل الإنسان يهب بعضاً من ذاته لقول الحق دون انتظار النتائج. وبطبيعهة الحال ليست خاصية (الاهتمام بكشف الحقيقة) متوفرةً لدى كل الناس، لكنها موجودة لدى البعض على الأصالة.

إنَّ الحقيقة برمتها تهب نفسها إنسانياً لقول الحق، حتى وما لم يتم الإعتراف بها. فما يُقال عنها كحقيقة يدخل من باب الإقرار طالما وجدت القوى التي تعطيها المساحة. والحُكم بمثاية القرار الافتراضي الذي يكمل وجودها. ولا يشترط أنْ يكون حكماً قانونياً، فالقوانين- سواء أكانت دولية أم محلية - تقبل ذلك، لكن الطريق مختلف إلى حد ما.

الأهم أنْ يكون هناك من يستطيع الحكم بمنطق التاريخ والثقافة، أي من يضع الحقائق في دائرة الشفافية، لأنَّ الإنسانية تستطيع أنْ تخطو هذه الخطوات وبإمكانها أنْ تلخص تاريخها الفعلي فيما هو متاح لكل الناس دون التعمية والحجب. في حالة الاحتلال الأمريكي للعراق على خلفية اتهام نظام صدام بحيازة أسلحة الدمار الشامل، وأنه في طريقة لتصنيع قنابل نووية، جاءت أصوات من داخل الولايات المتحدة الأمريكية لتعري النظام الأمريكي (نظام جورج بوش الابن)، أبرز هذه الأصوات صوت المفكر المعاصر نعوم تشومسكي الذي اتهم أمريكا بصناعة الإرهاب وعدّها مسئولة عن تدمير الدولة العراقية وليس ملاحقة الارهاب.

ولم يصمت تشومسكي عن تعرية أصابع أمريكا في نهب الثروات، وصناعة دوائر سياسية قذرة في مناطق الشرق الأوسط لتدمير اقتصادها وكيانها السياسي. وذهب تشومسكي إلى أبعد من ذلك معتبراً أنَّ أمريكا لا يعنيها حقوق الإنسان ولا فكرة الحرية والديمقراطية التي تلصقها بأي هدف تريد اقتناصه، ولكنها تعمل ضد هذه الإفكار الإنسانية، فهل نترك الحقائق بلا تعرية؟، هل يغيب حُكم يمكنه الإشارة إلى ما حصل؟

هذا الصوت وغيره من الأصوات الحرة كان صوتاً مُعبراً، ليس صوتاً صائحاً في البرية الفارغةٍ. هناك تيار عالمي ضد الخداع باسم السياسة من قبل القوى الدولية أيا كانت مصادرها. وليس هذا فقط، بل ويظل مهموم بكشف الحقائق، لا من أجل عودة عقارب الزمن إلى الوراء، لكنه يناضل لوضع الإنسانية على طريقها الصحيح. وهذا التيار أغلب رموزه لا ينتمون حتى إلى المناطق والبلدان التي يطالبون فيها بكشف أحداث الحروب وتفكيك الخدع السياسية التي تعصف بقوانين الهيئات الدولية لتنفيذ مآربها. وهذا التيار مكون من مفكرين وسياسيي وفلاسفة وكتاب وأدباء ونقاد كبار وممثلين لمنظمات ومؤسسات دولية. وجميعهم معنيون بتعرية الحقائق وعرضها أمام الرأي العام العالمي وقت الأزمات.

إنَّ الشعوب المنكوبة بالاستبداد يجب أن تعرف وعياً مغايراً بالحقائق، وهو ما يطرحة معنى الحكم في هذه الحالات، ليس يجدي أن تظل الحقائق غائبة، وفوق ذلك لا تدرك الشعوب قولاً فاصلاً فيها. وما لم يتوافر الوعي المغاير، ستضيع القضايا المصرية وتصبح فكرة المجتمع نفسه مهددة بالتفكك. لأن الحقائق رغم حجبها في بعض الأحيان إلا أنها توجد كخلفية لتقوية المجتمعات، فهي مصدر معرفة التاريخ وهي مصدر تماسك الجماعة البشرية، وهي المختبر الذي يتعلم فيه الناس من تجارب الحياة.

كما أن الحقائق تشكل محكمة التاريخ السرية التي تصدر إحكامها وتعطي الشعوب دروسا مجانية– وأحياناً قاسية- في الدفاع عن الحقوق. ولذلك فإن الشعوب التي تستنيم إلى غياب الحقائق، ولا تستطيع رؤية الأحداث والظواهر واضحةً لن تستفيق حضارياً، وسيُعلق التاريخ أحداثه كجرس إنذار في رقبتها طوال الزمن، حتى إذا تحركت ألتفت إليها العالم من باب السخرية ليس أكثر، لأنها شعوب لا ترى في وضح النهار.

***

د. سامي عبد العال

أولاً: المثاليّة الأفلاطونيّة

ظلت المثل تشكل المنطلق المعرفي والسلوكي للكثير من الفلاسفة والكتاب والأدباء والفنانين الذين اعتقدوا بأن المعرفة تكمن خارج العالم الحسي أو الإدراكي. أي هي معرفة تأتي أو تتشكل من داخل عقل الإنسان وتأمله أو حدسيته، أو من عالم آخر مفارق لواقعه. هذا ويُعتبر أفلاطون مؤسس نظريّة المثل، حيث يذهب إلى أن الفكر المجرد عن الواقع هو الحقيقة الكبرى في الوجود، التي لو أسقطناها من الاعتبار، فإن الواقع كله سيسقط، وهو يُفَصِلْ ذلك في نظريّة المثل التي تعني عنده التالي:

إن المثل عنده غير مقيّدة بالزمان أو المكان، وهي بالتالي غير مخلوقة، وليس للواقع أي دور في إنتاجها أو التأثير فيها، وهي جوهر الخير والحق المطلقان، والفيلسوف بعد أن يرى حقائق الأشياء كما هي في عالم المثل، عليه بعد ذلك أن يعود إلى الكهف، أي إلى واقع الحياة وعلاقات الناس الاجتماعيّة كي يمارس هذه المثل. (1).

إذن، إن القاعدة التي يفسر بها أفلاطون الأشياء، أو الأحداث الاجتماعيّة، هي قاعدة تكمن خارج الكهف، (أي خارج الوجود الاجتماعي). وإن الإنسان وحده القادر أن يطل على عالم المثل ويدرك حقائق الأشياء، وهو وحده الذي يختص بفن إدارة وسن القوانين التي تضبط عالم الكهف. أو بتعبير آخر إن نظرية المُثُل نظرية تعني بأن عالم ما قبل العالم الحسي أو المادي، يكون فيه الإنسان على علم بجميع العلوم والخفايا بشكل مسبق، وعند ذهابه إلى العالم الحسي (أي عالم الكهف) يكون قد نسي كل هذه العلوم، وما عليه إلا أن يتذكرها في هذا العالم الحسي، ويعيد تجسيدها في الواقع المعيوش.

هذا ويعود أصل (فكرة المثل) أو نظريّة المثل إلى عمليّة التمييز بين الحقيقة المجردة (المثل) والمظاهر أو الأشياء الظاهرة، ويعتقد أفلاطون أن العالم الذي نلمسه من خلال الحواس، ونختبره من خلال التجربة، هو عالم غير حقيقي، بل هو عالم مشابه أو مستنسخ من العالم الحقيقي المجرد (المثل) بصورة غير كاملة إلى حد ما. وحسب رأيه: (ففي هذا العالم تتغير الأشياء أي الظواهر، فهي تأتي وتذهب، لذلك هو عالم الاخطاء الكثيرة. لكنه يرى أن هناك عالماً حقيقيّاً توجد فيه كل الاشياء الحقيقيّة التي تتصف بالكمال ولها مثيلاتها المشابهة لها إلى حد ما، أو المستنسخة منها في عالمنا المحسوس. وسمى افلاطون هذا العالم عالم الحقيقية أو الصحيح. هذا العالم الذي يعتقد أفلاطون بأنه مستقل عن كل شيء، وغير مـتأثر بالتغيرات التي تحصل للعالم الذي نختبره عن طريق الحواس.(2).

إذاً وبتعبير أخر: إن الفلسفة الأفلاطونيّة في المحصلة، تجعل عالمنا التجريبي والمحسوس تابعا لعالم الأفكار أو المثل، ففيما وراء العالم المحسوس والمتغير والخاضع للصيرورة والسيرورة، هناك وجود لحقائق ثابتة، وهي موضوعات الفكر الخالص، بل هي نماذج الأشياء ذاتها، إنها الأفكار أو المثل. وتتميز هذه المثل (الماهيات) بكونها غير مدركة، رغم كونها أكثر واقعيّة من الموضوعات الحسيّة، وهي التي تؤسس معقوليتها وتعطيها مشروعيّتها. وعلى هذا الأساس، هو يشير إلى وجود ثنائيّة جوهريّة في فلسفته، وهي ثنائية الدال والمدلول. والمقصود بالدال هنا هو هذا العالم المادي المحسوس، والمدلول هو العالم المثالي المتعالي المحتجب عن الرؤية، وبسبب هذا الحجب (فإن الفلسفة الأفلاطونيّة تحتقر الحواس إلى حد كبير كوسيلة للمعرفة، وتقول إن الإنسان يمكن أن يصل إلى المعرفة من خلال تجاوز الحواس والمادة، بالرجوع للعقل والتأمل أولاً، بالإضافة للحواس، وأنه إذا تم الوصول للمعرفة، فإنه يمكن أن تكون متداولة بين البشر من خلال اللغة.). (3).

العالم المادي:

يقول افلاطون: إن عالم المادة يحكمه قانون آخر في الكون، هذا العالم الذي ليس فيه أي شيء من عالم الكمال أو المثل الذي تكلمنا عنه الآن. أي أنه عالم المادة الأوليّة الذي صورت فيه أو بصمت عليه أفكار عالم المثل. فهو يقول: (لنفكر في عمل النحات، ولنفرض أن لديه فكرة في صنع تمثال معين من مادة الرخام، لنقل الآن إن الفكرة هي (صورة التمثال) وهي مستقلة عن كل أنواع الرخام أو المادة الأوليّة الموجود في الكون، لكن بالنسبة للرخام (أي المادة الأوليّة) هناك حالة ضروريّة (قانون طبيعي حسب رأي افلاطون) تتطلب إيجادها من أجل أن تكون مدركة أو معروفة للأخرين عن طريق الحواس. لذلك أخذ النحات قطعة من الرخام ونحت عليها صورة التمثال الذي يرغبها. وبالتالي، فالرخام كمادة أوليّة انطبعت عليها فكرة التمثال، وبدون فكرة النحات لم يكن هناك أي احتمال ان يُكون الرخام هذا التمثال بذاته، لكن النحات يستطيع عمل عدة أنواع من التماثيل من نفس الفكرة دون أن تتأثر بها الفكرة الاصليّة، أي فكرة التمثال. (4)

إن عالمنا إذن ليس عالماً حقيقياً، لكنه عالم مبصومة أو مطبوعة عليها فكرة الحقيقة. لذلك يقول افلاطون: (إن معرفتنا عن الحقيقة هي كمعرفة الجالسين في الكهف أمام النار ويرون ظلال أشخاص يمرون من خلفهم على جدار الكهف، لذلك العالم المادي هو غير كامل، بل هو عالم الاخطاء، عالم النقص. ولا يعود نقصه إلى عالم المثل أو الحقيقي.). (5).

نقد نظريّة المثل الأفلاطونيّة:

ثانياً: منهج أرسطو ونظريّة الجوهر:

لقد خالف أرسطو أفلاطون في نظريّة المثل، باعتبار أن فكرة المثل المطلقة هذه، فكرة تلتف بالغموض والابهام، وهي ذات صفات غير محددة، وبالتالي، لا تصلح أن تكون مرتكزاً أصوليّاً يفسر ظاهرات الحياة ويعطيها معنى واتجاها، لأنه كيف تتم عمليّة تفسير الحياة بإرجاعها إلى قوة لا مواصفات لها وتحتاج هي نفسها للتفسير.

لقد رفض أرسطو فكرة المثل، واستعان عنها بفكرة الجوهر، فبدلاً من القول بأن الحقائق المطلقة الاشياء توجد في عالم المثل، ينبغي أن يقال إن كل شيء (ظاهرة) جوهر، وأن حقيقة الشيء تكمن في جوهره، بدلاً من القول بأن العالم يحكم من خارج الكهف الاجتماعي ويرى في عالم المثل، وينبغي أن يقال إن الفرد والمجتمع والدولة كلها كيانات تسعى لتحقيق وجودها. وإن القانون الذي يسنه الحاكم ويطبقه في المجتمع، ليس قانونا يهبط من عالم المثل، إنما هو قانون يكتشف ويؤخذ من واقع العالم الاجتماعي. (6).

ثالثاً: الديانات وعالم المثل (الفضيلة):

اعتبرت نظريّة المثل (الفضيلة) في الدين برأيي نتاج سلطة عليا مقدسة، وبالتالي تحولت المثل في شريعة هذه الديانات إلى نصوص مقدسة يحويها معبد ويحرسها رجال دين، وفي الأغلب رجال سياسة. وهي صالحة برأي حملتها لكل زمان ومكان، وما على الناس إلا الالتزام بنصوص الدين والسعي لتطبيقها في الواقع، وأي خروج عنها هو خروج عن عالم المقدس، أي عالم المثل. أي بدعة وضلالة.

نقد نظريات المثل – النظرية العلميّة في المعرفة:

يرى أصحاب أو دعاة هذه النظريّة وأنا واحد منهم، أن هناك قوانين كامنة في الطبيعة وفي عالم الروابط الاجتماعيّة، وهي قوانين ثابتة ومستقلة عن وعي وإرادة الإنسان لا تتغير في الزمان والمكان، إلا أنها تقر بحركة وتطور وتبدل الظواهر، وأن هناك علاقة جدليّة ما بين أشكالها ومضامينها، وداخلها وخارجها، ومكونات أجزائها، يكتشفها الإنسان من خلال استخدام عقله وحواسه وتجربته، وبالتالي استخلاص الكثير من المعارف العلميّة من خلالها  أيضاً،  ثم يقوم بتوظيفها لمصلحته. ومن خلال معرفته لهذه القوانين الموضوعيّة وآليّة عملها، يكتشف الإنسان أسباب استغلاله وظلمه وجهله وتشيئه واستلابه وتغريبه، مثلما يكتشف سر حريته وعدالته، ومساواته اجتماعيّاً، وحق الحياة، والمساواة أمام القانون، وحق الملكيّة، والأمن والاستقرار، ومقاومة الظلم... الخ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- للاستزادة في معرفة نظرية المثل عند أفلاطون العودة إلى موقع: (المرسال - نظرية المثل عند أفلاطون - دينا محمود).

2- (لمعرفة الركيزة الأساسية لنظرية المثل عند أفلاطون – راجع: (موقع ريندات 2023 نظرية المثل عند أفلاطون: مفهومها والركيزة الأساسية فيها).

3- موقع وكيبيديا.

4- موقع ويكيبيديا.

5- موقع وكيبيديا.

6- أنظر إلى تعريف سقراط للجوهر:(موقع المعرفة – مفهوم الجوهر)، وكذلك نقد نظرية المثل الفلاطونية من قبل سقراط – (موقع المرسال - نظرية المثل عند أفلاطون - دينا محمود).

كتب: دومنيك فنكيلدي و تود مككوان

Dominik Finkelde and Todd McGowan

ترجمة: علي حمدان

***

لسنوات عديدة الان، كانت الاحكام عن الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك كما هي عن جيجك نفسه متطرفة. الناقدون يتهمونه بالدجل، من جهة، بينما الاخرون، يشيدون بعبقريته، ولاسيما كمفكر عام. مما يجعل من الصعوبة بمكان تقديم تقييم نقدي مناسب لمساهمته في الفكر. علاوة على ذلك، يرى بعض قرائه ان نتيجة تفكير جيجك التأملي معقدة للغاية، بالنسبة للبعض فان حجج جيجك تتسم بالاستنتاجات التخمينية، وبالتالي تفتقر الى صرامة الحجج الاستنتاجية ولاستدلال المعقول. وهذا الحكم ينطلق عادة من أولئك الذي يتبعون المذهب التحليلي في الفلسفة. يعتبرون جيجك تجسيدا "بالجانب المظلم" من الفلسفة القارية والتي تم ادانتها منذ عهد ردولف كارناب (Rudolf Carnap) ورفضة الشهير لأسلوب مارتن هيدغر في الكتابة الفلسفية. وبناء على هذا النهج الفكري، جيجك، قد يصوغ فرضية يطلق بها نقاشا فكريا، ولكن نظرا لان اصلها ناتج عن قواعد نحوية زائفة او أفكار غير واضحة، لا يمكن الوصول الى الصواب او الخطأ حسب اقتباس Gottlob Frege، فلهذا الناقد، تضل الفلسفة من هذا النوع لا معنى لها.

ولكن وراء هذين الموقفين المتطرفين المذكورين أعلاه من التبجيل والازدراء، هناك جيجك ثالث. هذا الفيلسوف الذي اثار اكثر من غيره من أبناء جيله، نقاشات فلسفية تمتد الى ابعد من حدود الفلسفة، بل الى جميع تخصصات العلوم الإنسانية. قام بذلك من خلال إعادة تفسيره المادي الراديكالي لمفاهيم المثالية الألمانية، وخاصة ارث هيجل، ومن خلال نقد الايديولوجية الماركسية وفلسفة التحليل النفسي كما طورهما كلا من فرويد ولاكان (Lacan). بهذه الخلفية النظرية، لقد اصدر اكثر من خمسين كتابا تركز على الأسئلة الكلاسيكية عن الوجود، الابستمولوجيا، فلسفة الذات، والنظرية الثقافية.

المنظر العاطل

سلافوي جيجك اقتحم المشهد النظري العالمي بكتابه الأول باللغة الإنكليزية، موضوع الايدلوجيا المتسامي The Sublime Object of Ideology، في عام 1989. لقد كان الكتاب مخالفا لروح العصر وذلك عوضا عن يأخذ موقفا نقديا من شخصيات مركزية في الفكر الفلسفي الغربي، جيجك وبكل شفافية تبناهم لجذريتهم. بينما مفكرون كثيودور ادرنو، ميشال فوكو، جيل دولوز، وجاك دريدا هؤلاء دائما كانوا يقوضون او يفككون هيمنة الفلسفة الغربية من رينيه ديكارت حتى هيجل، فان  كتاب موضوع الايدلوجيا المتسامي والعديد من كتبه التي أصدرها فيما بعد، اتخذت من ديكارت، كانت، وهيجل كمنظرين مهمين والذي من الممكن ان يقدموا مساهمة مهمة للوضع المعاصر. لم يكن هؤلاء المفكرون، بالنسبة لجيجك هدفا للتفكيك او وضع نصوصهم  في سياقاتها التاريخية، لكنهم كانوا منظرين حيويين يمكنهم المساهمة والقاء الضوء على الطريق المسدود للفكر السائد حاليا. وعوضا عن اعتبارهم سادة تخطاهم الزمن، جيجك استوعبهم كمفكرين ذو راديكالية غير مكتشفة، راديكالية تتحدي ليس راديكالية ماركس فحسب، وانما تتحدى راديكالية حركة اليسار الجديد.

ولد جيجك في لوبليانا، سلوفينيا في عام 1949، وترعرع في يوغسلافيا الاشتراكية في ظل قيادة تيتو. كمفكر شاب في يوغسلافيا، تأثر بفكر مارتن هيدغر وجاك دريدا، هذا التأثير جعله يبتعد عن خط الحزب الحاكم. كتب كتابه الأول "ألم الاختلاف" The Pain of Difference بالسلوفينية، وكان عمره آنذاك اثنان وعشرون عاما، والكتاب يعكس تأثره بالمفكرين المذكورين. كتب رسالته لنيل الدكتوراه حول هيدغر، ولكن في منتصف السبعينات، جيجك تحول الى الاهتمام بفكر لاكان، والتي كانت خطوة حاسمة في مساره الفكري. تبني جيجك للفكر الفرنسي كلفته فرصة تبوؤه لمنصب في يوغسلافيا. منذ 1973  حتى 1977 كان عاطلا عن العمل مع درجة الدكتوراه. لقد اعتقدوا انه ليس ماركسيا كفاية ليكون مدرسا جامعيا. تخوف النظام من جيجك ان يفسد شباب الجامعة بأفكاره. وأخيرا تحصل على وظيفة كباحث في معهد البحوث الاجتماعية في جامعة لوبليانا في عام 1979. لقد اعتقدوا انه خطرا ليكون مدرسا للطلبة، ولكن في المعهد لا يمكنه التأثير على الطلبة. هذا الوضع أتاح له المزيد من الحرية للعمل والتفكير. غالبا ما يقول ان هذا العقاب سمح له بالتطور كفيلسوف عالمي. لو سمح له بالتدريس لظل بروفسورا مغمورا في سلوفينيا.

في بداية 1980، جيجك سافر الى فرنسا ليحضر لدكتوراه ثانية في التحليل النفسي. هناك درس لدى زوج ابنة جاك لاكان، جاك الان ميلر. هو يدعي انه كذب على ميلر خلال جلسات التحليل، واخترع اعراض واحلام مزورة.  وادعى أيضا بانه يكره ممارسة التحليل النفسي، مفضلا التنظير من التحقق من اعراضه او عصابه. لقد الف جيجك خلال تلك الفترة كتب عن سلوفينيا، وفرنسا، وألمانيا، ولكن كتاب" موضوع الايدلوجيا المتسامي"، هو الذي غير على الفور المشهد الثقافي في العالم الناطق بالإنكليزية. وفي الحال اصبح كل من هيجل ولاكان نقاط مرجعية مهمة في مجال التنظير العالمي، والفضل يعود الى جيجك.

منذ ,1989 اصدر جيجك  في المتوسط كتابا واحدا في السنة باللغة الإنكليزية، كما انه يحاضر في الغالب في معظم انحاء العالم، كما اصبح الفيلسوف الأكثر شهرة منذ وفاة دريدا في عام 2004. في عام 1990، رشح نفسه لرئاسة  جمهورية سلوفينيا الحديثة وحصل على المركز الخامس. ورغم انه تخلى عن الانغماس الشخصي في السياسة، الا انه ضل مفكرا سياسيا ملتزما. يدلي بتصريحات عامة حول الاحداث السياسية الهامة ويتحدث عن الحركات السياسية والاحتجاجية مثل حركة احتلال سوق المال في نيويورك في عام 2012. تظهر مداخلاته السياسية المختلفة على مواقع ومصادر إخبارية يسارية مختلفة.

جيجك يجمع بين الفلسفة والثقافة الجماهيرية، وهو مزيج يفسر الى حد كبير انتشاره وتأثيره الجماهيري. كتابه الثاني  بالإنكليزية "يبدو منحرفا: مقدمة لجاك لاكان من خلال الثقافة الجماهيرية" (Looking Awry: An Introduction to Jacques Lacan through Popular Culture) 1991، تم تحويله الي فلم. اهم اعماله هو التعايش مع السلب: كانت، هيجل، ونقد الايديولوجيا ( 1993)، اقل من لا شيء: هيجل والمادية التاريخية ( 2012)، كتاب من 1000 صفحة ويعتبر إصداره الأهم، حيث يتناول تداخل العلاقة بين هيجل ولاكان. شعبية جيجك قادت الى اصدار فيلم وثائقي عنه بعنوان جيجك (2005). كما انه انتج فيلمين وثائقيين تم اخراجهما من قبل سوفي فينيس، احدهما دليل المنحرف في السينما" (2006 ) و"دليل المنحرف للايدلوجيا" (2012). يظهر في العديد  من البودكاست وعدد لا محدود من المقابلات في اليوتيوب.

العلاقة الثلاثية: لاكان، هيجل، ماركس

كمفكر، جيجك يحاول الجمع بين ثلاثة اتجاهات فكرية: لاكان، هيجل، وماركس. ربما تكون محاولة اكتشاف سياسة  التحليل النفسي هو البعد الأساسي في مشروعه، لكنه في نفس الوقت لا يريد ابدا ان يفقد الميزة النقدية التي يوفرها التحليل النفسي عند التركيز على مشروع سياسي. لاكان يمنح جيجك طريقة في التفكير حول بنية الذات والمجتمع وحول العلاقة بين الذات والمجتمع. على عكس المفكرين الاخرين في عصره، جيجك مدافع شرس لفكرة الذاتية. هو يرفض تفكيك الذات، ويجادل ان الذات هي نقطة الانطلاق لدى لاكان.

جيجك يعيد لاكان الي مكانة بارزة في النظرية الثقافية، غالبا المنظرين، وبالذات المنظرين الاميركيين بكل سهولة يضعون في سلة واحدة لاكان مع فوكو، دريدا، ودولوز على أساس انهم ممثلين لتيار ما بعد البنيوية (مصطلح لم يستخدمه أي من هؤلاء المفكرين). ولكن جيجك اظهر كيف يختلف لاكان بشكل جذري عن المنظرين الفرنسين الاخرين من خلال إصراره على الاحتفاظ بان الذات هي نقطة الانطلاق. كان فصل لاكان عن هذا الكيان الوهمي المعروف باسم ما بعد البنيوية احد إنجازات جيجك الرئيسية. هو يفعل ذلك من خلال التأكيد على مفهوم لاكان للحقيقي على حساب مفهوم الرمزي والخيالي مفهوميه الاخران. الواقع او الحقيقي، لجيجك هو مصدر المتعة ( Jouissance). المتعة تقرر كيف تتصرف الذات. يرى جيجك ان كل بنية رمزية تتعثر بالحقيقي، ولكن هذا الحقيقي هو كامن في الرمزية ولا يوجد خارجها. لا يوجد ما وراء او في الخارج، وفقط من خلال تخلينا عن التفكير فيما هو خارجي يمكننا التوصل الى الحقيقي. الحقيقي هو مجرد تشوية داخل البنية الرمزية و هذا على غرار" عمل الاحلام" الوارد في فكر فرويد. حقيقة الحلم ليست الظاهر ولا المحتوى الكامن. انها تشويه المحتوى الكامن في المحتوى الظاهر الذي يحدث عندما تحلم الذات. يصبح هذا التشويه مرئيا، كما يعتقد جيجك في الاعمال الفنية، وفي النكات، او في العرض المفرط. لهذا يركز جيجك باهتمام شديد على تأويل الاعمال الفنية او في رواية النكات، او في العرض المفرط ( The performance of excess).

هيجل يمنح جيجك طريقة في التفكير بالعودة الى الذات. يتطلب فكر هيجل الديالكتيكي ادراج موقف  الذات في نهايته. انها دائما ما تدرج ذاتها فيما تبحث عنه. فلسفة هيجل في التعاطي مع السلب ليس فقط تضيف الى فكر جيجك فحسب، بل زودته بعنوان لكتابه الخامس باللغة الإنكليزية. هيجل هو مفكر السلب، يري ان التناقض ليس متواجدا فقط في تفكيرنا بل متواجد في الوجود ذاته. السلب ينعش الوجود ويجعل من التفكير امرا ممكنا. ان فكرة هيجل عن المعرفة المطلقة ليست حلا كاملا للسلب بل هي اعتراف باننا لن نتغلب على السلب ابدا. يحاول جيجك دمج هذا الاعتراف في فكرته حول النضال السياسي. المطلق ليس حيث النقطة التي كل جزء يكون في محله بل حيث يكون الكل قد تم قسمته على نفسه، حيث ان ثمة ثغرة تكون واضحة ضمن الكلي. الحرية بالنسبة لجيجك ليس تحقيق الانسجام، ولكن في تضمين اضطراب الانسجام في مشروعنا  السياسي.

في تحليله يتبع جيجك هيجل وذلك بإظهار الطبيعة الديالكتيكية لواقعنا الأجتماعي. انه يؤكد كيف ان الخصوم الظاهرين مرتبطون بالفعل ببعضهم البعض دون علمهم بذلك. احد الأمثلة المفضلة لديه هو الارتباط بين الراديكالية الصهيونية والمعادين المتحمسين للسامية. كلاهما يتبع نفس منطق الرغبة في عزل اليهود، حتى ريناهارد هيدريش والذي قرر ما يسمى (بالحل النهائي ، أي الإبادة الجماعية لليهود في الحرب العالمية الثانية) كان في البداية صهيونيا. اليوم لدينا شخصيات صهيونية معادية للسامية الذي يجسدون هذه العلاقة الديالكتيكية. هذه الشخصيات محسوبة غالبا على الأصولية المسيحية، تؤيد إسرائيل بشراسة والتي تعتبرها متراسا ضد الإسلام وفي نفس الوقت تهاجم تزايد عدد اليهود في أوروبا. يوضح هذا  المثال بصورة جلية بالنسبة لجيجك ان معاداة السامية ليس بالظاهرة المباشرة وانما يمكن فهمها من  خلال هيكلها المتناقض. هذا هو جوهر تحليله الديالكتيكي. ورغم ان جيجك معروف اكثر بانه من مناصري التحليل النفسي اللاكاني، الا ان هيجل هو النقطة المحورية في تفكيره. دعوته المستمرة بالنقد الهيجلي لماركس يمثل اهم مداخلة سياسية له. في مقابلة له عام 2003  بعنوان " التحرير يؤلم،" يدعى:

ما يثير اهتمامي حقا هو الفلسفة، وبالنسبة لي، فان التحليل النفسي هو في النهاية أداة لإعادة التفاعل، مما سيجعل من المثالية الالمانية واقعية الان، وهنا مع كل مغازلاتي للماركسية ، انا مغرور للغاية. اعتقد لا يمكنك فهم "راس المال " لماركس، ونقده للاقتصاد السياسي، دون معرفة مفصلة لمقولات هيجل. ولكن في النهاية اذا علي ان اختار مفكرا معينا سيكون هيجل. هو سيكون اختياري. وانا هنا ساذج تماما وبلا خجل. قد يكون ابيض، ميت، رجل ومهما يكن الموقف الخطأ اليوم، ولكن هذا هو موقفي.

اعجاب جيجك وتفانيه لهيجل ينبع من قدرة الأخير على استيعاب مركزية سلبية نفي الذات( self negating negativity). هذا السلب الذي يقوض نفسه باستمرار، هي الذات ونشاطها ما اعتبره فرويد لاحقا رغبة الموت(Death Drive )  والتي تكون ربما النقطة المركزية في تفكير جيجك. لدى فرويد رغبة الموت ليست مجرد مفهوم خسارة الحياة البيولوجية. رغبة الموت  تشير الى البعد الخالد لقوة رمزية عظمى مضادة للبيولوجيا. وبعيدا عن مجرد الوجود البشري فهو ينتمي الي البيئة الأساسية للواقع مثل الكم الميتافزيقي. مثل ما يقول جيجك " حياة البشر ليست حياة فقط: البشر مسكونين برغبة للاستمتاع بالحياة بإفراط. هذا الافراط لا يقود الذات فحسب وانما يقود جيجك نفسه.

الموقف النبوي للمهرج

ربما تكون اهم  مساهمة لجيجك في النظرية المعاصرة هي إعادة تقديم نقد الايديولوجيا الى الاجندة النظرية. بعد ان جعل لويس التوسير نقد الاستدعاء الأيديولوجي مركزيا في التحليل الاجتماعي، سرعان ما تعرض نقاد الايدلوجيا لانتقادات من اليساريين الاخريين. مفكرين كمايكل فوكو وجاك دريدا شككوا في مصداقية نقد الايدلوجيا الذي قدمه التوسير من خلال اظهار كيف ان هذا النقد اعتمد على أسس معرفية هشة. هذا يعني ان نقاد الايديولوجيا يفترضون انهم  يستطيعون ان يروا من خلال الخداع الايديولوجي الذي يخدع الجميع. لكن لشخص مثل فوكو، فإن هذا النوع من المعرفة المتخصصة هو بالضبط الذي يعمل كوسيلة للسلطة. وهكذا، فإن ناقدي الأيديولوجيا هم في الواقع يخدمون السلطة بينما كانوا يعتقدون انهم يفضحون الخداع الايديولوجي.

لقد قام جيجك بتحويل نقد الأيديولوجيا وذلك بإبعادها من مجال المعرفة وبالتالي تجنب نقد فوكو. لجيجك، الايديولوجيا لا  تعمل من خلال منحنا معرفة مضللة او انها تقوم بالتلاعب بوعينا ولكن من خلال تعميم متعتنا (Jouissance). نحن في الايديولوجيا ليس لأننا لا نعرف الحقيقة، ولكن لأننا نستمتع بطريقة تدعم السلطة الاجتماعية او فيما يسميه لاكان الاخر الكبير. في The Sublime Object of Ideology، جيجك يقدم تصريحه الاهم عن الايديولوجيا، يقول" ان وظيفة الايديولوجيا ليست ان تقدم لنا نقطة للهروب من واقعنا، ولكن تقدم لنا الواقع الاجتماعي نفسه حيث يهرب البعض من واقع الحقيقة الصادم". الايديولوجيا هي استراحة من صدمة الحقيقة. صدمة الواقع، وهي صدمة الجمود الأساسي او استحالة تحقيق أي توافق. في اغلب الأحيان، تعمل الايديولوجيا من خلال توجهينا الى ما يبدو تجاوزات. وفقا لجيجك، انه الانتهاك المشترك، وليس الطاعة الجماعية، هو ما يجعلنا مختبئين حقا ضمن الايديولوجيا.

على الرغم من ان لا احد اليوم يطيع ويعترف ببساطة انه يطيع. ان ما يدفع الأشخاص الى الخضوع للسلطة الاجتماعية ليس الايديولوجيا العامة نفسها، بل الجانب الباطن من تلك الايديولوجيا او الخيال الايديولوجي. هذا الخيال ينتهك القواعد التي تحكم الفكر العام للأيديولوجيا، ولكن تفعل ذلك بطريقة تدعمها عوضا عن ان تقوضها. يتضح هذا الامر بشكل خاص في الازمات السياسية، كمثال عندما يكون القانون المعياري العام قريبا من الفشل. ثم " يبدا" الجانب الباطن الفاحش من القانون يوحد المجتمع من خلال الانتهاك المشترك للقانون الفاشل. يقول جيجك " القانون العام مضطر للبحث عن دعم من خلال المتع غير المشروعة. لذلك الان المتع غير المشروعة وليس العقل الرسمي هو الذي يضمن العقد الاجتماعي.

ان تركيز جيجك على الجانب الباطن الخيالي الفاحش للأيديولوجيا هو مفتاح نقده للأيديولوجيا. انه ينظر الى الثقافة الشعبية التي تخفي الأوهام والتي تدعم النظام المعاصر، لأن الاحتمال الوحيد لتقويض الايديولوجيا يكمن في كسر قوة هذه الأوهام. احد اقوى هذه الأوهام هذه الأيام بالنسبة لجيجك، هو البوذية الغربية. فالبوذية الغربية توهم الفرد بان علاقات الإنتاج الرأسمالية غير حقيقية. في الواقع، تجعل البوذية الغربية هذا الامر ممكنا من خلال منح مساحة داخلية للفرد من اهوال النظام الرأسمالي. يمكن للمرء ان يتصرف بلا رحمة كرأسمالي اذ اعتقد ان أيا من افعاله القاسية لا تهم فعلا.

ان التركيز على الجانب الباطن من الايديولوجيا يقود جيجك الى تقدير ما يسميه التطابق المفرط مع الايديولوجيا العامة. بدلا من انتهاك الايديولوجية العامة مع التمسك بالجانب السفلي الفاحش لها، يجادل جيجك بان الفعل السياسي ينطوي على العكس- الالتزام بنص القانون الذي يرفض الجانب الباطن الفاحش. ان مهمة المفكر النقدي ليست مقاومة مستمرة. بل تتمثل بدلا من ذلك في رؤية كيف ان الحضارة نفسها قائمة بالفعل على فعل جذري. ان التقليديين بالفعل متعديون ومفرطون، لكن يجب علينا ان نجعل هذا الافراط مرئيا.

المشكلة هي ان الفرد ينكر وجود افراط في النظام الاجتماعي. نعتقد ان الحياة نفسها هي القيمة النهائية وان البقاء يستحق العناء في حد ذاته. لكن فقط ارتباطنا المفرط بطريقتنا في العيش هي التي تجعل من الحياة تستحق العيش. هذا واضح في حالة الحب، التي تخل بسير الحياة الطبيعي وتمنحنا في نفس الوقت سببا للعيش. الحب دائما مفرط ويتطلب التخلي عن المتع الصغيرة التي تجعلنا نعيش حياة طبيعية. في الحب نلمس الاخر بشكل حقيقي وليس نسختنا المتخيلة عن الأخر.

الاستفزازات المستمرة لجيجك تحاول تشجيع الحب بهذا المعنى من المصطلح. سيكون الامر ثوريا لأنه سيواجه الحقيقة المؤلمة وسينظر الى هذه المواجهة كمصدر للرضا الشخصي. ان هذه المواجهة دائما عنيفة، وجيجك أحيانا يبدو رسولا للعنف. ولكن العنف الذي يمتدحه ليس بالضرورة هو عنف جسدي ضد الاخرين. الامر لا يحتاج الى ذلك، حيث يمكن تسمية أي اضراب عام من قبل العمال ستحاول الحكومة الإطاحة به بالعنف الكافي الذي يمكن ان ينتهي باستدعاء الحرس الوطني.

***

.........................

من مقدمة كتاب جيجك يرد!  تحرير دومنيك فنكيلدي وتود مككوان. بلوومزبيري.

ZIZEK RESPONDS! EDITED BY DOMINIK FINKELEDE & TODD McGOWAN, BLOOMSBURY  ACADEMIC, LONDON. NEW YORK. OXFORD. NEW DELHI. SYDNEY.

نقلا عن مجلة الأفق الالكترونية نشر بتاريخ 6/6 2023

نبذة مختصرة

مثلت الفلسفة الالمانية الطليعة الاجدر في تصنيف الخطاب، ويحسب ذلك لكل من هيجل وماركس، فهما قطبا الصيرورة في تمثيل المعطيات الفكرية، واستحداث نمط جديد بخطاب يحمل روح المعاصرة، والتجاوز للقيم المؤثرة في الفلسفة القديمة، ونمط المثالية الحديثة التي قدمها واهتم بها كل من هيجل وكانت على وجه الخصوص، واما ماركس فقد اهتم بخلق فكر اقتصادي جديد، وكان مفهوم الديالكتيك هو جذر الفلسفة الماركسية، وصراحة لا يمكن تفسير التطورات التي مرت بها الفلسفة الالمانية بشكل ارسطي، فهناك مد افلاطوني مضطرب وعميق، ولكن لابد أن نقر بأن الافق النظري قد طغى على الفلسفة الالمانية، ولم تكن بذات القدر الذي تحولت فيه الفلسفة الانجليزية الى فلسفة عملية، ولم يكن هناك في الفلسفة الالمانية بعد محاكاة لنسيج المجتمع، فهي حتى المجتمع الالماني وضعته في بعد افقي تام، فيما هي في العلية وتوخت من العقل الاجتماعي الاهتمام بها، ولم يكن هناك غير افق القومية اهتم به العقل الاجتماعي، ولابد هنا أن نفصل لسانيا ما بين لغة خطاب الفلسفة الالمانية ولغة العقل الاجتماعي، وهذا ما يجعلنا نقر بأن ماركس العملي هو المحتوى الاساس للرأسمالية، وغايتها الاشهارية ايضا .

من اولويات الانصاف الاشارة الى كون الفلسفة الالمانية هي صيرورة الحداثة الفلسفية، ومنها انطلق العالم الفلسفي الحديث، ونحن اضافة لذلك الايمان نقر بوجه المقارنة والتصنيف، فنرى الفلسفة الفرنسية هي افق التجريد الذي تحولت به الفلسفة الفرنسية من خطاب معلوم الى خطاب مجهول، لكن الفلسفة الانجليزية اهتمت في ابتكار خطاب فلسفي معاصر بلامس المحتوى العلمي مباشرة، واشتمل ذلك حتى على الدرس المنهجي، وتلك اهم الميزات العضوية في تلك الفلسفة العملية، وهنا نخلص الى وجود مشتركات معيارية ما بين الفلسفة الالمانية والفلسفة الفرنسية، فيما تقف الفلسفة الانجليزية في الجهة المقابلة بتميز واقعي، وعلى مستوى التفصيل اللساني فنشكل الفلسفة الالمانية جذر لغوي لا يمكن نكرانه من العقل الراجح، وذلك الجذر ميز الخطاب الفلسفي الى حد اصبحت فيه الفلسفة الالمانية ذلك المثال الاعتباري الارجح، والركن الاساس الذي على العقل الانطلاق منه، وتلك الصفات ليست فقط ذلك التمييز المتفرد، ولكن علينا الاعتراف بأن الفلسفة الالمانية ليست ذلك السياق الفلسفي، الذي اعاد صياغة الخطاب الفلسفي القديم وجددها، بل هناك احتمالات عدة ومناطق خطاب في الفلسفة الالمانية، قد تجاوزت الاعراف الفلسفية المتعارفة، واتجهت الى الانفصال النوعي، او القيام بتجريد الخطاب الفلسفي .

لقد اشتملت الفلسفة الالمانية على منعرج لساني، فلم تكون هناك وحدة خطاب الا في الافق القومي، واما على مستوى الفكر فهناك تعدد لرؤى فلسفية، حتى اذا كانت الفكرة ذاتها، والمسار من هيجل الى هيدغر، فليس في سبيل واحد، ولا يمكن ابدا درج خطاب معين من تلك الفلسفة بخطاب اخر من ذات الفلسفة، واللغة المشتركة هي عامل توصيل وليست عامل تأصيل للمشتركات في الخطاب، فالعقل هنا اشبه بمحطات فلسفية كل منها بعلامة تختلف عن العلامات الاخرى، واهم ما يلاحظ في خطاب الفلسفة الالمانية تلك اللسانيات المتعددة الخانات، حيث لا يمكن ابدا على المستوى اللساني أن نشرك خطاب هيجل ونيتشه في خانة واحدة، ولا يشترك جنس لغة الخطاب عند ليبنتز وشوبنهاور، وكذلك لا يمكن جمع كانت وفويرباخ، وكذلك هناك بون واسع بين خطاب ماكس شتيرنر المختلف عن خطاب هيدغر، وفقه اللغة لا يقر ايضا بمشتركات عبر المقارنة بين لغة خطاب فلسفي واخرى، وذلك التحديد اللساني يلزمنا بالتفريق الذي تتبناه الفلسفة الموضوعية، ولا يلزمنا باعتماد التاريخ كوحدة مشتركات، هي تجمع لتلك الخطابات وتوحدها، فذلك في جنس التاريخ وليس في جنس اللغة التي تختلف لسانيا من خطاب الى اخر .

تعتبر الفلسفة الالمانية فلسفة عميقة ومعقدة ايضا، فمن جانب استيعاب التلقي، لقد اعاد صديق لكانت كتابه، وعلل عدم فهمه للكتاب هو السبب في اعادته لكانت. ومن جهة السعة والعمق والتعدد، ايضا هناك تعقيد يتفاوت عند الكشف لها، ومرت الفلسفة الالمانية بتحولات عديدة، فالمنطق الجوهري للعرفان تجسد في الخطابات ذات الحس الايديولوجي للدين، وفي القرن الثامن عشر اعيد صياغة ذلك الحس، بل اتسعت افاق الخطاب وتنوعت مضامينه، حتى بلغت في اكثر مستوياتها اتساعا حالة قصوى من الاحتجاج غير المكشوف بشكل عام، والذي يمكن تصنيف لسانيا بالتحول من جنس لغة فلسفة الى جنس لغة فلسفة اخرى، ومن اكثر العقول توضحت سمات التطرف لديه كاستدلال لساني كان نيتشه، وشكل الخطاب امتيازا رمزيا، وانسحب ذلك على العنونة بوصفها عتبة استدراج للتلقي، فمرة يبدي لك افق العنونة نيتشه كمصلح اخلاقي، وفي صفة اخرى يتخلى عن ذلك، وهناك اقنعة متعددة ابداها الخطاب المتغير من افق رمزي الى اخر، وعلى المستوى اللساني وضحت ثنايا الخطاب تحولات متواصلة في جنس اللغة، فمن لغة رمزية الى اخرى، ومن مضمون الى اخر، وما تخلى نيتشه ابدا عن تلك الاقنعة التي نقر لم يكن مختفيا خلفها، بل هي اكتسبت قيمته الفكرية .

شكلت قيم الخطاب في الفلسفة الالمانية مفترقات عدة، فكل جنس خطاب لا يتمحور تماما في بنية ذلك الخطاب، فالتعدد في السمات الاسلوبية اتاح للتيارات الفكرية عدم التسلسل في افق الزمن، وقد انعدم التحديد الالزامي في خطاب الفلسفة الالمانية بالشكل الذي من الممكن أن يتيح لكل خطاب اتخاذ المسار الملائم للوعي والفكر، وقد اتسمت بذلك التعدد الاحادي القومية التنويعات الفكرية، بعدم التفريط في جنس اللغة الفلسفي، فبالرغم من كون اللغة هي ذات اللغة في مستوى الفلسفة وفي مستوى النسيج الاجتماعي، لكن هناك ميزات متعددة لتلك اللغة في الخطاب الفلسفي. وايضا شكل تحرك الحداثة ذا السرع الزمنية الفائقة من جعل الوعي الفلسفي لا يتجاوز افق المستقبل، وكانت الفلسفة الالمانية المتباينة المستوى الرمزي، والمختلفة التعبير بشكل واضح، فيمكن درج فلاسفة اللاهوت في جانب، وفي جانب فلاسفة المعرفة والعلم في جانب اخر، وفي جانب اخر ندرج تلك الفلسفة الحرة، والتي اتصف بها بشكل واضح نيتشه على وجه الخصوص، وكذلك امتلك جدارة نوعية ماكس شتيرنر في كتابه المتفرد والاوحد في طرحه، بالرغم من سطوة خطاب هيجل بشكل واضح، وكذلك شكلت المثالية الليبرالية عند كانت قيمة فكرية الى الحد، الذي اعطى لكانت مكانة مرموقة تاريخيا .

ثمة علاقة ما بين الفلسفة والنظرية صارت تتبلور تدريجيا وتأخذ المدار الانسب لها، فلقد اندفع القرن الثامن عشر على مستوى الحداثة بسرعة زمنية غير معتادة، وتغيرت الكثير من ايقاعات الخطاب الفلسفي، لكن بقت بعيدة في التحديد اللساني عن افق النظرية، والتي يمكن وصفها كفلسفة ادبية، وبرز خلاف واضح ما بين الفلسفة والنظرية، ولم يختف هذا الخلاف، فقد (ظهور غدد متنام من المناهج النظرية التي هي محل نزاع كبير، وقد تضمنت هذه المناهج على وجه التحديد استنطاقا للأفكار المتعارف عليها حول المعنى والحقيقة)1، وهناك مغالطة في اعتبار افق النظرية هو افق منهجي ويدخل في مدار العلم، وقد ساهمت الحداثة بشكل فاعل في تلك السرعة الزمنية بهذا الجانب، فأطرت النظرية وبالمقابل جعلت الفلسفة الجديدة ليست ذلك المنهج المتعارف في الاجناس الادبية، بل كمعطى علمي رصين، وقد نجخ ذلك التجنيس بنسب معينة، لكن نحن حسب التفصيل اللساني نضع كل في خانة من – الفلسفة – النظرية – العلم – والتفسير الذي تقره الفلسفة الموضوعية، بأن تضع المسألة على عاتق الجنس، فجنس اللغة هو المعيار المعتمد وفقه تحديد لغة عن لغة اخرى .

شكلت التحولات الفلسفية السعي الواضح الى تحديث الخطاب، وقد شهدت الفلسفة الالمانية منذ هيجل الى المغايرة المباشرة، فقد شهدت الفلسفة التغير الواضح في المفاهيم، فشكل عصر الانوار بث المعنى المثالي في الدين، وقد تغيرت افكار اللاهوت بعد التأثر بالقيم الجديدة للدين، ولكن تلك القيم بما كان من نشاط زمني للحداثة اصبحت تلك المبادئ الجوهرية، والتي لم تتغلغل في كيان المجتمع الالماني بالقدر الواسع، ومن جهتها الكنيسة سعت الى التكفير عن الذنب التاريخي المشين عبر تلك التحولات الحادة الإيقاع، فتحولت الكنيسة الى دار دين مثالية، ومن ثم الدخول في ليبرالية التوافق الرائعة، ولكن لسوء الحظ فقد استبدل الدين السياسي دور الكنيسة وحل محل ذلك التاريخ البشع، ونشير الى أن الكنيسة التي فرضت على قيصر المانيا المشي حافيا على الصقيع والتوجه الى الفاتيكان، قلب تلك الصيغة الدين السياسي، فزاد من تمجيد وهيبة الملوك والحكام، والى الحد الذي اصبح فيه الحكام والملوك الهة ارضية، وهذا الفارق الهائل جاء في ظروف ما بعد الحداثة، والتي كانت فيها نعمة الميتافيزيقا هبة لمن تمكن من قلب المعايير، واذا كانت بشاعة وقسوة الكنيسة محددة، فالقسوة والعنف في الاسلام السياسي تجاوز التحديد الى الظن والاشتباه، وهذا لا يتعارض مع الفلسفة بالقدر الذي يتعارض فيه مع القيم والمبادئ وحتى الاعراف .

***

محمد يونس محمد

...........................

1- الفلسفة الالمانية مقدمة قصيرة جدا، أندرو بووي، ترجمة محمد عبد الرحمن سلامة، مؤسسة هنداوي، ص 9

(الديانة التي تخاف العلم لا تحترم الله، لا .. بل تنتحر)... رالف امرسون

مثلما يطالب قوم، بضرورة انتهاج تربية قائمة على الحرية الشخصية وبناء المعارف بشكل ذاتي، وتصحيح نظرتنا للحرية والتقائيتها بالتعبير والرأي والتناغم العقلي والوجداني، يؤسس آخرون مبدئيتهم الفكرية في الاكتساب الثقافي الديني الأولي، خلال الانخراط المدرسي الابتدائي والثانوي، على اعتبار أن ذلك يجسد البناء العميق للمجتمع المتناغم، وشرطا أساسا في إنجاح مهمة التعليم والتربية كسلوك وبيداغوجيا إنسية أخلاقية.

والحقيقة أن المذهبين، يمثلان جدارا صلبا لمدى أهمية الدرس التربوي الديني في تمكين المتعلمين من تصحيح علاقة المعرفة بالدين، أو ما تعتمله مضامين الدستور والقانون المؤطر له، في علاقة بالمرتكز الاعتقادي للدولة والأمة، وتوفير الحماية الثقافية والتوعوية تجاهها.

يشيع المنخرطون في الانكشاف على التجارب التربوية الرائدة في المجال، على أن الواجهة الجوهرية التي يجب الالتحاف بها، والامتداد بإزاء قيمها وآثارها في التوجيه والتأطير، هو إيثار ذائقة النقد والوعي بتنظيراته على كل التشويهات الذهنية المقابلة، على اعتبار أولوية البناء الشخصي والسلوكي للمتمدرسين، واعتماد قيم التسامح واحترام الآخر داخل هذا المرمى.

وقد سبق لبيداغوجي فرنسي، يدعى إريك كورنلييه ، أن أثار هذه الخاصية التربوية، ودعا إلى تحريرها من الأيديولوجيا والتقوقع الفكري الديني. بل طالب بتحييدها عن مناهج التدريس، عبر تضمينها في مقررات الدراسة وما يلزم من انفتاح على التجارب الأخرى في الحوار والتوجيه المتدرج.

وكان كورنلييه قد دافع مسبقا على اعتماد مادة الأخلاق والثقافة الدينية، كدورة يخضع لها جميع طلاب المدارس الابتدائية والثانوية. متسائلا : هل توفر دورة الأخلاق والثقافة الدينية معلومات جيدة لأطفال المدارس الابتدائية ومراهقي المدارس الثانوية وهل تقدم تعليمًا في قيم التسامح؟

المشكل في طرح هذه النظرية، أنها تربط الطفرة النقدية على الأديان أو ما يسميها ب "الأساطير أو المذاهب الموجودة في العالم " بما هي تأسيسات حقوقية مرتبطة بالواقع الحديث للدولة الحداثية. وهو ما يعطي انطباعا خاطئا كون جميع الأديان يمكن تجميعها في سلة واحدة، ما دام جوهرها الأصيل يضمن احترام الآخرين والصالح العام ؟.

ومع أن إريك كورنلييه، يطرح سؤال "الوجه الخفي للأخلاق والثقافة الدينية" انطلاقا من تحصين مفهوم الحرية من كل أنساقها التاريخية والمرجعية، على اعتبار أن تلقين احترام العيش المشترك يولد أخلاق احترام الآخر وعقيدته وسلوكه، دون الالتفات إلى خصوصية الأديان وموقعها الثقافي والتربوي والمجتمعي، فإنه يواجه بكم هائل من التأسيسات المسبقة لتلكم الخصوصيات واصطدامها بالشعارات المحمولة على شرطية الدولة الجديدة، كمسائل المساواة بين الرجل والمرأة ، والحريات الفردية بما فيها حريات الاعتقاد، وكذا التسامح مع اللا أدريين والملحدين ، حتى في حالات انتقادهم للرموز الدينية من الكتب المقدسة والأنبياء وغير ذلك.

إنه لا يمكن تقديم الدين كمنتج ثقافي ، مهما كان ذلك مناطا للتحفيز التاريخي لحال العلم والفلسفة والشعر أو الصناعات العلمية والاجتماعية والفكرية المماثلة، وهو بالطبع لا يمكن أن يرقى إلى الاغتيال الصريح لجميع الأديان. وإلا ضاقت الرؤية وانفلتت وجاهتها وانخرمت تحت وطأة السؤال الأخلاقي والقيمي الذي يرفع السمت الديني ويوطنه في النظام البشري ككل؟.

الأولى في هذا السياق التقاطعي المضطرب، أن نعمل على التفكير في إنتاج أساليب جديدة، لتأطير قضية "الأخلاق والثقافة الدينية" وجدوى تطوير علاقتنا بمنهاج التربية الدينية في مقرراتنا الدراسية ومناهجها الضعيفة.

وهو الشكل الملائم لإدارة علاقة اكتساب الثقافة الدينية تلك بباقي المناهج الدراسية والتربوية الأخرى، خصوصا تلك التي تشتبك في جوهرها مع الدرس الفلسفي والتاريخي والأدبي، وذلك من خلال رفض السماح بانتقاد خطابات الديانات المختلفة ، وهو ما لا يسمح به مقرر الأخلاق والثقافة الدينية بإبطال الحقائق التي يزعمون أنها تبطل. ولهذا لن يكون بمقدور مسؤولينا في التربية والتكوين، أن يعملوا على إلغاء هذا النمط من التفكير، والاستعاضة عنه بدورة عن تاريخ الأديان تمنح لمتمدرسينا الفرصة لتنمية تفكيرهم النقدي واعتقادهم المبني على الاقتناع والحجاج الخطابي الرصين والمبادرة المبنية على التميز والتفوق والاقتدار.

***

د مصْـطَـــفَى غَـــلْمَــان

السؤال الذي يتردد الى الذهن هو هل الرياضيات ملتحمة ضمن نسيج الكون ام انها مجرد نتاج للذهن البشري؟ نحن محاطون برياضيات مجردة حتى لو لم نكن نعرف ذلك. في الحقيقة،الرياضيات هي السبب الرئيسي الذي يجعل كل الناس في العالم الحديث أحياءً ويمارسون أعمالهم. الوسيلة التي أنت تقرأ بها هذه الكلمات يتم فبركتها بسبب المعادلات المعقدة المرتبطة بميكانيكا الكوانتم. معظم الطعام والمنتجات الاخرى التي نشتريها وتصل الى مخازننا تتم بفضل رياضيات صارمة تدور حول ديناميكيات شبكة التجهيز. وبهذا، نحن نعم محاطون بالنتائج الواقعية للرياضيات مهما كانت درجة التجريد التي تكتنفها. ولكن تحت ذلك تكمن حقيقة هامة أعمق بكثير وسؤال أكثر أهمية وهو هل الرياضيات واقعية؟

هل الحقائق المتجسدة في تلك الرياضيات واقعية بحد ذاتها؟ هل الرياضيات بطريقة ما منحوتة في نسيج العالم، او في أفكار الله؟ (قبول هذا الوصف او رفضه يعتمد على ميول المرء). ومن جهة اخرى، ربما الرياضيات هي فقط شيء ما نحن اخترعناه . لغة مثل أي لغة اخرى – صادف ان تكون عظيمة الفائدة في بناء الكومبيوترات وادارة شبكات التجهيز.

هناك الكثير ينتظر الجواب على هذا السؤال، بما في ذلك قدرتنا على التحدث مع كائنات فضائية، لو حدث ان التقينا بها.

الرياضيات كعظام للعالم

فكرة ان الرياضيات هي وحدها الواقع الحقيقي تعود تاريخيا للفيلسوف افلاطون قبل أكثر من الفي سنة. افلاطون يرى ان الرياضيات – الهندسة بالنسبة له – كشفت واقعا مختبئا يشكل الاساس الذي تقوم عليه. الرياضيات بالنسبة لافلاطون تشبه هيكلا عظميا غير مرئي يُعلّق عليه جسد العالم. العلاقات الهندسية للمثلث تشكل المثلث الحقيقي والتام. جميع المثلثات التي نصادفها في حياتنا هي معيبة وأمثلة ناقصة لتلك التي تصفها الرياضيات. بهذه الطريقة، فان كل شيء نتعامل معه هو نسخة رديئة للأشكال المثالية التامة للرياضيات الموجودة في عالم المُثل.

قد يعتقد احد ان هذه فقط نسخة من مهارة اليونانيين القدماء المفرطة. ومع تعاقب القرون وتقدّم العلم الحديث وتأملاته في القرن السادس عشر،حصلت الإفلاطونية في تقديرها العالي للرياضيات على أنصار ومؤيدين جدد. وفي أعقاب اسحق نيوتن، اصبح من المستحيل تجاهل تطبيق الرياضيات المعقدة على مشاكل العالم الواقعية. اختراع نيوتن للتفاضل والتكامل بشّر بعصر جديد يمكن فيه للمعادلات الديناميكية ان تتنبأ بكل شيء بدءاً من حركة الكواكب وانتهاءً بمسار قذيفة مدفع.

بعد نيوتن،اتخذت هذه المعادلات الديناميكية أشكالا أكثر تجريدا. وعلى أيدي علماء مثل جوزيف لويس او وليم هاملتون، كانت الرياضيت المتعلقة بشيء ما مثل دوران كوكب حول الشمس يتم تصويرها على شكل هندسي يشبه الحلقات المتعددة الأبعاد. لو عرفنا خصائص الحلقات، نستطيع التنبؤ بحركة الكوكب.

اذا لم يكن ذلك المستوى من التجريد غريبا بما يكفي، فان نسبية اينشتاين استكملت ذلك حين ظهرت بأبعادها الهندسية الأربعة للزمكان. بعد ذلك جاءت الرياضيات التجريدية الغريبة لميكانيكا الكوانتم، رياضيات غريبة جدا لدرجة أمضت العقول الذكية سنينا قبل ان تتمكن من فهمها .

هل هي لغة عالمية ام لغة محكية؟

التجريد أنتج أجوبة سمحت ببناء كومبيوترات، طيران المسبار الفضائي نحو المريخ، او وصف هيكل المادة. قدرة الرياضيات الخارقة على التجريد في وصف العالم حفز المنظّر الكبير ايجين ونغر Eugene Wigner لكتابة مقال "الفعالية اللامعقولة للرياضيات في العلوم الطبيعية". في هذا المقال الشهير ذكر الكاتب ان،"معجزة قابلية لغة الرياضيات لصياغة قوانين الفيزياء هي هدية رائعة نحن لم نفهمها ولا نستحقها". هذا يفسر لماذا كان العديد من الفيزيائيين افلاطونيين بشكل او بآخر حول تأثير الرياضيات في فيزيائهم الرياضية. انه تماما يشبه ان الرياضيات ترتبط بشيء موجود تحت هذا العالم – شيء يعطيها أساسا.

بالنسبة للعديد من الرياضيين والفيزيائيين والفلاسفة، هذه الرؤية في المعادلات كـ "فكرة في ذهن الإله" هي سوء فهم كبير. هم يرون ان الرياضيات تعمل لأننا اخترعناها. فائدتها هي انعكاس لحقيقة اننا ومعنا أدمغتنا تطوّرنا في العالم. إختراعاتنا الرياضية تعمل لأن تجسيدنا في العالم يعني اننا واعون سلفا  بالطريقة التي تتصرف بها. (هذه هي الرؤية الشهيرة لعالم الإدراك جورج لاكوف). تعقيد آخر للجدال هو ليس جميع الرياضيات تعمل في العالم. الكثير منها لم يجد تعبيرا في الفيزياء ابدا. هنا تنوّع واسع بالرؤى غير الفيزيائية التي تنكر فكرة ان الرياضيات هي الشيء الأكثر واقعية. اذاً، ماذا هي؟

الجواب بوضوح له انعكاسات فلسفية ثقيلة، لكن هناك نتائج تطبيقية ايضا. لو أمكن لنا إجراء اتصال مع كائنات فضائية، كيف يمكن الاتصال بها؟ اذا كانت الافلاطونية صائبة، عندئذ كل الحقائق الرياضية يجب ان تكون عالمية. الرياضيات الفضائية يجب ان تكون تماما مثل رياضياتنا. في تلك الحالة، نحن نستطيع استعمال الرياضيات كنوع من حجر روزيتا Rosetta stone(1)، ذلك سوف يعطينا طريقة للبدء بفهم بعضنا البعض. لكن اذا كانت الرياضيات شيء جرى اختراعه ولم يُكتشف، فسوف لن يكون هناك سبب للاعتقاد بوجود علاقة بين رياضيات فضائية ورياضياتنا. في تلك الحالة سوف لن نكون قادرين على الاتصال. اذاً ماذا نعتقد؟ هل نحن حقا مجرد ظلال لمجموعة عميقة من الحقائق الرياضية؟ ام اننا وتجاربنا شروط مسبقة لوجود أي رياضيات ؟  

***

حاتم حميد محسن

..................

الهوامش

(1) حجر روزيتا او حجر رشيد، هو حجر بركاني اسود وُجد عام 1799 في مدينة رشيد شمال مصر. الحجر يحمل نقوشا باليونانية واستُخدم لفك رموز اللغة الهيروغلوفية المصرية القديمة.

"ليس كلُّ ما يُقال حقيقةً، لكن يجب أنْ تُقال الحقيقة يوماً ما.."

هل للحقيقة قُوى خاصة تحُول دون استغلال السلطة؟ بالطبع، ولكن قبل التفصيل، يجب معرفة اختلاف القوة عن السلطة في هذا السياق. القوة هي (إمكانية ذاتية) على الظهور المُحايد لا العنيف، على التجلي الظاهر بدرجاتٍ لا المتواري بإطلاقٍ، على إدهاش الفهم لا انجذاب الغرائز، على انعدام التملُّك لا الاستحواذ، على الوجُود العام لا الخاص. أمَّا السلطة، فهي: نسقٌ يحجبُ لا يُوضح، كتلةٌ تتطلب حشداً لا تمييزاً، نظام يتضمن عنفاً غامضاً لا شفافيةً حائرةً، هيكل استقطاب لا  تحرُر.

لا تقع سلطةٌ خارج الحقيقة ولا توجد حقيقةٌ خارج السلطة، لأنَّ هناك (مساحة تنازُع- شد وجذب) بالداخل منهما في الوقت نفسه. كلٌّ منهما يُردد أصداءَ الآخر، أي يتبادلان مساحةً لا أقول مشتركةً، لكنها مساحة موجودة بالضرورة شاءت السلطة أم أبت، وقبلت الحقيقة أم لم تقبل. مساحة متداخلة، متماهية، ملتفة التكوين ضمنياً وفي القلب منهما بالتبعية، ولا تخضع لهندسة مكانية ولا لجغرافيا الحركة وخرائط توزيع التأثير بينهما أمام المتابعين، لكنها مساحة تأويلية interpretative area بالأصالة عن المجتمعات البشرية.

كل ذلك في الحالين (القوى والسلطة) يتوقفُ على موقع الحقيقة وتوظيفها عبر سياق المجتمعات. فالحقيقة إذا كانت بائنةً كما ينبغي أنْ تكون، استطاعت التموقع في دائرة من الحياد الكاشف، وهي دائرة غير معقولة عادة .. أي لا تقع على نسق المعقولية الخاص بالحياة المشتركة بين الناس، بسبب كونها غير ملونة ولا منحازة، مساحة تحرر لا تنتمي إلى هذا ولا ذاك من ضروب الهيمنة. هي تقف وسط (نقطة مفاجئة) حتى لعناصر الحقيقة ذاتها. فأنْ يكون بعض الأطراف هم عناصرها، فهم في حالة إنكشاف وممارسة لا تعليق عليها.

ذلك مع كل ما يحيط بأية حقيقة من ملابسات وصور وعوامل شد وجذب تأويليين. لا يتخيلن أحدٌ أنَّ الحقيقة طالما أنَّها كذلك قادرة على الإنكشاف، فهي عارية، بل العكس هي دائماً مفاجئة، متوترة، غريبة، تكاد تكون مشقوقةً إلى نصفين إنْ لم تكن مشقوقة إلى أنصاف الأنصاف. هكذا لكونها غارقة وسط كم هائل من عمليات الحجب، عمليات التعمية، عمليات الترقيع والقص واللصق، عمليات التأجيل والتسويف. وحتى على صعيد التعبير تخضع لصياغات استعارية ومجازية تعطي السلطة الغلبة والسطوة.

لو نلاحظ، فإن فعل الإنكشاف إزاء الحقائق، يحتوي على نبرة الفاعل (كشف، انكشف، تكّشف، سيتكّشف). وهذا مستوى من قوى ذاتية للحقيقة، فهي مسكونةٌ بمعطيات نوعيه تجعلها في حالة ترقُب وظهورٍ. وينطوي فعل الإنكشاف أيضاً على نبرة المفعول (منكشفة - واضحة)، لكن الحقائق هدف للظهور، إنها تنتظر الفرصة- ولو كانت هامشية- لتُلقيها الحياة في وجه المجتمعات. حينئذ تبدو كما لو كانت هي الفاعل على الأصالة، لأنَّها تلفت الأنظار، وتبدو هي البطل الأساس لكل حالة إنكشافٍ.

دلالة قوى الحقيقة دلالة قابلة للتبرير في سياقات مختلفة. يكفي القول عندئذ بأن هناك حقيقةً ما قد وَضُحت، وإنَّ هناك أبعاداً قد ظهرت إلاَّ ويلتفت المعنيون للموضوع بجديةٍ. وقد يُنّحي هؤلاء انحازاتهم جانباً ليستمعوا إلى (صوت الحقيقة). وبالرغم من أن الإنسان لا ينسلخ عما ينحاز إليه، إلاَّ أنه على الأقل سيدركُ كون الحقيقةَ تقول شيئاً مختلفاً.

ومن ثمَّ، فالمعالم الآتية سأسميها قُوى، من باب كونها قوى تجلٍّ وسط الملابسات التي تجد نفسها واقعةً داخلها. فهي قوى تعطيها مسوغاً بين الناس. فالتكّشف لكل حقيقة لا يجري في عراء كما أشرت، لكنه عملية مخاض عسيرة تتم دوماً عنوة تحت إكراهات وعوامل كبح ثقافية وجوانب قسر شديدة الوطأة. إن السلطة لا تترك المسألة للمصادفة، فلا شيء مصادفة هناك، بل نتيجة هذا التجلي والظهور الصعب. لا تظهر حقيقة دون هذه المقاومة الصعبة لتلك الملابسات والظروف.

عدالة وجود

رغم اختلاف الحقائق وتنوعها، غير أنها تُعلن عن وجودٍ موضوعي ما. وجود يحيّدُك بالضرورة، ولا يعطيك فرصةً للقفز عليه. كلُّ حقيقة تعبر عن وجود قابل للاستفهام، وليس كالسؤال عندما يضعنا بين مفترق طرق جميعها ممكن الولوج عبرها بالتساوي، وكلها صالحة للاستعمال، وليس هناك واحدٌ منها جديراً بالاقصاء والاهمال. الحقيقة أشبه بالمطرقة التي تدق الرؤوس فتحدث استفاقة بائنة.

عندما تسمع كلمة حقيقة، لابد أن تنتبه من فورك بكل كيانك، فهي نقطة فارقة لا خلاف عليها. مع أو ضد، لايهم الأمر، ولكن الأهم أنه لن يكون المشهد بعد الآن كما كان. في وجود الحقيقة لا أحد يقترب، هناك مسافة تفصل الجميع من الجميع حتى، وإن كانوا فوق بعضهم البعض. لأن التراتب لن يفيد، لن يجدي. يجب أن ندع المجال للحقيقة المقصودة.

إنها عدالة وجود، العدالة بكل تنويعاتها الفاصلة؛ (الظهور، المعنى، الحق، العلاقة، الاقناع، الدليل، فهم الواقع، إعادة ترتيب الأشياء، واجب الإفصاح، إعادة الاعتبار). وكل هذه الصور تقول إن الحقيقة جديرة بالمعرفة، هي مهبط العقول لمعرفة ما الذي حدث بالضبط. أي هذا الذي حدث كما هو دون زيادة أو نقصان. وإذا كان عقل البعض مأخوذا بتحميل التبعات لجهة معينة إزاء الحقيقة، فالأخيرة اعلان عن وجودها وعدالة قضيتها دون أسبابٍ. لا تعنى الحقيقة بكونه رامية نحو أسباب بقدر ما تشير إلى ظروف وملابسات وقيود مفروضة عليها. دوما العدالة لا تتحقق من تلقاء نفسها، غير أننا نعرف أنها عدالة وستظهر في وقت من الأوقات.

عدالة وجود مرتبطة بأشياءٍ أخرى على الدوام، لأنّها عدالة بالنسبة إلى كذا... وكذا. والـ" كذا" لا يكف عن ممارسة الضغوط السلطوية، حتى لا تبدو الحقيقة آتية، هناك من يترقب، لا ليعرف، بل ليحول دون وجود الحقيقة. لأنَّ معادلة الواقع أخطر ما تصُوغه السلطة فارضةً نمط الرؤية المناسب لأهدافها. ليست السلطة سلطةً من غير أنْ تمتد أناملها إلى ما ترى، هي طريقة في كيفية رؤية الآخرين لما لا يريدون. الحقيقة تظهر من وراء الغيوم، مثلما تشرق الشمس وسط كتل السحب الداكنة.

ليست عدالة الوجود معادلة رياضية منطقية، لكنها عدالة واقع.. والواقع بائس ومفجع عادة. لأنَّه لا يوجد بصدد الحقيقة نوع من التوازن بين متغيرات سلطوية حتى وإنْ حدثت. لكن الحق في الوجود أكثر مما يتصور القابضون على زمام السلطة في أي مكان. فالعدالة مقولة جوهرية بالنسبة للحقيقة تدفع الباحثين عنها بكل ثقة ويقين. فالتاريخ لا يترك شاردة ولا واردة دون الإشارة ولو بطرف خفي إلى ما حدث. والعدالة من واقع الثقة في الحقائق ستبدو نقطة ظهور لا قصاصاً، نقطة حضور لا توازناً.

اعتراف

تُولد الحقيقة إلى حد الظهور ومعها بطاقة ميلاد خاصة. هي بطاقة اعتراف أصلية لا مزيفة، لأنَّ كل حقيقة لا تتسول اعترافاً على قارعة الطريق. ولو فعلت لفقدت صلاحيتها، فالإعتراف قضية مصير لا تسول عارض هنا أو هناك. وبالتالي يكون النضال لأجل الاعتراف بالحقائق والأحداث الفعلية في تاريخ المجتمعات أمراً جديراً بالاهتمام.

هناك تاريخ مضن للنضال من أجل الاعتراف بأدق تفاصيل الحقائق حتى أكبرها، النضال جزء من مسئولية الحقيقة بوجودها لدينا نحن البشر. ليس كل البشر بطبيعة الحال، لأن السلطة حجاب غليظ لدرجة الاستحالة. هم أولئك البشر المسئولون عن قول الحقيقة، عن الاعتراف بها. إنَّ موقعك من الحقيقة مهم بدرجة توازي إنسانيتك الحرة. ولذلك يعد الإعترافُ مهمةً وجوديةً بالمقام الأول. ليس بها تردد ولا آراء لجوجة، إذا كنت تدرك أنَّ هذه هي الحقيقة. الإنكار عندئذ عمل مشين إنسانياً في حق وجودتك، مثلما أنَّ وجودك عادل، فستكون مسئوليتك جزءاً لا يتجزأ من هذه العدالة.

لا تكف السلطة عن زج الاعتراف إلى دائرة أخلاقية خلافية، قد يأخذها الإنسان على محمل الجد أو لا يأخذ، لكن الحقيقة ليست وجهة نظر، وليست سلوكاً، لكنها فعل وجود. إنَّه الاعتراف بالحقيقة الذي يعطيك في التّو اعترافاً بوجودك. ليس هناك من ينكر الحقيقة دون أنْ ينكر نفسه بالمثل، فكل إنسان مهما كان منكراً لن يفلت من آثار الحقيقة في بعضه أو كله. بعضه عندما يفتعل كونه لا يعرف شيئاً، بينما ستكون الذاكرة حافظة لما حدث. أمَّا كله، فحين يمارس قصداً منكراً لحق العدالة والوجود، عندئذ سيكون قد اعترف بالعدم في نفسه، لقد مارس إعداماً وانتحاراً وجودياً على ذاته.

ولذلك يُقال في جلسات القضاء والمحاكم: الإعتراف سيد الأدلة، كل اعتراف يبقى محافظاً على نفسه من الضياع. لأنه جزءٌ من جهاز عام إسمه ذاكرة المجتمعات. لا يوجد إعتراف بين المرء ونفسه في السر. هذا ليس اعترافاً، لكنه نوع من الهمس الذي لا يخرج بعيداً. الاعتراف فعل عام بطبعة، وإلّا لفقد معناه الوجودي، ناهيك عن ضياع غايته في مسألة الحقيقة. لأنَّ الحقائق بالنسبة للناس تهم الجميع من غير استثناء، حتى وإن لم يدركوا ذلك من أول وهلةٍ.

ما مصدر هذا الاعتراف إذن؟ مصدره المسئولية الإنسانية عن الحقائق، الإنسان هو راعي الحقائق بالمقام الأول، فكل منا يشعر بوجود حافز وجودي لإظهار حقائق الأحداث والتاريخ والحياة إجمالاً. ليس بإمكاننا أنْ نعيش بلا اعتراف متبادل، حتى أننا نعترف للآخرين طوال الوقت بحريتهم وخصوصياتهم دون تدخل. والفرد الذي لا يعترف بالحقيقة سينال العقاب الرمزي من جنس العمل، سيهمله الآخرون عياناً بياناً وسيكون جزءاً من عملية تسلط لا مبرر لها. وبقدر ما هو في أمس الحاجة لأنْ يتم الاعتراف بحياته وكيانه، سيأتي الانكار رداً موجعاً عليه.

الاعتراف هو القاعدة التي تحمل المجتمعات الحديثة على الاستمرارية، والاعتراف به لون من التقدير والاحترام والحياد الإيجابي وقدرة على إعطاء الحقوق لأصحابها ومشاركتهم الوجود. لأنَّ هناك منْ تعنيهم الحقيقة بقدر ما يعنيهم وجودهم الضروري. أحداث الصراعات والمشكلات الاجتماعية تحتاج إلى أنجع وسيلة للإظهار وهي الاعتراف بوقوعها  أو لا، بحسب ما ينتهي السعي نحو كشفها.

تقع الحقيقة دوماً على أحد طرفي النقيض (نعم أو لا). يصعب أن يقف الإنسان على طرفي (نعم ولا) معاً، وكأنَّه لم يقل شيئاً. لابد له من الشعور بالمسئولية الوجودية وأنْ يتكلم كإنسان يتمتع بإنسانية تجمعه والآخرين. وبينما تسير السلطة طوال الوقت على منطق المنْع والحجب والتغطية، سيكون الاعتراف خيطاً  يجذب الناس لقول الحقائق واشهار ما حدث.

وهذا يفسر أنه في بعض المجتمعات التقليدية مثل مجتمعاتنا العربية يصعب: أن نعرف- مجرد المعرفة - إزاء الحقائق: ماذا حَدَثَ؟ إن الاستفهام: ماذا عن كذا بالفعل؟ لا يكون حافزاً إلاَّ للدوران خلفاً والهروب الكبير من ساحةِ الأسئلة. وكأنَّ هناك من ألقى قنبلةً واسعةَ النطاقِ في فضاءٍ عام مكتظ بالناس، فإذا به يخلو في لمح البصر من جميع الناس.

***

د. سامي عبد العال

الانفعال هو حالة نفسية ذات شحنة وجدانية قوية، مصحوبة بتغيرات فسيولوجية خاضعة للجهاز العصبي الودي، أو هو المشاعر التي يعبر عنها الافراد مثل الحزن والغضب كرد فعل لمختلف الافكار والمواقف التي يواجهونها.

أن التعامل الصحيح مع المواقف الضاغطة لا يمكن أن يكون في إطار من الرد السريع أو العشوائية، بل يجب ان يكون على وفق استراتيجيات محددة، ترمي إلى التقليل من آثار أحداث الحياة الضاغطة، التي تقوم على أسس من الاقتناع والاستقلالية وتمتع الفرد بمستوى مناسب من الصحة النفسية.

انفعالاتنا هي نمط شخصياتنا وهي تعبر عن سلوكنا، فبعض الشخصيات تستطيع أن تقمع هذه الانفعالات إذا استطاعت، لكنها لا يمكن أن تلغى أو تموت أو تنتفي، تظل مخزونة في دواخلنا.

إن إعادة التركيزالإيجابي إلى التفكير في قضايا متنوعه ومختلفة في حياة الناس بعضها ممتعة ومبهجة بدلاً من التفكير في الحدث الفعلي، وإن إعادة التركيز على الأشياء الإيجابية يمكن أن تعد شكلاً من أشكال فك الارتباط العقلي، ويمكن عَدها على انها تميل للأفكار أو إعادة تركيزها على قضايا أكثر إيجابية من أجل التفكير بشكل أقل في الحدث الفعلي، وربما يكون ردًا مفيدًا على المدى القصير ومع ذلك فقد يعيق التكيف على المدى الطويل، وهو يركز بشكل حصري تقريباً على الأبعاد السلوكية، أما في المدارس الأخرى ومنها التحليل النفسي يكون أحد ميكانيزمات الدفاع التي تعيد الإتزان إلى النفس من خلال ميكانيزم الاسقاط، أو النقل، أو الطرح، أو حتى الكبت في الحالات الخطيرة والقوية، وتنجح هذه الستراتيجيات، أو الميكانيزمات الدفاعية في تغيير الحالة النفسية للإنسان.

أن الاستراتيجيات الشعورية " الواعية " واللاشعورية " اللاواعية" تستخدم في تقليل أو زيادة مكون من المكونات للاستجابة الانفعالية لكنها بنفس الوقت تكبح جماعها وتوقف الجانب السلبي منها وتحد منه.

أن استراتيجية إعادة التركيز الإيجابي هي أكثر من مجرد النظر إلى الجانب المضيء في الحدث الفعلي، والإيجابية الناجحة تكمن في توجيه الاهتمام إلى النجاحات وتحقيق موضوعي للوضع النفسي مما يقلل الجانب الذاتي في تأويل ما يدور في النفس قبل وأثناء وبعد عملية التفكير وتشظيها وربما تعقدها، ولذا فإن دماغ الإنسان مقتنعاً تمامًا بالتفسيرات الإيجابية للاحداث، فضلا عن تذكر اللحظات الطيبة في حياته لأنها تغير في مزاجه وحالته النفسية، يستدعيها كذكريات تخفف وطأة وشدة الضغوط الحياتية اليومية مثل ضغوط العمل، وضغوط الدراسة والامتحانات، وضغوط الحياة الاقتصادية الصعبة، وضغوط التنقل والانتقال في الشوارع المزدحمة المكتظة بالسكان والازدحام، فقوة التركيز الإيجابي نراها في كثير من أساليب العلاج النفسي، اذ يستخدم المعالجون – عادة- تقنية يطلق عليها (إعادة الصياغة) لتشجيع طالب المشورة، أو المسترشد على رؤية مشكلاته بصورة جيدة وأكثر إيجابية .

إن طروحات علم النفس المتعلقة بالجانب الإيجابي مثل التفاؤل والأمل والطموح والحب الحقيقي، والصدق في التعامل في الأسرة وبين أفرادها رغم تغيير الحضارة ومتطلباتها وجشع الحياة وسرعة جريانها، إلا أنها تساعد هذه الإستراتيجية في تغيير الكثير من جوانب السلوك لانهما عمليتان فكريتان تولدان شحن وجداني فيكون لها تأثير كبير على سلوك الانسان، وإذا ما أردنا المقارنة بين طرفي الشخصيات البشرية وهما الإيجابيين والسلبيين بهذا المعنى فاٍننا سنجد العديد من السبل الادراكية والمعرفية بشكل واضح، حيث تتميز الجوانب التي تفرق بين الفرد الإيجابي والفرد السلبي، بما فيها التفكير والتصرف بإيجابية، فالإيجابيون يشجعون على التقدم والنجاح، وفي كثير من الأحيان يكونوا متفائلون وينشرون من حولهم شيء من السعادة مع القدرة على التغيير فضلا عن الطاقة الإيجابية على العمل والنشاط ويحركون في الآخرين دوافع الإنجاز ويبثون بذور التعاون والتسامح .

أننا أزاء حالة مهمة حيث تبين لنا أن وراء كل أنفعال – إيجابي أو سلبي – بناء معرفي ساعده على تكوين بنية صحيحة للذات، ولما كان السلوك والإنفعال يتفاوتان من حيث السواء والمرض، فإن التفكير المصاحب أو السابق لهما يتفاوت أيضاً من حيث القبول والرفض، وبعبارة أدق اذا كانت طريقة التفكير مقبولة ومنطقية فإن السلوك أو الإنفعال سيكون إيجابياً ودافعاً لمزيد من النشاط والحيوية والبناء، واذا كان العكس فإن السلوك والانفعال سيكون على درجة مرتفعة من الاضطراب وعدم القدرة على الإتزان .

أن استراتيجية إعادة التركيز الإيجابي تعد من أساليب التفاعل والآليات الدفاعية التي تساعد الناس على خفض القلق والتوتر، خاصة عندما يواجه الأفراد الكثير من المشكلات والهموم، وأن استعمال هذه الأساليب والآليات الدفاعية هو مداولة مناسبة لتحقيق التوازن الداخلي للإنسان ربما ترتفع وربما تنخفض حسب الموقف الضاغط وشدته.

أن التعامل الصحيح مع المواقف الضاغطة لا يمكن أن يكون في إطار من الرد السريع أو العشوائية، بل يفضل أن يكون على وفق استراتيجيات محددة، ترمي إلى التقليل من آثار أحداث الحياة الضاغطة، التي تقوم على أسس من الاقتناع والاستقلالية وتمتع الفرد بمستوى مناسب من التوافق النفسي لا سيما أن التوافق هو الذي يؤدي إلى الصحة النفسية .

تمثل استراتيجية إعادة التركيز الإيجابي حجر الزاوية في مفهوم التنظيم الانفعالي، والتي تشير إلى الأساليب التي يستخدمها الافراد ويتم توظيفها لتعديل التعبير عن الخبرات والانفعالات الإيجابية، وإن استخدام هذه الاستراتيجية تظهر وجود فروق فردية سواء بين الافراد أو داخل الفرد نفسه، فبعض الافراد لدية القدرة على استخدام هذه الاستراتيجية بشكل أكثر فعالية من بعضهم، في حين لا يمتلك البعض الأخر مثل هذه القدرة، ولنا لقاءات في تأثير الفروق الفردية في استخدام هذه الستراتيجيات والآليات الدفاعية النفسية.

***

د. لمياء حطاب رحيم - استاذة جامعية

دكتوراه علم النفس التربوي

عشر مغالطات جعلت الحداثة سيئة السمعة

تُعاني الحداثة من سمعة سيئة في بعض الأروقة الدينية والأقسام العلمية، فهي كلمة ثقيلة على نفوس بعض السامعين فلا يقل وقْعها على آذانهم عن كلمة “بائعة هوى”، ويقف وراء ذلك عدة أخطاء شائعة التصقت بالحداثة في التداول العربي، يُمكنُنا إجمالها في المغالطات العشر التالية:

أولها: التعاطي مع الحداثة كمصطلح ثابت لا يتغيّر، متأثرين بفكرة قديمة طرحها المنطق الصوري حول إمكانية إيجاد مفهوم جامع مانع، تلك الفكرة التي استبعدتها الدراسات الحديثة، فالحداثة كغيرها من المفاهيم في حالة تفاعل وتغاير مستمر، سيما أن العقل الغربي لم يتوقف عن نقدها بكل ما أُوتي من قوة. فالمفاهيم ليست صلبة يُمكن أن نحددها تحديدا نهائيا، نتفق عليه اتفاقا كليا؛ كما أننا أمام عشرات التجارب مع الحداثة، وليست تجربة واحدة، فالحداثة الألمانية تختلف عن الحداثة الإنجليزية فكريا، والحداثة الفلسفية الفرنسية تختلف عن الحداثة الفلسفية الأنجلو سكسونية، والحداثة اليابانية في مجال السياسة تختلف عن الحداثة الهندية؛ لذا تعددت تعريفات الحداثة في كتابات الحداثيين.

ثانيها: الخلط بين الحداثة بمفهومها الرّحب والحداثة في نسختها الغربية، فالحداثة بمفهومها العام، فعل تاريخي مستمر لا يقبل التحديد بفترة معينة، فلها جذور في الماضي وامتدادات في المستقبل، فـ”الحداثة ليست سوى علاقة بالزمن” على حدّ تعبير “هيغل”، ووفق هذا المفهوم؛ الإنسان يستمد قيمته من حاضره وما يُقدّم فيه من إنجازات ولا يكون فيه الإنسان مجرد امتداد لأسلافه، تلك الفكرة التي تسيطر على الفكر الديني التقليدي وتظهر في مفردات مثل: السلف، والأشراف، والقبيلة وعراقة العائلة، والأجداد وروعة الماضي.

فالحداثة حالة انتقال بالبشرية من هيمنة الأفكار العاطفية لصالح الأفكار العقلانية، بهذا يستعيد الإنسان مكانته وكرامته في هذا الوجود، ففرق كبير بين الإنسان في القرآن الكريم المكرَّم بالعقل ومن مقتضياته حرية التفكير والنقد وبين الإنسان في جانب من الفكر الديني المسلوب منه حق حرية التفكير.

فالحداثة في مفهومها العام فعل حضاري يُطلب من كل أمّة؛ كي تكون معاصرة لزمانها؛ فالأمة التي تستطيع أن تقوم بواجبات زمانها تفكيرا وإنجازا؛ فقد حققت الحداثة. فتاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ للحداثة بمفهومها العام، فهناك حداثات على مرّ التاريخ تناوبت عليها مجتمعات متنوعة في ثقافتها وتراثها، وداخل هذا الإطار العام للحداثة تأتي الحداثة الغربية المتمثلة في جملة التحولات العميقة التي طرأت على المجتمع الغربي منذ خمسة قرون بداية من القرن السادس عشر مع “النهضة” و”الإصلاح الديني”، وترسّخها مع “حركة الأنوار” وانتشارها مع “ثورة الاتصالات” حتى تكاد أن تسع العالم كلّه.

ثالثها: تداول الحداثة في الثقافة العربية كمرادف للادينية، وهذا ما يُكذّبه الواقع الحداثي الذي يمنح أتباع الديانات المختلفة مساحات من حرية الحركة والعمل والتعايش لا تُمنح لهم في أوطانهم الأصلية، فالحداثة ليست تنظيرا مطلقا لجدلية فكرية عميقة في علاقتنا بالآخر، والطرح النظري للحداثة ومحاولات تطبيقها ليس معناه مصادمة أو مفاضلة مع الوحي.

وأسهم في انتشار تلك المغالطة محاولات بعض الحداثيين العرب تقديم الحداثة بوجهٍ واحدٍ يدعو للقطيعة مع التراث، ويراها بديلا عن الدين، وهذا يتنافى مع الحداثة حتى في نسختها الغربية التي سعى بعض منظريها مثل سبينوزا وديكارت وكانط وبول ريكور إلى عقلنة الدين وليس نفيه؛ فالحداثة ليست ذات موقف واحد ثابت من الدين، فمن المغالطة اختزال الحداثة في مفهوم أو تجربة بعينها؛ لنقول: انظروا إلى بشاعة الممارسة، وتناقض المفهوم مع الدين، فهذا طرْح المنفعل الغاضب الذي يحاول تقديم عواطفه في إطار موضوعي.

رابعها: تجاهل أهم السمات المميزة للحداثة الغربية من كونها تحوّلات ذاتية إنمائية تراكمية قام بها الغرب نتيجة حراك فكري داخلى تلبية لتساؤلات حاضره وتطويرا لتجارب مجتمعه، فالحداثة لا تُفرض من الخارج على مجتمع لمّا يُدرك بعد حاجته إليها، فلا يجوز أن نطالب الأمة بموقف لا تعي دوافعه؛ لأنّ الموقف نتاج الثقافة أيا كان اتجاهها، والأمة محجوبة عن مناشئ الثقافة الواعية، بعد أن رسّب الخطاب الديني التقليدي في لا وعيها فكرة أن العصور الذهبية في كل شيء قد فاتت، وأنها غير قادرة عن إنجاز حاضر يتفوق على الماضي.. وللتحرر من تلك الأفكار السلبية نحتاج إلى تعزيز الشعور بالثقة في منجز الثقافة العلمية والفنية في العصر الحديث.

خامسها: نزوع المفكرين الإسلامويين إلى مثالية متعالية على الواقع تجعلهم يرفضون التفاعل النقدي مع التجارب الحداثية التي لن تخلو من قصور شأن التجارب الإنسانية، زاعمين أنهم يمتلكون تصوّرا نظريا لتجربة مثالية لمّا تتحقق.. وأمام العجز الأخلاقي للنظام العالمي الذي من أوجه عجزه: ضعف العدالة الاجتماعية، وتدهور النظام البيئي، واختلال موازين المؤسسات الدولية يجد الإسلامويون فرصة لممارسة خطابية جوفاء، زاعمين أنّهم يمتلكون البديل، متجاهلين كونهم أداة في إشعال الصراعات وعجزهم عن تقديم نموذج يحظى بالقبول الاجتماعي.

فـ”الصراع اليوم ليس صراع براهين أو أفكار، فلم يعد يصلح في هذا العصر المنطق النظري الذي يقوم على ترتيب الجمل وتنسيق الكلمات في مقدمة كبرى وصغرى لاستخراج نتيجة منطقية، ونقول هذا هو برهاننا، وإنما هو صراع نماذج وتجارب على أرض الواقع، أصبح الإنسان المؤمن في حاجة أن يُقدّم تجربته مع الإيمان في صورة تجربة حضارية واقعية محسوسة – نُشير إليها، ونقول هذه تجربة المسلم المتدين المعاصر”، فالعالم اليوم حلبة منافسة بين نماذج معرفية متنوعة يُحاول كلّ منها أن يُثبت عمليا أنه الأقدر على خدمة الإنسانية في واقعها المعاصر، والإحصائيات المستمدة من واقع تلك التجارب جزء من النتائج التي تحكم بين تلك النماذج.

سادسها: نقْل مظاهر الحداثة من نهوض بالفعل العمراني والتّقني على أوسع نطاق، وإهمال جوهرها المتمثل في استرداد الإنسان، وهذا ما جعل الحداثة العربية مشوهة على حدّ تعبير أحد المفكرين العرب “كلّ شيء ولد في مجتمعاتنا مختنقا، بسبب أنّ “الحداثة” الوافدة تمّ تمزيقها أشلاء في الوعي التحديثي – ولا أقول الحداثي – فتمّ تقبّل الشلو التقني فقط، وتمّ رفض الأساس العلمي للتقنية، بكل مكوّناته من عقلانية ونقد وإبداع… تمّ تقبّل الديمقراطية، بدون أساسها، وهو حرية الفرد، تمّ تقبّل الاقتصاد الحرّ، بدون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات، ولا كان ممكنا أن يحدث، لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية مثل الراعي والحامي والزعيم الملهم والرئيس المؤمن”.

ومن أوضح نماذج اجتزاء الحداثة تأسيس الدولة الحديثة في مصر، فعندما أرادت أسرة محمد على باشا بناء المملكة المصرية على غرار ممالك الغرب، يشاركها في ذلك أبناء البعثات القادمين من جامعات الغرب، بدأوا من حيث انتهى الغرب، فنقلوا قشرة الحداثة التي من مظاهرها تعدد الصحف في وقت لا يعرف عامة المصريين الكتابة والقراءة، وأنشأت الجامعة في وقتٍ لم يُسمح فيه بحرية الفكر البحثي، وكُتب الدستور المصري وبدأت الحياة النيابية والحزبية السياسية، وبدأت الأنشطة الفنية والثقافية في الظهور في وقتٍ كان يرى عامة المصريين الديمقراطية كفر، والفنون حرام، والحزبية انقسام، فلم يتجاوز حوار الحداثة إلى يومنا مستوى النخب، فعلى مدار قرنين من الزمان تعاقب على حكم مصر نسخ مكررة من أبناء أسرة محمد على، وبعدها حركة الجيش سنة ١٩٥٢ التي قدّمت ثلاث تجارب من الحكم، لم تُركز على بناء وعي الإنسان قدر ممارستها وصاية عليه ينازعها في تلك الوصاية جماعات التمايز الديني، فتوالت عشرات السنوات منذ بداية عصر النهضة، وما زالت بلادنا لم تبرح مكانها؛ فحداثتنا العربية فاشلة؛ لأنها تُمارس التطوير في القشرة السطحية، وليس في بنية الأفكار المنتجة للحداثة.

فلا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من أفكار. ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه (عالم الأشياء) محوا كاملا، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقًا.

سابعها: ضعف الثقافة الحداثية، فما زالت على المستوى النظري نخبوية غير قادرة على التغلغل في أعماق الأوساط الأكاديمية والثقافية لما يكتنف كتاباتها من غموضٍ؛ لطبيعة الموضوعات والمسائل والنظريات شديدة التعقيد لكتّاب من بلاد ذات لغات وثقافات مختلفة، فغموض النصوص الأصلية للمفكّرين الحداثيين جعلها – على حدّ تعبير أرثر أيزابرجر – “جزءا من ثقافة النخبة وعاجزة عن اكتساب قراء جُدد”، فإذا إضفنا إلى ذلك افتقاد لغة بعض المترجمين العرب للدقة والإبداع لعدم إتقان اللغتين المنقول منها وإليها، وضعف حركة الترجمة العربية، فما تقوم بترجمته اليونان في عامٍ يزيد عما تقوم به الدول العربية مجتمعة؛ لأدركنا لماذا لا يخرج الفكر الحداثيّ خارج نادي نخبة النخبة!

ثامنها: تجاهل الطريقة التي تكوّن من خلالها الفكر الإسلامي الذي أفرزه العقل العربي عبر وسيلتين:

– تراكم اجتهادات العرب والمسلمين في فهم وحي الله إلى العالمين.

– التلاقح الثقافي بين العقل العربي وغير العربي الذي ُوجد منذ البيئة العربية الأولى، وعزّزه الإسلام بانسيابه في الدنيا، فحمل كل غير عربي قادم إلى الإسلام أجزاءً من ثقافته وعلمه وفلسفته إلى الثقافة العربية. ولم يقف الأمر عند حدود النقل الأحادي العشوائي؛ بل تعداه إلى حركة نقل جماعي منظّم عن الحضارات السابقة، ولم ير جيل صانعي الحضارة الإسلامية في مهدها الأول عيبا في ترجمة نتاج اليونان والهند والفرس وغيرهم من الأمم السابقة، فلا يوجد فكر إنساني يمكنه الحياة منعزلا، رافضا الالتفات إلى الحراك الفكري والثقافي المحيط به.

تاسعها: انشغال الحداثيين العرب بتسويق ثمار حداثة لم ينجزوها، وانشغال خصومهم بقراءة انتقائية لإبراز مساوئ تجارب حداثية لم نصنعها، وأهمل كلا الطرفين التركيز على تعزيز المبادئ والقيم التي تقوم عليها الحداثة، وفي مقدمتها: “استقلال” يمنح الإنسان حرية الاختيار والتعبير بلا وصاية، و”إبداع” يُمكّن الإنسان من الابتكار والتجديد على نحوٍ لم يُسبق إليه، و”عقلانية” هي المحكّ لكل شاردة وواردة، وترى كلّ رأي يستند إلى سلطة دون دليل عقليّ هي اعتداء على العقل.

عاشرا وأخيرا من أكبر إشكاليات واقعنا الفكري العام رفض “النقد المعرفي”، أحد أهم قيم الحداثة، ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون الثقافة الإسلامية المعاصرة – بحكم حداثيتها ومعاصرتها – أكثر قدرة على تقبّل النقد والاستجابة له بشكل إيجابي من الثقافة الإسلامية في العصور السالفة، أتى الأمر على خلاف ذلك بعد أن أخذت كلمة “النقد” – بالدال – مدلول كلمة “نقض” – بالضاد – في التواصل اللغوي الاجتماعي، فصار يُنظر إلى “النقد” بوصفه هدما و”نقضا”، هكذا انتقلت دلالة السلب في كلمة “نقض” إلى كلمة “النقد”، وغُيّب المدلول الإيجابي لكلمة “نقد” الذي يُفيد معنى الفرز والتمييز، فالتفكير النقدي قائم على عمليات عقلية مستمرة؛ لتصوّر وتطبيق وتحليل وتقييم الأفكار كمقدمة لابد منها للنهوض الحضاري.

***

أ.د عبد الباسط سلامة هيكل

أستاذ في جامعة الأزهر

ربما تكون الثقافة العربية من الثقافات النادرة في عدم توفرها على تراتبية زمنية وتاريخية في التكوين. فالثقافة العربية من بين أكثر الثقافات التي تعرضت سيرورتها للقطع وإعادة اللصق، بسبب هيمنة المتخيل السياسي أو ظروف وملابسات إنتاجه، منذ بداية تأسيس الدولة في العهد الاموي، مروراً بالدول التي تولدت خلال مراحل تطور شكل ونظام الدولة التي أعقبت مرحلة التأسيس تلك.

تاريخياً، وفي عصر ما قبل الإسلام، أنتج الفعل الثقافي العربي، بناه ونتائجه التطورية، بوتيرة واحدة، قد تكون كسلة وهشة نعم، ولكنها تأتي كنتيجة للتطور العقلي والرؤيوي، أي من دون متخيل سياسي موجه، وهذا ما يظهره بجلاء تطور شكل ومضمون القصيدة العربية القديمة، باعتبار أنها كانت وسيلة التعبير الثقافي الوحيدة آنذاك.

وبالتحليل، نستطيع أن نعيد أسباب هذا الوضع إلى خلو حياة الجزيرة العربية (موطن العرب) من شكل الدولة وبناها السياسية، أي إن مصادر ومفاعيل العملية الثقافية لم تكن تخضع لأي شكل من أشكال المتخيل السياسي وتوجيهاته. وفي الفترات والبقع التي توفر فيها الشكل البسيط للدولة، فهو أيضاً لم يأت مصحوباً بمتخيل سياسي وايديولوجي، إنما اقتصر على هيئة بناء دارة الحاكم أو الملك ومن يحيطون به من أذرع تنفيذ شكل هيبته.

المتخيل السياسي رافق ظهور دولة الإسلام في حياة العرب، وتطور إلى فاعل ثقافي موجه مع بروز الدولة الأموية وظهورها كفاعل سياسي في المحيط الذي قامت فيه ومارست فيه سلطتها. وهذا يعني أن ما يمكن أن نسميه بالبنى الثقافية العربية، التي مثلت بدايات المشروع الثقافي العربي، قد نشأت وترعرعت تحت هيمنة المتخيل السياسي ومقاصده ولم يأت كعملية تطورية لنضوج عقل حر تمام الحرية.

أما ما يمكن أن ندعوه بالفضول المعرفي، المؤسس للحراك للثقافي، فقد جاء كنتيجة لتوسع رقعة الفتوحات الإسلامية والتلاقح الثقافي الذي أفرزه احتكاك العرب بأقوام البلاد التي فتحوها، ولم يأت كنتيجة تطورية لنضوج (مملكة العقل العربي).

وكما يقول الجزائري، محمد أراكون، (فإن العقل لا يمارس دوره بشكل مستقل، بل يمارس دوره وفعله على علاقة بالخيال والمتخيل)، وهذا يعني أن البنى الثقافية العربية ظلت حبيسة أفق المتخيل السياسي حتى عام 142 هجرية، أي حتى تأسيس الدولة العباسية وبداية عهد التدوين والترجمة من الثقافات الأخرى.

وتاريخ عهد التدوين والترجمة هذا لا يعني تحرر العقل العربي من المتخيل السياسي، لأن عملية الانفتاح هذه سرعان ما قوبلت بردات فعل متطرفة من الفقهاء الذين انبرى أغلبهم لتحريم الفلسفة والفنون، كالغزالي الذي كفر الفلاسفة في كتابه المعروف (تهافت الفلاسفة)،  وكذلك فعل ابن خلدون من بعده في مقدمته الشهيرة التي تحتوي على فصل بعنوان: (في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها)، وفيه يقول بالحرف الواحد: وضررها في الدين كثير، فوجب أن يُصدع الحق بشأنها ويُكشف عن المعتقد الحق فيها.

وهكذا استمر الحال، حتى بعد سقوط بغداد على يد المغول ووصولاً إلى عقد الخمسينات من القرن الماضي، عقد التحرر من الاستعمارين الفرنسي والبريطاني، وعقد سيطرة الأنظمة التي أطلقت على نفسها تسمية ثورية، التي فرضت أحزابها المؤدلجة متخيلاً سياسياً أكثر فظاظة وأعمق رقابة على مفاعيل العمليات الثقافية، تحت فكرة شديدة الشبه بفكرة اللاهوت القائلة بوجوب الإيمان الذي يجب أن يسبق التفكير لينتج التفكير السليم والمتعقل. وطبعاً الايمان الذي طالبت به تلك الأنظمة هو الايمان بايديولوجيات أحزابها ورؤاها السياسية لا غير، مع شرط التخلي عن التحليل والتشريح الفكريين.

وآثار هذه المرحلة الانفعالية مازالت مستمرة وفاعلة إلى يومنا هذا (في مصر وسوريا والعراق واليمن وليبيا على الأقل)، وهي كانت بمثابة عملية قطع جائرة لطريق السيرورة التاريخية لبناء أي مشروع ثقافي، لأنها حاربت كل ما سبقها من مرتكزات ثقافية ناشئة، بحجة محاربة الاقطاع (الرجعية الفكرية)، الذي خلطت تحت يافطته البورجوازية الاجتماعية (وهي كانت تجارية – ثقافية وليست رأسمالية كحالها في اوربا)، تلك الطبقة المتعلمة التي كانت بالفعل قد بدأت بإرساء بنى مشروع ثقافي مدني مستقل.

مشكلة المتخيل السياسي متأتية من معاداته وصدامه مع المعرفة. فالطبقات السياسية العربية جميعها، وبغض النظر عن خلفياتها وتوجهاتها الأيديولوجية، تخاف المعرفة أكثر من خوفها رصاص البنادق، لأنها تعرف أن المعارف المفتوحة تقود إلى إرساء البنى الثقافية المتنورة والمتمردة على كل أشكال الجمود والتقليد. ولأن الطبقات السياسية العربية مصرة على التمسك بثقافتها السياسية الضحلة وداومت على سحق أي (بورجوازية ثقافية) ومنعتها من النمو والتمظهر، ظلت البنى الثقافية (أغلبها نتاج فردي ولا يحتويه التنظيم المؤسساتي/الجمعي المستقل) تدور في الحقل المفاهيمي العسير على التطبيق، لعدم تبنيها من قبل مؤسسات الدولة، بل ولتسفيه مؤسسات الدولة لطروحاتها، بحجج الطوباوية وغربتها عن (ثقافة المجتمع).

مشكلة المتخيل السياسي العربي هي إنه يجعل مقولاته والعقل الذي ينتجها هي المعيار. وطبعاً تخلع على الحاكم الذي أنتجه نوعاً من القدسية (بل هي في أغلب الأحيان قداسة أشد ضراوة من قداسة اللاهوتي)، وعليه فإنه يرتقي – المتخيل - إلى مرتبة المقدس الذي لا يجب أن يمس، وأن يكافح من يجرؤ على الاقتراب منه أو مسه بالسجن أو القتل.

ومن نافلة القول أن نذكر هنا، أن قداسة الحاكم ومقولته هي موجهة ضد (اجتماعية) المعرفة، لأن إيمان مجتمع ما بسلطة معرفية ما إنما يعني تحويلها إلى رؤية ونسق ثقافيين. والمتخيل السياسي الثابت يقول أن أي رؤية أو مشروع ثقافي ينتج من خارج قصر السلطة (الدولة) إنما هو يستهدف سلطة الحاكم ويهدف إلى سحب كرسي الحكم من تحته، في عقل الحاكم وحاشيته، وتخريب بناء ووحدة المجتمع وعقائده وتراثه، في وسائل الاعلام.

والمتخيل السياسي العربي لا يكتفي بتسويق رؤيته هذه، كمشروع ثقافي، بل يعادي أي طرح مغاير ومختلف معها، وخاصة إذا ما كان الطرح المختلف حداثوياً ويدعو أو يتمرد على تاريخ التقليد، ويدعو إلى الخروج إلى تاريخ العقل والحداثة المستقلين، بحجة معارضته وتشويهه للوحدة والثقافة المجتمعية. وهو بهذا لا يدفع باتجاه التماثل مع رؤيته، بل يسهر على أن تتماهى جميع الأصوات في صوته كي يكسبه درجة اليقين والتقديس والتأبد في السلطة طبعاً، وهذه هي الغاية الكبرى التي ولد من أجلها المتخيل السياسي.

وهذا الفهم القائم على الخوف هو الذي وقف خلف فكرة رفض التجاور الفكري والثقافي بين الرؤى والطروحات، (ومنذ العقود الأولى لتأسيس شكل الدولة العربية)، مع أغلب مشاريع التنوير والتحديث التي تنتجها العقول المستقلة، من خارج دائرة المتخيل السياسي.

ومن هذا نخلص إلى أن المشروع الثقافي العربي قد خضع، ومنذ بداياته، لشواغل المتخيل السياسي والايديولوجي الظرفي، وهذا ما جعله، على مستوى الإنتاج، رهن لعملية اجترار وإعادة إنتاج لذات القوالب والمحددات ودون إرساء لقواعد ثابتة (محركات الفعل الثقافي) تؤسس لمشروع يبلور وجه (تمظهر) ثقافي محدد، يعكس بنى وعي المجتمعات العربية وتوجهاتها الحقيقية.

***

د. سامي البدري

هناك افتراضٌ مُؤدّاه: أنَّ (الحقائقَ هي حقائق) ولا تحتاج إلى سلطةٍ، مما قد نتحدث عنه بمزج تلك الحقائق بدلالاتٍ ثقافية أخرى. ومن ثمّ،َ فلا تُوجد مبرراتٌ عمليةٌ لربط السلطة بالحقيقة. ورغم أنَّ قولاً كهذا يتضمن نوعاً من المنطق، إلاَّ أنَّه يَفترض التسليم بالحقائق دون اعتباراتٍ مغايرة. ولاسيما إذا ما وردت مقولة (الحقائق حقائق) كمثالٍّ له تطبيقات متنوعة بوصف الحقيقة عاريةً تلقائياً. وأنّها واضحةٌ بذاتها لدرجة البداهة، ولا تتطلب فهماً مركباً لطبيعتها الخاصة. وعليه، فلتذهب دلالةُ السلطةِ من حيثُ أتت، ولتبْقَ الحقيقةُ متفردةً من غير شوائب!!

ولكن لو كانت المسألةُ هكذا، لما كان هناك إنسانٌ يعرف الحقائقَ ابتداءً، فالحقيقة توجد مؤولةً في المعرفة والتاريخ، فضلاً عن كيفيةِ صياغتها. وحتى إذا سرْنا مع هذا المنطقِ إلى منتهاه، لعرفنا أنَّ للحقيقة قُوى أخرى: (قوة اعتراف، وقوة إقرار، وقوة عدالة وجودٍ، وقوة حُكم، وقوة بقاء، وقوة عودة) في سلةٍ واحدةٍ. وهذا ما ندركه بمجرد القول بأنَّ: (الحقائق حقائق)، وأنَّ أية قوى من هذا القبيل ذات طبيعة دينامية، وليست سلطةً تمارس تأثيراً فوقياً كنسق للفعل والحركة. وسيقف كلُّ ذلك- لو صح الأمر- في منطقة تجليات الحقيقة البينية داخل المجتمعات. فهذه الحقائق، وبخاصة بعض أحداث التاريخ والسياسة والمجتمعات، حقائق نوعية وتمس المناطق الموضوعية من الرؤى والحياة.

على أيّ حالٍ، يجب التفرقة بين أنواع الحقائق لمعرفة: ما إذا كانت كذلك موضوعية أم لا؟ وكيف ترتبط بمسألة سلطة الحقيقة؟!

حقائق طبيعية

وهي حقائق تجسد ظواهر طبيعية نلاحظها مثل شروق وغروب الشمس، مثل الليل والنهار، مثل حقيقة أثار الجاذبية ومثل حقيقة الطفو ومثل الضوء والزمان والحركة والطاقة. وهي الظواهر التي أبانت عنها كشوف علمية طوال السنوات السابقة، ومازالت هناك ظواهر أخرى لم تكتشف بعد. ولا أتصور أنَّ تلك الظواهر محل نقاش سوى في مدى تفسيرها العلمي، وما يترتب عليه من آثارٍ، وما ترتبط به من قوانين طبيعية. وبالفعل لا تخلو الحقائق الطبيعية من قوانين تُسيّر حركة الطبيعة وظواهرها المختلفة.

وعندما أقول إنَّه ليس هناك مجال للشك في ظواهر كهذه، فلأنَّها متميزة بوجودها الطبيعي، وبإمكان الإنسان العادي أنْ يلمسها ويجد مُبرراً لها نتيجة ترديد النظريات العلمية المفسِرة، ناهيك عن كونّها حقائق ذات دلالةٍ واضحةٍ، وأنَّ العلوم الطبيعية قد أثبتت آلياتها وتكرارها. ولكن الاختلاف وارد حول: طبيعة معرفتها، وكيفية صياغتها وجوهر التفسيرات التي تطرح لها. والأهم أنها ظواهر غير مثقلة بدلالات أخرى غير طبيعية، سواء أكانت إنسانية أم دينية أم غيرهما. أي ينتفي معها القول بقوى خفية تحركها أو قوى سحرية تأخذها بهذا الاتجاه أو ذلك. لأنَّ هناك معايير وأسباباً ومتغيرات يمكن سبر أغوارها بعمليات البحث والمعرفة. فالجانب الموضوعي منها يجعل سؤالَ الحقيقة واضحاً، إذْ ينزعُ عن الظواهر أية صفات إنسانية ترتديها، لأنها واضحة التكوين والتداعيات.

ولكن تظهر مشكلة الحقيقة، عندما يحاول الإنسان إلباس الحقائق الطبيعية لباساً انسانياً، فقد تُخلع عليها صفات المعقولية والروحانية والتعاطف والتغيُّر من حين لآخر بحسب ظروف الناس، وذلك عندما يتم ربط الظواهر بتحولات المجتمعات. فقد يسود اعتقاد أنَّ هناك ارتباطاً بين تحولات الطبيعة وأقدار الناس كما في حالتي التنجيم والسحر، وربما يتم الربط على أساس الاعتقاد والإيمان كذلك. ارتباط موروث في الثقافات البشرية من جانب بعض المجتمعات القديمة التي ألّهت النجوم والكواكب وقدّست الجبال والغابات والأشجار والحيوانات. وهذه الممارسات لا تذهب انثروبولوجيا هباءً، لكن الثقافة أجرت لها (إعادة تدوير recycling) من خلال المعتقدات والأفكار المهيمنة.

فبدلاً من تأليه الطبيعة وبعض عناصرها (بخلاف تطورات المعرفة وأوضاع الأديان التوحيدية)، كان التنجيم هو الساحة الخلفية التي تسللت منها نزعات تأليه الطبيعة في أشكال من العِرافة والخرافة وقراءة الطالع والتنبؤ بالمستقبل والأقدار. فإذا كان للحب إلهٌ، وإذا كان للسعادة إلهٌ، وإذا كان للخير إله، وإذا كان للشر إله، فربط الكواكب والنجوم بخريطة ميلاد الإنسان وحياته، اتاح إمكانية للدجالين والكهان الجدد للتحدث عن سؤال الحقيقة وسلطتها. لأنَّ الايهام بحدوث الأشياء والأحداث على خلفية السحر والدجل يراهن على إشعار المتلقي بأن الكون يسير بحسب ما يزعم أصحابهما.

وهنا رأس المشكلة: أن ما ألّه الظواهر الطبيعية قد (أخرج سلطة الحقيقة) من القمقم، فسادت ثقافة الخرافة لدى بعض الجماعات البشرية وغلّبت سلطة الحقائق موقفها من الحياة والطبيعة والإنسان والزمن. ومن يُراجع التصورات الشعبية عن الحسد والدجل والخرافة والأساطير، يدرك أنَّ سؤال الحقيقة هنا بات هو السؤال الأهم. وأنَّ نزع الأساطير عن العالم الطبيعي كان مهمةَ عصر فلسفي كامل اسمُه عصر التنوير والحداثة.

حقائق ميتافيزيقية

إذ تمثل تصورات عقلية مجردة يطرحها بعض الفلاسفة أو منْ يراها حقائق مؤكدة كبعض الأفكار والرؤى حول العالم والحياة. فلو قلنا إنَّ الوجود لامتناه، وإنه ممتد في الزمان والمكان، فهذه الفكرة ميتافيزيقية. وليس هذا فقط، بل وتؤسس لبعض التصورات الجزئية المرتبطة بالأفكار والعلاقات بين الإنسان والعالم والأشياء.

والميتافيزيقا تاريخياً – بصرف النظر عن إلتقائها مع الأديان- هي الوريث الشرعي للأساطير والسرديات اللاهوتية البدائية حول الوجود والكون والطبيعة. لكنها تلجأ إلى وضع مبدأ موحد عقلي بدلاً عن الأسباب الوهمية الأسطورية. أي أنَّ المبدأ الميتافيزيقي مع تطور العقل أخذ وظيفة الأساطير مع المرحلة البدائية. وإنْ كان هناك من يرى أنَّ الأديان تتماس مع الميتافيزيقا في التحدث عن عالم الغيبيات، فليس هذا صحيحاً، لأنَّ الميتافيزيقا مبادئ عقلية، وليست إلهية المصدر (نتيجة الوحي). وهي تنطوى على تلك المبادئ المجردة لتفسير الطبيعة كنوع من المبادئ التي توحد العقول تجاه معنى كلي وشامل.

عندما قال أرسطو إن هناك محركاً أول لا يتحرك وراء تغير الظواهر ووراء كل أصناف الحركة، وهو المسئول عن تفسير حركة الأشياء والطبيعة، فكان يقصد الوصول إلى مبدأ عام مُفسر للظواهر، وكان ذلك تفسيراً عقلياً لظواهر الحركة ليس أكثر. لأننا لا يمكن الرجوع دون نهاية إلى سبب كل حركة صغرت أم كبرت، إذ يجب الوقوف عند محرك أول هو مبدأ كل حركةٍ في الكون، بحيث تجري معرفةُ كلِّ الأشياء داخل نطاقه.

وتنتهي الميتافيزيقا- أو بالأحرى تتحول- إلى رؤى حول العالم والكون، وهي موجوده في كل ثقافات الشعوب تقريباً، لكونها أساسية بقدر ما تعبر عن رغبة الإنسان في إقامة علاقة إدراك مع العالم، ولكن تلك الرغبة تتحول إلى اسقاط الأفكار والأوهام على الواقع. وكأنَّ لسان الحال يقول: إنه طالما استطاع الإنسان إطلاق المبادئ نحو الكون ككل، فلماذا لا ينزل بها إلى أرض الواقع؟

ومن ثمَّ، أخذ يظهر سؤال الحقيقة في ضوء هذا الاسقاط الذي يظن الفلاسفة كونه حاكماً للعالم والأشياء. حتى أن تاريخ الميتافيزيقا كله هو تاريخ الإسقاط لأفكارنا وأخيلتنا باختلاف مصادرها على عالم الأشياء. وهي كذلك تاريخ التصديق التجريدي لهذه الإسقاطات بوصفها حقائق. وكأن الميتافيزيقي يكتشف قانوناً كونياً مثله مثل علماء الطبيعة.

حقائق دينية

حقائق تتحدث عنها الأديان والنصوص المقدسة وأخبار الرسل والأنبياء مثل الوجود إلهي باختلاف العقائد حوله ووجود الملائكة والشياطين ووجود الجنة والنار وعالم الغيب وأخبار الأمم والعصور السالفة بمجملها. وهي تدخل في باب الحقائق من زاوية الايمان والاعتقاد، وليس هناك طريق آخر سوى هذا الأفق الصاعد إلى السماء، بل وهي معتمدة على درجات الايمان وقوته بالمثل.

في هذا الجانب، ليس هناك ما يدعو للإثبات ولا الانكار، لأنها حقائق تقول لنا من أول وهلة أنها خاصة بالإيمان. أي أن تؤمن أنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر والقدر خيره وشره وحين تؤمن بهذه المفردات فهذا سببٌ كاف لأنْ تصدق وتتيقن من إيمانك وموضوعاته. وطالما كانت حقائق الدين من هذا القبيل، فلا تماثل الحقائق بمعناها المعروف، لكنها مطلقة وخالدة وليس ثمة طريقة معرفية ولا نقدية ولا فلسفية مؤدية إليها رأساً بشكل حاسم. لأنَّ الإيمان إرادة إعتقاد خاص يمتلئ بها المؤمن مؤكداً ما يتلقّاه، كأنَّه يراه رأي البصر والبصيرة. ولئن تساءلت: كيف ولماذا وبأية وسيلة؟ فهو كمؤمن سيكون أول العاجزين عن إثبات ما يؤمن. وربما أن ما طال تلك الحقائق من جدال ونقاس فكري طوال تاريخ البشرية يدعم هذا المعنى.

يقفز سؤال الحقيقة متى أراد إنسانٌ فرض عقائده على الآخرين، حاملاً إياها دفاعاً عما يؤمن، فالترويج للأديان باختلافها مأزق يجر التساؤل عن الحقائق ويثير فضول البعض لمعرفة الأسباب وخلفيات القضية. وبالنسبة لصاحب العقائد يغمره تصور بكون ديانته هي الحقيقة المطلقة لا غير، بينما ما عداها من أديان لا تستحق تلك الصفة. وقد يسقطها من فوره دونما اهتماتم لما يحدث لأصحابها قرباً أو بعداً عنه.

والأخطر هو ما يفعله البعض الآخر من تحويل عقائد الدين إلى أيديولوجيا، وهو ما يصطدم بالتنوع والاختلاف، ويحيل الأديان إلى خناجر وسيوف ومعاول لإشعال الصراعات الطائفية والتنظيمية والمذهبية دون جدوى. الأمر الذي يطرح الأديان على طاولة البحث عن الحقائق، ويجعل هناك صدوداً لهذا التسلط باسم الإيمان بحقيقة دينية معينة. وسواء أكان الأمر واضحاً أم غير واضح، فالأيديولوجيا تجعل من الحقيقة سلطة على افتراض وجود حقيقة للعقائد الدينية كما يؤمن أصحابها. سلطة الحقيقة عندئذ هي مستوى مؤدلج تبلغه الأفكار الدينية وتحاول حشد الأنصار، واعتبار الخارجين عنها في مرمى السلطة مباشرة. وقد تنتج الأيديولوجيا الدينية على هيئة تنظيم لممارسة الإكراه الديني أو في صورة خطاب زاعق الصوت في محاولة لمحو الأصوات الأخرى.

وفي جميع الأحوال، لو أنك سألت أحد أفراد هذا التنظيم أو ذاك: لماذا تفعل هذ؟!، لكان رده مباشرة أنني أقف على أرض صلبة هي الحقيقة، وما دونها باطل يجب مطاردته. فأنني مؤمن بالدين الحق وأن السعي وراء الحق أولى بالتلبية من سواه. وهنا تكون سلطة الحقيقة بالغة الخطورة وتتحول إلى نزعة تدميرية صوب الأغيار بالمقام الأول.

حقائق منطقية

وهي القضايا المنطقية البدهية والمسلمات التي تفهم صحتها بشكل منطقي. عندما أقول (هؤلاء هم أبناء هذا الرجل)، فسيُفهم تلقائياً من القول أنَّ الرجل متزوج وليس أعزب. لأنَّ منْ له أبناء سيكون قد أنجبهم من خلال الزواج وليس بمفرده. وبالتالي سيقال أنهم أباؤه المرتبطين به كأب. وعندما نقول المثلث، سأعرف ضمناً أنَّه شكل هندسى مُحاط بثلاثة أضلاع وله ثلاث زوايا. ومن ثمَّ، ليس المثلث مربعاً ولا مستطيلاً بحال من الأحوال.

وتدخل في هذا الجانب الحقائق أو المبرهنات والمعادلات الرياضية التي تحمل صدقها في ذاتها وتكون واضحةً وضوحاً تاماً بناء على أطراف المعادلات والنتائج الحاصلة منها. حيث تعد حقائق بدهية رياضياً وقائمة على البرهان والصياغة المنضبطة الدقيقة.

وليس ثمة مشكلة بصدد الحقائق المنطقية والرياضية، طالما تحمل مرجعيتها في ذاتها، وبطريقة أخرى تمثل الحقائق من هذا الصنف صدقاً واضحاً وقادرة على الاتساق مع صيغتها ومقدماتها. ويستطيع العقل البشري أن يقر بصدقها، متى فهم هذه المقدمات وانتقل إلى النتائج.

وربما الحقائق المنطقية من أكثر الحقائق قدرةً على الإقناع، وبالتأكيد تنال اتفاقاً حولها بحكم استنادها إلى التفكير السليم، ولا تسمى بداهتها بسلطة الحقيقة إلاَّ إذا تم اعتبار المنطق أداة لترويج الأيديولوجيات وإعتبار الأيديولوجيا مادةً منطقيةً كمن يُحوّل العقل إلى عاطفة بالضبط. حينئذ سيكون هناك نوع من اللّي لعنق العقل أو بالأحرى الإخلال بالحقائق لممارسة (فعل أيديولوجي فاضح). ونحن نعلم أن المنطق قد استخدم كثيراً في الترويج الإيديولوجي، سواء بالنسبة للمذاهب الفلسفية كالماركسية واستعمال مؤيديها للمنطق الجدلي في تبرير الصراع وتفسير حركة التاريخ أم كالمذاهب الدينية ومحاولة استخراج منطق ديني موازٍ يدافع عن العقائد ويحمي الأفكار المؤدلجة من السقوط. وأحيانا ينظر أتباع تلك المذاهب إلى بعض رمزهم الفكريين على أنهم أصحاب اسهام منطقي، فيذهبون لاستنطاق مؤلفاتهم بما تجود به من حقائق منطقة مفترضة، بينما هي لا تلوي على جوانب منطقية بالضرورة.

حقائق إنسانية (تاريخية، اجتماعية، سياسية..)

حقائق تمثل ظواهر أو أحداثاً أو ممارسات تخصُ المجتمعات في التاريخ أو الحاضر، وقد وقعت بالفعل وتدور حولها التوصيفات وعمليات البحث والمعرفة من جوانب عدة. وربما تختلف حولها الروايات والسرديات بصدد على سبيل المثال: مدى مصداقيتها وحقيقتها، والكيفية التي حدثت بها، وما المقصود الكامن فيها، وإلى أية أهداف كانت ترمي، وما معناها بالنسبة للمجتمعات، وهل تركت آثاراً زمنية أم لا؟

هذا النمط من الحقائق هو الذي تسوّقه السلطة القائمة وتضع نفسها في القلب منه، فالأحداث قد تُقبل أو لا تُقبل بقدر ما يتم تكريس تأويلها على نطاقٍ عام كأنَّ المجتمع هو الفاعل لها، رغم أنه في تاريخ البشرية لم توجد فكرة أن المجتمعات قد قامت جميعها بأحداث معينة. فهذه خرافة لم توجد قط في أي عصر من العصور. هناك بطبيعة الحال فاعلون وهناك هامشيون، وهناك مشاهدون ومتابعون وهناك متأثرون وهناك لا حقون على الأحداث. ولكن الأوضح أن هناك دوماً منْ يرى في بعض الأحداث حقائق راسخة، وهي الأجدر بتعميم نبرتها على المجتمع كل المجتمع.

لا يخفى علينا القول الشهير إن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ. وبالتالي سيظل المهزومون والمنسحقون قابلين بروايته كما كُتب دون حراك أو بالأحرى دون إمكانية تغيير الأوضاع. جميع جوانب التاريخ كتبت بهذا المداد الذي يقطر نصراً وهزيمة، وأن النصر لا يستمر هكذا بسواعد مادية وفي ساحات الحروب، ولكنه ينتقل إلى مرحلة التدوين الذي يستثمر في سلطة الحقائق. وهي سلطة تأويل وصناعة مخيلة جماهيرية عابرة للأحداث. ليس المدهش هو كيف تنتصر، لكن الأكثر إدهاشاً كيف تجعل الأطراف الأخرى أن تدون انتصارك في الذاكرة وأن تقنع الأجيال- بعد الأجيال- أنك مازلت منتصراً، وأن ما قمت به هو الحقيقة. كل ذلك يقع في فضاءات ما بعد الحقيقة، إنه واقع آخر له أفعاله البديلة.

وبطبيعة الحال ليس فرض سلطة الحقيقة أمراً سهلاً، لكنه يتطلب (عمليات غسيل تأويلي interpretative washing) متواصلة، فكما قلت سلفاً إن الأفق الثقافي العام للمجتمعات يعمل بآلية التأويلات، ولا يوجد فراغ تأويلي طوال الوقت. وبالأحرى لا تسمح السلطة في المجتمعات بهذا الفراغ التأويلي. ولذلك سيكون على سلطة الحقيقة في هذا الصدد حسم أمر الحقائق الإنسانية وتقديم تأويل بإمكانه إزاحة التأويلات الموجودة وبإمكانه حسم الصراعات لصالحه في المخيلة الجماهيرية. فلا تُوجد سلطة حقيقة دون (غسيل تأويلي) طويل الأمد وشاق الدروب ووعر التحولات تجاه الذهنيات السائدة. لأنَّ معارك الحقائق أصبحت في عصرنا الراهن حروب معانٍ ورموز بإمتياز.

يبقى سؤال مهم: هل للحقيقة قُوى تحُول دون توظيفات السلطة ؟!

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

إن العلاقة ما بين مفهومي الحداثة والمعاصرة، علاقة ملتبسة برأيي في المبنى والمعنى، فإذا أخذنا المعاصرة في المعنى كما جاءت في معجم المعاني الجامع - معجم عربي عربي. نجد: مُعاصَرة: اسم، مصدرها: عاصرَ.

والمُعاصَرة: معايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة وتسخيرها لخدمة الإنسان ورقيّه.

وبناء على ذلك فهي في المبنى قريبة في دلالاتها من مفهوم الحداثة التي تعني: أسلوب حياة، يمارسه الفرد والمجتمع وفقاً لروح العصر الذي يتواجدون فيه، أو يعيشونه. هذا العصر الذي ينتج بالضرورة علاقاتهِ الاقتصاديّةَ والاجتماعيّةَ والسياسيّةَ والثقافيّةَ الجديدةَ التي تتناسب مع وجوده الاجتماعي بما يحمله هذا الوجود من قوى وعلاقات إنتاج وفكر.

فالمعاصرة والحداثة إذن: هما كل جديد في المجالين المادي والروحي اللذين تجليا في حياة مجتمع من المجتمعات، وراح الناس يتعاطون معه كأمر واقع، بغض النظر عن المواقف السلفيّة أو التقليديّة الرافضة له، على اعتباره بنظرهم بدعة أو مخالف للعادة والتقليد وقيم السلف. مع تأكيدنا أن قيم الحداثة والمعاصرة في دلالاتها الفلسفيّة والسياسيّة، غالباً ما تتجسد في الحريّة والعدالة والمساوة واحترام الرأي والرأي الاخر، والدفاع عن حريّة المرأة، والحفاظ على الحقوق الطبيعيّة للإنسان ومنها حق الحياة والحريّة والملكيّة والدفاع عن النفس.

بعيداً عن السياق التاريخيّ لظهور الحداثة وما بعدها، سأقوم هنا بتوصيفهما انطلاقاً من المنظور الفلسفي لكل منها، مع تأكيدنا بأن المواقف الفلسفيّة ليست مجردة، وإنما هي مواقف مشخصة  ترتبط بالواقع، ولكن رؤيتنا إلى هذين المفهومين هنا، تظل أقرب إلى البعد الأبستمولوجي (المعرفي) منها إلى السياقات التاريخيّة لظهورها وتجلياتها.

الحداثة والمعاصرة في سياقهما العام، هما سلسة من الإصلاحات الثقافيّة في تجلياتها الواسعة، التي تشمل الفن والهندسة والموسيقى والآداب والفنون التطبيقيّة وغيرها. والتعريف في عموميته غطى العديد من الحركات أو الاتجاهات السياسيّة والثقافيّة والفنيّة، التي حققت جملة من التغيرات في المجتمع الغربيّ عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .

وهما بتعبير آخر أيضا، ميل من التفكير الذي أكد على دور القوة والإرادة الإنسانيّة في تحسين، أو إعادة تشكيل المحيط الاجتماعيّ المعيوش عبر المعرفة والتكنولوجيا والتجربة الخاصة.

لقد استطاع كل من الحداثة والمعاصرة تشجيع إعادة امتحان كل الوجوه الحياتية بدءاً من التجارة وصولا إلى الفلسفة، بهدف القبض على مقومات الوجود الاجتماعي التي كانت تعرقل  تقدم الإنسان، واستبدالها بمقومات جديدة قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة في التقدم الإنسانيّ .

في جوهر المسألة، استطاعت الحركات الحداثيّة أو المعاصرة عبر كل المستويات أن تناقش الحقائق الجديدة لزمن الصناعة والتكنولوجيا، التي شملت إضافة إلى ما أشرنا إليه أعلاه، حداثة الفيزياء، والفلسفة والسياسة، والرياضيات ...الخ  التي راحت تكتمل، أو هي على وشك الاكتمال، والتي أصبح من المفروض على الناس تكييف صور عالمهم أو حياتهم بما يتناسب وقبول كل ما هو جميل وجيد وحقيقي من منجزات الزمن الجديد، زمن الثورة التكنولوجيّة.

وللتأكيد نستطيع القول هنا: إن مسألة العصرنة والحداثة شملت أيضا الكثير من أعمال المفكرين الذين ثاروا ضد أكاديميي ومؤرخي التقليد في القرن التاسع عشر، معتقدين أن صيغ الفن التقليدي في الهندسة والأدب والتنظيم الاجتماعيّ ومعظم معطيات الحياة اليوميّة المباشرة، أصبحت من العهد القديم. وعليهم مواجهة المعطيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي أفرزها العالم التكنولوجيّ، والتعايش معها.

الحداثة وما بعد الحداثة:

لقد قام بعض المفكرين في القرن العشرين بتقسيم الحداثة إلى قسميين هما: الحداثة، وما بعد الحداثة، في حين لمس بعضهم أن الحداثة وما بعد الحداثة وجهان لعملة واحدة أيضاً. لذلك دعونا أن نتعرف هنا على الحداثة كما ظهرت في الغرب، أو كما فهمها الغرب، وبالتالي أين نحن اليوم منها موقعا وتفاعلاً في الساحة العربيّة.

نقول: إذا كانت الحداثة (في صيغها الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة) قد فجرتها تلك القوى الاجتماعيّة والفكريّة المعبرة عن التحولات الرأسماليّة الوليدة والتقدميّة آنذاك، والتي كانت وراء إسقاط السلطة الاستبداديّة للملك والكنيسة والنبلاء في صيغها القروسطيّة الأوربيّة .. هذه الحداثة التي قامت كما أشرنا قبل قليل على المطالبة بتسييد العقل والمنطق والنزعة الإنسانيّة والدعوة إلى الانفتاح والتواصل مع كل ما يخدم الإنسان وتقدمه وعدالته وحريته والسمو به، فإن ما بعد الحداثة  في صيغها الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة أيضا، قد فجرتها في الحقيقة الأجيال اللاحقة للقوى البرجوازيّة ذاتها التي تحولت إلى طبقة رأسماليّة احتكاريّة راحت تفرض هيمنتها الاقتصاديّة ليس على أوربا فحسب، وإنما على الاقتصاد والسياسيّة والثقافة في العالم، حيث دفعتها شهوة الثروة والسلطة إلى التحكم في رقاب الناس، وبالتالي السعي إلى إفراغ معظم الشعارات النبيلة التي مثلها تيار الحداثة المرتبط بالبرجوازيّة التقدميّة آنذاك، والعمل تحت ذريعة شعارات الحريّة والديمقراطيّة والفرديّة وغيرها من الشعارات الشكلانيّة التي بدأ يسوِّق لها  في مضمار عالمها الليبرالي الجديد، على نفي وتدمير وتجاوز كل ما هو إنساني، أو يدعوا إلى الرقي بالإنسان، والتمسك بما يساعد على تجسيد وتعميم ثقافة وأخلاقيات كل ما يعمل على تكريس مفاهيم الموت والدمار وعدم التواصل والتفكيك والتذرير، وغير ذلك من المفاهيم المنتمية إلى العبث و اللامعقول.

لاشك أن الإرهاصات الأوليّة لأفكار ما بعد الحداثة، أخذت تظهر على الساحة الفكريّة والسياسيّة والثقافيّة مع انتهاء الحرب الكونيّة الأولى، وما خلفته هذه الحرب - إضافة إلى نتائج الحرب الكونية الثانية - من دمار على المستويات كافة، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، وبخاصة في المجتمعات الأوربيّة كما أشرنا في موقع سابق، هذه الأفكار التي أخذت تشير إلى حالات  الضياع التي وضع فيها الإنسان الأوربي ذاته من قبل القوى المستفيدة من قيام  تلك الحروب، وهي القوى الطبقيّة الرأسماليّة الاحتكاريّة الأوربيّة بشكل عام، التي تعارضت  مصالحها الاقتصاديّة على غنائم العالم الثالث، وهو العالم ذاته الذي حولت هذه القوى ثرواته وأبناءه إلى وقود تؤجج فيه نار هذه الحروب  ضد بعضها بعضاً كما هو معروف تاريخيّا في الحربين العالميتين.

أما أبرز مَن راح  يدعو، أو ينظر إلى تلك الأفكار الـ " ما بعد حداثوية " لليبراليّة الجديدة، ويعمل على إعادة هيكلة الفلسفة المثاليّة الميتافيزيقيّة في صيغها المعاصرة، فهم على سبيل المثال لا الحصر، سارتر، في الوجوديّة، والبيركامو، في العبثية واللامعقول، وجاك ديدرا في التفكيكية وسلفادور دالي، (الداديّة) ممثلة بالمدرسة السرياليّة في الفن والأدب، هذا ونجد تجليات ما بعد الحداثة في الفلسفة وعلم الاجتماع ممثلة في مدارس كثيرة منها، البنيويّة، والوضعيّة الحديثة، والدارونيّة الاجتماعيّة، والفرويديّة، والنيوفرويديّة، والسيكولوجيّة، والدارونية الاجتماعيّة، وغيرها الكثير من النظريات التي لم يعد حتى بمقدور المتابع للحركة الثقافيّة والفكريّة الركض وراءها  والوقوف عند دلالاتها .

إن كل هذه الأفكار والنظريات التي جئنا  عليها أعلاه، وغيرها الكثير، تشير في واقع أمرها إلى حالات الضياع الحقيقي التي وصل إليها الإنسان الأوربي، وكيف راح هذا الإنسان عبر مفكريه وفنانيه يعبر عن هذا الضياع ويرسم حلول خلاصه في رؤى وأفكار لا تنتمي إلى مشاكله ومعاناته وظروف واقعه الموضوعيّ والذاتيّ بصلة، بقدر ماهي حلول تقوم على تهويمات تنتمي إلى اللاشعور والتخيل، أو الغريزة أو إلى البعد النفسي،  أو في المحصلة إلى كل ما هو مقتلَع من قاعه الاجتماعي والتاريخي والعقلاني. أي دفع الفرد للتفكير من داخله وليس من خلال الوجود الاجتماعي الذي يحيط به.

بيد أن هذا الكشف أو التوضيح من قبلنا لتعبيرات ما بعد الحداثة المنتمية واقعيّا وأيديولوجيّا إلى مرحلة الليبراليّة الجديدة، يدعونا إلى موقف الحياد تجاه  هذه (التعبيرات) أو الرؤى والمواقف الفكريّة الفلسفيّة والفنيّة الما بعد حداثويّة على اعتبار أن قسما  من هذه الرؤى والأفكار عندما طرحت لم يكن  الهدف من طرحها زيادة ضياع الإنسان وتذريره وبالتالي تغريبه واستلابه بشكل مقصود أو مخطط له بشكل مسبق، بقدر ما كانت مواقف ترمي إلى تصوير واقع الإنسان في حالاته ضياعه تلك دون التركيز على البحث في أسباب ظهور هذه الحالات اللاعقلانيّة ودوافعها، في الوقت الذي نجد فيه أيضاً من سخرته تماماً القوى الرأسماليّة الاحتكاريّة للتنظير في هذا الاتجاه اللاعقلانيّ، وبكل مستوياته السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، والتسويق له، وخاصة على المستوى الإعلاميّ، بغية إبعاد الجمهور أو المواطنين عن معرفة الأسباب الحقيقية لضياعاتهم، لأن ما نشاهده يوميّاً على الساحة الإعلاميّة يؤكد لكل ذي بصيرة ما أشرنا إليه .

فخ الحداثة وما بعدها في الثقافة العربيّة المعاصرة .

إن من يتابع الحركة الفكريّة الفلسفيّة، والفنيّة والأدبيّة بشكل عام على الساحة الثقافيّة العربيّة، يجد الكثير من المفكرين والفنانين والأدباء في تاريخنا الحديث والمعاصر قد انساق وراء تيار الحداثة وما بعد الحداثة، محاولين بشكل مباشر أو غير مباشر الاستفادة من هذه النظريات أو الأفكار، بأساليب ومفاهيم فكريّة جديدة تنتمي لهذه المدارس ومناهجها الفكريّة، وخاصة الما بعد حداثويّة، أملين في تجاوز أزمة الواقع العربيّ المتردي في معطياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة. حيث أعطوا الأهميّة الكبرى لمضمون النص، أدبيّاً كان أو فنيّاً أو فكريّاّ، بعد عزله عن محيطه، وجملة ملابساته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والفكريّة، على اعتبار أن هذا النص له سلطته وعالمه الخاص به، وحركته وسياقاته التي تتم من داخله فقط، ولا تأثير عليه من المحيط الذي ينوجد فيه، أو ما يساهم في إنتاجه بالأصل.

إن هذا التوجه المنهجي، جاء برأي، عند هؤلاء المتبنين لمناهج ما بعد الحداثة، إما هرباً من عقاب السلطات الحاكمة المستبدة والشموليّة لكل من يحاول توصيف وتحليل أزمة الواقع منطقيّا وعقلانيّا، وبالتالي إظهار الأسباب الموضوعيّة والذاتيّة الحقيقيّة لأزمته وتخلفه، أو جاء نتيجة غياب للرؤية العقلانيّة النقديّة لديهم، وسيادة نزعة التقليد والتجريب، أو المحاكاة دون وعي أو إدراك للأسباب التي أدت إلى ظهور هذه المناهج في أوربا.

نقول: إن معظم محاولات التجديد التي تأتي من الحداثة أو ما بعدها مهما كانت طبيعتها، ولا تقوم على المستلزمات الأساسيّة لتطور المجتمع والدولة معاً، والسير بهما نحو التحرر والتقدم وفقاً للحاجات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، التي تتطلب بالضرورة تحطيم أو إقصاء ما أصبح تقليديّا ومترهلاً ومتخلفاً منها، والفسح في المجال لبناء بنى جديدة أكثر ملاءمة وحيويّة لخصوصيات العصر، إنما هي في الحقيقة محاولات تجديد مفتعلة أو منفصلة عن سياقها التاريخيّ مهما كانت نيات حواملها الاجتماعيين.

أي هي حداثة دائرة في فراغ، ومفضيه إلى فراغ، وبانتظارها فراغ جديد. وبالتالي هي اتجاه حداثي مغترب، لا يلامس الحالة الوطنيّة، ولا يقارب الواقع الموضوعيّ الملموس، أو المعيوش. وهذا ما يجعلها ثقافة نموذجيّة للعقليّة الثقافيّة الزائفة التي تحاول بوعي أو بدونه، تخليد حالات الانفصال بين المثقف العربي والحاجات الضروريّة الملموسة لشعبه. الأمر الذي يجعل هذه الثقافة تعمل على تكريس وضعيّة اجتماعيّة معينة تخدم قوى اجتماعيّة وسياسيّة أو طبقيّة معينة ذات مصالح أنانيّة ضيقة في الغالب.(1).

إذن، من هنا علينا أن نبين عمليّة الخلط ما بين الحداثة وما بعدها... ما بين الحداثة كتوجه عقلاني نقدي تفرضه الضرورة التاريخيّة لمسيرة المجتمعات نحو تقدمها ونهضتها، وهي فعل إيجابي يراعي خصوصيات الواقع دون الخضوع المطلق لهذه الخصوصيات بطبيعة الحال، وبين الما بعد حداثة،  كتوجه حداثيّ سلبيّ يقفز فوق الواقع وخصوصياته، بغية تحقيق مصالح معينة تقوم على دوافع ذاتيّة إرادويّة بعلم حاملها الاجتماعيّ أو بدون علمه. لذلك أن الموقف المنهجيّ العقلانيّ النقديّ والأخلاقيّ معاً، يتطلب منا أن نكشف الأبعاد الحقيقة لهذا النمط من الخلط المنهجيّ بين الحداثة (المعاصرة) وما بعدها وتحطيمه. فما قيمة الأدب والفن والفكر عموماً، إذا لم يعبر عن قضايا وهموم الفرد والمجتمع، أو ما قيمة أدب وفن وفكر يبحت عن وجود الإنسان في عالم الميتافيزيقا أو الغيبيات، أو عالم البنى الثقافيّة التقليديّة الشفويّة او الأصوليّة الوثوقيّة، أو تحت مظلة التخيل والتأمل والحدس السلبي، ملغيّاً الحاضر تحت ذريعة البحث عن المستقبل.. أي عن زمن غير زمننا ولا يلامس قضايانا ومشاكلنا، ووضع الحلول لها، في الوقت الذي تعاني منه مجتمعاتنا الجوع والقهر والظلم والتشيىء والاستلاب والضياع والغربة.

إن البحث عن واقعنا في تلك العوالم الفكريّة والأدبيّة والفنيّة المفارقة للواقع المعيوش، هو ليس أكثر من البحث عن حداثة أو ما بعد حداثة الاغتراب المادي والقيمي معاً، وبالتالى هذا ما يجعلنا نعيش فقط في سحر الكلمات وتراكيبها، وصورها الفنيّة وألوانها، وعالم أوهام شعر وأدب خالي من أي مضامين إنسانيّة سوى مضامين لا ترتبط بقضايا الإنسان المصيريّة، بقدر ما ترتبط بشكلانيّة اللغة والحرفة الفنيّة والأدبيّة، التي غالباً ما تحقق  الدهشة للمتلقي، هذه الدهشة التي تنتهي بانتهاء قراءتنا أو مشاهدتنا لتجلياتها ممثلة في الأعمال الفنيّة والأدبيّة والفكريّة ذات التوجه المعياري بمداسه الفنية والدبية والفلسفية الغربيّة في عمومه . وهذا ما تنطبق عليه نظرية الفن من أجل الفن، وليس من أجل المجتمع.

كاتب وباحث من سوريّة.

***

د. عدنان عويّد

........................

(1) - مجلة النهج- العدد 17/ لعام 1987/ ص  214 و215

ملاحظة: أهم المدارس الفكرية والفنية والأدبيّة لتيارات ما بعد الحداثة راجع:

1-  جماعة أبولو الشعرية في مصر،

2- كتاب مجلة شعر في سورية ولبنان.

3- علي حرب على مستوى الفكر - كاتب لبناني.

لو أردنا وصف شخصا وجوديا، ربما يكون وصفنا له كانسان متبرم يجلس في مقهى باريسي مرتديا قميصا ذو ياقة سوداء، محتسيا الكوكتيل ويدخن السكائر- شخص يأسف على عبثية الحياة، ويحزن على وجوب ان نصنع بطريقة ما حياة لأنفسنا في مجتمعات غريبة لم يُطلب منا ان نولد فيها.

هذه الصورة – المرتكزة على تصور ثقافي خام للوجودية – هي صحيحة تماما. المقهى الباريسي في الثلاثينات وحتى الخمسينات من القرن الماضي كان مركزا لشخصيات وجودية شهيرة مثل جين بول سارتر وسيمون دي بوفوار وموريس ميرلو بونتي والبرت كامو جميعهم ناقشوا عبثية الحياة ومعظمهم استعان بالكوكتيل والسكائر.

ولكن وراء هذا الولع بالدخان، تذهب الفلسفة الوجودية عميقا. بالنسبة للعديد من الناس، انها طريقة ساحرة للتفكير حول العالم، وحول مكاننا فيه. اذاً ماهي الوجودية بالضبط؟ باختصار، الوجودية تهتم بايجاد طرق لتوضيح تجربة الانسان الفرد، بالتركيز على معنى ان يوجد الكائن البشري الفرد في كون لم نفهمه.

تعريف الوجودية بأكثر من ذلك يتطلب بعض التوضيحات، لأن الوجودية مصطلح غير مقتصر على الفلاسفة، وانما ايضا يُستعمل لوصف أعمال الروائيين وكتّاب المسرح والفنانين – ولاسيما فيودور دوستوفسكي وفرانس كافكا وصاموئيل بيكيت – بما يجعل الوجودية كحركة ثقافية عامة بمقدار ما هي فلسفة معينة. لنأخذ الآن نظرة سريعة على الحركة الثقافية قبل التوغل في المبادئ الفلسفية الثلاثة للوجودية.

الوجودية كحركة ثقافية

الإستعمال الثقافي الواسع لمصطلح "وجودي" يصف اساسا أي مفكر يضع اهتمامه في التجربة الفردية المعاشة – خاصة في التوتر بين حقيقة اننا مسؤولون بالنهاية عن خياراتنا، وافتقارنا لـ اطار واضح لمعرفة ان كانت القرارات التي نتخذها هي صحيحة، او مهمة. هذا التوتر عموما يترافق مع شك بانه، في كل يوم، تكمن هناك حاجة انسانية عميقة لم تكن العلوم الطبيعية والأديان التقليدية قادرة على تلبيتها. على هذا النحو، تتميز الأعمال الوجودية بمواضيع مثل الرهبة، الضجر، القلق، الاغتراب، العبث، الحرية، الالتزام، العدم، وما يعنيه حقا ان تكون كائنا متجسدا في كون لامبال وغير معروف.

في هذا الشأن، دوستوفسكي في (مذكرات من تحت الارض) و(المحاكمة) لكافكا هما مثالان كلاسيكيان للروايات الوجودية، ومسرحيات صاموئيل بيكيت وتماثيل النحات البرتو جياكوميتي تستطلع موضوعات وجودية بطرق ساحرة ومقلقة.

الوجودية كفلسفة

كان الجانب الفلسفي الرسمي والأكثر تجسيدا للوجودية يصارع وبشكل مباشر مع مفاهيمها وموضوعاتها الرئيسية، لذا من الملائم النظر باختصار لتاريخها، الذي يمكن ان يكون مربكا. فمثلا، في القرن التاسع عشر، اعتُبر كيركيجارد اول فيلسوف وجودي، مع انه هو ذاته لم يستعمل ابدا مصطلح وجودي – وربما كان يرفض التسمية . في الحقيقة، فلاسفة القرن العشرين مارتن هايدجر والبرت كامو رفضوا فعلا التسمية اثناء حياتهما رغم انهما كانا شخصيتين اساسيتين للفكر الوجودي.

كلمة "وجودية" استُعملت اول مرة من جانب الفيلسوف الفرنسي غابريل مارسيل عام 1943، ولم يتم تبنّيها بوضوح الاّ من جانب جين بول سارتر وسيمون بوفوار. وجرى اعتبار المفكرين الأوائل مثل كيركيجارد وفردريك نيتشة كأسلاف للحركة الوجودية – هناك عدد من معاصري سارتر وبوفوار ايضا دخلوا ضمن التسمية بصرف النظر عن درجة الوضوح التي عُرّفوا بها.

وفي ضوء الاضطراب في إطلاق التسمية على من هو الوجودي ومن هو غيره، يرى البعض ان عمل سارتر وحده يجب تسميته وجودية خالصة، كونه الأكثر صراحة في قبول المصطلح وتنظيم أعماله حوله. صحيح ان سارتر ربما وفر الدافع الرئيسي للوجودية كحركة، لكن كما سنرى ان عمله تأثر بعمق بأسلافه وبمعاصريه. من هذا العمل، هناك ثلاثة مبادئ رئيسية للفلسفة الوجودية وهي الظواهرية، الحرية، والأصالة. لننظر بهم تباعا.

1- الظواهرية phenomenology

وهي حركة فلسفية طوّرها ادموند هوسرل في بداية القرن العشرين وجرى تبنّيها لاحقا من جانب هايدجر وكارل ياسبر وآخرون. الظواهرية تهتم بفحص الهياكل الأساسية للوعي والخبرة، وتؤكد اساسا على الأهمية الحاسمة لمنظور الشخص الاول (المتحدث بصيغة الضمير انا للمفرد ونحن للجمع) في فهم أنفسنا والعالم الذي حولنا. فمثلا، لو كنا نريد وصف تجربتنا في النظر الى وعاء من الفاكهة، فنحن اساسا نصف وبشكل محايد الأشياء المتميزة التي نراها: الموز، التفاح، البرتقال، والوعاء ذاته.

لكن الظواهريين يدعوننا هنا الى التوقف مؤقتا . ماذا نشعر عندما ننظر حقا الى وعاء الفاكهة؟ هل هي فقط هذه الأشياء المتميزة؟ ام انها عبارة عن عدد كبير من أشكال موحدة، قوام، ألوان، أصوات، روائح، مرور الوقت، مزاجنا، وربما رغبة في البرتقال، تغلّب على نفور من فاكهة لا نحبها؟ المسألة هي، انت عندما تفكر حول شيء، فان تجربتك بالعالم تتصف كليا بالقصدية. مع اننا نصف تجاربنا كما لو كنا فقط اشخاص نتصور الأشياء سلبيا (بحيادية)، لكننا في الحقيقة لا نتعامل حقا مع العالم بهذه الطريقة. بدلا من ذلك، نحن منغمسون في كل ما نمارس، كل ما موجود في العالم من خلال عدسة ذاكرة متغيرة باستمرار، رغبة، مزاج، انتباه، عدم انتباه، نية.

لذا، عند النظر الى وعاء الفاكهة نحن لا نرى فقط اشياءً سلبية وانما وجبة خفيفة محتملة – او حتى رد فعل تحسسي محتمل. نحن نلقي أنفسنا في العالم فنلتصق بكل شيء يتعلق بتجاربنا: تصوراتنا هي مفاهيمنا ونوايانا تنعكس مجددا علينا. وهكذا، لنأخذ مثال من هايدجر، نحن لا نرى فقط قطعة من الخشب ملتصقة ببعض المعدن وانما مطرقة، وسيلة – شيء ما نستطيع استعماله قصدا. يجادل الظواهريون ان منظور الشخص الاول القصدي هذا – الطريقة التي حقا نمارس بها الحياة – هو عادة ما يُنتزع من وصفنا للعالم، عندما نفحص هذا النوع المباشر من الخبرة اللحظية، فلابد من العثور على البصيرة الفلسفية الثرية.

قصديتنا في الشخص الاول ليست فقط خاصية لأذهاننا، يجادل هسرل: انها اطار من خلاله يصبح العالم وأذهاننا قابلان للفهم. ازالة هذا الاطار من اعتباراتنا (كما عندما نحاول العمل في العلوم لخلق منظور شخص ثالث "موضوعي") يترك صورة غير مفهومة للتجربة الانسانية ويسبب مشاكل فلسفية غريبة بين الذهن والجسم قادت الى قرون من الإلتباس الناجم من شك ديكارت وكوجيتاه. لذا، فان استعادة منظور الشخص الاول بكل فوريته وتعقيديته – والاعتراف بمدى تشابك هذا المنظور مع العالم الذي نتصوره – يكمن في قلب الظاهرية، ويصبح طريقة مفيدة للتفكير بالعالم من جانب وجوديين مثل سارتر. وكما يكتب استاذ الفلسفة ستيفن كراول في موجزه عن الفكر الوجودي:

"الاتجاه الظواهري أعطى شكلا فلسفيا للرؤية الوجودية الأساسية بان التفكير حول التجربة الانسانية يتطلب مفاهيما جديدة غير موجودة في المخزون المفاهيمي للفكر القديم او الحديث، الكائن البشري يمكن فهمه لا كجوهر بخصائص ثابتة، ولا كأشخاص يتفاعلون مع عالم الأشياء".

2- الحرية:

اذا كان مبدأ الظواهرية اعطى للوجودية شكلها الأساسي – أي، طريقة للحصول على الكيفية التي تكون عليها الاشياء حقا، والذهاب وراء التصنيفات القديمة للفطرة السليمة والعلوم الطبيعية لوصف الوجود البشري على حقيقته – عندئذ فان مبدأ الحرية أعطى الوجودية قيمتها التأسيسية. وكما يرى الفيلسوف المعاصر جوناثان ويبر في عمله لعام 2018 (إعادة التفكير بالوجودية):

"كما عُرّفت في الأصل من جانب سيمون بوفوار وجين بول سارتر، الوجودية هي نظرية أخلاقية يجب ان نتعامل فيها مع الحرية كجوهر للوجود الانساني وكقيمة باطنية واساس لجميع القيم الاخرى".

لأن العديد من المفكرين الوجوديين هم ملحدون، هم اعتقدوا ان لا وجود لمسارات او أهداف مخصصة سلفا لأي منا، وان الكائن الانساني لا يمتلك أي "طبيعة" متأصلة او "قيمة" أكثر اساسية من حقيقة اننا موجودون. بكلمة اخرى، كوننا واعون بوجودنا هو الشيء الأعظم اساسية حول معنى ان نكون كائنا بشريا. سارتر يرمز لهذه الفكرة بقوله الشهير، الوجود يسبق الجوهر، ويستنتج انه متروك لنا، من لحظة الى اخرى، ان نستعمل وجودنا لصياغة طبيعتنا وقيمنا، وخلق أي "جوهر" نختار ان نصبح فيه مهما كان الانسان . وكما أوضح سارتر عام 1946 في "الوجودية هي انسانوية":

"الانسان يوجد اولاً، يواجه ذاته، يصعد في العالم ويعرّف نفسه فيما بعد".

النتيجة من هذا هي، وفق الرؤية الوجودية، نحن نتحمل مسؤولية كاملة على منْ نحن، وعلى القرارات التي نتخذها (بالطبع هناك العديد من علماء الأعصاب والفلاسفة اليوم يرفضون اننا نمتلك حرية، مجادلين ان الرغبة الحرة ليست الاّ اوهاما).

لكن بالنسبة للوجوديين، كوننا نعيش في كون فارغ من الاتجاه والهدف او المعنى، فان هذه الحرية المشوشة هي سبب المزيد من قلقنا – قادت سارتر للزعم اننا في الحقيقة "محكوم علينا" لنكون احرارا: "الانسان محكوم عليه ليكون حرا لأنه لم يخلق ذاته، فهو حالما قُذف به في هذا العالم، اصبح مسؤولا عن كل شيء يعمله".

كيركيجارد يلخص هذه الفكرة – فكرة ان حريتنا الوجودية تقود الى القلق حول الإمكانات اللامحدودة المتوفرة لنا – في عمله عام 1844، (مفهوم القلق) حيث يذكر

ان القلق ربما يُقارن بدوار(عدم التركيز). حينما ننظر نحو الاسفل باتجاه مشهد عميق، سنُصاب بالدوار. القلق هو دوار الحرية يبرز عندما تريد الروح ان تفترض الحرية فتنظر نزولا نحو إمكانيتها المحدودة، فتتمسك بهذه المحدودية لمساعدة ذاتها.

3- الأصالة:

اخيرا، حالما اعترفنا بأهمية منظور الشخص الاول، واعترفنا بالحرية الحتمية التي نمتلكها في وجودنا المُعاش من لحظة الى اخرى، سنأتي الى مبدأ مركزي آخر للفلسفة الوجودية يتبنّى موقف الأصالة.

لكي نتغلب على القلق والإغتراب الناتجين عن الإعتراف بحريتنا الحتمية ومسؤوليتنا، فلابد ان نواجه منْ نحن – بما في ذلك حقيقة اننا فانون وسنموت يوما ما، كما ينصحنا فلاسفة آخرون مثل الايبيقوريون – ونكون حقيقيين، نرفض الإنحناء لأي شيء يساوم حريتنا الفردية او أصالتنا، سواء كانت ضغوطا خارجية او معتقدات مجتمعية او ملذات للهروب. وكما يذكر ويبر، الوجودية لدى سارتر وبوفوار تبدأ بجدال حول فضيلة الأصالة" وبالنهاية تؤكد "مبدأ الاصالة الأخلاقية".

بروفيسور جامعة يال، نورين خواجا Noreen Khawaja، في عملها (دين الوجودية) تؤكد ان "فكرة الأصالة الشخصية هي في لب الفكرة الوجودية".

أين تتركنا الوجودية؟

باختصار، بينما التصور الشائع للوجودية يدور بشكل ضيق حول الخوف والقلق في كون عبثي، لكن الحركة الفلسفية الرسمية هي أكثر شمولية، وهي عموما تستلزم ثلاثة مبادئ رئيسية.

1- انها تستلزم الإعتراف بالأهمية التأسيسية للظواهرية، منظور الشخص الاول القصدي في فهم ملائم لأنفسنا وللعالم.

2- انها تشير للإعتراف بالحرية والمسؤولية التي نمتلكها في التجربة المعاشة.

3- هي تدافع عن فكرة ان الأصالة الشخصية هي فضيلتنا الرئيسية، لأنها تسمح لنا بمواجهة منْ نحن، كي نعيش بانسجام مع العالم، وبالتالي نقلل الشعور بالقلق والإغتراب.

هذا الصراع الروحي يحدث الى حد ما ضد فكرة الكون اللامبالي والخالي من الإله – كون "اُلقينا" فيه وتُركنا نتعامل مع أنفسنا – بما يعني انه مع ان هناك العديد من الوجوديين الملاحدة، لكن كتاباتهم مثلما تؤكد خواجا، "تبدو دينية لقرّائها" .

***

 حاتم حميد محسن

..............................

* Philosophy Break, May 2021

تاريخُ البِنَاءِ الاجتماعي هو وَعْيٌ مُستمِر بالحَاضِرِ والحَضَارَةِ، وتأسيسٌ عقلاني لأشكال المَعرفة التي تَتَمَاهَى معَ مَناهجِ تحليل الذات، وأنماطِ تفسير البيئة، وطَرائقِ تأويل العَالَم. وأشكالُ المَعرفةِ لَيْسَتْ كِيَانَاتٍ جامدة في حَلْقَةٍ حياتيَّة مُفْرَغَة، وإنَّما هي أشكال وُجودية تُعَاد هَيْكَلَتُهَا لتحريرِ الفِكْر مِن النظام الاستهلاكي، ويُعَاد تَوظيفُها لتحقيقِ التوازن بين الأنساق الثقافية، مِمَّا يَدفَع باتِّجَاه تَكوين تَصَوُّرَات مُنفتِحة للفِكْرِ والثقافةِ بعيدًا عن المَصالحِ الشخصية الضَّيقة، ونَزعةِ التمركز حول الوَعْي الزائف. وأكبرُ تهديدٍ لأشكالِ المعرفة هي العلاقاتُ الاجتماعية القائمة على تَسليعِ شخصية الإنسان، والتعاملِ مَعَهَا كَشَيْءٍ مَحصور بين العَرْضِ والطَّلَبِ. والمَعرفةُ لا تَتَجَذَّر في المُجتمعِ كَهُوِيَّةٍ تاريخية وخِطَابٍ حَضَاري إلا إذا صارت رمزيةُ اللغةِ طبيعةً ذاتيةً للأحداثِ اليومية، وإطارًا مَرجعيًّا للصِّرَاعاتِ داخل النَّفْس الإنسانية، ومَنظورًا فلسفيًّا للزَّمَنِ المَفتوح، باعتباره ماضيًا لا يَمْضِي، وحَاضِرًا لا يَغِيب، ومُسْتَقْبَلًا لا يُخَاف مِنه.

2

البِنَاءُ الاجتماعي لا يُقَدِّم خَلاصًا مَجَّانيًّا للفردِ والجَمَاعَةِ، وحركةُ التاريخِ لا تُقَدِّم مُسْتَقْبَلًا مُشْرِقًا للهاربين مِن الماضي، والتائهين في الحَاضِر. إنَّ البِنَاءَ الاجتماعي وحَرَكَةَ التاريخ كِيَانان مُتكامِلان، وعابران للحُدُودِ، وحاكمان على التجاربِ الشخصية والتَّحَوُّلاتِ الوُجودية، ومَحكومان بالأنساقِ الثقافية وأشكالِ المَعرفة، وهذا يَعْني أنَّ تاريخَ الأفكارِ خارجَ الثقافةِ يُعْتَبَر وَهْمًا، وأنَّ الفِعْلَ الاجتماعي خارج المَعرفةِ يُعْتَبَر زَيْفًا. وإذا كانتْ هُوِيَّةُ الفردِ وسُلطةُ الجَمَاعَةِ تَتَشَكَّلان في نَسَقٍ عَالَمِي مُعَقَّد، فَإنَّ العقلَ الجَمْعي وإدراكَ الواقعِ يَتَشَكَّلان في نسيجٍ لُغَوي مُتشابِك. والعَالَمُ واللغةُ يَحتاجان إلى تأويلٍ مُستمِر ضِمْن تفاصيل الحياة التي تُمَثِّل كُلًّا لا يَتَجَزَّأ، وذاكرةً لا تَتَشَظَّى، واكتشافًا جديدًا لنقاطِ التَّشَابُه بَين الحَرَاكِ الفِكري وحَرَكَةِ التاريخ، اللذَيْن يُكَوِّنَان ماهيَّةَ الجَوْهَرِ الإنساني ضِمْنِ الهُوِيَّةِ والسُّلطةِ. وعمليةُ التأويلِ تُمثِّل مَصْدَرًا مَعرفيًّا يَمنَع الانفصالَ بَين مَركزيةِ اللغة والتجاربِ الشخصية، وهذا الأمرُ في غايةِ الأهمية، لأنَّ الفردَ يَنطلق نَحْوَ اللغةِ لاكتشافِ ذاته، وتكريسِ شرعيته، والذاتُ والشرعيةُ تَنبثقان من التجارب الشخصية، إذْ إنَّها تُجسِّد صَيرورةَ التاريخِ الفردي في الواقعِ، وتَعكِس الحياةَ الفكريةَ والعمليةَ بكلِّ نجاحاتها وإخفاقاتها في الحياة. لذلك، كُلُّ تَجربةٍ شخصية بِمَثَابَة بَصْمَةٍ إنسانية في رُوحِ التاريخ وجسدِ اللغة، وكما أنَّ الفرد لا يَستطيع تغييرَ بَصْمَتِه، كذلك المُجتمعُ لا يَستطيع تَغييرَ تاريخِه. وكما أنَّ اللغةِ لا تَستطيع تَغييرَ حُرُوفِها، كذلك الهُوِيَّة لا تَستطيع تَغييرَ خَصَائصِها.

3

رمزيةُ اللغةِ قادرةٌ على تَوسيعِ أبعاد البِنَاء الاجتماعي، وتجذيرِ الفِكْرِ النَّقْدِي في الأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، وإزالةِ التناقض بين الفردِ كذاتٍ إبداعية، والمُجتمعِ كذاتٍ سُلطوية، وهذا يُسَاهِم في إنشاء تفسير عقلاني مُتَعَدِّد الوُجُوه للظواهر الاجتماعية، التي تتبادل الأدوارَ معَ الأنساقِ الثقافية. ورمزيةُ اللغةِ كائنٌ حَي لَهُ هُوِيَّته الوجودية وسُلطته المعرفية، وهذا يَدُلُّ على استحالةِ تفسير السِّيَاسَاتِ المُهَيْمِنَة على العلاقات الاجتماعية إلا مِن خِلالِ اللغةِ، ولا يُوجَد مُجتمع خارجَ اللغةِ، ولا تُوجَد لُغَة خارجَ الرُّمُوز. وكُلُّ تأويلٍ لُغَوي هُوَ بالضَّرورةِ عَلاقةُ سُلطةٍ تَشتمل على تَحَوُّلاتِ الوَعْي الرامية إلى إدراك السُّلوك الإنساني، وتَحْتَوِي على آلِيَّاتِ إعادة إنتاج الفِكْرِ والثقافةِ بعيدًا عن الصِّدَامِ بَين الأنماطِ الاستهلاكية والأدلجةِ المَصْلَحِيَّة، وَتَتَضَمَّن التفاعلاتِ بَين الفِعْل الاجتماعي والعقلِ الجَمْعي. وأبعادُ البِنَاءِ الاجتماعي لَيْسَتْ حواجزَ بُوليسيةً بَين المُقَدَّسِ والمُدَنَّسِ، وإنَّما هي فَضَاءَاتٌ مَعرفية تُفَجِّر الطاقاتِ الإبداعية في الفردِ والمُجتمع، وتَدفَعهما إلى تحرير السُّلوكِ الإنساني مِن الصِّرَاعاتِ، وإنقاذِ العلاقات الاجتماعية مِن الصِّدَامات، وعدمِ الغرق في معارك جانبية عبثية تُمَزِّق النسيجَ الاجتماعي، وتُبَعْثِر الجُهُودَ، وتُهْدِر الطاقاتِ. والوقتُ الذي يَقْضِيه الفردُ في تبرير أخطائه يَكْفِي لإصلاحها، والوقتُ الذي يَقْضِيه المُجتمعُ في البُكَاءِ على الأطلال يَكْفِي لإعادةِ البِنَاءِ، والوقتُ الذي يَقْضِيه الفِكْرُ الإنساني في تفسير العَالَمِ يَكْفِي لِتَغييره، والوقتُ الذي تَقْضِيه الفلسفةُ في تَحليلِ الظلام يَكْفِي لإضاءة الشُّمُوع.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

إذا كانت الفلسفة، في ماضيها أو مجد تألقها، قد أفلحت في التأطير والإضاءة لبعض الجوانب، فإنها خسرت معركة تحريرها الأساسية لبقعة الأرض التي نشأت بسببها (الحرب) التي وجدت من أجل خوضها، والتي اختصرها الفيلسوف سورين كيركغارد في السطور التالية من روايته المعنونة مراجعة: (يغرس الواحد منا اصبعه في التربة فيعرف الأرض التي ينتمي إليها من الرائحة التي يشمّها، وأغرس أنا اصبعي في الوجود فينم عبيره عن اللاشيء، فأين أنا وكيف جئت إلى هنا؟ وما هذا الشيء المسمى بالعالم؟ كيف وصلت إليه؟ لماذا لم أسأل ولماذا لم أؤهل لأتطبع بطرقه وعاداته؟ قذفت إلى جوعه وكأني اشتريت من خاطف ملعون أو تاجر أرواح.. كيف أصبحت مهتماً به؟ هل هو أمر طوعي؟ وإذا كنت مرغماً على تمثيل دور فيه، فأين هو المخرج؟ أحتاج أن أراه!)، وهذه هي بقعة الأرض موضع النزاع التي لم تحرر، وهي مازالت بيد المجهول الذي يقبض عليها بيد من حديد؛ والأهم هو إننا مازلنا لم نحررها، بل وتتجدد كل يوم وتتضاعف حاجتنا إلى تحريرها! وبسبب عدم تحريرها أو عجز الفلاسفة عن ذلك، اقترح افلاطون انتحار الفلاسفة، ولكن الفلاسفة وبدل انتحارهم – بالمقصد المجازي طبعاً – خنقوا الفلسفة أو حاولوا حرفها عن هدفها، كل منهم حسب رؤيته.

ومقولة كيركغارد السابقة تعني ببساطة أن النظام الذي اقترحه هيجل لم يكن أكثر من محاولة أخرى لخداع النفس، وبالفعل فقد اندحر نظام (فلسفة) هيجل ولم يتبق منه غير الهيكل الذي تحشى به الكتب التي تدرس في أقسام الفلسفة الجامعية، أما على أرض الواقع فبقي (الرعب! الرعب!) بتعبير جوزيف كونراد، وبقيت أحداث (المسابقة غير المثيرة) تجري بنفس الوتيرة من التصميم وعدم توضيح الأهداف (وبكآبة غير مستحبة، ولا شيء حولها أو في قاعدتها، إنها بلا متفرجين، بلا صراخ، بلا روعة.. تجري في جو باهت ومريض من الشك، بلا إيمان في حقك أو حتى في خصمك.. كنت أود التصريح في آخر فرصة، ووجدت أن لا شيء عندي لأقوله)، بتعبير نفس الروائي، وهنا ينهض السؤال في أنصع وجوه جديته: ألا يعتبر الموت محطة وصول؟ وإجابة الإنسان الحديث والوجوديون قبله، تأتي بصيغة سؤال هي الأخرى: وصول إلى أين الذي يؤدي إليه الموت وهو ليس أكثر من مجهول تحللي وماحق للإنسان؟

الموت الذي سيكون محطة وصول مقبولة هو الذي يأتي كنتيجة إيمان في حق الفرد، وإيمان كبير أيضاً، في كل شيء وفي كل ما يعن له أو يراه، مهما كان صغيراً أو لا يجده (الاتفاق البورجوازي) أو النظام الاجتماعي مبرراً بما فيه الكفاية. وأيضاً، وهذا هو الأهم، هو الإيمان الذي يسبقه فرصة التصريح وبأعلى صوت، ولو من أجل قول أف أو لإطلاق سيل من اللعنات غير المعنونة!

لا أحد ينكر على الفلسفة إنها كانت، في جوهرها، دعوة للجنس البشري للتخلي عن أوهامه، وأوهامه الضرورية على وجه الخصوص، إلا أنها لم تطرح بديلاً مقنعاً، وبدل أن تطرح ذلك البديل انقسمت على نفسها إلى مذاهب ومدارس، وانصرفت للعناية برسم خرائط حدود ملكية تلك المذاهب والمدارس وبناء الأسيجة الملونة لها، بدل أن تبني لنا قبة هيكل النجاة ـ بمقصد العبارة المجازي طبعاً ـ وتفتح لنا باب الخروج من مُطهره باتجاه العودة إلى جلودنا الحقيقية، والمغتصبة من قبل جهة ما، أو (الموت كالبشر) على أقل تقدير.

وها نحن الآن وصلنا إلى أكبر أسئلة الفلسفة التي كان من المفروض أن تكرس نفسها للإجابة عليها: هل فعلاً لنا أو كان لنا (جلود حقيقية) واغتصبت أو سرقت؟ وهل كان الأجدى التحقق من هوية (سارقها) وتحديد صفاته وملامحه، من أجل رسم صورة توضيحية له، أم كان الأجدى القبض عليه قبلها أو تحديد مكانه، على أقل تقدير؟

ورغم أن الوجوديين كانوا الأكثر تشاؤماً في محاولة الاقتراب من إجابة هذين السؤالين، إلا أنهم كانوا الأكثر جرأة على نبذ الأوهام وتحديد الحرية الذاتية كبوابة دخول للهيكل، دون أن يدعوا أنه هيكل نجاة.

وإذا كان البعض، من الفلاسفة والنقاد منهم على وجه الخصوص، قد أخذ على الوجودين في قصر تلك الجلود على الذاتية التي نادوا بها، فإن الذاتية أثبتت ومازالت تثبت، إنها ليست مجرد رد فعل على موضوعية العلم وعقلانية الفلسفة التي أحالت الانسان إلى مجرد أداة في نظام وتكوين مادي يثير الاشمئزاز والشفقة على بؤس منتجيه، سواء كانوا علماء أو فلاسفة أو قادة نظام اجتماعي وسياسي أو نظام اقتصادي نفعي، استهدف بكل جهده قيم الانسان وحريته وصادر فرديته التي هي أهم عناصر شعوره بكينونته وطريق إيمانه بها وبأهميتها وجدواها.

ولعل تجربة موقف الفرد وإيمانه بفرديته ودفاعه عن ذاته، أظهرتها بجلاء ردة فعل المواطن في المعسكر الاشتراكي، بوجهها السياسي على الأقل، عندما استغل مواطنو ذلك المعسكر أول عملية ارتخاء لقبضة السلطة عن خناقهم، وثورتهم في سبيل استرداد حريتهم في بولندا، قبل انتشار نار تلك الثورة في باقي دول ذلك المعسكر، والتي توجها الالمان الشرقيون بتحطيم جدار برلين وعبورهم لأنقاضه إلى جهته الثانية، رغم أن جهته الثانية لم تكن سوى الخطوة الأولى في طريق الحرية الذاتية، أو الخطوة الأولى في تحطيم القشرة الخارجية (للاتفاق البورجوازي، وهي مقولة لهرمان هيسه مقصدها أن الانسان خدعة صنعها البورجوازيون)، الذي كان يسميه قادة المعسكر الشيوعي بسلطة الشعب، والتي لم تكن في حقيقتها، حالها في ذلك حال سلطة الاتفاق البورجوازي الرأسمالي، والتي تسمى في هذا النظام سلطة الديمقراطية وحكم الشعب، وهي في كلا النموذجين ليست أكثر من عملية مصادرة للحرية الفردية... مقابل نظام وحماية المجاميع الاجتماعية واتفاقاتها البورجوازية، المصادرة للحرية الفردية والسعادات البدائية أو الحيوانية، إن شئتوا، التي كان يتمتع بها انسان ما قبل ذلك الاتفاق.

إذن بمقدورنا أن نقول أن لنا جلوداً أولى، وإن تلك الجلود اغتصبت فعلاً، وعلى مراحل التأريخ، اجتماعياً وسياسياً واكليروسياً وطائفياً ومناطقياً وروحياً... وأخيراً فلسفياً وعلمياً. ورغم أن عودتنا إلى تلك الجلود لا تمثل إلا عودتنا للوقوف أمام بوابة الغابة، إلا أن هذه الغابة (غابتنا نحن) وسندخلها بمزاجنا وتوقيتنا نحن، والأهم من أجلنا نحن لا من أجل نظام أو اتفاق مفروض علينا!

هل يعني هذا أن مشكلتنا في أساسها هي مشكلة حرية، وأن إحالة الفلسفة أو ابتسارها في (نظام) أو هيكلية أو صيغة تنظيمية كان سبباً من أسباب المشكلة أو إشاعتها، ذلك الشيوع الذي ترتبت عليه آلاف العقبات (التنظيمية والتقنينية) التي حلت محل الفلسفة واستحوذت على مكانها، بصفتها بديلاً واقعياً... بل وفلسفياً، عند منظريّ (الاتفاق البورجوازي)؟

مثل صيغة الطرح أو الاختصار المتعجل هذه، تمثل ابتساراً آخر للفلسفة، بحد ذاتها، لأن الفلسفة مثلت وتمثل التطلع الصريح لقيمة الانسان في حد ذاته؛ كما إنها تمثل تجاوزاً متعسفاً على الفلسفة، بصفتها الوسيلة والطريقة التي نالت رضا الانسان في تقرير ذاته وإعلائها وتمكينها من الوعي الذي يلزمها.

إذاً الفلسفة كتلة أو جسد يجب أن يكون بحجم الانسان ذاته وتطلعاته وتشوفاته، وأولها الحرية طبعاً، لأنها طريق عودته الوحيد إلى (جلده) المستلب، أو وعيه بهذا الجلد، بعبارة أكثر دقة.

وبهذا المعنى تكون الفلسفة وهدفها، ليس تأسيس الفرضيات، على طريقة الوضعيين المنطقيين والمثاليين، والمفاهيم، وفق رؤية جيل دولوز، وإنما ترسيخ دائرة الخصومات وتأكيدها، على طريقة فريدريك نيتشه، لأن المشكلة الأخطر التي واجهت الفلسفة ومازالت معلقة، هي ليست معاناة الانسان من فقدان النظام الذي شغل هيغل، على سبيل المثال، إنما في مواجهة السؤال الأكثر مضاضة، والذي اختصره المفكر الانكليزي، هربرت جورج ويلز: (نحن نعرف إنك تعمل وتعيل عائلة وتأتي بالنقود وتحب وتكره، ولكن ماذا تعمل)؟

هل الإجابة على هذا السؤال كانت تحتاج كل التعقيد الذي أنتجته الفلسفة، والذي تحول إلى تراث جاثم، على طريقة جثوم أبي الهول، لا ليقدم اجابة مختصرة على سؤال ويلز المختصر وإنما ليدرس في الجامعات لطلبة يدرسونه لطلبة أقل تخصصاً منهم؟.

***

الدكتور سامي البدري

سلطةُ الحقيقةِ.. ملتبسٌ هو هذا المصطلح إلى درجةِ الغموض، لأنَّ الحقيقة قد تُجرد المتلقي مما يعْلق بذهنه تجاهها، طالما عرف أنَّها (حقيقةٌ وكفى). وربما لا يرى المتلقي أيَّ شيء آخر خلفها، فالسعي إلى الحقيقة هو نوعٌ من بلوغ (غايةٍ معينةٍ) يعتبرها الناس جديرةً بالاهتمام، وهو أيضاً (نقطة وضوح) تنخلع عندها كافة التوجهات الأخرى. ولكن الأكثر التباساً أنّ تغدو الحقيقة ذات سلطةٍ تحديداً، إذْ كيف تكون للحقيقة سلطةٌ مع احتمال أنْ تسبقها حقائق مغايرةٌ؟ وبأي معنى تكون للحقيقةِ سلطةٌ؟ مع أنَّ الأخيرةَ (أي السلطة) لهي المعنيّة بإبراز الحقائق ضمن مجالها التأثيري. فهل السلطة حقاً تحدد ماهيةَ الحقائق أم أنَّ الحقائق تنتج سلطةً؟ ولماذا ترتبط السلطة بالحقيقة أصلاً؟!

لنطرح في البداية القول بأننا عادةً ما نتلقى (جميع واقعنا)على أنه حقيقة، ولو تفحصنا الأمر جيداً لرأينا أنَّ ما نتلقاه ناتج عن عمليات ضّخ معلوماتي ومعرفي (مباشر أو غير مباشر) حول شئون الحياة وأحداثها على مدار الساعة. والضّخ مرتبط بالعلاقات والأخبار والأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمناسبات والطقوس ... إلى أخر ذلك. لكن ما لا نعرفة: أنَّ ذلك الضّخ المعلوماتي informative pumping مرتبط – إضافةً إلى ذلك - بقوى فاعلة لها تأثيراتها داخل الواقع نفسه. أي أنَّ الواقع صور خارجة لتوها (بشكل طازج) مشبعةً بغايات وممارسات سلطوية شتى، وأنها ممارسات تحقق ذاتها في شكل معلومات وأخيلة وسرديات عن طريق مختلف أنواع التواصل مع العقول. والعقول بدورها تشتبك مع الحالة لتكملة المشاهد ووضعها في السياق الملائم.

ربما بقانون (الدفع الذاتي) سنُعرّف السلطة كفعلٍ وحركةٍ تجاه موضوعاتٍ معينةٍ أو عبر وسطٍ ما تستطيع السيطرة عليه. مع التأكيد أنَّ الفعل والحركة ليسا ماديين على طول المدى، لكهنما رمزيان وتأويليان بالضرورة. والصفتان المذكورتان (الرمزية والتأويل) مهمتان كما سنحتاجهما لاحقاً عند منعطف الحقيقة. إنَّ السلطة مبدئياً هي (بؤرة تجميع) لعناصر التأثير داخل ذاتها حيث تعيد عكسها تجاه الموضوعات والبشر. وتظل بمثابة إمكانية مؤولّة interpreted ability قابلة للإنطلاق ومتاحة لشعور المتأثرين والمعنيين بها طوال الوقت. السلطة تُؤشر تأويلياً إلى واقعٍ موضوعٍ تحت المعرفة، واقع مُقنن تبعاً لمواصفاتٍ محددةٍ ولكن تظل صوره محل تفسير.

بمعنى أنه بحسب تكوينها، تذهب السلطةُ إلى رسم صورة الواقع وتعطيه مساحة الإنكشاف، ويكون بالنسبة إليها وسيطاً نشطاً قيد الرؤى والتفكير. ولذلك لا تكفُ أية سلطة عن كسب أرض جديدةٍ لممارساتها، وتلفت الأنظار إلى أنها مازالت سارية المفعول كما لو كانت هكذا. كلُّ سلطة تشترط على ذاتها لفت الأنظار التأويلية من قبل، فهي تأثير سابق لآوانه، ولكنه وصل متأخراً وبقوة المتابعة والتلقي. دائماً تعجل كل سلطة بالإعلان عن وجودها في أي نطاق تشغله أو تستهدف العمل من خلاله.

أمَّا الحقيقة، فهي التجلي- الظاهر والخفي- لتلك السلطة، تجل من الداخل interior إلى الخارج exterior، فنحن نقول عن أمرٍ معين أنه حقيقي إذا كان معبراً عن (قوة ظهور ما power of appearance)، وإذا كان أيضاً له من السمات التي تؤهله لأنْ يتجلى ويُعلن عن نفسه بين الناس. وأحياناً عندما يفتقد الأمرُ لهذه القوة، فقد تأتي ظروف وتحمله على الظهور كاشفةً إياه أمام هؤلاء الناس. وهذه هي علة انكشاف بعض الحقائق متأخرةً تباعاً من عصرٍ إلى آخر، رغم أنها في عصورها المختلفة قد لا تجد مُناخاً مواتياً لذلك الوضع. نظراً لأن تفاعلات السلطة غير متناغمة مع ظهور الحقيقة. ولذلك هناك قوانين تُسن في دول العالم بأنه لا يتم الإفصاح عن الوثائق والروايات الفعلية التي توثق بعض الأحداث والحروب والمنعطفات السياسية الخطيرة إلاَّ بعد مرور عقود من السنوات. والمغزى أنَّ ظهور الحقائق قد يكون قوي التأثير على متابعي الأحداث بما يمس السلطة القائمة، وأن الأسرار عندما تعلن سيكون لها وقع تأويلي خطير جداً.

ولا يعني ذلك أنَّ هناك انفصالاً بين السلطة والحقيقة، بل هما (شيء واحد)، أي صورة واحدة قيد التأويل. والتأويل يعني أنَّ هناك صوراً أولية مجازية مرسومة لمقولتي السلطة والحقيقة بفضل تفاعل الخيال والرؤى الإنسانية. وليس كل ما يكون حقيقياً هو مادي بالضرورة، لكنه نوع من المجازات التي تحقق مضمونها في العقول بجانب الواقع أو قبله أحياناً. المعادلة بين الطرفين تطرح نفسها على النحو التالي: (السلطة = الحقيقة × الظهور والحضور)، وبصيغةٍ أخرى: (الحقيقة = السلطة × الظهور والتجلي). ولذلك فإنَّ الأحداث التي لا تبدو ظاهرةً ولا منكشفة تفتقد إلى قوة ظهور وراءها. وليست دلالة الحقيقة هنا شفافةً بالنسبة إلى منْ يعرفها، بل ستكون مضروبةً (حسابياً وتأويلياً) في الوسط الذي توجد فيه. بحيث تعتمد على قدراته وجوانبه المتنوعة، وكيفية انتاجها ضمن هذه الآفاق على صعيدٍ عام.

غير أنَّ السلطة- من جهة أخرى- ليست مركزاً خالصاً، وليست مصدراً متعالياً لشيءٍ، إنما تعدُّ نسيجاً مثلها مثل الخلايا الحية القابلة للنمو في أي وقت متى توفرت لها أسباب الحياة. وهي خلايا مركبة تنتشر بجميع صفاتها ضمن أي مكون معرفي وفكري وثقافي. إذا ردنا توضيح الأمر بجلاء، فهناك بعض النباتات التي يمثل الجزءُ منها - ولو كان صغيراً- جميعَ الصفات التكوينية للنبات ككل. وعند تناول هذا الجزء وغرسه في التربة أو في لُحاء ونسيج أي نبات آخر (بطريقة التطعيم) مرة ثانية، فإنه ينمو مؤكداً كافة الصفات الوراثية والتكوينية للنبات. وهكذا بالمثل لو نتخيل قطع عضو من حيوان وإلقائه بعيداً، فإنه سينمو مُستعيداً البنية والشكل والكيان الخاص بالحيوان. إذن أمر السلطة أنّها في حالة فيض وتراكم، ليس بمعنى الزيادة فقط، بل التوالد والاستعادة.

وهذا ما يجعل السلطة تنتج الحقائق من جهةٍ، ومن جهة أخرى تواصل الحقائق تغذيتها الراجعة إليها ومنها feedback في الوقت نفسه. هما جهتان في جهة واحدة (سلطة الحقيقة أو حقيقة السلطة)، بحيث إذا ركز الإنسان على السلطة، فلن يرى الحقائق إنما سيهتم بتأثير السلطة وقدرتها على الحضور، وإذا ركز على الحقائق سيغفل السلطة التي تسكنها طوال الوقت. وهذه هي أرجوحة الأنظمة السياسية التي تمارس تلك اللعبة مع الشعوب بواسطة أدواتها الجماهيرية ووسائطها الإعلامية والإعلانية المؤثرة. لأن ما تؤكده السلطة والحقيقة هو نمط الوعي الغالب والصورة الذهنية واللغة والعلامات التي تشكل آفاق الناس.

لذلك تعد الحقيقة بمثابة تأويل للسلطة، وفي النهاية تلخص سلطة التأويل الذي يأخذ شكل الوعي إزاء العالم والأشياء والوقائع.

إذن في هذا السياق هناك حركتان لأية سلطة:

أولاً: حركة بنائية خاصة بالتكوين (الامتداد والانتشار): فكل سلطة تجمعُ زمامَ أمرها إزاء أي تهديد تستشعره عن كثب. إذ نراها كأنها كتلة غامضة مرنة جداً، ومتلونة بحسب البيئة الموجودة فيها كما نوهت. وحالاً تستحوذ على قدرات هذا الوسط آخذة المبادرة للتعبير عن نفسها بما تتمع به من سماتٍ. لأن جوهر السلطة هو جوهر برجماتي حتى النخاع، تعيش على القوى المتاحة ولو كانت جزئية وممزقة. وأحياناً تشكل فن تجميع المُمزق للإيهام بكونه صلداً وغير قابل للاختراق.

ثانياً: حركة تزيُد (فيض- تراكم)، وهي الحركة التي تخرج بعيداً عن ذاتها: إنها المعنى الاستراتيجي الاستشرافي للسلطة. فلا تكتفي عادةً بالنقطة البنائية وفقاً لطرائق مختلفة، لكنها تسرب إلى متلقيها أنها موجودة بالفعل والقوة معاً حتى ولو كانت هذه في حالة غيابها العيني.

وبعيداً عن التجريد الفلسفي، قد نرى في الشارع العربي رجال السياسة المؤثرين وهم يقفون كما لو كانوا يمثلوا شيئاً سرياً وفي حالة تضخم مستمر. شيءٌ هم يعرفون أهميته وخطورته داخل وعيهم، سوى أنهم لا يقدِّرون تلك الأهمية المعطاة لهم إلا بمقدار رد الفعل الظاهر لدى الآخرين. كأنَّ رجل السياسة يقول سأكون لدى خيالكم وإحساسكم بسريان السلطة حتى داخل هواجسكم. بينما هو نفسه يكتسب حركته من خلايا السلطة التي ليست له تحديداً. حيث تتجمع رمزيتها واضعة إياه وسط دائرةٍ ثقافية أوسع من محيطه البائس. لكن الواضح أنَّ تلك الخلايا السلطوية هي عمل استراتيجي في المقام الأول، لأنَّها تستقر مع طبائع المجتمع، وتعقد الصلة مع أدوار الفاعلية التي يخلعها على أفراده. ومن ثمَّ نشير إلى رجل السياسة بوصفته الرسمية، نقول عنه ضمناً هذا "رجل النظام والسلطة"، لقد حلت فيه روحُ القوة، كما يحل الروح القدُس في الكائنات الضعيفة. فإذا به منتفخ الخيال والأوداج والعبارات!! اختصاراً هذا نموذج لإنتاج الحقيقة وهي بتلك الطريقة تترك أفعالها مع اللغة وخطاب التداول.

ولهذا تظهر السلطةُ -عبر كل أشكالها المختلفة- بآثارها لا بكيانها، بتجلياتها لا بماهيتها الخاصة. من هنا تسكن السلطة جميع الحقائق وتحركها على مساحة كبيرة من التأويلات، وتراها بديلاً عن مصادرها غياباً وحضوراً في صور المعارف والمواقف والأفعال المختلفة. وهذا الموضوع أساس "الاعتقاد والضمان" اللذين يوفرهما الإحساس بوجود السلطة في الحياة العامة. وقد يتقاربان في مستوياتهما حتى أنّنا نظن ضمن مجالات السياسة –على سبيل المثال- وجود السلطة داخل كل شيء تقريباً.

حصيلة ذلك أنَّ الحقائق هي تأويلات لسلطةٍ ما، والتأويلات رغم كونها هشةً لأنها مجرد صور مستعادة لنوايا وأصول السلطة إلاَّ أنها قد تصارع من أجل البقاء. ذلك أنها معتمدة في المقام الأول على قدرات المتلقي بشأن التقاط الإشارات التي ترسلها. وفك شفرة الرسالة التي تقول إن هناك مرجعية قابعة في الخلف. ولذلك تجري التأويلات في إطار جماعات (مجتمعات) تواصلية معينة بمعناها الثقافي. فقد يكون هناك مواطنون يحملون درجة كبيرة من التقديس لسلطة دينيةٍ (مؤسسة أو هيئة معينة)، فهي مؤولة لديهم باعتبارها ممثلةً للدين ومرجعيةً للاعتقاد. ولكن إذا انتقلنا إلى جماعة تواصلية أخرى، فلن تكون هناك هذه الدرجة من التقديس تجاه تلك السلطة الدينية.

ما الجديد الذي حدث عندئذ؟ إن التأويل لم يعد يجدِ لتمرير الحقيقة، لكونه غير قابل للتأثير لدى الناس، وأن هناك تأويلات أخرى ستأخذ مكانه بحسب طبيعة الثقافة واختلافها. ومن ثمَّ، فإن خلخلة سلطة الحقائق لا يتم إلاَّ بواسطة إيجاد دروب جديدة للفهم والتأويل. كلُّ سلطة تخشي على نفسها من التأويل المختلف، فهي إذا كانت تتدثر بتأويل ما وتدَّعي براءتها مما تقول الحقائق، فهي تتحسس من ترك التأويلات في العراء الثقافي. العراء الذي هو مصدر رعب لكل أنظمة المعرفة والسياسىة والمجتمعات، وهذا يفسر كمية السيول الجارفة من المعلومات والأخبار في كافة المجتمعات ومع كافة جوانب الحياة، لأن مفتاح الحقائق مهدد بالضياع في التأويلات التي يمارسها البشر. فكلُّ عقل هو ملكة تأويلية بالضرورة ولا مفر له من ذلك. ولئن لم تؤول عقولنا جوانب ما نفكر فيه، فلن نفعل شيئاً إلا بالتأويل أيضاً، وفي التأويل تكمن الحقائق وتنتشر وتتلاشى بالمثل.

إنَّ أكثر ما يهدد سلطة الحقيقة هو كون تأويلها نسبياً، وليس من وجودٍ لأية سلطة مطلقة طالما تدور مع دوران الأرض حول الشمس. لعلَّ مجرد وجود قصة معينة حول واقعة تاريخية تناقض روايتها المعروفة مسألة بالغة الخطورة. والخطورة بشأن تحرير العقول من سطوة الحقائق التي سُوقت لسنوات وسنوات وبُنيت فوقها مفاهيم وصور أخرى منها. وهذا يستدعي أهمية طرح فكرة الشفافية وفتح روايات التاريخ وأضابير الوثائق، لأن سلطة الحقائق لن تُحصّن ذاتها إزاء أي تأويل. والتأويل مدخل إنساني لمعرفة الأصول وإخراج جديد لسناريوهات أخرى. ومن حيث تنتشر السلطة وتتحرك، تأتيها فيروسات مضادة عبر التأويلات التي تفتح العقول والرؤى على صور من الحقائق الأخرى.

***

د. سامي عبد العال

رغم ازدحام الذاكرة الثقافية العربية بالمهيمنات والكوابح، تبقى مهيمنة الماضوية هي الأنصع أثراً على طول تأريخنا الحديث، عصر ما بعد ثورة التنوير التي بدأت مع بداية انقشاع الاحتلال العثماني عن الأراضي العربية.

ولعل أنصع صور تلك المهيمنات الماضوية، التي كان لها أفدح الأثر في ذاكرتنا وتكويننا الثقافيين، كان الموقف المتصلب، بل والعنيف الرافض للفلسفة، والتصدي لها عبر كافة المنابر المتاحة، وأولها الكتب التي ألفها الفقهاء في نبذها وتهافت أصحابها… بل وحتى تحريمها.

لسنا هنا بصدد استعراض تأريخي لمراحل بناء هذه المهيمنة، بل نحن بصدد استعراض حجم أثرها في بناء وتكوين المدونة والذاكرة الثقافية العربية، بمردوداتها الزجرية والتحجيمية للرؤية والتفاعل وبناء الفعل الثقافي، وبالتالي الفكر والفعل الحضاريين.

وبعيداً عن البنى والتصنيفات المرحلية، وكذلك بعيداً عن البنى المفهومية والاصطلاحية، نقول إن الهجمة ـ هجمة النبذ والتحريم ـ التي وجهت إلى الفلسفة من قبل فقهاء عصر ازدهار الإمبراطورية الإسلامية ومن تلاهم، قد عمل على حصر تأسيس الذاكرة الثقافية العربية ضمن الإطار الفقهي وحرمها ـ ترهيباً ـ من أهم قواعد بنائها، ألا وهي الفلسفة، التي تمثل المنطلق والركيزة الأساسيتين في التأسيس الثقافي، فعلاً ومدونة وذاكرة.

ولا يختلف اثنان اليوم على أن ما نعانيه من تخلف ثقافي مرده عدم وجود القاعدة الفلسفية الراسخة في بنيتنا الثقافية، التي هي أساس توجه ونضوج كل مشروع ثقافي وطريق صيرورته وصيرورة جهده الفكري وصيغة بناء إنسانه ومشروعه الحضاري.

الذاكرة الثقافية العربية، ورغم كل ما يحاول البعض تلميع واجهتها، إلا أنها فعلاً لا تحكمها غير المهيمنات الترهيبية من فعل التفلسف والرؤية الحصرية لمقتضياته وأهدافه؛ ولهذا، وبعد مضي ما يقرب من ثمانية قرون على سقوط بغداد على يد هولاكو، وبعد خمسة قرون من الهيمنة الثقافية العثمانية، نجد أنفسنا بلا مرجعية فلسفية تسندنا ونعود إليها من أجل تأسيس مشروع ثقافي نعيد استنهاض أنفسنا من خلاله، ونعاود وقوفنا، على ساحة الوجود الثقافي والحضاري، ويعبر عن أصالة فكرنا وتجذره الواقعي في خريطة الفكر والتحضر الإنسانيين.

صورة فعل التفلسف مفزعة في الذاكرة الثقافية العربية، وهي، ورغم كل محاولات التشخيص والمداواة لها، خلال القرن العشرين، من قبل نثار كتابات المثقفين والمدونة والدرس الأكاديمي العربي، إلا أنها مازالت تقف أو تنزوي داخل ذلك الإطار العتيق الصلد من كوابح النبذ والهجر، ولهذا ظل فعل التفلسف وعملية تأسيس رؤى ومناهج ومدارس فلسفية عربية خالصة، مطلباً بعيد المنال، إن لم نقل يعجز العقل العربي عن الإتيان به وإنضاجه، كأساس ومرجعية فكرية وثقافية.. وربما لهذا السبب، بالدرجة الأولى، نجدنا أمام حالة نكوص (كي لا أقول فراغ) ثقافي، وبالتالي حالة التخلف الحضاري التي نعيشها الآن، والتي تفصلنا بقرون، علمية وتكنولوجية وحضارية، عن باقي دول العالم، في شماله وجنوبه. ولعل مثال النهضة الأوروبية، بعد تخلف القرون المظلمة التي مرت بها أوروبا، والتي قامت ـ النهضة ـ على جذر الفلسفة اليونانية، خير مثال على ما نقول . ولننظر بالمقابل إلى ما جوبهت به ترجمات مسلميّ عصر ازدهار الدولة الإسلامية لكتب الفلسفة اليونانية من هجمة (أغلب المترجمين كانوا من المسلمين غير العرب، وكذلك من تصدوا لشرح كتب الفلسفة وأول محاولات التفلسف وإرساء قواعدها المعرفية والمنهجية والرؤيوية في الحياة الثقافية للمجتمع المسلم) من قبل بعض الفقهاء، الذين سعوا لتحصين اعتراضاتهم وهجماتهم باجتهادات تحريمية وترهيبية، من أجل قطع الطريق على عملية تأصيل الفلسفة في الفكر والثقافة العربيتين، كقاعدة انطلاق للنظر والمعرفية والثقافية.

ولعلنا لا نغالي إذا ما قلنا إن محدودية نظر العربي، في بداوة ما قبل الإسلام، وبالتالي محدودية واقتصار وسائل تعبيره الذاتية على جنس الشعر، قد كانت من بين أهم أسباب عدم نضوجه الفكري ووصوله إلى عتبة النظر الفلسفي، إلا أن انفتاح ما بعد انتشار الإسلام، وما رافقه من أوجه المثاقفة والتلاقح والانفتاح على ثقافة الآخر (المسلم وغير المسلم)، الذي كان من المفروض أن يهيئ العقل العربي لمخاض فلسفي/تنويري يوازي حجم النمو السياسي والاقتصادي الذي رافق اتساع رقعة الإمبراطورية الإسلامية، لم يكسر وضع الانغلاق المثخن الذي رسبته قرون عزلته البدوية في شبه جزيرة العرب، وتقوقع رؤيته، وانغلاق وعيه على حدود معيشه اليومي شبه البدائي.. وبالتأكيد فإن هذا ما أثخن الوعي العربي، حتى بعد الغنى والنمو التجاري الذي حققته الفتوح الإسلامية، على حالة من الركود والتعصب لكل ما يهز القناعات الراسبة والمتجذرة، التي كان عنصرا الشك والاختبار، اللذان يقوم عليهما النظر الفلسفي، من بين أول أعدائهما المزعجين والمقلقين.

وهذا يعني، بطريقة غير مباشرة، أن الوعي الثقافي العربي (إذا جاز لي التعبير)، كان ينوء تحت أحمال مضادة، بما يمنع التوسع لبناء وعي جديد، له القدرة على تقبل ثقافة جديدة ومغايرة، تخرجه من حالة الركود الارضائي إلى حالة من قلق النظر التي تقوم على الشك وإعادة الاختبار لكل مألوفاته، من القناعات، وهدم كل صروح مسلماته من أجل إعادة بنائها من جديد، وربما تركها معلقة في الهواء، وبالتالي تركه بلا سقف يراه.. وعليه فإن هذا هو ما ترك الذاكرة الثقافية العربية بلا مرجعيات ومدونة فلسفية تنزع وتدفع لتأسيس مشروع ثقافي نتطلع إليه منذ اللحظة الأولى لبدء مشروعنا التنويري، الذي يتراجع كل يوم خطوة إلى الخلف.

***

سامي البدري

(في مجال النظر الفكري الخالص كثير من كبريات القضايا المقامة على مغالطة المعاني أو الثاوية وراء مخاتلة اللغة ومكر الخطاب، لا يفكك تلبيسها إلا السؤال الساذج كتلك السذاجة التي نلج بها خيمة الفلسفة)..عبد السلام المسدي

يجدر النظر الآن بعين واحدة، والذهاب إلى القول، أن الثقافة والعولمة يفترقان. أما ما يجمعهما فأكبر من الفرقة ذاتها. إذ يشكلان عقلا مكتمل الأركان والبنيان. أولا، في تمثلهما لطبيعة الحيز والمضمار الذي يشغل وحدتهما في المعرفة والتداول الفكري والانتماء للعالم. وهو شق يتغافل عنه أصحاب التخصص والاعتبار، مع أن مقاربته من الزاوية المسكوت عنها، هو أصل الجدل والنقاش المنتشر.

وثانيا، في انتقالهما من مجرد واجهة للترميز والاسباغ بالهوية والتحدد بطبيعة الثقافة، إلى تشكل رؤية بالشراكة، تضع العلامات وتصفها وتتحول بها ومعها إلى موطن إنساني وكوني ينثني على مجموعة أنماط وخلفيات سياسية واجتماعية ونفسية وحضارية.

لماذا تتحيز مفهومية الثقافة لكل ما هو شمولي. في قصديتها لقراءة العولمة، وفي تبديلاتها للفروق الشاسعة والمناورة التي تضعها الثقافات المعولمة، على إيقاع "السلطة السياسية " "ومنظومات العولمة الأخرى والموازية" أو ما يطلق عليها أحيانا ب" العولميات الدولية"؟.

إنه كثيرا ما يثار مشكل التعريف السوسيولوجي لـ"العولمة الثقافية"، هل تحدده "عملية توحيد السلع الثقافية المستهلكة في "القرية العالمية"، أم التأسيسات المرجعية الموحدة لتلك السلع المنظورة الخاصة ب "التعبيرات الثقافة ، والتنوع الثقافي ، والخصوصية الثقافية ، والتعددية الثقافية".؟. بالإضافة إلى ما يمكن تعميمه حول ما تولد عن هذه المفاهيم ، مثل الجغرافيا السياسية أو الحكم"" أو "الثقافة المفرطة".

يستبصر الباحثان الفرنسيان جان تارديف وجويل فارشي في كتابهما المشترك "تحديات العولمة الثقافية"، الصادر بباريس عام 2006، أشكال تنظيم التقابلات بين الثقافة والعولمة، من منطلق طرح أسئلة محورية، حول ماهية المساحات الجيوسياسية الجديدة الناتجة عن العولمة، في ضوء الديناميكيات العالمية الراهنة، وكيف تتطور الثقافات المختلفة واستراتيجيات مقاومة الهيمنة الثقافية، مع تسليط الأضواء حول تداعيات تكثيف التبادلات الدولية ومخاطر التجانس الثقافي؟؟.

ويرى الباحثان، أننا بإزاء هذه الأطاريح المتشعبة، لازلنا نتعامل مع العولمة الثقافية من منظور شبه نقدي أو شبه بناء ، مشككين في الآن ذاته، فيما إذا كنا نواجه شكلاً استطراديًا جديدًا ، مثيرين أشكالا من المذهبيات الشائعة، المرتبطة بالأمركة والتسليع والإمبريالية.

وكيفما كان الأمر ، فإن التعامل مع موضوعات "الأمة والهوية الوطنية والسيادة "باعتبارها بنايات رمزية للخيالات الإبداعية أو اليوتوبيا، هو ما يفرض، حسب جان تارديف وجويل فارشي، وضع السياقات المتداولة، ضمن خصوصياتها المرجعية والثقافية، بعد ظهور ما يسميانه ب" الاضطرابات الناجمة عن ظهور تقنيات المعلومات والاتصالات"، ما يفرض بالتالي، إعادة تعريف مفاهيم "المسافة والقرب" ، وفهم خصوصيات الفضاء الإعلامي والثقافي المعولم، داخل حيز رمزي يطلقان عليه "القارة السادسة".

ووفق هذا المجال، يعتبر الكاتبان أن التجانس بين الثقافة والعولمة ، لا يزال سطحيًا بشكل نسبي، بل إنه يمثل خطرًا أقل بكثير من التهميش الخبيث للمساحات الجغرافية الثقافية الأخرى.

ومع أن انفتاح العولمة على عالم الثقافات سيظل عائقا في القابليات الفكرية والثقافية ، وشكلا من أشكال الترويج والاستلاب والبروبجندا المضادة، إلا أن اللامركزية الموصوفة بها ستبقى أمرًا ممكنًا. وهو ما يلتقي مع نظرائهما في التنظيم لهذا التمايز الخفي والظاهر، خصوصا لدى جيرار لوكلير في كتابه (العولمة الثقافية)، وأرماند ماتيلارت في كتابه (التنوع الثقافي)، أو حتى المفكر الأمريكي صامويل هنتغتون في كاتبه (صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي).

فهل تشيح أشكال فرض عولميات ثقافية مكرسة للهيمنة والتسلط ، عن مطالب التفرد بالخصوصية الثقافية، على الرغم من تغير أنماط الاستهلاك والممارسات الثقافية ، وصمود مناحي التنوع اللغوي والديني في المجتمعات المختلفة؟ أم أن العولمة الزاحفة ستفرز أنساقا وقطائع مهجنة، تسمح بالنفاذ السلس للأشخاص والبضائع والأفكار ، بما يؤمل لإشاعة قاموس "توحيد الثقافات" و"حوار الأديان" وما إلى ذلك؟، وهو المظهر السياسي الثقافي الجديد لخلاصة ما تقيم عليه الحضارة الغربية، مقولاتها المغرية لتبني نظرية التحويل الحداثي والنظام الثقافي الواعد ، وتحرير العقل واستحضار روح العصر. وهو المطمح الذي تتأسس عليه كل نظرات الغرب تجاه المحيط الإقليمي والدولي، ويمكن التمثيل هنا بأطروحات فرانتس فانون وإيمي سيزير وجان فيليب أوموتوند ، الذين يفككون مشكلات ما يسمونه ب"الاغتراب الثقافي للكاميت (السود) l'aliénation culturelle des Kamits (Noirs)؟، وما وراء فرض رؤية الغرب بإزاء ذلك، وبكل الوسائل، خصوصا فيما يخص مفهوم "الأنا الأفريقية".وعن خلفيات وجذور "العدوان عليها وما وراء ذلك؟ .

***

د مصْـطَفَى غَلْمَان

ما الذي يُضير في أنْ يكون العقلُ عقلاً والدينُ ديناً؟! حيث يُوجد خلطٌ واضح بين حدود (العقل) وحدود (الدين)، تلك المشكلة التي دعت بعضَ أقطاب الفكر الإسلامي والمسيحي لإيجاد التبرير والتوفيق بينهما. فأحدُهم قد يحاول ايجاد سببٍ لهذا الوضع أو ذاك، وآخر يقاربُ المسافةَ المشتركة، وغيرهما يقفز من داخل الدين إلى فضاءِ العقل والعكس. مؤكداً على أنَّ الحدود بينهما مرنةٌ، وليس هناك ما يُعكر صفو العقل بسبب الأديان، وليس هناك ما يدعُو لحذر الأديان تجاه العقل!!

مع أنَّ الموضوع برمته يندرج في دائرة "خلق المشكلات" الوهمية. فإذا كان هناك اختلاف- كما يقول لسان الحال- بين طرفين، فينبغي وجود اتفاق من باب الإمساك برأسي الحقيقة. لكن دوماً هناك رؤوساً متعددة للحقيقة رغم أننا نصر في غالب الأحيان على وجود رأس واحد أو رأسين على أكثر تقدير. إنَّ افتعال مشكلة العقل والدين هو المقدمة التي قد تفرز نتائج مقبولة سلفاً. نتائج متعلقة بإثبات ما نعتقد وما نتصور صحته بصرف النظر عن التفكير النقدي في المسألة. هذا الأسلوب المعروف عندما تكون الأفكار غيرَ قابلةٍ للتحقُق وتميلُ إلى الأوهام. وكأننا نحاول جمع طرفين نراهما ضروريين للحياة والمجتمع. ويصبح القولُ العام كالتالي: إنَّه لئن جرت العادةُ على افتراض الجمع بين العقل والدين، فيجب أنْ يجري الفكرُ بالتبعية في الإتجاه نفسه!!

ثمَّ فجأةً ندرك أنَّ صناعة المشكلة (حدود العقل والدين) سحبت خلفها محاولات من الكر والفر، ورسمت ميداناً كلامياً (كما في الفكر الإسلامي) وحقلاً فلسفياً (فلسفات أوروبا الوسطى) لمعالجة قضايا غير دقيقة أصلاً. ولعلنا نلاحظ من حيث المبدأ أنَّ خلطاً كهذا لا يظهر إلاَّ في أجواءٍ ثقافيةٍ شائكة. أجواء تعلو فيها أصوات الجدل والنقاش حول قضايا مُثارة من لا مصدر بعينه، وتسودُ فيها الإتهامات وصراع العقائد، سواء أكانت خلال فترة إزدهار الفكر الإسلامي أم خلال انتعاش الفكر المسيحي وتماسهما مع الثقافات الأخرى. وضمن الجانبين، ظهر حاملوا لواء التوفيق والتلفيق بين العقل والدين، إذ لم تخلُو معالجة القضايا من مماحكات فلسفيةٍ دون واقع فعلي.

وكذلك يفترض خلطُ العقل والدين وجود (مرجعيةٍ ما) هي المسئولة عن ذلك التداخل وتحاول توظيف الخلط عبر خطابٍ سيُقال إنه خطاب عقلاني أو معتدل لرؤية الواقع وممارساته. ولذلك، فإنَّ المفكرين والفلاسفة الذين يأخذون بالتوفيق بين الدين والفلسفة يعتبرونه توفيقاً بالنسبة لكذا. وكذا المقصودة هنا هي الشريعة أو هي ما ستقوله مرجعيةٌ لاهوتيةٌ أو أيديولوجيا ما أو مرجعية عقلية بعينها. والملاحظ أنَّ معادلة التداخل تتم وفقاً لثقل إحدى طرفيها (الدين مثلاً) على حساب الآخر (العقل). ولكن ليس ذلك مهما بالنسبة للمتابعين، إنما الأهم أنَّ خلطاً كالخلط السابق يقلص رقعة الحرية الإنسانية ورقعة العقل ورقعة الشريعة معاً. لأنَّ التوفيق بين الفلسفة والدين يحدث على حاشية أنَّ الدين يفسحُ المجال لإعمال العقول والتفكير، ويطلقُ قدرات البشر... فهل ذلك صحيح؟!

الأمر غير صحيحٍ، لأنَّ القضية لا يجب أنْ تقال هكذا، فالدين ليس عقلاً ولن يكون. هو إيمان وطاقات مفتوحة للتعالي الحُر، وقد يرتبط بالاعتقاد المقيد (بمصادر ما) تبعاً للظرف الثقافي الغالب. وهناك فارق جوهري بين كون الدين عقلاً، وهذا ما لا يُحتمل بالنسبة للإنسان، وكون الدين يسمح بالتعقل. الدين عقل..عبارة متناقضة الحدود والجوهر والدين متعالٍ وفوق مستوى الوعي البشري، بينما حين يسمح الدين باستعمال العقل، فهو مسألة نسبية ومتوقفة على سلطة الدين.

إنَّ الدين بمثابة الدين هكذا فقط موصوفاً بذاته لا بغيره. وهو كإيمان سببٌ كافٍ بنفسه لأنْ يُسمي الدين بالدين دون إضافةٍ ودون علاقةٍ. فهناك أُناس أحرار يقبلون إيماناً على النحو الطلق، وهناك آخرون مقيدون حرفياً بتعاليم ورسوم فرضتها الأديان جمعياً. ولذلك قد يؤمن الناس تلقائياً، وليسوا مطالبين بتبرير ايمانهم، لأنه إيمان غير قابل للتبرير. وربما لو حدث تبريرٌ في هذا السياق، لفقد الدين معناه بالنسبة لصاحبه. بينما العقل هو قدرة الانسان على التفكير، وتدعيم أساسه الممتد نحو الإدراك والمعرفة.

والأساس العقلي عادةً ما يُبرر نفسه بنفسه كذلك لا بشيءٍ سواه، فلا يُوجد عقلٌّ دون أنْ يرجع إلى منطلقاته بلا وصاية. ولو رجع العقلُّ إلى سواه، فهذا يلغي وجوده ويعتبر ذاته عالةً على شيءٍ آخر. إذن الاثنان (الدين والعقل) لا مجال للمقارنة بينهما، هما مستقلان بحكم الطبيعة الذاتية لكل منهما، هما كافيان لممارسة وجودهما المستقل. وبالتأكيد سيتنافران إذا كان أحدهما حاكماً للآخر، لا لكونهما غير قابلين لذلك الصراع، بل لأنهما مجالان مختلفان، حتى أنَّ التوقف إزاء أحدهما يستدعي بالضرورة التوقف إزاء الثاني.

إنَّ التوفيق بين العقل والدين يثير مشكلات أكثر مما يقدمُ من حلول. فلو كان أمرُ التوفيق سهلاً هكذا، فهل يمكن قياس الدين بالعقل؟، بل حتى: هل يمكن قياس بعض الدين ببعض العقل.. ولكن سيظل السؤال لحوحاً: ماذا عن الباقي؟! وهل يعد العقل حجةً على الدين؟ وكيف سيكون المحدود حجة على المطلق؟ وما الجوانب العقلية التي تتوافق مع الدين، وما الجوانب المغايرة التي تختلف؟ وما حدود التوافق بينهما وما حدود الاختلاف؟ وبناء على أي معايير يتم النظر إلى الجانبين؟ وإذا كانا متوافقين، فلماذا يختلفان إبتداء مثلما نفترض ضمناً؟!

غير حقيقي أنَّ العقل يوافق الدين، وليس ضرورياً أنْ يوافقه، بل وليس مطلوباً أنْ يوافقه بأي حالٍّ. قد يكون التلاقي بينهما من زاوية الاعتراف بمصدر كل منهما في الجانبين (إيماناً واعتقاداً). إذ يُقال إنَّ الدين مصدره الله والعقل ملكة الإنسان المخلوق للخالق البارئ، فلا تناقض إذن لكونهما معلولين لعلةٍ واحدةٍ. وهذا- لو نلاحظ- يتم بناء على الإيمان أيضاً.

ولكن على مستوى الممارسة يتضّح أنَّ هناك مسارين مختلفين لكلٍّ منهما، ولن يلتقيان بسهولةٍ ويُفضَّل ألَّا يلتقيان نظراً لاختلاف الوظيفتين. فالعقل يسعى إلى الوضوح والفهم والتدليل والتداول والقدرة على التنوع والتغيُّر والإتساق المنطقي، غير أنَّ الدين يسيرُ وفقاً للتسليم وينتشرُ تبعاً للإعتقاد ويدعو إلى السكينة واليقين ولا يتسق منطقياً. وأبرز ما فيه أن يضاد ما يفعله العقل، والتضاد شيء تلقائي وليس مفاجئاً. ولذلك نشأت ثنائية فلسفية (الإيمان والعقل)، كما يُقال تبادلياً: (أمنْ ثمَّ تعقل أو تعقل ثمَّ أمنْ). في محاولة لإضفاء الإنتظام على تصرفات البشر. ولكن مهما كان الاختيار بين الطريقين أولا أو أخيراً، فالهدف هو ما يقرن الاثنين رغم أنه لا يخفي التباين بينهما، بل قد يشير الاختيارْ إلى استقلالهما منذ البداية أكثر من أي شيءٍ آخر.

يرتبط الدين خارجياً بالوعظ والدعوة في إيصال رسالته للآخرين، معتمداً على ملكتي التصديق والتيقن لدى الإنسان. والوعظ هو قدرة المتكلم لأنْ يقول كلاماً متشبثاً بسلطةٍ أعلى أمام الآخرين، مُزوِداً كلامه بماء الاعتبار لهذه السلطة المتوارية خلفه. بحيث تمتزج هيمنتُها بالكلام، وبحيث تعدُّ جزءاً لا يتجزأ من معناه ومن القبول العام للآراء المطروحة. ويلجأ وعاظ الأديان إلى الخطاب الأخلاقي المتمسح بكم من النصائح والهدهدة العاطفية، والأخيرة لا تلوي على شيءٍ سوى الاستعاضة بجوانب نفسية عما فات الإنسان من تفكير إزاء المواقف والأحداث.

ومن ثمَّ، أخذت تنتشر عبارات خطابية زاعقة مثل: "عليك أنْ تتفهم كذا.. وكذا.." أو أنه.. "يجب الالتزام بهذا المعنى الواضح دون غيره " أو " أنني أكثر معرفةً منك .. وعليك أنْ تكون على مستوى توقعاتي "،... " خذْ هذه الأقوال والكلمات ولا تناقش بعد ذلك" .. " نحن نقف على اليقين الكامل دون شكٍ "... " الحقيقة ناصعة، ولا تحتاج إلى دليل".. " حبذا لو تلجأ إلى قلبك وتطمئن إلى مشاعرك".. " لماذا كل هذا العناء، الحقيقة قريبة منك كأنفاسك بين جنبيك"... وكل هذا هو نموذج " الوعظ والإرشاد " الذي لا يستأذن العقل.

الدين لا يُسمى ديناً إلاَّ إذا أدان كيانَ الإنسانِ من جهةٍ، ودان الإنسانُ به من جهةٍ أخرى. وهذان الجانبان لا ينفصلان ولا يفترقان عند المؤمنين حيث لا يشعرون بأية تناقض في هذا. أدان الدينُ الإنسانَ، لأنه يظل حجةً قائمة على الإيمان ورباطاً مقدساً وثيقَ الصلة بالمصدر الإلهي. ويَدين الإنسانُ به لكونه إلزاماً وواجباً نتيجة الشق الأول. ولكن لو قسنا هذا على العقل، فلا يقر ذلك، لأنه لا يمتلك اليقين نفسه، لكي يمنحه إلى الإنسان وملكاته. كلما قال الدين إنَّ هناك عالم الغيب الذي يجب التسليم به، يريد العقل التطفل والاطلاع عليه، وقد يُرسل حواسه لتعقب الفكرةَ، فيعود حسيراً وخائباً.

ولذلك لا يوجد المعنى الديني للعقل في الفلسفة، أي لا توجد آلية الوعظ وسلطتها، لكون التفلسف قائماً على الحوار والمناقشة والنقد لأفكار الناس والفلاسفة، والقدرة على تقليب المعاني مع وجوهها المتعددة. والعقل الفلسفي عقل تساؤلي بإمتياز. فلماذا لم يكتب كانط كتاباً في نقد العقل الديني، رغم كونّه بصدد اشكالية العقل؟ هل مصطلح (العقل الديني) منطقي إنْ ربطناه بالعقل؟، لقد حلل الفيلسوف الألماني العقل كمفهوم وآلية تفكير في كتابه"نقد العقل الخالص". وكتب في جوانب الأخلاق كواجب يتجاوز اختلاف الإنسان عن غيره" نقد العقل العملي"، وأخرج تفرقته الشهيرة بين الجليل (المقدس) والجميل "نقد ملكة الحكم". بيد أنه لم يطرح تصوراً حول ما يُسمى بالعقل الديني وأساليب تفكيره، لأنه عقل غير ممكن.

لقد وضعَ كانط الدين في حدود العقل كإمكانيةٍ بشريةٍ يجوزُ التفكيرُ فيها وممارسة طقوسها العقلانية إنْ صح التعبير. لكنه لم يبرر ماهيةَ الدين، ولم يتعقل معتقداته على غرار الأفكار والتجارب. وعليه لم يسْلم ما يُطلق عليهم " المفكرين" لدينا من هذا الوعظ والإرشاد، ونزع أخر أوراق (الحياء الفلسفي) أمام الجماهير التائهة التي تنازلت عن عقولها.

***

د. سامي عبد العال

كيف حالك؟ انت تسأل صديقك لم تره منذ شهور. يجيب "بخير، مشغول". "وماذا عنك؟" انت تجيب "مشغول جدا". جميعنا اعتدنا على مثل هذه المحادثات،على مشهد يقف فيه الناس طويلا على أقدامهم، يسرعون من أجل تلبية موعد او انجاز عمل ما. الإنشغال (busyness) يبدو شيئا لا مهرب منه في الثقافة الرأسمالية الحالية، ولكن ما هو الشيء الخطير في الإنشغال؟ لماذا الحرص على جعل الناس واعين بحجم الإنشغال الذي هم فيه؟

لنقف لحظات مع هذا المقطع السريع من القرن التاسع عشر للفيلسوف الدانماركي كير كيجارد(1813-1855)...." من بين كل الأشياء السخيفة، يبدو لي ان ما هو أكثر سخافة، هو ان تكون منشغلا – تكون شخصا ما متلهفا بنشاط للحصول على الطعام اوالعمل. لذلك، متى ما أرى ذبابة تحط في لحظة حاسمة على انف مثل هذا الشخص المنشغل بالتجارة والأعمال، او عندما يكون ملطخا بالوحل بفعل مرور مركبة مسرعة تسير خلفه، او عندما تُفتح بوابة أمامه، او بلاطة تسقط فوق رأسه، عندئذ سأضحك من القلب بكل حرارة ".

كتب كيركيجارد هذه الكلمات ضمن عمل رائع من منظور أحد الشخصيات عام 1843 بعنوان (اما/او: جزء من الحياة). الجزء الاول من العمل كُتب من منظور شاب جميل وقاسي اسمه A بينما الجزء الثاني كُتب من منظور قاضي اخلاقي اسمه vilhelm.

الاقتباس أعلاه جاء من الشخصية الاولى A الذي هاجم الإنشغال واعتبره معيبا واعتقد ان الجواب الملائم له هو الضحك، لأنه أفضل طريقة لتجاهل أهمية الشخص المنشغل. الناس المنشغلون يملأون وقتهم بالغطرسة، دائما يجدون اشياءً للعمل – اعتادوا على القول "انا لدي وقت محدود" – لكن هذا النشاط الذاتي هو ببساطة وسيلة تافهة للهروب .

في اثينا القديمة كان العمل لطبقة العبيد، اما الاقتصادي الامريكي Thorstein Veblen يصف في نظريته عن الطبقة المترفة، ان الطبقة المرفهة والغنية في القرن التاسع عشر تجنبت العمل. هذه الطبقة اعتبرت الكسل كقيمة مثالية. بالمقابل امريكا المعاصرة مجّدت الإنشغال بالعمل واعتبرت الافراد المنشغلين يتمتعون بصفات الكفاءة.

ان تكون مشغولا لا يعني بذاته شيئا جيدا . فمثلا، الانشغال يُنظر اليه كشيء ضار لصحتنا البدنية والعقلية. هناك ايضا مفهوم (فخ الانشغال) الذي يجعلنا غير متأملين بالذات، غير صادقين، ونفتقد للتركيز. ومع وجود وقت محدود و عدد لا محدود من الواجبات والمهام التي تنتظر الإنجاز، وفي ضوء تقدم التكنلوجيا وزيادة مقدرتنا على الانتاجية، يبدو ان الانشغال سيبقى ويستمر معنا. لذا، كيف نتجنب ضياع أنفسنا في دوامة الإنشغال هذه؟

حاليا، أصبح الانشغال وسام تقدير للناس. لكن وفق رؤية A، الناس "المنشغلون" يتجنبون مواجهة الفراغ العام في وجودهم لكي يصرفوا أنفسهم عن الأسئلة الهامة حقا، مثل منْ هم وما الغاية من حياتهم. لديهم كل شيء هام ولكن لا شيء هام ابدا. وهكذا يكون الشخص المنشغل سخيفا.

قد يجادل البعض، انه ليس كل شخص مشغول باختياره. احيانا الظروف تجعل من الوقت شيئا نادرا ومصدرا ثمينا. وعندما نأتي الى نهاية يوم طويل، متأملين منْ نحن وما الغاية من حياتنا من الأفضل التوقف عن العمل والاسترخاء مع التلفزيون. ولكن يجب ان نتذكر وصف كيركيجارد "للشخص غير السعيد"، الذي جاء في الفصل الاخير من (اما/او: جزء من الحياة):

"الشخص غير السعيد هو الذي تكون مُثله، محتوى حياته، امتلاء وعيه، جوهر وجوده، بطريقة ما خارج ذاته. الشخص غير السعيد دائما غائب عن ذاته".

هذا المقطع يقترح ان استثمار كل شيء لدينا في الأحداث الخارجية، وفي الناس والاشياء هو طريقة مؤكدة لعدم السعادة. بدلا من ذلك، من المهم جدا إعطاء الاهتمام لنفسك، لأن فهم ما هو مهم لك هو اول خطوة في معرفة كيف تجعل حياتك أقل انشغالا – حيث ستعرف أي الأشياء تتخلى عنها، وأي منها تعطيها الوقت الملائم والعناية والانتباه. بهذا ستعرف من أنت وما الغاية من حياتك؟

كيركيجارد نظر الى التغيرات السريعة في المجتمع والثقافة: صعود التصنيع، انتشار الاصلاحات الديمقراطية، ظهور الصحافة اليومية، والتزايد في زخم الاتصالات، وتقلّص العالم وولادة عولمة الرأسمالية. هو ايضا وفي ضوء هذه التغيرات الخطيرة كان يتوقع الأشياء قبل حدوثها بشأن الاتجاه الذي يسلكه المجتمع.

احدى المخاوف الخطيرة لدى كيركيجارد هي ما بدا عليه المجتمع من انشغال مشتت للانتباه.

يرى كيركيجارد ان الانشغال يصل ذروته في ضياع الوقت. هو يكرر هذه المشاعر في رسائله عام 1848،حين شجب الثمن الباهض الذي دفعه عصره للإنتاجية والانشغال، كون ذلك يحط من قيمة اولئك الذين لايستطيعون مجاراة سرعة الانشغال، وانه بالنهاية، سيكون الانشغال والأكثر انشغالا الذي يطمح اليه الناس، هو مجرد كونهم منشغلين بضياع الحياة وفقدان الذات. لذا فان الانشغال ضمن هذه الحلقة الدائرية يجعلنا نخسر حياتنا ونفقد ذاتنا .

بهذه الطريقة، بالنسبة لكيركيجارد، الانشغال هو طريقة زائفة للهروب من ذواتنا وحياتنا، وطريقة لتجنب التفكير بخياراتنا وتقرير ماذا نريد ان نعمل،ومنْ نريد ان نكون. هو وصف الانشغال بـ "وسائل تسريب" لتجنب مواجهة الذات، وللحيلولة دون ان نصبح ما نريد. الشخص المشغول وُصف كحامل لـ "مرآة " كرمز للتأمل بالذات، لكن الناس في انشغالهم هم نادرا ما يكون لديهم وقت للنظر في هذه المرآة، واذا فعلوا، هم ينسون الصورة التي يرونها في عجلتهم. اثناء انشغالهم تكون هذه الصورة شديدة الضبابية، وان الذات الأصلية التي يمكن ان يكونوا فيها تظل مجرد احتمال.

اذاً كيف نتجنب الانشغال؟ في (أعمال للحب،1847) يضع كيركيجارد تمييزا ملائما للكيفية التي يجب ان ننظر بها الى انشغالنا اليوم. يسأل كيركيجارد:

"ماذا نعني بـ مشغول؟ الشيء المألوف ان الاسلوب الذي ينهمك به الفرد هو الذي يقرر ما اذا كان يسمى مشغولا. لكن هذا ليس هو الحال" . بدلا من ذلك، كير كيجارد يشخص الانشغال باعتباره معتمد على الهدف من انشغال المرء. أي ان الانشغال لا يُعرّف بالطريقة التي تنجز بها المهمة (بخصائص اللااستقرار والتسرّع) وانما بنوع المهمة وعلاقتها بالفرد. هو يرى:

"ان تكون منشغلا هو ان تشغل نفسك، وتنقسم وتتشت مع كل التعدد الذي به يستحيل للفرد ان يكون كاملا .. ان تنشغل بما يجعلك منقسما ومشتتا". يرى كيركيجارد كون الفرد منشغلا يعني كونه منقسما ومشتتا، منخرطا بعدد هائل من مختلف الاشياء ومندفعا خلالها بسرعة . التشظي بالانتباه يؤدي الى نوع من تشتت الذهن او الذهول، وفقدان التركيز، وان افتقار الاتجاه لدى الفرد يؤدي الى ضياع حياة المرء وخسران ذاته. اذا اردنا تجنب هذا، يرى كيركيجارد ان الانشغال المشتت للذهن يتطلب استجابة دينية. المرء يجب ان يتوقف لكي يجد الطمأنينة والهدوء اللذان يسمحان بالتأمل بالذات.

فقط عبر التوقف بسكون وصمت يمكن للمرء ان يرى بشكل صحيح الصورة المنعكسة في المرآة: يرى ما يمكن ان يعمله،ومنْ سيصبح. ولهذا يمكن للفرد ان يتجنب الانشغال من خلال التركيز على شيء واحد بدلا من إلهاء متعدد الأشكال تقدمه لنا الحداثة.

***

حاتم حميد محسن

كنت طرحت على نفسي سؤالا لغويا استشكاليا متداخلا مفاده: هل صوت الحرف باللغة اية لغة من اللغات المعاصرة هو ابجدية نحوية؟ ام هو خاصية الافصاح عن معنى الصوت؟ هنا يكون رسم الحرف الابجدي النحوي كتابة يحمل دلالة خاصية المعنى المجرد من الصوت المنطوق جهرا.

الحقيقة التي لا يمكننا اغفالها هي ملازمة رسم الحرف للصوت والاختلاف النحوي بينهما هو في معنى الصوت سواء كان الصوت منطوقا أم مكتوبا غير مرسوم.

الفرق بين الحرف المكتوب ضمن نص طباعي لغوي مقروء تداوليا هو ملازمته لصوت له معنى. لا توجد ابجدية قرائية حروفها بلا صوت دلالي له معنى.

اما في رسم الحرف اللغوي على جدار او داخل لوحة فهو يمتلك التعبير المقصود واحيانا يكتسب الجمالية الفنية على حساب فقدانه الصوت الدال الخفي او المسموع. فالحرف داخل نص مكتوب طباعة هو غير الحرف داخل لوحة تشكيلية، فالصوت في كلا التوظيفين هو بلا صوت لا منطوق ولا صامت.

وجدت جوابي الخاص بي ان رسم الحرف غير التشكيلي يشير الى ابجدية نحوية يلازمها صوت له معنى. رسم الحرف بالابجدية اللغوية هو شكل رمز يحمل دلالة صوتية ذات معنى. الحرف الابجدي عماد الكتابة وكي يتوفر على هذه الميزة ضروري ان يكون مرسوما بشكل متفرد عن غيره من حروف لغة ما، والثاني ان يحمل الحرف الابجدي دلالة صوتية ايضا متفردة ليس شرطا صوتا منطوقا لسانيا، والثالث والاخير ان الصوت المدّخرالذي يحمله الحرف نطقا او صمتا يشير الى معنى محدد مقصود. صوت الحرف عند الانسان هو من ضمن نحو لغوي بينما الاصوات التي تطلقها الحيوانات تحمل في بعضها فقط معنى وغالبية اصوات الحيوان لا معنى لها حتى داخل نوعها كونها تتسم بالعشوائية التي لا يحكمها تفكير عقلي كما هي عند الانسان.

شكل الحرف اللغوي الخاص بالانسان سواء اكان مجردا من قيمته الجمالية الفنية داخل لوحة او عمل فني تشكيلي يؤطره عمل فني. في انجاز تشكيل لوحة خط او لوحة رسم فنون تشكيلية. اي عندما نرسم الحرف كتابة ضمن نص مقروء او منطوق مكتوب، او نرسمه باسلوب فني كما هو  في التوظيف التشكيلي الجمالي في رسم لوحات الخط او لوحات التشكيل او لوحات البوستر بالرسم على الجدران والامكنة العامة في مختلف اجناس الفنون التشكيلية الجمالية التي تحتاج توظيف رسم الحرف الصامت في اللوحة.3381 خاصية اللغة العربية

بهذا النوع من الاسلوب التوظيفي الجمالي يكون رسم الحرف داخل لوحة يفقده خاصية الصوت حتى الصامت الملازمة لرسم شكل الحرف كوحدة ابجدية منفصلة او متصلة. كما يفقد بالضرورة الملزمة له خاصيته النحوية التي نجدها بالكتابة العادية التداولية. هنا كتابة حرف البوستر وخط اللافتات المرفوعة بالايدي او الثابتة في اماكن محددة لها لا يفقد الحروف ابجديتها الصوتية الصامتة ذات المعنى المراد المقصود بل يؤكدها قراءة.

الصوت بلا نحو عند الحيوان

الحيوانات لا تمتلك لغة لها ابجدية بل تمتلك اصوات اغلبها عشوائية وبعضها تعبّر عن مداليل استعمالية محدودة. بمعنى ليس كل الاصوات التي تطلقها الحيوانات ذات مداليل قصدية داخل النوع الحيواني من جنسها باستثناء بعض الاصوات التي تكون مفهومة داخل النوع الواحد مثل التنبيه الى خطر محدق، رغبة الجماع الجنسي، قدرة التنبؤ بالتغيرات المناخية الطارئة، وجود اكل يتشارك به القطيع والخ من حاجات مشتركة تبعد نوع الحيوان من الانقراض.

لماذا نقول الانسان يمتلك فرادة لغوية لا تشبه وغير موجودة لدى غيره من الكائنات بالطبيعة.؟ للاجابة فقد سبق لي ذكرها بمقال سابق منشور لي اختصرهنا بعض أهم نقاطه:

الانسان يمتلك ابجدية لغوي نحوية منتظمة لا يمتلكها غيره من الكائنات. الابجدية عند الانسان نظام لغوي قائم بذاته نسقيا في التعبير عن كل شيء يدركه العقل.

الصوت اللغوي الانساني صوت يحمل معنى محدد مقصود الدلالة. وهو صوت بدأ عند الانسان بتطور بايولوجيا استخدام الحنجرة صوتيا عنده بمساعدة اللسان على تمكنه اخراج اصوات لغوية تحمل معنى مشترك لقوم من الاقوام يتشاركون العيش المشترك والمصير الواحد ولهم عادات خاصة بهم يقدسونها او يتفقون الحفاظ عليها معنويا...

ميزة الانسان انه امتلك لغة تداولية متفردة عندما تمكن من رسم الصوت اللغوي وتوزيعه على رموزذات اشكال محفورة او منقوشة على حائط او قطعة جلد او اي شيء اخر يتفق عليه داخل مجموعة من البشر يؤشر مداليل قصدية مشتركة لها اصوات تدل على معانيها.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى. بمعنى ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه لا يدركه العقل في فهم معناه. فالعقل تفكير لغوي تجريدي في التعبير عن معنى.

الصوت الصادرمجردا عن معناه اي بلا حمولة فكرية قصدية هادفة لا يكون ولا يصبح لغة. الصوت ليس هو اللغة فقط بل هو المعنى ايضا. وبلغ التضاد الاختلافي بين انصار علم النفس السلوكي اللفظي بزعامة فريدريك سكينر1904 - 1990 الذين يعتبرون دراسة الصوت باللغة له اسبقية الاهتمام على دراسة المعنى باللغة التي يقول بها انصار فلسفة اللغة وبعض علماء اللسانيات والتحول اللغوي ونظرية فائض المعنى.3382 خاصية اللغة العربية

لغة الانسان تتسم بخلق جماليات لغوية صائتة وصامتة معا هي خارج الاستعمال الدارج على ان وظيفة اللغة تواصلية مجتمعية – معرفية متعددة الاستعمالات داخل مجموعة بشرية يجمعها تعايش مشترك دائم. مثال تلك الجماليات نتاجات الادب والفنون ومختلف الفعاليات من رسومات تبدأ بالكهفية البدائية وتشكيل ونحت في عصور لاحقة معاصرة التي يجري توظيف اللغة كمنظومة ابجدية جماليا فنيّا فيها خارج وظيفة التواصل اللغوي الحواري المباشر.

كما اشرنا له سابقا رسم شكل الحرف باللغة هو خاصية نحوية من جملة قواعد وضوابط في اختراع ابجدية لغوية متكاملة تحتوي عددا محدودا من الاحرف المنتظمة نحويا خاصة بقوم من الاقوام مثل اللغة العربية 28 حرفا اساسيا اضاف لها بعضهم الهمزة كحرف لتصبح 29 حرفا والانكليزية 26 حرفا والسامية 22 حرفا وهكذا مع تعدد اللغات بالعالم. لا حاجة التذكير ان شكل كل حرف في ابجدية لغوية لقوم من الاقوام او امة من الامم يختلف رسمه وصوته عن باقي الحروف الاخرى داخل منظومة القواعد النحوية.

لكن يبقى رسم شكل الحرف ناقصا يحمل مداليل تاويلية فائضة وقراءات مختلفة ويخلق تصورات متباينة لا يكتمل معناه الدلالي النحوي بالنسبة لكل فرد منفردا لوحده او ضمن مجتمعه الا بملازمة صوت معين لكل شكل حرف مرسوم او مكتوب متفق على اساسيات تحكمه مثل شكل الحرف ، صوته الدال عليه، معنى دلالة ذلك الصوت الخاص به.. الحرف خارج منظومة القواعد العامة التي ذكرناها لا قيمة حقيقية له كرسم لشكل معيّن متفرد.

مثال تاكيد ما ذهبنا له توظيف رسم شكل الحرف باللوحة التشكيلية الفنية او بلوحات انواع الخطوط كما عندنا بلغتنا العربية كرمز جمالي تكويني فني يدخل جزءا بصميم تكوين جمالية اللوحة لكنه مقطوع الصلة عن التنظيمية النحوية القواعدية لتلك اللغة.

حروف لوحات الخطوط العربية تطورت عبر العصور فنيّا جماليا وكان لدور رائد الخطاطين من غير العرب المعاصرين الشيخ ابو حامد الآمدي التركي دورا كبيرا جدا في تلمذة الخطاطين العرب على يديه واجازتهم بممارسة الخط العربي. لتستقرالخطوط العربية اليوم في ابرزها على عدد من الخطوط والاشكال منها خط النسخ، الثلث، الرقعة، الكوفي، الديواني، الجلي الديواني، الفارسي "التعليق"،خط الطغراء، خط الاجازة، والخط المغربي وخطوط رسومات حروفية اخرى تدخل في المنحى الجمالي. وتعتبر لوحات الخط العربي اليوم من نفائس تراثنا الثقافي العربي المتناقل عربيا وعالميا.

نحوية الحرف اللغوي

نحوية الحرف باللغة لا يحددها رسم شكله خارج الكتابة التداولية المطبوعة اليوم. بالكتابة الحرف لا يفقد ابجديته الدلالية في التعبير عن معنى يلازمه صوت خافت او منطوق. بل يفقد القيمة الجمالية الفنية في توظيفه الفني داخل تكوين رسومات ولوحات ما لا حصر له. الحرف بالكتابة المجتمعية اللغوي الخاصة بقوم من الاقوام (وظيفة) غير جمالية ولا فنية بمعيارية مقارنة توظيف الحرف بالفنون التشكيلية والمنحوتات واللوحات الجدارية والمتنقلة ولوحات الخط العربي عندنا وهكذا.

في اللوحة التشكيلية وتوظيف الحرف جماليا يفقد الحرف العربي قيمته النحوية القواعدية كابجدية منضبطة. رسم الحرف باللوحة هو (فن) ورسم الحرف بالكتابة اللغوية المعرفية والادبية هي (نحوية) ابجدية منتظمة. والحرف في التوظيف الفني باللوحة متحرر تماما من اي التزام لغوي سوى توكيد حضور الناحية الجمالية الفنيّة.

اي هو في الوقت الذي يشكل حضوره داخل تكوين عملية الابداع المهني باللوحة كقيمة جمالية لا يستهان بها الا ان الحرف الجمالي داخل اللوحة يفقد نحويته الابجدية القواعدية بسبب عشوائية التوظيف الحروفي داخل تكوين اللوحة. حينما يكون شكل الحرف الفني الجمالي داخل اللوحة (ثابتا) كحيّز امتلائي كتلوي لسد فراغ في تقنية اللوحة فنيّا في سد الفراغات وتوزيع الالوان والكتل وغيرها.3383 خاصية اللغة العربية

حين اشرنا سابقا قبل اسطر ان رسم الحرف داخل اللوحة هو بمثابة تحنيط نحتي له يحرره من كافة الالتزامات النحوية واللغوية حتى بالمعنى والصوت، فمرد هذا الاستنتاج ان توزيع اشكال الحرف داخل اللوحة يكون اعتباطيا عشوائيا يغلب عليه اللاشعور في طغيان الحس الجمالي المبهر له. فرسم شكل الحرف داخل اللوحة يستنفده توزيعه الكتلوي (المكان) وانتقالاته اللونية داخل اللوحة بكل اريحية فنية جمالية حسب اسلوبية الفنان.

متى ما اكتسب الحرف الصوت تحرر من المهنية الاسلوبية الجمالية ويخرج من تشكيل اللوحة ليعود الحرف الى حقيقته الاصلية على انه رمز لغوي نحوي له دلالة تعبير تجريدية داخل منظومة لغوية تحكمه خاصيتي الصوت والمعنى. الحرف صوت ومعنى من خلالهما وبهما يكتسب تراتيبية تسلسله ضمن القواعد النحوية للغة.لا توجد لغة صوتية ولا لغة كتابية رمزية لا تحمل التعبير عن معنى قصدي.

لغة الانسان نشأت وبقيت لغة تجريد لفظي يحددها ويضبطها (التجريد) اللغوي الذي يمكنه التعبير عن كل شيء لكن ليس بمقدوره ان يكون متموضعا ماديا او موضوعا يدركه العقل بمعزل عن ارتباطه بالمعنى.

***

علي محمد اليوسف

التَّحَوُّلاتُ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية لَيْسَتْ انعكاسًا سَاذَجًا لحركة الأفراد في تفاصيل الحياة اليومية، وإنَّما هي تَحَوُّلات ناتجة عن التَّحليل النَّقْدِي لِجُذُور المُجتمع في أعماقِ الوَعْي التاريخي، وتعقيداتِ النَّسَق الحضاري. والتحليلُ النَّقْدِي هو الضَّمَانةُ الأكيدة لحفظِ كِيَان المُجتمع مِن الفَوْضَى، وحمايةِ كَينونة التاريخ مِن التَّشَظِّي، لأنَّ مَفهومَ التحليل قائمٌ على تفكيكِ الفِكْر إلى عوامل أوَّلِيَّة، وإعادتِه إلى أنويته الداخلية، ومفهوم النَّقْد قائمٌ على كَشْف الثَّغَرَات في جُذورِ المُجتمع المَخْفِيَّة، وكِيَانِه الظاهري. والارتباطُ العُضْوِي بَين التحليلِ النَّقْدِي والتَّحَوُّلاتِ الفِكرية يُمثِّل مَنظورًا وُجوديًّا لشخصيةِ الفرد وهُوِيَّةِ المُجتمع، وكيفيةِ رَبْطِهما معًا في مركزيةِ الذات، والانطلاقِ مِنها نَحْوَ سُلطة المعرفة المُهَيْمِنَة على العلاقات الاجتماعية. وإذا كانت سُلطةُ المعرفة تُولِّد آلِيَّاتٍ لُغَوية لمساعدة العَقْل الجَمْعي على التَّحَكُّم بعناصر الواقع المُعَاش، فإنَّ العلاقات الاجتماعية تُطوِّر أدواتٍ فِكرية لتحقيق المصالح الذاتيَّة والجَمَاعِيَّة كَمًّا وكَيْفًا، مِمَّا يُساهِم في إعادةِ صِياغة طبيعة الفرد في مَسَارِه الحياتي معنويًّا وماديًّا، وإعادةِ تشكيل البناء الاجتماعي في الواقع المُتَغَيِّر ثقافيًّا ورمزيًّا.

2

لا يُمكِن اختزالُ التَّحَوُّلات الفِكرية في قوالب جاهزة، وأنماطٍ مُعَدَّة مُسْبَقًا، ولا يُمكِن السَّيطرة عليها بِدِقَّة، أو التَّنَبُّؤ بِمَدَاها وتأثيرِها، لأن هذه التَّحَوُّلات مِثْل الانفجاراتِ اللغوية في الوَعْيِ التاريخي للحضارة، والمَنظورِ الثقافي للمُجتمع. وإذا كانَ الفِكْرُ يَستمد شرعيته مِن قُدرته على تَوليد المفاهيم مِن الواقع المُعَاش، فإنَّ اللغةَ تَستمد مَاهِيَّتَهَا مِن قُدرتها على تَفجير الطاقة الرمزية الحاملةِ للألفاظ والمَعَاني. وهُوِيَّةُ الفِكْرِ وكَينونةُ اللغةِ تُعيدان تأويلَ تفاصيلِ الحياة اليومية التي يُهيمِن عليها الاغترابُ، بِحيث تُصبح هذه التفاصيلُ قُوَّةً دافعةً للتجاربِ الشخصية التي تُشير إلى أحلامِ الفَرْدِ المَكبوتة وذِكرياته الكامنة، ورافعةً للوُجودِ الثقافي في الهياكل الاجتماعية المَنْسِيَّة. وَبِدُون تحليلِ العناصرِ المَكبوتةِ والكامنةِ والمَنْسِيَّةِ في أعماقِ الفردِ والمُجتمعِ، لَن يَكُون هُناك تأويل لُغَوي حقيقي لإفرازات سُلطةِ المعرفة في القِيَمِ الاستهلاكية والمَعَاييرِ الأخلاقية، لأنَّ التأويلَ قائمٌ على الرُّمُوز، والرُّمُوز لا تُوجَد على السَّطْحِ، فهي حاملةٌ للهُوِيَّاتِ المركزية والمَاهِيَّاتِ الأساسيَّة، لذلك تَستقر الرُّمُوزُ في أعماق الوجود الإنساني الفَرْدي والجَمَاعي، وهي بِحَاجَة إلى تنقيبٍ مُستمر، وتَوظيفٍ دائم في النَّزعة الإنسانية المُتَحَكِّمَة بأبعاد البناء الاجتماعي باطنيًّا وظاهريًّا.

3

التَّحَوُّلاتُ الفِكريةُ هي سِلْسِلَةٌ مِن التأويلات الرمزية اللغوية لِبُنيةِ الواقع، والفاعليَّةِ اللغوية، والسُّلوكِ اليَومي، ومَسَارَاتٌ حياتيةٌ تَجْمَع بَين الفِعْلِ الاجتماعي والعَقْلِ الجَمْعي، اللذَيْن يُسيطِران على شخصية الفرد الإنسانية، ويَتَحَكَّمَان بتأثيراتِ سُلطةِ المُجتمع على مَصادرِ المعرفة. وإذا كانَ الهدفُ مِن الفِعْلِ الاجتماعي هو إعادةَ صِناعة الذات، وتحليلَ الوَعْي التاريخي المُتمركز حَوْلَهَا، فإنَّ مُهِمَّةَ العَقْلِ الجَمْعي هي إعادةُ الفردِ مِن الغِيَابِ في الأنظمة الاستهلاكية الماديَّة، إلى الحُضُورِ في الأنساق الإنسانيَّة المُبدِعة، وإعادةُ العلاقاتِ الاجتماعية مِن الاغترابِ في الإدراكِ الوَهْمِي القائم على المَشَاعِر المِيكانيكية، إلى الطاقةِ الرمزية اللغوية القائمة على العقلانية، التي تَنقُل التَّكوينَ الثقافي للفردِ مِن البُنى المُجَرَّدة الهُلامية إلى الواقع، مِن أجل تغييره إلى الأفضل.

4

الواقعُ المُؤلِمُ أفضلُ مِن الوَهْمِ اللذيذ، لأنَّ الألمَ يَكشِف مواطنَ الخَلَلِ، ويُجبِر الفردَ على البحث عَن علاج مِن أجل التَّخَلُّصِ مِن المُعَاناة، والشُّعُورِ بالرَّاحَة. وكذلك مُواجَهة الأحداث اليومية الصادمة أفضل مِن الهُرُوبِ مِنها، لأنَّه مُواجهتها تَكشِف التَّحَوُّلاتِ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية، وتُظهِر أهميةَ الغَوْصِ في أعماق الوَعْي التاريخي مِن أجل تجذيرِ شخصية الفرد في الظواهر الثقافية كِيَانًا وكَينونةً، وترسيخِ هُوِيَّة المُجتمع في مَنطِق اللغة الرمزي تَصَوُّرًا وتَحَقُّقًا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تَعَدُّدِ زوايا الرُّؤية للواقعِ اليَومي والوقائعِ التاريخية، والوُصولِ إلى مَنظور لُغَوي جديد، يَعتمد على تأويل أحلام الفرد المَكبوتة ضِمْن الانقطاعات المعرفية في التاريخ، بِوَصْفِه فلسفةً لمركزية الذاتِ في الوُجود، ومركزيةِ الزمن في الحضارة. وهذه الفلسفةُ لَيْسَتْ نِظَامًا آلِيًّا جامدًا، وإنَّما هي مَنظومةٌ حاضنةٌ للصِّرَاعات والتناقضات، ومَفتوحةٌ على كافَّة الاحتمالات والتأويلات. والتاريخُ لَيْسَ مرحلةً زمنيةً مَضَتْ وانقَضَتْ، أوْ أرشيفًا مُغْلَقًا في مِلَفَّاتِ الغُبار، إنَّ التاريخ يُولَد باستمرار، وتُعاد كتابته دائمًا، ويَتِم تأويلُه بشكل مُتواصل في اللغةِ القادرة على مَنْحِ الحَيَاةِ والحُرِّيةِ للأنساق الثقافية. والتاريخُ هو نظامُ النَّقْدِ الاجتماعيِّ العابرُ للزمانِ والمكانِ، والعَصِيُّ على التَّجنيس. ووظيفةُ التَّحَوُّلاتِ الفِكرية في العلاقات الاجتماعية تتجلَّى في رَبْطِ شخصية الفرد الإنسانية بِسُلطةِ التاريخ الوُجودية، بحيث تُصبح إنسانيَّةُ الفردِ فلسفةً للتاريخ،ويُصبح وُجُودُ التاريخِ وُجُودًا للإنسانية، يُوجَدان معًا،ويَغيبان معًا، ولا يُمكِن الفصلُ بَينهما.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

(الفيلسوف يحدد الأمور ببراعة، ومن دون تردد، يطارد بملقطه العقلي عصب الحب المرتعش).. José Ortega y Gasset

في البدء كان الحب

الفلسفة انثى مفعمة بالجمال والحكمة، هي لا شرقية ولا غربية متمردة على كل سلطة أنثى قلبها ينبض بالحياة والحب، لا تقبل الا رجلا مكافحا صلبا عاشقا وسقراط كان كذلك حكيما وقويا سكنت بداخل روحه كل النساء الجميلات - أوليس بداخل كل رجل حكيم امرأة تهوى اللعب بالكلمات- هكذا كانت قصة سقراط مع النساء قصة بدأت بصرخة فيناريتي وامتزجت بنبوءة كاهنة معبد دلفي " ان سقراط هو أحكم الناس" هذا الطفل المبتسم رغم قسوة الحياة المحدق كثيرا في السماء كان يطلب من الآلهة أن تهبه كنوز الحكمة، ونفسًا جميلة وقلبا محبا وروحا متزنة تحمل هذه الكنوز، كما دعاها أن تهبه البساطة، وأن يتفق مظهره مع جوهره » اجعليني جميلًا في داخلي «

قصة سقراط مع النساء ومع الحب تمتد من لحظة الولادة الى مرحلة الطفولة والشباب ولحظة تجرعه الكاس المسمومة وتستمر خالدة الى الابد رغم فناء الجسد، حب سقراط ولد في حضن امه فيناريتي التي تعلم منها فن التوليد ودهشة السؤال ففي كل لحظة ميلاد حياة جديدة ونقطة انطلاق و تجدد هذا الحب لحظة لقائه بالفاتنة أسباسيا ميليتس واستمر في الوجود رغم عتاب وسخرية زوجته زانثيبي الجميلة الشقراء المتسلطة والتي احتضنت سقراط بحب ولطف ومودة والهمته حكمة الصمت، سقراط لم يكن كارها للنساء بل عاشق لكل امرأة جميلة منذ ان تزوج ميرتو، وهي الزوجة الأولى المفترضة لسقراط ولاعجب في ذلك فقل لي من تحب اقل لك من انت .

عشق العرافة ديوتيما وتعلم على يديها الحب، ديوتيما الكاهنة الجميلة العرافة الحكيمة والتي تغنى بها الشاعر فردريش هولدرلين في قصيدته إلى ديوتيما:" أيتها المخلوقة البهية!إنك تَحيين,مثلما تَحيا في الشتاء الأزهار الغضة:في عالم مُتهَالِكٍ تُزهِرين,بصمتٍ و في عزلة.و بِحُبٍ, نحو الأعلى تتطلعين,لِتَتَدَفَّئِي بشعاع الشمس الربيعية,و في دفئه عن صَبَاءِ العالم تبحثين. لكن شمسكِ, الأمدُ الأبهى, قد دَلَكَت بغير رجعة.فالآن الحَاصِبَات يُعربدن,في لَيلةٍ هوجاء باردة."

التفكير بالآيروس أو الحب العاطفي أو الرغبة. أوقع سقراط الشاب في حب أسباسيا ميليتس ولذلك كان السؤال الذي اشتغلت عليه أرماند دأنغور هو "ما الذي حوّل الشاب الأثيني، الذي يُزعم أنه من خلفية متواضعة وبوسائل متواضعة، إلى مبتكر طريقة تفكير وطريقة فلسفية كانت أصلية بالكامل في عصره ومؤثرة بشكل كبير بعد ذلك"؟ وجاءت الإجابة “انه حب واحدة من أكثر النساء إثارة وذكاء في عصره، أسباسيا ميليتس".

سقراط الحكيم نبي الحكمة وشهيد الفلسفة علم الحب للأخرين فتعلمت منه الفيلسوفة أريتا معنى الحب والوفاء: "إن أرستيبس القورنائي وإبنته الفيلسوفة أريتا كانا أوفياء للفيلسوف سقراط. ففي رسالة أرستبس إلى إبنته أريتا عهـد وفـاء مـن التلميذ ارستبس إلى إستاذه سقراط، ومن الفيلسوفة أريتا إلى أبيها الفيلسوف أرستبس ومن خلاله إلى أستاذه الفيلسوف سقراط، وذلك بتوفير الحياة اللائقة والمحترمة لعائلة الفيلسوف سقراط بعيد إعدامه على يد الديمقراطيين".

فيناريتي ودهشة السؤال

ولد سقراط حوالي عام 470 ق.م، في بيت مغمور من بيوت الطبقة الوسطى، لا هو بالخطير أو الحقير، في مدينة أثينا، وكانت أمه تُدْعَى فيناريتي وأبوه يُدْعَى سفرونسكس، وكانت لفيناريتي — كما يذكر ابنها فيما بعد — سمعة طيبة عن مهارتها الفطرية وصبرها على توليد جاراتها من النساء، أما سفرونسكس فقد كان — على الأرجح — صانعًا، لم يتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة حينما أخرجه أبوه من المدرسة سقراط كان يعرف كيف يتعلَّم لا من المعلمين والمدربين فحسب ولكن من كلِّ إنسان يقابله، كان يوجِّه الأسئلة عن الجمال منذ سنوات مضت، نصحه والده وهو منهمكم في نحت تمثال على صورة أسد قائلا عليك بادئ ذي بدء أن ترى الأسد كامنًا في الحجر، وتحس كأنه رابض هناك وأنعم سقراط الفكر في هذا القول، وذكَّره بحديث حدثته به أمه ذات مرة، وكانت الأم تشتهر بين جاراتها بمهارتها في توليد الحبالى من الأمهات، وسألها سقراط مرة كيف تقوم بهذا العمل فأجابته قائلة إنني في الواقع لا أفعل شيئًا، وإنما أكتفي بأن أعُين»: الطفل على الانطلاق«.

الجنس والحب في حياة سقراط

ما الذي حوّل الشاب سقراط إلى فيلسوف؟ كيف كان يفكر عندما كان شابا؟ كيف أصبح الرجل الأكثر حكمة في أثينا ؟ ما الذي دفعه إلى السعي بمثل هذا الإصرار اإلى طريقة جديدة تمامًا للتفكير؟ والى تبني منهجا جديدا في التفكير والنظر الى الوجود؟ ما الذي دفع سقراط الى الاعتقاد أن الكلمة المكتوبة كانت شيئًا سيئًا للفلسفة والحياة؟ هل كان الارتباك الجنسي والتواء شخصيته بسبب تربيته غير المحببة الدافع الى تبني منهج التوليد والتهكم ؟ هذه الأسئلة طرحها العديد من الباحثين ونعيد طرحها في محاولة للاقتراب من شخصية سقراط وحبه للفلسفة لاسيما علاقته بالمرأة وهناك قول مأثور لسقراط حول المرأة والزواج:" في كلتا الحالتين، تزوج: إذا صادفت زوجة صالحة، فستكون سعيدًا ؛ وإذا صادفت شخصًا سيئًا، فستصبح فيلسوفًا، وهو أمر جيد للإنسان"

يجب ان نعترف منذ البداية ان حياة سقراط العاطفية، كانت ولازالت محل جدال تماما مثل شخصيته الفلسفية ورغم اننا نعود في الغالب الى ما كتبه أفلاطون وزينوفون عن سقراط -رغم انهما كانا أصغر من سقراط ولم يعرفوه إلا في الخمسينيات من عمره- الا ان هناك صورة أخرى كشف عنها كتاب سقراط في الحب  D'Angour Diotima صورة سقراط الشاب: الذي أصيب بصدمة من قبل والده المتشدد (لدرجة أنه يسمع أصواتًا في رأسه)، وجنس أكثر من اللازم، محارب بطولي، ومصارع وراقص رياضي - وعاشق شغوف. وكان بارعا في المصارعة والرقص ولعب القيثارة لعدة سنوات، كان سقراط جنديًا، من جنود الهوبليت، وميز نفسه بشجاعته في إنقاذ حياة الكبياديس. أنقذ حياته في معركة بوتيديا عام 432 قبل الميلاد .كان سقراط ثنائي الميول الجنسية، وربما كان على علاقة بمدرس الفلسفة الأكبر له أرخيلوس هذا الشاب تحول إلى الفلسفة عندما وجد نفسه متحمسًا من قبل Aspasia of Miletus عشيقة بريكليس، ورغم انه تزوج من امرأة تدعى ميرتو قبل أن يتزوج زانثيبي الا انه اعترف بانه تعلم "حقيقة الحب" من امرأة ذكية. اسمها "ديوتيما" .

زانثيبي الزوجة المشاكسة

Xantipa أو Janantipa زوجة سقراط، المشهورة بشخصيتها السيئة المفترضة، اسمها كان معروفًا أيضًا باسم Jantipa والذي يعني الحصان الأشقر ؛ استخدم سقراط مصطلح الحصان للإشارة إلى زوجته، وعندما سئل عن شخصيتها، ذكر: الرجال الذين يريدون أن يكونوا فرسانًا جيدين لا يشترون خيولًا سهلة الانقياد، بل أكثر الخيول غضبًا

المعلومات حول الزوجة الشابة لسقراط نادرة، ويعتقد أنها كانت من سلالة عائلة نبيلة ومتعلمة جيدًا، وهي خاصية جذبت الفيلسوف، لأنها كانت الشخص الوحيد الذي تمكن من التغلب على الفيلسوف في المناظرة. تزوج سقراط وزانتيبي بين 418 قبل الميلاد و 420 قبل الميلاد، وبحلول ذلك الوقت كان سقراط أكبر بحوالي أربعين عامًا من المرأة الشابة، جنبًا إلى جنب مع سقراط، أنجب ابنه لامبروكليس، والذي، وفقًا لما ذكره زينوفون في نصه التذكاري، اعتاد الشكوى بشأنه . شخصية والدته القوية، وهو موقف عار من قبل والده، الذي حثه على احترامها ومراعاة حبها وتفانيها له.

في مناسبات معينة تم انتقاد العلاقة من قبل تلاميذ الفيلسوف، الذين رأوا في Jantipa، امرأة سريعة الغضب وسوء المزاج وغير محترمة تجاه الرجل الحكيم. تم استجواب سقراط في مناسبات عديدة من قبل هؤلاء، لكنه دائمًا ما أنقذ حبه لـ Jantipa ومدى أهميتها في حياته، كما ذكر أنه بمرور الوقت اعتاد على علاجها. كان Xantippe مع سقراط حتى نهاية حياته، عندما حُكم عليه بشرب الشوكران في عام 399 قبل الميلاد.في نهاية العام المليء بالمرح، دعت جانانتيبا الجيران إلى تناول عشاء متواضع معها، كما كان معتادًا في ذلك الوقت. وتحدثت في العشاء عن اللحظات الأخيرة للفيلسوف الشهير، وتجاربها طوال حياتهم الزوجية، وغيرها. التفاصيل التي أراد مشاركتها، كما عبر عن ألمه والحب الذي شعر به تجاهه.

ديوتيما وسلم الحب

اسم ديوتيما يعني "إكرام الله" وأحد أكبر التأثيرات على موقف سقراط الفلسفي جاء من لقاءه مع هذه المرأة. في حوار أفلاطون الندوة، والتي تتكون من محادثة حول طبيعة الحب، يقول سقراط إن ديوتيما علمته أن يفكر في الرغبة بطريقة جديدة: ليس كشهوة للأجساد المادية، بل سعياً وراء حقيقة أسمى. تعتقد D'Angour أن هي Aspasia مقنعة. ويعتقد أن سقراط ربما وقع في حبها.، مما دفعه إلى التحول من الجنس إلى الفلسفة. وقد ظهرت ديوتيما لأول مرة في ندوة النص الفلسفي لأفلاطون، المكتوبة في ج. 385-370 ق. تحتوي القطعة على خطب ألقاها فلاسفة مثل سقراط تتحدث لصالح إله الحب إيروس . وجودها كشخصية تاريخية فعلية أمر قابل للنقاش. من المستحيل أن نختتم على وجه اليقين إذا كانت مجرد شخصية خيالية أم لا. بغض النظر، من المفترض أنها عاشت حوالي عام 440 قبل الميلاد وساعدت في صياغة فكرة "الحب الأفلاطوني" من خلال منصبها في الندوة . تشير أصول اسمها إلى ولائها للإله زيوس وقدراتها النبوية.

يقول مؤرخ الفلسفة تايلور: "لا يمكننى الاتفاق مع مجموعة الباحثين المحدثين الذين يعتبرون ديوتيما المانتينية شخصية وهمية: ولا أتفق معهم في البحث عن الأسباب الوهمية لما فعله أفلاطون كما يزعمون من تعيين لاسم العرافة وتحديد لمكان ميلادها. إذ يبدو في اعتقادي أن إدخال شخصيات خرافية وأسماء وهمية في الأحاديث حيلة أدبية كانت مجهولة تماماً لأفلاطون أننى لا أعتقد أن أفلاطون لو كان قد ابتدع شخصية ديوتيما كان من شأنه أن يستمر في الكلام ليصبح على لسان سقراط عبارة دقيقة كتلك التي قال فيها أن ديوتيما نجحت فى تأجيل وباء الطاعون الذى كان سوف يحل في السنوات الأول من الحرب الأبخدامية" و في مقالين بعنوان "ديوتيما" و "ديوتيما المانتينية" يتناول عالم اللغويات ولتركرانتس مشكلة وجود ديوتيما التاريخي وينتهى فيها إلى الإيمان بوجود شخصية تاريخية باسم ديوتيما. ونجده يجرى فى مقاله "ديوتيما" مناظرة بين شخصية "ديوتيما" لدى هلدرلين Holderlin من مجموعة أعماله "هايبريون" والمستوحاة من الشخصية الحقيقية وبين شخصية ديوتيما لدى أفلاطون - ومناظرة بينهما في أسلوب حياتهما الحقيقي. ويورد كرانتس العديد مـن البراهين للتدليل على رأيه بوجود مثل هذه الشخصية.

تحدث سقراط عن طبيعة الحب من خلال ديوتيما:" أننا ننتقل في الحب من شخص جذاب معين، إلى حب الأشخاص الجميلين بشكل عام، إلى حب الجمال والخير نفسه في التجريد. سلم الحب هذا ينقلنا من الانجذاب الجنسي الخاص للغاية إلى الحب الأفلاطوني للخير

في خطاب لسقراط، قام بتفصيل إيمان ديوتيما بالحب، والذي يتم تعريفه من خلال فكرة أن الحب ليس جميلًا أو جيدًا تمامًا. تقدم سلسلة نسب الحب (إيروس)، والتي تبدأ بالبحث عن الجمال في الطبيعة وفي الجسد المادي. مع اكتساب الحكمة، يتم البحث عن الجمال على المستوى الروحي، من خلال الروح البشرية. تعتقد ديوتيما أن أقوى استخدام للحب هو حب العقل للحكمة والفلسفة. تبدأ رحلة الحب الخطية بالاعتراف بجمال إنسان آخر، والاستمتاع بالجمال الخارجي للفرد، وتقدير الجمال الإلهي حيث ينشأ الحب، وحب الألوهية نفسها. يُطلق على هذا الخط من التفكير أحيانًا اسم سلم الحب لديوتيما.

أسباسيا ميلتس المرأة الفيلسوفة

عاشت أسباسيا (حوالي 470 - 428 قبل الميلاد) وهي تنحدر من عائلة أثينية عريقة، مرتبطة بعائلة بريكليس، وقد استقرت في مدينة ميليتس اليونانية في إيونيا (آسيا الصغرى) قبل عدة عقود. عندما هاجرت أسباسيا إلى أثينا حوالي 450 قبل الميلاد كانت تبلغ من العمر 20 عامًا تقريبًا. في ذلك التاريخ كان سقراط أيضًا عمره حوالي 20 عامًا. أصبحت أسباسيا مرتبطة ببيريكليس، التي كانت آنذاك سياسية بارزة في أثينا - وكانت بالفعل ضعف عمرها. لكن تلميذ أرسطو، كليرشوس، يسجل أنه "قبل أن تصبح أسباسيا رفيقة بريكليس، كانت مع سقراط" أسست مدرسة للبنات وأدارت صالونًا شهيرًا، وصفه بعض النقاد بأنه بيت دعارة أو مكان تدريب للمحظيات. كانت محاطة باستمرار بشخصيات مهمة من السياسيين إلى الفلاسفة في أعلى الدوائر الأرستقراطية كشريك لبريكليس. سيصف الرجال المؤثرون مثل أفلاطون أسباسيا ساخرًا في أعمالهم، وكان بلوتارخ يعبد بريكليس بينما يشوه سمعتها. ومع ذلك، كان هناك بعض الرجال الذين أشادوا بذكائها، مثل الفيلسوف إيشينز، الذي أعجب بقدراتها في التحدث أمام الجمهور.

التقى سقراط بأسباسيا الذي رفضت بلطف تقدمه الجنسي، وقدمت له بدل ذلك "سلم الحب"، من مجرد المتعة الجسدية في أدنى الدرجات إلى "الحب الأفلاطوني" الإلهي في القمة. حيث تربية الروح، وليس إرضاء الجسد، هو الواجب الأسمى للحب ؛ وأن الخاص يجب أن يخضع للعام، عابر إلى الدائم، والدنيوي للمثل الأعلى.وبالتالي. هل كان من الممكن أن يقع سقراط وأسباسيا في الحب عندما التقيا وتحدثا لأول مرة في العشرينات من العمر؟

كانت زوجة بريكليس، وهو سياسي أثيني شهير. ومع ذلك، وبعيدًا عن هذه الرابطة، فقد تم تذكرها أيضًا بسبب معتقداتها النسوية وكفاحها من أجل حقوق المرأة. بصفتها شخصًا هاجر من بلد أجنبي - لم يُسمح لها بالزواج من أثيني وأجبرت على دفع الضرائب. ومع ذلك، فإن وضعها الأجنبي ساعدها على الهروب من قيود السياسات الصارمة المتعلقة بحقوق المرأة. أنجبت ولداً مع بريكليس خارج إطار الزواج، وكانت معلمة لكل من الرجال والنساء، وعاشت حياتها بشروطها الخاصة. يُعتقد أن أسباسيا كان اسمها الأول على أنها هيتايرا، أو مجاملة من الدرجة العالية لأنها تُترجم إلى "المرغوبة".

أشارت أسباسيا إلى تعليمها العالي، لذلك يُعتقد أن ميليتس كانت مسقط رأسها، حيث كانت واحدة من الأماكن النادرة التي يمكن للنساء الالتحاق بها في الجامعة. يشير هذا أيضًا إلى المكانة العالية والثروة المحتملة لعائلتها. من المستحيل تأكيد سبب وصولها إلى أثينا، على الرغم من أن أحد الاقتراحات يتعلق بعلاقتها مع Alcibiades، جد الجنرال الشهير Alcibiades. بعد نفيه في ميليتس، تزوج من أخت أسباسيا وعاد إلى أثينا مع المرأتين. التقى أسباسيا بريكليس حول ج. 450 قبل الميلاد وعلى الفور كان على علاقة معه، مما أدى إلى الطلاق من زوجته في ذلك الوقت.

في العديد من النصوص اليونانية القديمة، وصفت بأنها تحكم قوي في الرجال، وتعتبر حتى يومنا هذا أنها قاومت المجتمع الأبوي في تحدٍ لإدراك النساء على أنهن أضعف وغير ذكاء. لا توجد أعمال مكتوبة أو معرفة عن تعاليمها المحددة، ومع ذلك فمن المعروف أن إنجازاتها كامرأة كانت جديرة بالملاحظة. الخطبة الجنائزية هي خطاب مشهور يُنسب إليه بريكليس ؛ ومع ذلك، يُزعم أن Aspasia كان حقًا الشخص الذي يقف وراء هذا الخطاب المهم فيما يتعلق بمن سقطوا في الحرب البيلوبونيسية. لسوء الحظ، لا يمكن إثبات هذا والتأكيدات الأخرى مثل تأثيرها المحتمل على سقراط.

Xanthippe في السجن

وقفت امام زوجها البالغ من العمر 70 عامًا. تحمل بين ذراعيها أصغر الأبناء الثلاثة. Xanthippe يائس ويبكي. ترفع صوتها وترثي. ويروي احد تلامذته:" ألفينا سقراط على فراشه وسلاسله مفكوكة، وزانثب تجلس إلى جواره تحمل رضيعها، وقد لازمته طوال الليل، ولكنها بدأت الآن تبكي لما ذكرت أن ذلك اليوم كان آخر أيامه، لكن سقراط بحكمته خاطب تلامذته: "دع أحدًا يأخذها إلى المنزل". بينما يقود الرجال Xanthippe والطفل إلى الخارج، تبكي بصوت أعلى وتضرب صدرها وقد أعلنت الحداد كما هو شائع في اليونان القديمة.

ذهب سقراط إلى المحكمة عام 399 قبل الميلاد وقد كتب ثلاثة أشخاص لوائح اتهام لسقراط واقتادوه إلى المحكمة.واحد منهم هو ميليتوس الشاعر، وآخر يدعى Nvtvs وهو سياسي و Lvkvn كان هو ممثل المثقفين.اتهم سقراط:بانه ينكر آلهة المدينة و إنه يفسد الشباب.

كانت المحاكمة في أثينا تأخذ شكلين . فقد كان يتعين على هيئة القضاة أن تقترع على أمر إدانته أو عدم إدانته في البداية ومن ثم يصوتون على العقوبة. وفي إجراءات المحاكمة في أثينا كان الحكم يرمي إلى عقوبة والدفاع إلى أخرى . ولم تستطع هيئة القضاة أن تجد الفرق بين الاثنين. كان يجب أن تختار العقوبة الأولى أو الثانية وقد اختارت في ذلك الوقت عقوبة الموت . أفلاطون كان حاضرًا في المحاكمة. في ذلك الوقت كان يبلغ من العمر 28 عامًا وكان من أشد المعجبين بسقراط في عام 404 قبل الميلاد، قبل خمس سنوات فقط، هُزمت أثينا على يد الدولة المنافسة لها سبارتا بعد صراع طويل ومدمّر عرف منذ ذلك الحين باسم الحرب البيلوبونيسية. على الرغم من أنه قاتل بشجاعة من أجل أثينا أثناء الحرب، حكم عليه بالإعدام لإفساد شباب أثينا واتباع آلهة باطلة. كان متزوجًا من Xanthippe، الذي كان أصغر منه بكثير، وكان جدليًا. اعتذار سقراط أو دفاعه هو أحد روائع أفلاطون عن سقراط، ليس من الواضح تمامًا ما إذا كان هذا هو نص كلمات سقراط في المحكمة الأثينية، ولكن نظرًا لأنه كتب مباشرة بعد الحكم، فقد أخذ أفلاطون نص كلمات سقراط في الاعتبار عند كتابته.

في هذا الكتاب ينكر سقراط أولاً المزاعم الواردة في لائحة اتهام المدعين: "سقراط خطيب ماهر ويخدع الناس. "يستكشف الدنيوي والسماوي ويبرر الظالمين". يبدأ سقراط دفاعه على النحو التالي: "أهل أثينا! لا أعرف ما هي ادعاءاتي وما هو التأثير الذي أحدثته. كانت أقوالهم خادعة وآسرة لدرجة أنني كنت على وشك أن أتأثر وننسى من أكون.

هل كان سقراط شاذا جنسيا؟

في رأي فرانسيسكو دي لا مازا، "إن الإثارة الجنسية لسقراط الشخصية غير مؤكدة فقط بالنسبة للسذج أو المتشددون، لأن مثليته الجنسية واضحة، على الرغم من أنها تحولت وارتقت إلى مستوى روحي عالٍ منعه من وضعها موضع التنفيذ ولكنه يستدرك ويوضح انه لم تكن له علاقات جنسية سوى مع زوجتيه.... اما لورين روخاس بارما من جامعة أندريس بيلو الكاثوليكية من فنزويلا نجده يقول: " أما بالنسبة للزهد والانفصال عن الملذات الجسدية، فيجب اتخاذ بعض الاحتياطات عند الحديث عن سقراط: ربما لم يتم إكمال علاقته مع السيبياديس، كما رأينا، لأسباب أعمق، مرتبطة بالجمال الحقيقي ؛ لكن لا ينبغي أن ننسى Xantippe وأبنائها الثلاثة. أو كيف يمكن أن ينجبهم دون مقايضة بالجسد؟ أم أن هذه اللقاءات الجنسية لا تهم الفيلسوف؟ وميرتو، الزوجة الثانية المفترضة لسقراط؟ وهنا نصادف النسخة غير المشهورة جدًا لسقراط . لا يعتبر سقراط بأي حال من الأحوال مصابًا بالتوحد المثير، كما أنه لا يتناسب مع هذا الملف الشخصي لفيلسوف منعزل وحتى كاره للنساء"

سقراط كان رجلا فاضلا محبا للخير والعدالة فلقد عرض اقريطون على سقراط الهروب من السجن لكنه رفض ولم تكن المسالة تتعلق بالمخاطرة اذا كان يكفي رشوة الحراس وحسن التخطيط لعملية الهروب المسالة في نظر سقراط اعمق من ذلك انها تتعلق بالقيم والمبادئ الأخلاقية فلايمكن للكثرة او الراي العام ان يتحول الى مشرع للقيمة الخلقية وديمقراطية الكثرة هي ديمقراطية الرعاع ثم ان الأهم هو الحياة الطيبة الخيرة ولذلك كان فناء الجسد ضروريا لخلود الروح ولايمكن الفصل بين الخير والجمال والعدل ومن هنا كان ارتكاب الظلم شرا وعارا حتى وان تمت الإساءة لنا يقول سقراط:" انني طيلة حياتي كلها، وليس اليوم فقط،لا اطيع شيئا اخر غير الحجة التي تبدو لي الأفضل بعد التأمل "

قص سقراط على اقريطون الحلم الذي رآه في تلك الليلة رؤية امرأة جميلة حسنة الهيئة مرتدية ملابس بيضاء تناديه ياسقراط ثلاثة أيام والى فيثيا الخصبة تأتي . وقد فسر ذلك بأنه سيموت بعد غده ولن يموت في غده، ثم تنحَّى عن الجدل وجعل قوانين مدينتنا تتحدث — وعندئذٍ عرفت أني قد هزمت، ذكر لي ما تنص عليه القوانين لو لاذ بالفرار — قال: إنها قد عنيت به منذ ولادته، ولما شب وأدركها خضع لها كذلك، ولم يحاول قط أن يفرَّ منها إلى مدائن أخرى أحسن قانونًا، كيف يستطيع أن يهدمها الآن؟! ولو هدمها فكيف يستطيع أن يتكلم عن الخير بعد ذلك؟

***

عمرون علي أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

في البداية نشير بأن النقد ليس مظهر عرض ومكاشفة بلا ردود أفعال في القراءة أو المستوى البصري، والنقد قيمة إبداعية يؤطرها منهج ملائم للوعي النقدي، فالمنهج البنيوي للنقد اعتمد على مفهوم متأصل وفاعل، وكذلك المنهج التفكيكي للنقد استخدم ذات الصيغ، وإذا كانت صيرورة النقد قد تلاشى أثرها، فهذا لا يعني عدم رجاحة السيرورة وانعدام تماسكها، فالنقد الكلاسيكي الذي كان يوجه منظوره إلى الذات الكاتبة، والتي يعتبر بها أن المؤلف هو الجهة المسؤولة عن عملية الكتابة بمجملها، لذا يقع عليه عاتق ويتحمل ردود الأفعال على ما كتب، وفي التفسير الموضوعي لا بد من أن توازي مسؤولية النقد ذات المسؤولية التي يتصف بها المؤلف، والذي إذا كان جهة الخطاب، وهي جهة توثيق التعاقد مع جهة التلقي، لكن تمنح التلقي الحرية الكاملة، ولا تمنع عنها أي صيغة من صيغ التأويل، وقد منح النقد الكلاسيكي نفسه مسؤولية تجاوزت الحدود والأعراف، فقد أزاح عن زاوية المنظور رأس المؤلف وحل محله، وتلك أحد الوجوه الإشكالية في النقد الكلاسيكي، والتي في مواقف عدة شخص المؤلف في حرج كبير.

مسار النقد المؤطر بالمنهج استمرت سيرورته بشكل مستقيم، وذلك يعني من جهة عضوية بأن ذلك المنهج يهدف إلى الاقتران بمنهج الرياضيات، حيث توجد صيغ البراهين ملموسة وبلوغ النتائج أيضا مرتبط بها، والنقد داخل هذا المعنى لا يكون بذلك الامتياز المرجو له من جهة الكتابة الأدبية والفنية، والنقد قيمة وليس كشف حساب، وقد لعبت المعرفة النقدية الدور الأهم في النشاط الفكر والفلسفي للنقد، وهذا التطور يفسر ليس كسياق عابر، بل هو سياق السياقات كما يرى هانز غادمير، فالمنعرج بتلك الديناميكية يمنح طاقة النقد طاقة مضافة، ويؤهل النقد إلى كشف ما لم يكشف في المادة المكتوبة، والنزوع إلى معالجة النص من الظاهر وبنفس المستوى تكون المعالجة النقدية من الجوهر النصي، والنص سيكون في التلقي النقدي أمام معرفة مؤهلة لكشف المضامين ومعالجة جميع المستويات الدلالية، وهنا يرجح الوعي النقدي خارج أي تفسير أيديولوجي، ولا يكون كرد فعل للنص فقط، فتلك آلية تمرر دون قصد أو غاية، والنقد يكون هو الذئب الذي اتهم بقتل يوسف إذا جاز التوصيف، فهو لا بد من أن  يكون ببراءة تامة.

من أهم الأسس التي يقف المنهج النقدي ويرتكز على ثوابتها التاريخية، في أن يكون جهة تلقى ليست كرد فعل، كي لا يحدد في التفسير الفيزيائي كفعل ورد فعل، والنقد لا يدخل في صيغة العرض والطلب، بل النقد في حقيقته اختيار، وقد ينجم ذلك الاختيار من تأثير متعة جمالية وليست بنفسية، وإذا كان للحداثة من دور في تحديد المنهج النقدي، فقد أتاحت ما بعد الحداثة للنقد مساحة أوسع بكثير، وقد لعبت الفلسفة الدور المشترك، فالفلسفة التي أعادت للميتافيزيقا هيبتها، دعمت آليا ما بعد الحداثة لتستغل تلك الميتافيزيقا في أطر موضوعية، وهذا أتاح للنقد من استثمار حتى الخيال النقدي، ولا نقول قد تحول النقد في ظروف ما بعد الحداثة إلى أركان اصطلاحية عديدة، ليواكب ما طرأ على الكتابة من تحولات نوعية، ولعب مفهوم تداخل الأجناس دوره في تأهيل النص إلى حد كبير، وعلى وجه الخصوص في الكتابة المرئية، أو نص ألفيس بوك، والذي نجده إشكاليا، إذ هناك نصوص لا تضع إطار الجنس كمبدأ كتابة أول وتنطلق منه.

إذا قلنا لقد تجاوز النقد محنة هيمنة نظام الحداثة وتطلعت المناهج النقدية إلى آفاق ما بعد الحداثة الرحبة لتستمد منها بلوغ المناطق التي تطلع إليها الأدب وقد بلغها، وبما أن النقد عليه بلوغ تلك المناطق ليواكب التطورات الأدبية، وعدم مواكبتها لا تعني فقط وجود حالة قصور في البنية النقدية، بل يدل على انقطاع المسار النقدي وتلك ظاهرة ليست مقبولة وتضع النقد في موضع لا يليق به، وصراحة ما بعد الحداثة حررت المعرفة النقدية وفتحت لها السبل في جميع الاتجاهات، فنشطت المعرفة كجهة نقد في طبيعتها المرنة وازدادت تطلعا إلى الاهتمام بالأفكار الجديدة الأدبية التي تجاوزت المنطق العام، واتجهت إلى منطق خاص يلائمها أكثر من سابقه، وصراحة المعرفة النقدية أنقذت النقد من الترهل أو الجمود، فالنقد أصبح أكثر قيمة ولقي اهتماما به بعدما لم يضع أمام الأدب أية شروط صارمة عدا التفريق بين جنس أدبي وآخر، بل تصاعد نسق المعرفة النقدية إلى حدود قصوى، فمسألة القيمة الجمالية لم يعد الأدب يفكر ببلوغ أقصى المراحل لبلوغ القمة الجمالية لها، بل اتخذ مسارا آخر لتجاوز ذلك، وقدم لنا تصور حساس، لكن وجدنا له آثارا بائنة، حيث فكر الأدب بفكرة حرجة طرحها فيكتور هوغو في رواية – أحدب نوتر دام – إذ أصبح القبح بمضمون جمالي، أي لا بد ألا نفكر بالشكل، بل بالمضمون، وكما قدم جماعة كل تل تفسران جديدا للرواية، يتجاوز كثيرا التفسير السالف، فلم تعد الرواية ذلك البحث الاجتماعي الشيق، بل تلك اللعبة الجديرة فنيا، واليس يوسا في رواية – مديح زوجة الأب قد وضع النقد المحدد السمات في محنة، بعدما اقترح شكلا جديدا إلى أقصى الحدود، وكسر به كل منطق قديم للرواية والمجتمع على حد سواء، وإذا بلغ النص تلك الحدود وبقي النقد يفكر بقداسة المقاسات وربوبية الأدوات فلا جدوى منه، لكن صراحة صيغ النقد التقليدية هناك من لم شملها وحدثها بوصفها منهجا ما بعد حداثيا تكامليا في صيغة ثقافية هي توازي التطلعات المعرفية للنقد، وتتواصل مع السيرورة الأدبية النشطة بشكل غير اعتيادي ومواكبة ذلك النشاط الحثيث.

لقد نشط بشكل واسع مفهوم النقد الثقافي، وترجيح مثال مركب من وعي سياسي ووعي ثقافي كما مؤشر في خطاب الناقد الأمريكي فريدريك جيمسون، وفي تفسيرنا الموضوعي والفلسفي نجد ذلك النقد نتاج تلك الظاهرة وليس بمنهج متفق عليه، فالثقافة ظاهرة واسعة ومترامية ومتحركة، وهي حقيقة إن لم تكن واقعية فهي جوهرية، وهنا تكون أوسع في مجال الصدق، وأما ركن السياسة فيضع النقد الموجه إليه في زاوية الخيانة، والثقافة عالم أفكار أدبية وفنية، ولا مرجعيات شخصية يحال لها الأمر، فالثقافة في التفسير الفلسفي نجدها بنية من نوع مختلف، حيث تشكل تلك البنية بنى متفقة بنيويا، فيشكل كل من الآداب والفنون ركني تلك البنية أو الظاهرة التاريخية، والثقافة بحد ذاتها ليست مستوى دلاليا، إلا في الخطابات الشخصية، وإزاء بنية النقد الثقافي (يطرح فنسنت ليت مصطلح النقد الثقافي مسم مشروعه النقدي بهذا الاسم تحديدا، ويجعله رديفا لمصطلحي ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية) 1، وتحتاج تلك المسألة تفصيلات واسعة، لكن إشارة مصطلح مناسبة تماما، وهنا تكون في باب الماهية وليست في باب الكينونة.

يتعارض تماما النقد الثقافي مع المنهج الأخلاقي للنقد، وذلك التعارض أكثر ما عمل في عبد الله الغذامي، وصراحة نتوجه إلى فلسفة تبناها رولان بارت ترى بأن النص السيئ هو من يولد رد فعل شيء، ونحن لسنا إزاء الإساءة بل إزاء موقف النقد الثقافي خصوصا عند عبد الله الغذامي، وذلك المصطلح المستحدث يعيد المفهوم النقدي إلى مرحلة سابقة من مراحل الحداثة، فتناول ذات المؤلف وأبعادها التاريخية هي جانب شخصي، والنقد من أساس مهمته دراسة بنية النص بكل تركيباتها وأبعادها، وفارق كبير ما بين سلوك النص وسلوك المؤلف، فالنص عضويا هو مادة أدبية أو فنية مكتوبة أو مرسومة، وربما يبلغ إلى حد فكرة بيكاسو حين سأله الجند عن من رسم لوحة الجرونيكا فقال لهم: أنتم من رسمها، ومن جهة أخرى دوستوفسكي يرى بأن الفنان يصنع شخوصه، ومن ثم يتعلم منهم كيف سيعيش، وإذا كان النقد الثقافي يبحث عن الحقيقة، فهو غير ملزم أبدا، والحقيقة التي امامه لا تهمه، وتشكل حقيقة النص الاهمية الكبرى التي عليه بالبحث عنها.

إذا كنا نعيش نظرية النص، فعلينا استبعاد كل ما لا يرتبط بالنص، وعلى وجه الخصوص بعد طرح نظرية تداخل الأجناس، وعلى النقد المعاصر أن يعي دوره وموقعه، وأن يستبعد ما تشبث به النقد الماركسي أو المنهج السياقية، وهناك (تأكيد للمعتقد المألوف للنقد الجديد عن استقلال العمل الأدبي أو اكتفائه بنفسه عن مهاده التاريخي وعن حياة صاحبه، فلقد آمن النقاد الجدد أن وحدة النص لا تكمن في مقصد المؤلف بل في بنية النص) 2، وتشكل الذات الشخصية في عملية الكتابة ليس هناك ذلك القالب، بل هناك أسلوب مرتبط بوعي وتجربة، وإذا كانت عملية الكتابة توصف في ظروف الحداثة بأنها انعكاسا للذات الشخصية للمؤلف وتقف عندها ولا تتعداها، ومن زمن طويل فصلت فريجينا وولف ما بين القارئ الاجتماعي والقارئ الضمني كما أسماه ولفاقتك ليزر، وقد تطورت الفكرة إلى وجود القارئ الجمعي المفترض، بعد ما تحول النص الورقي إلى نص ضوئي، وصار متاح للجميع، لكن يبقى التلقي الضمني هو الأقرب مساحة للنص، وهذا النوع من التلقي ليس فيما بعد المنهج اتجه إلى ذلك المصطلح المسمى بالنقد الثقافي، بل جرى العكس في تبني البعض لذلك المصطلح النقد الثقافي.

***

محمد يونس محمد

......................

1- مدخل الى نظرية النقد الثقافي المقارن، أ. د . حفناوي بعلي، منشورات الاختلاف، ص 43

2- النظرية الادبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، ص 121

 

(انا افكر اذن انا موجود)... رينيه ديكارت

(انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر)... جاك لاكان

(انا افكر في شيء ما اذن انا موجود)... ادموند هوسرل

(انا اتألم اذن انا موجود)... ميلان كونديرا

***

سبق لي ان كتبت مقالة ناقشت بها مفهوم هوسرل لكيجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) نشرتها لي صحيفة المثقف الالكترونية الغراء بعنوان (هوسرل / علاقة الذات بالموضوع) ونشرها موقع كوّة الفلسفي تلاها غيره من مواقع عدة، لقد أخذ هوسرل ان التفكير المنتج هو وعي قصدي عن استاذه برينتانو. وانتشرت المقولة انتشار النار في الهشيم على صعيد الفلسفة خاصة الامريكية منها واستحدث عنها كتابات فلسفية امريكية بالخصوص لا حصر لها حول علاقة فلسفة اللغة بفلسفة العقل وكذا بفلسفة الوعي. لذا سأكتفي هنا بمناقشة عبارة جاك لاكان بضوء مقتطفات من كتاب نقد الحقيقة للمفكر علي حرب وتداخلهما مع تفكيكية دريدا. تاركا تفنيد كوجيتو ديكارت التي اضحت جثة ميتة في كلاسيكيات تاريخ الفلسفة.

لا أرغب مصادرة عبارة جاك لاكان بأن الوجود عنده أمنية الفيلسوف أن يوجد الانسان في وجود انساني أصيل غير ما هو فيه من وجود مجتمعي زائف، وأنّ وجوده العياني الماثل هو وجود مجتمعي لا قيمة ولا نفع من التفكير من خلاله. اولا عبارة جاك لاكان سبقه بها عشرات من الفلاسفة ربما اشهرهم نيتشة، هيدجر، فوكو، هوسرل، سارتر، وفلاسفة اخرين بينهم امريكان. ورغم بهرجة وزهو العبارة الا انها لا قيمة حقيقية فلسفية لها.

فهمي التأويلي التفسيري لعبارة جان لاكان (انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر) ولا يشترط ذلك أن غيري لا يقرأها بفهم وتأويل مغاير بتعدد وتنوع واختلاف القراءات. لكني اجد في تلك القراءات انها تماهي استعراضي فلسفي غير مشروط بالفهم الخاص الذي اراده جان لاكان بعبارته الغامضة العصيّة التي تتقبل التناقض التفسيري كما نجد مثاله الصارخ مارتن هيدجر. الذي كان اوضح هذا التناقض بجدارة اكثر فلاسفة سبقوه.

امّا لو اننا اخذنا عبارة علي حرب مثالا في تفسيره لعبارة (جاك لا كان) فهو يذهب الى تفسير نوع من العدمية التفكيكية المباشرة في الغاء أن يكون الانسان ذاتا مفكّرة في جوهرها، لأن كل ماهو في حجب الغيب ويمتنع الافصاح عن حقيقته يكون ذاتا غير مفكّر بها فتوجد حيث لا وجود وهذا دليل تفسيره في العبارة وفق استراتيجية ميتافيزيقية لا تنطبق في معناها الا على الذات الالهية فقط. وخارج هذا الحيّز لا قيمة لها ولا يمكنها التحقق منها وجودا من عدمه.

استعمالنا مفردات (منهجية تفكيكية عدمية) خطأ اصطلاحي فلسفي ومفهومي لا اعمل به ولا صحة منطقية فلسفية تحتويه. فتفكيكية دريدا، وهورمنطيقا بول ريكور، وحتى طروحات بعض فلاسفة البنيوية حول فلسفة اللغة وحتى خارجها، وعدمية فانتيمنو ليست فلسفات تقوم على منطق عقلي تعترف بالانسان كموجود محوري في مباحث الفلسفة ولا بالحياة. وتطرح هذه الاطروحات الفلسفية مثلا فلسفة اللغة نسقا يوازي الحياة والواقع ولا يتقاطعان معها ولا يتكافلان معها من اجل تغيير حياة الانسان.

فالتفكيكية على لسان جاك دريدا لا منهج لها كما وليست نظرية ولا فلسفة بل هي استراتيجية هدم وتقويض ولا تثق بالعقل ولا تؤمن بالانسان محور مرتكز التفكير الفلسفي - (الانسان ما يريده او يعيه او يفكّر به، انه ذلك الشيء الذي يجهله ولا يفكر به بكلمة اخرى / انا اوجد حيث لا افكر، او افكر حيث لا اكون) عبارة جان لاكان ص137 عن كتاب نقد الحقيقة . عبارة تلتقي ما يعتمده علي حرب بكتابه نقد الحقيقة بتفكيكية دريدا واطروحة جاك لاكان على حد سواء..

يشرح علي حرب في كتابه نقد الحقيقة، أنّ هناك فجوة بين الوجود والفكر بضوء كوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) ودحض جاك لاكان فيلسوف البنيوية وعالم النفس لها في عبارته التي مررنا عليها اعلاه. واهمل علي حرب ذكره كذا فيلسوف ماركسي ووجودي قام قبله ابطال منطقية عبارة ديكارت وتهافتها الفلسفي لعل هوسرل احدهم في ان وعي الذات هو الوجود وليس التفكير وحده يقرر الوجود.

يقول علي حرب (الهوّة التي تقوم في الاصل بين الوجود والموجود، أي الى نسيان الموجود للوجود، نعني نسيان الانسان لوجوده على مايذهب اليه هيدجر، وهذه الهوّة تجعل اللامفكر فيه سلطة على الفكر، اي هي الأصل في قيام مسافة بين ما يقوله القول وما لا يقوله) كتاب نقد الحقيقة ص26.كما يقول ايضا (ان الفكر الذي يتأمل موضوعه فهو يحمل صفة تأمل ذاته) ص118 من الكتاب.

صحيح ان الوجود كمفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه باكثر من ادراكاتنا موجوداته المحتواة داخله التي بغيرها لا يبقى لدينا وجودا يمكننا ادراكه حتى حدسا من غير تعالقه بمحتويات موجوداته داخله.

بعد ان نقّر بوجود فجوة او مسافة بين الوجود البايولوجي العاقل للانسان والفكرالواعي المجرد، لكنما ليست بالضرورة بين الموجود والوجود على صعيد انتاجية وقراءة النص في مجال اللغة، قراءة بنيوية منهجية حديثة كما في حفريات المعرفة،أو قراءة تفكيكية متطرفة، وانما في المجال الانطولوجي الذي تتداخل فيه حقيقة الوجود العاقل واللغة بما يعرف بالقراءة الجديدة كما في طروحات شتراوس وفوكو والتوسيروغيرهم.

وما يفصل الوجود عن غير الوجود الاصيل، هو حالة وعي الذات لوجودها الحقيقي والعالم الخارجي (وهذا ما ناقشته الماركسية والوجودية باسهاب صائب).، وغياب الوجود يكون في الموجود المجتمعي الذي لا يعي فيه الفرد ذاته كجزء فاعل منه، عندها يكون متعيّنا موجودا وليس متعيّنا وجودا، وفقدان وعي الذات لمجتمعيتها تغييب للوجود الاصيل، والوجود الحقيقي الحر والمسؤول هو في وعي الذات وعيا ادراكيا عقليا مسؤولا بحرية المجتمع، يعمل في دائرة المفكّر به وهو ما يمليه العقل ويضطلع به مقصيّا تأثير اللغة الهامشي في توظيف تحديدات الوجود العاقل.هنا للفكر أسبقية على اللغة في ادراك الوجود،والعقل أسبق على الاثنين في وعي الوجود.

الوجود الظل ليس وهما فلسفيا

للحقيقة ان اول من اشار للوجود الثاني الحقيقي للانسان هو افلاطون ومثله فعل نيتشة.هذا الوجود الذي يقصي الموجود او الوجود العياني الزائف الذي لا يعي ذاته الحقيقية ولا حريته المسؤولة عن ذاته ومجتمعه، فهو يعيش نسيان الوجود ويكون وجودا هامشيا مجتمعيا طارئا .. وهنا يمكننا القول لكن بحذر شديد ان نسيان الوجود هو وجود ثان يدركه الفرد بفهم عميق وذكاء لا يجاريه فيه المجتمع واول فيلسوف اوضح هذا الالتباس في اطلاقه صفة اللامنتمي خارق الوعي الذكي الذي يعي وجوده والحياة والوجود من حوله بجديّة وذكاء اكثر مما ينبغي ومطلوب منه هو الفيلسوف الانكليزي كولن ولسون قبل ان ينهي كتاباته بروايات ونقودات لا ترقى لمستوى كتاباته الفلسفية المهمة الاولى بداية ستينات القرن العشرين.. وجود اللامنتمي (كموجود وليس وجود كمفهوم فلسفي) بغض النظر أن يكون وجودا حقيقيا أم وجودا زائفا فهو يعتبر حسب كتابات كولن ولسون الارستقراطية النخبوية في اختياره شخصيات اعماله يعتبر توضيحا لما كان اشار له مارتن هيدجر في كتابه الزمان والكينونة ولم يستطع توضيحه كما فعل كولن ولسون في اكثر من اربع مؤلفات له تدور في هذا المنحى. ولم يكن تاثير مفهوم الوجود الظل الثاني مرتكز الروائي الفيلسوف التشيكي فرانز كافكا في رواياته الخالدة. مثل القلعة والمسخ وغيرهما غائبة عن تاريخ فلسفة الادب. ثمة روايات وكتابات فلسفية تناولت هذا الموضوع لا تحضرني اسماءهم.

من الجدير الاشارة له سريعا هنا ان كولن ولسون عالج بطل موجود اللامنتمي في رواياته وكتاباته من منطلق اغترابي كما ورد عند ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وعند اقطاب الصوفية الدينية عالميا كما بالهند والصين واليابان وكوريا وهكذا.اي ان العزلة المجتمعية واعدام اللغة الصوفية من قبل صاحب التجربة الصوفية مطلوبان لذاتهما وليسا مفروضان مجتمعيا.

هيدجر ونسيان الوجود

لكن نحن نميل الى أن نسيان الوجود او (الوجود الثاني الغائب الحاضر) يكون وجودا زائفا كما يذهب له هيدجر، فالوجود المتحقق ذاتيا كوجود أصيل لا يحتاج مفارقة وجوده في نسيان الوجود أي الاندماج في الكليّة المجتمعية الذي هو شرط تحقق الذات وجودها الاصيل حسب مذهب الوجودية والظاهراتية.

فالذات الحقيقية لدى هيدجر هي وجود – في – عالم وهو ما جعله يتخبط في كتابه باكثر من خمسين صفحة من مؤلفه الزمان والكينونة دونما قدرته اثبات صحة ما طرحه في عبارته التي استقى جذورها من استاذه هوسرل صاحب الظاهريات الذي اخذها عن برينتانو في مقولة (الوعي القصدي) التي دفنت كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود الى غير رجعة حياة.

هيدجر رغم انحيازه لمقولة برينتانو واستاذه هوسرل الوعي القصدي هو الذي يجعل الفرد يعيش امتلائه النفسي والوجودي في وجوده – في – عالم . الا انه عجز اثبات ايا من الوجودين تحقق الذات الانسانية امتلائها الوجودي الاصيل هل عندما تكون داخل مجتمع جزءا منه متفاعلة معه ام عندما تكون خارج المجتمع منفصلة عنه تعيش وجودا بذاته فقط..

علي حرب والتماهي التفكيكي

اذا اردنا ان نناقش بعض المنطلقات الفلسفية لكتاب علي حرب نقد الحقيقة، نكون ملزمين في توخّي الدقّة والحذر ان لا ننزلق بين قراءة النص قراءة بنيوية نسقية على صعيد التشكيل اللغوي واللساني المحض، وتناصّه المتداخل مع الفلسفة، وهما النص الادبي والنص الفلسفي وان هما يلتقيان منهجيا كما في الفلسفة البنيوية الا أنهما في حقيقة الامر يمتلكان استقلاليتهما وخصوصية أحدهما عن الثاني على صعيدي التجنيس الادبي والتجنيس الفلسفي وعلاقتيهما المختلفة باللغة والفكر،عليه ستكون مناقشتنا على صعيد قراءة النص الفلسفي وتعالقه مع لغة النص الادبي والشعري منه تحديدا، يقوم على الأخذ بنظر المناقشة أنهما يختلفان اختلافا كبيرا حتى وأن جمعتهما اللغة كوسيلة تعبيرية واستنطاق لفظي لكليهما.

ولتوضيح اكثر فأن النص الفلسفي هو غيره النص الديني او التصوفي وهما غيرهما في النص الادبي،فلكل واحد منهم مجال اشتغاله وميزاته بخصائص تفرّده الفني والجمالي والتركيبي.

(في الشعر كما في الفلسفة تستنطق الاشياء من جديد، ويعاد خلق العالم بالاسماء والكلمات، او بالفكر والمفهوم، فالشاعر والفيلسوف كلاهما يسعى الى الاستنطاق واعادة الخلق والانتاج،كل على طريقته) كتاب نقد الحقيقة/ علي حرب. ص119

ان الفجوة التي تفصل او تتوسط (الفراغ)الافتراضي بين الوجود الحسّي والفكرالتجريدي،وهو افتراض قائم ادراكيا عقليا قبل ان يفهم او يحدس فكريا او لغويا، هي فجوة لا تتوسط وجودين ماديين أثنين، بل ان الوجود والفكر هما وجود حقيقي مادي واحد هو كينونة الانسان بعلاقته الذاتية مع جوهره المثالي الأصيل الذي يرغب بلوغه.

علاقة الذات بجوهروجودها، بأغترابها وأنعزالها عن الناسيّة المجتمعية في الوجود على حد تعبير هيدجر،أي الاندماج فيما يطلق عليه هيدجر مفارقة الانسان لوجوده الحقيقي الاصيل من خلال اندماجه المتكيّف والتام بالمجتمع او اندماجه بالكلية حسب تعبير هيجل.(يلاحظ تناقض هيدجر فيما سبق لنا الاشارة له قوله ان الوجود الاصيل لا يكون الا ضمن الاندماج بالكية المجتمعية وما اطلق عليه نصا ( الوجود – في- عالم ) متماشيا مع هوسرل وسارتر.

أما في حال نشدان أوالتطلع لتحقيق الكمال المثالي في نزوع الذات تحقيق وجودها الفاعل الأسمى بالحياة او على الاقل في السعي نحو بلوغ مراتب تصاعدية في محاولة تحقيق مثل تلك الاهداف فهو نزوع نوعي وجودي لفرد او مجموعة افراد مستقلين عن الاندماج في مجتمع نسيان الوجود.

الناسّية في الوجود كما عّبر عنها هيدجر هي بتعبير مباشرعن وجود الفرد كينونة انسانية هامشية زائفة لا تملك الحد الادنى من الخصائص النوعية المجتمعية التي يحتازها الوجود الاصيل للفرد. بل هي تشترك بجميع المواصفات المجتمعية السطحية التي تبعد الانسان وتقصيه من الحصول على الوجود الاصيل بالحياة. والكليّة المجتمعية ما هي الا صهر الكيانات المتجانسة بالنوع مجتمعيا في معترك الحياة الرتيبة التي يتوزعها اشباع غرائز البقاء وغرائز اللذة فقط. عن هذه الحالة في نسيان الوجود الاصيل في معايشة الوجود الزائف يطلق عليها هيدجر توصيف قاسي جدا اذ يعتبرها الانحطاطية في الوجود.اي المجتمع هو ام الرذائل بحسب فهم هيدجر لتحقق الوجود الاصيل.

المجتمع او الموجود الجمعي لنسيان الوجود الحقيقي هو دائرة مقفلة تتقاذفها بلا انقطاع هواجس الحياة اليومية، ويملأها اشباع غرائز الحاجة البيولوجية الى الطعام والجنس والعمل والنوم، وجميعها عوامل تغييب الوجود الاصيل، في استبعاد الوجودات النوعية وليس الوجودات الهامشية المجتمعية المتكيّفة مع الكلية العامة. الوجود النوعي معناه وعي الذات جيدا، ووعي الذات يقود لا محالة نحو الانفراد عن مجتمع الناسيّة، مجتمع نسيان الوجود، الوجود الاصيل الذي يتجسّد فيه وعي الذات، باغترابه عن مجتمعه في محاولته الوصول الى تراتبية أعلى في سلّم الحصول على صفات التمّيز والتفرّد النوعي في محاولة الوصول الى (مثل) الانا العليا.،وهي نزوع مثالي في محاولة بلوغ مراتب الكمال، تشبه من حيث الغاية النزعة التصوّفية الاغترابية باختلاف الوسيلة والهدف، وكلاهما نزعتين لا يمكنهما التحقق.

لمناقشة علاقة الفكر بكل من اللغة والعقل،تكون المسافة التي تفصل بين الوجود والفكر هي علاقة الانسان بذاته لا غير، أي علاقة وعي الذات المحكوم بالتفكير والادراك العقلي. وان العقل وليس الفكر هو السلطة المتنفّذة في وصايتها وحمايتها للوجود الانساني الفاعل، وفي تغييبنا لهذة الأولوية للعقل من أجل فرض سلطة الفكر على الوجود نقع في مفارقة تراتيبية في الوظائف العقلية التي يرفضها العقل قبل رفض النسق المنطقي التجريدي لها، هذه المفارقة في تراتيبية النسق الوظيفي للعقل، يدفعنا الى التساؤل أيهما أسبق تاثيرا على الوجود العقل ام اللغة؟ طبعا يكون الجواب هو العقل منتج الفعالية اللغوية التي هي ملكة يعبّر بها الوجود عن حقيقته وواقعيته كوجود عاقل.أذ لا وجود اصيل بدون عقل، ولا وجود لغة او فكر من دونه ايضا.وعبارة جاك دريدا عبثية في محاولة انكار دور العقل وعلاقته بالفكر عندما يقول (العقل هو العدو اللدود للفكر).

أن تعابير مثل المسكوت عنه واللامفكّر فيه والغائب في ماوراء النص كلها تعبيرات لا معنى لها من دون فاعلية العقل كمرجعية ثابتة في كشفها وعلاقته بهما (الوجود واللغة). اما في جعل اللامفّكر به بأنه يمتلك سلطة على الوجود في تغييب العقل نرى لا حاجة لمحاججته ودحضه كونه اخلالا وظيفيا في قدرات العقل الفسلجية وتراتيبية علاقته بكل من الوجود والفكر، مقارنة بفضاء اشتغالات واستعمالات اللغة.وتأثيرها في تحديد الوجود الزائف والوجود الاصيل.ومن حيث اللامفّكر به احتمال او تأويل يتعدد ويتجاذب ويتضاد، وقياسا به بسلطة (اللامفكّر فيه) في قراءة النص ومن ثم تأثير ذلك على الوجود هومحض قصدية في تجاوز والغاء دور العقل في الاستجابة الادراكية للوجود او تعطيله قبل تعطيل النص واللغة المتعالقتان معه.

يقول علي حرب (يبنى النص على الغياب والنسيان، لا على الحضور والتذكّر، والغياب هو غياب الجسد والدال، وهما الحقيقتان اللتان لا ينفك عنهما وجود الانسان) ص27

هنا نود تسجيل الملاحظات التالية:

ليس الجسد واللغة حقيقتا الوجود فقط، بل العقل واللغة، فقد يكون الجسد مفارقا وجوده العقلي والفكري معا كما في جسد الميت او المجنون او المريض بمرض نفسي عصابي او عقلي انفصامي،أن في تعطيل العقل لا يبقى لوجود الجسد ولا اللغة أي معنى او قيمة،و تنتفي في عطالة العقل فاعلية وحضورالفكر و اللغة.

على سبيل الفرض، فالجسد لا يمثّل الوجود، كما لا يتحدد الوجود بتلازم الجسد والفكر او في تلازم الجسد والروح فهما غير كافيان في اثبات الوجود بدون العقل.

وقريب من هذا المعنى متداخل معه يعبر ناعوم جومسكي فيلسوف وعالم اللغات في اتجاهه اللغوي بالتحويلية التوليدية معارضا الفهم البنيوي والتفكيكي قائلا: ان الانسان المتكلم هو المولّد للكلمات والعبارات، وله الدور الفاعل في صنع اللغة وإيجاد توليدات جديدة لا تنتهي، وبهذا فهو يقاطع البنيوية حسب دكتور صلاح فضل والتفكيكية اكثر أيضا.

يتوجب علينا الحذر كما اشرنا له سريعا سابقا من الانزلاق في الخلط بين قراءة النص الادبي او السردي وفق منهجية القراءة البنيوية او التفكيكية التحليلية في علوم اللغة واللسانيات الحديثة من جهة ونص الفلسفة من جهة اخرى، فقراءة النص الادبي تكون وظيفة اللغة فيه تداولية تعبيرية تنحصر في ثنائية (نص ومتلقي) وهنا يكون مجال اشتغال اللغة الثري في تأثيث علاقة النص بالتناص، بالظاهر والمخفي، بالمعلن والمسكوت عنه وهكذا من ثنائيات متعددة تخرج النص ان يكون نصّا فلسفيا في علاقته بالوجود الانساني من حيث هو وجود أصيل أم وجود زائف. النص المكتوب او المرئي او المسموع لا يحدد وجود الشيء بدون مرجعية العقل، بل يمكنه تحديد الفكر من خلال النص.وكل وصاية على اللغة او الفكر او الوجود الاصيل مردّه ومرجعيته وصاية العقل اولا واخيرا ولا وصاية قبلها تسبقه.

ليس باللغة يتحدد الوجود الانساني ولا بالفكر، بل باللغة يتحدد الموجود، الذي هو نسيان الوجود الحقيقي، وبحسب الاستاذ حرب،فقد وضعنا هو امام مفترق طريقين لا نعرف أيهما نختار، هل نأخذ بالغياب والمنسي والمسكوت عنه في النص، ام نأخذ حضور النص كما هو نص استقبالي مدرك واقعيا وكل مدرك واقعي يكون عقليا، تتعدد قراءاته و تتعدد وظائفه في تحديد الوجود، وفي نقد النص او تأويله لغويا فقط لا نكتسب وجودنا، وبأي المعنيين اللذين ذكرناهما يكون تعاملنا مع النص سليما لغويا كوسيط تداولي او تأويلي فلسفي ملازم؟ من المعلوم المتداول ان اللغة ليس متعينا ثابتا بل هي فعالية ألسنية متغيرة ومتطورة باستمرار يمكن التعبير بها فقط. اللغة صيرورة معنى متغير على الدوام في تبعيته وملازمته حركة الواقع.

ورد ص24 من كتاب علي حرب(لقد تبدّلت حقّا النظرة الى النص الفلسفي تبدّلا كليّا، فلم يعد يقرأ بوصفه خطاب الحقيقة المطلقة،والماهيّات الازلية، والهويّات الصافية، واليقينيات الثابتة، ولم يعد ينظر اليه فقط من جهة صدقه العقلي، او صحته المنطقية، او تماسكه النظري، او تواطئه الدلالي، وانما ينظر اليه من جهة اختلافه او كبته، او سياسته وهيمنته، او ضلاله وتلاعبه.. الخ).

تعقيبنا أن خطاب الفلسفة منذ عصر الاغريق والرومان والى يومنا هذا لم يكن خطاب الحقيقة المطلقة وليس جديدا ان لا يكون كذلك بالامس واليوم ولا في المستقبل، ومن المؤكد ان الفلسفة على امتداد التاريخ لم تكن الحقيقة شيئا مسلمّا به لتعدد معانيها واختلافات دلالاتها ومحدداتها الهلامية للمعنى كمصطلح او كمفهوم.

فالخطاب الفلسفي شأنه شأن أي خطاب مبني اي (بنية نسقية ) فكرية لغوية تداولية ذات منشأ بنيوي نسقي، خطاب يحمل كل تناقضاته الداخلية، وكل نقائصه وعوامل انحلاله الذاتية والموضوعية داخله، ولم يأت عصر عومل به النص الفلسفي كيقينيات غير مشكّك بها الى حد أن كلود بيرنار قال(أكاد اجزم أن العالم ينام على وسادة من الشك). وهي عبارة قيلت بعد ان كتب ديكارت (مقالة في المنهج) قبل قرن حول الشك.حتى القراءات البنيوية والتفكيكية الحديثة الفلسفية وحفريات المعرفة والتنّاص اللغوي، تعامل اليوم وتتعرض الى نقد لا ذع يستهدفها بالصميم، وسيطالها تجاوز لاحق، وتعامل كما هي اليوم لا يقينيات معرفية ولا يقينيات منهجية في الافصاح الفلسفي والتعبير الفكري وعلى صعيد اشتغالات اللغة وحفريات المعرفة السائدة اليوم أيضا، نحن اليوم نعيش في عالم يتغير بالدقائق على صعيد كل محمولات الحياة وليس النص الفلسفي استثناءا من هذا التغيير الحتمي.

أن في خروج النص عن وصاية المؤلف يقع تحت وصاية المتلقي وتعدد القراءات الاختلافية التأويلية له، لذا لا يمكن لنص يتداوله اثنان قرائيا لا يختلفان عليه مهما كانت نوعية تلك القراءة حرفية او منهجية او فلسفية او موضوعية او غيرها. وكل ما يمكننا قوله سبقنا غيرنا بقوله ربما بافضل منا، ولنا عليه شروحات وتفاسير واضافات جديدة ولا اكثر، وما نقرأه ونقوله اليوم سيأخذ السلسلة التراتيبية في التداول حاضرا وفي المستقبل بنفس مناهجية التداول المعرفي في التجاوز او الإلغاء في سنة الحياة التي يحكمها التبدل والتغيير الدائمين.

***

علي محمد اليوسف

...................

المصدر: كتاب المفكر علي حرب (نقد الحقيقة).

 

هل يمكن للفيزياء ان تساعدنا في فهم الاخلاق؟ بصرف النظر عن الإختراقات المذهلة في علوم البصريات والرياضيات والميكانيك، وتوضيحات الجاذبية، واختراع التفاضل والتكامل، والتنبؤ بحركة الكواكب، لكن ماذا حقق لنا اسحق نيوتن؟

لقد حوّلت أعمال نيوتن العلوم، ومن ثم المجتمع. لكن إرث نيوتن ترافق مع جانب قبيح: هو شجع على ظاهرة "حسد الفيزياء"، التي بدورها قادت الانسانية الى أماكن مظلمة.(1) "حسد الفيزياء" هو الرغبة بايجاد صياغة رياضية من النوع النيوتني او قوانين من الجبر في حقول اخرى. أحيانا المحاولة كانت سخيفة، مثلما حصل مع الاقتصاديين عندما حاولوا توضيح أفكارهم الاقتصادية في معادلات جبرية. عندما يتم تطبيق حسد الفيزياء على علم النفس، التاريخ،صراع الطبقات، او التطور،فان المفكرين الحاسدين للفيزياء عادة ينتهون بوصف الانسان بعبارات مبسطة وخطيرة.

نظرياتهم ستعمل فقط لنموذج من الناس الذين جُرّدوا من الدقة والتعقيد. وكما في العديد من مآسي القرن العشرين،عندما أصبح الناس مجرد عناصر في معادلة، هم يتم التعامل معهم كما لو كانوا بلا قيمة ابدا.

حسد الفيزياء اثّر في الفلسفة ايضا،وبالذات،الأخلاق. الفيلسوف الاسكتلندي فرانسيس هتشسون Francis Hutcheson متأثراً بقانون نيوتن الثاني بان القوة تساوي التعجيل مضروب بالكتلة (F-ma)،اقترح بان الخير يساوي أعظم سعادة لأعظم عدد من الناس (G=gHgN). جيرمي بينثام كيّف فكرة فرانسيس الى ما أسماه "حسابات المتعة" – وهي العبارة التي تعتمد على رياضيات نيوتن. الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط دعم نوعا مختلفا من الصيغة تحدّد ما يجب ان نعمل: نحن يجب ان "نتصرف فقط طبقا للمبدأ الذي من خلاله انت تستطيع في نفس الوقت ترغب ان يصبح قانونا عالميا". لذا فان كانط كان يستعمل فكرة نيوتنية للقانون العالمي ليخبر الناس ما يجب ان يقوموا به. كل من كانط وبينثام اعتقدا انهما أماطا اللثام عن ألغاز الفلسفة الأخلاقية بنفس القدر الذي حاول به بروفيسور كامبردج إزالة الغموض عن الكون.

لكن هل ان قوانين الأخلاق تشبه حقا هذا – شيء واقعي مثل حركة الكواكب،تنتظر ان تُكتشف وتُعرّف؟

بالتأكيد سيكون مفيدا لو كانت كذلك، لو تم بناء اسس للاخلاق فان جميع تلك المآزق الأخلاقية ستختفي. القرارات الصعبة يمكن حلها بسهولة بالضغط على علامة (=) في الحاسبة. الناس يحتاجون فقط الى تطبيق الصيغة الصحيحة لكي يكون الجواب واضحا. بالتأكيد ان بعض المواقف الأخلاقية فعلا تبدو كأنها مطلقة. التطهير العرقي هو مروّع، وكل من يقول انه ليس شرا هو خارج المألوف. عبارة "التطهير العرقي خاطئ" هي واضحة لنا مثل الجاذبية. لكن العديد من المعضلات الأخلاقية تبدو كثيرا كأنها مسألة رأي. هل يجوز ارتداء قميص أصفر اللون في مراسم عزاء؟ او سحق حشرة عند الإسراع نحو الباص؟ هذا النوع من الأسئلة يعتمد على الذوق والسياق. هي لاتزال اسئلة أخلاقية، لكن لكل سؤال يبقى التوازن بين الملائمة وخلق ضرر مفتوحا للنقاش. نحن يمكننا الاتفاق او الاختلاف على هذه القضايا ونبقى أصدقاء.

أفكار حول الحقيقة الاخلاقية

احدى المشاكل امام الباحثين عن صيغة نيوتنية للأخلاق هي انه من الصعب رؤية كيف يمكن ان تكون الادّعاءات الأخلاقية مثلما هي الحقائق الاخرى حول العالم. فمثلا، المجتمع له تأثير هائل على ما يُعتبر صحيحا ام خاطئا. حتى المحرمات المطلقة مثل التطهير العرقي كان مقبولا في روما القديمة وفي رواندا وآلمانيا النازية وأماكن اخرى. كيف يمكن معرفة اننا على صواب حول ذلك؟ تناول اللحوم وإحراق الوقود الاحفوري - هي سلوكيات مقبولة على نطاق واسع في معظم تاريخ الانسان – لكن هناك منْ ينظر اليها باعتبارها مستهجنة اخلاقيا . ايضا، كيف نكتشف الصحيح والخطأ؟ هما ليس مثل الكواكب بحيث يمكن مشاهدتهما في السماء، وهما ليس تفاحا يؤذي منْ يسقط على رؤوسهم. نحن لا نستطيع شم او تذوّق او سماع القيم الأخلاقية. بدلا من ذلك، نحن نستحضرها في أذهاننا تماما مثل الأشياء التي نتصورها والتي هي غير موجودة حقا. هذا يعني ان الصواب والخطأ لهما من المشتركات مع المخلوق الاسطوري Tooth fairy (2) اكثر مما مع مفاهيم الكتلة، المسافة، والزمن التي غيّر بها نيوتن خارطة العالم.

لكن عندما ننظر عن قرب سنجد خمسة أفكار حول الكيفية التي يعمل بها الخطأ والصواب، وهي تشير الى اتجاه مثير وهام جدا.

1- انت عندما تسمّي عملاً "صحيحا"، انت في نفس الوقت تُجبر لتسمية أي فعل مشابه آخر بـ "صحيح" ايضا. مالم يكن هناك اختلاف مهم أخلاقيا فهل من المقبول وصف، على سبيل المثال، القتل الواسع كجريمة فظيعة بينما جرائم القتل الآخرى مقبولة. نظريا،عند القول ان فعلا معينا هو صحيح او خطأ،انت تقرر كم هو صحيح الفعل المشابه له، حتى لو كان ذلك الفعل يبعد عدة أميال او قرون.

2- تسمية "صحيح" و "خطأ" تنطبق فقط على أشياء معينة. الفعل يمكن ان يكون خيّراً، حالة ذهنية او نية، والمحصلات يمكن مقارنتها بنفس العبارات، البعض اكثر انصافا من غيرها. لكن الشيء غير الحي مثل الكرسي ليس جيدا او سيئا تماما مثل الطريقة (الأخلاقية). عندما نصف الفن، الهندسة، او طب الأسنان بـ "جيد" نحن نبيّن نوعا مختلفا من الإعجاب او التقييم له. انه ليس حكما أخلاقيا مألوفا.

3- انه يمكننا فقط تطوير شكل متماسك للأخلاق عندما نطبق تسميات الجيد والسيء فقط على نوع واحد خلال نفس الفترة – النية او الافعال او المحصلات. العديد من المآزق الأخلاقية تبرز عندما نمزج هذه الطرق من الحكم. أخلاق بنثام مثلا، تقدم حكما لكل قرار بالارتكاز فقط على كم عدد الناس السعداء في النهاية: بالنسبة له، المزيد من السعادة هي أفضل دائما. لكن أخلاقه تبدو غريبة عندما يُحكم عليها من وجهة نظر أفعال او نوايا: هل من الصواب حقا إجبار اثنين من الناس الأبرياء للمبارزة حتى الموت لو ادّت الى جعل 40 الف مشاهد يستمتعون جدا بالمشاهدة؟ الصواب يتضاعف لو كان عدد المشاهدين 80 الفا؟ يبدو كما لو ان الأخلاق تعمل بوضوح في عالم او بُعد احادي، لكن المشاكل تأتي عندما نتحول من بُعد الى آخر.

4- طريقتنا بالتفكير حول الصواب والخطأ تؤثر على طريقتنا في التفكير والتصرف تجاه الناس والأشياء. انت يمكنك تمرير طلب إعانة لشخص بلا مأوى بدون الشعور بالذنب، ولكن عندما تسأل نفسك "ما هو الشيء الصحيح للعمل هنا؟" انت ستفكر وتتصرف بطريقة مختلفة. انت ستتسائل اولاً ان كان الشخص يستحق المساعدة. مجرد التفكير في الموقف سيغيّر مشاعرك. لكي تنظر في مأزق أخلاقي هو ان تؤثر فيه.

5- واخيراً، ليس من الواضح ان كان للصحيح والخطأ أي مكان حقيقي في العالم، لأننا قد لا نمتلك الرغبة الحرة. البعض يجادل ان كل قراراتنا تتشكل بفعل التطور والبيئة المحيطة او بفعل الأحداث الفيزيائية السابقة، ولهذا من الوهم الاعتقاد اننا حقا نعمل خيارات. اذا كانت هذه الرؤية صحيحة، عندئذ نحن لا نستطيع حقا وصف قراراتنا بـ "الصحيح" او "الخطأ": انها تشبه لوم المحيط لجعله الساحل رطبا. اذا كان الناس مُسيطر عليهم بالكامل من قبل الطبيعة فسيكون في غير محله مدحنا او لومنا على سلوكنا لأننا في الحقيقة لم نتخذ أي قرارات حرة للقيام بذلك،العالم هو الذي صنع قراراتنا .

أخلاق الكوانتم

هذه الأفكار الخمس تشير الى ان الصح والخطأ هما أشياء غريبة جدا. في الحقيقة، الفيلسوف الاسترالي Jl Mackie سمى القيم الأخلاقية بـ "شواذ"، واقترح انها غير عادية جدا لدرجة يستحيل التفكير بها مثل أي شيء آخر. لكن دعنا ننظر مرة اخرى في هذه القائمة من كيفية عمل الصح والخطأ في العالم. نحن سنراها أشبه كثيرا بشيء درسه علماء الفيزياء في آلاف التجارب بعد نيوتن بقرنين.

كل هذه الافكار الخمس حول الاخلاق تأتي مباشرة من العالم الكوانتمي. ظاهرة التشابك الكوانتمي هي ظاهرة محيرة في كيفية عمل الكون. هذه الظاهرة اطلق عليها اينشتاين عبارة "عمل مخيف عن بعد" spooky action at a distance . التشابك يعني ان مظاهر جسيم واحد لزوج متشابك يعتمد على مظاهر الجسيم الاخر، لا يهم المسافة بينهما. هذه الجسيمات قد تكون الكترونات او فوتونات، والمظهر قد يكون الحالة التي هو بها كأن يكون يدور في اتجاه معين او غيره. الشيء الغريب انت عندما تقيس شيء ما حول الجسيم في الزوج المتشابك، انت فورا تعرف شيء ما حول جسيم آخر حتى لو كان يبعد ملايين السنين الضوئية. هذا الارتباط الغريب بين جسيمين اثنين هو تلقائي و يبدو يخرق القانون الأساسي للكون. تأثير "اللاّمحلية" هذا يذهب بالضد من كل بداهتنا مثلما ذهب بالضد من اينشتاين الذي بقي مشككا به حتى وفاته. لكن الإختبارات المتكررة أثبتت بان هذا هو ما تقوم به بالفعل الجسيمات دون الذرة. في الحقيقة، ان جائزة نوبل للفيزياء لعام 2022 مُنحت مناصفة لكل من Alain Aspect و Anton Zeilinger لإثباتهما في النهاية صحة ذلك التشابك الكوانتمي.

ان ظاهرة "عمل مخيف عن بعد" تعمل في مجال الأحكام الأخلاقية ايضا: كما نرى، الحكم على شيء كونه "سيء" ينطبق فورا على مواقف او سلوكيات مماثلة مهما كانت متباعدة. لذا فان الحكم في مكان معين له تأثير مباشر وفوري على موقف آخر حتى لو كانت هناك مسافة كبيرة ولا وجود لإرتباط مباشر بين الاثنين.

تشابه آخر بين فيزياء الكوانتم والاخلاق هو في الحدود التي نستطيع بها تسمية الأشياء. مثلما الاخلاق تنطبق فقط على اشياء معينة، هناك عدد محدود من مختلف الجسيمات دون الذرة للدراسة. العدد الدقيق يقال (17 جسيم او اكثر)، لكن الجسيمات الاولية (كورك) واللبتونات والغلونات مؤهلة ايضا للتسمية.

الأخلاقيون كالعلماء يختلفون بقوة، لكن معظمهم يقبل ان الصح والخطأ يمكن اطلاقهما على النوايا والأفعال وعلى خصائص معينة من النتائج، ولكن ليس على معظم الاشياء الاخرى.

فيزياء الكوانتم ايضا تبيّن ان الأشياء الكوانتمية يمكن ان تتصرف كالموجات في بعض المواقف ومثل الجسيمات في مواقف اخرى. الضوء،مثلا، يمكن ان يؤثر على شبكية العين كفوتون منفرد، كالجسيمات، لكن يمكنه ايضا ان يأتي على شكل موجات تشكّل نماذج للتدخل، تقود الى ضوء "موجي" ومناطق معتمة على الشاشة بعد ان يتغلغل الضوء من خلال فتحات ضيقة . الموقف مشابه في الاخلاق، التي بها يبدو الخطأ والصواب ينطبق على الافعال في بعض الظروف (التي يركز عليها كانط)، وفي مكان اخر على نوعية المحصلات (اتجاه بنثام). في هذه الطريقة، ثنائية (الفعل- النتيجة) او بلغة اخرى (ثنائية الذرائعية الاخلاقية) للخطأ والصواب تعكس ما يُسمى "ثنائية الموجة- الجسيم" في فيزياء الكوانتم. ثم هناك مبدأ (لايقين هيزنبيرغ). الفيزيائي الالماني ويرنر هيزنبيرغ أثبت اننا نستطيع معرفة سرعة موجة الجسيم دون الذرة او موقعه لكن ليس كلاهما ابدا، ونفس الشيء مع الازواج الاخرى للصفات الكوانتمية. كذلك تماما، في الفلسفة الاخلاقية، نحن نستطيع ان نتأكد ان شيء ما صحيح طبقا لنتائجه، او عبر الحكم على الافعال، ولكن ليس بالنظر الى كلاهما في وقت واحد. نحن ننتقد شخصا ما على السرقة (فعل سيء) او نمتدحه لإعطاءه النقود لفقير (محصلة جيدة)، لكن الجمع بين الاثنين هو حكم اخلاقي معقد. ايضا، نحن نمتلك تأثير المراقب. في فيزياء الكوانتم، كما ثبت مرارا، ماهية وكيفية اختيار المراقب للملاحظة سوف يؤثر بعمق على ما يلاحظ. التفكير او ملاحظة قرار اخلاقي سوف ايضا يؤثر على خيارنا الاخلاقي بعمق. المراقبة –غير المؤثرة المرتكزة على الاكتشاف، كما جرى بواسطة نيوتن، هي مستحيلة للاثنين.

اخيرا، فيزياء الكوانتم ربما تساعد في الإجابة على معضلة الرغبة الحرة.على المستوى الانساني ربما كل شيء يتقرر سلفا بواسطة البيئة، الجينات، وعموما، بواسطة ما حدث من قبل. في النطاق الكوانتمي،جسيمات دون الذرة يمكنها ان تظهر تلقائيا ليس من أي مكان . اذا كانت الخيارات في أذهانا تظهر عفويا ايضا، هذا ربما يحل لغز الرغبة الحرة. الصح والخطأ هما غريبان جدا، كما ذكر ماكين: لكنهما يشتركان في غرابتهما مع جسيمات دون الذرة بطريقة مشابهة و مثيرة.

غرابة اخرى

هناك بعض التأثيرات الكوانتمية الاخرى التي لها ما يوازيها في الفلسفة الأخلاقية. النفق الكمومي Quantum tunnelling،مثلا، يبيّن كيف يمكن لجسيمات ما دون الذرة ان تخترق الحواجز بطرق لا نتوقعها (عبر النفاذ من خلال الجدران الصلبة، مثلا). هل هذا يقدم لنا دروسا في كيفية التنبؤ بالعواقب الأخلاقية؟

لذا هل ميكانيكا الكوانتم تثبت ان التطهير العرقي حقا خطأ، او حتى تساعدنا في ان نقرر أي لون قميص نرتديه في العزاء او هل من الجائز السحق على حشرة؟ يمكن ذلك ولكن ليس بشكل مباشر. لكنها بالفعل تخبرنا عدة اشياء حول المعتقدات التي تمنع القتل الواسع، او اشكال الموضة للمناسبات الرسمية، او قواعد للسحق على الحشرات. انها تخبرنا مثلا بانه اينما توجد العقيدة او الحكم الاخلاقي، فهي مثل الجسيم دون الذرة سوف تتشابك في مواقف اخرى مماثلة بمكان آخر.

تماما لكي تراقب العقيدة هو ان تتأثر بها، وتؤثر بدورك على تطبيق العقيدة (حتى عندما نرفضها). بعض المعتقدات قد تُطبق فقط عندما نحكم اما على الافعال او على نتائجها، لكن ليس الاثنين. ونطاق المعتقدات له أهمية ايضا: المعتقدات التي تنطبق على شؤوننا الفردية قد تتحول الى معتقدات مختلفة جدا عندما يشترك بها المزيد من الناس.

هل كل هذا يأخذنا نحو الجواب للسؤال الأساسي جدا في الفلسفة الأخلاقية، "ماذا يجب ان نعمل؟"

ربما لو فهمنا فيزياء الكوانتم بشكل أفضل، قد نجد الجواب. الحل لأكبر المشاكل التي تواجهها الانسانية ربما يمكن اكتشافه في أسرار أصغر الأشياء التي نعرفها. محطّم الذرة في مختبرات المنظمة الاوربية للبحوث النووية CERN،او بعض مصادمات هادرون الاخرى، ربما تساعدنا فعلاً في جعل العالم مكانا أفضل.

يبدو ان فلاسفة الأخلاق كانوا على صواب في حسد الفيزياء. لكن لا يجب ان يكون ذلك لفيزياء نيوتن. وعلى الرغم من ان الصياغة الفاخرة للجاذبية والتفاضل والتكامل أرشدت الانسانية بدقة كبيرة للقمر، لكنها أرسلت الفلاسفة على الارض، بما في ذلك كانط وبنثام، في الاتجاه الخاطئ. اذا اردنا ان نعرف أسرار الصح والخطأ، فان ميكانيكا الكوانتم هي المكان المناسب للنظر.

***

حاتم حميد محسن

.....................

Ethical Truth in light of Quantum Mechanics, philosophy Now, June/July2023

الهوامش

(1) عبارة حسد الفيزياء physics envy تشير الى رغبة أي حقل من الدراسة ليكون مثل الفيزياء من حيث الدقة والتنبؤ والتكرار، والقابلية على النمذجة والتنظير. معظم الحقول التي تستلزم اناسا مثل الاقتصاد والعلوم الاجتماعية نادرا ما تكون انيقة ومرتبة على شكل صياغات رياضية دقيقة. هي بدلا من ذلك تكون فوضوية وغير مؤكدة ومليئة بالسياقات والتاريخ والعوامل الخارجية وهو ما يجعل من الصعب الاستفادة منها بطرق قابلة للتطبيق الواسع مثلما يحصل في الفيزياء.

(2) قيل للاطفال انهم عندما يضعون سنهم المخلوع تحت الوسادة، سيأتي هذا الكائن الاسطوري ليلاً ليسرقه منهم.

فرش اشكالي: محاورة هيبياس الصغير زمنيا جاءت بعد محاضرة القاها هيبياس في مدرسة فيدوسترات وقد اخذت هذا الاسم تمييزا لها عن محاورة هيبياس الكبير وهي تصنف ضمن المحاورات الافلاطونية المبكرة والملمح الأول فيها ان افلاطون بروح سقراطية نجح من خلال هذه المحاورة في رسم صورة السفسطائي هيبياس بفرشاة ساخرة وبألوان فاتحة وقاتمة فهيبياس الحكيم والعقل المدبر الذي يعرف كل شيء ويمكنه أيضا ان يصنع أي شيء، المتحضر والحاذق الذي يعلم الاخرين الحكمة ويأخذ المال منهم والسياسي المحنك صاحب المهمات الصعبة والذي وصف نفسه بانه لا يوجد افضل منه انزله افلاطون في هذه المحاورة الى مرتبة السفسطائي الباحث عن المال المتاجر بالمعرفة شخص يدعي الحكمة ومع ذلك هو يقول أشياء تافهة وسخيفة ويتصرف باندفاع وسذاجة ومكر وخبث، فالمحاورة في ظاهرها تبدو للوهلة الأولى محاكمة فكرية واخلاقية القاضي فيها سقراط والمتهم هو السفسطائي هيبياس.

هذه الصورة رأى فيها الدكتور الطيب بوعزة ومعه نفر من الباحثين والمفكرين الكثير من التجني فالسفسطائي هيبياس في نظرهم يمثل العقل العملي البراغماتي عقل يتميز بالتفكير النسقي المنسجم مع متغيرات الواقع الاجتماعي والسياسي، سلوكه أخلاقي لا يتناقض مع القانون الطبيعي الذي كان يؤمن به سقراط وعقله فلسفي مشدود الى حراك الاجتماع* وهنا نتساءل أي الصورتين أقرب الى تمثل حقيقة الفكر السفسطائي؟ وكيف يفسر هذا التهجم على شخصية هيبياس ومن معه من قبيلة السفسطائيين؟

الواقع ان محاورة هيبياس الصغير على صغر حجمها قياسا بالمحاورات الأخرى التي قاربت الثلاثين، امتزج فيها الخيال بالواقع والجد بالهزل والبساطة بالتعقيد مما جعلها نصا فلسفيا مفتوحا على قراءات نقدية متعددة ومتضاربة سواء في العصور القديمة والوسطى او الدراسات الفلسفية المعاصرة حيث يمكن القول مع كارل ياسبرس ان لا احد يمكنه ان يزعم ان فلسفته قد تجاوزت فلسفة افلاطون،وقد جاء في كتاب مدخل لقراءة افلاطون لمؤلفه الكسندر كواريه ان في:" قراءة أفلاطون لذة كبرى بل متعة فائقة. فان النصوص الرائعة التي يمتزج فيها الكمال الفريد للصورة بالعمق الفريد للفكرة، قد صمدت أمام عوادى الدهر فلم ينل منها الزمن، وبقيت حية على الدوام، حية كما كتبت منذ عهد بعيد. وتلك الأسئلة السافرة المسلمة: ما الفضيلة؟ ما الشجاعة؟ ما التقوى؟ ماذا تعنى هذه الألفاظ؟ تلك الأسئلة التي ضايق بها سقراط مواطنيه وأثارهم لا تزال قائمة حتى الآن كما كانت من قبل، وما زالت كذلك تبعث على الحيرة والضيق." [1] وهذا الوصف ينسحب على كل محاورات افلاطون ومنها محاورة هيبياس الصغير. والملاحظ ان أفلاطون انتهج فيها أسلوب المحاورة، وهو أسلوب أقرب إلى المسرحيات الأدبية، فهل أثرت نزعة أفلاطون الأدبية والحبكة الدرامية الواردة في المحاورات على تاريخه للسابقين على السفسطائية؟ وإلي أي مدى يطمئن القارئ إلي صدق الروايات الأفلاطونية تاريخياً مع أنها محبوكة دراميًا؟ هل طغت الحبكة على صدق الفكرة؟ هل هذه "المسرحة"- للمذاهب والأفكار الفلسفية - يمكن أن نعتمد عليها باعتبار أن أفلاطون كان لديه وعيّ تاريخي بالفلاسفة السابقين عليه؟* وهل كان سقراط دائما صديقا للفضيلة وصادقا ام انه في محاورة هيبياس الصغير كان كاذبا ليدافع عن الكذب؟

في دلالة الصمت

نقطة الانطلاق في متن هذه المحاورة الفضول الذي حرك السوفسطائي يوديكوس للتساؤل عن دلالة صمت سقراط ومحاولة دفعه للحديث والمناقشة من خلال التساؤل عن موقف سقراط من محاضرة هيبياس،هذا الصمت يمكن تفسيره أولا على انه في جوهره صمت حكيم وبليغ منسجم مع الروح السقراطية " كل ما اعرف هو اني لا اعرف" والدليل على ذلك هو تعليق الحكم مؤقتا فسقراط منذ البداية لا يمدح ولايذم اراء هيبياس،لا يدحض ولايوافق في مقابل ذلك نجد هيبياس مندفعا يتحدث ويسترسل يدعي على الدوام امتلاك المعرفة وثانيا يفسر الصمت على انه حالة من الحيرة والاندهاش شعر بها سقراط بسبب عدم التمييز بين كثير من الحدود والتصورات والانسياق الى توظيفها في بناء احكام واستدلالات دون الانتباه الى حقيقة الفروفات بينها من جهة المفهوم والماصدق حيث يمكن القول " إن ما أظهره لنا سقراط من خلال صمته الأولي هو أنه في حالة حيرة، وبالتالي فهو لا يعرف. على النقيض من صمت سقراط، فإن مديح هيبياس او دحض أفكاره منذ البداية يعني امتلاك المعرفة، فمن يمدح أو يدحض يفعل ذلك بناءً على معرفة خاصة، وموقف سقراط الصامت، هو موقف أخلاقي ووجودي يفرق بين من يدعي أن لديه المعرفة ومن يرفض ادعاء امتلاك المعرفة" [2] هذا الصمت كما قلنا أثار فضول يوديكوس و لم يمنع سقراط من ابداء رغبته في محاورة هيباس منطلقا من صميم الموضوع المتمثل اشعار هوميروس متسائلا: ماذا تقول عن أوديسيوس وأخيل؟ أيهما أفضل؟ وبأي ميزة يتفوق أي منهما على الآخر؟ وتأتي إجابة هيبياس على هذا النحو: سأكون سعيدًا جدًا، يا سقراط، في شرح آرائي حول هذه الأمور وكذلك حول الأبطال الآخرين بشكل أوضح مما أستطيع. أقول إن هوميروس قصد أن يكون أخيل أشجع الرجال الذين ذهبوا إلى طروادة، ونستور الأكثر حكمة، وأوديسيوس هو الامكر ويرد عليه سقراط: شكراً لك: الحقيقة هي أنني فهمت ما قصدته عندما قلت إن الشاعر قصد أن يكون أخيل أشجع الرجال، كما أنه قصد أن يكون نستور هو الأكثر حكمة؛ لكن عندما قلت إنه كان يعني أن أوديسيوس هو الأمكر.

التشكيك في الفرق بين الرجل الصادق والكذاب

يشعر سقراط بالارتباك عند إسناد المكر إلى أوديسيوس ويريد أن يعرف كيف يفهم هيبياس هذا التعبير من المثير للقلق للوهلة الأولى أن سقراط مهتم بمفهوم المكر وليس بشكل مباشر في مفهوم التميز بين الرجلين فالمكر مفهوم له حواف معرفية وأخلاقية وأن الحوار سوف يدور بدقة حول العلاقة بين المعرفة والأخلاق [3] وهنا يسترسل سقراط: يجب أن أعترف أنني لا أستطيع أن أفهم ما كنت تقوله. هل ستخبرني، وبعد ذلك ربما سأفهمك بشكل أفضل؛ ألم يجعل هوميروس أخيل مراوغا؟ وهنا يعترض هيبياس على سقراط ويؤكد ان هوميروس اشار بوضوح إلى اخلاق شخصية الرجلين وانه يظهر أخيل في صورة الرجل الصادق والبسيط، بينما أوديسيوس رجل ماكر وكاذب ووفق هذه المعادلة يصبح الماكر هو الكاذب حيث يصف هيبياس الكذاب على النحو التالي: "الكذاب شخص قادر على الخداع" وهنا يتساءل سقراط: هل تصنف انت الكاذب والمزيف بالمريض، مثل الأشخاص الذين ليس لديهم القوة على فعل الأشياء، أو الأشخاص الذين لديهم القوة على فعل الأشياء؟ والغرض من هذا التساؤل ان يدفع سقراط محاوره الى الاعتراف بان الحكماء وحدهم هم من يمتلكون القدرة على الكلام الكاذب وان الجاهل لا يمكن أن يكون كاذبًا وبمجرد أن نجح سقراط في إقناع هيبياس بقبول أن الكذاب لديه قدرة فكرية. أدخل تغييرًا في المناقشة مقدما حجة لها في صورة استقرائية وذلك من خلال الأمثلة الملموسة المأخوذة من المجالات التي يكون هيبياس نفسه خبيرًا فيها: الحساب والهندسة وعلم الفلك وغيرها من التخصصات التي بالكاد تم ذكرها في الحوار والغرض من ذلك هو بيان ان الصادق والكذاب نفس الشخص يلاحظ بنيامين جويت انه بالرغم من أن هيبياس الصغرى، أقل شأنا من الحوارات الأخرى، والحوار فيها أقل من مستوى أعمال أفلاطون الأخرى، أو أنه ينسب إلى سقراط مفارقة لا معنى لها،ربما كان هذا الامر بهدف إظهار أنه قادر على هزيمة السفسطائيين بأسلحتهم الخاصة ؛ أو أنه يمكن أن يجعل الأسوأ يظهر سبب أفضل ؛ أو مجرد تجربة ديالكتيكية... ويخرج باستنتاج عام مفاده هذا الحوار كشف عن: (1) أن أخلاق المتحدثين أقل دقة وصقل مما كانت عليه في محاورات أفلاطون الأخرى (2) أن سفسطة سقراط أكثر وضوحًا وخجلًا، كما أنها غير ذات مغزى؛ (3) أن هناك العديد من المنعطفات في الفكر والأسلوب.

الإرادة هي محور الحوار

هناك من الباحثين من يعتقد ان استنتاجات بنيامين جويت مردود عليها والذي يمكن استخلاصه من هذه المحاورة هو اعتبار ان الإرادة أساس الفكر والسلوك لأن الخطأ والخداع والكذب طواعية يصدر من أولئك الذين يسيطرون على موضوع معين أكثر من غيرهم و أولئك الذين على العكس من ذلك لا يعرفون أو يسيطرون على موضوع أو نشاط، سيكونون أكثر عرضة للكذب وارتكاب الأخطاء، ولكن بشكل لا إرادي. [4]

ووفق منطق جدلي استقرائي يعطي سقراط عدة أمثلة: في السباق، في القتال، في القدرة على الوقوف، الأفضل في هذا هو في نفس الوقت الأكثر قدرة على الكذب والخطأ طواعية. الأفضل هو القادر على فعل ما هو أسوأ طواعية والعكس صحيح: "إذن في السباق الذي ينفّذ أشياء سيئة بشكل لا إرادي هو أسوأ من الذي ينفّذها طواعية؟" يسأل سقراط ويجيب هيبياس بنعم. وهناك مزيد من الأمثلة. في الأمور الجسدية مثل العرج وقصر النظر، يكون الجسم الذي ينفذهما طواعية أفضل، وليس الشخص الذي يعاني من هذا بشكل لا إرادي. فيما يتعلق بالصوت، من الأفضل أن يكون الصوت الخارج عن النغمة طواعية وليس الشخص الذي يخرج عن سيطرتك. نفس الشيء مع الآلات: الدف، القوس، القيثارة، تكون أفضل عندما يكون من الممكن تنفيذها أو إساءة استخدامها طواعية، وليس عندما تفشل بشكل لا إرادي. الشيء نفسه مع الحصان: فالخيل الذي يمكن للمرء أن يركب معه بشكل سيء طواعية أفضل من الحصان الذي يمكن للمرء أن يركب معه بشكل سيء لا إراديًا. يتساءل سقراط، "هل روح رامي السهام أفضل إذا أخطأت الهدف طواعية، أو إذا أخطأت بشكل لا إرادي؟ يجيب هيبياس "إذا أخطأ عمدا". على الرغم من أن سقراط يبدو مترددًا في استنتاجه، إلا أنه يشير ضمنيًا إلى أن الشخص الأكثر قدرة على التصرف بطريقة تؤدي إلى فعل الخير يجب أن يعرف الكثير عن أسباب الشر، وبالتالي في بعض المناسبات. الكذب أفضل من قول الحقيقة. [5]

سقراط وهيبياس ايهما الكذاب

عرض اقريطون على سقراط الهروب من السجن لكنه رفض ولم تكن المسالة تتعلق بالمخاطرة اذا كان يكفي رشوة الحراس وحسن التخطيط لعملية الهروب فالمسالة في نظر سقراط اعمق من ذلك انها تتعلق بالقيم والمبادئ الأخلاقية فلا يمكن للكثرة او الراي العام ان يتحول الى مشرع للقيمة الخلقية وديمقراطية الكثرة هي ديمقراطية الرعاع ثم ان الأهم هو الحياة الطيبة الخيرة ولذلك كان فناء الجسد ضروريا لخلود الروح ولايمكن الفصل بين الخير والجمال والعدل ومن هنا كان ارتكاب الظلم شرا وعارا حتى وان تمت الإساءة لنا يقول سقراط:" انني طيلة حياتي كلها، وليس اليوم فقط،لا اطيع شيئا اخر غير الحجة التي تبدو لي الأفضل بعد التأمل " وهكذا نجد أنفسنا بالفعل، في نهاية محاورة هييياس الأصغر، أمام أصناف ثلاثة من العلم: علم يحدد على أنه السيادة في كل الميادين النظرية والعملية، وهو العلم الموسوعي الذي يتبجح بامتلاكه هيبياس، وعلم يتعين كقدرة دائمة على قول، أو صنع المتناقضات بحسب مشيئتنا؛ وهو ما يفتح مسألة علم ثالث كمبدإ اختيار بين المتناقضات. هناك مشكل يمكث بالفعل، وهو: لماذا قد يختار من يكون قادرا على الجري بسرعة، أو قادرا على الغناء المضبوط، أن يجري ببطء، أو أن يغني نشازا؟ من أين تستمد النية توجهها نحو هذا النقيض عوضا عن الآخر؟ إن جعل العلم يكون قدرة، لا يكفي إذن لتوحيده. [6] هذا الالتباس دفع الدكتور الطيب بوعزة الى ملاحظة ان الصورة التي رسمها افلاطون عن هيبياس فيها مقدار كبير من التجني والتزييف ويلزم عن ذلك في نظره انه يصح القول ان افلاطون وسقراط لم يدركا دلالة جدة الموقف المعرفي لهيبياس. في الجهة المقابلة غلام رضا الاصفهاني وهو باحث في الفلسفة والأدب انطلق من مسلمة انه لا يمكن فهم المحاورات الافلاطونية بعيدا عن منهج التوليد والتهكم فهناك ثلاثة مستويات من سخرية سقراط في الحوارات الأفلاطونية وهي نوع من السلوك الفلسفي تتجلى في: 1. طرح أسئلة مهمة للقارئ وجعله يتساءل. 2. وضعه في تجربة ساخرة واتباع نوع من التجربة الفلسفية بإشراكه في موقف ساخر. 3. دفع الجمهور إلى عتبة مشكلة فلسفية، وهي في الواقع مدخل إلى التفكير الفلسفي الخالص. فمثلا على مستوى البلاغي (السخرية اللفظية والعملية) نلمس السخرية في:

1. قول شيء مخالف للمعنى المقصود: تمنحنا دراسة محاورات أفلاطون فهمًا عامًا لشخصية سقراط، بناءً على ذلك لا يمكننا اعتبار بعض كلمات سقراط كلماته المباشرة والطبيعية ؛ لأن هذه الكلمات تتعارض مع بعض أقواله الأخرى وأيضاً مع الانطباع العام الذي حصلنا عليه من شخصيته وسلوكه.

2. الاستنكار من الذات: بصرف النظر عن حقيقة أنه بالنسبة لشخص على دراية بالمكانة الفلسفية لسقراط، فإن حديثه إلى الشباب والطلاب من السفسطائيين مثل Alcibiades و Callicles و Thrasomachus هو شكل من أشكال الاستنكار الذاتي وخفض المستوى من تفكيره إلى مستوى فهم الجمهور الشاب، تُظهر الأمثلة الملموسة الأخرى في الحوارات استنكار سقراط للذات. وغني عن القول أن هذا الاستنكار الذاتي هو شكل معدل من "قول شيء ما وقصد شيء ما ضده" ؛ لأن سقراط يُظهر شيئًا بسلوكه ليس سلوكه حقًا.

3. المراوغة والاختباء: المراوغة تعني إعطاء إجابة نهائية لتعريف الشؤون وإخفاء الرأي الحقيقي و من بين الأساليب الساخرة الأخرى في خطاب سقراط الاختباء والمراوغة

4. الصمت (الصمت البليغ): هناك قاعدة في الحوارات الأفلاطونية التي يبدي عليها سقراط دائمًا رغبة أكبر من محاوره في مواصلة النقاش والجهد المستمر للتدقيق المفصل والمزعج أحيانًا حول الموضوع المعني، لدرجة أنه في بعض الأحيان بسبب إرهاق محاوره من طريقة المناقشة هذه، يضطر إلى المضي قدمًا في المناقشة بنفسه والإجابة على أسئلته الخاصة. ومع ذلك، في حالات نادرة، ينهي سقراط بطريقة ما المناقشة ضد رغبته المعتادة ويرفض مواصلتها.

5. المغالطة / السفسطة: كيف يمكننا أن نصدق أن سقراط، سيد التحليل المنطقي، خالق مبادئ المنطق وعاشق الجدل، والأهم من ذلك، الناقد الشرس لسفسطة السفسطائيةوهل هي مغالطة وسفسطة في بعض الحالات؟ هل يمكن القول أن مغالطاته هي ببساطة بسبب الجهل أو قصر النظر؟ أم من ناحية أخرى، هل يمكن أن تنسب مغالطاته إلى احتياجات فترات مختلفة من حياته، من الشباب إلى الشيخوخة، وتعتبر قسوة الشباب وعدم نضجه وبطء الشيخوخة سببًا لهذه المغالطات؟ يواصل سقراط سخريته ويخاطبنا من خلال هيبياس: "لا أشك في أنك أكثر حكمة مني. لكن لدي طريقة، عندما يقول أي شخص آخر أي شيء، لإيلاء اهتمام وثيق له، خاصة إذا كان المتحدث يبدو لي رجلًا حكيمًا. لدي رغبة في الفهم، أستجوبه، وأقوم بفحص وتحليل وتجميع ما يقوله، حتى أفهمه ؛ ولكن إذا بدا لي أن المتحدث ضعيف، فأنا لا أستجوبه، ولا أزعج نفسي بشأنه، وقد تعرف بهذا من هم الذين أعتبرهم حكماء، لأنك سترى ذلك عندما أكون كذلك. أتحدث مع رجل حكيم، فأنا منتبه جدًا لما يقوله ؛ وأطرح عليه الأسئلة، لأتعلم، وأتحسن بواسطته"

***

عمرون علي أستاذ الفلسفة

ثانوية التميمي المسيلة – الجزائر-

..........................

المراجع المعتمدة

* هذا هو تحديدا موقف الدكتور الطيب بوعزة من خلال كتابيه السفسطائي سقراط وصغاره، ودفاعا عن السوفسطائيين.

[1]- مدخل لقراءة افلاطون، الكسندر كواريه. بيير نيكول، ترجمة عبد المجيد أبو النجا، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، ص:13.

*يمكن العودة الى مقال ثيولوجيا التأريخ تأويل افلاطون لبعض الفلاسفة السابقين على السفسطائيين،الدكتور شرف الدين عبد الحميد امين، كلية الآداب جامعة سوهاج مصر

[2]- مقتطف من محاضرة سيرجيو اريزا جامعة الانديز - بوغوتا – كولومبيا

[3]- نفس المرجع.

[4] هيبياس الصغرى المؤلف: أفلاطون المترجم: بنيامين جويت

[5] نفس المرجع،هيبياس الصغرى المؤلف: أفلاطون المترجم: بنيامين جويت

[6] مونيك ديسكو، افلاطون الرغبة في الفهم،ترجمة حبيب الجربي،المركز الوطني للترجمة تونس،ص 11

ربما يسلكُ المثقفُ نمطاً معيناً من الأدوار الثقافية، ليس رغبةً منه بصورةٍ واضحةٍ في ذلك وإنْ بدت الاختياراتُ والأهدافُ كامنةً تحت السطحِ، لكن منطقَ الممارسات الثقافية يفرضُ وجود التصنيف في نهاية المطاف. إنَّ اختيارات المثقفين (المواقف والأفكار) هي الخطوط التي تصلهم بفضاء الحياة، وكيفية التصرف واضعةً أياهم على محك التحليل. حيث ينكشف دور المثقف في طرح القضايا والمشاركة في إبرازها والدفاع عنها من عدمه. وتظهر كذلك نواياه التي يحاول إخفائها من وقت لآخر (زاعماً عكس ممارسته): أنَّه ما كان ليرَ غير ما يفيد الحقائق وحياة الناس!!

في هذا الإطار، يواصل بعض المثقفين المعاصرين تجاهل الجوانب الإنسانية والهروب من الواقع، ذلك نتيجة الإلتصاق بوظائف هامشيةٍ أخرى. لقد سقط هؤلاء المثقفون في اختبار الإنسانية الأول، اختبار أنْ يكونوا أحراراً مدافعين عن المبادئ لا المصالح، عن القيم والأسس لا  القشور والمظاهر. وليس يوجد منْ بإمكانه الظفر بالحياة الحرة وسط هذا التراجع المُرعب.

كثيرةٌ هي العوامل وراء الحالة السابقة، ولكن أبرزها تلك التحولات التي أصابت الثقافة الراهنة في مقتل. مثل: أولا: انتشار الوسائط التواصلية التي تسمح بظهور غير الجديرين باسم المثقف. ثانياً: استعادة المركزيات لواقع يدافع عن منافعها وتحصيناتها. ثالثاً: غياب النقد وأدوات المقاومة الثقافية الناجعة تجاه نزعات الاستحواذ والهيمنة. رابعاً: تضخم أسواق الاقتصاد الثقافي حتى ابتلعت كل شيء. خامساً: تسليع الثقافات والتراثات بإعتبارها بضائع ترفيهيةً لا وزن لها. سادساً: عولمة التفاهات وتكريس نمط الاستهلاك السائد، وقد طالت الجوانب الرمزية والميتافيزيقية. سابعاً: شيُوع مظاهر التسلُّط والتقليد في دورات لا تنتهي من المعاودةِ والتكرارِ.

ضمن هذا المناخ، سأواصل عرض باقي انماط المثقفين:

المثقف الرعوي

تأتي تسمية المثقف الرعوي اعتماداً على توظيف الثقافة لأغراض مادية رعوية وأنظمة سياسية رعوية بالمثل. وهو مثقف يقدم مادةً ثقافيةً قابلة للبيع والشراء تحت غطاء التداول والرواج. فهو يستهدف منذ اللحظة الأولى وضعَ قدراته قيد الاستعمال. وربما يكون لديه ما يقدمة بشكل (معرفي أو فكري أو بحثي)، لكنه شخص لايتمتع بالأصالة التي تؤهله لأنْ يكون مستقلاً. هناك عيب تأسيسي في هذا النمط ألَا وهو (غياب الرؤية الابداعية)، إنه مثقف حالة لا مثقف أصالة، مثقف تآمري لا صاحب فكر حقيقي، مثقف بروباجندا لا مثقف مشكلات فعلية، مثقف برتوكولات لا مثقف نقد وتطور، مثقف صفقات لا مثقف قضايا وأزمات. بل بالعكس، ربما سيزيد الأزمات تضخيماً، لأنَّه جزء منها، ولن يكون أبداً جزءاً من الحل، نظراً لانعدام نضج ذهنيته.

ورغم تواجد هذا النمط المتكرر، إلا أنه ظهر بقوةٍ في بيئاتنا العربية (قبيل سنوات الربيع العربي وما بعده)، إذ استطاعت أنظمة الحكم الثرية أنْ تستقطب – كما سأوضح - بقايا المثقفين المتحولين بين أيديولوجيات مختلفة إلى بلاطها الرعوي. وأن تستعملهم لأغراض جماهيرية رعوية، لترويض الجماهير واستقطاب المؤيدين إلى جانبها. ويشكل المثقف الأداة الديماجوجية الشعبوية للسيطرة على الناس وإدخالهم الحظائر السياسية من أوسع الأبواب.

المثقفون سالفو الذكر يدورون مع رأسمالية الأنظمة الحاكمة دوران العلة مع معلولها، وهي رأسمالية رعاعية ورعوية جنباً إلى جنب. رعاعية من زاوية تذليل طاقات البشر لخدمتها والسماح لدورتها التداولية بالدهس فوق عقول وأجساد الجماهير. وقد أخضعتهم الرأسمالية لنمط استهلالكها الإنساني وتضييع فرص النمو والتطور، ويدخل المثقف من هذا الجانب باعتباره إحدى عملات الأنظمة في أسواق السياسة والثقافة.

أما الرأسمالية الرعوية، لكون الأنظمة الحاكمة تستثمر في أنشطة تافهة، وتقوم على اقتصاديات رعوية بدائية تعوق نمو المجتمعات، وكذلك لكونها أنظمة ترعى أتباعها كقطعان سائمة على فتات الحكام ورغباتهم التي تظهر من حين لآخر، سواء بالنسبة لشعوبهم في الدولة الواحدة أم تجاه دول وشعوبٍ أخرى. كما ظهر ذلك من دخول أنظمة دول عربية في صراعات مع أنظمة أخرى أبان الربيع العربي، حيث وقف المثقفون مدافعين عن تلك الأنظمة الخادمين في بلاطها. وتجد المثقفين متوزعين على خريطة الأحداث في دول المشرق والمغرب العربي، كلٌّ منهم يقف بين مجموعة من الباحثين وأصحاب الأقلام الذين يشنون هجوماً بحثياً وثقافياً تجاه الأنظمة العدائية لدولهم.

ظهر أحدهم المتحول أيديولوجيا في أحدى مراكز البحوث، وكأنه مُشرّع لحياة الشعوب العربية، وليس باحثاً أو كاتباً فحسب، وأخذ المبادرة بشن(الهجوم البحثي) على بعض دول الربيع العربي متهماً إياها بمعاداة نظامه الحاكم الذي يعمل لديه. وطوال الوقت، تُوجه إليه الأوامر من أجهزتها السياسية لدراسة حالة دولة عربية معينةٍ أو أخرى تقف بالمرصاد لدولته، فإذا بالمثقف الرعوي يعقد مؤتمراً أو ندوةً أو يدعو إلى تأليف كتاب جماعي ضارباً في عمق تلك الحالة ويكيل الاتهامات لها طوال الوقت!!

إنَّ هذا المثقف الرعوي يمثل رأس حربة مسمومة في الصراع بين أنظمة الدول العربية، ويعد شخصاً خادماً للرأسمالية الرعوية التي تحمله إلى أي مكان يريد وإلى أي باحثين يبتغي تجنيدهم لخدمة نظام دولته الحاضنة. علما بأن هذا المثقف كان في مرحلة سابقة يزعم كونه صاحب مواقف قومية شريفه ويرفع شعارات العروبة مدافعاً عن قضايا الأمة كل الأمة ضد التواجد الغربي والصهيوني وضد التدخلات الأجنبية العسكرية في المنطقة العربية.

المثقف المتحول

في مجتمعاتنا العربية المختلفة، ظهرت شخصيات ثقافية مُتحولة من اتجاه إلى اتجاه آخر. هم يخلعون أفكارهم وأحياناً أدمغتهم كما يخلعون نعالهم خارج البيت. فهناك مثقفون متحولون من الماركسية إلى النزعة القومية، ومن الماركسية إلى النزعة الاسلاموية، ومن العلمانية ذات المرجعيات الغربية إلى المتمسحين بمرجعيات إسلامية كأنها ظهرت لأول مرة، ومن مصاحبين لرجال السياسة والإعلام وكتاب في صحف رسمية إلى مشتغلين في مراكز بحوث وكاتبي تقارير خاصة، بل متحولون من التأييد لأنظمة معينة إلى أنظمة حاكمة أخرى يعتاشون على هباتها ورعايتها.

وهؤلاء يمثلون فريقين يشتركان في بعض السمات:

الفريق الأول: هم من كانوا يعتنقون أفكاراً وتوجهات كالماركسية على سبيل المثال، ثمَّ فجأة يعلنون أنهم اعتنقوا- كلية- توجهات أخرى باختلاف مشاربهم، أو العكس بطبيعة الحال. وعادة ما يحدثون قطيعة في أفكارهم بين مرحلتين. وهو التحول الذي ينتقل بأصحابه من النقيض إلى النقيض. وهؤلاء يشبهون المراهقين حين يمارسون انتقالاً من فكرة إلى فكرة، ومن سلوك إلى سلوك باعتبار هذه المرحلة مرحلة التقلبات وعدم النضج. وكم رأينا أحدهم كان ملحداً أو علمانياً أو شيوعياً، ثم فجأة يعلن (توبته الثقافية)، وقد انضم إلى قوافل التنظيمات الإسلامية أو أصبح قومجياً منافحاً عن نظامه الحاكم، وكأنَّ القومية أو الاسلاموية قد استحالت إلى دين جديدٍ.

والحقيقة أنّه لم تخلو جماعة دينية من أحد ممثلي النمط المتحول، معتبراً أن حياته قبل الجماعة نوعاً من الانحراف والضلال. ولذلك يحاول فيما بعد أن ينتج شيئاً مقروءاً عن سلبيات ما كان يعتنق، وأنَّ تحولات جوهرية قد أخذته إلى حياته الجديدة التي هي الباقية ولها كل الإخلاص والولاء. والأمر نفسه مع بعض المثقفين في المجال السياسي، حيث يغادرون انتماءاتهم وأحزابهم ويرحلون إلى انتماءات وأحزاب أخرى يرونها أكثر نجاعةً، وقد يظلون في هذه الحركات البهلوانية دون توقف ... أو يتوقفون حيث تتوقف السلطة وترسخ أقدامها، لأنَّهم يعلمون أنَّ المنافع توجد حين توجد أصابعُ السلطة التي تحركهم عادة.

الفريق الثاني: وهم مثقفون يتبنون قناعات فكريةً وثقافية ما في بداية حياتهم، وينحازون إلى توجهاتٍ بعينها، ثم سرعان ما ينخفض مؤشر التوجهات مع التقدم في العمر، ويعدلون من رؤيتهم قليلاً أو كثيراً. وقد يختارون الكتابة في موضوعات مناقضة إلى حد ما لموضوعات الكتابات الأولى. وهؤلاء يختلفون فكرياً ولكنهم يبقون كما هم عملياً، مثل زكي نجيب محمود الذي كتب في بداياته الفلسفية: " نحو فلسفة علمية " و" خرافة الميتافيزيقا " و" شروق من الغرب"، ثم كتب مؤخراً: " قيم من التراث " و" عربي بين ثقافتين ". وكذلك عبد الرحمن بدوي الذي بدأ وجودياً ذا طابع إلحادي متمرد على التقاليد والموروثات في كتابه " الزمان الوجودي" و " الحور والنور" و " من تاريخ الالحاد في الإسلام" و" شخصيات قلقة في الإسلام"، وانتهى ذا طابع ديني محافظ " دفاع عن النبي محمد ضد المنتقصين من قدره" و" دفاع  عن القرآن ضد منتقديه". وهذا الفريق الثاني يعيدُ النظر في المقدمات التي انطلق منها، وقد يكتشف موضوعات كانت جديرةً بالبحث والدراسة، أو يسلط رؤيته صوب قضايا عامةٍ واسعةٍ الانتشار في بيئته الثقافية.

أمَّا الفريق الأول، فهم أصحاب التحول الحاد في مسارهم الفكري، ويكشفون عن مواقف تمثل ردود أفعال لا أفعال، فالآراء والأفكار الأولى كانت أصداءً لحياة القهر والتسلط التي  هي كل ما يملكون. ففي البيئات الأقل انفتاحاً وحريةً، يلوذُ بعض المثقفين بأفكار وتوجهات، كأنَّها حقائق من باب التمرد والاختلاف عن الثقافة الشائعة. وقد يأخذهم العناد مأخذاً بعيداً في التصلُّب للآراء من غير نقدٍ. وبعد ذلك يحدث الإنقلاب من النقيض إلى النقيض مهما تعددت الأسباب أو تباينت المبررات، نظراً لإنعدام الأصالة في مرحلتي البداية والنهاية.

الحقيقة أنّ نمط المثقف المتحول بفريقيه يكشف أصالة المثقفين من عدمها، لأنهم أصحاب دور حقيقي، ولهم من الإبداع- أو هكذا يفترض- ما يجعل اسهامهم ذا تأثير في المجتمعات. أما التحول فعلاقة قائمة على خلل الرؤى المواقف. وقد يكون التحول مقبولاً في حالة  وجود أخطاء في المعرفة أو في التطور اللازم لمواكبة العلوم وجديد التفكير والبحث.

المثقف الكوني

نمط نادر الوجود دون توافر إبداع حقيقي تكون وجهته الإنسانية جمعاء. وهو المبدع على الأصالة ويشق طريقه رأساً إلى الاهتمام بقضايا الإنسان والحقيقة، ويفعل غير عابئ بما يترتب على أفعاله واسهامه الثقافي من نتائج. والثقافة تبدو من تلك الزاوية هي فنون الإلتقاء المتنوع والأصيل مع الآخر بإطلاق.

1- لا يأخذ المثقف بثنائيات الفكر أو الحقائق أو الميتافيزيقا، لكونه صاحب رؤية نافذة، رغم اختلاف الأزمنة والمجتمعات.

2- يمارس دوره كأنَّه يتكلم لكل البشرية من غير أن يُعنى بالقضايا التي تميز وتفرق.

3- يضع الحقائق نصب عينيه لا يحيد عنها، مهما تكن قوةُ الممارسات المضادة لما يعمل.

4- يشعر الناسُ كل الناس بكونهم معنيين بما ينتج من ثقافة، لأن من طبيعة عمله أن يتجاوز المحلي والقومي والعرقي إلى مخاطبة الإنسان كونياً.

5- يحمل فكره وتحمل أفعاله الثقافية جانب الهدم والبناء، الهدم لأفكار وتصورات سابقة وبناء أفكار جديدة، مثل كل مبدع حين يعمل في الوقت نفسه على الجانبين معاً.

6- تنطوى أعمال هذا المثقف على العناية بالمستقبل المشترك لحياتنا الكونية، فليس هناك مثقف لا يهمه المستقبل إلاَّ ويسقط في نزعة مؤدلجة أو دجما فكرية.

7- لا يخضع لسلطة ولا يروم التوافق مع أيديولوجيا أو اتجاهات تجزيئية، لأن المثقف الكوني بطبيعة فكره الفلسفي لا يهادن أية سلطة.

8- ليس المثقف ابن بيئته المحلية، لكنه يولد من الدور الذي يؤدية لكافة شعوب الأرض، إنه مصدر إلهام ومنارة عامة تضيء دروب العتمة، سيجد لديه الناس مفتاحاً رمزياً لحل مشكلاتهم وفهم الحياة.

9- يتميز عمله بالمعايير الكونية للحياة بشكل(أفقي ورأسي) في وقت واحدٍ، أي ليس مستغرقاً في صراعات نوعية، لكنه يشتغل على القيم الكبرى الجامعة، أنْ يعني ما يعنيه ناظراً إلى الآخرين دوماً.

وقطعاً تعدُّ بيئاتنا العربية عقيمةً لإنجاب مثل هذا المثقف الكوني، نظراً لانشغال المثقفين بالصراعات المحلية وعدم قدرتهم على النظر خارج الصناديق المغلقة لكل سلطة يدينون لها بالولاء. كما أنَّ هذه(الخامة الكونية) غير متوافرة من جانب الأعمال الفكرية التي يشتغل عليها، فالمثقف لا يري إلا بجلده اليومي و لا يشعر إلاَّ بقرون استشعاره الخاصة التي انكفأت على النسبي المستهلِك لكل قدراته قبل أنْ تنضج.

ربما الأسباب كثيرة وراء هذا الجدب الثقافي عن ولادة المثقف الكوني لدينا، لكنها بمثابة (النقيض الموضوعي) لكل معالمه الكونية المذكوره، فثقافتنا لا تترك الحياة حرةً طليقةً، فهي تسعى للإنغلاق الدائم، بينما كانت فترات الانفتاح نادرةً، ولا تحدث سوى تحت وقع أحداث كبرى. كما حدث مع فترات الاحتلال الغربي لبعض بلداننا العربية، ونتيجة الاحتكاك غير المتكافئ مع مجتمعات أوروبا والغرب الأمريكي. وقد يكون الانفتاح نتيجة التخلف الشديد في مظاهر الحياة مقارنة بالآخرين. ونحن نعلم أنَّ العبور المادي للتقنيات ووسائل الحضارة أسرع وأكثر نفاذاً من حركةِ الأفكار والثقافة.

وهذا بالطبع لم يحُل دون وجود مثقفين كونيين عاشوا تجربة كونية الحقائق الإنسانية سواء من الشعراء والأدباء والفنانين الكبار أم من المتصوفة ورجال الفكر والمعرفة. فأشعار المتنبي وأبي نواس تمس أوتار إنساننا الكوني قبل أن تنزل منازل الاستحان لدى عرب الجزيرة والرافدين، ونتاج أدب نجيب محفوظ ويوسف أدريس والطيب صالح وعبدالرحمن منيف يستطيع أن يجد فيه الإنسان الغربي بعضاً من همومه كما يجدها لدى جارثيا ماركيز وإرنست همنجواي وتشيكوف ودوستويفسكي وبودلير ورامبو وهولدرلين.

والمفارقة الحاصلة أنه رغم حضور الطابع الكوني للثقافات العالمية في تفاصيل الحياة اليومية، إلاَّ أن مثقفي العرب لم يكونوا على الصعيد نفسه، ثمة نكوص مباشر أو غير مباشر تجاه نزعات محافظة ارتدت بهم إلى ثقافة محدودة بأطر الزمان والمكان، ولم يتطلعوا إلى أبعد من ذلك. أنَّها ثقافة إنحطاط الإنسان الذي ينتعش ويعيش لدينا مثل الميكروبات. لدرجة أنَّ بعض المثقفين يفضلون لوناً ثقافياً كهذا على ألاّ يعيشوا عصرهم المنفتح. ويروا في المصالح الضيفة فردوساً موعوداً لن ينالونها بحالٍّ من الأحوال لو خطوا بالخارج بعيداً عنها.

***

د. سامي عبد العال

العاري داخل ملابسه

ماكس شتيرنر

***

من الصعب جدا وصف أدب أو فلسفة التطرف والأنانية، فالعالم بوصفه حالة مشتركة لا يمكن أن يتفق مع تلك الأفكار، التي تبدو غير عادلة حسب أعراف العالم، وهذا المذهب في الفلسفة الموضوعية نراه يحمل صحة وقناعة من جهة تأصيل الأنا ذاتيا في الأدب والفن، ويحمل معنى متطرفا من جهة المشترك السيوسولوجي، وما تبديه البنية الاجتماعية من اتصال، أو ما يمكن تسميته بالفرد الجمعي حسب توصيف ماركس للفرد بوصفه عاملا مشتركا من الآخرين، ولكن العثور على الحياة الغريبة المتطرفة ليس بالعمل المستحيل، لكن من الممكن توصيفه بالعمل الشاق، وهذا ما نجده وجه اختلاف للهدم والتجديد في أن واحدا، وهناك أمثلة متنوعة عديدة، ويكاد يكون في الشعر رامبو مثال نوعي، وأما نيتشه فهو تلك الحالة الأمثل، التي أثارت العالم ولا تزال تثيره إلى اليوم، وأنموذج ماكس شتيرنر شائق في توصيفه، ومن المهم التعرف عليه، وأنا صراحة هذه المرة أعدت قراءة شتيرنر بطريقة مختلفة عما قرأته في تسعينيات القرن المنصرم.

نحن في الإطار العام أبناء السياقات، وفي الأدب والفن نحن أبناء المنهج، لكن نحن في ظروف ما بعد الحداثة قد هدمنا السياقات ودخلنا في فوضى موضوعية، وفي إطار المنهج لسنا تطرفنا منذ شتيرنر، فهناك أديب هولندي معاصر له فرض على جويس أن يستوعبه تماما، ويقر جيمس جويس بأنه أعاد رودريكن كليا في رواية – في نحو البرية – ولم تكن تلك الثورة التي شهدها الربع الأول منذ القرن العشرين هي السعي إلى تحسين وتزامن فقط، بل لمسنا التوجه إلى بلاغة متطرفة وانعتاق من السياق والتوجه إلى المعنى ما بعد الراشد، وأما الموجة الفرنسية ما بعد سارتر، فكان تقليعة حدادة قلبت المفاهيم رأسا على عقب، وفكر بريتون والآن غرييه وناتالي ساروت وبنجيه وكلود سيمون، هو مواز تماما لثورة الإلكترونات، ويعد عري ماكس شتيرنر داخل ملابسه هو الجوهر العنيد لإزاحة المسار وإبداله بالتحليق حول العالم بحرية ذاتية.

هل يستوجب الأدب وجود عدالة اجتماعية وأخلاق عامة تفرض عليه الالتزام بالمعايير العامة، وذلك يعتبر قمة في عدم الإنصاف، ولا يعلم من يروج لذلك، بأن الأدب هو الدين الجوهري، والذي لا بد من أن نسعى إليه، فهو يضع اعتبارات مهمة جدا لسمو الإنسان وإعلاء قيمته، فيما الدين الاجتماعي والأخلاق العامة وحتى العدالة لا تبلغ ذلك الحد، ومن هوغو ونحن وصلنا إلى إدراك بأن الشرطي ليس رمزا للعدالة بل هو رمز الاستبداد، وذلك إذا كان انحسر فقط في المجال الأدبي، فله أهمية في جانب الوعي والتفكير، وفلسفة شتيرنر تمتلك غاية ذاتية، ومن الطبيعي هكذا نوعا من الطروحات تمهد إلى معارضة وتأويل مضاعف لها، وقد واجه شتيرنر فكرة تفصل ما بين الإرادة الحرة التي تتمثل في الاختيار عن الأنا وبين الأنانية التي هي تعتبر حالة نفسية بلا حدود بحد ذاتها، واتصال الإرادة الحرة بالإدراك العقلي إلى حد كبير، فيما الأنانية هي تزحف بها الغريزة إلى ما لا نهاية لو تم ذلك، وهنا نحيل الأنانية إلى المادة المكتوبة، فيما نحيل الإرادة الحرة إلى ذات ماكس شتيرنر ووعيه وفهمه.

أقود طوى النسيان ما طرحه ماكس شتيرنر في كتاب له، ونحن نبحث في جميع الجوانب، وأول الجوانب الذي نعنى به هو السياق العامة للثقافة وعلاقته بفكر وفلسفة ماكس شتيرنر، فالسياق العام للثقافة سيرورة وتواصل، لكن كل تجديد عليه ألا يمس شكل تلك السيرورة ولا يتعارض مع وحدة زمن التواصل، وهذا يعني بأن ماكس شتيرنر كما الأدائية التي تلته بحوالي نصف قرن، فهي عارضت السياق العام ومعناه، وهدمت ركن اللغة المتصل بالمجتمع، وهكذا نوع من الطروحات التي سعت إلى أن تنفصل كليا إلى السيرورة لا بد من أن تعارض، ثم على وفق جانب ثان في مستوى علم النفس، والذي يرى الأدب الغريزي حالة مرضية، وهنا سيواجه ماكس شتيرنر حاجزا آخر، ومن جانب ثالث إذا كانت تلك الطروحات فلسفة فهي منقطعة تماما عن التاريخ، ولا تتصل به من خلال أي مرحلة من مراحل الفلسفة الثلاث، وهنا سيكون ماكس شتيرنر في مواجهة حاجز ثالث مهم، وبذلك سيكون على ماكس شتيرنر قد كتب أن يبقى عاريا وهو داخل ملابسه، فالمعنى الجدير المختلف لابد أن يواجه قطعان السياق التي تقصيه إلى أقصى حد ممكن.

فلسفة الأنا مهمة جدا في الأدب، وأسعى هنا إلى تبسيط الفكرة، فلا أقصد الذات الشخصية هنا أبدا، بل العكس أتوخى من الذات الكاتبة امتلاك تلك الروح المرحة والمحبة الخالصة للجميع، والكراهية ليست مهنة الأديب، بل هي مهنة السياسي أو المارشال، ولا بد من أن يكون الأديب عكس إلى ما يسعى إليه في فلسفته، فما يطرح في فلسفته لا بد من روح أنانية إلى أقصى الحدود، وذلك فقط في المعاني الأدبية، والتي لا تكون في التعبيرات بل في البناء، وإذا لم تختلف فلسفتك عن غيرك، فأنت لم تفعل أي شيء ويذهب ما كتبته إلى الإهمال على مستوى النقد الحقيقي، والنقد في معناه الأصيل هو الذي يسعى إلى قدرات مستقلة كما تلك التي تبناها ماكس شتيرنر على وجه الخصوص، حيث ستجعل النقد يقف أمام بكل إعجاب وامتنان أيضا، فأنت جعلت النقد يبحث في قيمة الاختلاف، فالنقد ما لم يختلف بالنسبة له أمثلة هي تدعوك إلى أهملها، وعدم الاهتمام به، واهتمام الأنا لا بد من أن (يتقدم على طريق تحقيق ذاته اللاواعية، يجعل محتويات اللاوعي الشخصية واعية بالضرورة، مما يوسع مدى وآفاق وغنى الشخصية وبشكل ملحوظ)1، وماكس شتيرنر أدرك أن الانانية هي ممر الى الانا الاعلى.

كانت تجربة ماكس شترينر تكاد تكون متفردة الى اقصى حد في كتابه الذي ترجم – الاوحد وحد وملكيته – والذي هو بعيد جدا عن مضمون فلسفة شتيرنر وطروحاته التي يمكن المقارنة بينها وما بين طروحات هيجل عن الذات والعالم، وماكس تفرد

خطابه الفلسفي كما تفرد خطاب نيتشه، فيما فلاسفة العالم منذ الفلسفة القديمة الى الفلسفة الحديثة يدورون في مدار واحد، والنفس الفلسفي لديهم لا يختلف كما يختلف جدا عند ماكس، فالفلسفة عند ماكس منفصلة تماما عن التاريخ وسلطة الذات ايضا في حيز الوجود العام، ويفسر العالم بأنه ما يلجأ له وحدة معنوية خارج مفهوم الذات في ركن الوجود، والانا ليست تلك المتصلة في الغايات والمواقف المشتركة، فهي عند ماكس صافية تماما كما مرآة.

العالم بالنسبة لماكس ليس ذلك الوجود المتعدد الافاق المشترك بين كل افراد محيط ما، فالتلاميذ بينهم عامل مشترك، وكذلك مجموع موظفي شركة او دائرة، لكن الادباء واهل الفن لابد لهم من استقلالية واضحة، وهذا ما قدمه لنا ماكس بوضوح، حيث كل سبيل مشترك بالنسبة لماكس هو صحراء بلا نهاية ومتاهة بلا دليل، واذا عاش كشخص كما الاخرين فذلك يعود لذاته الاجتماعية، فماكس قد تزوج مرتين في الاولى توفيت الزوجة اثناء الحمل، وتزوج ثانية من ماري داينهردت، والتي كانت من دعاة الحرية، والتي تحولت لاحقا الى الكاثوليكية، ولا يراهن ماكس على تلك الحياة، فهي نسخة من الماضي، وممكن أن تكون نسخة من المستقبل، وارتحل ذلك الفيلسوف الجدير عام 1856 بعد التمكن من هزيمة العالم والاطاحة به، وعلى مستوى التلقي ما كان قد حظي بالإنصاف.

لقد ادرك شتيرنر على اقل تقدير في نفسه بأن لا قانون ديني يعد يحكم الإنسان حتى من الخارج، على اعتبار أن البشرية تحولت من سلط الدين الى سلطة الاخلاق الشخصية، فالعالم الذي كنا نمثل له في المواقف الكبرى خصوصا، قد مر بتحول خطر، فلم يعد الإنسان هو مركز الوجود ويبنى عليه كل شيء، وتخلى بلا ارادة الإنسان عن كونه ذلك الهرم العتيد، ووجه المصيبة في استبدال الاشياء الدور الفعلي بدلا من الإنسان، والذي اصبح بشكل كبير يمثل اعلى نسب الهزيمة والانكسار، وصراحة البشرية تعيش حالات الاغتراب الداخلي اكثر الاغتراب الخارجي، وماكس شتيرنر ذلك المجهول حتى في حقول المعرفة والفلسفة اصبح تلك القضية المثيرة للجدل في الفلسفة والمعرفة، فالفلسفة لا ننكر هي تراعي الاصول التاريخية للأخلاق، ولا تفرط بالقيم البشرية، بل تعيد صياغتها بعد استهلاك المعنى السابق لها، واذا كان سقراط قد مثل تلك الصيرورة الجديرة لإعادة تفسير العالم بصورة تتوافق مع روح العصر، فيشكل موقف ماكس شتيرنر اقصى انواع الاحتجاج الفلسفي على التمثيل الاجتماعي للحياة، وعلى وجه الخصوص الانحدار بالمعنى الإنساني الى الحضيض، وذلك الاستغلال البشع لديموقراطية الشعب، ولا سبيل امام ماكس شتيرنر الا تجريد الخطاب الفلسفي، ليكون اقرب الى مذهب ذاتي لا تأثير مباشر له على السياقات العامة .

يقترب تفسير ماكس شتيرنر كثيرا من طروحات ارتور شوبنهور، لكن دون تماس مباشر، بل فقط في جانب التجريد، اي ليس في اطار الكينونة، بل في بعد الماهية، فالعالم ذلك التصور، الذي يمكن أن يستبدل نفسه، والتوافق الفلسفي بين عقل استبعد العالم، على اعتبار لا جدوى منه في كسر سياقات الاستعباد المحور من الديموقراطية المزيفة، والتي استهلكت الروح الاجتماعية مرارا، والحد الذي شعر به ماكس شتيرنر بأن لم تعد هناك حياة تلمس من المجتمع، ولم تعد روح الجماعة نافذة تشرع لصوت الجماهير، والعالم لم يعد افق للمجتمع الا في افاق الترابط العضوي، والكينونة الاجتماعية اصبحت في حالة خمول عن المعنى الإنساني، وتفسير ما لا يعقل اصبحت هناك دوافع له لاحتلال المواقع المهمة في الركن الاجتماعي، وذلك احد المحفزات لماكس شتيرنر، لكن التجريد النوعي للفلسفة حرض العقل للمقاربة مع جعل ارضية العشب حمراء، ولم يعد هناك افق عضوي ترتسم من خلاله المسميات، وكما كانت لدراكولا من انتفاضة جريئة ضد الموت، كانت هناك دوافع وجهت ماكس شتيرنر لتحرير معنى الفلسفة، وادخاله في جملة من التبريرات الحيوية ضد نظم العالم الملزمة للحياة .

نحتاج الى تفسير العلاقة ما بين الفلسفة والمعرفة، فلا وجود لفلسفة بلا معرفة، لكن يمكن أن تجد معرفة بلا فلسفة، فالمعرفة علاقة عقد تعرف ما بين جهة وجهة اخرى، فيما الفلسفة بكل تأكيد هي ببعد حرية من تلك المعاقدة، والتي لا نرغب بتسميتها كمصلحة كما ترجمت عن هابرماس، العقد ملزم لجهة التأسيس له، لكن غير ملزم للجهة الاخرى، والتي تفسر بحرية واسعة، والعقل يبدأ من المعرفة، ومن ثم قد يتجه الى الفلسفة او يتحول عنها الى افق اخر، بعد اكتسابه معرفة مناسبة فيه، والمعرفة تقبل الجدل كما الفلسفة، لكن بمنسوب اقل بكثير مما في الفلسفة، والمعرفة الادراك مهم واساس ايضا، ويحتمل كثيرا أن يكون مباشرا او في بعد الفطرة الادراكية، وتختلف الفلسفة اذا الادراك العقلي هو العنصر الاساس الذي يقوم التزام فكرة، او عدم التزام تلك الفكرة، والعقل في الفلسفة واسع الخيال وغير محدد فيه عنصر الخيال احينا، وهذا ما يتيح للفلسفة من تجريد بعض الافكار، وذلك تبعا لضرورات معينة، ونعتقد كان النشاط العقل عند ماكس شتيرنر يتميز بكفاءة الخيال فيه، وهنا نحيل الفكرة الى امكان التحول من مضمون فلسفي الى مضمون ادبي، وعضوية العالم الخارجي لا تكون ذات اثر او تتدخل الا في المشاع من السياقات العامة للحياة، والتي مثلت عند ماكس شتيرنر اقصى انواع العبودية، وعليه أن يتحرر منها، والخطاب ومغزاه يحيلنا الى جدية التفكير ازاء التحرر من تلك المعضلة، والتجاوز لما يكون من اثر احباط نفسي، قد ينجم عنها .

من الطبيعي هناك دور لا نشعر به لعنصر الزمن، والذي من الممكن في تحولات الخطاب الفلسفي من افق عام الى اكثر خصوصية يستوجب التجريد، فعلى عكس العالم سيتجه العقل الى نفسه، ولا يتجه الى الاخرين، وذلك الخطاب في صيغة التجريد من الطبيعي أن يبتعد عن الافق العام كثيرا، ولا يلامس الافكار المتسلسلة تاريخيا، ووفق سيوران النشاط العقلي التجريدي هو روح فاعلة تمتنع عن التحديد او التمييز، ويلعب عنصر الخبرة الدور المهم، فالحد الديناميكي يستوجب وجود خبرة متمكنة من اتاحة نسب اكبر للتجريد، والعقل في التجريد هو متنعم بنشوة الخيال، وهنا ينعدم مصطلح النجاح، وكذلك عنصر الفشل لا يكون الا مبررا، فالغاية في الخطاب طرح افكار خارج السياق، ولا تتبع منطقة من مناطق الفلسفة المتسلسلة، والوجود والكينونة تكون في الخطاب التجريدي ماهيات، من الممكن أن تتحول من علامة الى اخرى، ومن الطبيعي إن افق الاشارة لم يعد غير احد المسميات، وليس بأحد الضرورات الملزمة في الخطاب، ونحن هنا حتما نكون في افق لساني للفصل ما بين الاشارة والعلامة كليا .

لا تسعى الفلسفة في تحقيق تجريد الخطاب الى خلق نسق مختلف ومتفرد فقط، وهذا ما حققه بشكل واسع نيتشه في مضامين خطابه الفلسفي المتعدد المستويات الدلالية، وبث افكار لا تقف عند حد معين، ونشير الى إن الفلسفة العملية سعت الى ترسيخ قوانين الفكر، لكن فلسفة التجريد هدفت الى توسيع موقع الاحتجاج والدفاع عن المضمون الإنساني معناه الجدير، وصراحة الفلسفة من جهة اهتمت بمفاهيم قدمت على مفهوم الإنسان، ونعتبر وعي الفيلسوف لم يقف عند القضية الكبرى للفلسفة، والتي يشكل سقراط الاساس الواقعي والجوهري لها، واذا كان مفهوم الكينونة اهم من سقراط فأني اعتبر ذلك العزل للمعنى الإنساني والاقصاء له احد مشاكل الفلسفة الكبرى، واذا كانت المثالية قد راعت بشكل نسبي المذهب الاخلاقي، فأن الوجودية قد شتت ذلك المذهب، وقلبت البلاغة التقليدية، وانتجت المذهب الجديد، والذي يعتبر الإنسان الضحية والجلاد، وذلك القياس الفلسفي لم يهتم بشكل مباشر في تفسير الانا ليس خارج مفهوم – النحن – وما فصلت الإنسان المجسد بشريا عن المفهوم، وقد اهتمت كما الفلسفة العملية بالمعايير فقط، والفلسفة العملية لها كل الحق فيما ذهبت اليه، فهي تسعى الى براهين ونتائج، وهي بعيدة جدا عن الفلسفة الوجودية، التي راهنت على الوجود الاعتباري، وتناست بأن تلك الهرمية العتيدة قد تزعزعت واستبدلت الاشياء وحلت محل الكائن البشري، والسعي وراء الحاجات هو احد اسس الحياة في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، اي قبل افول الحداثة تماما، واحلال ما بعد الحداثة محلها.

***

محمد يونس محمد

............................

1- جدلية الانا واللاوعي – ك. غ. يونغ – ترجمة نبيل محسن – دار الحوار للنشر والتوزيع- ص 26

الروابطُ الاجتماعية بين الأفراد تُمَثِّل أنساقًا تاريخيةً كامنةً في بُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي، ومُتَجَسِّدَةً في الوَعْيِ المُسيطِر على مصادر المعرفة، وهذه الأنساقُ تَحتاج إلى آلِيَّاتٍ لُغوية لتحليلِ مَعْنَاها، وبيانِ جَدْوَاها، وتكريسِ شرعيتها، مِمَّا يُسَاهِم في تَوظيفِ البُعْدِ التاريخي في المُجتمع، لَيْسَ مِن أجلِ إعادةِ الحَاضِرِ إلى المَاضِي، بَلْ مِن أجلِ تَحويلِ الحَاضِر إلى وَعْي بالمَاضِي، وامتلاكِ الظواهر الثقافية التي تُعَرِّي الأزمنةَ مِن الوَعْي الزائف، وتُجَرِّد التفاعُلاتِ الاجتماعية الرمزية مِن أوهامِ الهَيْمَنةِ . وهذه التفاعلاتُ لَيْسَتْ تَوَاصُلًا ميكانيكيًّا بين الأفراد، أوْ تَبَادُلًا آلِيًّا بين عناصر البيئة المُعَاشة، وإنَّما هي تفاعُلات قائمة على الشُّعورِ الواعي، والإدراكِ الحِسِّي، وَمَنْطِقِ اللغة، وهذا يَحْمِي مَركزيةَ الوُجودِ الإنساني مِن القطيعة المعرفية، ويُحَقِّق الانسجامَ بَين إفرازاتِ العَقْل الجَمْعِي وتأثيراتِ تاريخ الأفكار.وكُلُّ التفاعُلاتِ المُتَجَذِّرَةِ في البِنَاءِ الوُجودي للمُجتمعِ وبُنيةِ الفِعْلِ الاجتماعي تُمَثِّل مَناهجَ نَقْدِيَّةً لا يُمكِن عَزْلُها عن السِّيَاقِ الحضاري للفردِ والجماعةِ، وتُمَثِّل مَرجعياتٍ فكرية لا يُمكِن إبعادُها عن دَلالاتِ التأويلِ اللغوي لتجارب الأفراد الحياتية، التي تَتمركز حَول هُوِيَّةِ المَعنى الإنساني، وعلاقةِ الوَعْيِ بِسُلطةِ المعرفةِ كَنَسَقٍ وُجودي مُلتزِمٍ بالمعاييرِ الأخلاقية، ومُتَجَاوِزٍ لِحُدُودِ التَّوظيفِ المَصلحي للثقافةِ والتاريخِ والحضارةِ .

2

لا مَعنى للمَاضِي خارجَ حُقولِ المَعرفة، ولا جَدْوَى مِن الحَاضِر خارجَ الفِعْلِ الاجتماعي، وهذا يدلُّ على أنَّ الزَّمَنَ لَيْسَ نِظامًا فِكريًّا قائمًا بذاته، ولا يُكَوِّن نَفْسَه بِنَفْسِه، وإنَّما هو وِعَاء حَاضِن للتفاعُلاتِ الاجتماعية الرمزية، يَدفع تاريخَ الأفكارِ إلى التمركز حول الذات الإنسانية، بهدفِ نَقْدِها وتحليلها، ولَيْسَ تقديسها وتَحنيطها. ومنظومةُ (النَّقْد / التَّحليل) تَمنح شخصيةَ الفردِ الإنسانيةَ القُدرةَ على صِناعةِ مَاهِيَّتِهَا وتَكوينِ رَمزيتها، في عَالَمٍ مادي شديدِ التعقيد ذي طَبيعة أيديولوجية، تَقُوم على تَوليد مَعَاني الأشياء حَسَب المصالحِ المُتَغَيِّرَة، ولَيْسَ حَسَب حقيقة الأشياء . لذلك _ في أحيان كثيرة _ تَضِيع حقيقةُ الأشياءِ في الوَعْي الزائفِ، وتَذُوب صَيرورةُ التاريخِ في ضَغْطِ المَصالحِ الضَّيقةِ التي تُعيد تأويلَ الزَّمَنِ لتكريسِ اللحظةِ الآنِيَّةِ خَوْفًا مِن المُستقبل، وتَغِيب القِيَمُ الإنسانية في النَّزعةِ الاستهلاكية المادية التي تُجَرِّد السُّلوكياتِ اليومية مِن المَعنى لتكريسِ الغَيبوبة المَعرفية خَوْفًا مِن الوَعْي الفاعلِ في البيئة الاجتماعية، والمُنفعِلِ بالأحداثِ اليومية والوقائعِ التاريخية، والمُتفاعِلِ معَ تجارب الأفراد الحياتية.

3

جَوهرُ الوُجودِ الإنساني يَقُوم على ثلاثة أركان رئيسية : الدَّلالةُ الرمزية في كَينونة اللغة، وتاريخُ الأفكار في كِيَان الفرد، وسُلطةُ المعرفة في هُوِيَّة المُجتمع . وهذه الأركان تُقَدِّم تفسيرًا منطقيًّا للذاتِ الإنسانية في تَجَلِّيَاتِها الزَّمنية، وانعكاساتِها الرُّوحية، وأبعادِها المادية، وتُحَافِظ على العَقْلِ الجَمْعِي كَمَنظومة مُتجانِسة، وتُكَرِّس المنظورَ الحضاري في اللغةِ والهُوِيَّةِ كَوَحدة مُتماسكة . وكُلُّ رُكْنٍ مِن هذه الأركان يُمَثِّل مَرجعيةً نَقْدِيَّةً تُنقِذ الظواهرَ الثقافية مِن المَأزِقِ الحياتي للفردِ والجماعةِ، مِن أجلِ نقلِ سُلطةِ المَعرفة مِن الشَّك إلى اليقين، وتُخَلِّص التفاعلاتِ الاجتماعية الرمزية مِن إشكاليات البيئة المُعَاشَة، مِن أجل نقلِ هُوِيَّة المُجتمع مِن الاغترابِ الوُجودي إلى صِنَاعةِ الفِعْل الاجتماعي في تفاصيل الحياة اليومية . ومَنظومةُ (الإنقاذ / التَّخليص) في الثقافةِ والمُجتمعِ تُحَدِّد طبيعةَ المَسَارِ العقلاني القادرِ على تَجَاوُزِ تناقضاتِ الذاتِ والهُوِيَّةِ في النَّزعةِ الاستهلاكيةِ الماديةِ، وهذا مِن شَأنِه إنزالُ تاريخِ الأفكار مِن بُرْجِه العَاجِي إلى حُقول المعرفة ذات التَّمَاس المُبَاشِر معَ الواقع الاجتماعي، وتحليلُ الأنساقِ التاريخية كَآلِيَّاتٍ للتَّحَرُّرِ مِن ضَغْطِ المصالحِ الضَّيقة، وإعادةُ إنتاجِ الرمزية اللغوية للربط بين الشَّكلِ والمَضمونِ مِن جِهَة، والذاتِ والمَوضوعِ مِن جِهَة أُخْرَى . وكُلَّمَا انصهرت الرمزيةُ اللغوية في البناءِ الاجتماعي والوُجودِ الإنساني، أعادَ الوَعْيُ إنتاجَ المَاضِي بِوَصْفِه قُوَّةً دافعة للإبداع، ولَيْسَ سَيْفًا مُصْلَتًا على الرِّقَاب . وإعادةُ إنتاجِ المَاضِي لا تَعْنِي تَزويرَه، أوْ صناعته ذهنيًّا بشكل يُخَالِف الحقيقةَ، وإنَّما تَعْنِي غَرْبَلَةَ أنساقِه، وفَصْلَ المَرجعياتِ الفكرية عن المراحل الزمنية، مِن أجلِ التَّمييزِ بَين جَوهر الوُجود الإنساني الصافي، والعناصرِ الدخيلة عَلَيه، والتَّفريقِ بَين سُلطةِ المعرفة القائمة بذاتها، والوَعْيِ الزائف الذي تَمَّ تجذيرُه في سُلطة المعرفة بِفِعْلِ عوامل خارجية،لتحقيق مصالح شخصية ومنافع ذاتية.ولا يُمكِن فهمُ الحَاضِر كفلسفة للوجود الإنساني إلا إذا استطاعَ العقلُ الجَمْعِي التَّمييزَ بين عناصرِ المَاضِي التي حَدَثَتْ وانقَضَتْ، وعناصرِ المَاضِي التي تَتَجَدَّد في وَعْيِ الفرد، وتَنعكس في الحَاضِر .

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يتمحور النقاش في موضوع الحتمية مقابل الإرادة الحرة حول أمرين اثنين وهما: هل ان سلوكنا يتقرر نتيجة لقوى خارجة عن سيطرتنا، ام ان الناس قادرين على ان يقرروا بأنفسهم أفعالهم وتصرفاتهم بطريقة معينة.

الحتمية Determinism

الاتجاه الحتمي (الجبري) يقترح ان لكل سلوك سبب، ولهذا يمكن التنبؤ به، وان الرغبة الحرة ليست الاّ وهماً، وسلوكنا محكوم بقوى داخلية وخارجية ليس لنا أي سيطرة عليها.

الحتمية الخارجية

الحتمية الخارجية (البيئية) ترى ان سبب السلوك يقع خارج الفرد، مثل تأثير الآباء، الإعلام، او المدرسة. الاتجاهات التي تتبنّى هذا الموقف تشمل السلوكية behaviourism ونظرية التعلّم الاجتماعي. فمثلا، النفساني باندورا Bandura(1961) أوضح ان الأطفال يصبحون عدوانيين من خلال ملاحظتهم وتقليدهم لعنف آبائهم.

الحتمية الداخلية

الفريق الرئيسي الآخر المناصر للحتمية يشمل اولئك الذين يتبنّون منظورا بايولوجيا. هم يرون ان العوامل المقررة للسلوك هي داخلية وليست خارجية. طبقا لعلم اجتماع البايولوجي، ان التطور يحكم سلوك الأنواع الحية والجينات الوراثية لكل فرد. فمثلا الطبيب، باولبي Bowlby(1969) يؤكد ان الطفل لديه حاجة فطرية للارتباط بشخص هام. سمات الشخصية مثل الانفتاح او العصابية والسلوك المرتبط بهما يتأثر بقوى عصبية وهرمونية داخل الجسد. لا حاجة لمفهوم الكائن البشري المستقل. بالنهاية، هذه الرؤية تنظر لنا باعتبارنا ليس اكثر من مكائن بايولوجية، وحتى الوعي ذاته يُفسر كمستوى من الإثارة في النظام العصبي. فرويد ايضا نظر الى السلوك باعتباره موجّه من داخل الفرد على شكل حوافز غير واعية او أحداث طفولة، تُعرف بالحتمية النفسية.

المستويات المختلفة للحتمية:

الحتمية الصلبة:

الحتمية الصلبة ترى ان الرغبة الحرة ليست الاّ وهماً وتعتقد ان كل حدث وكل فعل له سبب معين. السلوكيون يعتقدون بقوة بالحتمية الصلبة. أبرز ممثل صريح وواضح لهم هو B.F. Skinner . مفاهيم مثل "الرغبة الحرة" و "التحفيز" جرى نبذها كأوهام تنكر الأسباب الحقيقية للسلوك الانساني. طبقا لسكنر، الفرد الذي يرتكب جريمة ليس لديه خيار حقيقي. هو مدفوع في اتجاه بفعل ظروف بيئية وتاريخ شخصي يجعل خرق القانون أمر طبيعي وحتمي.

بالنسبة للملتزم بالقانون، يصبح تراكم المكافآت له تأثير مضاد. كون الفرد كوفئ لإتباعه القاعدة في الماضي، فهو سيقوم بهذا في المستقبل. لا تنطوي العملية على أي تقييم أخلاقي او حتى حساب ذهني . كل السلوك يخضع لسيطرة التحفيز.

الحتمية الناعمة Soft determinism

وهي تمثل منطقة وسطى، حيث ان الناس يختارون حقا، لكن ذلك الاختيار مقيّد بعوامل داخلية وخارجية. فمثلا، كونك فقير لايجعلك تسرق، ولكن ربما من المحتمل جدا ان تلجأ الى السرقة من خلال اليأس. الحتمية الناعمة تقترح ان بعض السلوكيات مقيّدة أكثر من غيرها وهناك عنصر الرغبة الحرة في جميع السلوكيات. غير ان المشكلة في الحتمية هي انها غير منسجمة مع افكار المجتمع حول المسؤولية والسيطرة على الذات التي تشكل الأساس لإلتزاماتنا الأخلاقية والقانونية. قيد اضافي آخر يتعلق بحقيقة ان علماء النفس لايستطيعون التنبؤ بسلوك الشخص بشكل دقيق بنسبة 100% بسبب التفاعل المعقد للعوامل التي تؤثر على السلوك.

الرغبة الحرة

وهي الفكرة باننا قادرون على امتلاك الخيار في كيفية التصرف و اننا احرار في اختيار سلوكنا. بكلمة اخرى، نحن احرار في الاختيار. فمثلا، الناس يمكنهم عمل خيار حر في ما اذا هم سوف يرتكبون جريمة ام لا(مالم يكونوا اطفالا او مختلين عقليا). هذا لا يعني ان السلوك عشوائي، وانما يعني اننا متحررون من التأثيرات السببية لأحداث الماضي. طبقا للرغبة الحرة، الفرد يكون مسؤولا عن أفعاله. احدى أهم الافتراضات الرئيسية للاتجاه الانساني هي ان الناس لديهم رغبة حرة، وان السلوك ليس كله مقرر سلفا. الاستقلالية الشخصية personal agency هي المصطلح الانساني لممارسة الرغبة الحرة. الاستقلالية الشخصية تشير للخيارات التي نتخذها في الحياة، والمسارات التي نسلكها وما يترتب عليها من نتائج.

بالنسبة لعلماء النفس الانسانيين مثل ماسلو (1943) و روجرز (1951)، يرون ان الحرية ليست فقط ممكنة وانما ايضا ضرورية اذا اردنا ان نصبح كائنات بشرية تعمل بكامل طاقتها. كلاهما يرى ان تحقيق الذات كحاجة انسانية متفردة وشكل من التحفيز يجعلنا متميزين عن كل المخلوقات الاخرى. هناك خط يجب ان يُرسم بين العلوم الطبيعية والاجتماعية.

لنأخذ مثالا بسيطا، عندما يحصل رد فعل لعنصرين من المواد الكيميائية، لا معنى هناك لتصور انهما يستطيعان التصرف بأي طريقة اخرى غير الطريقة التي يقومان بها. غير انه، عندما يجتمع شخصان ، هما ربما يتفقان، او يختلفان، او يصلان الى تسوية او يدخلان في نزاع وهكذا. لكي نفهم سلوكهما نحن نحتاج لفهم كيف يختار كل طرف العمل اثناء العلاقة.

بالضد من علماء النفس الحتميين الذين يعتقدون ان ما "هو حاصل" هو حتمي، هناك الذين يعتقدون ان الانسان لديه القدرة للسيطرة على مصيره. هناك ايضا موقف وسطي يعود الى علم النفس التحليلي لفرويد. فرويد يبدو مناصرا للحتمية في كونه يجادل ان افعالنا وافكارنا مقررة باللاوعي. غير ان هدف العلاج هو مساعدة المريض للتغلب على تلك القوى. في الحقيقة، بدون الايمان ان الناس يمكنهم التغيير فان العلاج ذاته لا معنى له.

تلك الرؤية اتخذها العديد من الفرويديين الجدد. احد أبرز المؤثرين كان ايريك فروم (1941). في (الخوف من الحرية) هو جادل ان جميعنا يمتلك امكانية السيطرة على حياته لكن العديد منا يخشون القيام بهذا، وبالنتيجة، نحن نتخلى عن حريتنا ونسمح لحياتنا لتُحكم بالظروف وبالناس الآخرين والايديولوجيات السياسية او المشاعر اللاعقلانية. ان القدرية ليست حتمية، والاختيار الذي من خلاله نعمل الخير ام الشر، يراه فروم هو جوهر الحرية الانسانية.

تقييم نقدي

يرى علماء النفس المناصرون لرؤية الرغبة الحرة ان الحتمية تمحو الحرية والكرامة وتحط من قيمة السلوك الانساني. عبر خلقه قوانين عامة للسلوك، يتجاهل علم النفس الحتمي فرادة الكائن البشري وحريته في اختيار مصيره. هناك انعكاسات هامة للأخذ بأي جانب من النقاش. التوضيحات الحتمية للسلوك تقلل من المسؤولية الفردية.

الشخص الذي يُعتقل لإرتكابه هجوم عنيف ربما يبرر ذلك في انه لم يكن مسؤولا عن سلوكه – ذلك ناتج عن تربيته ، او نتيجة ضربة في الرأس اثناء الطفولة المبكرة، او بسبب التوتر الأخير في العلاقات، او مشاكل نفسية. بكلمة اخرى، سلوكه كان مقررا.

الاتجاه الحتمي ايضا له تأثيرات هامة على علم النفس كعلم. العلماء مهتمون باكتشاف قوانين يمكن استعمالها للتنبؤ بالأحداث. هذا يمكن رؤيته بسهولة في الفيزياء والكيمياء والبايولوجي. علم النفس، كعلم يحاول نفس الشيء – تطوير قوانين، لكن هذه المرة للتنبؤ بالسلوك. لو نحن نجادل ضد الحتمية، نحن بالنتيجة، نرفض الاتجاه العلمي لتوضيح السلوك.

الأمراض العقلية يبدو تتجاهل مفهوم الرغبة الحرة. فمثلا، الافراد الذين يعانون من الامراض النفسية يفقدون السيطرة على افكارهم وافعالهم ، والناس ذوي الكآبة يفقدون السيطرة على مشاعرهم. من الواضح، ان اتجاها حتميا خالصا او رغبة حرة خالصة لا يبدو ملائما عند دراسة السلوك الانساني. معظم علماء النفس يستعملون مفهوم الرغبة الحرة للتعبير عن الفكرة بان السلوك ليس رد فعل سلبي لقوى وانما ان الافراد يستجيبون بقوة للقوى الداخلية والخارجية.

عبارة الحتمية الناعمة عادة تُستعمل لوصف هذا الموقف، حيث ان الناس حقا لديهم الاختيار لكن سلوكهم هو دائما ما يكون بسبب شكل من اشكال الضغوط البيئية او البايولوجية.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم