أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: التغيير والاستمرارية في أفكار ما قبل سقراط
أسئلة تُثارعندما يُنظر الى التغيير كسلسلة من التغييرات البسيطة في ذات الشيء وليس كإستبدال للشيء بآخر. ما هو هذا "ذات" الشيء الذي يستمر في البقاء ومع ذلك يبقى مختلفا عما كان عليه؟ ما هي "التغييرات" التي تحدث بدون تغيير هوية هذا الشيء"ذاته"؟
العديد من فلاسفة ما قبل سقراط في القرنين السادس والخامس قبل الميلاد كانوا يهتمون خصيصا بهذه الأسئلة. هم أرادوا توضيح ما الذي يعطي الكون صفة الدوام امام كل مظاهره المتغيرة، سواء كانت هذه المظاهر منتظمة مثل الفصول الموسمية او لا يمكن التنبؤ بها كما في أول قطرة مطر في منطقة معينة.
هم لديهم الكثير من المشتركات في وجهات نظرهم. كانوا متأكدين ان الكون هو أكثر من مجرد وعاء لأحداث عشوائية لأشياء عابرة . كانوا مقتنعين بان هناك توضيح لكل شيء، يتخطى الى ما وراء الاحداث اليومية. هم متأكدون ايضا ان ذهن الانسان قد يصل الى ذلك التوضيح.
في نظرياتهم بشأن طبيعة الكون الحي يلعب الانسان دورا غير هام. ايضا لم تظهر كثيرا القوى الخارقة للطبيعة سواء بعبارات مجازية او متعالية في تحليلاتهم للظواهر، ومتى ما أشاروا الى أي من هذه فكان من المسلم به انها جزء لا يتجزا من نظام الأشياء في الكون، لم تتوقف في بداية او نهاية. هم لم يطرحوا تمييزا بين المادي والروحي عند الإشارة للطريقة التي يعمل بها العالم. انه بالنسبة لهم طبيعة نابضة بالحياة ومستديمة. ولكن الشيء المشترك لدى هؤلاء المفكرين هو ان وجهات نظرهم كانت مختلفة فيما يتعلق بالسؤال عن الطبيعة الدائمة لهذا الكون المتحرك.
هذه المقالة (1) هي محاولة لتفسير وجهات نظرهم: لتبيّن الكيفية التي كانت تحصل بها الارتباطات بينهم وكيف حفز كل واحد منهم الآخر، ذلك بسبب انه رغم كون الفلسفة اثناء هذين القرنين كانت متناثرة عبر شرق المتوسط في المستعمرات اليونانية المطلة على البحر، لكن السفر بالسفن كان سهلا وكان كل واحد منهم على اتصال بالآخر.
ان أقدم المفكرين الذين عُرفوا في هذا العصر قبلوا دون نقاش رؤية المنطق السليم the common sense للكون وهي انه : هناك أشياء تأتي الى الوجود ثم تختفي بمرور الزمن. لتوضيح هذا هم افترضوا ان الكون مؤلف بالكامل من أشياء اساسية "stuff" تحتوي على طاقة التوليد الخاصة بها. من هذا، هم اعتقدوا بإمكانية انفصال الاشياء التي في طور النمو في العالم ثم عودتها مرة اخرى الى كتلتها في الوقت المناسب. هذا التوليد والرجوع يحدث بتكرار مستمر. لذا فان الخاصية الدائمة في كل الاشياء هي المركب composition الذي هو هذه "الاشياء" المولدة ذاتيا. اما التغيرات التي فيه فهي الحدوث المتكرر للمواد المنفصلة التي تأتي الى الوجود ومن ثم تعود للكل الممتزج لكي يمكن إحداث مزيد من "التغييرات" الاخرى. لكن، هناك حد لمدى تلك "التغيرات". يجب ان لا يكون هناك الكثير منها ولا القليل. يجب ان تكون كافية لضمان الطبيعة الحية للكون ولكن ليست كبيرة جدا لدرجة تفقد فيها التوازن. لكي يكون الكون كما هو لا يمكن ان يكون فارغا من هذا التغيير المؤقت، ولا يمكن ان يكون مركبا فقط من أشياء منفصلة.
وفق هذا الخط من التفكير،التفت مفكرون آخرون الى هذه الحاجة للتوازن في الكون الحي. هذا التوازن هو الذي يعطي الدائمية ويحافظ على التناغم في النظام كأشياء كلية whole stuff وليس الأشياء المكونة له. التوازن الصحيح للكون جرى حفظه كما يعتقدون عبر كل شيء موجود في "نسبة صحيحة" سواء في ذاتها او في العلاقة بموقعها في كل الكون. حسب رأيهم ان الحجم والمكون الحقيقي لكل الاشياء لايهم طالما بقيت الترتيبات لكل الأجزاء بشكل معين. هذا الشكل من الترتيب ضمن الكون الكلي وضمن أجزائه يجب ان يستمر اذا اُريد إظهار الدائمية. عدد ومركبات "المواد" من كل الاشياء قد تتغير عندما تأتي وتختفي من الحياة اليومية لكن دائما وفق الحاجة للمحافظة على ترتيبها الصحيح ضمن الكون وكجزء منه.
لقد برزت انتقادات لوجهات النظر تلك. ذلك لأن الاعتماد على رؤية المنطق السليم لعالم من أشياء منفصلة، فشل في فهم الطريقة الصحيحة للنظر الى الاشياء. العالم الحي هو عالم متطور والافتراضات حول المكونات الدائمة فيه تفشل في تأكيد هذا. لأنه حسب هذه الرؤية، دائمية العالم تكمن في عملية الانكشاف المستمر للتغيير ذاته. هذا يوحّد ما يبدو من أضداد، ويوفّق بين التوليد والاضمحلال، ويكيّف الحركة المستمرة لكل الخلق للحاجة الى عالم متوازن ومتناغم. بدون تغيير متحرك باستمرار ستكون هناك دائما فقط مجموعة من أشياء منفصلة وكسولة.
هناك رؤية راديكالية اخرى مضادة جرى الايمان بها،مع انها تتفق في إنكار رؤية المنطق السليم للكون في كونه مركب من اشياء تأتي الى الوجود ثم تختفي . ربط فكرة العالم المتغير بالتجربة يعني ان التجربة تعطينا معلومات زائفة. في هذه الفلسفة، التغيير هو فقط صورة متخيلة تنتجها أحاسيس الانسان المحدودة والجزئية. التجربة تُستخدم فقط كوسيلة لممارسة الحياة التي نعيشها يوميا. انها ليست مناسبة عندما يستعمل الانسان عقله بشكل صحيح ويدرك ان أحاسيسه يمكن ان تعطيه فقط معلومات معينة في لحظة معينة. لكن مثل هذه المعلومات هي مضللة. انها تجعل العالم متصورا كأنه فيه تأتي الاشياء وتعود الى اللاشيء. لكن "العدم" لا يمكن فهمه. وان أجزاء صغيرة جدا من تجربة الدليل لدى الانسان تُخفي حقيقة ان فهم أي شيء يعتمد على كامل سياق التأثير والمحيط المجاور. الانسان يُخدع عندما يعتقد انه متأكد من هذا السياق. هو يخطئ في الاعتماد على تقييمه المتسرع لما يشكّل الاحداث والاشياء، لأن لحظة التغيير لا يمكن القبض عليها بدقة، حيث ان وقت الميلاد والموت، بداية ونهاية الحدود لا يمكن تحديدها بدون شكوك. كل هذا يشير الى ان ذهن الانسان وليس أحاسيسه يمكن ان يخبره بكل القصة: ان الحقيقة الوحيدة للكون هي تلك الديمومة وراء الخصوصيات والتغيرات الظاهرة فيه . هذه الحقيقة هي كلّ مستمر دون توقف وموجود بشكل دائم. انها لا يمكن التوفيق بينها وبين عالم الحواس العابر الذي ليس له معنى بالنسبة لاولئك الذين يفكرون بشكل صحيح، ويذهبون وراء المباشر.
بعد هذا الإنكار المدمر لأي معنى للحياة اليومية جرت محاولة لإنقاذ الارتباط بين القبول الذهني للكون الدائم وتجربة الوجود المتغير. هنا، الواقع، كل الكون يُنظر اليه ليس كأنه غير مُدرك بعبارات حسية وانما فقط لا يمكن تمييزه. انه مؤلف ليس من كلّ منفرد وموحّد وانما من عدد لا متناهي من هذه الكليات، جسيمات صغيرة توجد بشكل دائم بحركة مستمرة،لا تتجزأ، صغيرة جدا بحيث يصعب فهمها من جانب الانسان. هذه يمكن ان تأتي مجتمعة في فترات منفصلة لتشكل مجموعات اخرى.
ان لحظة الإضافة او الطرح من أي مجموعة تجعل عملية التطور او الاضمحلال غير مُشاهدة، بينما التأثير الكلي يمكن ان يكون ظاهرا للحواس. التغيير يحدث على هذا الطراز وان فكرة الدوام – الجسيمات الأولية – ترتبط به. في هذه الفلسفة لا وجود لنموذج او قوة متحركة ظاهرة لتحكم كل هذه الفعالية. هناك فقط قبول بأن هذا يمكن ان يحدث.
سقراط، ذو التأثير الكبيرعلى كل الفكر اليوناني، واجه موته بالإعدام سنة 399 قبل الميلاد. في السنوات التي سبقت، سأل العديد من الفلاسفة الذين درسوا مفكري ما قبل سقراط كيف يمكن لهذه التفسيرات المختلفة والمتناقضة أحيانا ان تُعطى حول الكون. البعض اصبح مشككا – بمعنى يمكن ان لا تكون هناك معرفة تتجاوز حقيقة انهم كانوا متأكدين من لا شيء على وجه الخصوص.
لكن هناك التقاء مع مفكري ما قبل سقراط. هم كانوا جميعا متأكدين بان هناك دوام في الكون. جميعهم أشاروا الى ان تجارب الناس قادتهم لربط التغيير بحركة الاشياء الحية، وبإنكشاف الأحداث. تفسيراتهم تختلف لأنهم بشر يتكلمون من وجهة نظر نسبية حول حقيقة انهم قبلوا التحقق من كل ما موجود وما يمكن ان يكون. انه جزء من ظروف الانسان ان يكون جزءا من هذا المجمل الذي لا يمكن وصفه بعبارات مجردة.
سقراط ذاته، في حوارات افلاطون مع انه أظهر تأثير أسلافه، لكنه طرح رؤية اخرى. هو أكّد ان الانسان، اذا اراد ان يعيش حياة مقنعة، سيحتاج لفهم وظيفته في مشروع الأشياء. وهذا الفهم يأتي من تقييم وظائف كل شيء آخر. من حيث المبدأ، هذا يجب ان يقود لإدراك الهدف في كل شيء ككل وجميع الوظائف المرتبطة مع بعضها. وهنا ستكون الدائمية هدفا مترابط داخليا. لكن الانسان مقيّد بتجربته وقدراته الذهنية. هو لا يمكنه ابدا ان يكون متأكدا من أية مُثل يجب الكفاح لأجلها، وما هي، اذا كان حكيما، ومطّلعا باستمرار على جهله. مع ذلك هو يحاول تشكيل فرضيات صالحة. الفحص الدائم للأفعال التي ينخرط بها، والإصلاحات المحتملة التي تشكل التغيير – هو الذي يجعل منها عملية عقلية ذات هدف دائم.
***
حاتم حميد محسن
......................
الهوامش
(1) some pre-Socratic ideas of change and permanence, philosophy Now,1991