أقلام فكرية
سامي عبد العال: فلسفة النِعال (2)
تحاول أغلب الثقافات- من مجتمع إلى آخر- صناعة معاني الأحذية (غطاء الأرجل) على نحوٍ أعمق، لكونها الوسيط الذي يخفف الوطء والتعثُر، وتحُول دون شعور (لحم القدم) بعثرات الطُرق والتراب. تماماً حينما يُعبر الحذاءَ عن دلالة الرفعة والمباهاة والغلبة، فهو يقِي من وعثاء المجتمعات، ويُعطي انطباعاً معيّناً أمام الناس. والحُفاة العُراة يذهبون ثقافياً لتغطية التعري الاجتماعي بأية حمايةٍ من ظلال السلطة. ولا يجدون واقياً بجانب الاقتصاد والسياسة إلاَّ بالغرور والعلو الأجوف.
تبقى الأحذية خطاباً ضمنياً عندما توجد لمساتٌ لأقدام على رقعة المجتمع الحساسة لوقْع الناس والظواهر. فالأحذية شفافةٌ لما يرتسم على مظهرها والمسارات التي تأخذها. وليست كل النعال متساوية في إطار كهذا، طالما أنَّ الآثار التي تتركها وراءها ليست واحدةً ولا متطابقة. وهناك في أسواق النعّالين (الصُرماتية)- بلغة أهل مصر العثمانية والمملوكية- أمورٌ دالة على افتراق الطوائف والطبقات والفئات المختلفة. ففي لحظة صناعة وحياكة وترقيع النعال ما يُظهِر الخيوط الاجتماعية التي تحرك الأنامل والأقدام معاً. وبالتأكيد يعرف الصُرماتية ظروف وأحوال أهل صناعة النعال، وكذلك يعرفون نوعيات النعال تفاصيلياً، ولمن تكون والخلفيات الاجتماعية التي اتت منها.
بالتأكيد، فإنَّ النعال عبارة عن " توقيع ثقافي signature cultural " يحتاج دوماً إلى فك شفراته الملتوية. والعرب كان لديهم مواهب فذة في تتبع الأثر والفِراسة بحيث كانوا يعرفون: ما إذا كانت آثار الأقدام لرجل أم لإمرأة أم لطفل. وليس هذا فقط، بل كانوا يتفرّسون في معرفة نوعية الأقدام. فأقدام الأطفال مختلفةٌ عن أقدام الرجال في مقتبل العمر أو الرجال في وسط الكهولة أو خلال الشيخوخة الطاعنة. وكان العرب يعرفون كذلك: ما إذا كانت آثار اقدام المرأة آثاراً لإمرأة حامل أم لإمرأة عجوز أم لفتاة في مقتبل العمر وبأي فحوى كانت تسير. هذه الفراسة تقتضيها الأحذية على نطاقٍ فلسفي وثقافي عام. وعوضاً عن أنْ تكون رمال البادية هي (الرقاع الوجودية) التي تضم آثار الأقدام، تأتي رقاع المجتمع لتظهر آثار النعال.
هكذا تبقى النعال (وسيطاً حركياً) يرتهن بذهنية الناس وأنساق الفكر. فالنعال لديها القدرة على التواجد كمفردةٍ ضمن معجم عام مغروس في أضابير التراث ولحم الواقع. كما أنها كرداء للأقدام ترينا: كيف يتعامل الناس مع قواهم والحقائق الجارية بين البشر؟ فالإنسان قادر على جعل الأشياء تتكلم، تُفضي، ويعود إلى الوراء قليلاً دافعاً إياها في المقدمة. " وفي خاصف النعال البيان وعبرة... لمعتبر إذْ قال والنعل ترقع".. ذلك ما يقوله الشاعر السيد الحميرى عن فحوى النعال كسيرة أكبر من كيانها المحدود. فالمعنى طريف حين يكون خصف النعال هو بلاغة وجودها الذي يمثل وجودنا بامتداد جوانبه. لأن الخصف هو خرز الأحذية وإصلاحها نتيجة التغيرات التي تلحق بها. وهي عملية تبدو مهمة عند كثرة الاستعمال وانهاك الأحذية. والخصف لُب المسألة الاجتماعية المعبرة عن العمل والفعل والانتقال من مكان لآخر.
وعلى وجود هذه الفكرة وراء معنى النعال، هناك النعال التي تحرك مستويات أخرى من المضامين. ولاسيما مضمون التقليل من شأن الآخرين. المضمون المركب الذي تكون ثقافياً عبر ممارسات سحيقةٍ لدى البشر، ولا ندري كيف تكونت العلاقة الخفية بين الأحذية والاحتقار تحديداً. والميل إلى تفسير ذلك فيما يبدو أنه أمر مرتبط بتعاليم الأديان وما ترتب عليها من طقوس وتبعات ثقافية. وصادف ذلك تاريخياً انقسام الإنسان على نفسه ما بين الأعلى والأدنى واستعمال هذا الانقسام في إدارة دفة الصراع وعلاقات القوى في المجتمعات.
يقول أحد قصاصي الأثر في الثقافة العربية ابو الطيب المتنبي: " وإغتفارٌ لو غيّر السخطُ منه ... جُعلت هامهم نعال النعال". وهنا نلاحظ بصمة الثقافة العربية واضحة في زحزحة المتنبي (لدلالة الهامة) من العلو والرفعة والفخر إلى مرتبة نعال النعال. فإي مكانة محقّرة - تحت عين التاريخ - هذه التي سيصل إليها الأعداء؟! فلو كف الناسُ (المخاطبون) عن طلب الغفران من الخصوم في واقع قبلي متغلغل، لجعلوا هامات خصومهم بمثابة النعال. وهو معنى يرتكن إلى الاستنفار لا إلى القبول، إلى الغلبة لا إلى الوسْع. لأنَّ السخط اعلان للنفرة والافصاح عن الغضب.
والمتنبي يُلقي كلمة" هاماتهم " تعبيراً عن رؤوس الخصوم، كأنّه يلقي أحجاراً مهملة. لقد نزع منها التميُز ليعطيها لقمة ثقافيةً سائغة للنعال المنتظرة. وليست النعال هنا ككل النعال، فالأخيرة تحتاج إلى أقوام مميزين. والمتنبي يعد الرؤوس المهملة إلى أن تصبح تابعة لمن يحركم السخط. وليس هؤلاء الساخطون أقل من الاندفاع وراء سخطهم إلى منتهاه. ولعلَّ النعال تأتي في هذا السياق لمخاطبة غرائز القبيلة. وهي ما تترجم الخلفيات المتعلقة بالقبيلة في مظاهر الزي التي لها مردود اجتماعي وتاريخي. وسيدرك الخصوم بالقطع: ماذا يعني انتعال رؤوسهم؟ وسيدرك المجتمع: إلى أي حد سيكون العار ممتداً عندما ينتعل أحدهم رأس الآخر؟ وفوق هذا وذلك، فإن فعل اللغة الشعرية باق رغم دورات الزمان وذر التراب فوق الآثار!!
إنَّ ثنائية " النعل والهامة " تخضع لشد وجذب ثقافيين في مجتمعاتنا العربية منذ أزمنة بعيدة، وهي الثنائية التي ترسخت لدينا نحن العرب بفضل التقاليد مرةً، وبفضل القوى الاجتماعية مرة أخرى. لأنَّ شداً وجذباً من هذا الصنف يرسمان الخطوط الوهمية التي يتحرك عليها الأفراد. بحيث يمشون حفاةً دون نعال، على أنْ تكون نعالُهم المأمولة هي البُعد الحاضر الغائب في المواقف التواصلية. فلو كان أحدُهم يرتدى حذاءً ثميناً، فالأنظار تتجه إليه قصداً. وقد تكون الصور هي الحل الأمثل للتصالح مع الواقع. وتبدو الهامة يحركُها الفخر إستناداً إلى رمزية الصور تحت عناية الأنظار.
يؤكد عماد الدين الأصبهاني: " إذا حفيّت منها النعال تنعلت ... بهام عدي رضت بها أيما رض". والشاعر يعبر عن دلالةٍ تتسق مع الفخر الذي يصيب هامات قبيلة ترى في رؤوس الآخرين مجرد نعال. وكأنَّ الأقدام إذا حفيت منها لا بد ألّا تلجأ إلى النعال المعروفة لديها، ولكنه تلعب لعبة الثنائية مرة بعد مرة. أي تنتعل هامات قبيلة عدي (التعالي أمام الاحتقار)، وفوق ذلك تبدو المسألة طبيعية أو تلقائية تماماً من وجهة نظره. فالشعر يؤسطر الإحساس بإلقاءه إيقاعه السري إلى العالم والحياة. ويبدو انتعال الرؤس أمراً مفروغاً منه، إنه لعبة الاحتقار المضاعف من قبل الشاعر مع سلب الآخر جميع قواه.
لعلَّ الشعر العربي يحاول طوال تاريخه أنْ يرشق الكلمات في متن الوجود. حتى لو كانت الكلمات ذات ظلال ثقافية محض. وهي عملية تختصر العالم والحياة والإنسان فيما يوجد من أشياء ومعطيات. يشير ابن الرومي في مواقف أخرى: "جُعلتْ تلكم الخدود نعالاً ... لكُم الدهر إنْ صلحن نعالاً". فالشاعر يترك إطلالة الثقافة فاعلة إلى منتهاها، فلا فرق بين المتنبي ولا ابن الرومي ولا اختلاف بين المتقدمين ولا المتأخرين بصدد المسألة. إنه لمن دواعي التعبير عن الحب أن ينزل المتكلم إلى مستوى جعل الخدود نعالاً. وليس هذا فقط، بل سيكون الدهر هو النعل الذي يليق بالمنتعل. والإشارة السالفة (قنطرة لغوية – ثقافية) بين الحب والكراهية، بين الفخر والعاطفة، بين القريب والبعيد.
ذلك من واقع وجود قطبي (الرأس والقدم) وبدائلهما في تربة الثقافة العربية. حيث تأخذ الأطراف دلالات معلومة وواضحة للأطراف الأخرى، وتواصل المعاني لعب دور البدائل وتغطية المناطق العارية من وجودنا الرمزي. فالأفراد كي يعيشوا اتساقاً مع التاريخ، يلجأون إلى الانخراط في آثار هذه الثنائية المعمول بها. ووظيفتها هنا تقليل التصادم بين عناصر الثقافة وإشعار الأفراد بأن الأمور تسير على ما يرام من غير شيء طارئ.
والفاعل مجهول مؤقتا حتى ولو أشار إليه الشاعر، لأنَّ الجعل ستقوم به أيدي الزمن، بحكم أنه شاهد على إعطاء المكانة لأصحابها. وكما يريد الشاعر سشيترك الأمر في الأفق المطلق لا المحدود. وذلك أيضاً من واقع النزوع الأنطولوجي وراء الشعر واللغة العربية أنْ يضغم المعاني في حركة الوجود والحياة كما قلت.
يحرك الشاعر أحمد محرم مخزون تلك الذاكرة الثقافية: " وحَلَّ بحيث ينتعل الثريا ... وكان محلُه تحت النعال". فهذا الإنسان الذي كان شيئاً محقرّاً بات ينتعل النجوم من المكانة والمرتبة. وهو ما يستدعي العجب والدهشة في مقام رفعة المآل بعد تدنى الأحوال. وحدها بعض الثقافات قد تتقلب كالعواصف بين ليلةٍ وضُحاها رافعة هذا الشخص دون ذاك أو قد تنال من هذا الشخص بخلاف سواه في دورات التاريخ. وكلام الشاعر يفتح المجال لتأويل النعال ما بين المكانة التي لم تكن، ثم كيف أخذ الإنسان المكانة التي ستكون بين الناس. ولم يُشر الشاعر إلاّ بطرفٍ خفي للمسألة، وقدم معنى حلول الشخص ذاهباً به إلى عنان السماء بعدما كانت مكانته تقع حذو النعال.
يوثق ابن الرومي تلك الفاصلة: " إذا النعل شَّمتْ في المجالس مرةً ... فإن له نعلاً تشمُ وتلثم ". والتوثيق يبدأ من تطهير دلالة النعل من بقاياها الإنسانية، فنعل هذا المتكلم عنه مصدر الفخار، الفخار الذي يجيىء من كيان الشخص. فلئن كانت النعال ذات شأن في المجالس، فنعل الإنسان صاحب المكانة أولى بالشم والتقبيل. والوحدة تبدو نوعاً من الاتصال بين الرأس والقدم. فإذا كان القدم أثراً على أديم الأرض، فالرأس هي أثر على أديم الثقافة. ويلتقي الأثران عند مكانة الإنسان التي تتوثق لدى المجتمع. فالأشخاص الملهمُون وأصحاب دلالة الإنسان بفحوى الكلمة هم من يستحقون تمازج الأثرين في بوتقةٍ واحدةٍ لا انفصام بينهما.
يوضح ابن الرومي جوهر ثقافة الفخر في التراث العريي، وكيف تطهر رمزاً معيناً وبأي منطق تستعمله؟ فالأساس كما نقول دائما هو نظرة الناس إلى هذه النعال. فلو كانت محل تقدير، فستكون كذلك فيما بينهم وستفقد رصيدها السلبي. وليس أقل من أن يتحول الرمز إلى شيء آخر. وهنا يكمن قانون المجتمعات الذي يعطي أشياء معينة دلالتها متجنباً دلالة أخرى. هي عملية تطهير ثقافي تخلي الدلالة السبلبية وتعيد إدماجها. وهذا ما يثبت كون معاني النعال متواضعاً عليها وبالامكان تغييرها إذا لزم الأمر.
دليل ذلك أنَّ البحترى قد غيّر نوعية النعال حين يتكلم عن الخيول: فمرةً باللُجين تنعُلها ... ومرةً بالدماء تنتعل". فهو يشير إلى الخيول التي يوضع اللجين كنعل لها، حيث يتميز بالبريق واللمعان مما يكفي للفت عيون الناظرين. والبحتري يتكلم عن المظهر الثقافي الذي يحدد مكانة الخيول نتيجة معاني الفروسية والشجاعة والإقدام. ولكن هذه المعاني لا تنفصل عن قوة خوض غمار الحروب واشتداد أوارها. إذ تقدر الخيول على انتعال الدماء نتيجة الايغال في ساحة الإعداء والخصوم. وبذلك يثير البحترى (غبار) مفردة النعل في تراثنا بين الزينة والحرب. أي أنها تلتمع بقوة لافتة عاكسةً رغد العيش واستعمالها لأغراض خاصة. وبجانب ذلك تحسم النعال المعارك، فالدماء ليست دماء (فارسي الخيول) بالطبع، ولكنها دماء الأعداء. وتتأطر الصورة، إذا برز البيتان الشعريان اللذان يلاصقان البيت وهما:
لا بد للخيل أن تجول بنا
والخيل أرحامنا التي نصل
*
فمرة باللجين تنعلها
ومرة بالدماء تنتعل
*
الموت تحت رايتنا
تُطفأ نيرانه وتشتعل
يتضح من ذلك كون النعال، عملية التنعل كاشفة لاستعمال النعل بحسب المتاح ثقافياً، وبإمكان الألفاظ أن تفتح باباً لبنية الذهنية التي ترفل مرةً في الزينة ومظاهر الترف ومرة أخرى في مظاهر الصراع. والأهم أنَّ الجانبين (الزينة – الصراع) لا ينفصلان، لأن انتعال الخيول يلبي غريزتين لدى نظام ثقافتنا الواحد (الرأس والقدم). هما شكلان لجوهر واحد ليس إلاّ. وهي المراوحة بين انطفاء النيران واشتعالها استناداً إلى الموت. والموت واحد بالأصالة مثلما يكون الانتعال متنوعاً في أشكاله المختلفة لمرجعيات الثقافة.
***
د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة