أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: فلسفة العمل من ارسطو وحتى ما بعد الحداثة
الى منْ يحدقون في جداول البيانات ويحتسون القهوة وهم في احلام يقظة بعطلتهم القادمة، او منْ يتأملون دائما بأسئلة وجودية في الايميلات المتبادلة واجتماعات الفيديو. اذا كان عمل احدنا يبدو ضروريا لكنه غير محفز، وهو فقط كوسيلة لتمويل الحياة خارج مكان العمل، ذلك يدعونا لنغوص في الاسس الفلسفية للعمل. وربما نجد طرقا لجعل ما هو تافه يمكن تحمّله وربما يصبح ذو معنى.
ارسطو وكرامة العمل
يُعتبر ارسطو من أبرز الفلاسفة في الفكر الغربي فكانت له رؤى متميزة حول العمل. هو ميز بوضوح بين اكتساب الثروة chrematistics وادارة المنزل (البلد) oikonomia. هو يرى ان العمل المنجز لأجل المعيشة، هو ليس فاضلا بطبيعته، انه ببساطة وسيلة لغاية. لكن العمل الذي يساهم في رفاهية الجماعة، يعتبر فاضلا لأنه يخدم اهدافا عليا. زعم ارسطو ان العمل بهدف تراكم الثروة هو ضرورة عملية للحياة لكنه ليس هدفا نبيلا. انه ضروري لإشباع حاجاتنا الاساسية كالطعام والمسكن والملابس. لكن عندما يصبح تراكم الثروة هدفا رئيسيا فانه سيقود لتركيز غير صحي على المادية وربما يحطم القيمة المجتمعية ويسبب عدم توازن في الحياة.
من جهة اخرى، اعتبر ارسطو ان ادارة المنزل هو شكل العمل الاكثر فضيلة. هذا العمل كان يتعلق بالرفاهية وبالكفاية الذاتية لرب المنزل وللجماعة. انه يستلزم ادارة كفوءة للموارد واهتمام بحاجات الناس ومساهمة بالصحة الجمعية والازدهار. ادارة المنزل هي بالأصل غير انانية وموجهة نحو الجماعة وتشجع التعاون والتقاسم.
اعتقد ارسطو ان العمل المتجاوز لإكتساب الثروة يجب ايضا ان يكون حول إشباع قدرة المرء وعيش حياة جيدة. هو يرى ان كل فرد لديه مهارات وفضائل خاصة متميزة يمكن تربيتها من خلال عمله. يمكن للفرد عبر ايجاد عمل يسمح له بالتعبير وتطوير فضائله المساهمة في المجتمع وفي نفس الوقت يحقق سعادة وانجاز شخصي.
لكي نوضح هذا، لنفترض دور مهندس أخصائي في اصلاح الكومبيوتر يعمل وفق سياق العمل المعاصر لعام 2024. اذا كان يتجه لهذا العمل من منظور تجميع الثروة فهو سيرى عمله مجرد طريقة لإستلام نقود. هو يركز على اكمال اكبر قدر ممكن من التصليحات في كل يوم ومضاعفة دخله. ان نوعية عمله وتأثيره على حياة زبائنه هو اعتبار ثانوي. لكن، لو كان نفس الاخصائي في تصليح الكومبيوتر اختار تبنّي مبادئ ادارة المنزل، فان اتجاهه للعمل سيتغير بشكل كبير. هو يفهم بان عمله يلعب دورا هاما في تعزيز الحياة الرقمية للجالية، ومساعدة الناس للبقاء مترابطين ومنتجين في عالم تتزايد فيه الرقمية باستمرار. هو يمضي الوقت ليفهم حاجات زبائنه ويضمن بان تصليحاته فعالة وطويلة الامد، ويقدم نصيحة حول كيفية المحافظة على الاجهزة وحماية البيانات. هو ربما يستعمل مهاراته لتوسيع منافع الجالية مثل تقديم خدمات باسعار مخفضة للمدارس والجمعيات الخيرية او تشغيل ورش عمل حول تعليم الحوسبة. بعمل كهذا، هو يساهم بالرفاهية الكلية للجالية، يساعد الافراد والشركات على تجنب فترات التوقف، وحماية بيانات قيّمة وزيادة كفاءة التكنلوجيا. عمله يعطيه ليس فقط معاشا وانما ايضا معنى الانجاز، ومعرفة بانه يحقق فرقاً.
فلسفة ارسطو تدعونا لإعادة التفكير بهدف ومعنى العمل. انها تشجعنا للنظر الى العمل كوسيلة للمساهمة في المجتمع وانجاز امكاناتنا، بدلا من النظر اليه فقط كمصدر للدخل. هذه المبادئ لها تأثيرات عميقة في عالم اليوم حيث العمل وتراكم الثروة عادة يُنظر اليهما كمعيار رئيسي للنجاح (انظر ارسطو،السياسة).
كارل ماركس والعمل المغترب
في القرن التاسع عشر، غيّر ماركس جذريا الخطاب الفلسفي حول العمل. مفهومه "للاغتراب" اصبح مركزيا في فهم علاقات العمال بعملهم في المجتمعات الصناعية. جادل ماركس بانه في ظل الرأسمالية، يشعر العمال انهم مبعدون عن فعاليتهم الانتاجية وعن نتاج عملهم و عن زملاء العمل، وعن إمكانات تحقيق الذات (ماركس،الاقتصاد والمخطوطات الفلسفية،1844). يرى ماركس ان انجاز الانسان الحقيقي يكمن في العمل غير المغترب حيث العمال يمكنهم التعبير بحرية عن امكاناتهم الابداعية. طبقا للفهم الماركسي، يمكن للنظام الرأسمالي تعميق "الاغتراب" حيث العمال، مثل الأخصائي في تصليح الكومبيوتر،يشعر بالانفصال عن عمله وانتاجه وزملائه وامكانات تحقيق الذات. هم يصبحون عبيدا للاجور. لو ان هذا الاخصائي في تصليح الكومبيوتر يعمل ضمن نموذج النظام الرأسمالي التقليدي، هو ربما يشعر بـ"اغتراب" ماركس بطرق عدة. عمله قد يصبح سلسلة من المهام المكررة تهدف فقط لتعظيم الانتاجية والربح، تفصله عن المظاهر الأكثر ابداعية وفكرية لعمله. هو سيقوم بعمل لكن التحكم بكيفية العمل يقع على مسؤولية اصحاب العمل او حاجات السوق.
مفهوم ماركس للاغتراب يضم مختلف الأبعاد التي تتصل مباشرة بموقف الإخصائي لدينا. اولا، ان ماركس ناقش الاغتراب عن انتاج العمل. في حالة مصلّح الكومبيوتر، فان الكومبيوترات التي يصلحها لا تعود له وانما للزبائن. الربح المشتق من تصليحه للكومبيوتر لا ينفعه وانما ينفع صاحب العمل. وبالرغم من ان الاخصائي يلعب دورا حاسما في توليد الثروة، لكنه يستلم فقط حصة منها، وهو ما يقود الى احساس بالقطيعة عن محصلة عمله.
بالاضافة الى ما تقدم، ماركس ايضا يسلط الضوء على الكيفية التي تؤدي بها الرأسمالية الى اغتراب العامل عن زملائه. مصلّح الكومبيوتر قد يجد نفسه في جو تكون فيه المنافسة هي السائدة، تحرمه من تطوير روابط تعاونية قوية مع زملائه. عمله يصبح محاولة منعزلة تفتقر الى التفاعل الانساني الهادف وبالتالي يزيد احساسه بالعزلة. كذلك، الاخصائي قد يواجه اغتراب عن امكانيته في تحقيق الذات. مواقع عمل الرأسمالي عادة تقيّد فرص الافراد في النمو والابتكار في السعي لزيادة الانتاجية والربح. الاخصائي يُحبط من الابتكار وتعلّم مهارات جديدة او أخذ مهام اكثر تعقيدا ومكافأة. هذه المحددات تمنعه من التطوير الذاتي وتعمق احساسه بالاغتراب. بالنسبة لماركس، الحل للاغتراب يكمن في خلق مجتمع يمتلك فيه العمال السيطرة على عملهم ويستطيعون التعبير عن ابداعيتهم والتعاون مع زملائهم والارتباط بنتاج عملهم. بالنسبة لمصلح الكومبيوتر، هذا يعني اعادة هيكلة بيئة عمله لتشجع الابتكار والتعلم والتعاون بينما ايضا تضمن له المنفعة المباشرة من القيمة التي يخلقها عمله . هذا التحول ينسجم مع رؤية ماركس في العمل اللامغترب حيث يصبح العمل انجاز شخصي وتعبير خلاّق (كارل ماركس،الاقتصاد والمخطوطات الفلسفية،1844).
شوبنهاور والسعي نحو الأهداف
العنصر الاساسي في ميتافيزيقا شوبنهاور هو "الرغبة في الحياة". هو يرى ان الناس باستمرار مندفعون بحافز أعمى للكفاح نحو الوجود والحياة. نحن ليس لدينا هدف نهائي. نصارع لتحقيق اهداف ولكن حالما تتحقق، تكون القناعة فقط مؤقتة، فتبرز اهداف ورغبات جديدة. هذا الكفاح اللامتناهي يخلق دورة من الإثارة وعدم القناعة، وهو ما يميّز الكثير من حياة الانسان وهو أصل المعاناة.
منظور شوبنهاور هنا يمكن تطبيقه على عالم العمل، ملقيا الضوء على الديناميكيات التي تشكل حياتنا العملية. كما في الكفاح اللامتناهي الذي وصفه شوبنهاور، رحلة مصلح الكومبيوتر تتميز بسعي متواصل نحو الاهداف. كل مهمة مكتملة وكمبيوتر مكتمل التصليح يجلب لحظة الاحساس بالانجاز لكنه يتبعه فورا ظهور تحديات وطلبات جديدة.
في هذا السياق، تجربة الاخصائي تنسجم مع ملاحظة شوبنهاور بان انجاز هدف يقود فقط للرغبة القادمة. اكمال مهمة التصليح قد تعطي راحة مؤقتة ولكن حالا تظهر قضايا جديدة للمعالجة او التحسين لتشعل دورة الاثارة وعدم القناعة. هذا يوفر اطارا فلسفيا لفهم الضجر المتأصل والكفاح المستمر الذي يميز العديد من الوظائف. عبر الاعتراف بالتشابه بين ميتافيزيقا شوبنهاور وتجربة اخصائي الكومبيوتر، نحصل على رؤى عامة حول الطبيعة الاساسية للوجود الانساني والسعي المتواصل نحو الاهداف التي تطبع حياتنا.(شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثيل، الجزء 2).
منظورات من الفلسفة الشرقية
التقاليد الفلسفية الشرقية تقدم ايضا رؤى ثمينة حول طبيعة العمل. في غيتا Bhagavad Gita، النص المركزي في الفلسفة الهندية، يُنظر الى العمل كواجب يجب ان يتم دون ارتباط بنتائجه او ثماره وهو المبدأ الذي يُعرف بـ كارما. هذا الاتجاه يشجع الافراد للتركيز على فعل العمل نفسه بدلا من المكافأة التي يجلبها. تطبيق مبدأ يوغا الكارما على مثالنا في خبير تصليح الكومبيوتر يشير الى ان الخبير يجب ان يتعامل مع عمله بإحساس الانفصال عن النتائج. بدلا من الالتصاق بالفوائد المحتملة او المكاسب التي ينالها من تصليح الاجهزة، هو يمكنه الحصول على الانجاز عبر الانشغال المخلص في العملية ذاتها. عندما ينغمس في اللحظة الراهنة ويوجه جهده للمهمة التي تحت يده، هو يستطيع غرس معنى كل من الهدف والرضا بشكل مستقل عن المحصلات الخارجية.
الفلسفة البوذية من جهة اخرى، تؤكد على فكرة "سبل العيش الصحيحة" كجزء من مسار من ثمان ممارسات. انها تؤكد ان عمل المرء يجب ان لا يؤذي الاخرين ويجب ان يكون تعبيرا عن العطف والحكمة. هذا المنظور يدعو الى التفكير بالأبعاد الاخلاقية للعمل.
من هذا المنظور البوذي، أخصائي تصليح الكومبيوتر يجب ان يفكر في تأثير تصليح كومبيوتره على الآخرين ويكافح لضمان ان محاولاته لا تسبب اذى. عبر ممارسته مهنته بتركيز كامل للذهن وبتعاطف وتبنّي للسلوك الاخلاقي، هو يستطيع ملأ عمله باحساس عميق بالمعنى ويساهم في رفاهية من يخدمهم. من خلال دمج هذه الرؤى الفلسفية الشرقية بتحليلاتنا، نحن نوسع فهمنا للعمل الى ما وراء الأبعاد الذرائعية والمادية. نحن نعترف بقيمة غرس عقلية تتجاوز التعلّق بالنتائج وتؤكد على القيمة الباطنية للعمل ذاته. كذلك، نحن نعترف بالمضامين الأخلاقية لمساعينا المهنية وامكانية العمل ليكون قاطرة للعطف والحكمة.
منظور ما بعد الحداثة للعمل
فلاسفة ما بعد الحداثة مثل ميشيل فوكو و جان بودريار، يقدمان رؤى ثمينة للديناميكية المعقدة للسلطة والمعرفة والعمل. مفهوم فوكو لـ "biopower"(1) يغوص في الكيفية التي تمارس بها المجتمعات الحديثة السيطرة والتنظيم تجاه سكانها من خلال مختلف الآليات بما فيها العمل. طبقا لفوكو، يُعتبر العمل كوسيلة لممارسة السلطة، كونه يساعد من خلال التأديب والسيطرة على الأجسام، تشكيل عادات الطاعة التي بالنهاية تجعل من الافراد كأشخاص منقادين (فوكو، الجريمة والعقاب).
تحليلات جان بودريار لثقافة المستهلك تؤكد على تحول العمل والانتاج في مجتمعات ما بعد الصناعة. بودريار يرى ان العمل والانتاج في هذه المجتمعات اصبح محاكاة منفصلة عن اهداف المجتمعات الاصلية في اشباع حاجات الناس. طبيعة وهدف العمل اصبح بشكل متزايد مبهما ووهميا عندما انخرط بالطبيعة المفرطة البريق لثقافة المستهلك (بودريار،المحاكاة و التشبيهات).
تحليلات بودريار تضيء المشهد الما بعد حداثي اكثر حين اصبح فيه العمل والانتاج منخرطين بعالم مفرط يتميز بالوفرة المفرطة للاشارات والرموز. الطبيعة المبهمة للعمل في عالم ثقافة المستهلك تكثّف الشعور بالارتباك وتمحو الحدود بين الواقع والوهم.
هل يمكن القبول بالملل لأجل الراتب
الاستطلاعات اعلاه عن الرؤى الفلسفية للعمل تكشف بان هذا المظهر المركزي لحياة الانسان هو نسيج ثري ومعقد حيك بخيوط الضرورة والرغبة والاغتراب والانجاز والسلطة والاخلاق. العمل ليس فقط وسيلة لغاية او طريقة للحصول على النقود تسمح لنا للاستمتاع خارج حدود مكان العمل. وانما هو فعالية انسانية عميقة تعكس أعمق الرغبات وأعلى الطموحات. ونحن نبحر في رتابة وبساطة واجباتنا اليومية، لنتذكر اننا حتى في اشد صحاري الضجر، يمكن العثور على واحة للمعنى.
***
حاتم حميد محسن
........................
الهوامش
(1) في معجم اكسفورد يشير مصطلح سلطة بايولوجية piopower الى شكل من السلطة يدور حول السكان (ناس كنوع وكطاقة منتجة) وليس كافراد (اشخاص او مواطنين). فوكو يركز على شكل من العقلانية السياسية. تقليديا، طبقا لفوكو، الفكر السياسي الغربي كان اساسا يهتم بما يشكل الحياة العادلة والجيدة وكيف يمكن اقناع الرجال (في الفترة من ارسطو الى بدايات النهضة، المرأة كانت مستبعدة من السياسة) الخضوع لذلك الشكل. وكما في الفن، السياسة كان يُفترض ان تخدم اهدافا عليا، أعني،سلطة الله. بعد ذلك،منذ بداية القرن 1500،برزت طريقة في التفكير تتميز بالقليل من الفضيلة الروحانية والكثير من الحسابات السياسية،والتي تجسدت بميكافيلي. حاليا،يركز الفكر السياسي على تطبيقات الحصول على سلطة الامير وادامتها وتوسيعها،متجاهلا حرية وفضيلة المواطنين. وفي نفس الوقت الذي ظهر فيه ميكافيلي برز شكل من التفكير حول السلطة جرت صياغته بالبيروقراط وصنّاع السياسة الذين يديرون الحكومة التي لا تهتم باكثر من سلطة الدولة. انهم نظروا الى الناس طبقا لذلك: من جهة،ارادوا ان يتعلموا حول الناس كنوع ومعرفة اسرارهم البايولوجية، ومن جهة اخرى، ارادوا تطوير قدرة الناس والمكائن عبر معاقبة أبدانهم. فوكو سمى هذا النوع الجديد من العقلانية السياسية بـ piopower لأنه اهتم بكل مظاهر الحياة وبدون قيود الى أدق تفاصيلها، وان كان فقط في مستوى التجريد. كان هذا النظام من العقلانية مهتما بصحة الناس فقط بعبارات احصائية وليست وجودية. اهتم بالكيفية التي يعيش بها الناس ويموتون، ولكن ليس بمنْ يعيش ومنْ يموت. لأول مرة في التاريخ، يجادل فوكو ان الوجود البايولوجي كان منعكسا في الوجود السياسي، وبالنتيجة فان وجود النوع البشري ذاته جرت المراهنة عليه في الأسئلة السياسية.