(انا افكر اذن انا موجود)... رينيه ديكارت
(انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر)... جاك لاكان
(انا افكر في شيء ما اذن انا موجود)... ادموند هوسرل
(انا اتألم اذن انا موجود)... ميلان كونديرا
***
سبق لي ان كتبت مقالة ناقشت بها مفهوم هوسرل لكيجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) نشرتها لي صحيفة المثقف الالكترونية الغراء بعنوان (هوسرل / علاقة الذات بالموضوع) ونشرها موقع كوّة الفلسفي تلاها غيره من مواقع عدة، لقد أخذ هوسرل ان التفكير المنتج هو وعي قصدي عن استاذه برينتانو. وانتشرت المقولة انتشار النار في الهشيم على صعيد الفلسفة خاصة الامريكية منها واستحدث عنها كتابات فلسفية امريكية بالخصوص لا حصر لها حول علاقة فلسفة اللغة بفلسفة العقل وكذا بفلسفة الوعي. لذا سأكتفي هنا بمناقشة عبارة جاك لاكان بضوء مقتطفات من كتاب نقد الحقيقة للمفكر علي حرب وتداخلهما مع تفكيكية دريدا. تاركا تفنيد كوجيتو ديكارت التي اضحت جثة ميتة في كلاسيكيات تاريخ الفلسفة.
لا أرغب مصادرة عبارة جاك لاكان بأن الوجود عنده أمنية الفيلسوف أن يوجد الانسان في وجود انساني أصيل غير ما هو فيه من وجود مجتمعي زائف، وأنّ وجوده العياني الماثل هو وجود مجتمعي لا قيمة ولا نفع من التفكير من خلاله. اولا عبارة جاك لاكان سبقه بها عشرات من الفلاسفة ربما اشهرهم نيتشة، هيدجر، فوكو، هوسرل، سارتر، وفلاسفة اخرين بينهم امريكان. ورغم بهرجة وزهو العبارة الا انها لا قيمة حقيقية فلسفية لها.
فهمي التأويلي التفسيري لعبارة جان لاكان (انا افكر حيث لا اوجد، واوجد حيث لا افكر) ولا يشترط ذلك أن غيري لا يقرأها بفهم وتأويل مغاير بتعدد وتنوع واختلاف القراءات. لكني اجد في تلك القراءات انها تماهي استعراضي فلسفي غير مشروط بالفهم الخاص الذي اراده جان لاكان بعبارته الغامضة العصيّة التي تتقبل التناقض التفسيري كما نجد مثاله الصارخ مارتن هيدجر. الذي كان اوضح هذا التناقض بجدارة اكثر فلاسفة سبقوه.
امّا لو اننا اخذنا عبارة علي حرب مثالا في تفسيره لعبارة (جاك لا كان) فهو يذهب الى تفسير نوع من العدمية التفكيكية المباشرة في الغاء أن يكون الانسان ذاتا مفكّرة في جوهرها، لأن كل ماهو في حجب الغيب ويمتنع الافصاح عن حقيقته يكون ذاتا غير مفكّر بها فتوجد حيث لا وجود وهذا دليل تفسيره في العبارة وفق استراتيجية ميتافيزيقية لا تنطبق في معناها الا على الذات الالهية فقط. وخارج هذا الحيّز لا قيمة لها ولا يمكنها التحقق منها وجودا من عدمه.
استعمالنا مفردات (منهجية تفكيكية عدمية) خطأ اصطلاحي فلسفي ومفهومي لا اعمل به ولا صحة منطقية فلسفية تحتويه. فتفكيكية دريدا، وهورمنطيقا بول ريكور، وحتى طروحات بعض فلاسفة البنيوية حول فلسفة اللغة وحتى خارجها، وعدمية فانتيمنو ليست فلسفات تقوم على منطق عقلي تعترف بالانسان كموجود محوري في مباحث الفلسفة ولا بالحياة. وتطرح هذه الاطروحات الفلسفية مثلا فلسفة اللغة نسقا يوازي الحياة والواقع ولا يتقاطعان معها ولا يتكافلان معها من اجل تغيير حياة الانسان.
فالتفكيكية على لسان جاك دريدا لا منهج لها كما وليست نظرية ولا فلسفة بل هي استراتيجية هدم وتقويض ولا تثق بالعقل ولا تؤمن بالانسان محور مرتكز التفكير الفلسفي - (الانسان ما يريده او يعيه او يفكّر به، انه ذلك الشيء الذي يجهله ولا يفكر به بكلمة اخرى / انا اوجد حيث لا افكر، او افكر حيث لا اكون) عبارة جان لاكان ص137 عن كتاب نقد الحقيقة . عبارة تلتقي ما يعتمده علي حرب بكتابه نقد الحقيقة بتفكيكية دريدا واطروحة جاك لاكان على حد سواء..
يشرح علي حرب في كتابه نقد الحقيقة، أنّ هناك فجوة بين الوجود والفكر بضوء كوجيتو ديكارت (انا افكر اذن انا موجود) ودحض جاك لاكان فيلسوف البنيوية وعالم النفس لها في عبارته التي مررنا عليها اعلاه. واهمل علي حرب ذكره كذا فيلسوف ماركسي ووجودي قام قبله ابطال منطقية عبارة ديكارت وتهافتها الفلسفي لعل هوسرل احدهم في ان وعي الذات هو الوجود وليس التفكير وحده يقرر الوجود.
يقول علي حرب (الهوّة التي تقوم في الاصل بين الوجود والموجود، أي الى نسيان الموجود للوجود، نعني نسيان الانسان لوجوده على مايذهب اليه هيدجر، وهذه الهوّة تجعل اللامفكر فيه سلطة على الفكر، اي هي الأصل في قيام مسافة بين ما يقوله القول وما لا يقوله) كتاب نقد الحقيقة ص26.كما يقول ايضا (ان الفكر الذي يتأمل موضوعه فهو يحمل صفة تأمل ذاته) ص118 من الكتاب.
صحيح ان الوجود كمفهوم ميتافيزيقي لا يمكننا ادراكه باكثر من ادراكاتنا موجوداته المحتواة داخله التي بغيرها لا يبقى لدينا وجودا يمكننا ادراكه حتى حدسا من غير تعالقه بمحتويات موجوداته داخله.
بعد ان نقّر بوجود فجوة او مسافة بين الوجود البايولوجي العاقل للانسان والفكرالواعي المجرد، لكنما ليست بالضرورة بين الموجود والوجود على صعيد انتاجية وقراءة النص في مجال اللغة، قراءة بنيوية منهجية حديثة كما في حفريات المعرفة،أو قراءة تفكيكية متطرفة، وانما في المجال الانطولوجي الذي تتداخل فيه حقيقة الوجود العاقل واللغة بما يعرف بالقراءة الجديدة كما في طروحات شتراوس وفوكو والتوسيروغيرهم.
وما يفصل الوجود عن غير الوجود الاصيل، هو حالة وعي الذات لوجودها الحقيقي والعالم الخارجي (وهذا ما ناقشته الماركسية والوجودية باسهاب صائب).، وغياب الوجود يكون في الموجود المجتمعي الذي لا يعي فيه الفرد ذاته كجزء فاعل منه، عندها يكون متعيّنا موجودا وليس متعيّنا وجودا، وفقدان وعي الذات لمجتمعيتها تغييب للوجود الاصيل، والوجود الحقيقي الحر والمسؤول هو في وعي الذات وعيا ادراكيا عقليا مسؤولا بحرية المجتمع، يعمل في دائرة المفكّر به وهو ما يمليه العقل ويضطلع به مقصيّا تأثير اللغة الهامشي في توظيف تحديدات الوجود العاقل.هنا للفكر أسبقية على اللغة في ادراك الوجود،والعقل أسبق على الاثنين في وعي الوجود.
الوجود الظل ليس وهما فلسفيا
للحقيقة ان اول من اشار للوجود الثاني الحقيقي للانسان هو افلاطون ومثله فعل نيتشة.هذا الوجود الذي يقصي الموجود او الوجود العياني الزائف الذي لا يعي ذاته الحقيقية ولا حريته المسؤولة عن ذاته ومجتمعه، فهو يعيش نسيان الوجود ويكون وجودا هامشيا مجتمعيا طارئا .. وهنا يمكننا القول لكن بحذر شديد ان نسيان الوجود هو وجود ثان يدركه الفرد بفهم عميق وذكاء لا يجاريه فيه المجتمع واول فيلسوف اوضح هذا الالتباس في اطلاقه صفة اللامنتمي خارق الوعي الذكي الذي يعي وجوده والحياة والوجود من حوله بجديّة وذكاء اكثر مما ينبغي ومطلوب منه هو الفيلسوف الانكليزي كولن ولسون قبل ان ينهي كتاباته بروايات ونقودات لا ترقى لمستوى كتاباته الفلسفية المهمة الاولى بداية ستينات القرن العشرين.. وجود اللامنتمي (كموجود وليس وجود كمفهوم فلسفي) بغض النظر أن يكون وجودا حقيقيا أم وجودا زائفا فهو يعتبر حسب كتابات كولن ولسون الارستقراطية النخبوية في اختياره شخصيات اعماله يعتبر توضيحا لما كان اشار له مارتن هيدجر في كتابه الزمان والكينونة ولم يستطع توضيحه كما فعل كولن ولسون في اكثر من اربع مؤلفات له تدور في هذا المنحى. ولم يكن تاثير مفهوم الوجود الظل الثاني مرتكز الروائي الفيلسوف التشيكي فرانز كافكا في رواياته الخالدة. مثل القلعة والمسخ وغيرهما غائبة عن تاريخ فلسفة الادب. ثمة روايات وكتابات فلسفية تناولت هذا الموضوع لا تحضرني اسماءهم.
من الجدير الاشارة له سريعا هنا ان كولن ولسون عالج بطل موجود اللامنتمي في رواياته وكتاباته من منطلق اغترابي كما ورد عند ابن سينا وابن طفيل والسهروردي وعند اقطاب الصوفية الدينية عالميا كما بالهند والصين واليابان وكوريا وهكذا.اي ان العزلة المجتمعية واعدام اللغة الصوفية من قبل صاحب التجربة الصوفية مطلوبان لذاتهما وليسا مفروضان مجتمعيا.
هيدجر ونسيان الوجود
لكن نحن نميل الى أن نسيان الوجود او (الوجود الثاني الغائب الحاضر) يكون وجودا زائفا كما يذهب له هيدجر، فالوجود المتحقق ذاتيا كوجود أصيل لا يحتاج مفارقة وجوده في نسيان الوجود أي الاندماج في الكليّة المجتمعية الذي هو شرط تحقق الذات وجودها الاصيل حسب مذهب الوجودية والظاهراتية.
فالذات الحقيقية لدى هيدجر هي وجود – في – عالم وهو ما جعله يتخبط في كتابه باكثر من خمسين صفحة من مؤلفه الزمان والكينونة دونما قدرته اثبات صحة ما طرحه في عبارته التي استقى جذورها من استاذه هوسرل صاحب الظاهريات الذي اخذها عن برينتانو في مقولة (الوعي القصدي) التي دفنت كوجيتو ديكارت انا افكر اذن انا موجود الى غير رجعة حياة.
هيدجر رغم انحيازه لمقولة برينتانو واستاذه هوسرل الوعي القصدي هو الذي يجعل الفرد يعيش امتلائه النفسي والوجودي في وجوده – في – عالم . الا انه عجز اثبات ايا من الوجودين تحقق الذات الانسانية امتلائها الوجودي الاصيل هل عندما تكون داخل مجتمع جزءا منه متفاعلة معه ام عندما تكون خارج المجتمع منفصلة عنه تعيش وجودا بذاته فقط..
علي حرب والتماهي التفكيكي
اذا اردنا ان نناقش بعض المنطلقات الفلسفية لكتاب علي حرب نقد الحقيقة، نكون ملزمين في توخّي الدقّة والحذر ان لا ننزلق بين قراءة النص قراءة بنيوية نسقية على صعيد التشكيل اللغوي واللساني المحض، وتناصّه المتداخل مع الفلسفة، وهما النص الادبي والنص الفلسفي وان هما يلتقيان منهجيا كما في الفلسفة البنيوية الا أنهما في حقيقة الامر يمتلكان استقلاليتهما وخصوصية أحدهما عن الثاني على صعيدي التجنيس الادبي والتجنيس الفلسفي وعلاقتيهما المختلفة باللغة والفكر،عليه ستكون مناقشتنا على صعيد قراءة النص الفلسفي وتعالقه مع لغة النص الادبي والشعري منه تحديدا، يقوم على الأخذ بنظر المناقشة أنهما يختلفان اختلافا كبيرا حتى وأن جمعتهما اللغة كوسيلة تعبيرية واستنطاق لفظي لكليهما.
ولتوضيح اكثر فأن النص الفلسفي هو غيره النص الديني او التصوفي وهما غيرهما في النص الادبي،فلكل واحد منهم مجال اشتغاله وميزاته بخصائص تفرّده الفني والجمالي والتركيبي.
(في الشعر كما في الفلسفة تستنطق الاشياء من جديد، ويعاد خلق العالم بالاسماء والكلمات، او بالفكر والمفهوم، فالشاعر والفيلسوف كلاهما يسعى الى الاستنطاق واعادة الخلق والانتاج،كل على طريقته) كتاب نقد الحقيقة/ علي حرب. ص119
ان الفجوة التي تفصل او تتوسط (الفراغ)الافتراضي بين الوجود الحسّي والفكرالتجريدي،وهو افتراض قائم ادراكيا عقليا قبل ان يفهم او يحدس فكريا او لغويا، هي فجوة لا تتوسط وجودين ماديين أثنين، بل ان الوجود والفكر هما وجود حقيقي مادي واحد هو كينونة الانسان بعلاقته الذاتية مع جوهره المثالي الأصيل الذي يرغب بلوغه.
علاقة الذات بجوهروجودها، بأغترابها وأنعزالها عن الناسيّة المجتمعية في الوجود على حد تعبير هيدجر،أي الاندماج فيما يطلق عليه هيدجر مفارقة الانسان لوجوده الحقيقي الاصيل من خلال اندماجه المتكيّف والتام بالمجتمع او اندماجه بالكلية حسب تعبير هيجل.(يلاحظ تناقض هيدجر فيما سبق لنا الاشارة له قوله ان الوجود الاصيل لا يكون الا ضمن الاندماج بالكية المجتمعية وما اطلق عليه نصا ( الوجود – في- عالم ) متماشيا مع هوسرل وسارتر.
أما في حال نشدان أوالتطلع لتحقيق الكمال المثالي في نزوع الذات تحقيق وجودها الفاعل الأسمى بالحياة او على الاقل في السعي نحو بلوغ مراتب تصاعدية في محاولة تحقيق مثل تلك الاهداف فهو نزوع نوعي وجودي لفرد او مجموعة افراد مستقلين عن الاندماج في مجتمع نسيان الوجود.
الناسّية في الوجود كما عّبر عنها هيدجر هي بتعبير مباشرعن وجود الفرد كينونة انسانية هامشية زائفة لا تملك الحد الادنى من الخصائص النوعية المجتمعية التي يحتازها الوجود الاصيل للفرد. بل هي تشترك بجميع المواصفات المجتمعية السطحية التي تبعد الانسان وتقصيه من الحصول على الوجود الاصيل بالحياة. والكليّة المجتمعية ما هي الا صهر الكيانات المتجانسة بالنوع مجتمعيا في معترك الحياة الرتيبة التي يتوزعها اشباع غرائز البقاء وغرائز اللذة فقط. عن هذه الحالة في نسيان الوجود الاصيل في معايشة الوجود الزائف يطلق عليها هيدجر توصيف قاسي جدا اذ يعتبرها الانحطاطية في الوجود.اي المجتمع هو ام الرذائل بحسب فهم هيدجر لتحقق الوجود الاصيل.
المجتمع او الموجود الجمعي لنسيان الوجود الحقيقي هو دائرة مقفلة تتقاذفها بلا انقطاع هواجس الحياة اليومية، ويملأها اشباع غرائز الحاجة البيولوجية الى الطعام والجنس والعمل والنوم، وجميعها عوامل تغييب الوجود الاصيل، في استبعاد الوجودات النوعية وليس الوجودات الهامشية المجتمعية المتكيّفة مع الكلية العامة. الوجود النوعي معناه وعي الذات جيدا، ووعي الذات يقود لا محالة نحو الانفراد عن مجتمع الناسيّة، مجتمع نسيان الوجود، الوجود الاصيل الذي يتجسّد فيه وعي الذات، باغترابه عن مجتمعه في محاولته الوصول الى تراتبية أعلى في سلّم الحصول على صفات التمّيز والتفرّد النوعي في محاولة الوصول الى (مثل) الانا العليا.،وهي نزوع مثالي في محاولة بلوغ مراتب الكمال، تشبه من حيث الغاية النزعة التصوّفية الاغترابية باختلاف الوسيلة والهدف، وكلاهما نزعتين لا يمكنهما التحقق.
لمناقشة علاقة الفكر بكل من اللغة والعقل،تكون المسافة التي تفصل بين الوجود والفكر هي علاقة الانسان بذاته لا غير، أي علاقة وعي الذات المحكوم بالتفكير والادراك العقلي. وان العقل وليس الفكر هو السلطة المتنفّذة في وصايتها وحمايتها للوجود الانساني الفاعل، وفي تغييبنا لهذة الأولوية للعقل من أجل فرض سلطة الفكر على الوجود نقع في مفارقة تراتيبية في الوظائف العقلية التي يرفضها العقل قبل رفض النسق المنطقي التجريدي لها، هذه المفارقة في تراتيبية النسق الوظيفي للعقل، يدفعنا الى التساؤل أيهما أسبق تاثيرا على الوجود العقل ام اللغة؟ طبعا يكون الجواب هو العقل منتج الفعالية اللغوية التي هي ملكة يعبّر بها الوجود عن حقيقته وواقعيته كوجود عاقل.أذ لا وجود اصيل بدون عقل، ولا وجود لغة او فكر من دونه ايضا.وعبارة جاك دريدا عبثية في محاولة انكار دور العقل وعلاقته بالفكر عندما يقول (العقل هو العدو اللدود للفكر).
أن تعابير مثل المسكوت عنه واللامفكّر فيه والغائب في ماوراء النص كلها تعبيرات لا معنى لها من دون فاعلية العقل كمرجعية ثابتة في كشفها وعلاقته بهما (الوجود واللغة). اما في جعل اللامفّكر به بأنه يمتلك سلطة على الوجود في تغييب العقل نرى لا حاجة لمحاججته ودحضه كونه اخلالا وظيفيا في قدرات العقل الفسلجية وتراتيبية علاقته بكل من الوجود والفكر، مقارنة بفضاء اشتغالات واستعمالات اللغة.وتأثيرها في تحديد الوجود الزائف والوجود الاصيل.ومن حيث اللامفّكر به احتمال او تأويل يتعدد ويتجاذب ويتضاد، وقياسا به بسلطة (اللامفكّر فيه) في قراءة النص ومن ثم تأثير ذلك على الوجود هومحض قصدية في تجاوز والغاء دور العقل في الاستجابة الادراكية للوجود او تعطيله قبل تعطيل النص واللغة المتعالقتان معه.
يقول علي حرب (يبنى النص على الغياب والنسيان، لا على الحضور والتذكّر، والغياب هو غياب الجسد والدال، وهما الحقيقتان اللتان لا ينفك عنهما وجود الانسان) ص27
هنا نود تسجيل الملاحظات التالية:
ليس الجسد واللغة حقيقتا الوجود فقط، بل العقل واللغة، فقد يكون الجسد مفارقا وجوده العقلي والفكري معا كما في جسد الميت او المجنون او المريض بمرض نفسي عصابي او عقلي انفصامي،أن في تعطيل العقل لا يبقى لوجود الجسد ولا اللغة أي معنى او قيمة،و تنتفي في عطالة العقل فاعلية وحضورالفكر و اللغة.
على سبيل الفرض، فالجسد لا يمثّل الوجود، كما لا يتحدد الوجود بتلازم الجسد والفكر او في تلازم الجسد والروح فهما غير كافيان في اثبات الوجود بدون العقل.
وقريب من هذا المعنى متداخل معه يعبر ناعوم جومسكي فيلسوف وعالم اللغات في اتجاهه اللغوي بالتحويلية التوليدية معارضا الفهم البنيوي والتفكيكي قائلا: ان الانسان المتكلم هو المولّد للكلمات والعبارات، وله الدور الفاعل في صنع اللغة وإيجاد توليدات جديدة لا تنتهي، وبهذا فهو يقاطع البنيوية حسب دكتور صلاح فضل والتفكيكية اكثر أيضا.
يتوجب علينا الحذر كما اشرنا له سريعا سابقا من الانزلاق في الخلط بين قراءة النص الادبي او السردي وفق منهجية القراءة البنيوية او التفكيكية التحليلية في علوم اللغة واللسانيات الحديثة من جهة ونص الفلسفة من جهة اخرى، فقراءة النص الادبي تكون وظيفة اللغة فيه تداولية تعبيرية تنحصر في ثنائية (نص ومتلقي) وهنا يكون مجال اشتغال اللغة الثري في تأثيث علاقة النص بالتناص، بالظاهر والمخفي، بالمعلن والمسكوت عنه وهكذا من ثنائيات متعددة تخرج النص ان يكون نصّا فلسفيا في علاقته بالوجود الانساني من حيث هو وجود أصيل أم وجود زائف. النص المكتوب او المرئي او المسموع لا يحدد وجود الشيء بدون مرجعية العقل، بل يمكنه تحديد الفكر من خلال النص.وكل وصاية على اللغة او الفكر او الوجود الاصيل مردّه ومرجعيته وصاية العقل اولا واخيرا ولا وصاية قبلها تسبقه.
ليس باللغة يتحدد الوجود الانساني ولا بالفكر، بل باللغة يتحدد الموجود، الذي هو نسيان الوجود الحقيقي، وبحسب الاستاذ حرب،فقد وضعنا هو امام مفترق طريقين لا نعرف أيهما نختار، هل نأخذ بالغياب والمنسي والمسكوت عنه في النص، ام نأخذ حضور النص كما هو نص استقبالي مدرك واقعيا وكل مدرك واقعي يكون عقليا، تتعدد قراءاته و تتعدد وظائفه في تحديد الوجود، وفي نقد النص او تأويله لغويا فقط لا نكتسب وجودنا، وبأي المعنيين اللذين ذكرناهما يكون تعاملنا مع النص سليما لغويا كوسيط تداولي او تأويلي فلسفي ملازم؟ من المعلوم المتداول ان اللغة ليس متعينا ثابتا بل هي فعالية ألسنية متغيرة ومتطورة باستمرار يمكن التعبير بها فقط. اللغة صيرورة معنى متغير على الدوام في تبعيته وملازمته حركة الواقع.
ورد ص24 من كتاب علي حرب(لقد تبدّلت حقّا النظرة الى النص الفلسفي تبدّلا كليّا، فلم يعد يقرأ بوصفه خطاب الحقيقة المطلقة،والماهيّات الازلية، والهويّات الصافية، واليقينيات الثابتة، ولم يعد ينظر اليه فقط من جهة صدقه العقلي، او صحته المنطقية، او تماسكه النظري، او تواطئه الدلالي، وانما ينظر اليه من جهة اختلافه او كبته، او سياسته وهيمنته، او ضلاله وتلاعبه.. الخ).
تعقيبنا أن خطاب الفلسفة منذ عصر الاغريق والرومان والى يومنا هذا لم يكن خطاب الحقيقة المطلقة وليس جديدا ان لا يكون كذلك بالامس واليوم ولا في المستقبل، ومن المؤكد ان الفلسفة على امتداد التاريخ لم تكن الحقيقة شيئا مسلمّا به لتعدد معانيها واختلافات دلالاتها ومحدداتها الهلامية للمعنى كمصطلح او كمفهوم.
فالخطاب الفلسفي شأنه شأن أي خطاب مبني اي (بنية نسقية ) فكرية لغوية تداولية ذات منشأ بنيوي نسقي، خطاب يحمل كل تناقضاته الداخلية، وكل نقائصه وعوامل انحلاله الذاتية والموضوعية داخله، ولم يأت عصر عومل به النص الفلسفي كيقينيات غير مشكّك بها الى حد أن كلود بيرنار قال(أكاد اجزم أن العالم ينام على وسادة من الشك). وهي عبارة قيلت بعد ان كتب ديكارت (مقالة في المنهج) قبل قرن حول الشك.حتى القراءات البنيوية والتفكيكية الحديثة الفلسفية وحفريات المعرفة والتنّاص اللغوي، تعامل اليوم وتتعرض الى نقد لا ذع يستهدفها بالصميم، وسيطالها تجاوز لاحق، وتعامل كما هي اليوم لا يقينيات معرفية ولا يقينيات منهجية في الافصاح الفلسفي والتعبير الفكري وعلى صعيد اشتغالات اللغة وحفريات المعرفة السائدة اليوم أيضا، نحن اليوم نعيش في عالم يتغير بالدقائق على صعيد كل محمولات الحياة وليس النص الفلسفي استثناءا من هذا التغيير الحتمي.
أن في خروج النص عن وصاية المؤلف يقع تحت وصاية المتلقي وتعدد القراءات الاختلافية التأويلية له، لذا لا يمكن لنص يتداوله اثنان قرائيا لا يختلفان عليه مهما كانت نوعية تلك القراءة حرفية او منهجية او فلسفية او موضوعية او غيرها. وكل ما يمكننا قوله سبقنا غيرنا بقوله ربما بافضل منا، ولنا عليه شروحات وتفاسير واضافات جديدة ولا اكثر، وما نقرأه ونقوله اليوم سيأخذ السلسلة التراتيبية في التداول حاضرا وفي المستقبل بنفس مناهجية التداول المعرفي في التجاوز او الإلغاء في سنة الحياة التي يحكمها التبدل والتغيير الدائمين.
***
علي محمد اليوسف
...................
المصدر: كتاب المفكر علي حرب (نقد الحقيقة).