أقلام فكرية
حاتم حميد محسن: قصة الخلق بين الله والإنفجار العظيم
ليس التطور البايولوجي وحده يثير التحديات أمام الرؤى التقليدية المسيحية، وانما الفهم العلمي لتطوّر الكون ايضا يثير قضايا امام الناس المؤمنين. طبقا لكتاب سفر التكوين، خلق الله الكون وجميع الأجرام السماوية من شمس وقمر ونجوم في ستة أيام. لكن طبقا لعلماء الكون المعاصرين بدأ الكون بانفجار عظيم Big Bang تكونت بعده النجوم والمجرات ببطء عبر بلايين السنين. تماما مثلما اقترح دارون ان تطور الحياة على الارض كان عملية طويلة وبطيئة ومتدرجة، كذلك يعتقد علماء الكون الآن ان كوننا يتطور بعمليات بطيئة وطويلة.
لكن اذا كان التفسير الإنجيلي والتوضيح العلمي لا ينسجمان في جميع التفاصيل، فهناك أوجه تشابه بينهما. ربما الأكثر أهمية، ان كلاهما يفترض مجيء الكون الى الوجود من لاشيء في لحظة محددة من الماضي السحيق(1). في الحقيقة، العديد من الدينيين المؤمنين المعاصرين يعتقدون ان الانفجار العظيم يعطي تأكيدا للرؤية المسيحية في الخلق من العدم (ex nihilo). ومن المثير للاهتمام، انه عندما اكتُشف دليل الانفجار العظيم لأول مرة في أواخر العشرينات من القرن الماضي (باستنتاج ادون هابل Edwin Hubble بان الكون كان يتوسع)، فان العديد من العلماء رفضوا تلك الفكرة لأنهم اعتقدوا انها تنطوي على مسحة دينية. اذا كانت للكون بداية، عندئذ يجب ان يكون له خالق. لكن هذا سيكون غير علمي. في ذلك الوقت، كانت الرؤية السائدة ان الكون وُجد منذ الأزل في نفس الحالة وهو لهذا ليس له بداية.
اكتشاف هابل بان الكون يتوسع وضع نهاية لرؤية الحالة الثابتة للكون واقترح ان الكون له لحظة بداية محددة. علاوة على ذلك، هذه الرؤية نالت الدعم من آينشتاين في نظرية النسبية العامة التي عرضت مجموعة أنيقة من المعادلات الرياضية لوصف الكيفية التي نشأ بها الكون من لاشيء. من المفارقة، ان الامور انقلبت الآن مع ظهور الجدل الحالي لبعض العلماء في ان الانفجار العظيم يُظهر ان الكون خرج الى الوجود بعمليات طبيعية خالصة لا تحتاج الى قوة اسطورية متجاوزة للطبيعة.
هذه الرؤية جرى التعبير عنها من جانب عالم الفيزياء البريطاني الشهير ستيفن هاوكنك. في كتابه الشهير "تاريخ مختصر للزمن"، اقترح هاوكنك انه اذا كانت النظريات الكونية الحالية صحيحة عندئذ فان خلق الكون سيتم توضيحه بالكامل بقوانين الفيزياء. وفي هذه الحالة، يسأل هاوكنك، أي دور سيكون للخالق؟.
لكن مرة اخرى، اذا كان هاوكنك يرى ان العلم يستبعد الله من الصورة، فان آخرين يتخذون رؤية مختلفة. الفيزيائي بول دافس Paul Davies،مثلا، كتب بان جمال ونظام قوانين الفيزياء ذاتها يشير الى انه يجب ان يكون هناك شيئا وراء تلك القوانين، شيء يقود الجمال الرياضي والنظام في الكون. ونفس الشيء بالنسبة للفيزيائيين جون بولكنجهورن John Polkinghorn وجون بارو John Barrow اعتقدا ان التوازن الرياضي والمنظّم للكون وبشكل مثير للإعجاب يشير الى وجود قوة ذكية مسؤولة عن كل ذلك. ستيفن هاوكنك ذاته ربط الإله بقوانين الفيزياء. خاصة، هو ومعه دافيس ربطا الإله بما يسمى "نظرية كل شيء"- نظرية واحدة يأمل الفيزيائيون انها في يوم ما ستوحّد النسبية العامة مع ميكانيكا الكوانتم، وبالتالي جلب كل الكون تحت مظلة رياضية واحدة كبيرة. هذه النظرية هي الهدف الكبير للفيزيائيين النظريين المعاصرين، وهذه هي التي ربطها هاوكنك بـ "عقل الإله".
ربما اكثر من أي علم، علم الكون هو الحالة التي فيها يرى المرء او لا يرى الله منعكسا في الصورة. في النهاية، العلم لم يثبت ولم ينفي وجود الله. في أغلب الأحيان، يمكن قراءة الدليل العلمي في كلتا الحالتين.
***
حاتم حميد محسن
..........................
www.pbs.org/faithandreason/intro/cosmo-frame.htm
الهوامش
(1) حسب تقرير الـ BBC في 6 Jan 2022، ان أول جسيمات للمادة كانت بروتونات ونيترونات شكّلا مع بعضهما نواة ذرية. هذه الجسيمات جاءت الى الوجود في جزء من عشرة آلاف جزء من الثانية بعد الانفجار العظيم. قبل هذه النقطة لم توجد أي مادة بأي معنى للكلمة.