أقلام فكرية

محمد فراح: إنسان الإِنْفِعَالاَتْ

"الإنسان كائن إنفعالات"

 يعيش الإنسان في هذا العالم وهو عُرْضَةٌ للانفعالات، لهذا يمكن عَدُّ الانفعالات جزءاً لا يتجزأ من الإنسان، ويمكن تقسيمه [أي الإنسان] إلى قسمين، قسم خاص بالعقل وقسم خاص بالانفعالات.

لهذا نقول أن الإنسان يعي إنفعالاته التي تظل في حركة ومُقَاوَمَةٍ وجريانٍ وسيولة لا يمكن إشباعها البتة، إنه يشعر في أعماقه بجاذبية الانفعالات وما تخلق لديه من سعادة أو قلق وتوتر وهذيان.

الانفعالات بهذا المعنى مجرد رغبات وشهوات ونزوات وأفعال وأفكار ولذات نعي بها، لكنها تخرج عن سيطرتنا وذواتنا وتظل مع ذلك جزء منا، كما تشكل هويتنا أو حقيقتنا الثابتة، رغم كل حالات الاضطرابات التي يعيشها الإنسان بسببها، لدرجة أنها تكبح جماح فكره، الانفعالات إقصاء لكل تفكير ولكل عقل.

لا وجود في حقيقة الأمر لأي فرق بين الرغبة أو الشهوة أو اللذة أو مختلف النزوات والمثيرات والانفعالات خاصة لدى الإنسان، وما يميز الانفعالات أنها متغيرة بإستمرار لأنها تكون موجهة نحو القيام بفعل لحظي عرضي ما.

ورغم كل ذلك تظل الانفعالات على صلة وثيقة بالحياة الإنسانية ومحدداتها، كما تتأطر ضمن الوعي بالذات الذي بدوره له علاقة وطيدة بالإدراك الحسي والشعور، أي ما نشعر به، وما نحس به كأشخاص.

إن لفظة الانفعالات إذا ما أخذت على ما في ظاهرها، نعتقد أنها عبارة عن ردود فعل حسية شعورية نابعة من داخل ذات الفرد، في حين أن هناك علاقات وثيقة بين كل من انفعالات الذات وتجليات الغير.

وهذه العلاقة المزدوجة بين الذات والآخر والانفعالات والنزوات والميولات والدوافع هي التي تتحكم في هذه العلاقات دون أن نكون على علم بهذه الصلة الجدلية.

توجد في دواخل كل واحد منا انفعالات وأهواء تنفلت من كل عقل وتعقيل، إنها بمثابة توترات يشعر بها المرء أو عقد نفسية ووجدانية وذهنية من صميم اللاشعور ناتجة عن الشعور بالافتقار والفقدان واللا معنى أو غياب الغاية ... هذا هو ما نسميه الانفعالات.

سأقف قليلا عند الشعور بالذنب أو الشعور المستمر بالحرمان والنقص والضعف والبساطة وافتقاد الكمال، أو حتى السعي الوهمي وراء الكمال وتحقيق اللذات والسعادة، كل هذه وتلك، تعبيرات قوية عن الانفعالات، كما قد تكون هذه الأخيرة ناتجة عن الشعور بالتملك أو إرادة العالم إليَّ ورَدُّه إلى الذات وفي بعض الأحيان نشارك انفعالاتنا مع الغير.

تبدو الانفعالات إذن كما لو أنها غير مرتبطة بالسعادة، أي وكما لو أننا نضيع وقتنا في السعي وراء السعادة وطلب تحقيقها بواسطة الانفعالات؛ في حين أن الانفعالات ناتجة عن الشعور بالذنب، وهو الذنب الذي نعمل على إخفائه.

كل انفعال إذن هو إنتاج وإعادة إنتاج للوهم عن طريق ملكة التخيل التي يمتلكها كل إنسان، كما أن هذه التخيلات تجد الواقع كمرآة تنعكس عليه، ومعنى هذا أن الانفعالات أوهام توجد في مجال الواقع وتثبت فيه، فالانفعالات والاستيهامات لا تشكلان سوى شيئاً واحداً.

يؤدي كل حرمان من تلبية هذه الانفعالات في الحقيقة إلى سلب واستلاب وتشييء واغتراب أو فقدان للانفعال الذي ينعكس بشكل سلبي على كل فرد، لهذا تشكل هذه الانفعالات كيمياء الواقع الإجتماعي.

إن الفرد مخترق من طرف الانفعالات بشكل مباشر، ولهذا تشكل هذه الانفعالات استيهامات التي بدورها عبارة عن سيناريوهات ومتخيلات تشرط الأفراد، وتنبع من أعماقهم ودواخلهم، ثم تنعكس على واقعهم الإجتماعي، برغم كونها تتجلى بشكل فعلي في الأحلام وفق نظريات التحليل النفسي، لكننا هنا، نؤكد على كون هذه الاستيهامات تجد مختلف أبعادها وتجلياتها وتمظهراتها في الواقع، لهذا تركن إليه أو تستند إليه، أو نقول باختصار أن الواقع الإجتماعي هو الأساس الأول لهذه الاستيهامات وبالتالي الانفعالات.

"المنبع الديني للانفعالات"

هناك في الحقيقة صعوبة في تحديد منبع أو مصدر الانفعالات، رغم قولنا أعلاه أن أساسها الأول إجتماعي إنطلاقا من تحديدنا للاستيهامات، إلا أن هذه الأخيرة بدورها قد يكون لها أساس سيكولوجي في الحقيقة، كما لا يمكن إنكار الأساس الأنثروبولوجي الثقافي للانفعالات، بل لا يمكننا أن ننفي أيضاً أي أساس محتمل أو مفترض لها، مثلاً: التاريخي، أو الأخلاقي-قيمي، أو حتى القانوني-السياسي، ... إلى آخره، أو حتى الديني، قد يكون للانفعالات أساس ديني، لماذا؟ لأن الدين وبكل بساطة كابح قوي لكل الانفعالات!

يشكل الدين إذن، أو كل معتقد ديني إيماني الشكل الأكثر قمعاً وقتلاً للإنتاج الانفعالي، لهذا يتم قمعها بواسطة الانفعال-المضاد نفسه، وفي الحقيقة فإن الإنتاج الانفعالي هو وحده الإنتاج المقموع من طرف الدين، ويتم تحريره وفق شروط محددة، مثل شرط عقد-ميثاق الزواج لممارسة الجنس بكل حرية مع المرأة التي تصبح زوجة.

لا توجد أية حدود للانفعالات، كما لا يمكن تحقيق الإشباع التام أو حالة الإرضاء المطلقة، تبدو الانفعالات إذن غير قابلة للكبح والمقاومة إلا بواسطة الدين.

كما أن الانفعالات مدفوعة من طرف مشاريع مخيبة للظن وتتجلى بشكل ظاهر في الثقافة والمجتمع والقانون والسياسة والجنس والرياضة والدين والفن والحياة ... إلخ، إن الانفعالات لا يمكنها من الآن فصاعداً إلا أن تتجاوز ذاتها، من خلال التقليص منها أو الحد عنها.

إن إخضاع الانفعالات لسلطة الدين أو لشبكة القوانين لكي تصبح مقموعة، لا يعبر إلا على نزعة مكبوتة ساذجة، لأن الانفعالات وبكل بساطة لا تقاس على الإيمان، بل العكس إن درجات الإيمان هو الذي تشتق منه الانفعالات.

"إستحالة تحقيق الانفعالات"

وأخيراً الانفعالات غير قابلة للكبح والمقاومة، لأنها تنبني في الأساس على خيبة الأمل، فإذا كنت تطمح لتحقيق كل الانفعالات دائماً، فأنت مجنون، لأنك تريد أن تحقق أهواء ورغبات وغرائز ونزوات وأفعال وتخيلات يصعب تحقيقها، لأن الانفعالات محدودة بحدود ما هو موجود، وهناك انفعالات وأهواء تنفلت من كل وجود!!

كل إنفعالات هي في الحقيقة متضادات أو توليفة من التناقضات (حاجة، انفعال، رغبة، إرادة، عزيمة، حرمان، تعاسة، معاناة، فعل، اختيارات، ميولات، دوافع جنسية، قمع، أهواء، غرائز، نزوات، مقاومة، تخيلات، مكبوتات، ...إلخ.) هذه المتناقضات تظل دائماً بلا إشباع، أو في كل محاولة إشباع تتعرض للقمع، ولا يحدث لها الإرضاء التام، وتقترن دائماً بخيبات الأمل المتواصلة التي تخلقها.

كل الانفعالات إذن، "هي في الواقع شيء واحد: عدم ارتياح على مستوى الإرادة المتميزة. عدم تحقيق السكينة، فالسعادة الحقيقية تصبح مستحيلة."[1].

تَنْتُجُ الانفعالات إذن، عن التوترات التي يشعر بها المرء في حالة الافتقار إلى الكمال، أو الشعور بحالة إنقباض تام أو ألم خفيف، وفي بعض الأحيان قد يكون الألم عميقاً يبقى لصيقاً في ذهن المرء إلى المستقبل.

***

محمد فراح – استاذ فلسفة

.........................

مصدر الإحالة:

[1]- Arthur Schopenhauer, Le Monde comme volonté et représentation, traduit de l'allemand vers le français : Bordeaux, M.J.F., troisième édition 3, année de publication : 1966, p. 101. (Adapté).

في المثقف اليوم