أقلام فكرية
عدنان عويّد: المعتزلة بين اللاهوت والعقلانيّة الصوريّة
من خلال اطلاعنا على أفكار المعتزلة ومعتقداتهم، كما سيتبين لنا لاحقاً، أن الكثير من أفكارهم لا تختلف من حيث الجوهر عن أفكار الجهات الأخرى المناوئة لهم في عصرهم، مثل الموقف من خلق القرآن، ومرتكب الكبيرة، ومن الصفات، ومرجعيّة التحسين والتقبيح أهي النص الديني أم العقل، وكذلك مرجعيّة الفعل الإنسان مقدراً هو أم مخيراً.. وغير ذلك. وهذا يعود برأي إلى أن الخطاب الفكري الذي كان سائداً في عصرهم، هو خطاب ديني لا هوتي في عمومه، وبالتالي لا نستطيع أن نحكم عليهم بروية عصرنا، من حيث طريقة اشتغالهم منهجياً على هذه القضايا، أمام القضايا التي يشتغل عليها فلاسفتنا ومفكرونا اليوم. ومع ذلك إذا ما قارنا طبيعة أفكارهم بأفكار الجهميّة (نسبة إلى جهم بن صفوان) والجبريّة عموماً، نستطيع القول بثقة عالية: إن ما طرحه المعتزلة من أفكار تدعوا إلى تبني العقل سلاحاً للمعرفة والإرادة الإنسانيّة معولاً للهدم والبناء، أرادوا منها تنوير عقول الناس لمعرفة أسباب ظلمهم وقهرهم والاستبداد بهم وتجويعهم وتشريدهم، وأنهم هم سادة موقفهم من الحياة، وأن قدرهم بيدهم وليس بيد غيرهم، وأن من يعمل على إبعاد تفكيرهم عن استخدام عقولهم وإرادتهم في نشاطهم الحياتي، هم في الحقيقة من يريدون استعبادهم والسيطرة عليهم باسم الدين، وهذا الموقف العقلاني ما آلب عليهم السلطات الحاكمة ماضياً وحاضراً، حيث حوربوا وعذبوا وشردوا وحرقت كتبهم وقتل الكثير منهم تحت ذريعة الكفر والزندقة وهم منها براء.
التعريف بهم:
عرف التاريخ الإسلامي على مر العصور، العديد من التيارات والفرق الكلاميّة، وكان من أبرزها "المعتزلة" الذين عرفوا بتغليبهم العقل على النقل، وقالوا بالعقل قبل النقل، ورفضوا الأحاديث التي لا يقرها العقل حسب وصفهم، وقالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرع بذلك.
والمعتزلة في سياقها العام، فرقة كلاميّة ظهرت في البصرة (110هـ)، تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسما مشتركا بين جميع فرقها. ومن أسمائها القدريّة والوعيديّة والعدليّة. وسموا معتزلة لاعتزال مؤسسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق، أو مرتكب الكبيرة . (1).
ويميل المفكر المصري أحمد أمين إلى أن هذا الاسم (جاء من إطلاق بعض اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، بسبب الفرقة اليهوديّة التي ظهرت بعد السبي البابلي والمعروفة بـ"الفروشيم"، وهى كلمة عبريّة يردافها بالعربيّة اسم "المعتزلة"، وكانت تنفى الجبر كالمعتزلة وتؤمن بأن الله ليس هو خالق أفعال البشر). (2). لقد اعتمد المعتزلة على العقل في تأسيس عقائدهم وقدموه على النقل كما أشرنا أعلاه، وقالوا بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي. كما كان لتأكيد المعتزلة على التوحيد وعلى العدل الاجتماعي، أعطاهم أهميّة كبرى لدى الناس في عصر كثرت فيه المظالم الاجتماعيّة وكثر فيه القول بالجبر وبالتشبيه وتجسيم الذات الالهيّة. وإذا كان أول ظهور للمعتزلة في البصرة في العراق كما بينا أعلاه، إلا أن افكارهم راحت تنتشر في مختلف مناطق الدولة الإسلاميّة كخرسان و ترمذ و اليمن و الجزيرة العربية و الكوفة و أرمينيا. هذا وقد انطوى تراث المعتزلة لقرون ولم يعرف عنه الكثير بسبب محاربة رجالاتهم وفكرهم في مراحل كثيرة من تاريخ الدولة الأمويّة والعباسيّة من قبل الطبقة الحاكمة المستبدة، لذلك جاءت معرفة عقائدهم وأفكارهم ورجالاتهم عن طريق كتابات من أشاروا إليهم عبوراً أو من عارضوهم، إلى أن اكتشف مصادفة في اليمن قبل بضعة عقود أهم كتاب في مذهب الاعتزال وهو "المغني في أبواب التوحيد والعدل" للقاضي عبد الجبار. (3).
على العموم يعتبر "واصل بن عطاء الغزال" إذن، هو مؤسس فرقة المعتزلة. هذا وقد قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير:"البليغ الأفوه أبو حذيفة المخزومي مولاهم البصري الغزال .. مولده سنة ثمانين بالمدينة .. طرده الحسن عن مجلسه لما قال الفاسق لا مؤمن ولا كافر فانضم إليه عمرو واعتزلا حلقة الحسن فسموا المعتزلة ". (4).
الجذور المعرفيّة لنشأة المعتزلة:
اختلف المؤرخون في بواعث ظهور مذهب المعتزلة، واتجهت رؤية من اشتغل عليهم إلى القول:
(إن نشأة الاعتزال كانت ثمرة تطور تاريخي لمبادئ فكريّة وعقديّة وليدة النظر العقلي المجرد في النصوص الدينيّة، وقد نتج ذلك عن التأثر بالفلسفة اليونانيّة والهنديّة والعقائد اليهوديّة والنصرانيّة. فقبل بروز المعتزلة كفرقة فكريّة على يد "واصل بن عطاء" كان هناك جدل ديني فكري بدأ بمقولات جدليّة كانت هي الأسس الأولى للفكر المعتزلي. على أن هناك روايةً تُرجع الفكر المعتزلي في نفيهم للصفات إلى أصول يهوديّة فلسفيّة كما ذكر أحمد أمين، فالجعد بن درهم أخذ فكره عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي. وقيل أيضًا: إن مناقشات الجهم بن صفوان مع فرقة السمنيّة قد أدت إلى ابتداعه لنفي الصفات، كما أن فكر يوحنا الدمشقي وأقواله تُعدُّ موردًا من موارد الفكر الاعتزالي، إذ إنه كان يقول بالأصلح، ونفي الصفات الأزليّة وحريّة الإرادة الإنسانيّة). (5).
وهناك من قال بأن سبب الاعتزال يعود لأسباب دينية وأخرى سياسيّة:
السبب الديني: وقد حدث بسبب اختلاف في بعض الأحكام الدينيّة كالحكم على مرتكب الكبيرة. كما بينا في موقع سابق من هذه الدراسة.
والسبب السياسي: (يعتقد بعض العلماء أن الداعي لظهور هذه الفرقة ظرف حضاري أو تاريخي، لأن الإسلام عند نهاية القرن الأول كان قد توسع ودخلت فيه أمم عديدة وشعوب كثيرة ودخلت معها ثقافات مختلفة وخاصة الروى الفلسفيّة لفلاسفة اليونان وغيرهم من الشعوب الأخرى الهنديّة والفارسيّة، ولم يعد المنهج النصي التقليدي النقلي يفي حاجات المسلمين العقليّة في جدالهم. لذلك بدأ التوجه نحو المنهج الطبيعي العقلاني راح يفرض نفسه سراً وعلنناً، كونه المنهج الفكري الذي أخذ يكشف التناقضات والصراعات الدائرة بين المكونات الاجتماعيّة العرقيّة والدينيّة في الخلافة الإسلاميّة.).(6).
فرق المعتزلة أصولهم وعقائدهم:
عادةً ما تبدأ الفرق في عددها وأفكارها صغيرة، ثم ما تلبث أن تتشعب وتتفرق، فتصبح الفرقة فرقاً والشيعة شيعاً، وهكذا كان الحال مع المعتزلة فقد بدأت فرقة واحدة ذات مسائل محدودة أشرنا إليها أعلاه، ثم ما لبثت أن زادت فرقها، وتكاثرت أقوالها وتشعبت، حتى غدت فرقاً وأحزاباً متعددةً، ونحاول في هذا المبحث أن نذكر بعضاً من تلك الفرق، ونقدم موجزاً تعريفيّاً بها وبمؤسسها، مع ذكر بعض أقوالها التي شذّت بها عن أصحابها المعتزلة، فمن فرق المعتزلة:
1- الواصليّة: وهم أصحاب أبى حذيفة واصل بن عطاء الغزال، كان تلميذا للحسن البصري.2- الهذيليّة: وهم أصحاب أبي الهذيل حمدان بن الهذيل العلاّف شيخ المعتزلة ومقدمهم.3- النظاميّة: أتباع إبراهيم بن يسار بن هانئ النظّام كان قد خلط كلام الفلاسفة بكلام المعتزلة. 4- الخابطيّة والحدثيّة: أصحاب أحمد بن خابط وكذلك الحدثيّة أصحاب الفضل الحدثي، كانا من أصحاب النَظَامْ وطالعا كتب الفلاسفة.5- البشريّة: أصحاب بشر بن المعتمر كان من علماء المعتزلة. 6- المرداريّة: أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى الملقب بالمردار، ويسمى راهب المعتزلة.7- الثماميّة: أصحاب ثمامة بن أشرس النميري كان جامعاً بين سخافة الدين وخلاعة النفس. 8- الهشاميّة: أصحاب هشام بن عمرو الفوطي كان مبالغا في نفي القدر، وكان يمتنع من إطلاق إضافات أفعال إلى الله.(7).
عقائد وأفكار المعتزلة:
بدأت المعتزلة بفكرة أو بعقيدة واحدة، ثم تطور خلافها فيما بعد، ولم يقف عند حدود تلك المسألة (مرتكب الكبيرة)، بل تجاوزها ليشكل منظومةً من العقائد والأفكار، والتي في مقدمتها الأصول الخمسة الشهيرة التي لا يعد معتزليّا من لم يقل بها، وسوف نعرض لتلك الأصول وبعض عقائدهم الأخرى، ونبتدئ بذكر الأصول الخمسة:
1- التوحيد: ويعنون به إثبات وحدانيّة الله ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله، فهم لا يصفون الله بأية صفة، انطلاقاً من النص المقدس (ليس كمثله شيء)، فيقولون عن الله: لا جوهر ولا عرض ولا طويل ولا عريض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة .. إلخ، أما الصفات الثبوتيّة كالعلم والقدرة والسمع والبصر فينفونها عن الله تحت حجة أن في إثباتها إثبات لقدمها، وإثبات قدمها إثبات لقديم غير الله، قالوا: (ولو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لشاركته في الألوهيّة، فكان التوحيد عندهم مقتضياً نفي الصفات).
2- العدل: ويعنون به قياس أحكام الله على ما يقتضيه العقل والحكمة، وبناء على ذلك نفوا أموراً وأوجبوا أخرى، فنفوا أن يكون الله خالقا لأفعال عباده، وقالوا: إن العباد هم الخالقون لأفعال أنفسهم إن خيراً وإن شراً، قال أبو محمد ابن حزم: " قالت المعتزلة: "إن جميع أفعال العباد من حركاتهم وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل. وأوجبوا على الخالق سبحانه فعل الأصلح لعباده"، وقال الشهرستاني:" اتفقوا - أي المعتزلة - على أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح والألطف ففي وجوبه عندهم خلاف وسموا هذا النمط عدلا "، وقالوا أيضا بأن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فما حسنه العقل كان حسناً، وما قبحه كان قبيحاً، وأوجبوا الثواب على فعل ما استحسنه العقل، والعقاب على فعل ما استقبحه.
3- المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل يوضح حكم الفاسق في الدنيا عند المعتزلة، وهي المسألة التي اختلف فيها واصل بن عطاء مع الحسن البصري، إذ يعتقد المعتزلة أن الفاسق في الدنيا لا يسمى مؤمناً بوجه من الوجوه، ولا يسمى كافراً بل هو في منزلة بين هاتين المنزلتين، فإن تاب رجع إلى إيمانه، وإن مات مصراَ على فسقه كان من المخلدين في عذاب جهنم.
4- الوعد والوعيد: والمقصود به إنفاذ الوعيد في الآخرة على أصحاب الكبائر، وأن الله لا يقبل فيهم شفاعة، ولا يخرج أحداّ منهم من النار، فهم كفار خارجون عن الملّة مخلدون في نار جهنم، قال الشهرستاني:" واتفقوا - أي المعتزلة - على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض .. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعداً ووعيداً "
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذا الأصل يوضح موقف المعتزلة من أصحاب الكبائر سواء أكانوا حكاماً أم محكومين، قال الإمام الأشعري في المقالات:" وأجمعت المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان واليد والسيف كيف قدروا على ذلك، فهم يرون قتال أئمة الجور لمجرد فسقهم، ووجوب الخروج عليهم عند القدرة على ذلك وغلبة الظن بحصول الغلبة وإزالة المنكر.".
هذه هي أصول المعتزلة الخمسة التي اتفقوا عليها وعرفهم بها الفقهاء وأهل علم الكلام، وبها تميزوا عن الفرق الإسلاميّة الأخرى. (8).
وهناك عقائد أخرى للمعتزلة منها ما هو محل اتفاق بينهم، ومنها ما اختلفوا فيه، فمن تلك العقائد:
1- نفيهم رؤية الله عز وجل يوم القيامة: حيث أجمعت المعتزلة على أن الله لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة، قالوا لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله وهو منزه عن الجهة والمكان، وتأولوا قوله تعالى:{ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } أي منتظرة .
2- قولهم بأن القرآن مخلوق: وقالوا إن الله كلم موسى بكلام أحدثه في الشجرة.
3- نفيهم علو الله سبحانه، وتأولوا الاستواء في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} بالاستيلاء .
4- نفيهم شفاعة النبي الكبائر لم يرتكبها من أمته. وقال الإمام الأشعري في المقالات: " واختلفوا في شفاعة رسول الله هل هي لأهل الكبائر فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله "
5- نفيهم كرامات الأولياء، "قالوا لو ثبتت كرامات الأولياء لشبّه الولي بالنبي:. (9).
هل يجوز الخروج على الحاكم؟.
يعتبر المبدأ الأساس في ظهور فكر المعتزلة وتيارهم وهو الموقف من (مرتكب الكبيرة). هو المبدأ الأهم في موقفهم من طبيعة السلطة الأمويّة الحاكمة آنذاك. فقضية مُرتكِب الكبيرة ليست سوى منطلق لنشر منهج التفكير العقلاني في القضايا الدينيّة وما يترتّب على ذلك من نتائج اجتماعيّة وسياسيّة. وذلك أن التعارُض الناشئ بين أصحاب المنهج العقلي وبين المحافظين القائلين بتغليب النقل على العقل، ينطوي على أبعادٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ محورها الموقف من الحاكم الجائر، هل يجب القيام عليه أو السكوت عنه والخضوع له.
(وكان رأي واصل ومَن جاء بعده من رؤساء المُعتزِلة هو القيام على الحاكم الظالم والمقصود يومها الحاكم الأموي. وأما رأي الحسن البصري فهو السّمع والطاعة للحاكم مهما بلغ من الجور أو الخروج على الشريعة درأً للفتنة. مع العِلم أن الحسن البصري كان يرى أن حُكم بني أميّة فيه ظلم وجور، لكنهم أقوياء وليس بإمكان المعارضة أن تقف في وجههم ما يترتّب عليه سفك الدماء.(10).
انحسار التيار الفكري العقلاني للمعتزلة؟
أيّدّ المُعتزِلة بني العباس لمّا آلت الخلافة إليهم بعد بني أميّة. وعلا شأنهم في عهد "المأمون" حين أخذت مسألة خلق القرآن طابعاً سياسيّاً، فقد أوعز شيوخ المُعتزِلة إلى الخليفةِ "المأمون" بأن يجعلَ القول بخلق القرآن عقيدةً رسميّةَ للدولة، وأن يتتبّع كل مُعارِض لها بالقتل والحبس والجلْد وقطع الأرزاق. وقد اتّبع "المأمون" هذا السبيل في ما عُرِف بمحنة خلق القرآن. وكان أبرز مَن تعرّض للاضطهاد والحبس لرفضه هذه المقولة هو الإمام "أحمد بن حنبل". واستمرت هذه المحنة في أيام المعتصم والواثق، ثم انقلب عليهم الخليفة "المتوكّل" كما هو معروف تاريخيّاً، ووضعَ حداً لنفوذهم عند استلامه الخلافة 232هـ.
ومنذ ذلك الحين أخذ تيارهم الفكري ينحسر حتى كاد يتلاشى، إلى أن عاد للظهور على نحوٍ متواضعٍ في تاريخنا الحديث والعاصرِ، ولكن بثوب جديد تأثر كثيراً بمسألة الحداثة وأفكار عصر التنوير ومناهج البحث العلمي.
ملاك القول: رغم أن المعتزلة اشتغلوا على العقل وقاسوا عليه صحيح الدين، مثلما قاسوا عليه التحسين والتقبيح لأفعال المسلمين، وحملوهم مسؤوليّة أفعالهم، وانتقدوا الحاكم الفاسد ودعوا إلى ضرورة الخروج عليه، إلا أنهم من حيث المبدأ لم يستطيعوا الخروج من عباءة الفكر اللاهوتي الغيبي في نقاشهم لقضايا لا يعلم بها إلا الله، وهم لا يختلفون عن الجبريّة في نقاشهم لها وردهم على معتقداتهم، كالحكم على مرتكب الكبيرة، وخلق القرآن، والصفات وغيرها من قضايا لا يمكن للبشر البت بها كونها خارج قدرتهم أو درايتهم، وعل هذا الأساس ظل العقل عند المعتزلة رهين الفكر اللاهوتي، وحبيس الاستنتاجات المنطقيّة الوصفيّة الصوريّة والحدْسيّة، وبعيداً إلى حد بعيد عن التجربة والحسيّة والمنهجيّة، والجرأة في النقد، لذلك ظل عقلاً بائساً وشقيّاً وخائفاً ومرتجفاً من قول الحقيقة. لا شك أن الظروف التي وجد فيها المعتزلة تحت مظلة سيف الخلافة الإسلاميّة التي كانت تقمع كل رأي يعمل على انتقاد سياسة الحاكم، أو مخالفة المبدأ العقيدي الذي يؤمن به هذا الحاكم أو ذاك، وأن الحكم على المختلف كانت قاسية ومخيفة، والمعتزلة ممن انتقدوا الحاكم وخالفوا موقفه في فهم العقيدة وخاصة زمن الدولة الأمويّة، وبعد استلام المتوكل الخلافة ومن جاء بعده في العصر العباسي، لذلك حوربوا وحرقت كتبهم وسجنوا.
مع تاريخنا الحديث والمعاصر، ظهر العديد من الكتاب والمفكرين العرب والإسلاميين الذين تبنوا العلمانيّة في اشتغالهم على قضايا النهضة والفكر النهضوي، وكان للخطاب الإسلامي مجالاً حيويّاً واسعاً في الساحة الثقافيّة، حيث أصبح له حيزاً واسعاً في دراساتهم، من الطهطاوي وخير الدين التونسي إلى اليوم، إلا أن الملفت للنظر، أن الكثير ممن اشتغل على الفكر العقلاني التنويري الذي آمن به المعتزلة، ظل محكوماً أيضاً بظروف سياسيّة وفكريّة لم تبتعد كثيراً عن ظروف فلاسفة العصور الوسطى، ومفكري المعتزلة رغم ظهور الدولة الحديثة، فالكثير منهم عمل على أسلمة أفكار عصر التنوير الأوربي، كمفهوم الحريّة والعدالة والاشتراكيّة والمساوة وغيرها من أفكار اشتغل عليها الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، والكواكبي، ومنهم من حاول إعادة قراءة التراث العربي والإسلامي والنص المقدس بمناهج التفكير العلمي دون المساس بقدسيّة النص، بقدر ما عملوا على إعادة تأويله وتفسيره وفقاً لمناهج العصر التي طرحها الغرب كطه حسين وعلي عبد الرازق، وحامد أبو زيد، والجابري، والطيب تيزيني، وجلال صادق العظم وغيرهم الكثير، وبعضهم حاول الولوج أعمق في انتقاد التراث، كالسيد القمني وفرج فوده وغيرهما.
على العموم أقول: إن معظم من اشتغل على تبني العلمانيّة والحداثة، في انتقاد التراث من مفكرينا المحدثين والمعاصرين لم يستطيعوا أن يكونوا عقلانيين نقديين أيضاً في نقدهم للتراث الفكري الإسلامي ومن ضمنه النص المقدس، لأن سيف السلطات الحاكمة ظل مسلطاً على رقابهم وأبواب السجون مفتوحة بشكل دائم أمامهم أيضاً، كونهم - أي السلطات الحاكمة - لا تريد إلا من يتاجر بالدين ويوظفه لمصلحتها، ويعمل على تجهيل الشعب وإبعاده عن فهم قضاياه المصيريّة ومعرفة ظلمته ومستبديه. لذلك كل من اشتغل على العقل النقدي هنا، أقصي من الحياة الثقافيّة أو التعليميّة، أو سجن وأبعد عن وطنه أيضاً. وإن عقلانيته ظلت عند الكثير منهم عقلانيّة خائفة ومرتجفة وبائسة ومرتجلة وتوفيقيّة/ تلفيقيّة، وغالباً ما تحتمي بالنص المقدس وأقول فقهاء ومتكلمي العصور الوسطى القريبة في منطقها إلى العقلانيّة لتبرير أطروحاتهم وحماية أنفسهم من السلطات الحاكمة المستبدة ومشايخ السلطان.
***
د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سورية.
................................
1- (موقع إسلام ويب - العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب).
2- (موقع اليوم السابع - محمد عبد الرحمن - من هم "المعتزلة" ومتى ظهروا وهل كفرهم أهل السنة والجماعة؟ - ).
3- الويكيبيديا . بتصرف.
4- (موقع إسلام ويب - العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب).
5- (موقع الألوكة الشرعية التعريف بالمعتزلة ).
6- (موقع – الوكيبيديا.).
7- (للاستزادة في معرفة فرق المعتزلة وعقائدهم يراجع موقع - موقع إسلام ويب -(العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب).
8- ).(راج كتاب الامام أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرساتاني – الملل والنحل دار الكتب العلمية – فرقة المعتزلة.). (ويرجع أيضاً كتاب حسين مروة – النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية – دار الفارابي بيروت - 1980 - الجزء الثاني – ص 631وما بعد.).
9- (موقع إسلام ويب - العقيدة الإسلامية أديان وفرق ومذاهب - فرق المعتزلة أصولهم وعقائدهم). و(يراجع أيضا موقع الويكيبيديا الدراسة الرائعة حول عقائد المعتزلة.).
10- (موقع الميادين – المعتزلة - صالح الأشمر).