أقلام فكرية
سامي عبد العال: تأويل النعال (8)
حين تريد الثقافة أنْ تحكي مسيرتها غير المُعلنة، تصنع من أدق الأشياء مسرحاً لتداعياتها الحرة. فهي كـ" الجينات المتوارثة " تكمنُ في أصغر الأشياء بُعداً عن النظر بدرجة مساوية للأشياء الأكثر قرباً. وعندما تصر الثقافة على الهمس إلى متلقيها، تجعلهم ناطقين بخصائصها دون الشعور بقوة الفعل. ففي بعض القول العام قصداً إلى نفسها، تُلقي الثقافة كلّ القول إلى فاعليها. ومن ثمَّ، فإنّه دائماً وخلال تلك المناطق الرخوة وغير المأهولة، يمكننا مراقبة: ماذا يحدث من أعمالٍّ ثقافيةٍ في نوم ويقظة المجتمعات؟، وماذا يقع من آثارٍ بعيدةٍ لدى الأفراد؟! لتقول الثقافة أشياء وموضوعات يصعبُ قولها عادةً بصورة واضحةٍ.
لا نعرف ماذا يحدث تحديداً إلّا أنْ تكون الثقافة هناك بوافر سطوتها. بالطبع هي تظهر فاعلة وممسكة بكل الخيوط الممكنة لوعينا الإنساني. لا توجد مساحات ثقافية فارغة، لأنَّ الفراغ وضع غير محتمل ولا يُسمى فراغاً. فالنعال - وهي مفردة لا تلقى قبولاً لدى الناس - تعد من أهم المفردات والعلامات السيميائية في مجتمعاتنا العربية. تذهب المعاني هنا أو هنالك مع دلالتها، وتتوالد الأفكار مع حركة العلامات التي لا تتوقف عن المزيد.
على مسرح (المنامات)، تواصل الثقافة العربية إبراز جوانب العلاقة بين المرأة والنعال. لم يأتِ الأمرُ ضرباً من المصادفة، لكن ثمة محددات تأويلية تحكم القضية برمتها. ومحمد بن سيرين يعد مؤلفاً للحوار والسناريوهات، وكيف تطرح الثقافة موضوعاتها الأساسية عبر الأشخاص؟! فالمثقف- رغم أعماق الثقافة- قد يكون لساناً ناطقاً بهذه الأعماق عفواً أو قصداً.
هكذا تجسد الثقافة لونين من الأعماق
اللون الأول: هو العمق الذي يُكوّن نظام الثقافة العام. لون يحققق الامتداد والاستمرارية، إذ يحدد آفاق التفكير ويربط بين الأطراف وأساليب العيش. بحيث تُظهر الثقافة قدرة أفقية على التجوال في جوانب المجتمعات. وبإمكانها أن تضم إليها الأفراد والجماعات المختلفين، طالما يحيون في كنفها. وتبقى تلك الأعماق مثل الخيط الناظم الذي يخيط الممارسات والأفعال والخطابات إلى بعضها البعض. وقد لا يدرك الإنسان هذا العمق بسهولة، لكونه مترامي الأطراف. كما أنه قد يبدو واهنا هنا أو هناك ليظهر في اتجاهات أخرى أكثر قوة.
يتجلى هذا اللون من الأعماق بصورة جماعية لدى أفراد المجتمع. لأن الامتداد هو الفضاء العام الذي يؤازر جوانبه بحثاً عن الترابط والتحقق. وليس ثمة لون أكثر ظهوراً من هذا العمق، حتى أن أفراداً لا يستطيعون بسهوله الانفصال عن جسد الثقافة. لكونها توفر كافة العلاقات والمبررات التي تجعل انعزالهم غير قابل للتبرير سواء سراً أم علانية. والثقافة في هذا، تشبه خطوط الطول وخطوط العرض في مجال الجغرافيا، حيث توجد عبر النقاط الافتراضية التي لا يشعر بها أحد، ولكنها توجد بقوة وتترك آثاراً بارزة هنا أو هناك.
اللون الثاني: هو العمق الذي يؤسس مركزيتها والمحور الرأس لوجودها. إنه العمق التاريخي الموروث عادة والذي يحمل وجهه الماضي والحاضر على الدوام. فليست الثقافة – أية ثقافة- بقادرة على العيش مستقبلاً دون هذا المحور. ومن مفارقاته: أنك لا تشعر به كثيراً ولا قليلاً. فهو ذات حركة شاملة، ويستثمر قدرات العمق الأول بأن يوجد خلال كل مكان وخلال اللامكان أيضاً. بمعنى أنه في الوقت الذي لا نشعر فيه بوجود الثقافة، ستكون حاضرة بقوة في التفاصيل وفي كافة التجليات وإن غابت عن المتابعة.
والدليل هو هيمنة الثقافة العربية على تفسير المنامات كما طرحها ابن سيرين وغيره من كتاب السير والرؤى والأحلام. فالمنامات في عرف الناس فراغ من الحياة عند الانقطاع عنها. حتى أنها توازي الموت على الصعيد العام، لأن الموت مثل النوم، والحياة مثل الاستيقاظ في الثقافة العربية الاسلامية. بينما الثقافة ترى في المنامات مناطق حاسمة، تحسم العلاقة المفترضة بين كيفية التفكير وما يعيشه الناس. دوماً تعد تأويلات ابن سيرين مغلّفة ببلاغة الحياة. وهي ستاره خفيفة القوام والنسيج لمعانً ثقافية معيشة.
غير أنَّ ابن سيرين يطيل الأمد لتأويلات الحلم، معتبراً أن النعال (كلمة وصورة). لكنها بمثابة الكلمة المفتاح Key word والصورة هي ممارسة الحياة. أما معاني الحلم المتناثرة، فهي إثارة الخيال لدى المتلقى حتى يُصدّق ما يقول. وهي معان يجعلها ابن سيرين طوع الأفهام حتى يتم التفاعل معها. وبخاصة أنَّ مسألة النساء من المسائل الشائكة التي تتميز بحساسيتها لدى الثقافة الجارية. وتحاول الأخيرة أن تجعلها موضوعاً للإسقاط لا المباشرة، موضوعاً للتلميح لا التصريح.
وبناء عليه، سيواصل ابن سيرين إشارة النعال في الحلم إلى المرأة بصور مختلفة... " وإنْ كانت النعال من نعال الماء، فإنَّها زوجة، أو أمة يستفيدها، أو يطؤها. وأمَّا نِعال الطائف، أو ما يتصرف به التجار في الأسواق، في المنام فهي دالة على الأموال، والاكتساب والمعاش. وقد تدل النعال في المنام على الزوجة أيضاً، إذا مشى بها في خلال الدور، أو اشتراها، أو أهديت إليه. فإن كانت النعال جديدة، فهي تدل على امرأة بكر، أو حرَّةً، أو جارية، وإنْ كانت قديمة ملبوسةً، فهي تدل على امرأة ثيب" (محمد بن سيرين، منتخب الكلام في تفسير الأحلام، ص ص 366- 367).
أخذ ابن سيرين يطلق الخيال لمتلقي التأويل، مثيراً قدرة الأفراد على اقتناص المعاني كلما عن لهم ذلك. فالنعال التي من الماء تشير إلى الزوجة أو الأمَة أو المرأة التي يستفاد منها حسياً أو علاقياً. والإشارة لا تذهبل بعيداً في عقد الصلة المعروفة بين الماء والحياة. فالماء هي أصل الحياة إذ جعل الله منها كل شيء حي. والحلم يلتصق بتلك الإستعارة التي تقول إن الماء دالة على العلاقة الحميمة بالوجود الإنساني ومنها يأتي العطش والإرتواء والحرمان وإزهار الحياة والأمل والاقبال على العالم.
أشارت النعال – الماء إلى الزوجة، نظراً لتقارب الرغبات الحسية، فالطعام والشراب ليس يوجد منها غير اللقاء الحسي بالعالم والأشياء. لأن الماء تحيينا وتحيي الكائنات الأخرى، فمابلنا بعلاقات الحب والشهوة بالأنثى؟ ولكن بما أن الماء سهل وحميم في وجوده لدينا، فالنعال المقترنة به هي الزوجة. هي التي يقبل عليها الذكور بشكل شرعي واخلاقي واضح. والثقافة تريد إبلاغ فاعليها بكل ما يجعلهم ملتصقين بالحياة تلقائياً. وليس ألصق بالحياة من الكائنات الحية والحلم يرمز إلى الاشياء الثقافية بصور مستعارة من الطبيعة. لأن حركة الثقافة قد تكون تدخلاً وعنفاً على طبيعة الإنسان التلقائية. ولكن عندما تستبدل الأحلام الشفرات الثقافية (علاقة النعال بالنساء) برموز طبيعية (الماء والرغبات)، فإن الثقافة ترجع إلى الأصل. أي تعيد تأصيل ما تقوم به لإقناع ذاتها وإعادة ترسيخ توجهاتها لدى الناس.
لئن كانت حالة النساء أحدى التيمات المسكوت عنها، فلتواصل الثقافة اعتبارها كذلك، لكونها الغطاء الذي أخفى ذلك ابتداء، أي أن الثقافة العربية هي التي وضعت النساء تحت الوصاية. إذن فلن يضيرها شيئاً: إذا اعتبرتهن مجرد نعال أو يأتين إلى لاوعي الذكور على هيئة استعارات حذائية بالمعنى نفسه.
فالنعال تشترى وتهدى إلي الإنسان مثل النساء في واقع المجتمعات العربية خلال مراحلها التاريخية. حين كانت تبتاع النساء على خلفية أسواق الجواري والعبيد. وكذلك كانت تهدى إلى الأصحاب الشأن كنوع من استطراق الرغبات الحسية بالمزيد من التجارب ومعاقرة الشهوات. إذْ كانت النساء علامة على التبادل الذي يلف الجنس بنوع من الغطاء الثقافي العام. كان يتم ذلك تحت عين الأشخاص حتى يمكن حيازة المرأة للتمتع ورواج الأفعال الحسية. من هنا كانت النساء كعلامات مرغوبة تدور مع النعال دوران الفعل والأثر، دوران الجوهر والوظيفة. فالطرفان يُلبسان بشتى المواصفات الحسية، ثم سرعان ما تتواتر المعاني الاجتماعية لتلك العملية في ذهنية الإنسان العربي.
ربما ذلك يمس المعنى الوارد في القرآن الكريم "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" (البقرة/ 147). أي أنه لما كان الرجل والمرأة يتعانقان إلى بعضهما البعض، فيضم كل واحد منهما جانبه إلى جانب صاحبه، حتى يصير كلُّ واحد لقرينه كالثوب الذي يلبسه، سُمي كل واحد منهما لباساً. حتى قال بعض المفسرين عن النساء والرجال: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن. القرآن كان دقيقاً في نفي التحقير من المرأة، فاللباس لا يعني الحطَّ من القدر. بدليل أن اللباس فعل يسري على الطرفين المرأة والرجل بالتوازي. وتستدعي اللغة مناطقها الغامضة من جهة كون اللباس هو الستر والمداراة والحفظ والعناية.
كأنَّ القرآن الكريم يرد على تداعي المعاني بصدد استعارة النعال في عالم النساء، فإذا كان الإنسان يرتدي النعل، فهو للحفظ والوقاية. ولا فرق هنالك بين (اللابس والملبوس) من واقع العلاقة بين الذكر والأنثى. ولئن كان القرآن قد وضعهما على خط واحد وما يجري على أحدهما سيجري على الآخر، فإن المعنى مشترك بين الطرفين ويستحيل التقليل من شأن المرأة دون التقليل من مكانة الرجل.
وفي هذا الجانب قد ظهر القرآن متقدماً عن البيئة التي ظهر فيها. حيث مازالت العقول متحجزة تحجر الصخر، وليست هناك ليونة بصدد هذا، حتى ولو في المنامات التي لم يسلم منها الإنسان. ولعل مطلق لنعال إزاء النساء- كما جاء على لسان ابن سيرين- كان حفاظاً على لباس ثقافي موروث. والقرآن أراد أن يحطم هذا اللباس، بل يمزقه بالمعنى الهادئ لكون المرأة لباس الرجل والعكس.
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة