أقلام فكرية

أقلام فكرية

اكتشافُ المعنى الوجودي في العلاقات الاجتماعية يحتاج إلى تكوين آلِيَّات لُغوية لتحليلِ بُنية التاريخ، ونَقْلِها مِن الإطار الزمني التجريدي إلى المنهج المعرفي التوليدي، لأنَّ الزمن لَيس مَقصودًا لذاته، بَلْ هو جِسْر نَحْو الحقائقِ الشُّعورية، والتفاعلاتِ الرمزية، والثقافةِ الواعية، ومصادرِ المعرفة. والزمنُ - كَجَوْهَرٍ فِكري وجِسْرٍ حياتي - هو التَّجَلِّي الحقيقي لعلاقة الإنسانِ بِنَفْسِه العميقة، والانعكاسُ المنطقي لعناصر المكان التي تتجدَّد في صَيرورة التاريخ، لِتُصبح زمنًا داخلَ الزمن. وهذا التداخلُ ضروري لِجَعْلِ المعنى الوجودي حاضرًا في كِيَانِ الإنسان، وكَينونة المُجتمعِ، وجسدِ التاريخِ، ورُوحِ الحضارة. وإذا كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ هي الحاجزَ الفلسفي بين الذاكرةِ الإبداعيةِ والتجربةِ الواقعيةِ، فإنَّ الآلِيَّات اللغوية هي الوَعْي المركزي الذي يَستعيد الإنسانَ مِن مَتاهة الغِيَاب، ويَمْنَع فَصْلَ هُوِيَّةِ المُجتمع عن ماهيَّة الثقافة. وغِيَابُ الإنسانِ تَغييبٌ لمفهوم الحُرِّية عن الذات والموضوع، لأنَّ الإنسانَ كُلٌّ لا يَتَجَزَّأ، وحياةُ الإنسانِ لا تَنفصل عن مفهوم الحُرِّية وقيمةِ التَّحَرُّر، ومصادرُ المعرفة لا تَنفصل عن شروطها الواقعية وخصائصها الوجودية، وإذا ثَبَتَ الشيءُ ثَبَتَتْ لوازمُه.

2

المعنى الوجوديُّ - فلسفيًّا واجتماعيًّا - هو الطريقُ إلى تأسيس منهج نَقْدِي فَعَّال في حُقول المعرفة، وهذا مِن شأنه عِلاجُ إشكاليَّةِ غُربة الإنسانِ في منظومة المجتمع الاستهلاكية، وحَلُّ مُشكلة التناقض بين الأحلامِ الفردية والطُّموحاتِ الجماعية، وَسّدُّ الفَجْوَةِ بين واقعيةِ الفِكْر ورمزيةِ اللغة. وإذا صارت حُقُولُ المعرفةِ أحداثًا يومية مُعَاشة يتمُّ التفاعل معها والانفعال بها، فإنَّ فلسفةً عميقةً سَتَظهر في العلاقات الاجتماعية، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً لامُتناهية مِن الدَّلالات النظرية والمُمَارَسَات العملية. وشرعيةُ الفلسفةِ مُستمدة مِن تفاصيل الواقع اليومي، ولَيس مِن تقليد الفلسفات الأُخْرَى، وهذا يدل على أهمية نقل المَعنى الوجودي مِن المُحَاوَلات التأويلية إلى المنهج النَّقْدي، ومِن المنهج النَّقْدِي إلى الرُّؤية الشُّمولية القادرة على تحويل المنظورِ الذهني إلى نظرية واقعية، والماهيَّةِ الثقافية إلى هُوِيَّة وجودية، والكَينونةِ الحياتية إلى سُلطة معرفية، والبناءِ اللغوي إلى بُنية وظيفية.

3

المعنى الوجودي مُرتبط بالأنظمةِ الاجتماعية والظواهرِ الثقافية، وهذا الارتباطُ يُقَدِّم تفسيرات منطقية لرمزية اللغة في الروابط بين عواملِ تَكوين أنسجة المُجتمع وشُروطِ تكريس مصادر المعرفة. والمُجتمعُ كَينونةٌ وُجودية، والمعرفةُ سُلطةٌ نَقْدِيَّة، والتلاحمُ بين المُجتمعِ والمعرفةِ يُولِّد نسقًا زمنيًّا عابرًا لحدود المكان، وقادرًا على تحويلِ دَور الفلسفة مِن رمزية اللغة إلى التفاعلات الرمزية في العلاقات الاجتماعية، مِمَّا يُسَاهِم في إنشاء قاعدة أخلاقية يقوم عليها الفِعْلُ الاجتماعي باعتباره القُوَّةَ الضاربة للعقل الجَمْعي، وأيضًا، تحويل وظيفة التُّرَاثِ مِن الفاعلية التاريخية إلى الفاعلية الحضارية، مِمَّا يُؤَدِّي إلى صناعة الوَعْي الذي يُوازِن بين المِعْيَارِ الأخلاقي وشخصيةِ الفرد الإنسانية، ويَمنع تَحَوُّلَ الإنسانيةِ إلى شَيْءٍ زائد عن الحَاجَة، أوْ سِلْعَةٍ في منظومة العَرْض والطَّلَب. وكُلَّمَا تَكَرَّسَ التَّمَاهي بين العَقْلِ الجَمْعي والآلِيَّاتِ اللغوية الناقدة له، انتشرتْ إفرازاتُ الذاكرةِ الإبداعية في الوَعْي التاريخي والحضاري، كإطارٍ جامع لفلسفةِ الماضي المُنعكِسة على سِيَاقات الواقع الراهن. وتأويلُ الوَعْيِ التاريخي والحضاري لغويًّا واجتماعيًّا وفلسفيًّا في غاية الأهمية، لأنَّه الضَّمَانة الأكيدة لمنعِ تَحَوُّلِ الشُّعورِ الإنساني إلى أداة ميكانيكية، ومَنْعِ تَحَوُّلِ الإنسانِ إلى آلَةٍ، ومَنْعِ هَيمنة الآلَةِ على الإنسانِ والطبيعة.

4

المعنى الوجودي لَيْسَ شكلًا ثابتًا أوْ بُنيةً مُتَحَجِّرَةً، وإنَّما هو جَسَدٌ سائلٌ يحتاج إلى تجسيد في المنهج النَّقْدِي والعقلِ الجَمْعي، لحمايةِ العلاقاتِ الاجتماعية مِن التَّحَوُّل إلى أوهام تائهة بين الهُوِيَّة والماهيَّة. ومعَ أنَّ الهُوِيَّة والماهيَّة مَحكومتان بِسِيَاقٍ تاريخي ونسقٍ حضاري، إلا أنَّهما حاكمتان على الوسائلِ والغايات، وهذا يَعْني أنَّ لهما تأثيرًا كبيرًا في المَضمونِ الإنساني للظواهر الثقافية، وطريقةِ تكوين المعايير الأخلاقية في البناء الاجتماعي، مِمَّا يُؤَسِّس حالةَ توازن ديناميكي بين النسقِ الفِكري (الحقيقة والمنهج)، والنسقِ الواقعي (النظرية والمُمَارَسَة)، والنسقِ الاجتماعي (المعرفة والمصلحة)، والنسقِ الثقافي (الذات والموضوع)، مِمَّا يُنَقِّي الوقائعَ التاريخية مِن الوَعْي الزائف، ويُطهِّر التُّراثَ مِن التأويل المَصْلَحِي المُغْرِض. وإذا كانت الهُوِيَّةُ لا تَنفصل عن التُّرَاث الرُّوحي والمادي، فإنَّ الماهيَّة لا تنفصل عن الرمزية اللغوية والاجتماعية، وهذا يَعْني استحالةَ اخترال الوجود الإنساني في المُسلَّماتِ الافتراضية، والأحكامِ المُسْبَقَة، والقوالبِ الجاهزة. فالوجودُ الإنساني نهرٌ دائمُ الجَرَيان، ولَيس كُتلةً أسمنتية محصورة في الأُطُرِ الزمنية والحُدودِ المكانية. وكُلُّ وُجودٍ يَشُقُّ مَعْنَاه، كما يَشُقُّ النهرُ مَجْرَاه. وهذا يُولِّد نقدًا مُستمرًّا للتاريخِ، ويَمنعه مِن التَّحَوُّلِ إلى أُسْطُورَةٍ مُتعالية، كما يُولِّد نقدًا مُستمرًّا للحضارة، ويَمنعها مِن التَّحَوُّل إلى أيقونة مُقدَّسة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في العدد 44 من (الفلسفة الآن)، ادّعى بيتر ويليمز في مقال له انه وجد العديد من المغالطات المنطقية في نظرية العالم البريطاني البايولوجي ريتشارد دوكنز. مقاله هذا أثار عدد من الردود المتلاحقة المبيّنة ادناه من الأساتذة البايولوجيين والمختصين وهم كل من ماسيمو بيجليوتش وجوشوا بانتا وكرستين بوسو وباولا كراوس وتروي دكستر وكيري هانسكنخت ونوريس موث.

نظرية التطور الدارونية الجديدة هي النموذج المقبول حاليا في توضيح تاريخ وتنوّع الحياة على الارض. ولكن منذ ان نشر دارون كتابه أصل الأنواع تعرضت النظرية للهجوم من مختلف الجبهات. بعض هذه الانتقادات تم طرحها في الميدان الفلسفي، حيث اتُهمت نظرية التطور بكونها غير متماسكة او متناقضة منطقيا.

ربما أشهر نقد فلسفي لنظرية التطور طرحه كارل بوبر الذي اتّهم الدارونية بالقول "الدارونية ليست نظرية علمية قابلة للاختبار، وانما هي برنامج بحث ميتافيزيقي" (السعي غير المنتهي، 1976). غير ان بوبر تراجع عن نقده بعدما اتضح له ان هناك في نظرية التطور اكثر مما فهمه من الفحص السريع لها: "انا غيّرت رأيي حول المكانة المنطقية والاختبارية لنظرية الاختيار الطبيعي، وانا مسرور لتكون لدي الفرصة للإنكار" (ديالكتيك، 32: 344-346 ).

في عدد المجلة الفلسفية أعلاه، طرح بيتر وليمز قائمة باحدى عشرة مغالطة منطقية يدّعي فيها ان البايولوجي ريتشارد دوكنز Richard Dawkins قد ارتكبها في مختلف كتاباته. فيما يلي سنفحص كل واحدة من هذه المغالطات والتعليق على مدى تبنّيها من جانب دوكنز. المقال لا يعني دفاعا عن دوكنز وانما كتمرين تحفيزي في معالجة الاطار المنطقي لنظرية التطور الحديث ومضامينها الفلسفية الواقعية او المتخيلة.

المغالطات:

1- التناقض الذاتي self-contradiction

وهو ادّعاء الشيء ونفي الادّعاء ذاته. يقتبس وليمز من رسالة مفتوحة لدوكنز الى ابنته، ينصحها فيها للتفكير بنفسها، وان تقرر ما اذا كان الادّعاء تمّ بناءً على الدليل او السلطة، وان تسأل عن دليل متى ما ادّعى شخص ما معرفته بالحقيقة. المشكلة هي ان دوكنز يخلط بين الدليل والدليل التجريبي، هو يبدو انه استنتج ان دوكنز ايضا يساوي بين المعرفة والمعرفة العلمية. اذا كان موقف المعرفة العلمية ذاته ليس مرتكزا على الدليل التجريبي، يتبع ذلك ان دوكنز يناقض ذاته باقتراح خطة عمل لبنته لم تُسند بالطرق المقترحة من جانب دوكنز.

من الملاحظ ان وليمز بالغ كثيرا في أهمية نصيحة دوكنز. يبدأ دوكنز باقتراح خطة عمل معقولة لبنته اذا ارادت تقييم ادّعاء شخص ما بالحقيقة، هو لا يقول ان نصيحته علمية، ولا انه يساوي بين المعرفة والمعرفة العلمية.

وحول ما يُعتبر دليلا، يعرّف قاموس التراث الامريكي المعرفة العلمية بـ: "الحقائق المتوفرة، الظروف، وغيرها، التي تشير الى ما اذا كان الشيء حقيقيا وسليما ام لا ". من هذا المنظور، معظم الدليل هو في الحقيقة تجريبي. الاستثناء الوحيد سيكون التفكير المنطقي اوالرياضي، رغم ان معظم الناس لا يعتقدون بهذا كـ "دليل" بقدر ما هو "سبب" لتفضيل استنتاج معين.

 اخيرا، الدليل التجريبي (وهو ليس بالضرورة علميا) لإدّعاء دوكنز يمكن توفيره: المرء يحتاج فقط لمقارنة عدد القرارات الناجحة التي يتخذها الناس حول امورهم المالية مثلا على اساس قراءة أبراجهم مقابل اتّباع نصيحة الخبير المالي (اذا كانت نصيحة الاخير مدعومة بالدليل التجريبي على آداء مختلف المحفظات المالية).

2- المصادرة على المطلوب Begging the question

وهي استعمال الاستنتاج من حجة معينة كأحد المقدمات المُستخدمة لتأسيس ذلك الاستنتاج، أي ان المقدمة تفترض صحة الاستنتاج بدلا من دعمه. المشكلة هنا هي ان دوكنز يفترض توضيحا طبيعيا ومتدرجا لتنوّع الحياة على الارض. هو يدّعي ان هذا يجب ان يكون صحيحا للمرء بدون مغادرة كرسيه (تبرير فلسفي وليس علمي)، لأن أي من التوضيحات الاخرى يمكن استبعادها كون الافتراض الاساسي (المبدأ الاول) لايمكن ان يأتي من أي افتراض آخر. يستنتج وليمز ان دوكنز اتخذ هذا الموقف الفلسفي (الغير علمي) لأنه يريد استبعاد المصمم الذكي القبلي.

في الحقيقة، ما كان يجب لدوكنز القول ان المرء يستطيع ان يرى حقيقة التطور الداروني بدون مغادرة كرسيه. البايولوجيا التطورية هي علم تجريبي، وهي فقط لأننا بعد اكثر من قرن ونصف من التحقيق استنتجنا انها احسن التوضيحات المتوفرة لتاريخ الحياة على الارض. لكن هناك تمييزات حاسمة فشل وليمز في عملها: 1- التدرج الداروني هو فقط واحد من مجموعة واسعة من التوضيحات الطبيعية للتطور(اخرى تتضمن لاماركية، وorthogenesis، وsaltationism)(1). وبينما هو في الحقيقة التفسير المقبول حاليا على نطاق واسع من جانب العلماء، لكن من الخطأ اعتباره اللعبة الوحيدة في المدينة بسبب مقبوليته) كل من دوكنز ووليمز يجب ان يأخذا بالاعتبار اهمية التمييز بين الطبيعية الفلسفية والطبيعية المنهجية.(2) الطبيعية الفلسفية هي الموقف بان كل ما هو واقعي هو طبيعي، لا مكان هناك لما فوق الطبيعة . ولكن ما يتبنّاه كل العلماء هو الطبيعية المنهجية، الموقف العملي بان احسن طريقة للعثور على توضيح قابل للاختبار للظاهرة هو ان نفترض بان القوانين الطبيعية فقط هي التي تعمل. وبينما اصحاب نظرية الخلق يولون اهمية كبيرة لهذا "التحيز" المزعوم، في الحقيقة كل واحد منا يتصرف كطبيعي منهجي في معظم الأوقات. نحن نرغب المراهنة على ان سيارة ويلمز لو تعطلت في المرة القادمة هو سوف لن يذهب للكنيسة ويطلب من القس اصلاحها، بدلا من ذلك هو سوف يأخذها الى الميكانيكي، يبحث عن حل طبيعي للمشكلة. وحتى لو لم يجد الميكانيكي أي علاج، فان وليمز سوف لن يلجأ الى الله، ولكن سوف يتخلى عن السيارة مفترضا ان الحقائق هي ببساطة غير كافية للعثور على العلاج الطبيعي الصحيح، وانه من الأفضل استعمال وسيلة اخرى للنقل.

3- المأزق الكاذب The false Dilemma

خياران اثنان فقط يُطرحان عندما تكون هناك خيارات ممكنة اخرى . يقتبس وليمز من دوكنز قوله ان تفسير وليم بالي الخارق للطبيعة في تعقيدية الحياة وخيار دارون الطبيعي هما يمكن ان يحدثا في وقت واحد دون اعتماد احدهما على الاخر. وليمز يقتبس من ميكائيل بول Michael pool في توضيح الاختلاف بين التوضيحات بالنسبة لوكالة وتلك المتعلقة بالآليات. لايجب ان يكون الاثنان متناقضين طالما ان وكيل معين (لنقل الله) يمكنه استعمال آلية معينة (لنقل اختيار طبيعي) لتحقيق أي هدف يريده.

نحن نرى مشكلتين في موقف وليم: الاولى انه يراوغ حول بالي. بالي لم يكن يتحدث حول الله فقط كوكيل يقرر التعقيدية البايولوجية، هو اعتقد في الله ايضا كونه آلية. وبكلمة اخرى، من المفارقة التاريخية ان نرى بالي كتطوري مؤمن طالما هو كان يدافع عن العقيدة المسيحية التقليدية بان الله خلق الانسان وكل شيء اخر مباشرة، وليس من خلال فعل القوانين الطبيعية. ثانيا، بينما على المستوى الاكثر عمومية بول هو صحيح في ان الوكالة والآلية ليستا معتمدتين على بعضهما بالضرورة، لكن فكرة"الله فعل ذلك" ببساطة لاترقى الى مستوى التوضيح العلمي (او، في الحقيقة، كأي نوع من التوضيح)، لأنها لاتضيف أي شيء للمخطط التوضيحي.

4- مغالطة المراوغة The fallacy of Equivocation

المراوغة هي كلمة تُستعمل في سياقين مختلفين ويُفترض ان يكون لها نفس المعنى في كلا السياقين، بينما يتم تفضيل معنى معين. وليمز هنا يرى دوكنز غيّر معنى كلمة "تصميم"، صاغها لتوضيح لماذا ظهور التصميم في الكائنات البايولوجية هو فقط ذلك الظهور. يقول دوكنز ان هناك اشياء طبيعية كأنها في الظاهر نتيجة تصميم، مثلا صخرة معينة تبدو على شكل وجه الرئيس الامريكي. هو يدّعي ان هذا نفس نوع الظاهرة التي تغري الناس للاعتقاد ان عين الفقريات مصممة. المشكلة هي ان النوع الاول من "التصميم" هو واضح (أي، الناس مباشرة يدركون ان الوجه لم يكن منحوتا)، بينما الثاني اكثر دقة ووليم يدّعي انها لذلك تعود لصنف مختلف.

يرى البعض ان وليم كان صائبا جزئيا هنا: دوكنز اختار فعلا مثالا سيئا ولأسباب خاطئة جوهريا. التشابه بين النتوء الصخري ووجه الانسان هو نتيجة سبب عشوائي بالكامل (اشكال الرياح، استمرارية الصخرة وغيرها)، بينما الكائنات البايولوجية هي محصلة لعمليتين اثنين: تغيير في الـ DNA (الذي هو عشوائي) والاختيار الطبيعي (الذي هو كل شيء الاّ عشوائي). هذا يفسر لماذا دوكنز كان غير قادر على التعامل مع المشكلة. غير ان النقطة الاساسية لدى دوكنز يمكن انقاذها عبر استعمال مقارنة أفضل. هناك عمليات طبيعية غير بايولوجية تعطي انطباع المصمم الذكي وتزودنا بموازي اكثر قربا الى التطور. فمثلا، في العديد من السواحل الصخرية هناك حصى مرتبة حسب الحجم تشغل حيزا بدءاً من خط الماء باتجاه الداخل بشكل غير عشوائي تماما. هذا ليس بسبب ان شخصا ما جمع كل الحصى من المحيط ووزنها بعناية وبنى الساحل. بل ان الشكل خُلق بفعل عمل مشترك لعمليتين اثنين: الفعل (العشوائي) للامواج وتأثير الجاذبية (غير العشوائي).

5- اللاتتابع The Non Sequitur

هو تعليق او ادّعاء لا ينطلق منطقيا مما قيل سلفا، بل يُعرض كما لو كان كذلك.

وليمز هنا يترك الساحة تماما لإقتباس من ستيفن بار الذي يتّهم دوكنز بمحاولة الدفاع عن العلم ضد ادّعاءات كونه "كئيب" و"جاف"، بينما لايعترف بان "الجمهور" يثير تلك المعارضات لـ الإلحاد، وليس للعلم ذاته. ظاهرا، يبدو دوكنز انه لا يرى الاختلاف بين العلم والالحاد.

من الصعب فهم بالضبط ماهي التهمة هنا، وخصوصا لماذا هذا سيكون مثالا لعدم التتابع. نحن نأخذ هدف وليمز المقصود من النقد هو الانتقال من اكتشافات العلوم الى الموقف الفلسفي من الالحاد. دوكنز يعلن احيانا ان إلحاده تعزز بالفهم العلمي للعالم: كلما اكتشف العلم الكثير عن الطبيعة كلما قلّت مساحة التدخل الماورائي المباشر. الان، اذا كان دوكنز يعني بالالحاد ما تضمّنه التطور منطقيا، عندئذ هو بالتأكيد خاطئ. ومن جهة اخرى، لإشتقاق استنتاج فلسفي (اخلاقي، وجودي وما شابه) من افضل ما موجود من المعرفة في العالم هو بالتأكيد ليس غير منطقي، وعمله سيكون شيئا عقلانيا. لذلك، فان التمييز الهام هو بين الالحاد المبلغ عنه بالعلم (والذي هو معقول)، وذلك الالحاد الذي جُعل ضروري منطقيا بواسطة العلم (والذي هو غير منطقي).

6- المعايير المزدوجة Special Pleading

هي المغالطة بأن ينتقد احد آخرين لعدم مراعاة معايير وقواعد معينة بينما يعفي نفسه من ذلك دون تبريرات كافية. المغالطة هنا تكمن في حقيقة ان دوكنز من جهة يرفض "الله" كتوضيح، على اساس لا وجود هناك لطريقة تخبرنا من أين جاء الله ذاته.

نحن نرى ثلاث مشاكل في موقف وليمز:

1- الاختيار الطبيعي لم يُقصد به ابدا كنظرية في أصل الحياة، بينما نظرية "الله فعل ذلك" واضحة .

2- دوكنز سينشغل في معايير مزدوجة خاصة اذا لم يعرض تفسيرا لكيفية بدء الاختيار الطبيعي (ليس الحياة)، طالما ان المبدأ التوضيحي الموازي لـ "الله" هنا هو الاختيار، وليس الحياة (الحياة هي ما مطلوب توضيحه من جانب أي "فرضية"). لكن البايولوجيا التطورية فعلا لديها توضيح لكيفية مجيء الاختيار الطبيعي للوجود: انه حدث حالما كان هناك سكان من استنساخ ذاتي، متغير، جزيئات. لا وجود لمثل هذا التوضيح في الله.

3- مرة اخرى، "الله فعلها" ليس توضيحا وانما طريقة خيالية للاعتراف بالجهل: التوضيح هو تفسير لآلية (مثل الاختيار الطبيعي)، وليس تسمية توضع على الحقائق.

7- التفكير الرغبوي Wishful Thinking

وفيه يتم عرض عقيدة لأنها او لأن نتائجها يُراد ان تكون صحيحة.

يقتبس وليمز من كتابات دوكنز بان لا احد يعرف كيف نشأت الحياة على الارض، بل انها يجب ان تكون نشأت بفعل أسباب طبيعية. اذا كان دوكنز يصل لهذا الاستنتاج – كما يدّعي وليمز – بسبب موقفه الفلسفي من الطبيعية (مثل الإلحاد)، عندئذ هو في الحقيقة يكون منخرط في تفكير رغبوي (مع انه ليس اكثر من الجانب الآخر عندما يقول ان الحياة يجب ان تكون نشأت بفعل خالق خاص). غير ان هناك تفسير اكثر اعتدالا لإدّعاء دوكنز: هو فقط كونه عالم جيد في قبول منهجي بان الطريقة الوحيدة للعثور على توضيح علمي لأصل الحياة هو الافتراض المبدئي بانه لا يتضمن تدخّل ماورائي. ربما لا يحب احد ما فكرة ان العلم مقيّد بالتوضيحات الطبيعية، لكن من الصعب ان نرى أي نوع من التجارب او الفرضيات القابلة للاختبار تنشأ من إدخال امر ما ورائي الى هذه المسائل. وايضا نحن نشير الى ان إعلان وليمز بان هناك "كمية كبيرة من الدليل العلمي المضاد" لنظرية طبيعية لأصل الحياة هو ببساطة أمر زائف (انظر مثلا ظهور الحياة على الارض: رؤية تاريخية وعلمية، لفراي Fry، مطبعة جامعة روتجرس، 2000).

8- صرف الانتباه عن القضية الأساسية The Red Herring

وفيه ان مقدمة او موضوع غير ملائم يتم ادخاله في النقاش لصرف الانتباه عن الموضوع المراد نقاشه. عادة، اللاملائمة تكون ماكرة ودقيقة جدا كي تبدو ملائمة لمنْ لا يركزون انتباههم جيدا.

هذه في الحقيقة صيغة اخرى للمعارضة التي برزت تحت المغالطة رقم 6، ولكن بحيلة مختلفة. يدّعي وليمز ان المشكلة الحقيقية لنظرية التطور هي في توضيح أصل البروتينات المحفزة (انزيمات) واتّهام دوكنز في صرف انتباه قرائه عنها عبر إدخال الاختيار الطبيعي كتوضيح للكيفية التي اصبحت بها الانزيمات اكثرا تعقيدا بدءاً من جزيء بسيط.

مرة اخرى، التطور عبر الاختيار الطبيعي لم ولن يُقصد به كنظرية لأصل الحياة. من المفارقة، انهم اصحاب نظرية الخلق هم من صرف الانتباه عن هذه القضية طالما هم يستمرون في سوء تفسير نظرية التطور. الاختيار الطبيعي قادر تماما على تغيير وتحسين الأفعال التحفيزية للبروتين، والذي هو كل ما تدّعيه النظرية. من جهة اخرى، صحيح اننا لانزال لا نعرف كيف نشأت بالأصل المستنسخات الاولى، لكن ما نحتاجه لنظرية طبيعية للاصل هو ان المستنسخين الأوائل first replicators كانوا بسيطين جدا لينشأوا عشوائيا، وهو افتراض محتمل. اخيرا، من المثير للانتباه ان وليمز يُدخل مفهوم "التعقيدية اللااختزالية" للبروتينات كما لو انها كانت مقبولة في العلم على نطاق واسع. انها ليست كذلك.

9- حجة رجل القش Straw man argument

وفيها يُعطى انطباع بدحض حجة الخصم في حين ان ما تم دحضه هو حجة لم يعرضها الخصم، وتسمى الحالة مهاجمة رجل القش.  

 انها مغالطة شائعة لأنه من السهل اساءة فهم موقف شخص آخر. ان محل الإشكال هنا هو حين يعلن دوكنز ان الفرق بين العلم والدين هو ان الاول مرتكز على الدليل "والحصول على نتائج" بينما لا ينطبق ذلك على الدين. وليمز، بغرابة، يعتبر هذا كهجوم على المسيحية بالذات ويؤكد بان هناك تقاليد مسيحية قوية في تقييم العقلانية.

اولاً، كان دوكنز يستهدف الدين بشكل عام وليس المسيحية خصيصا. ثانيا، النقد كان ان الدين ليس مرتكزا على الدليل، وهو ليس نفس الشيء في اتّهام الناس المتدينين بعدم تقييم العقلانية. يمكن للمرء بناء جدال عقلاني لمصلحة وجود الله ولكن لا يمكن للمرء إعطاء اي دليل لدعم هكذا بناء. العلم هو مكوّن لا ينفصم من ثنائية العقلانية والدليل: بدون الاخير(الدليل) سوف لن يكون هناك اختلاف عن المنطق او الفلسفة. اخيرا، بينما صحيح ان هناك تقاليد عظيمة للتحقيق العقلاني ضمن المسيحية، لكننا نحتاج لتذكير وليمز بان الكنيسة دائما ما وضعت قيودا قاسية على مثل هكذا "تحقيق حر"، لنتذكر فقط برونو Bruno وكوبرنيكوس وغاليلو.

التقليد العلمي للكنيسة الكاثوليكية هو بالتأكيد تجسّد جيدا باليسوعيين (على سبيل المثال، هم اداروا مرصد الفاتيكان الفلكي في ايطاليا)، ومع ذلك كان اليسوعيون هم من عارض غاليلو ورفضوا الاعتراف بالدليل الملموس الذي كان يعرضه من خلال تلسكوبه. ان أفضل مثال عن الاختلاف في كيفية تعامل الدين والعلم هو في رؤية العلاقة بين العقلانية والايمان.

10- التركيز على الشخص لا على ما يقول Ad Hominem

وفيها يتم مهاجمة الفرد بدلا من الحجة. دوكنز، وفي ضوء شخصيته الفضة، يشبّه الناس الذين يؤمنون بالله بالاطفال الذين يؤمنون ببابا نويل. ويلمز يعتبر هذا كهجوم على الشخص، وعليه فهو مغالطة منطقية. يستمر وليمز بعد ذلك، بغرابة نوع ما، للقول انه حتى الاطفال هم احيانا صائبون ولذلك لايستطيع المرء رفض العقائد الطفولية كليا. نحن نوبخ دوكنز للغته والتي من المؤكد تثير الغضب. من جهة اخرى، هذا لا يرقى الى مغالطة لأن دوكنز لا يستعمل معادلة "الايمان بالله = تفكير طفولي" كحجة ضد وجود الله. بالعكس، هو يبدأ بمقدمة ان الله هو قصة خيالية ومن ثم يستنتج (باسلوب منطقي سليم، اذا قبل المرء المقدمة) بان الايمان بالله هو طفولي كالايمان في قصة خيالية. بالطبع الأطفال (او الكبار الطفوليون) يمكن ان يكونوا صائبين في أشياء معينة، لكن سقراط (في حوار مينو) يجادل بطريقة مقنعة ان العقيدة الصحيحة بدون سبب لا شيء فيها يمكن التفاخر به.

11- تسميم البئر poisoning the well

وهو شكل من الهجوم على الشخصية يحدث قبل الدخول في صلب النقاش مشجعا المشاهدين للوقوف ضد الجانب المعارض قبل ان يعرض موقفه.

دوكنز مرة اخرى استُهدف في لغته. في بعض كتاباته هو يدّعي ان لا عالم مؤهل يشك في حقيقة التطور، وهو ما معناه بان المرء لا يجب ان يولي اهتماما لحجج تُعرض من ناس لا يؤمنون بالتطور، لأنهم ببساطة غير مؤهلين للخوض في هذه المسائل.

كما في حالات اخرى، نحن نتفق مع نقد لغة دوكنز والتي هي بوضوح فيها كثير من المبالغة (لو بحث احد بجد سيجد خبيرا مؤهلا يشك بميكانيكا الكوانتم والتي هي وفق معظم الحسابات أفضل نظرية علمية). دوكنز يمكن اعتباره "يسمم البئر" هنا. مع ذلك، نحن نجد وليمز بدوره غير نزيه نوع ما(ويعتمد على المغالطة في ذاتها عندما يستشهد بثلاثة مختصين ومؤلفين غير منحازين لجانبه: وليم ديمبسكي، جوناثان ويلس، وتوماس وودورد. جميع الافراد الثلاثة هم من المدافعين عن الديانة المسيحية ولذلك لا يمكن اعتبارهم غير منحازين ايديولوجيا (لاحظ بينما دوكنز هو ملحد علني، هناك عدد كبير من الناس المتدينين من مختلف الجماعات الدينية هم من بين العلماء التطوريين). كذلك، ديمبسكي لديه شهادات في الرياضيات والفلسفة، وودورد يدرّس الثيولوجي في مدرسة مسيحية اصولية، ويلس لديه شهادة بالكيمياء البايولوجية وبايولوجيا الجزيئات. لا احد منهم مؤهل للتعليق على التطور لسبب بسيط وهو ان شهاداتهم ليست في العلوم البايولوجية العضوية. مثلا، ماسميو بجلوسي لديه دكتوراه في علم النبات، والذي هو علم بايولوجي عضوي، لكنه لايشعر ابدا انه مؤهل للتعليق على معقولية ميكانيكا الكوانتم. تماما مثلما احد لديه دكتوراه هو غير مؤهل اوتوماتيكيا للخوض في كل الموضوعات.

العلوم الفلسفة وحدود المنطق

هذا النقاش بالكامل مرتكز على مفهوم المغالطات المنطقية. لكن التفكير يمكن ان يكون منطقيا صحيحا في نفس الوقت الذي يكون فيه مضللا وخادعا. فمثلا، احدى المغالطات الكلاسيكية هي (بعد ذلك، لهذا بسبب ذلك)، حيث يستدل المرء ان السبب لنتيجة معينة هو حدث ما باعتبار ان السبب المزعوم سبق النتيجة في وقت قصير(مثل انا استيقظت في الصباح مع ألم في المعدة، انا تناولت مشروبا الليلة الماضية، بالتالي المشروب هو سبب الصداع).

من المهم ادراك المغالطة أعلاه: اذا ربط احد بين حدثين قريبين مؤقتا من بعضهما، وكان الاول يسبب الثاني، هذا بوضوح غير صحيح. لدينا الكثير من الأمثلة عن التسلسل الزمني لا يوجد ترابط سببي بين عناصرها (مثل الليلة الماضية صادف ان يكون القمر كاملا، لكن هذا لا يُحتمل ان تكون له علاقة بالألم لدي هذا الصباح). غير انه من العقلاني تماما بدء التحقيق في أسباب مرتكزة على الارتباطات، والتي هي بالضبط ما يقوم به العلم. لو عرفتُ ان نوعا معينا من الشراب يميل ليسبب ألما في افراد معينين، وكنت باستمرار أرى انه عندما اتناول ذلك النوع من المشروب أشعرعادة بألم في الصباح التالي، عندئذ سيكون لدي تبرير منطقي في استنتاج مؤقت (بانتظار مزيد من الأدلة) بان الألم الذي اشعر به هو حقا ناتج عن تناول ذلك المشروب (لذا يجب ان أتوقف عن تناول مثل هذا المشروب).

يتبع من كل هذا ان العلم هو بالأصل اتجاه يقود فقط الى استنتاج غير مؤكد، بينما لو يرغب احد بالحقيقة فهو مقيّد بعالم المنطق والرياضيات. الفلسفة تشغل منطقة هامة بين هذين الاتجاهين: الفيلسوف يحاول بناء جدال منطقي مضاد للرصاص(أي يسعى لحقيقة منطقية)، المقدمة لتفكيره يمكنها فقط ان تكون من نوعين(شوكة هيوم الشهيرة). اما مقدمة تبدأ بأقوال عشوائية وبلا أساس حيث يكون فيها حتى التفكير المترابط منطقيا لا يقود الى شيء، او مقدمة تبدأ بملاحظات تجريبية حول العالم، والفلسفة لهذا تشترك ببعض قيود العلم. الكثير من الحبر والمشاعر السيئة يمكن تجنبها لو ادرك الناس ان الجنس البشري (باستثناء المنطقيين) لا يمكنه الحصول على الحقيقة، انما فقط أكثر او أقل احتمالا.

***

حاتم حميد محسن

..........................

الهوامش

(1) اللاماركية Lamarckism: هي نظرية في التطور اقترحها الطبيعي الفرنسي جين بابتس لامارك عام 1809 تؤكد على ان التغير المادي في الكائنات الحية والخصائص المكتسبة التي تطورت اثناء حياتها- مثل التطور الكبير للنوع او للعضو- هي استجابة مباشرة لتغيّر خارجي في البيئة او بسبب استعمال او عدم استعمال العضو وهي يمكن ان تنتقل الى الذرية، مثال على ذلك الزرافة التي طورت رقبة طويلة كي تستطيع التقاط اوراق الاشجار. النظرية أثّرت على فكر التطور طوال القرن التاسع عشر.

اما الـ orthogenesis: او التطور التدريجي اول من ادخل المصطلح ولهيلم هيك عام 1893. هو عبارة عن تطور متصاعد او فرضية بايولوجية مطلقة تفيد بان الكائنات الحية لديها ميل فطري للتطور في اتجاه محدد نحو هدف معين (تيلولوجي) بفعل بعض الآليات الداخلية او القوى الدافعة. طبقا للنظرية، ان اكبر نزعات التطور لديها هدف مطلق مثل زيادة التعقيدية البايولوجية. من المؤيدين للنظرية لامارك وهنري برجسون. بعض البايولوجيين مثل ارنست ماير رفض عام 1948 النظرية في مجلة الطبيعة معتبرا انها تنطوي على قوة ماورائية.

 النوع الثالث من فرضيات التطور هو الـ Saltationism وهو الايمان بان التطور يعمل بفعل تطور مفاجئ او طفرات لأنواع جديدة او خصائص بايولوجية من جيل الى الجيل اللاحق ليؤسس على الفور انواعا جديدة .

(2) للتمييز بين الاثنين، الطبيعيون المنهجيون methodological naturalists يقيّدون بحثهم العلمي فقط بدراسة الأسباب الطبيعية لأن اي محاولة لربط العلاقات السببية مع قوة غيبية هي غير مثمرة وتقود الى خلق نهايات ميتة للعلم. ولتجنب هذا الفخ يفترض العلماء ان جميع الاسباب هي تجريبية وطبيعية، يمكن قياسها ودراستها منهجيا. هذا ما يفصل الطبيعية المنهجية عن المذهب الطبيعي الفلسفي philosophical naturalism الذي يطرح ادّعاءً فلسفيا بأن الأسباب الطبيعية هي وحدها موجودة، على عكس الطبيعية المنهجية التي هي فقط وسيلة بحث ولا تدّعي الحقيقة

 

تتشكل المجتمعات الحديثة من خلال القانون، وترى المجتمعات الديمقراطية نفسها على أنها دول دستورية. هذا يعني أن جميع سلطات الدولة ملزمة بالقانون. فاذا كانت الدولة تريد فرض شيء ما، فإنها تفعل ذلك بالوسائل القانونية. القانون اليوم هو الإطار المركزي للناس للعيش معا في المجتمعات الحديثة. ما هو أكثر من ذلك: يتم تفسير القانون من وجهة نظر اجتماعية فلسفية في الغالب بوصفه تعبير عن عقلانية المجتمعات. فحيثما يحكم القانون، يسود العقل أيضًا؛ يخضع المجتمع لمطالب معينة للعقل من خلال الشكل القانوني لتنظيمه الذاتي.[1]

الهدف من القانون كتعبير عن العقل هو في الأساس احتواء العنف غير المشروع وتبرير الأشكال المشروعة للعنف (الدستوري). لذلك غالبًا ما يرتبط القانون والعنف ببعضهما البعض، ولكن ، قبل التمكن من فحص هذه العلاقة عن كثب، نطرح السؤال عما يجب أن يفهم من معنى القانون وما هي الوظيفة الاجتماعية التي يتمتع بها.

أدى التفكير الفلسفي في القانون، كما ذلك في السياسة، إلى ظهور فلسفة القانون.لايقدم هذا الحقل الفهم الفلسفي المقنع للقانون المنشود فقط، ولكن مناقشة العديد من التطورات الحالية في القانون في عصر العولمة فلسفيًا أيضًا. وأنه مهم للفلسفة الإجتماعية، أيً له أهمية كبيرة في العمليات والبنى الاجتماعية والسياسية المتنوعة. لهذا السبب من المهم تناول الجوانب الاجتماعية والفلسفية الأساسية للقانون ايضا، مثل تلك التي عالجها هيجل في محاضراته حول فلسفة القانون.[2]

غالبًا ما تتميز حياة الناس اليومية بمصالح مختلفة. يمكن أن تؤدي هذه المصالح المتباينة إلى نزاعات بينهم. ويمكن أن تكون هذه النزاعات ذات طبيعة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. يساعد القانون في مثل هذه الحالات في التعامل أومعالجة مع هذه النزاعات، وإذا أمكن، حلها. يتم التعامل مع اختلافات المصالح بين الناس والجماعات والمؤسسات في الدول الدستورية باستخدام وسائل القانون. إن لها، من وجهة نظر اجتماعية فلسفية، وظيفة تنظيمية وهي تختلف عن الأخلاق كشكل آخر من أشكال التوجه للتعايش الاجتماعي في الوقت نفسه. لأنه ليس كل ما يعتبره الناس حقًا أو ضروريًا من الناحية الأخلاقية يجب أن يكون قانونيًا بشكل تلقائي أو منصوصًا عليه في القانون.

يفسر هابرماس[3] القانون من منظور النظرية الاجتماعية، على أنه غشاء بين العالم المُعيش والسياسة. تعتمد المجتمعات الحديثة على تبرير شرعية القانون دون اللجوء إلى المصادر التقليدية كالأديان مثلا. لذلك تم وضع نموذج قانوني إجرائي في العديد من المقاربات اليوم، حيث تتطلب مشاركة المواطنين في العمليات السياسية وضعهم كأشخاص قانونيين. ومع ذلك، فإن مشكلة المجتمعات في هذا المجال هي أن القانون أصبح أكثر انفصالًا عن عالم الحياة. غالبًا ما لا يظهر الناس كمشرعين ومخاطبين من قبل لقانون في الوقت نفسه. يشكل القانون نظامه الخاص بالمعنى الذي يقول به لومان، ،[4] حيث يكون مستقلاً عن المواطنين غالبا ، وبالتالي بعيدًا عن الحياة. بينما يرى الكثير من الناس أنفسهم في مواجهة تقنين هائل للمجتمعات الحديثة.

ولكن ما هو القانون بالضبط وكيف يمكن تعريفه من منظور اجتماعي وفلسفي قانوني؟ قدمت إجابات مختلفة عبر التاريخ، بعضها أمثلة مهمة.

فمثلا يعد القانون الطبيعي من الناحية التاريخية أحد أقوى نماذج الفلسفة الاجتماعية والقانونية في العصور الوسطى وأوائل العصر الحديث. يشير القانون الطبيعي إلى القانون والذي يسبق أي تشريع وضعي حيث يشارك فيه الإنسان بوصفه انسان وتقوم عليه كرامته الإنسانية. تتضمن مفاهيم القانون الطبيعي مبررات مختلفة تشير إلى ما وراء القانون المعطى بشكل وضعي. يمكن أن تكون اعتبارات توما الأكويني من العصور الوسطى بمثابة مثال لمفاهيم القانون الطبيعي. إنه يميز ثلاثة مستويات من القانون، وهي القانون الأبدي والقانون الطبيعي والقانون الوضعي. أساس كل حق هو نظام الخلق الذي وهبه الله. يمكن لكل إنسان أن يفهم القانون الذي قدمه الوحي الإلهي (مثل الوصايا العشر) من خلال موهبته الطبيعية في العقل.

أخذ الفلاسفة القانونيون، في الفترة الحديثة المبكرة ،هذه الاعتبارات للقانون الطبيعي، لكنهم فصلوها عن أساسهم الديني ونقلوها إلى مفاهيم قانونية عقلانية. فاصبح ينطبق القانون الطبيعي حتى لو لم يكن الله موجودًا. تسبق القواعد القانونية القائمة على القانون الطبيعي القانون الوضعي  في الاهتمام بأمن المجتمع وممتلكاته.

إذا قارن المرء المناهج المختلفة للقانون الطبيعي ، فيمكن التمييز بين مستويين من المحاججة: من ناحية ، يتم تفسير القانون الطبيعي على أنه يقع فوق النظام الذي تفرضه الدولة. وبالتالي، يتم سحبه من الوصول إلى الهيئة التشريعية ويهدف في نفس الوقت إلى إضفاء الشرعية على نظام الدولة. ومع ذلك، في حالة النظام غير العادل، يمكن أيضًا استخدام القانون الطبيعي لتبرير المقاومة. من ناحية أخرى، يتم تفسير القانون الطبيعي على أنه نظام يتم تحديده من حيث المضمون أيضًا. فيوفر القانون الطبيعي، في هذه الحالة، معايير محددة للتعايش الاجتماعي.

تلعب الحجج القائمة على القانون الطبيعي دورًا مهمًا في المناقشات السياسية حتى يومنا هذا. لقد أشار الفلاسفة الاجتماعيون في النقاش الحالي حول حقوق الإنسان مرارًا وتكرارًا على سبيل المثال إلى أن جميع الناس لديهم هذه الحقوق بسبب إنسانيتهم. فيتم تحديث تفسيرات القانون الطبيعي بهذه الطريقة. ومع ذلك، أصبح العديد من مشاكل القانون الطبيعي واضحًا في السنوات الـ 200 الماضية أيضًا. تُشتق المعايير في القانون الطبيعي على سبيل المثال من نظام طبيعي للوجود وفي الوقت نفسه مفترضة مسبقًا، ولا تبدو معقولة في الدول الدستورية العلمانية.

يتراجع ممثلو المثالية الألمانية في مواجهة مثل هذه النقاط من النقد عن افتراضات القانون الطبيعي ، لكنهم يتشبثون كثيرًا بفهم القانون باعتباره نموذجًا معياريًا. يمكن كشف هذا في اعتبارات كانط وهيجل على سبيل المثال، اللذين - على الرغم من اختلافاتهما- يتفقان على هذه النقطة.

يعتبر كانط ممثلًا للتفكير القانوني العقلاني. تقوم فلسفته العملية على افتراضين مركزيين: أولاً، الفصل بين ماهو كائن وما يجب أن يكون، وثانيًا، التركيز على العقل. فالعقل هو القاضي في توضيح كيفية تصرف الإنسان. يمكن تفسير فهم كانط للقانون على هذه الخلفية. ويمكن، بالنسبة له، التعرف على القانون من العقل العملي أيضًا، حيث يتوافق المطلب القانوني مع الأمر الأخلاقي المطلق. أي أنه في عمل صحيح  يمكن أن توجد حرية الاختيار لكل فرد جنبًا إلى جنب مع حرية الجميع وفقًا لقانون عام" اجباري. وعليه، فإن هذا لا يعني شيئًا سوى" السماح لمفهوم القانون ان يجد تطبيقه في نظام السلطات القسرية المتبادلة. وهذا يفسر أهمية الدولة الدستورية الجمهورية في مفهوم كانط، لأنها وحدها التي تتمتع بالسلطة الشرعية لجعل القانون ملزمًا وبالتالي تنظيم الحياة الاجتماعية.

يلعب هذا المفهوم للتفكير القانوني العقلاني دورًا مركزيًا في اعتبارات كانط من حيث نظرية العقد في هذا العصر أيضًا. تهدف الحجة الأساسية إلى الاعتراف المتبادل بالناس كأشخاص قانونيين. فيصبح القانون هو المبدأ التأسيسي للعدالة. وهذا هو سبب ارتباط سيادة القانون والفصل بين السلطات والمؤسسات الديمقراطية ارتباطًا وثيقًا فيما بينها.[5] أن التوجه نحو مفهوم العقل والمحاججة الأستدلالية هو من يتولى الفصل بين الكائن والواجب. وعليه يرتبط القانون والعدالة ارتباطًا وثيقًا.

المفهوم الثاني للمثالية الألمانية، والذي له تأثير كبير على الفلسفة القانونية والاجتماعية حتى يومنا هذا، هو مفهوم هيجل. يركز هيجل مثل كانط على العقل كأساس لفلسفته القانونية، وقد عبر عن ذلك في جملته الشهيرة: "ما هو معقول هو واقعي؛ وما هو واقعي هو معقول".[6] إن الحق بالنسبة لهيجل هو وجود الإرادة الحرة  التي يؤكد من خلالها على العلاقة بين الحق والحرية أيضًا. يفسر هيجل هذه العلاقة لا استنتاجيًا ولا خطيًا، ولكن كعملية ديالكتيكية على عكس التقليد الكانطي. إنه مهتم بالتغلغل المتبادل للجانب الفردي والجماعي، أيً، العلاقة الديالكتيكية بين الخاص والعام.

العنصر الأساسي لفلسفة هيجل في القانون هو مجال الأخلاق (الأسرة والمجتمع المدني والدولة)، والتي تم تعريفها على أنها نظرية الاعتراف ولكل منهما تفسيره الخاص. من المهم تفسير هذه الأشكال المحددة للسياق من القانون على أنها تعبير عن الروح في طريقها الاجتماعي نحو الحرية، وهي تقلل من النزعة الفردية الفلسفية القانونية، لأنه لا يمكن تفسير الدولة على أنها مجموع المصالح الفردية من وجهة نظره. هناك نقطة ثانية للنقد عند هيجل وهي  خاصة بالنظر إلى المفاهيم المستوحاة من الكانطية، أي نقده لمبررات النظرية التعاقدية للقانون. أنها تنقل، وفقًا لهيجل، بشكل خاطئ فكرة من الاقتصاد إلى القضايا الاجتماعية، فيتم تفسير القانون بها بطريقة اختزالية.

ما يزال كلا المفهومين لكانط وهيجل نموذجين للأشكال الأساسية من الجدل في الفلسفة الاجتماعية والقانونية. فهناك مفاهيم عقلانية تستمد بشكل استنتاجي معنى القانون من الأخلاق من ناحية. ومن ناحية أخرى، هناك فلسفات اجتماعية استقرائية تبني فهم المعيارية والقانون على اساس إعادة بناء معناها من خلال الممارسات الاجتماعية المتنوعة ومجالات الأخلاق. ومع ذلك هناك علاقة وثيقة، في كلا الجانبين، بين القانون والمعيارية ( عند كانط  وهيجل في الأخلاق). بالإضافة إلى ذلك، يعمل القانون في كلتا الحالتين باعتباره نموذجًا معقولاً، يمكن تبريره بطرق مختلفة، ولكن يجب أن يتيح توجهاً (معياريًا) للحياة الاجتماعية في شكله الاجتماعي.

تم التعبير عن هذا المفهوم للقانون في المتغيرات المختلفة للوضعيات القانونية، والتي تطورت على مدار الـ 200 عام الماضية. يجب أن يرتكز حل النزاعات الاجتماعية على القانون الوضعي فقط من منظور هذا التيار. يشمل القانون الوضعي القواعد القانونية التي تطبق في الدولة من خلال سلطة الدولة لإضفاء الشرعية. وتنجم شرعية معيار قانوني فقط عن وضعه الواقعي أو فعاليته الاجتماعية. نشير هنا مرة أخرى على النقيض من موقف هيجل إلى الفصل بين مستويين من الوجود والوجوب، ولكن من أجل تحرير القانون من أي وظيفة توجيه (معياري).

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...........................

[1] Hoffe, 0.: Reasons for Action and the Law, Springer; 1999.

[2] أنظر: هيجل: أصول فلسفة الحق، ترجمة وتقديم وتعليق د.إمام عب الفتاح إمام، دار التنويرن بيروت،ط2، 2005.

[3] Habermas, J.:Between Facts and Norms: Contributions to a Discourse Theory of Law and Democracy.

[4] Luhmann, N., Introduction to Systems Theory, Polity, edition  2012

[5] أنظر:

Hoffe, 0.: Reasons for Action and the Law, Springer; 1999.

والربيعي، د. علي رسول:  الحق والعدالة الاجتماعية

https://www.almothaqaf.com/aqlam-3/937886

[6] أنظر: هيجل: أصول فلسفة الحق.

يعد (أفلاطون 428 ق.م – 347 ق.م) من أهم تلامذة (سقراط)، وتعلم على يديه الكثير من الممارسات الفلسفية وخاصة بعد أن أفتتن بشخصية أستاذه وهو في العشرين من عمره، لما لـ(سقراط) من تأثير على الشباب في (أثينا)، وفي مقدمتهم (أفلاطون) الذي ينتمي الى أسرة أرستقراطية يونانية .

أوجد (أفلاطون) فلسفة واسعة الملامح نظّر من خلالها في أنواع مختلفة من المعارف الإنسانية،وجاءت أغلب فلسفته على شكل محاورات قدم فيها منهجه الفلسفي الذي حاول الأبتعاد عن الأسلوب المباشر لأستاذه (سقراط) الذي أعدم بسببه.

أراد (أفلاطون) من محاوراته أن يجمع فيها وجهات نظره على مر مراحل حياته، فمحاوراته لم تأتي كلها دفعة واحدة، بل قدمها على ثلاثة مراحل، الأولى في شبابه، والثانية في بلوع، والثالثة في أيام عمره المتقدمة، وتتألف هذه المحاورات " من (28) حواراً يتمتع أثنان منها بمقاييس مؤلف حقيقي (الجمهورية والقوانين) ومن رسائل تروي السابعة والثامنة منها مغامرات (أفلاطون) السياسية في (صقلية) .إنَّ الجمال الأدبي للحوارات التي تعكس شخصية (سقراط) وتتناولها، فضلاً عن تلامذته مثل (فيدون وثيتان، وجنود مثل لاشيه وسفسطائيين مثل جورجياس، حتى فلاسفة كبار مثل بارمنيد، وزينون، الخ ...) يتداخل مع الفكر الفلسفي، حيث أن طريقة الأسئلة والأجوبة هي الطريقة الوحيدة التي من شأنها أن تدفع المرء فعلاً الى التفكير يسمح توجيه الأسئلة للإنسان بأن يلد فكرياً (هذا هو التوليد) ويثير تضارب الآراء للاهتمام بالحقيقة (وهذه هي الجدلية ) " (1). وهذه المحاورات قد تضمنت من المعارف الفلسفية ما هو حافل بتوليد الأفكار وجدليتها مع حقيقة ما يهدف اليه (أفلاطون) في فلسفته، ولم تأتي هذا الممارسات الفلسفية عنده من فراغ، بل من خلال عمل وتجارب خاضها وخبرها في الحياة وأكسبها البعد التأملي الذي تميز به فلسفياً من خلال أفكاره في المعرفة والمثل والطبيعة والوجود والأخلاق وغيرها من النظريات التي حاول جاهداً أن يبحثها ويصل من خلالها الى مفاهيم وتطبيقات على المستويين النظري والعملي، وواحدة من هذه النظريات التي قدم لها (أفلاطون) ملامح فلسفية نظرية على وفق دراسة الأطر التطبيقية هي نظريته في الجمال المنطلقة من نظريته في (المُثل)، والأخيرة حقائق كلية ثابتة موجودة بالفعل وجوداً خارجياً ومفارقاً ومستقلاً عن الإنسان، في الوقت ذاته هي مصدر للمعرفة وعلة لها مثلما هي مصدراً لوجود الأشياء في العالم المحسوس وعلة له . إنَّ العلاقة بين عالم المثل والمحسوسات تتشكل على وفق ترتيب هرمي في قاعدته " توجد الأشياء المحسوسة في مظهرها الخارجي، ثم تعلوها المعرفة العقلية المتصلة بالأفكار المادية، ثم الأفعال وأنواع السلوك والأحداث والحركات، بما لها من سمو عن الجسم، ثم يأتي بعد ذلك النفوس الحقة، وتتلوها ذوات الأجسام، ثم ذوات النفوس ذاتها التي تلي الأفعال، ثم تعلو هذه الذوات المعارف الخالصة النظرية العقلية، المجردة عن كل مضمون أخلاقي، وأخيراً تتربع الصور تتوجها المثل الرئيسية التي يسميها المحدثون بالقيم " (2) .

إنَّ  المُثل الأفلاطونية ليست بظاهرة كالمحسوسات وجزئياتها في الواقع المرئي المسموع مثل نظام حسي اشتغالي يتعامل معه الإنسان يومياً على أساس حاجياته وما يريد أن يكون عليه في ظاهر الأشياء المحسوسة، بل أن المثل هي نظام كلي يحتوي على جميع ما يمكن أن نتصوره لأشكال حسية متعددة في الواقع لنوع واحد مثل الزهرة وصورها المختلفة والمتنوعة والمتعددة، التي تعود الى حقيقة كلية لمفهوم الزهرة على الرغم من اختلافها الوجودي في نظر المشاهد . وهنا نتسائل عن الجمال؟، وما هي المعرفة الجمالية الأفلاطونية في هذا المجال؟، ونعيد الحديث عن الزهرة كما في المثال السابق فنقول الافتراض الآتي: " أن أحد أجاب بإن علة الجمال في الزهرة هو شكلها، أو لونها، أو رائحتها، فإنه لا يعطينا سبباً لهذا الحمال، لأن الشكل،أو اللون، أو الرائحة قد تكون سبب قبح في أشياء أخرى غير الزهرة . إذن،  فعلة الجمال في الاشياء ترجع الى مثال الجمال وماهيته ومن ثم فالحقيقة تكمن في (المُثل) وليس في المحسوسات التي تمثل الظاهر" (3).

إنَّ عالم المثل الأفلاطونية منظومة مفاهيمية مكونة من كليات الأشياء وصورها في الوجود المادي بجزئياته واختلافاته وافراده في الحياة الطبيعية. من هذه النظرة قسم (أفلاطون) (المُثل) الى أنواع يدخل من ضمنها الجمال، فمثلاً تضم (المُثل) الافلاطونية بالإضافة الى الخير، والعدالة، والشجاعة، والعفة، والصبر،والكرم، يأتي الجمال من ضمن هذا النوع من المثل، كما تأتي (مُثل )الاشياء الجسمانية، ومنها الحصان، الإنسان، الشجرة، وغيرها من التجسيمات الظاهرة للعيان من ضمن هذه (المُثل) الجسمانية التي يضاف اليها (مُثل) الصفات التي ترتبط بهذه المثل الجسمانية، كالبياض، والسواد، والثقل، والحلاوة، والطول، والأرتفاع وغيرها . وهكذا يصنف (أفلاطون) (المُثل) في هذه الأنواع وغيرها , ولكنه وضع الجمال من (المُثل) الأخلاقية التي ترتبط بجمال الأشياء وفاعليتها . ونعتقد بأنه يشير الى جمال آخر يرتبط بالقيم الإنسانية . وهذه (المُثل) مجتمعة تميزت بخصائص، ومنها على سبيل المثال خاصية (الجواهر)، أي أنها حقائق مطلقة ووجودها كلي في ذاتها، وأنها كلية، ليست بجزئية، فهي، أي (المُثل) بجواهرها مطلقة، أي أن كل الأشياء تتوقف عليها باعتبارها من مبادئ الكون الأولى . فهي لا تقصد الإنسان بمسمى فردي (زيد مثلاً)، بل تقصد بوصفه مفهوم كلي، وهذه (المُثل) تقوم على خاصية أخرى هي الوحدة في الكثرة، فمجموع الأسماء لأفراد المجتمع عادة ما تطلق على (مثال) واحد هو الإنسان، فكل أفراد المجتمع يرجعون الى هذه الخاصية الإنسانية، وليست هذه التعددية في الأسماء كل منهم يرجع الى مثال إنسان مختلف، بل الى مفهوم الإنسانية الذي يجمع كل أفراد المجتمعات في العالم . وهذا المفهوم ثابت غير فان، ولكن من يفنى هو (زيد وعمر) كأفراد جسمانية خاضعة لطبيعة الفناء . وكل (مثال) هو ماهية للشيء ذاته للوجود الخارجي، وهذا المثال يقع في دائرة الكمال المطلق، أي لا يخضع للزمان والمكان من حيث الفناء والاندثار، وهذه (المُثل) لا تستوعب إلا من خلال العقل الإنساني الذي يدرك عالم المُثل، كون أن العقل عند (أفلاطون) هو المجال الوحيد القادر على هذه الممارسة في استيعاب عالم (المُثل). (4)

أضافة الى عالم (المُثل) الذي شكل الركيزة الأساسية في فلسفة (أفلاطون) ومنها ما أختص بالجمال، وكيفية توجيه الفلسفة الجمالية لديه ورؤيته لهذا العالم، فقد أضاف مفهوم آخر يتصل بالنظرية الجمالية وهو مفهوم المحاكاة وعلاقته بالظاهرة الفنية في مجالاتها المختلفة، ومنها الموسيقى والرسم والنحت والخطابة وغيرها من الفنون على الرغم من تشبه بعض الفنون إلا أنها لا تلبي نظريته في (المُثل)، وأنها محاكاة خادعة، ويشبهها بفكرة السفسطائي في تناول مفهوم الأقناع للأخرين الذين يتأثرون بالأوهام وليس بالحقيقة كما في محاورة (ثنيتتس والغريب) التالية:

" ثنيتتس: كلا فإنك ذكرت صنفاً متشعباً جداً، ويكاد أن يكون أوفر الأصناف تلوناً، ضممت فيه وحده كل الفروع.

الغريب: فنحن نعرف إذن، عمن يعد بأنه قادر بفن واحد أن يصنع كل شيء، هذه الحقيقة وهي أنه يصطنع أشياء تحاكي الموجودات وتقلب باسمها بواسطة فن الرسم، وعندئذ إذ يبدي الرسوم من بعيد، يضحى قادراً أن يستغفل البلهاء من الفتية الأحداث ليوهمهم أنه ينجز ما يشاء وأنه على أتم القدرة أن يحقق ذلك في الواقع"(5). إذن، يصبح الوهم الذي يقدمه فن الرسم يشبه بوهم السفسطائي الذي يوهم الشباب والفتية في جعل الأشياء التي يجمعها الرسام في أطار اللوحة قادر على أن يحققها في الواقع، ومن هنا فإن (أفلاطون) قد جعل من هذا الفن هو مشابه لفكرة السفسطائي في الاقناع، التي يعارضها (أفلاطون) في فلسفته.

يقسم (أفلاطون) المحاكاة الى نوعين في كتاب (السفسطائي) في المحاورة المستمرة ما بين (ثنيتتس والغريب)، يوضحهما في المحاكاة وكيفية النظر الى الفنون من خلالهما، على أعتبار أن (أفلاطون) يعطي أسباب عدم تماشي طبيعة هذه الفنون مع نظريته في المحاكاة، كما في المحاورة التالية:

" الغريب: طبقاً لطريقتنا السالفة في التقسيم، يظهر لي الآن أيضاً أنني أرى نوعين في فن المحاكاة، إلا إنه يبدو لي أنني عاجز بعد، في الوقت الحاضر، عن معرفة النوع الذي تكمن فيه فكرتنا المنشودة .

ثنيتتس: ولكن باشر أولاً، وفصّل لنا أي نوعين تعني .

الغريب: أرى فيه من جهة، فناً أولاً هو فن النسخ . قوامه على الأخص أن ينجز المرء إحداث (النسخة ) المحاكية، طبقاً لأقيسة المثال الملائمة طولاً وعرضاً وعمقاً . بالإضافة الى هذه، أن يؤتي النسخة الألوان اللائقة في كل من تفاصيلها .

ثنيتتس: ما بالك؟ ألا يسعى كل المقتدين الى تحقيق هذا الأمر؟

الغريب: كلا، على الأقل أولئك الذين يصوغون أو يرسمون تماثيل أو لوحات كبيرة . لأنهم لو كانوا يعطون أعمالهم قياس النماذج البهية الحقيقي، لبدت أقسام تلك التماثيل أو اللوحات العليا أدق مما يجب، وظهرت الأقسام السفلى أضخم من اللازم، لأننا نرى الأولى عن بعد، ونرى الثانية عن كثب وأنت تعرف ذلك .

ثنيتتس: فعلاً، الأمر على ما تقول بالضبط .

الغريب: إذن، ألا يدع فنانونا الحقيقة ترتع تاركين إياها وشأنها ليسبغوا على تماثيلهم (المرسومة أو المصوغة والمنحوتة)، لا الأقيسة الحقيقية، بل أقيسه تبدو بهية؟

ثنيتتس: فعلاً قولك في غاية الصحة .

الغريب:إذن ألسنا على حق إذا سمينا جزءاً (من هذا الإنتاج، إنتاج ) نسخة أو صورة لأنه يصور ويماثل .

ثنيتتس: أجل .

الغريب: والشطر من فن المحاكاة القائم على هذا الأمر، ألا يجب أن ندعوه، على ما قلنا من قبل فن النسخ؟

ثنيتتس: يجب أن ندعوه كذلك .

الغريب: وما رأيك؟ ما يُتخيل للمرء أنه يماثل الجميل وينسخه، بسبب مشاهدته من موقع غير مناسب،إذا تمكن المرء أن يراه رؤية وافية، وحينئذ لا يعود لا نسخة ولا مثيلاً لما يقال إنه نسخة عنه، ماذا ندعوه؟ ألا نطلق عليه أسم الخيال، لأنه يظهر هذا المظهر، وهو لا يشبه المثال؟.

ثنيتتس: لم لا؟

الغريب: أليس هذا القسم متفشياً جداً في رسم الأحياء، وجملة في فن المحاكاة؟ .

ثنيتتس: كيف لا؟

الغريب: والفن المنتج خيالاً، لا نسخة مصوّرة، إلا نسميه بكل صواب فن مخايلة؟

ثنيتتس: بكل صواب.

الغريب: هذان إذن النوعان اللذان عنيت في فن المماثلة (أو المحاكاة) فن النسخ وفن المخايلة " (6).

في هذه المحاورة التي أخترناها دون أن نقطع منها شيء، تتضح فكرة (أفلاطون) حول مفهوم المحاكاة والسبب الذي يجعله لا يتوافق مع الرسامين والنحاتين في اختيار قياسات النماذج في الرسم والنحت مما يجعلها تبدو متفاوتة بين أجزائها العليا والسفلى، وتقع مشكلة كل من الرسام والنحات بين الضخامة في التصوير وبين الحقيقة التي هي لها قياساتها المحددة، وتعد الأقيسة التي تبدو عليها أقيسة بهية، وليست حقيقية . وفي الأولى، أي الاقيسة البهية، تقع تحت فن المخايلة، بينما الأقيسة الحقيقة تقع تحت فن النسخ . والجمال على وفق هذه الرؤية الأفلاطونية قد تحدد على وفق المحاكاة بين نوعين منها على حسب هذه الأقيسة، وهما " المحاكاة السطحية،أي المعنى الشائع للمحاكاة . والنوع الثاني فن بصير بمحاكاة مستنيرة، لأنها تنطوي على علم من يمارسها بما يجب عليه أن يحاكيه من (مُثل) للخير والحق والجمال، وهذه المحاكاة لا توجد إلا عند الفنان ذي الثقافة الفلسفية الواسعة " (7). فالجمال على وفق مفهوم النوع الثاني من المحاكاة لا يأتي دون ممارسة جادة واعية ومعمقة للمعنى الخاص بالفن، فالفنان لا يمكن أن يكون ذو عقل واع مالم يكن في محاكاة فنه بطريقة عقلية تنتج الخير والحق والجمال . ولكن تبقى مشكلة مهمة عند الفنان، وعلى حسب الطريقة الأفلاطونية في المحاكاة، هل يستطيع أحد من الفنانين أن يصل الى قيم الخير والحق والجمال ويحاكي المُثل الأفلاطونية بالطريقة التي حددها (أفلاطون) نفسه للفنان؟، أم أنه لا يوجد فنان بهذه المساحة المعرفية العقلية يكون قادر على أن يصل الى المحاكاة الأفلاطونية بفنه؟، وخصوصاً بعد أن جعل (أفلاطون) من المحاكاة في النوع الثاني تعود بطريقة أو أخرى الى النوع الأول من الفن، أي أن (أفلاطون) أعاب على محاكاة المحاكاة بعد أن جعل المحاكاة الأولى التي هي صورة من عالم المُثل الكلي، وأعتبر المحاكاة الثانية التي يقوم بها الفنان للطبيعة هي بالأصل سطحية وتشوه الصورة الأولى التي هي محاكاة لعالم المُثل بالأصل، وعلى الفنان الأفلاطوني أن يمتلك بصيرة عالية ومستنيرة قائمة على البعد الفلسفي الذي يوصل الفنان الى الخير والحق والجمال، حسب الجمال المطلق في عالمه المثالي .

يشرح (أفلاطون) في جمهوريته المثالية في الباب العاشر الفن والمحاكاة وعالم المثل، وينقد كل من يخرج عن سياقاته الجمالية التي تبناها في هذا الباب، و " يتحدث عن محبي النّظر والسّمع كيف يعجبون بالجميل من الأصوات والألوان والصور، ولكن يؤكد على عدم فهمهم كنه الجمال فيضرب مثالاً بالمأساة عند (هوميروس) وينتقده وينتقد سامعيه لأنهم يؤمنون بما يقول، فهو بنظرهم يعرف كل شيء إنساني يتعلق بالفضيلة والرذيلة، بل والاشياء الإلهية الى جانب معرفته لكل الفنون، لكنهم خدعوا لأن ما يقدمه إنما أشباح لا حقائق، وكما نعلم أن الرجال بآثارها العملية، لذلك فإن (هوميروس) وغيره من الشعراء مقلدون نسخوا صور خيالية في كل ما نظموا، فلم يلمسوا الحقيقة ومن جملة ذلك نظمهم في الفضيلة " (8)، وهذا النقد للشعراء ومن ضمنهم الشاعر الملحمي (هوميروس) لم يأتي من طبيعة صياغات العمل الفني الشعري لديهم، بل أن الصيغة التي قدمها (أفلاطون) للفن ومحاكاته لا تنطبق على هذه الإعمال الشعرية بمختلف أنواعها وأجناسها، كالشعر الملحمي، أو التمثيلي، أو الوجداني، كون الشعراء لا يطلبون من وراء أشعارهم الحقيقة، بل هم يبحثون عن الخيال في صورهم الشعرية، والخيال يبعد الشاعر والمتلقي معاً عن الحقيقة التي هي بالأصل نابعة من الحق والخير والجمال، فالجمال لا يأتي الإ من خلال عالم المُثل، وشعر (هوميروس) الملحمي يشبهه (أفلاطون) بالأشباح لا بالحقائق المرجوة التي يطلبها في عالمه المثالي، وهذه الحقيقة التي يسعى اليها (أفلاطون) في فلسفته متوفرة في نوع آخر من الفنون وهي الموسيقى، ونظريته " في الموسيقى مبنية على التراث الفيثاغوري، إذ ترى أن في الموسيقى طريقاً لتطهير النفس وتهذيبها، ويمكن علاجها النفسي. وقد بين (أفلاطون) عناصر مكونات الموسيقى الثلاث وهي: اللفظ، الائتلاف، والايقاع، وربط بينها وبين الحقيقة التي تحاكيها في نفس الأنسان، ويرى أن الموسيقى يجب أن تعبر عن الجمال والحقيقة في صورة سهلة حتى يقنع بها العقل . ويجب أن تكون غايتها وهدفها الجمال لا أن تتجه الى بعث اللذة الاستطيقية . ولها هدف أسمى من ذلك هو التأثير على النفس بحيث تكسبها ائتلافاً من أجل تحقيق الخير " (9).

إنَّ اللذة الجمالية التي تقوم على أمتاع الفرد دون أن تكسب النفس البشرية طاقة من أجل تحقيق الخير، هذه اللذة مرفوضة كون أنها تبعد الأنسان عن الجمال الحقيقي، وهذا الجمال القائم على بعث الخير في النفس لا جذبها نحو متعة حية تنتهي بهذه النفس الى عوالم أخرى غير عالم الجمال المثل الأفلاطونية، ويكون لطبيعة ونوعية الفن علاقة في الأثر النفسي نحو الخير والحق والجمال . ومن جهة ثاني يربط (أفلاطون) في كتابه (الثيئيتتس) بين الأحرف الأبجدية والموسيقى من خلال (برهان اختباري الأحرف الأبجدية والموسيقى) الذي يريد أن يبرهن أن الموسيقى تعبر عن الصدق في الأمور الواقعية على وفق مبدأ أهميتها في التعلم، وهذا المبدأ الجمالي يستخدمه (أفلاطون) في هذا المجال، على حسب المحاورة التي تقع بين (سقراط) و(ثيئيتتس):

" سقراط: فما بالك مرة أخرى؟ ألا تقبل تقبلاً أفضل، قولاً مناقضاً لقول المدّعي هذا، مما تعيه وتشعر به أنت نفسك في تعلّم الأحرف؟

ثيئيتتس: أي قول؟

سقراط: إنك ما فتئت لا تتعلم سوى العناصر، محاولاً أن تتبين كل عنصر في حد ذاته وتتعرف عليه بالبصر والسمع، كي لا يحملك وضعه بين العناصر الأخرى المنطوق بها والمكتوبة، على القلق والاضطراب .

ثيئيتتس: تعبّر عن أصدق الأمور وأكثرها واقعية .

سقراط: وفي تعلم عازف القيثارة تعلماً كاملاً، هل وجد عمل ما آخر سوى قدرته على تتبع كل نغم ومعرفته عن أي وتر يصدر . وكل امرئ قد يعترف أن هذه الأنغام هي عناصر الموسيقى .

ثيئيتتس: لم يقدم على أي عمل آخر .

سقراط: بناء على العناصر إذن والمقاطع هذه، نحن بها خبيرون، إنَّ وجب أن نستدل على الأمور الأخرى، ففي وسعنا أن نصرح أن جنس العناصر قد أحرز قدره تبيان أوضح من المقطع بكثير وأرسخ وأوفر أصالة، لاقتناء كل فرع من المعرفة اقتناء تاماً . وإنَّ ادعى أحد أن المقطع معلوم بالطبع، وأن العنصر من طبعه غير معلوم، ففي إمكاننا الاعتقاد أنه يمزح طائعاً أو مكرهاً .

ثيئيتتس: كلامك دقيق متقن في الواقع . " (10)

يعتقد (أفلاطون ) بمدى أهمية الموسيقى في إثبات البرهان الاختياري كونها  تدخل في تبيان حقائق عن طبيعة النفس في التعلم والتفريق بين الأشياء، كما المثال الذي ضربه في المحاورة بعازف القيثارة والتعلم الكامل من خلال القدرة النفسية على تتبع كل نغم ومعرفته عن أي وتر يصدر، وهذا التتبع يعطي الاعتراف بإن هذه الانغام تعود لعناصر الموسيقى عن غيرها من العناصر للوصول الى المبدأ الجمالي الأفلاطوني المتمثل بمعرفة الحقيقة عن طريق هذا الفن . وهنا نعود الى المقارنة بين الشعر والموسيقى لدى (أفلاطون)، بالتساؤلات الأتية: لماذا أن الشعر لا يوصل النفس الى الخير والحق لدى (أفلاطون)؟: يعتقد (أفلاطون)بأنه يقربها أكثر الى الصور الخيالية الخداعة، ويبعدها عن الجمال الحقيقي . بينما يعتقد أن الموسيقى تأخذ النفس البشرية الى الجمال وتكسبها ائتلاف يقودها اليه . كما يعتقد أن للمحاكاة علاقة أيضاً في إبعاد النفس عن الحق والخير والجمال كما هو في فن التصوير، فالتصوير عند (أفلاطون) " يرمي الى تقليد الطبيعة الظاهرة، وهو مخادع لأنه يصف الواقع ويحاكيه ولا يقدم ابتكاراً، ويأخذ بفن المنظور والخداع البصري والبراعة من استخدام الألوان، فالأشياء كما نعلم تظهر لنا مختلفة الحجم لبعدها عن عيوننا كأنها محدبة، أو مقعرة بسبب الخطأ اللوني الذي تتعرض له العين، وهذا النقص الطبيعي يستخدمه الرسم لمصلحته فينقل الفنان ما يراه هو، وبنظر (أفلاطون) الرسم واقعي يعكس ما يراه ويقلّد دون التعمق بالمعاني الأخلاقية والمثالية "(11) التي من اللازم أن يصل اليها الفنان، فالتصوير عند (أفلاطون) من الفنون التي تبعد المحاكي من حيث الممارسة عن الحق والجمال والخير، بسبب عدم التعمق بالمعاني الأخلاقية المثالية، فالرسم في طبيعته يغالط في طريقة المحاكاة الأفلاطونية للمثل حسب طبيعة المحاكاة الأولى، أي حسب النوع الأول من الفن الذي يكون في طبيعته ينتمي الى الرؤية السطحية، لا الى المحاكاة ذات البصيرة والاستنارة للوصول الى ما هو أعمق من المظاهر الخادعة، فالعين قد تكون من الوسائل المخدوعة بسبب الخطأ اللوني الذي تأخذه من الطبيعة،أو من المشاهدات المتحركة للأشياء، فالخداع قد يكون من ركائز الرؤية عند الرسام الذي ينقل الأشياء دون تعمق حسب المحاكاة السطحية التي لا يريدها (أفلاطون) في مثله، ويبحث عن التعمق بالمعاني للوصول الى عالم المُثل ذات البعد الجمالي والأخلاقي والمثالي، ومن الصعب أن يتوفر في فنون التصوير ومنها الرسم والنحت أيضاً هذا الصدق الجمالي الذي يبتغيه.

إذن، فالجمال الأفلاطوني ما هو إلا فكرة تتكون " بإدراج ما هو مشترك في الأشياء الجميلة واستبعاد النقاط التي تختلف عن الجمال وهذا هو بالضبط ما نعنيه بالمفهوم، ولذلك تقوم نظرية (أفلاطون) على أن المفاهيم هي حقائق موضوعية ويطلق عليها (...) المُثل وتفسر جوابه الفلسفي على أنها تلك الحقيقة المطلقة والقصوى التي يمكن أن تفسر كل الأشياء الأخرى، فهذه النهضة في النفس تحصل بالدرس الذي يرمي الى اجتذاب العقل من الحسيات الى اليقينيات ومن المنظورات الى غير المنظورات والأبديات، وكل ما يثير العقل الى التفكير في طبيعة الأشياء الجوهرية يؤدي الى احراز النتيجة نفسها " (12).

إنَّ عالم المُثل عالم عقلي، وأن الخير والحق والجمال ينتمون الى هذا العالم بوصفهم حقائق يبحث عنها (أفلاطون) في سياقاته المفضلة ودروب العقل التي يجب أن يجعل منها الدروب السالكة لهذه القيم العليا في عالم مثله، وما الفنون سوى أدوات قد تحاكي الاشياء بسطحية وتبعد المحاكي عن الجمال الحقيقي، أو قد تحاكي القيم العليا وتوصل المحاكي والنفس البشرية الى عالم الحقيقة وهو عالم المُثل الأفلاطونية، ولكن ليست كل الفنون تنتمي الى عالم المُثل في محاكاتها، ويتم التعامل مع هذه الفنون على مدى انتمائها الى الجمال الأفلاطوني على وفق مفهوم المُثل والمحاكاة لديه .

***

ا. د. محمد كريم الساعدي

..................

الهوامش

1. ديديه جوليا: معجم الفلاسفة والمصطلحات الفلسفيْة، بيروت: دار المؤلف للنشر والطباعة والتوزيع، 2016، ص 19، ص20.

2. د . راوية عبد المنعم عباس: القيم الجمالية، القاهرة: دار المعرفة الجامعية، 1987، ص 43.

3. محمد جديدي: الفلسفة الإغريقية، الجزائر: منشورات الأختلاف، 2009، ص281.

4. نفسه، ص281.

5. أفلاطون: السفسطائي،  ترجمة: الأب فؤاد جرجي بربارة، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب،2014، ص102، ص103.

6. نفسه، ص 105، ص107.

7. د. أنصاف جميل الربضي: علم الجمال بين الفلسفة والأبداع، عمان: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1995، ص26.

8. نفسه، ص55.

9. نفسه، ص27، ص28.

10. أفلاطون: الثيئيتتس، ترجمة: الأب فؤاد جرجي بربارة، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2013، ص 217،ص218.

11. د. غادة المقدم عذره: فلسفة النظريات الجمالية، بيروت:جروس برس، 1996.، ص55، ص56.

12. نفسه، ص 53.

قصص  مثل ارتفاع الاسعار وقلة العرض او ركود متوقع دائما ما تشغل حاليا العناوين الرئيسية للصحف. الأزمة الاقتصادية الحالية عمّقت القضية القائمة منذ زمن طويل وهي اللامساواة الاجتماعية، مما زاد الفجوة بين الفقراء والأغنياء – وهي مشكلة تفاقمت سلفا بفعل الركود الكبير لعام 2008 والصدمة الاقتصادية التي أحدثها كوفيد 19.

الولايات المتحدة وهي البلد الأغنى في العالم من بين الأمثلة الصارخة لهذه النزعة. اليوم، يستلم مدراء الشركات الأمريكيين 940% اكثر مما استلم أقرانهم عام 1978. من جهة اخرى،العامل العادي يذهب الى بيته فقط مع 12% زياده في دخله مقارنة بعام 1978. وكما يشير تقرير لمعهد السياسة الاقتصادية، ان ارتفاع معاشات مدراء الشركات لا يعكس تغييرا في قيمة المهارات، بل هو يمثل تحولا في السلطة. خلال عقود، أضعفت السياسة الامريكية القدرة التفاوضية للعمال من خلال التثبيط وجهود كبح التنظيم النقابي. الثروة المتصاعدة للقلة على حساب الأكثرية يعني تركيز السلطة في أيدي عدد قليل من الناس والذين اكثرهم من الرجال. ليس غريبا ان شخصيات مثل دونالد ترمب و مارك زوكربيرج وإيلون ماسك لهم تأثير غير متوازن على الجاليات في الولايات المتحدة – وأحيانا بنتائج مدمرة تهدد المؤسسات الديمقراطية.

اقتصاد بوجه انساني

من الضروري جدا الآن واكثر من أي وقت مضى ان يُعاد فحص اسس النظام الديمقراطي في الغرب. البحث عن نماذج اقتصادية بديلة اصبح صعبا في ظل أنماط التفكير التقليدية. العديد يعتقدون اننا نواجه خيارا قاسيا بين اقتصاد السوق الرأسمالي من جهة والاقتصاد الاشتراكي المخطط من جهة اخرى. ورغم اننا نعيش في عالم يعرّف النماذج الاقتصادية بعبارات مطلقة،لكننا لا يجب ان نكون بهذه الطريقة. نرى ان الرؤى السايكولوجية والاجتماعية المتعلقة بالاقتصاد التي طُوّرت في القرن التاسع عشر من قبل فلاسفة مثل هيجل وجون ستيوارت مل و جورج سيميل يمكن ان تساعدنا في إعادة تصور اقتصاد بوجه انساني.

هؤلاء المفكرون كانوا مقتنعين ان النظام الاقتصادي الجيد يجب ان يضم عناصر من الرأسمالية الكلاسيكسة (مثل السوق الحرة في السلع والخدمات) ومن الاشتراكية الكلاسيكية (مثل الملكية الجماعية لوسائل الانتاج). هذا ما نطلق عليه التعددية الاقتصادية.

هيجل ومشكلة الثراء

يُعتبرهيجل مثالا جيدا لمفكر اقتصادي تعددي. في كتابه فلسفة الحق (1820)، عرض هيجل تفكيرا مكثفا حول الاقتصاد الحديث. هو ناقش السوق ومبادئه قيد العمل،اللامساواة الاجتماعية، وحتى تكوين الرغبات من خلال الإعلانات وثقافة المستهلك. من بين العديد من الموضوعات التي فحصها كانت مشكلة الثراء. لم يكن هيجل قلقا فقط حول الفقر الذي خلقه الاقتصاد الحديث، وانما ايضا حول التركيز المفرط للثروة بيد القلة. هو كان يكتب قبل مئات السنين قبل وصول البليونيرات الجدد الى المشهد وجادل سلفا ان "كلا هذين الجانبين، الفقر والثراء يمثلان بلاءً للمجتمع المدني".

تحليلات هيجل تنبأت بالأحداث قبل وقوعها. هو اعتقد ان الثراء خلق ميلا مضادا للبديهة بين الأثرياء عندما شعروا انهم ضحية وانهم حُرموا من حقوقهم من جانب المجتمع. وبالنتيجة،اعتبر الاثرياء جميع الدعوات لفرض ضرائب عليهم هي هجمات غير مبررة على حريتهم الشخصية. هيجل اعتقد ان هذا الإحساس بالإيذاء قد يقود لرابطة غير متوقعة بين اولئك الذين في قمة الهرم الاقتصادي واولئك الذين في القعر – وهي رابطة ستزيح الاختلافات في اسلوب الحياة والكراهية المتبادلة لتشكل تحالفا يهاجم المجتمع المدني من كلا الجانبين. ظاهرة تحالف ترامب MAGA (إجعل امريكا عظيمة مرة اخرى) هي مثال هام عن ذلك.

إعادة تصور الاقتصاد

خلافا لبعض الاشتراكيين اللاحقين، لم ير هيجل ان مشاكل الثراء يمكن معالجتها بادخال اقتصاد مخطط يُلزم قسرا تطبيق المساواة في الثروة. بدلا من ذلك، كان اتجاه هيجل تعدديا. هو دافع عن موقف مزدوج فيه الاقتصاد الحر يعمل بالتوازي مع وجود أشكال تعاونية للانتاج – تشبه بشكل ما تعاونيات العمال الحديثة. يرى هيجل، اذا كان معظم الانتاج في المجتمع يُنظّم تعاونيا، فان الافراد الأكثر ثراءً سيكونون جزءاً من عملية صنع القرارات الاقتصادية بالاشتراك مع الآخرين،الامر الذي يستبدل "تحالف الضحايا" الضار السائد بين الغني والفقير بهوية جماعية مرتكزة على وكالة اقتصادية مشتركة.

عند إعادة تصور نظامنا الاقتصادي الحالي، يمكننا ان نستفيد من كتاب هيجل عبر التركيز على تعاونيات العمال، او أصحاب المشاريع الاقتصادية التي يشترك العمال في ملكيتها ويتخذون بشكل جماعي قرارات انتاجية، عادة تتم – وليس دائما- باسلوب ديمقراطي.

تحت أي ظروف تكون الأساليب التعاوية للانتاج ناجحة؟ وكيف يمكن للدولة تحفيز هذه الأشكال من الانتاج ضمن اقتصاد السوق الحالي؟ وهل ان تعاونيات العمال هذه حقا طريقة لتحقيق العدالة الاقتصادية؟ هذه الأسئلة التي أثارها فلاسفة الماضي،ربما تفيدنا في تصور مستقبل لإقتصاد تعددي جديد أكثر عدالة وذو طابع انساني.

***

حاتم حميد محسن

أثرت أعمال هيجل على كل ركن من أركان الحياة الفكرية، في ألمانيا أولاً وخارجها ثانيا. قام بعض الفلاسفة، والأكاديميين، والنقاد في امتداح الفلسفة الجديدة التي أطلقها هيجل لكن أنتقدها بعضهم. يبرز هنا لودفيج فيورباخ (1804-1872) الذي بدا مثل هيجل، كطالب في علم اللاهوت، ثم تحول تحت تأثير وجهات النظر الهيجلية، إلى دراسة الفلسفة. لقد كان في البداية من أتباع هيجل، لكنه تحول إلى أحد منتقديه بعد ذلك. كانت شكواه أن هيجل، على الرغم من أنه يبدو ماديًا (وبالتالي كمفكر ملحد وفي هذا ما يوجب الاتفاق معه) اللا أنه كان في الواقع مدفوعًا بالدين. عبر فيورباخ عن موقفه الفلسفي المادي من خلال تأليف مصنف معادٍ للأديان، وكان من نتائج هذا فقدانه لوظيفته رغم أن الكتاب نُشر بدون الكشف عن هوية المؤلف.

درس كارل ماركس (1818-1883) القانون في بون ثم الفلسفة والتاريخ في برلين. حصل على الدكتوراه في جينا عام 1841 على أساس أطروحته عن أبيقور (342-271 قبل الميلاد) وديموقريطس (460 قبل الميلاد). وقد عرّف نفسه في وقت مبكر من تعليمه على أنه يمثل الجناح اليساري لما كان يعرف باسم "الشباب الهيجليين".  لقد جعل إلحاده العلني عمله الأكاديمي في بروسيا مستحيلًا، فبعد فترة قصيرة من عمله كمحرر لمجلة اقتصادية، ذهب إلى المنفى، الذي لم يعد منه أبدًا، إلى بروكسل، باريس، ثم لندن. كانت منشوراته الأولى الجديرة بالملاحظة هي ما يعرف باسم المخطوطات الاقتصادية والفيزيولوجية لعام 1844.[1] سرعان ما بدأت شراكته مع فريدريش أنجلز (1820-95) التي استمرت مدى الحياة، فتعاونا على اصدار كتاب "الأيديولوجيا الألمانية" في عام 1845 (التي يبدو أنها لم يُنشر إلا بعد عشرين عامًا لإنقاذه من "قضم الفئران"، كما جاء في المقدمة،).

تبدأ الـ "أطروحات حول فيورباخ" في افتتاح الأيديولوجيا الألمانية بنمطً من الرفض القاسي والساخر أزاء  الهيجليين الشباب، وهو أسلوب سوف يستمر في كتابات الماركسيين التي تنتقد مَنْ يعارض كتاباتهم منذُ عام 1845 حتى الوقت الحاضر. وتمشيا مع الاهتمام الحديث بالعملي مقابل النظري، يتحول هدف الفلسفة مع ماركس وأنجلز من الرغبة في الفهم وأن تكون مفهوما، إما من قبل القلة أو من قبل الكثيرين، إلى الرغبة في النجاح كفاعل سياسي. فتنحل الفلسفة وتعاود الظهور كسياسة. إن أبرز مثال على الجدل الفلسفي السياسي هو لينين (1870-1924)، الأب المؤسس لثورة عام 1917 التي أدت إلى قيام الاتحاد السوفيتي، والذي كتب في كتابه "الدولة والثورة" (1917): إن جدلًا ساخرًا وشديد القسوة يكاد يكون لذيذًا. لقد عامل كارل كاو تسكي، وهو اشتراكي غير ماركسي، بمثل هذه السخرية القاسية في الفصل السادس من ذلك الكتاب القصير الذي يمكن قراءته مرارًا وتكرارًا بتسلية متزايدة.

ينقد ماركس وأنجلز، في الصفحة الأولى بعد مقدمة الأيديولوجيا الألمانية، هيجل فيما يتعلق بموقفه المُعبر عنه في مصطلح “الروح العامة".  لقد تم رفض الحجة الهيجلية بوصفها تعبر عن "تعفن الروح المطلقة".[2] وبعبارة أخرى، أنهم يرون أن ما توصل إليه هيجل فيما يسميه، روح العالم، كان مفهوم قابل للتلف، وكان من المحتم أن يتعفن هذا المفهوم، وهذا ما حدث بالفعل لـ هذا المفهوم الهيجلي مع بعض أتباعه. أما المفهوم الآخر الذين تناوله وعلينا هنا فحصه وهو مفهوم "الأيديولوجيا". ويُقصدون به ما نسميه "الثقافة". فالأيديولوجيا بالنسبة لهم هي مثل تصور هيجل لـ “روح العصر". أي أنه ما يرمز الى التصور الأخلاقي والفكري للثقافة.  لقد كان يقصد ماركس وأنجلز في استخدمهما هذا المصطلح في الأيديولوجية الألمانية، شيئًا يضع هذا المفهوم في ضوء جديد تمامًا بالنسبة لنا. فتعني "الأيديولوجيا" بالنسبة لماركس وأنجلز، شيئًا مثل "المثالية".

عندما يشبه ماركس وأنجلز الإيديولوجيا بالمثالية، أو يعاملان المفهومين على أنهما قابلان للتبادل، فهذا ليس ثناء منهما ولكن يقصدون أن الأيديولوجية تقوم على " المُثل" الأفكار. بدا أفلاطون أحمق بالنسبة لهم، فقد كانوا يعتبرون المُثل كما تصورها أفلاطون عبارة عن مجرد تخيلات. إنها مثل كل فلسفة، ومثل الدين والشعر تعبير عن أوهام العقل غير المتجذر في الواقع الملموس، وهذا هو المكان الذي أخطأ فيه هيجل وأتباعه. فقد رأى ماركس وأنجلز:

لم يتخلى النقد الألماني، عن عالم الفلسفة أبدًا. فقد انبثقت، وبعيدًا عن المقدمات الفلسفية العامة، بنيًة تحقيقاته من تربة نظام فلسفي محدد ألا وهو نظام هيجل. مما أدى الى أن يلف الغموض ليس فقط إجابات النقاد الألمان ولكن تساؤلاتهم ايضًا.[3]

أيا كان ما يمكن قوله عن آراء ماركس، فإن الحديث عن فلسفة هيجل على أنها " غامضة " أمر حقيقي. يصف ماركس الفلسفة نفسها في هذا السياق بأنها خاطئة، ويجب على النقاد " للكتابة بطريقة منطقية، التخلي عن الفلسفة". إذا كان مكيافيلي هو الفيلسوف الأول الذي يضع الفلسفة في خدمة السياسة، فإن ماركس كان أول فيلسوف ينكر الشرعية أو حتى إمكانية الفلسفة.

قال هيجل أن التاريخ حل محل الفلسفة، ودفن ماركس جثة الفلسفة ودفنها بطريقة غير لائقة، فقد رأى أنه توجد بالفعل أفكار، لكنها ليست، كما فهمها أفلاطون، كيانات تعيش بذاتها في عالم منفصل عن عالم المادة القابلة للتلف والفساد.

يتداخل إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي بشكل مباشر مع النشاط المادي والعلاقات المادية التي هي لغة الحياة الواقعية. يظهر التصور، والتفكير، والعلاقات الفكرية او الروحية بين البشر، كتدفق مباشر لسلوكهم المادي. ينطبق الأمر نفسه على الإنتاج العقلي كما هو مطبق على السياسة والقوانين والأخلاق والدين والميتافيزيقيا. إن البشر هم المنتجون لمفاهيمهم وأفكارهم لأنهم مشروطون بتطور محدد لقواهم الإنتاجية، والعلاقات المقابلة لها، حتى في أقصى أشكالها. لا يمكن أن يكون الوعي أي شيء آخر أبدًا غير الوجود الواعي، ووجود البشر هو طريقة أو عملية حياتهم الفعلية ".[4]

إن ما أطلق عليه أفلاطون "المُثل" يسميها هيجل geistes، (الوعي بروح العصر)، ويفسر سير التاريخي على أنه ديالكتيك ذاك روح العصر. كان لروح العصر جوهره الخاص بالنسبة لهيجل، كما فهم أفلاطون المُثل، لكن هيجل أعطى تطورًا حديثًا لهذا الفهم اذ يرى: أن ارسطو أعتبر أن أفضل نظام سياسي عملي في معظم الحالات هو نوع من "النظام المختلط" والذي هو مزيجًا من الأوليغارشية والديمقراطية، وكلاهما من الأنظمة الناقصة بذاتها، لذا قد يُثرى هذا الخليط بمزيج من الأرستقراطية في بعض الحالات. وهذا هو أفضل شكل من النظام ولكن يصعب قيامه في حد ذاته. عدل هوبز تعاليم أرسطو في القرن السابع عشر، فجعل المشاعر بدلاً من العقل أساس كل شيء. أيً النظر إلى الحكم من ناحية الرغبة والحماس. إنً هذه الرغبة عند هوبز هي أساس العقيدة السياسية الحديثة التي تسمى في الاقتصاد "اليد الخفية". إنه، كما يسميه شتراوس، أول سياسي رغبوي؛ يجعل من الأنانية وصراعاتها مؤلفًا للصالح العام. لا يوجد خير مشترك على هذا النحو، فالخير العام هو ببساطة النتيجة الرياضية لسلسلة صراعات الرغبات الخاصة. يتابع هيجل مسار هوبز من خلال رؤية ديالكتيكية لروح العصر بوصفه صراع تاريخي. يحتفظ ماركس بالجدلية والعملية التاريخية والصراع، لكنه يرفض الجانب غير المادي– المثالي لهيجل، " ويبدو أنه يساوي بين هيجل وتاريخ الفلسفة بأكمله أيضًا. إنه يحتفظ بالعملية التاريخية الهيجلية، والجدلية الهيجلية، والصراع الهيجلي، ويجمعها مع صيغة معينة من المادية.  لقد رأى ماركس وأنجلز في "الأيديولوجيا الألمانية":

إذا قلب البشر ظروفهم، في كل ايديولوجيا، رأسًا على عقب كما هو الحال في كاميرا التصوير، تنشأ حقيقة سير حياتهم التاريخية تمامًا مثل انعكاس الأشياء على شبكية العين هي من حياتهم المادية.

في تناقض مباشر مع الأيديولوجية الألمانية التي تنزل من السماء إلى الأرض، نصعد هنا من الأرض إلى السماء. أي أننا لا ننطلق مما يقوله البشر ولا مما يتخيلونه أو يتصورونه من أجل الوصول إلى ما هو متجسد فعليًا؛ ولكن ننطلق من بشر موجودين حقيقيين ونشطين فعليًا، وعلى أساس سيرتهم الحياتية الواقعية، فنظهر الانعكاسات الأيديولوجية وأصداء هذه العملية الحياتية في الأخلاق والدين والميتافيزيقيا وكل ما يقابلها من أشكال للوعي.[5]

تنظر كل أيديولوجيا، أي المثالية، أي الفلسفة كلها، بشكل مقلوب الى الواقع، حيث تنظر اليه بوصفه نتاج ثانوي للفكر. إن الحالة الحقيقية للأشياء هي أن الفكر مبني على السير المادي للتاريخ. إنها تعبر عما أطلق عليه الماركسيون فيما بعد "المادية الديالكتيكية". (لم يستخدم ماركس هذا المصطلح أبدًا، لكن استخدام من قبل أتباعه). لقد فهم هيجل والهيجليون، مثل كل الفلاسفة من قبلهم، كل شيء خاطئًا لأنهم بدلاً من الوقوف على أقدامهم على أرض صلبة يقفون على رؤوسهم على سحابة. وكما وصف ماركس وأنجلز في كتابات أخرى، بما في ذلك البيان الشيوعي (1848)، الفلسفة هي بنية فوقية تتراكم فوق الظروف المادية في ذلك الوقت التي أُنتجت هي فيه. "عندما يتم وصف الواقع، تفقد الفلسفة باعتبارها فرعًا مستقلاً من النشاط وسيط وجودها... فإذا نظرنا إلى هذه الأفكار التجريدية بصرف النظر عن التاريخ الحقيقي، فليس لها في حد ذاتها أي قيمة على الإطلاق".[6]

هناك، بالطبع، الكثير مما يمكن قوله عن ماركس وأنجلز والمعرفة الماركسية الصاخبة ككل، لكن يكفي للأغراض المحدودة لهذا المقال تلخيصها بالقول إن ماركس يواصل النزعة التاريخية التي بدأها روسو وطورها هيجل. لقد فعل ذلك بقبوله الجزء الأكبر من هيجل، واستبعاد ما يسميه "صوفية" هيجل، ووضع صيغته الخاصة من المادية مكانها بحيث يؤدي الديالكتيك التاريخي إلى نهاية التاريخ ليس كدولة هيجل البروتستانتية الألمانية، ولكن كعالم جديد ورائع للشيوعية المطلقة.

***

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

.....................

[1] حول فيورباخ وماركس أنظر:

Feuerbach and Marx can be found in The Encyclopedia of Philosophy, 8 vols., New York, 1967, Macmillan (Feuerbach in vol. 3; Marx in vol. 5).

وأنا مدين لهذه المقالة في هذا التفصيل.

[2] Marx and Engels, The German Ideology, R Pascal, ed., New York, 1947, International Pub­lishers, p. 3.

[3] Marx and Engels, The German Ideology, p.4.

[4] Marx and Engels, The German Ideology, pp. 13-14.

[5] Marx and Engels, The German Ideology, pp. 13-14.

[6] Marx and Engels, The German Ideology, p.15.

 

يساعد وصف العقوبة الذي قدمه فريدريك نيتشه في جزء مركزي من كتابه أصل الأخلاق وفصلها (1887) في تفسير سبب استمرار اعتبار هذا الفيلسوف الخبيث والمربك بشدة كمشارك في النقاش الفلسفي المعاصر. 

يقول أن هناك جانبين  فيما يتعلق بمشكلة العقوبة يجب التمييز بينهما: من ناحية، هذا الجانب من العقوبة الذي هو دائم نسبيًا- العادة، الفعل، "الدراما"، تسلسل محدد صارم للإجراءات- ومن ناحية أخر، هذا الجانب المرن- المعنى، الهدف، التوقع المرتبط بتنفيذ هذه الإجراءات. 

وبالتالي، فإن الأشياء ليست  كما افترض علماءالجينالوجيا السذج لدينا من الأخلاق والقانون سابقًا، معتقدين كما يفعلون جميعًا أن الإجراء قد تم اختراعه خصيصًا لغرض العقاب.  بدلاً من ذلك، يجب افتراض أن  الإجراء نفسه سيكون شيئًا أقدم من استخدامه كوسيلة للعقاب.

وهكذالم يعد مفهوم "العقوبة" يمتلك معنى واحدًا، بل توليفة كاملة من "المعاني"، في مرحلة متأخرة جدًا من التطور الثقافي (كما هو الحال، على سبيل المثال، في أوروبا المعاصرة). يتبلور التاريخ الكامل للعقاب حتى هذه النقطة، وتاريخ استغلاله لتحقيق الأهداف الأكثر أختلافا وتنوعًا، أخيرًا في نوع من الوحدة التي يصعب كشفها، ويصعب تحليلها، و- نقطة يجب التأكيد عليها- تتجاوز التعريف تمامًا. (من المستحيل تحديد سبب معاقبة الناس في الوقت الحاضر: كل المفاهيم التي يتم فيها تلخيص عملية كاملة في علامات تهرب من التعريف ؛ فقط ما هو بدون تاريخ يمكن تعريفه). 

يضع نيتشه هنا إصبعه على مشكلة حقيقية للنظرية الاجتماعية، مشكلة تعريف المفاهيم الاجتماعية التاريخي - أو بشكل أكثر دقة، إعطاء أي تفسير نظري وعام لها يتجاوز سرد المصطلحات المختلفة التي تم  تعريفها وتحديدها تاريخيًا (العلامات). يستمر نقاش نيتشه في تقديم قائمة، من أحد عشر "معنى" أو "مقصد" للعقاب: طريقة لإبطال الضرر ومنع المزيد من الضرر؛ تعويض الضحية؛ عزل واحتواء شيء يخل بالتوازن؛ وسيلة لبث الخوف في نفوس الذين يقررونها ويقومون بتنفيذها؛ "شكل من أشكال التنازل [التعويض] المستحق مقابل المزايا التي تمتع بها المجرم سابقًا [حتى تلك النقطة] (على سبيل المثال، عندما يكون مفيدًا كعمل بالسخرة في المناجم)" ؛ القضاء على عنصر أو فرع منحل؛ الاحتفالية وانتهاك العدو وإذلال ؛ وسيلة لإنتاج الذكرى، سواء بالنسبة للشخص الذي تُفرض عليه العقوبة (ما يسمى بإعادة التأهيل) أو لمن يشهدها؛ شكل من أشكال الأجر مقابل الحماية من تجاوزات الانتقام؛ حل وسط مع روح الانتقام. إعلان حرب ضد عدو يُعتبر خطيراً وخائنًا. 

يسعى نيتشة في جينالوجيا الأخلاق وراء معنى أو الوعي بالذنب.  فيرى إن العقوبة نفسها لا تثير عادةً الشعور بالذنب- بل إنها عادة وتاريخياً تعوق تطور الشعور بالذنب، وفي أصولها لا علاقة لها بالتخلي عن المسؤولية. وبدلاً من ذلك، فقد نشأ من تصورات التكافؤ على غرار المقايضة والبيع. كان المجرم مدينًا والدائن المتضرر يحصل على تعويض على شكل متعة أن يكون قادرًا على التنفيس عن سلطته دون تفكير مرة أخرى في شخص عاجز عن متعة الانتهاك [اغتصاب؛ القيام بالعنف]".   ولكن مع ازدياد قوة المجتمع، يتوقف عن النظر إلى الجرائم بجدية شديدة ويبدأ في حماية الجاني من السخط الشعبي وغضب الشخص الذي أصابه الجاني. 

وهكذا نصل إلى "فرضية" نيتشه حول أصول الضمير، "للضمير السيء" أو الشعور بالذنب في المقام الأول، وهي تتعلق بالضمير نفسه في الأساس. نرى في هذه الفرضية سلف الفرويدية،  الاجتماعي -البيولوجي، ومحاولات اختزال أخرى لتفسير الضمير على أنه تسامي أو نتاج للكبت، ورغبات الموت، والغرائز، وما إلى ذلك.

يعتبر نيتشة أن الضمير هو المرض العميق الذي أجبر الإنسان على الخضوع له تحت ضغط تلك التغييرات الأساسية - عندما وجد نفسه محبوسًا بشكل نهائي في تعويذة المجتمع والسلام. كل غريزة لا تنفيس عن نفسها خارجيًا تتحول إلى الداخل- وهذا ما أسميه استبطان الإنسان: في هذه المرحلة يتطور ما يُسمَّى لاحقًا بـ "الروح" أولاً في الإنسان. إنها تلك الحصون المخيفة التي تحمي بواسطتها منظمة الدولة نفسها من الغرائز القديمة للحريةـ والعقاب الذي ينتمي قبل كل شيء إلى هذه الحصون، والتي جعلت كل غرائز الإنسان البدوي الحر والوحشي تنقلب إلى الوراء ضد الإنسان نفسه. العداء، والقسوة، واللذة بالاضطهاد، والاعتداء، والتغيير، والتدمير، وكل ما ينقلب على الانسان الذي يمتلك مثل هذه الغرائز: هذا هو أصل "الضمير السيء". الرجل الذي تم إجباره على أخلاق ضيقة ومنتظمة، والذي بسبب نقص الأعداء الخارجيين والمقاومة بفارغ الصبر، دموع، يضطهد، يقضم، يزعج، يسيء معاملة نفسه، هذا الحيوان الذي يجب `` ترويضه ''، والذي يفرك نفسه ضد القضبان من القفص، هذا الرجل المحروم بالحنين إلى الوطن للصحراء، الذي لم يكن أمامه خيار سوى تحويل نفسه إلى مغامرة، مكان للتعذيب، برية غير مؤكدة وخطيرة - هذا السجين الأحمق، المتلهف واليائس أصبح مخترعًا لـ ' تأنيب الضمير' أو' الضمير السيئ".     

باختصار: الضمير السيئ، أي أن الضمير الذي يصدر حكمًا سيئًا على سلوكه السابق هو`` الرغبة في إساءة معاملة الذات''و''الإرادة لتعذيب الذات، تلك القسوة المضطهدة  للحيوان  داخل الانسان الذي تمت ملاحقته مرة أخرى في نفسه، حالة الانسان  المحبوس في الأصل يد "حشد أو غيره من الحيوانات المفترسة [كالوحوش الأشقر]، جنس من الغزاة والأسياد  (غير مخفي إعجاب نيتشه به) – "لكي يتم ترويضه، الانسان الذي اخترع ضميرًا سيئًا من أجل إلحاق الألم بنفسه بعد أن تم إعاقة المنفذ الأكثر طبيعية لهذه الرغبة في إلحاق الألم ''  وما إلى ذلك. وهكذا، كما يقول نيتشه في نهاية هذا العرض لـ "فرضيته"، فقد ااعتنى "بشكل نهائي" بأصل "الإله القدوس"  والذي يقصد به كل من الضمير (الذي أطلق عليه كانط ربنا القدوس) والله، وإسقاط  الوحش الحزين المعتوه، الانسان". 

إن إرادة الصدق والسعي والتمسك بالحقيقة هي في حد ذاتها نتاج ذلك المرض والضمير. يرى نيتشة  أن الضمير مرض وأن الله، وهو الأساس الوحيد لقيمة الحقيقة، غير موجود، لذلك يجعل إرادة الحقيقة، وقيمة الحقيقة، والصدق موضع تساؤل: يجب التشكيك في قيمة الحقيقة ولو لمرة واحدة بواسطة التجربة.

نقد وتقييم

 تكشف عبارة نيتشه" "بواسطة التجربة'' عن الطابع العابث والمتهور لفكره، أو عمق المأزق الذي دفعته إليه تأكيداته التعسفية وإنكاره. لكنه لا ينكر، في الواقع، هنا، في هذه المرحلة، ويعترف بأن "جوهر الضمير هو، في الواقع، إرادة الحقيقة والصدق. 

اذا أردنا أعتبار  جينالوجيا نيتشه للضمير والأخلاق  كحقيقة وتاريخية  فأنها في الواقع بعيدة كل البعد عن الأثبات والأدلة. ولكن حتى لو كانت تستند إلى أدلة أفضل بكثير مما هي عليه، فعلينا أيضًا أن نضع في اعتبارنا، وأن نتبنى، اعتراف نيتشه نفسه - الذي اعترف به بغض النظر عن تخريبه لمشروعه - أن هناك عالمًا من الاختلاف بين سبب وجود شيء ما في المقام الأول والاستخدام النهائي الذي وُضع من أجله، وتطبيقه الفعلي ودمجه في نظام الأهداف.

يمكن تنظيم وتوجيه ردود افعالنا وميولنا التفاعلية، مثل رغباتنا ونفورنا بشكل عام، بطريقة تتعلق بطبيعتنا  من خلال فهمنا،  ومن خلال قدرتنا على فهم الفرص والمنافع والتفكير بها، وما يقابلها من حالات تقصير وخسائر مشتركة بيننا جميعًا.، وحتى عندما تكون غرائزنا التفاعلية داخل قدراتنا الفكرية، وحتى عندما تكون إرادتنا  من أجل الحقيقة بتلك الطريقة التي تتعلق بطبيعتنا، يجب دمجها في الروح، التي هي مصدر كل طريقة لائقة بين الأشخاص، وكل المجتمع.

القيمة الجوهرية لما يفيدني حقًا لها نفس القيمة في حياة أي شخص آخر يشارك أو يمكن أن يشارك في هذا النوع من الفوائد. هذه الحقيقة وفهمنا الأساس لها هما المصدر الأساسي لكل المجتمع البشري، وهو أكثر حسماً من أي مشاعر تعاطف أو غريزة عقلانية للتضامن. تدعم هذه المشاعر والغرائز بشكل ملائم إدراك المرء الذكي لحقيقة أن كل خير بشري هو خير مشترك، ولكن يجب عليهم أيضًا أن يتعاملوا مع المشاعر المتنافسة أو ميول الانغماس في الذات والفخر، العزيزة على قلب نيتشه. إن معرفتنا العملية وفهمنا للفرص والفوائد الواضحة عندما نفكر بالتحديد في ما يجب أن نختاره ونفعله، يمكن أن يكون وهكذا، من أجل الحقيقة والصداقة، يجب أن يكون حاسمًا. نضع في اعتبارنا الوضع الآمر لهذا الحكم في مداولاتنا، وفي تأملاتنا حول اختياراتنا وأفعالنا أو إغفالاتنا السابقة، عندما نتحدث عن الضمير: الحكم على ما هو جدير حقًا بالاهتمام والذي يجب متابعته أو فعله أو تجنبه.

ادعى نيتشه أن أجيالًا من إنزال العقوبات الشرسة كانت ضرورية لخلق ذاكرة لدى البشر تتطلب أن يأخذ المرء على محمل الجد وعده أو اعترافه بالذنب أو مسؤوليته. لكن ما يؤكده نيتشه على هذا النحو بحرية، بدون دليل، يجب أن يُنكر بحرية. ليس نقص الذاكرة هو الذي يقف في طريق الاعتراف بوجوب الوعود أو واجبات الفرد في التعويض. على الأكثر، كان نوعًا من غمر الذكريات، نوعًا من تجاوز الرغبة المستقرة، والإخلاص، والمسؤولية، والندم، عن طريق موازنة رغبات المرء في الاهتمام بمصالح المرء ومتابعة ميوله من الآن فصاعدًا إلى المستقبل، أو ربما من خلال الاتفاقيات التعويضية التي تشجع على اللامبالاة بمصالح الأشخاص من خارج المجموعة. إن جزء من الوحدة العميقة لطبيعتنا المعقدة كأفراد بشريين هي قدرة المرء على التعرف على نفسه ككائن يستمر، من نهاية هذه الجملة إلى الطرف الآخر، من بداية المداولات مرورا بالاختيار إلى تنفيذ الاختيار والتمتع به. يستفيد المرء أولاً من المتصور (أو يندم على الفشل في تحقيق هدفه). وبنفس القدر، يمكن للمرء أن يتذكر ويتعرف على أنه والديه، والتعهدات التي قدمها الآخرون والتي اعتمد عليها أو فكر في الاعتماد عليها، والأضرار التي ألحقها المرء بالآخرين، والعلاقات التي أقامها، أو حافظ عليها، أو انتهكها، العمل الذي قام به المرء ويسعى الآن للحصول على أجر.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

تعريف اولي: يعتبر كتاب الدكتور الشهيد عامر جميل الراشدي استاذ الفلسفة في جامعة الموصل، بعنوان (النص الصوفي/ دراسة تفكيكية/ ابو يزيد البسطامي نموذجا) من افضل الكتب في فرادة تناول موضوعه الفلسفي وصعوبته، دراسة اكاديمية منهجية عالية الجودة والتمكن والاتقان من ادوات معالجة موضوع فلسفي شائك يعالج موضوعة النص الصوفي في اشكاليته (اللغوية) المتعالقة مع التصوف والتفكيك معا، وعن هذه المهمة الصعبة يقول المؤلف

(ان هذه الدراسة حاولت ان تكون رائدة في مجال تخصصها ولاسيما وهي تتناول نصوص ابو يزيد البسطامي من جهة والتفكيك من جهة  ثانية،لما يعنيه هذا من قلة الدراسات وندرتها التي تناولت هذين الموضوعين مع غياب اي شاخص علمي يمكن الاستهداء به) ص12.

وفعلا اجدها كذلك عن جدارة واستحقاق، اذا ما علمنا اشارة الباحث المؤلف الى صعوبة ربط التصوف بالتفكيك بقوله(وهذا ما يجعل الدراسات التطبيقية للتفكيك تكاد تكون معدومة).ص2،هذا على صعيد تفكيك النص الادبي والسردي،فكيف تكون الصعوبة في تفكيك النص الصوفي.؟ إشكالية لغوية فلسفية متعالقة ليست سهلة.

النص الصوفي الملغّز المكتوب بعامة وليس في خصوصية شطحات نصوص  البسطامي الذي يجده المؤلف متفردا عن غيره من المتصوفة،انه نص متسام متعال فوق الادراك العقلي من جهة، وفي تحرره من عرى الانشداد للطبيعة والوجود الانطولوجي والجمعي من جهة اخرى.كما يرى المؤلف ان البسطامي كان في طريقته العرفانية نموذجا متفردا وقدوة للذين جاؤا من بعده وسلكوا طرق الحال التصوفي وافادوا منه واخذوا عنه،من امثال الحلاج ورابعة العدوية وابن الفارض والسهروردي وغيرهم.

والنص الصوفي يحمل اشكاليته اللغوية المنطوقة او المكتوبة ليس من اجل توظيف اللغة وسيلة تواصل تداولية تروم تعميم المعنى الاستقبالي لحالة المتصوف،وانما من اجل تعطيل متعّمد ومقصود في اعدام مثل هذا التوظيف الذي درجت عليه اللغة المنطوقة والمكتوبة في تداول تعميمم النص قرائيا سيسيولوجيا  كما في ضروب الادب والسرديات. سردية النص الصوفي من ناحيتي تفكيك المعنى وناحية الدأب المتواصل لاستخراج فائض معنى لغوي قرائي وفق استراتيجية التفكيك اجده انا برأيي حاضرا وجوبا في كلتا الحالتين. الباحث الصوفي المتمكن دكتور عامر جميل في ربط اقتران التفكيك اللغوي مع نص التلغيز اللغوي الصوفي وشطحات البسطامي غاية في ذكاء الاختيار الترابطي غير الافتعالي..

فالتصوف يروم بلغته المتعالية روحيا واشراقيا توكيد نفي ما يريد الاخرون استحضاره انطولوجيا حسيا وعقليا ايضا على صعيد تعبير اللغة عن الواقع.(فالنص الصوفي يشكل ظاهرة في مجمل النشاط البشري اذ تعد مدونته خروجا على انتماء النص الديني والنص  الادبي، فالكتابة الصوفية امكان واحتمال غير قار، وشعرية هذه الكتابة تفصح عن توتر دائم بين امكانية اللغة والعالم المتجلي الصوفي) ص5 من الكتاب.

وبهذا الفهم الاشكالي تكون اللغة الصوفية لغة اغترابية في منحيين فهي مغتربة في عجزها توصيل المعنى الاستقبالي العمومي التداولي المعهود بوظيقة اللغة اولا، ومغتربة ذاتيا في تساميها الروحاني الذي تجد اللغة نفسها فيه من خلال تجربة المتصوف قاصرة في بلوغ مراحل متقدمة في رحلة عبورها مدرجات الحال العرفاني نحو الاقتراب من المطلق الروحي في توازي التجربة الصوفية مع النص اللغوي المنطوق او المكتوب المنفرز عنها والملازم لها ثانيا.

التفكيك اللغوي

نجد من المعاد ان نشير الى ان التفكيكية التي جاء بها دريدا ليست فلسفة قائمة بملامح ثابتة بذاتها،ولا هي منهج في التفكيك والتاويل والاستدلال في البحث الدائب عن (فائض المعنى) الذي تتركه القراءات المتتالية المتعددة للنص وممارسة استراتيجية الهدم والتقويض كيفما اتفق. فهي خارج هذه الانماط الاصطلاحية لتكون كما يشير المؤلف على لسان دريدا ان (التفكيكية استراتيجية) طويلة الامد، او بتعبيرنا هي آلية  نظرية تسعى تقويض ذاتيتها باستمرار في تعالقها بالنص المكتوب تفكيكيا.كون الاستراتيج في المصطلح المتداول محكوم بغائيات بعيدة تجعل منه مركزية محورية ثابتة يرفضها قطعا التفكيك في اعتبارها محور ارتكاز افتراضي وهمي ميتافيزيقي ثابت يتوجب ان يطاله التفكيك ايضا.

فالتفكيكية لا تقر بأية ثوابت او مرجعيات او مرتكزات مثل العقل، الذات، الوجود، الموضوع، السرديات الكبرى وتعتبرها جميعها من صنع مخلفات الميتافيزيقا المتوارثة القارة عبر العصور، لذا يكون التفكيك انحلالات قصدية متعاقبة للنص، تثري نفسها ضمن صيرورة من التاويلات والتحولات غير المنتهية في سعيها  تحقيق (فائض المعنى) الذي تتركه لغة النص دائما بعد كل قراءة، هو الفائض الناتج من اختلاف وتعدد القراءات التداولية للنص التي تتوسم بالقادم من اكتشاف فائض المعنى اللغوي في افضلية مجاوزته الماثل قيد التفكيك والمجاوزة والنفي المطلوب تفكيكيا.

كما ذكرنا ان التفكيك حسب فلسفة دريدا لا يقوم على محورية تمثّل مركزا  استقطابيا مرجعيا حتى لو كان هذا المركز هو الانسان ذاته عقليا فهي لا تؤمن باشياء او موجودات خارج سلطة النص كتفكيك (لغوي) خارج فهم الحياة بالتوازي معها وليس الاحتدام المطلوب معها.، وفي هذه النقطة ربما يبدو التقاء البنيوية مع التفكيكية واردا لاول وهلة لكنه في الحقيقة غير ذلك، اذ  ان البنيوية نادت  ان (لا شيء خارج النص)، وقد تجاوزت التفكيكية هذا الادعاء البنيوي في مفارقة  اختلافية  ان لا شيء ذو اهمية خارج سلطة (اللغة) بعامة في تفسير كل شيء، وفي اعتبار التفكيك يطال كل شيء ولا شيء معا. وفي تصحيح شطحة دريدا هذه قال سيلارز (عالمنا لغة في فهمه وادراكه وتفسيره) الفرق المتزن في تعبير سيلارز انه قال جوهر عالمنا يكمن في ادراكه اللغوي ولم ينفي اية مرجعية يمكن الاحتكام لها مثل العقل او الانسان.

واذا كان رولان بارت قد بشّر بموت المؤلف فان جاك دريدا بشّر بموت النص، من خلال ان التفكيكية لا تقّر بمرجعية ثابتة يمكن الاحتكام لها في مجرى تاويلات وتفكيك النص في استهداف تحقيق فائض المعنى الذي تتركه اللغة المكتوبة تفكيكيا على الدوام .وانكرت التفكيكية على البنيوية انها تفترض سلفا مركز المعنى الذي يتحّكم بالبنية او النسق اللغوي.

وبرأينا هنا ان البنيوية كانت مصيبة في تثبيت حاكمية وسلطة المركز الذي يكون هو صمام الامان الذي يجعل من الحقيقة المنطقية الفلسفية وعيا قصديا وليس انفلاتا فوضويا كما يرغب دريدا. الادراك القصدي للعالم حسب سيلارز امرا مقبولا ليس في المطلق وانما في مثول النص للقراءة التداولية المنتجة على عكس التفكيكية التي تركت مستقبل النص مبهما متواريا لا نهائيا خلف لعبة اللغة المخادعة للمعنى والعقل من دون تحديد مرجعية الاحتكام في فض النزاع بين ان يكون التفكيك يروم خلق معنى اضافي وبين ان يكون عملية هدم وتقويض بلا وعي قصدي.

ولما كانت الدراسات البحثية في اعتبار ان الاستراتيجية الافتراضية الوهمية هي الآلية في التفكيك، لذا يكون من حقنا ان نعتبر هذه الآلية نوعا من الجدل الديالكتيكي الذي يحمل المغايرة مع الجدل الماركسي في استحداث الظاهرة الجديدة عبر قوانين الديالكتيك الماركسي المعروفة في وحدة وصراع الاضداد، وتحول الكم الى كيف، وقانون نفي النفي .

هذه القوانين التي تقوم على نقائض اصطراعها وتضادها ونفي ذاتها باستمرارية في حكمها المادة والتاريخ والوجود الانساني، وهو ما تسعى له استراتيجية التفكيك تطبيقه في الاشتغال على لغة النص خارج مفهوم وآلية تكامل التضاد الماركسي المادي الذي تعتبره التفكيكية من مخلفات الجمود المتوارث القار في الفلسفة والمدونات التاريخية والميتافيزيقا .

ان هذا التفكيك الفوضوي يحمل كل متناقضات اندثاره لاحقا ايضا في تحولات لا نهائية، اي تحولات النص في استمرارية تجاوزه غير المحدودة في تعاقبات التفكيك عليه، ويوجد هناك فرق كبير بين الجدل الماركسي الذي يشمل كونية الوجود الإنساني المادي في الطبيعة والتاريخ وفي كل شيء، وبين تقويضية استراتيجية التفكيك التي تقف عند حدود تقويض النص لغويا فقط وعلى مستوى التجريد الفلسفي غير المنطقي.

واذا كانت البنيوية نادت  لا شيء خارج النص، وان خيانة اللغة متمثلا في عجزها ونقائصها التي تسمها بالمراوغة والخداع، نجد دريدا  يعتبر اللغة اصل كل الفنون  وانه لا شيء خارج (اللغة) وليس خارج (النص) كما تدعو البنيوية، والتفكيك يعتبر النص المكتوب لا يتحدد بوجود انطولوجي مجازي مؤقت لا بمواصفات الثبات ولا بمتغيرات الصيرورة الدائمية في اماتة النص واستحداث احيائه ثانية وهكذا، (فالتفكيك هو الوعي بتقادم المعنى وارتداد دائم لتطابق الوعي مع مقولاته) . ص 12 (والتفكيك استراتيجية تمتلك صفات المنهج ولكن بخصوصية واعية لمخاطر سكونية المنهج، مما يجعل صفة الاحتمال اهم خصائص المنهج، فالشك يسكن قلب الحقيقة ان لم يكن جزءا منها) . ص 10

أبو يزيد البسطامي والتفكيك

تعتمد نصوص الصوفي البسطامي (على ذاكرة المعجم الصوفي الذي يتتبع أصول الكلمة ودلالاتها حسب أحوال ذائقيها) ص56، وذائقيها هم أصحاب أحوال الشطح الصوفي وليس عامة الناس. (ما يجعله نصا مفارقا لانتمائه باستمرارغير منتسب سوى لنفسه بالرغم انه يفكر بكونه يمتلك وجودا قارا، فوجود الكتابة الصوفية ليس من اجل اثبات وجودها بل من اجل نفيها) ص58. العبارة تلخيص صوفي في منتهى الاتقان. لغة الصوفي متى ما كانت لغة مفهومة تداوليا معناه انتفاء حصول تجربة صوفية حقيقية. الصوفية تجربة متحققة قبل ان تكون نسقا لغويا منتظما يفهمه كل الناس.

ان ذاتية النص الصوفي واستقلاليته هو سيد الموقف في أحوال الشطح التصوفي المتسامي في معارج العرفان والاشراق،فالكتابة الصوفية ذات خصوصية فردانية لا تعبأ بالوجود الانطولوجي ولا الواقع العقلاني الحسّي،فهي تداعيات لا شعورية منجذبة في عاطفة جيّاشة لتجربة حب وانجذاب تتعطل فيها اللغة المنطوقة او المكتوبة في عجزها البوح عن اسرارالتجربة وخفاياها وما تحمله من مشاق لا تخلو من الغبطة الروحانية اللذيذة التي تتلبس المتصوف خارج سطوة العقل ووصاية المدركات الحسية وقيود اللغة المألوفة في انتظام قواعد النحو فيها..

وعندما تكون الكتابة الصوفية قاصرة معطّلة  يصبح من المهم نفيها ومجاوزتها، فهي حتما تلتقي بالتفكيك في سعيه نفي كل ثبات او مركزية مرجعية ضالة تقوم على خيانة وخداع اللغة، وفي هذا ينتفي النص المكتوب متعينا وجوديا لأن اثبات الكتابة الصوفية نفي بالصميم ان تكون التجربة الصوفية لصاحب النص صادقة ورحلته العرفانية مخصّبة منتجة في مسالك الحال والعرفان.

بالمعنى الذي مررنا به يكون معنا التقاء الكتابة الصوفية مع أي نص تفكيكي يسعى نحو نفي الثبات في نشدان التقادم (فالتفكيك هو الوعي بتقادم المعنى، وارتداد دائم لتطابق الوعي مع مقولاته) ص21بمعنى كما ان نفي التفكيكية لأي ثبات هي غاية معالجة كتابة أي نص في استجلاب تقادم فائض المعاني الجديدة منه التي تخّلفها اللغة وراءها دفينة داخلها على الدوام بنوع من المخاتلة والتضليل المضمر الذي يعبّر عنه فلاسفة اللغة وعلماء اللسانيات بخيانة اللغة،كذلك تكون الكتابة الصوفية او الصوتية الشفاهية هي نفي دائم ليس بتقادم معاني اللغة وانما بتقادم المعنى المتجدد في رحلة الاشراق والعرفان التصوفي دائب السعي والحركة والانجذاب التي تمثل خصوصية وفردانية التجربة الصوفية فقط.

يطرح المؤلف مسألة مهمة بان الكتابة الصوفية تختلف عن النص الديني وعن النص الادبي، اذ لكل من هذين الضربين من فنون القول والكتابة ميزات ومحددات وأساليب وجماليات متواضع عليها لا يتوفر عليها النص الصوفي بل هو ينأى بنفسه عنها ولا تشكل لدى صاحبه المتصوف اهتماما في نقل تجربته الذاتية المتفردة (فالامتاع والتسلية والتاثير علل تفقد مقاصدها في الكتابة الصوفية، لتغدو معها كتابة ابي يزيد البسطامي كائنا لا زمنيا، كتابة تعاني انفصاما مستمرا في كينونتها وتعاليا دؤوبا على كل سكون يدفعها نحو الاكتمال، لان العلاقة بين الكتابة والزمن علاقة اقتصادية) ص58-61،الاقتصاد الذي اشار له الكاتب بين الكتابة والزمن لا تنحصر في محدودية ان تقول كل ما ترغب في اقل زمن ممكن وحسب بل ما قصده هو انتهاء سطوة الزمن على تعبير اللغة لا بما يرغب الزمن بل بما ترغبه اللغة كونها تصبح متعاليا على الزمن لا منقادة له.

ونختم قراءتنا لكتاب عامر الراشدي القيم بهذا الهامش التوضيحي التالي الذي يعرض تعالق النص الصوفي مع كل من الفلسفة والادب والجنون.

لغة التصوف والفلسفة

أهم انواع التعبير اللغوي التي يمتزج فيها الادراك العقلي مع اللاشعور المتسامي نحو المثال والحلول في الذات الالهية، هي لغة الخيال التصوفي، فالمتصوف او العرفاني ينطلق بحسب رأيي من منطلق أن أردأ انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه..والعواطف والوجدانات العميقة الّثرّة المتسامية تعجز اللغة التعبير عنها.

من هذا المنطلق يعتبر تعطيل فاعلية اللغة التواصلية مع الآخر قاصرة تماما في حال مرور المتصوف بتجربة الكشف الاستبطاني وحالة  التسامي الذي يّشل الحواس والادراك الواعي للعقل، اللغة التصوفية تأتي على شكل مرموزات وشطحات لغوية فكرية تخييلية منجذبة نحو التعالي على/ فوق الواقع الحسي والتعالي على العقل أيضا. لغة المتصوف غائبة تماما عن مجريات الحياة والمحيط والوجود الانساني الاجتماعي للآخر بجميع اشتمالاته المادية، ما عدا الشحن الوجداني العاطفي اللاشعوري المرتبط بأمعان ورغبة التدرج في معارج الكشف نحو المثال المتسامي ونشدان الوصول الى مراتب متقدمة من الخالق والذات الالهية. لغة التصوّف ترتبط بحالة اللاشعور في تغييب الوعي والحس المادي ليلتقي بهذاءات المجانين الى حد ما مع فارق انه في بعض الحالات الصوفية كما هي عند ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض والسهروردي وغيرهم، فهي(اللغة) تحمل مدلولات تواصلية فلسفية مع الآخر يتداخل الوعي الشعوري والادراكي بتسجيلها . في حين تكون مثل هذه الفعالية التواصلية بقدرات اللغة والتعبير معدومة تماما في هلوسة وهذيان المجنون، وهذا ينطبق ايضا على الكثير من التجارب التصوفية غير الناضجة .

كلا التعبيرين اللغويين لغة التصوف وهذاءات المجانيين يتقاسمان صفة لغة الخيال اللاشعوري غير المنتج انطولوجيا ماديا في تغييب الوجود الواقعي العقلاني،وأعدام فرص التواصل بالآخر.لغة التصوف تلغي الفاعالية الواقعية العقلانية في جانبين: تلغي فاعلية الوجدان المنتج ماعدا استثناءات تجارب تصوفية ناضجة غير مبالغ بها ولا مفتعلة مجال اشتغالها التعبيري الشطحات التصوفية اللغوية على شكل ومضات حكمية واقوال ملغزّة وفي مجال قول الشعر الملغّز ايضا، وأعدام رقابة العقل على اللغة المنطوقة تصّوفيا،يتجلى ذلك في عدم قدرة المتصوف ضبط تداعيات اللغة التعبيرية المنطوقة عنده، بمنطق لغوي نسقي منظّم يستطيع التواصل مع الآخر بعيدا عن شطحات التفكير وتداعيات اللاشعور في توصيل التجربة الذاتية من خلال امكانية المتلقي فك مرموزات اللغة الاشارية، بما يخدم تجربة المتصوف والمتلقي معا.

الجانب الثاني من الألغاء في لغة المتصّوف يتمثل في تخريب الاخصاب التخييلي المنتج ماديا وليس التخصيب روحيا،في عجز التعبير التصوفي، وفي اللقاء مع هذاءات المجنون في عجزهما المشترك أن يكون تعبيرهما اللغوي لغة تواصل يعّتد الأخذ بها،فقط باستثناءات تجارب تصوفية متقدمة يمكن ان يكون التواصل التصوفي مع المجتمع متحققا فيها اشرنا لها سابقا.

اذن ما الفرق بين غطرفة وهذاءات المجنون، وشطحات المتصوف اللغوية التعبيرية!؟

هذاءات المجنون وهلوسة الانفصامي المرضية تصدر عن غياب تام لتداعيات الشعور التخييلي الحلمي المنتج،  بخلاف ما نجده عند المبدع والفنان من تداعيات الشعور الخلاق، فهي عند المجنون تخيّلات لا شعورية مكبوتة انفصامية تفصح عن نفسها،في تعبيرات مشّفرة ناقصة المعنى المفهومي،سائبة غير منظمة ولا منضبطة سطحية وانفعالية هستيرية،غبر مفهومة ولا متسّقة تعبيريا،طلاسم لغوية مغلقة على عوالم خيالية مرضية انفصامية.

الخيال اللاشعوري عند المتصّوف يطرح لغة مفككة أيضا لا تعطي فهما ومعنى منظّما. ومن هنا تلتقي لغة المتصوف مع هلوسات المجنون،ويفترقان كليهما عن لغة الخيال الابداعية المنتجة كما نجدها عند الفنان او الاديب الذي يعود الى الواقع من رحلة الخيال بحصيلة فكرية او فنية.

يقترب هيدجر في تناوله وظيفة اللغة في التجربة الصوفية،انها لغة رمزية صعبة وعسيرة في التعبير عن تجاربهم ومعاناتهم التصوفية،اذ يعجز المتصوف نقل او تمييز الوجود،عن نسيان الوجود الحقيقي، اذ يقع المتصّوف في حالة من تغييب الوجود عقليا وحسيا،و يعيش حالة من المثالية العرفانية في تجربته الذاتية الصرف.كما يعيب براتراند رسل على المتصوفة عقم وعجز اللغة عندهم،بانها عاجزة ان تقول شيئا يعتد ويؤخذ به.كما ان العلم من وجهة نظره أيضا يسخر من اللغة التصوفية سخرية لاذعة.

وفي المنحى ذاته يذهب جورج باتاي (ان التجربة الايروسية- الشبقية تتوازى مع التجربة الصوفية في كونهما فيضين لا تستوعبها اللغة). من هنا يمكنني التذكير بأهمية العبارة التي اورد تها سابقا حين أشرت ان المتصوف ينطلق من واقعة أن أردأ انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه واستيعابه.على أعتبار أن التجربة التصوفية هي غوص في مسالك الكشف الاستبطاني المتسامي المتعالي، التي تنعدم معها ان تكون اللغة ذات جدوى تواصلية مع الآخر.هنا بحسب هذا الفهم لانستغرب ربط جورج باتاي بين التجربة الصوفية والتجربة الجنسية والتقائمها في أن اللغة بكلتا التجربتين تتماهى في العجز واستعصائها  تحقيق التواصل بالآخر.

أما الشاعر المفكر ادونيس فيعتبر لغة التصوف (الاسلامي) هي لغة استكشاف معرفي في الدين والفلسفة والوجود.وأن السرياليين أخترعوا الكتابة الاوتوماتيكية— يقصد بذلك كتابة تداعيات اللاشعور--- والغاء العقل واستخدموا لذلك المخدرات. ويضيف ان المتصوف الغى رقابة العقل بالسيطرة الذاتية على الجسد .وسميّ آنذاك الكتابة (الهيا سماويا) وهي ذاتها الكتابة التي نادى بها السورياليون.(اندريه بريتون في الشعر، وسلفادور دالي في الرسم والتشكيل،والى حد ما ادب اللامعقول عند صوموئيل بيكيت.).

هنا ادونيس استخدم عبارة الغاء العقل عوضا عن تغييب تداعيات اللاشعور الحلمي المنتج في كتابة الشعر وانتاجية الفنون التشكيلية كما في السريالية والتجريد الفني. وهذا الخيال الانتاجي الخصب عند الفنان او الاديب يختلف جذرياعن المخيال المعّطل غير المنتج عند المتصوف،الذي يتأرجح بين تغييب الرقابة العقلية والحسّية،وبين تداعيات اللاشعور عندما تكون اللغة أقرب الى الهلوسة والهذاءات عند المجنون. بأختلاف بسيط أن المتصوف يعي عجز اللغة عنده في تحقيق التواصل مع الآخر،وقدرته أحيانا على البوح بافصاح تعبيري لغوي يتجاوز هذاءات المجنون المغلقة.بينما هي غير ذلك عند المجنون في هذاءاته بلا معنىى ولا ترابط مفهوم.

اما المفكر محمد عابد الجابري يرى أن الحقيقة في التصوف الاسلامي هي عندهم ليست الحقيقة الدينية،ولا الحقيقة الفلسفية،ولا الحقيقة العلمية،بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الاسطورة.وأن العرفان (التصوف) يلغي العقل، ومن حق العقل الدفاع عن نفسه ليس بالطريقة السحرية بل بالتحليل العقلي.

اود توضيح نقطة مررنا بها سريعا، ما هو الفرق بين لغة الابداع الادبي - الفني ولغة التصوف!؟

أن فرويد تعامل مع الخيال بوصفه مصدر الألهام وخزّان الابداع،وكشف تأثير اللاشعور في السلوكيات المنحرفة والسلوكيات السّوية.

برأينا الفنان كالعصابي المريض او المنفصم الشخصية كلاهما ينسحبان من الواقع المحسوس والمدرك عقلانيا الى دنيا الخيال غير المحدود، بخلاف جوهري مهم جدا ان العصابي المريض لايستطيع العودة من رحلة الخيال الى واقع الحياة والمجتمع ثانية، وأن ما يبتدعه له الخيال من واقع وهمي يتصوره ويتعامل معه انه الواقع الحقيقي والحياة السوّية. في حين ان الفنان المبدع او الاديب صاحب الفعالية الابداعية يستطيع العودة ثانية من رحلة الخيال الى واقع الحياة، وبحصيلة ابداعية فنية مميزة على شكل انتاج ادبي او فني او غيرهما.

***

علي محمد اليوسف / الموصل

.......................

الهوامش:

(1) (لتفصيل اكثر ينظر كتابنا / فلسفة الاغتراب في طبعاته الثلاث الاولى عن دار الشؤون الثقافية بغداد 2011، والثانية دار الموسوعات العربية بيروت 2013. والثالثة عن دار غيداء الاردن 2022 الفصل الخامس: الاغتراب والصوفية./والفصل السادس:الاغتراب في الوجودية الحديثة).

"يمس كلُّ فعلٍ سياسي دلالةً جنسيةً ما من واقع المجتمعات البشرية..."

"لا يفوتنا تجاور الثالوث المحرم: السياسة والجنس والدين دون مبرر إلاَّ من سلطةٍ .."

يتداخل (جذرُ السياسة) مع (جذرِ الجنس) لدى الإنسان من جهة الرغبة في التملُّك والسيطرة وإعلان الغلبة وإخضاع الآخرين. السياسة من سَاسَ يَسُوس كما هو معروف، وهي فنون القيادة الناعمة للجماهير وإدارة الحياة العامة تبعاً لمركزية السلطة، بينما الجنس طاقات شهوية (بيولوجية- نفسية) تعبر عن رغباتنا العميقة في الوجود والحياة. ويأخذ الجنس شكل المؤسسات المرتبطة بالزواج والأسرة والتربية والعلاقات بين الذكور والإناث. وكلُّ ذلك في الجانبين مرتبطٌ بعلاقات (القوة والتحكم) على صعيد المجتمعات البشرية. وإذا كان جذر السياسة جذراً ثقافياً بحكم التاريخ، فإنَّه يعيد إنتاج الجذر الطبيعي للشهوات الحسية ويعطيها مستويات رمزية أخرى. وبخاصة أنَّ السياسة- بهذا المعنى الشائع - مجال يجد فيه الناسُ متنفساً ملتوياً للتعبير عما هو بيولوجي وغرائزي. ولذلك يبدو أنَّ الفصل بين الشأن الجنسي sexual والشأن السياسيpolitical - ضمن الممارسات الحياتية - أمرٌ خادعٌ.

ربما تبدو السياسةُ مأخوذةً بحدة الأحداث وتأثيراتها الطارئة فوق سطح الحياة وتحولاتها. وهو ما يغطي أية مكونات شهوية أخرى ضمن الظواهر العامة ولا يعطيها فرصة للظهور المباشر أمام النظرة العادية. ولكن الإثنين (الشأن الجنسي والشأن السياسي) يعكسان بعضهما البعض كرقائق سرية لرغبات عميقة بعمق حياتنا البشرية. ولو كانت المسألةُ غير ذلك كما قد نظن، ما كانت لأفعالنا الإنسانية أنْ تتمتع بتأثيرها القوي في الواقع. هذا الواقع الإنساني الذي يتراكم كأرصدةٍ غرائزيةٍ نتيجة الشهوات والاحتياجات بين فئات المجتمع. فالحياةُ ليست مادةً حياديةً ولا شفافةً في كلِّ الأحوال، لكنها ممارسة بيولوجية- نفسية لجوانب الرغبات القابلة للتداول، والتي نرى فيها أنفسنا أقوياء وتمثل محط أنظار الجميع.

أفعال السياسة تشبه تماماً إغواءَ العملات النقدية الثمينة، فهذه العملات تحملُ رغبات الناس وتُفسح المجال إلى تداول الغرائز بشكلٍّ متسامٍ، لكنها لا تُخفي تماماً هذا البعد الغرائزي أو ذاك. وتعبر الخطابات السياسيةُ عادةً عن هكذا مضمون، فكلمات القوة والقبضة الحديدية والاحتواء والسيطرة وأثبات الذات كلمات تحتمل أكثر من وجه حسي، وكأنَّها صيغ للتعبير عن الوجود المرغوب لأناس يظهرون بكامل مغرياتهم تجاه الآخرين. ولابد لرجل السياسةِ أنْ يستغل وافر الإغواء والجاذبية في تشكيل القُوة المتاحة له، والتي يطرحها بصيغة الإغواء أيضاً أمام الجماهير الغفيرة المتعطّشة للتعلق بأية قُوى عليا. مثل تفاحة آدم التي لم تنضب صورُها حتى الآن. وليس هذا فقط، إنما بإمكان كلِّ إنسان أنْ يقضم منها قضمةً تكفي لإستدراجه سياسياً ورغبوياً في الوقت نفسه.

إنَّ ما نرغبه نحن يبقى موقعاً لرغبة سوانا من الناس والعكس صحيح بالمثل. لدرجة تكوين شبكة مركبة ومتنوعة بحجم الثقافة الجارية التي تشملنا جميعاً، بحيث يبدو الصراع في مجال السياسة صراعاً على تلك الرغبات ومحاولة تحقيقها. من هنا، تأتي إمكانية كلِّ مستوى سياسي محتمل، فهو مرهون بالتوافق أو التطاحن بين الرغبات المتعارضة. ولأنَّ السياسة آفاق ممكنة (لأنها فن الممكن)، فهي أهداف مؤجلة تأخذ مداراتها مع الآخرين. على سبيل المثال: لماذا يختار الناخبون فرداً معيناً - من بين مرشحين محتملين- هو الرئيس القادم لحكم البلاد؟ ما السر وراء انهماك السياسي في أعماله لدرجة المجازفة كأنه يمارس ألعاباً ممتعة وخطيرة؟!

إنَّ الناخبين كفاعلين إزاء الاختيارات السياسية لا يطرحون إمكانية الإنتخاب فردياً، بل ضمن رغبة أكثر عمومية لاستعادة التحكم في المجتمع. ويرون في تلك الاختيارات تحقيقاً (بيولوجيا- نفسياً) لذواتهم الجمعية، وذلك لا ينفصل عن الإمتلاء الوجودي للإنسان باعتبارات أنه جزء من الحياة المؤثرة. وبالتالي كانت قدرة الفاعلين السياسيين على الإشباع السياسي لا تقل عن الإشباع الجنسي في مداه البعيد، حيث أشكال المبادرة والثقة والقوة والتعاطف والميل والنظر بالكيان والإمتاع والسيطرة في النهاية. وجميع هذه الأشياء تظل متأججةً في زخم السياسة بمعناها الإنساني الشهوي مثلما تلتقي مع أفعال الجنس. وقد ينصرف الناسُ إلى هذه الأشياء، عندما تتقابل رغباتهم خارج الذوات لتصبح ملتقى غايات المنافسين أيضاً. إنَّ الانجذاب إلى النقيض يتأتى في السياسة من التمثيل العام للأفعال والاختلاف بين الناس، حتى ولو كانت مستحيلةً. لأنَّ رجل السياسة يفعل ما يرغب وما لا يرغب، يتجه إلى ما يُريد وما لا يُريد. ويدفع الآخرين أيضاً لإدارة أنفسهم بما يرغبون وبما لا يرغبون. وقمة إثارة السياسي الفعلية عندما ينخرط في ممارسات تلبي احتياجات غيره من الناس. مع أنه يأتي هذه الممارسات كاحتمال لقدرته على التلّون البرجماتي أحياناً أو كإحتمال تالٍ من جانب اعترافه بالتنوع والتغيير.

هذا المظهر هو أساس وصف السياسيين بتعدد الوجوه والأقنعة أمام الجماهير. فهم يتقلّبون كما تتقلّب الحرباء في بيئتها الطبيعية. إذ لا يكف السياسي عن اقتراف التعدد الرغبوي تجاه المناوئين، وأمام الأغيار، وصولاً إلى ما يهدف. وذلك من جانب كون التعدد رغبةَ الآخر وسيكون ممتعاً ومبذولاً لاستغراق ما، لانكشاف ما، لتلصص غريزي ما. والغواية والإغراء أنْ تصبح أنت مفارقاً لذاتك مع آخر هو الشحم الدسم للممارسة السياسية. والأمر المشترك بين الأطرف ليس ترفاً من هذه الزاوية، لكنه بنية حاملة لجميع علامات الرغبة المتبادلة وجذورها التي لا تقف عند أي حد قريب.

إنَّ الإغواء- بكل محمولات هذه الكلمة - حركة سارية في السياسة حتى الثُمالة. هل هناك ما هو أكثر بريقاً من الهيمنة على الجُموع؟! كيف يُقارن السياسي بغيره من الناس إذا احتكمنا إلى أصداء وجوده لدى الحشود؟! ما هذا الإنصات كله والولَّه كله بالسياسيين أثناء الأحداث الجسام؟! لماذا ينتظر الناس من السياسيين ردَ فعلٍّ عام على المستوى ذاته؟ إذ كثيراً ما ينتظر الناسُ رغباتهم المبتغاة في (بطل سياسي) قادم من جوف المستقبل ليحل لهم المشكلات والقضايا. إنَّ الخيال الشعبي يصنع هؤلاء الأبطال السياسيين مع دورات التاريخ والظروف المختلفة. فرجل السياسة باتَ هو المخلِّص الكوني للجموع البشرية بلغة الديانة المسيحية، فالحلم الكامن وراء ذلك الوضع يعمل على منوالها.

بالطبع قد يحس السياسي بالرغبات والآمال والأحلام كما لو كان مأخوذاً بمهام حيّة ومقدّسة. إن السياسي في الوقت عينه: مرآةٌ وراءٍ ومرئي. ويكمن هذا الثلاثي في شخصية واحدة بقدر ما يسيطر صاحبها على المحيطين به. هو عندئذ صورة وكيان، هو واحد ومنقسم، هو ذات وموضوع، هو كلٌّ وفرد. ويعيش ذلك السياسي بصيغة الجمع إلى ما لا نهاية فيما يتصور. إنه يستغرق في لحظة من الحماس والطاقة القصوى انغماراً بروح الحياة. وفوق هذا وذاك ما أبرز أنْ يرى رجل السياسة ذاته متجسداً بشكل عمومي!! وتلك هي المكانة الاجمالية التي لا يبلغها إلاَّ أنصاف الإلهة في الأساطير. حيث تكون ذات الإنسان حاشية المتعة بفضل قدراته على الإيجاد وإصدار الأوامر النافذة وخلق الوجود المشبع بالأسرار والألغاز!!

من تلك الزاوية، لا يخلُّو كلُّ فعل سياسي من أصداء لرغبة جنسيةٍ ما. دلالة شهوية بعيدة تتم بالاستحواذ على الآخر، وتعتبره موضوعاً للانكشاف والتقلب والمخاتلة تحت النظر والمراقبة. ولهذا يكون" السياسي المُحنك" عاشقاً ولّهاً قدر ما ينفذ أعماله وقراراته. والعلة وراء ذلك أن السياسة ليست تقديراً لموقف ولا إدارةً لشأن عام ولا مشاركةً في انجاز مهام الدولة فقط، ولكن هناك تقلُّباً مراوغاً مع المجهول كما لو كان أساس ذلك حساً حيوانياً داخل الإنسان. بالإضافة إلى انجذاب كيان السياسيين نحو رؤية علامات قبول أفعالهم لدى جميع الناس، على أن يتفتق ويتفجر القبول في مراحل الممارسة مع حركة الجماهير. وفي المقابل، فإن معنى كلمة السياسي كصفةٍ يصح إطلاقها بلغة ناعمة تماماً مثل دلالة كلمات الجنس.

وليس أدل على ذلك من المظهر الأوضح بروزاً لدى الأنظمة السياسية الغربية، حين تظهر بعض المشاهد الأنثوية الطاغية خلف رؤساء الدول والمسؤولين هنا أو هناك، سواء بفضل حضور زوجاتهم أو عشيقاتهم اللاتي يكرسن لطفاً غرائزياً بالملابس والأجساد والأشكال والوجوه والعلاقات في محيط السلطة. لدرجة تحويل أنظار الموجودين والمتابعين إلى شحنات نفسية وجسدية لا تخلو من استعراض. ومن ثمَّ، كان يستحق الاحتفاء بالفوز السياسي اطلاقاً لمظاهر الغلبة والاحتواء وكشف القوى والعضلات. ومؤخراً بالأمس القريب، جاءت زوجة ترامب ميلانيا كناوس ترامب Melania Knauss -Trump عارضة أزياء سلوفينية، لا تمتلك شيئاً في عالم السياسة إلا المظهر الجذاب والقوام الرشيق والوجه المتراكم وراء المساحيق!!

وحينما كانت تتكلم زوجة الرئيس ترامب كان يسبقها المظهر الأنثوي قبل الحضور السياسي. كحال جميع رؤساء الدول الغربية، إذ يحرصون عادة على اصطحاب زوجاتهم في اللقاءات والمنتديات العامة. ودونالد ترامب هذا كان يدخل كل فعاليات السياسة بجسده مباشرة، وهو الإنطباع الحسي المبدئي عنه. لأن مظهره العام كان يحمل علامات تجميل لا تخطئها العين. كما أنه كان يتهيأ للكاميرا بشغف حسي مع الشغف السلطوي الذي تركه موظفاً عمومياً بمرتبة رئيس. وحتى عندما أراد خصومه السياسيين محاربته، أظهروا صوراً عارية لزوجته، وكأنَّ هناك استعمالاً لسلاح الغرائز نفسه في إدارة الصراع السياسي. إنَّه الفهم الغرائزي لعالم سياسي معجون بالرغبات التي لا تُفرق بين الممارسات السياسية والحقول الإنسانية المختلفة.

من زاويةٍ أخرى، تعد السلطة السياسية بمثابة التجسد الشهوُي للمهيمنين عليها بشكل ما. دوماً السلطة هي نطاق من الغرائز التي يرغب الناس في دائرتها، ويتمركزون حولها، وتستقطبهم بدورها كلياً إلى درجة الجنون. ولا توجد السلطة هكذا دونما اتصال بجانب الخفاء الممتع للأسرار والعلاقات، إذ تترك آثارها في أجساد أصحابها وأخيلتهم على هيئة رغبة كلية هادرة. السلطة من تلك الجهة غريزة تستمر في الجري وراء أشباحها، وصورها، وماهيتها. ولهذا هي تخلق أثيرها الشفاف والكثيف معاً بين الناس. وتحدد نطاقاً من الحقائق التي تلون تأثيرها كلما كانت ناشطة في تضاعيف الحياة السياسية.

ولئن كانت السلطة تمثل كتلة من اللهب الشهوي الحي بين الناس، فلأنها تنطوي على عدة أشياء مزدوجة:

1- تبقى السلطة مرغوبة كممارسة سادية إزاء أناس يتقبلونها بنفس الإيقاع.

2- تضرب السلطة نطاقاً من المازوخية التي تدفع الجماهير للاستمتاع بالقهر والإكراه، واستعذاب التسلط عليهم من قبل الساديين.

3- تتميز السلطة بدمج الحواس في دلالة الهيمنة والقدرة على الترقب والتتبع. وتلك خاصية تجعلها سلطة غامضة، ضبابية. وتحولها إلى ممارسة غريزية ترتبط بإحساس بدائي سحيق لدى الجنس البشري.

4- ترتبط السلطة بالآثار الراجعة للإشباع النفسي وتفريغ شحنات العنف بآليات تخفيها ولكنها ترتبط ببيولوجيا الحياة والجسد والعقول.

5- تفرز السلطة لدى ممارسيها إحساساً مخدراً بصورة أو أخرى. ذلك نتيجة انعدام الاعتناء بالواقع. كما أنها ترسخ تكذيب الحقائق على نحو تلقائي، أو بالأحرى تضع السلطة على عيون أصحابها عصابة يجعلهم ينكرون الأشياء والزمن دوماً.

6- تؤدي السلطة إلى تضخم اللاوعي بصورة خيالية. لأن اللاوعي ينسخ الأشياء بقدراته الوهمية على نحو مخل بأوزانها النوعية في الحياة. والسلطة هي بالتوازي الوسيط الفضفاض الذي ينكشف بأفعالنا مباشرة وردود هذه الأفعال.

7- تزيد السلطة نسبةَ التحرش السياسي الشهوي بالآخرين. فلا توجد سلطة لا تتحرش بأعدائها ومؤيديها على السواء. لأن السلطة تحمل داخلها عناصر تدميرها وهذا ما يسقط على ممارسيها بصورة دائمة، كأن هناك نوعاً من التدمير الذاتي.

8- تنتج السلطة معالم وقدرات مناسبة لأصحابها ولما يفعلونه تجاه الآخرين. مثل تغيرات الشكل والخشونة والتنطع والتكالب على المصالح والزلاقة اللفظية.

9- تتخفى السلطة على المستوى الاعتيادي المباشر، غير أنها تتراكم عند المواقف الحدية. وتتجلط مثل الدماء كدلالات خارج الزمن كما لو كانت مادة لا تزول إطلاقاً. ولذلك فإن المفقود من السلطة أكثر من المكتسب، ولذلك تسعى دوماً لعملية من التعويض والإبدال المستمرين.

10- لا تشكل السلطة موضوعاً قائماً بذاته مثلها مثل الرغبات الأخرى. ولكنها تحتاج من وقت لآخر موضوعاً جديداً من أجل إظهار قدراتها الشهوية. إنها تأتي خلال ممارسات الناس بصرف النظر عن الحقول الإنسانية التي تجوس خلالها.

ولهذا تعد السلطة السياسية نوعاً من شهوة التكرار الذي لا يُمل. إنها تكرار ينسي نفسه ومحيطيه تدريجياً حتمية هذا التكرار. حتى يكاد أن ذلك يمثل قانوناً فيما وراء الظواهر الناتجة عنها. وهكذا شأن الجنس على الطريق ذاته، فهو تكرار فوق مستوى التكرار (تكرار التكرار) . لأنه يفيض بتفاصيل إنسانية لا تخضع لمعايير ولا مقاييس. ويبقى محكوماً بنقطة بداية تترحل إلى الأمام، إلى انهماك جديدٍ. وإلاَّ لما استمرت الشهوات الجسدية منذ وجود الإنسان حتى الآن. وقد اسفر اشباع الشهوات الجنسية لاحقاً عن هذه الأعداد والحيوات الهائلة بتنوعها وتاريخها.

والتكرار نوع من استغراق السياسة والجنس في العمل. فليس أكثر من السلطة التي تحقق وجودها على هذا الصعيد. ولا توجد تلك الخاصية بعيداً عن علاقة الأنا - الآخر. لأن السلطة كشهوة تفترض، بل تمتد بامتداد هذه العلاقة المتوترة. ولذلك تحتم الشهوة علاقة قاهر ومقهور، غالب ومغلوب. وفي التراث الشعبي المصري يقال" يا بخت من بات مغلوب ولا بات غالب". في اشارة إلى قمع السلطة القائم على شهوة النيل من الآخر. غير أن اللافت هو ترجيج المبيت في وضعية المغلوب عوضاً عن ممارسة الظلم، وهذا وضع لا يستقيم مع إحساس الإنسان العادي وصون كرامته، لكن المازوخية تغلف الأمر برغبة في أنْ يكون بعض الناس موضوعاً للتسلط. من هنا ترتبط المازوخية السياسية بالمازوخية الجنسية.

وعلى أنَّ العبارة السابقة أخلاقية الجانب، بيد أنها تتكتم سراً عن سفالة السلطة التي تدمر كل المعايير الإنسانية. ومن تكرار هذا الظلم يود الفرد العادي المبيت مغلوباً على أمره، مقهوراً دون أي شيء سواه. ولعلنا لاحظنا أثناء الربيع العربي هذه الحشود التي تعتبر أمواجاً جسدية في المقام الأول. إنهم يمثلون نسبة التجلط الحسي لشهوات الجموع سياسياً. لأن هؤلاء الجموع كانوا في حالة استنفار دائم. اتصال جسدي هو القطيع الملتحم كرغبة عامة. إذ ذاك كان يتحرك هذا الكم البشري كحال التفريغ الحسي للمكبوت النفسي وإفرازاته المادية.

و كلمة الأجساد بصدد السلطة ليست مجازاُ، لكنها فعل عمومي قيد الممارسة. ولهذا فإن التجلي غير المباشر للشهوات والغرائز هو التراص الجسدي السياسي. وكانت غرائز الجموع هي المحرك الذي دفعها في بعض الأحيان إلى الانزلاق نحو التدمير والعنف، كما حدث مع الاشتباكات التي جرت آنذاك في كل أحداث الربيع العربي. ونظراً لأن الشهوات الجنسية في المجتمعات العربية مقموعة باستمرار، فإنها تأخذ أبعد الطرق للتعبير عن مكنوناتها المباشرة. بالتالي تنقلب الشهوات وترتفع إلى عمل سياسي مشهدي. ومع ضبابية المشاهد، كنا نسمع كيف تحارب الأنظمة الاستبدادية هذه الجموع لأنها أنظمة كانت تحارب الحياة الكريمة بالأساس.

على سبيل المثال قبل سقوط بعض الأنظمة السياسية أثناء الربيع العربي قيل إن هناك تحرشاً جنسياً داخل المظاهرات. والوصف الجنسي ينضح بالوجه المقابل للقهر السياسي في مجتمعاتنا. وقيل ذلك حينئذ لتفريق المتظاهرين وبث الخوف لدى النساء لمنعهم من المشاركة في الحراك. ثم كانت التهمة نفسها بعد الربيع العربي، حيث قيل إن المتظاهرين ضد الشرعية الجديدة، فأغلبهم من المنحرفين أخلاقياً وراغبي التحرش الجنسي بالفتيات. والسؤال: كيف تجتمع الأنظمة السياسية المختلفة على وصف واحد؟ يصح الوصف باعتبار أنًّ التحرش الجنسي يُساوي التحرش السياسي ويتبادلان الأدوار. فالجسد واحد والرغبة متصلة وقابلة للانقلاب والتحول بين المستويين السياسي والجنسي.

وفي التراث العربي، كانت هناك ظاهرة الخصيان الذين ينتشرون في قصور الملوك والسلاطين، حتى وصل بعضهم إلى مراكز نافذة، وكانوا يحظون بمكانة لدى الأمراء. والدلالة الموضحة لذلك أن الخصاء هو عمل سياسي بالمقام الأول لا بيولوجي ولا غيره. فالملك أو الأمير يسلب قدرات بعض الذكور في إشارةٍ إلى أنَّ كل من يقترب نحو دائرة التأثير سيكون مصيره فقدان ذكورته. وبخاصة أن الذكورة تعني فاعلية سيطرة الذكور على علاقات القوى في ثقافتنا العربية، لأن السلطة لم يتم اسنادها تاريخياً خلال تراثنا العربي إلى أنثى (سواء أكانت ملكة أم أميرة) إلاَّ نادراً وفي إطار من المؤامرات والصراعات السياسية. وبحكم أن السلطة دائماً ذكر في عرف العرب، فإنها لابد أن تكون كذلك بالنسبة لمالكها الأول (الحاكم)، أي أنه الذكر الوحيد المعترف به دون كل الناس، حيث يرفض هذا الأخير بدوره أنْ يكون هناك ذكور غيره في مخدع السلطة الخاص والعام. من ثم توارثنا شعبياً لفظ " الدكر" لمن يحمل مسئولية بها سلطة لإنفاذ القرارات وتحمل التبعات واخضاع الآخرين لتوجهاته.

***

د. سامي عبد العال

"عندما تحصل النبتة على غذائها المناسب فلا شيء يمنعها من النمو، وعندما تفقد غذائها الملائم فلا شيء يمنعها من الذبول والتلاشي" – منسيوس (ترجمة جيمس ليجي).

"المعدن غير الحاد يجب ان ينتظر الشحذ والسن، فقط حينها سيصبح حادا. طالما طبيعة الناس سيئة، يجب ان ينتظروا مجيء معلمين ونماذج مناسبة وحينها فقط سيكونون صحيحين" – زونزي (ترجمة ايرك هوتن).

سنحاول في هذا المقال المقارنة بين رؤية اثنين من كبار الفلاسفة الصينيين، منسيوس Mengzi و زونزي Xunzi، حول أهمية التعليم الاخلاقي.

كلاهما كانا تابعين لكونغزي kongzi (551-479 ق.م) الذي عُرف في الغرب بكونفوشيوس. طريقته ككونفوشيوسية لقيت شعبية لعدة مئات من السنين من خلال المختارات Analects، وهي نصوص كُتبت بواسطة تلامذته احتوت على تعاليمه. طريقة كونغزي تدعو الى عدة أشياء في المجتمع، ولكن في هذا المقال سنركز فقط على غرس الأخلاق.

اعتقد كونغزي ان المجتمع يمكن تحسينه فقط عندما يكون الناس الذين في السلطة فضلاء، وهو قام بتطوير أساليب تعليمية لغرس اللطف والحكمة بالاضافة الى المعرفة. مقولته "اذا انت تتعلم بدون تفكير حول ما تعلمته، سوف تضيع. اذا كنت تفكر بدون تعليم، سوف تسقط في خطر" أثارت المزيد من النقاش بين الاكاديميين الكونفوشيوسيين حول مقدار التأكيد الذي يجب ان يُخصص لكل من التفكير والتعلم على التوالي، هذا ما تكشفه المقارنة بين وجهتي نظر تلميذيه منسيوس و زونزي.

النمو مع منسيوس والشحذ مع زونزي

استعمال منسيوس لكلمة "ينمو" التي ذُكرت آنفا تشير الى عملية التعليم، و"التغذية" لتشير الى الاهمية، مقابل استعمال زونزي لكلمتي "شحذ" و "صحيح"، يحدد الاختلاف الاساسي في فلسفة التعليم الاخلاقي لمنسيوس و زونزي. منسيوس عاش في القرن الرابع قبل الميلاد وعُرف بـ "الحكيم الثاني" (الثاني لكونزي). هو اعتقد ان الطبيعة الانسانية تميل لتكون خيّرة مثلما الماء يميل للتدفق نزولا. هذا لا يعني ان الانسان لايمكن ان يكون سيئا مثلما الماء يمكن وقفه عند منحدر التل. ايضا عندما يفعل الناس سوءا هذا لا يمكن إلقاء اللوم فيه على طبيعة الناس وانما على ظروفهم. الشر ليس فطريا، لكنه انحراف ناتج عن بيئة سيئة مثل صدمة الطفولة، او نقص الحاجات الاساسية.

كيف يمكن لمنسيوس القول ان طبيعتنا هي عموما خيّرة؟ هو يدّعي انه مثلما كل الناس تقريبا لديهم نفس الأقدام، او نفس الأذواق تقريبا فان قلوبهم ايضا تشترك اساسا في نفس إمكانية الصلاح. هو يبني هذا الادّعاء على دوافع أخلاقية عالمية مثل التعاطف الفوري الذي يشعر به أي شخص عند رؤية سقوط طفل في بئر (ما عدى المختلين عقليا). هو يسمي هذا التعاطف المفاجئ "براعم الخير والنزاهة". هذه البراعم لها امكانية النمو والتطور لو اُعطيت الإرشاد الصحيح – أي التغذية الصحيحة او انها ستتآكل وسيستسلم الفرد للشر.

يريد منسيوس زراعة الحكمة وليس المعرفة بحقائق معينة. الإرشاد الذي يقدمه يأتي على شكل تعليم أخلاقي من خلال التفكير. من خلال التفكير، يفهم المرء خيريته الفطرية ويوسّعها على نحو متساوي في اتجاهات ملائمة. التفكير كغرس أخلاقي ذاتي يقوّي محفزاتنا الرقيقة و الخيّرة عندما نستجيب لها بوعي وقبول.

المعوقات لهذا النمو تتضمن قلة الجهد او رفض قيمة الفضائل. منسيوس يستعمل توضيحات لعبة الشطرنج حين يضع لاعب معين كل ذهنه في اللعبة بينما الآخر يصرف انتباهه الى كيفية اطلاق النارعلى بجعة. ورغم انهما كلاهما يتعلمان سوية ، لكنهما يختلفان في المهارة ليس بسبب اختلاف الذكاء.

الامير زوكو Zuko يبدأ مسلسل الرسوم المتحركة (افتار، 2005) (1) بنفيه من قبل والده، وفي سعي يائس لإستعادة شرفه مجددا، وإنهاء نفيه، يرتكب زيكو أفعالا شنيعة. بعد ذلك يتصرف عمه اروه Iroh كمرشد له، يقدم له غذاء الحب والحكمة التي يحتاجها. حصول زوكو التدريجي على الحكمة من خلال التفكير يتضح طوال الفيلم، وفي النهاية هو يقرر مساعدة افتار لاستعادة التوازن في العالم. الكيفية التي يتعلم بها زيكو من الشفقة توضح جيدا رؤية منسيوس حول أهمية استيعاب التربية الأخلاقية من خلال التفكير .

من جهة اخرى، اعتقد زونزي (في القرن الثالث قبل الميلاد) ان طبيعة الانسان تميل للمصلحة الذاتية، وعليه تكون سيئة. عندما يتبع الناس ميولهم الفطرية ويطيعون طبائعهم، هم سوف يخلقون فوضى واضطراب. هو يقول، اذا كان شخص ما جائعا، سيرغب بالتخمة، وهذه طبيعتنا الفطرية. نحن نعطي الطعام للآخرين فقط عبر اتّباع أعراف اجتماعية مصطنعة. ولذلك يقول زونزي "من الضروري انتظار التأثير التحوّلي للمعلمين، وللنماذج وارشادات الطقوس (أعراف اجتماعية مصطنعة) ومعايير الصلاح: فقط عند ذلك سيعطي التلاميذ نتائجا، هم يتحولون الى نظام وشكل صحيح، وبالنهاية يصبحون تحت السيطرة ". الطقوس التي خلقها الحكماء تقدم الشكل الصحيح الذي يعبّر به المرء عن نفسه بشكل منضبط في مجتمع يعمل بسلاسة. زونزي ايضا يدعو الى الجهود المقصودة المكررة لمطابقة أفعال المرء مع اوامر المختارات، في عملية بطيئة وصعبة تتعارض مع حوافزنا الطبيعية .

منسيوس و زونزي يختلفان بشكل واضح حول الاهمية النسبية للتعليم والتفكير في الغرس الأخلاقي. بما ان منسيوس يعتقد ان طبيعة الانسان تحوز على براعم الخيرية التي نحتاجها للغرس، فهو يؤكد على التفكير الشخصي. بالمقابل، بما ان زونزي يعتقد ان ميولنا الفطرية تميل للمصلحة الذاتية، حتى السيئة، وتحتاج الى جهود مقصودة لتصحيحها، فهو يؤكد على التعلّم من المعلمين.

النظر الى الإختلاف

يمكن فهم التفكير كعملية ذات مصدر داخلي، والتعلم كعملية ذات مصدر خارجي، لتجسيد الفرق بين الحكمة (داخلي) والمعرفة (خارجي). يقول منسيوس "ابحث سوف تجدها. تجاهل سوف تفقدها"، بينما زونزي يقول "الفرد القبيح يتوق ليكون جميلا، اما الفرد الفقير يتوق ليكون غنيا. مايفتقده الفرد فيه سيبحث عنه في الخارج. الناس يرغبون ليكونوا جيدين لأنهم سيئين". لذا يمكن القول ان منسيوس و زونزي يتفقان على الحاجة للبحث عن الحكمة والمعرفة، لكنهما يختلفان حول أين يبحثان. الفرق يعود الى الطبيعة المتصورة للرغبة الداخلية. طبقا لمنسيوس، الناس يجب ان يطوروا رغبتهم الطبيعية للصلاح، بينما زونزي يرى ان الناس ذوي المصلحة الذاتية يجب ان يتعلموا لتجاوز رغباتهم الفطرية. لذا فان فهمهما للصلاح ايضا يختلف طالما بالنسبة لـ منسيوس يعبّر الصلاح عن ميولنا الفطرية ، ولكن بالنسبة لـ زونزي هو اصطناعي، وُضع لتلبية حاجات المجتمع. وكلا الرؤيتين يمكن مقارنتهما مع مدارس اخرى للفكر برزت في الصين في ذلك الوقت. مرشد الطاوية Laozi ينسجم كثيرا مع التفكير الداخلي لـ منسيوس ويرفض القيد الخارجي لـ زونزي كطموح، بينما رائد القانونية ، هان فيزي (تلميذ زونزي) ينسجم كثيرا مع التعليم الخارجي لـ زونزي، والذي يعتمد جدا على المعلم، وبهذا يكون مرتكزا على السلطة.

ربما خلافهما يمكن فهمه بشكل أفضل عبر فحص الاستعارات التي استعملها الاكاديميون. في الاقتباس المذكور في البداية، يقارن منسيوس عملية التعليم بنمو النبتة، عندما تتوفر لها المقادير الضرورية، فان النبتة سوف تنمو بذاتها. هنا تلعب البيئة دورا هاما كما اتضح بواسطة منسيوس في قصته "ام منسيوس انتقلت ثلاث مرات" – لتعيش في أحسن بيئة لغرض النمو الفكري لابنها، الذي تريده ان يكون قريبا من مدرسة.

زونزي ينتقد رؤية منسيوس بان العواطف والرغبات تتطلب تنشئة، بدلا من ان يتم ترسيخها فينا بوسائل أخلاقية بواسطة المعلمين، ولكن هنا زونزي يسيء فهم ما يقوله منسيوس. في الحقيقة، هما كلاهما يدعوان الى التنشئة والإرشاد، أي البيئة الملائمة – لكن بأشكال مختلفة. كلا الاكاديميين يستعملون استعارات للتعليم الاخلاقي والذي هو عملية بطيئة تحدث تدريجيا بمرور الزمن – اما نمو خضري او زيادة حدة المعدن. كلاهما يتضمن تقدم دائمي تدريجي طالما لايوجد هناك تسمم في البيئة، دون الانتكاس الى الظروف السابقة او إعادة التعلم. لكن الطرق تختلف، زونزي يربط عملية التعليم الاخلاقي بشحذ وزيادة حدة المعدن، او جعل الخشب مستقيما – اشياء لا يمكن ان تحدث من تلقاء نفسها، كما يحصل في نمو براعم النبات. زيادة حدة المعدن وشحذه او استقامة الخشب تتم ضد طبيعة الخشب و ضد المقاومة الصلبة للمعدن ، بينما تربية منسيوس في النمو هي في تناغم مع الميول الطبيعية لبراعم النبتة.

هذا بالضبط مكان الاختلاف بينهما في نموذجهما للتعليم الاخلاقي. منسيوس يقترح نموذجا للكشف الذاتي يستعمل اتجاه اكثر ليبرالية: الطفل الذي يتعلم قيم جيدة ينمو في بيئة صحية حيث تنضج تلك القيم فيه عندما يعمل. (هذا الاتجاه يمكن رؤيته في نقاش منسيوس مع الملك زوان حول ذبح ثور). زونزي يقترح نموذج اكثر سلطوية حيث لايمكن اكتشاف الاخلاق بواسطة المرء ولذا يجب ان يُخبر المرء بالصحيح والخطأ. بالنسبة لـ زونزي الاخلاق يجب فرضها من الخارج من خلال التعليم لتصحيحنا والمحافظة علينا، وفقط من خلال الجهد المقصود لنتعلم سنكون قادرين لنصبح خيّرين. هذه الرؤية هي ضمنية عندما يقول زونزي، "انا أمضيت مرة يوما كاملا أتأمل لكنها لم تكن جيدة بنفس مقدار لحظة تعلّم". لكن بالنسبة له التعليم ليس مسألة سارة كما هو لمنسيوس طالما بالنسبة لـ زونزي يستلزم كبحا لرغباتنا الفطرية ونتعلم لننحرف عنها كل يوم.

غير ان منسيوس وزونزي كلاهما يؤكد على التعليم كعملية متدرجة لايمكن اطلاقها بسرعة. يقول زونزي "التعلم يجب ان لا يتوقف. صبغة زرقاء يمكن الحصول عليها من نبتة معينة، ومع ذلك هي اكثر زرقة من النبتة. الثلج يأتي من الماء، ومع ذلك هو أبرد من الماء. الرجل يتعلم ويختبر نفسه ثلاث مرات يوميا، ومن ثم معرفته تكون واضحة وسلوكه سليم". يقول منسيوس "يجب على المرء ان يعمل فيها، لكن لا يهدف لها مباشرة. دع القلب لا ينسى ولكن لا تساعده في النمو". هو يعطي مثالا عن الفلاح الجاهل الذي يسحب نبتة الحنطة ليجعلها تنمو أسرع.

عندما أرغب بفقدان الوزن وأذهب الى الحديقة العامة وأركض مدة ساعة باليوم، ثم أتناول بيتزا كمكافأة لعمل الشاق، فان جميع التمارين التي اقوم بها سوف لن تساعدني. انها فقط تسبب ألما في ساقي في اليوم التالي لتجعلني غير قادر على الركض، بينما البيتزا تجعلني مرة اخرى اكثر وزنا. اذا اردت ان أفقد الوزن، سأحتاج للركض كل يوم وضبط وجباتي الغذائية. نفس الشيء، بالنسبة للانسان لكي يكون خيّرا والمجتمع يصبح منظما، وسواء كانت الخيرية ميلا فطريا ام لا، سنحتاج للسماح بمزيد من التعليم ليأخذ طريقه منذ طفولتنا، وعندما ننضج تدريجيا، كذلك سوف تنضج الخيرية في قلوبنا وفي أفعالنا. وكما يقول فردريك دوغلاس " بناء طفل قوي أسهل من إصلاح انسان محطم".

نستنتج ان منسيوس وزونزي ليسا مختلفين كما يظن البعض، كلاهما كونفوشيوسيان، وفي القراءة المعمقة لهما نجد كلاهما يحرضان على التعليم باعتباره هاما للناس ليكونوا أخلاقيين وجيّدين، وهاما للمجتمع لتحقيق التناغم . نقاط الاختلاف تتعلق بالطريقة التي يؤثر بها التعليم على الغرس الاخلاقي للفرد – سواء كانت طريقة مهيمنة من خلال التفكير او من خلال التعلم.

انه جزء من وظيفة التعليم مساعدتنا في التحرر من المعوقات الفكرية والعاطفية لزماننا. هذه المعوقات نظر فيها وتنبأ بها كل من منسيوس وزونزي.

***

حاتم حميد محسن

...................

الهوامش

(1) مسلسل افتار(Avatar: The last air bender) اعتُبر أعظم سلسلة تلفزيونية امريكية للاطفال حتى الان، عُرضت في تلفزيون Live-action وبدأت اولى حلقات الفيلم عام 2005. تدور أحداث الفيلم في عالم تتألف فيه الحضارة الانسانية من أربع امم تقترن كل واحدة منها بأحد العناصر الكلاسيكية للطبيعة. قبائل الماء، مملكة الارض، امة النار، بدو الهواء. في كل امة هناك اناس معينين خبراء يُعرفون بـ penders لهم القدرة على استخدام العنصر المطابق لأمتهم والسيطرة عليه. الاله افتار هو الوحيد القادر على التأثير على جميع العناصر الاربعة. افتار هو حاكم دولي واجبه المحافظة على الانسجام بين الامم الاربعة ويعمل كوسيط بين الناس والأرواح. 

 

وظيفةُ رمزيةِ اللغةِ هي إيجادُ الهُوِيَّات المُتَشَظِّيَة في العلاقات الاجتماعية، وتحويلُ التجاربِ الشخصية إلى مفاهيم ثقافية مركزية في البناءِ الشُّعوري للفرد،والسُّلطةِ الاعتبارية للجماعة، والمَنهجِ النَّقْدِي للشرعية التاريخية، والمِعيارِ الإنساني للمشروعية الحضارية. ووظيفةُ رمزيةِ اللغة لا تَنفصل عَن مُهِمَّة الظواهر الثقافية في المجتمع، وهي إيجادُ نِظام أخلاقي مُتكامل يَعْمَل على تطويرِ الأفكار الإبداعية، وتعزيزِ تَأقْلُم الفردِ والجماعةِ معَ تَقَلُّبَاتِ الواقعِ وأَزَمَاتِه، وتفكيكِها معنويًّا وماديًّا، وتأويلِها شكلًا ومَضمونًا، مِن أجل تحديد تأثيراتها على العقل الجَمْعي، الذي يُمثِّل خَلاصًا معرفيًّا قائمًا بذاته، ومُسَيْطِرًا على البُنية الوظيفية للهُوِيَّة الاجتماعية بِوَصْفِهَا مُحاولةً لِتَحَرُّرِ شخصية الفرد الإنسانية مِن قُيودِ البيئة وضُغوطاتِ الطبيعة، ومُهَيْمِنًا على مركزية الوَعْي في الواقع بِوَصْفِهَا صَيرورةً تاريخيةً تَكشِف الأنساقَ الكامنةَ والعناصرَ المَكبوتةَ في الحياة اليومية، على المُسْتَوَيَيْن الفَرْدي والمُجتمعي. وإذا كانت صَيرورةُ التاريخِ تتجسَّد في رمزية اللغة وعيًا وإدراكًا وإرادةً، فإنَّ الحياة اليومية تتجسَّد في بُنية الفِعْل الاجتماعي فِكْرًا ومُمَارَسَةً وتطبيقًا، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تفعيل الظواهر الثقافية كنظامٍ عقلاني مُتَجَاوِز لِسِيَاقَاتِ التفكير الاستبدادية، وكمنظومةٍ حضارية حاملة لِمَاهِيَّة الإنسانية. واتِّحَادُ النظامِ العقلاني والمنظومةِ الحضارية يَمنع فَصْلَ الوَعْي عن الواقع، ويَرْدِم الفَجْوَةَ بين صِناعةِ الثقافة وتعقيداتِ الحياة اليومية. وكُلُّ نظام عقلاني يَحتاج إلى أدواتِ تنقيبٍ عن آثار سُلطة المعرفة في العلاقات الاجتماعية، وكُلُّ مَنظومة حضارية تحتاج إلى آلِيَّاتِ تفسيرٍ لرمزية اللغة في التجاربِ الشخصية والثقافةِ المُتَجَانِسَة.

2

سَيطرةُ العَقْلِ الجَمْعي على رمزية اللغة شكليًّا ومَوضوعيًّا، وسَيطرةُ الإنسانِ على الطبيعةِ معنويًّا وماديًّا، تُحَدِّدَان المَفهومَ الفلسفي للسَّيطرة، وتُسَاهِمَان في تحليلِ النسيج الاجتماعي، واكتشافِ عناصره الأوَّليَّة، واستخراجِ أنويته الداخليَّة، فَتَتَكَرَّس الإرادةُ الإنسانيةُ كَمِعيار حقيقي للوجود العابرِ للحُدود، وتُصبح الشرعيةُ التاريخيةُ اكتشافًا دائمًا لِسُلطةِ المعرفة، وتحليلًا عميقًا لوظيفةِ الهُوِيَّة، وتجسيدًا منهجيًّا لِمَاهِيَّةِ الحضارة. وإذا كانَ المُجتمعُ يُكَيِّف ذَاتَه معَ إفرازات سُلطة المعرفة لإعادة بناء هُوِيَّته باعتبارها حالةَ خَلاصٍ، ولَيْسَتْ نسقًا استهلاكيًّا، فإنَّ الإنسانَ يُؤَسِّس ثِقَافَتَه على نمطِ التفكيرِ والفِعْلِ الاجتماعي، لربطِ مَصلحته بتفاصيل العَالَم المُتَغَيِّر مِن حَوْلِه. ونمطُ التفكير لا ينفصل عن حُرِّية الذات ضِمن النظام الأخلاقي المُتكامل، والفِعْلُ الاجتماعي لا ينفصل عن التَّحَرُّر مِن ضَغْط اللحظة الآنِيَّة. والتفكيرُ الذي يَستطيع توليدَ الفِعْل، يستطيع إنشاءَ تاريخ جديد للمُجتمع يَقُوم على الأفكار الإبداعية، ولَيس التقسيم الزمني لمراحل الواقع المُعَاش.

3

للإنسانِ تاريخان: تاريخٌ مَعنوي (دِيناميكي) ناتج عن حركة الأفكار في الذهن، وانعكاسها على الظواهر الثقافية في المجتمع، وتاريخٌ مادي (مِيكانيكي) ناتج عن حركة الزمن في الطبيعة، وانعكاسها على مسار الأحداث اليومية. واندماجُ التاريخَيْن معًا هو الطريق إلى اكتشافِ رُوحِ المَكَانِ في الحضارة، والمكانُ هُنا لَيس تُرابًا وحِجَارَةً، وإنَّما مَنظومة فلسفية حاملة لأشواقِ الإنسان وذِكْرَياته. وَرُوحُ المَكَانِ هي السُّلطة والمَاهِيَّة اللتان تَبْقَيَان بعد اندثار المَكَان. وسِحْرُ الزمنِ في التاريخِ والحضارةِ لا يأتي مِن حركة عقارب الساعة، وإنَّما يأتي مِن اكتشافِ الإنسان للأحلام الكامنة في أعماقه، وتَفَاعُلِه مَعَ جَسَدِ المُجتمعِ، وتَجسيدِ رمزية اللغة في المُجتمع.

4

للمُجْتَمَعِ طبيعتان : طبيعةٌ جَمَالِيَّة (فِطْرِيَّة) ناتجة عن الحُرِّية الاجتماعية، وتأثيراتها في الوِجدانِ الشَّعْبي، والمَاضِي المُستعاد، والحُلْمِ المُستعار. وطبيعةٌ ثقافية (مُعقَّدة) ناتجة عن صِناعة الوَعْي في فلسفة البناء الاجتماعي المُمتدة مِن قُوَّةِ الإرادة الإنسانية إلى المعايير الأخلاقية المُوَجِّهَة للسُّلوكِ الفردي والإدراكِ الجَمَاعي. واندماجُ الطبيعتَيْن معًا هو الطريقُ إلى استخراجِ العناصر الجَوهرية مِن الأفكارِ البسيطة والآمالِ المَكبوتة، واكتشافِ الفرد لِتُرَاثِه الشخصي الضائع في ضجيج الحياة اليومية. وهذا التُّرَاثُ لَيس بحثًا عن مَجْدٍ وَهمي في سُلطة الزمن المَاضِي، وإنَّما هو كِيَان وُجودي ومنهج اجتماعي يَجعلان الفردَ يُضِيء ولا يَحترق، ويُضَحِّي مِن أجل المُجتمع، ولكن لا يَكُون ضَحِيَّةً له.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

لم يكن الجدلُ حول الثقافةِ ليبلغَ ما بلغهُ لولا أنَّ العرب اليومَ في حاجةٍ ماسة إلى إعادة الاعتبار للرأسمال الثقافي، وجعلهِ أساساً للتفكير في الأوضاع التي آلت إليها أوطاننا. ليس بوسع أحد أن ينكرَ أن هذا التقهقر الثقافي الذي صرنا إليه غير مسبوق، وليس في التاريخ ما يشهدُ بمثله؛ إذ أدَّت الفورة التقانية الحالية إلى تراجع الأدوار الإبداعية والأدبية لصالح القيم الاستهلاكية، واستبدلت القيم الروحية والجماليةُ بالقيم المادية والسطحيةِ، لكنَّ مواجهة مثل هذا الواقعِ لا تستقيمُ إلا إن كانت الذَّات مُتسلِّحة بثقافةٍ تستمدُّ جذورها من التراثِ وتنفتح على المستقبل. لا بدّ من استنهاض القيم الروحية والجمالية والاعتراف بأهميتها للإنسان، ومجاوزة الواقع المرير الذي تفرضُهُ الآلة الاقتصادية الرأسمالية في صورتها المتوحشة، التي أجهزت على القيم جميعها. إنَّ هذا الطور الذي يعيشهُ العربُ شرقاً وغرباً يدعو إلى إعادة التفكير في المشترك الثقافي والحضاريّ، وجعله أساس النهضة المأمولة، وركيزةً لتجاوز الخلافات والصراعات الوهميةِ التي خلَّفها الاستعمارُ ورسّختها التبعيّة. نحنُ اليوم أمام منعطفٍ تاريخيٍّ تلوحُ معه تباشيرٌ بـ"أفول الغرب" الذي لطالما ظلّ جاثماً على صدورنا، فإما أن ننهض الآن، وإمَّا أن نأفل معه إلى الأبد.

لا نهضة من غير الاعتراف بأهمية الثقافة في تأسيس الوعي الجمعي، والثقافة أوسَعُ نطاقاً من الإيديولوجيا المؤسساتية التي تعيدُ إنتاج الفرد الخاضع والانتهازي الذي يرى أنه أولى الناس بالنعم، إنّ دور الثقافة هو إنتاج فرد حرٍّ يتجاوزُ وضعهُ باستمرار، ويستطيعُ رسمَ ذاتهِ على المنوال الذي به يدركُ أهمية وجوده الاجتماعيّ، فلا فرد من غير مجتمع ولا مجتمع من غير فرد، وهو الأمر الذي ينطبق على الدّولة عينها فلا دولة من غير مواطن ولا مواطن من غير دولةٍ، لا يسبق وجود أحدهما الآخر إن الفرد والمواطن قياسا على المجتمع والدّولة، انبثقا في اللحظة عينها. يخفُتُ هذا القياسُ إذا ما نظرنا اليوم إلى علاقات السلطة داخل أوطاننا، أو حاولنا التفكير في علاقة السلطة بالمجتمع، ليس هناك ما يدعو إلى النظر في الشأن الثقافي، خاصةً إذا ما قورن بالشأنين السياسيّ والاقتصاديّ، إننا نتجاهلُ اليوم الثقافة لحساب السياسة والاقتصاد، بل وحتى لحساب الرياضة وغيرها... لكن أنّى لنا أن ننهض من غير ثقافة؟ وكيف يمكن أن نرسخ الاعتراف بالثقافة بوصفه سبيلاً للنهوض؟

يبدو أننّا – شئنا أم أبينا – بصدد إعادة إنتاج نفس الأُطُر التقليدية التي عفا عنها الزّمن، وبالرغم من أننا ندّعي أننا أمام ممارساتٍ حداثية ترومُ التفكير في الثقافةِ بوسائل مبدعة وخلاقة، إلا أننا ما نزالُ رهينيّ التقليد والرؤية المنغلقة التي وضعتنا أمامها الإمبريالية. ما دُمنا غير قادرين على مراجعة المعايير التي توجّهنا في الحُكم على صلاحية النُّظم الاجتماعية والأخلاقية، وغير قادرين على مواجهة الإشكاليات القانونية والحقوقية بموضوعية؛ فإننا نعودُ إلى نقطة الصفر من دون أن نتقدَّم خطوة إلى الأمام. ليس الاعترافُ بالثقافةِ شكلاً من الترف الفكريّ، بل هو أساسُ الحكمة السياسية والاقتصادية، لا سياسة من غير ثقافة، فالسياسيّ الذي تعوزه الثقافة أبكم مهما كان حجم ما يثرثر به من كلام، كما أنَّ رجُل الاقتصادِ إنْ قلت ثقافتُه هلك وأهلك، لا بُدّ من أن نراجِعَ دور الثقافةِ وأهميتها بالنسبة إلى مجتمعاتنا، لما لها من أهمية قصوى.

أساسُ الاعتراف بالثقافة داخل مجتمعاتنا وهو ثقافة الاعتراف؛ إذ لا ثقافة من غير مثقّفين، والاعترافُ بأهميتهم ودورهم هو أساسُ التَّقدمِ والازدهار، وهو شرط النهضة التي يمكنُ أنْ نؤسسَ من خلالها لصيرورة الانفتاح. تعيدُ النّظمُ التقليديةُ إعادةَ إنتاجِ أصواتها الدّاخلية، وترفضُ الأصوات المختلفة، وهي برفضها تقصي إمكانيات التغيير والتقدّم، وذلك بدعوى أنّ الوضع الراهن هو أفضل الأوضاع (=أحسن وضع ممكن)، لكن للأسف ليست لدينا عوالم ممكنة من أجل إدراك أسوء الأوضاع الممكنة، ولم لا يكون وضعنا هو الأسوأ، لنفكر معاً في جعله الأفضل، لا بدّ، إذن، من التفكير بالضد والنقيض من أجل تطوير المجتمع والثقافة، فمتى استوت النقائض والأضداد كان ذلك دليلاً على الركود والأفول.

ومن أسف شديد على أحوال مثقفينا وما يطالهم من إهمال، حتى أنّ الواحد منهم إن مات استحالَ علينا أنْ نجد مثلهُ أو نظريه، لقد انتهينا إلى أهواء ثقافية ليس في وسع أصحابها بناءُ مشروعٍ، فكيف سيضعون نصب أعينهم بناء الإنسان ومواجهة أشكال التقليد؟ إنَّ السعي إلى النهضة لا يمكن إلا أن يكون سعياً تقدّمياً، يبنى على منطق الاحتفاظ والتجاوز، ولا سبيل إلى تحقيق مثل هذا الشرط إلى بالاعتراف بأهمية المثقّف ودوره في رسمِ معالم واقع أفضل، ودوره في نقد الواقع القائم.

لا يمكنُ التَّغافلُ عن النّقد وأهميته في رسم الواقع وتصوُّره، كما لا يمكن مجاوزته كمطلبٍ أساسي في تحقيق الذات العربية اليومَ، إننا نفكرُ في الممارسة النقديةِ بوصفها أداةً ثقافيةً بامتياز، من غير النظر في أهميةِ الذات الناقدة (=الممارسة للنقد)، فلا نقد من غير اعتراف، ولا حرية من غير نقد، إنّها مفاهيم تدور في حلقات يدُّ بعضها بعضاً، وهي الأساسُ في بناء المواطن والفرد.

***

محمّد زكّاري - المغرب

كيف يمكن للانسان اشتقاق المتعة من الحالات غير السارة؟ هذا هو السؤال الذي عالجه هيوم في مقاله (حول التراجيديا) والذي شغل النقاش الفلسفي لفترات طويلة. لو أخذنا افلام الرعب كمثال، نجد بعض الناس يُصابون بالهلع عند مشاهدتها، وربما لاينامون لأيام. اذاً لماذا هم يقومون بهذا؟ لماذا يبقون أمام الشاشة لمشاهدة أفلام الرعب؟

من الواضح ان الناس احيانا يتمتعون في مشاهدة التراجيديا. ورغم ان هذا هو أمر مألوف لكنه يبقى مثيرا للانتباه. في الحقيقة ان رؤية التراجيديا تخلق اشمئزازا ورهبة لدى المشاهد. لكن الإشمئزاز والرعب هما حالات غير سارة. اذاً كيف يمكن الاستمتاع بالحالات غير السارة؟

ليس من باب الصدفة ان هيوم خصص مقالا كاملا للموضوع. ان صعود الجماليات في زمانه حدث جنبا الى جنب مع انتعاش الانجذاب بالرعب. القضية كانت شغلت سلفا عددا من الفلاسفة القدماء. هنا، نرى مثلا ما يقوله الشاعر الروماني لوكريتوس Lucretius والفيلسوف البريطاني توماس هوبز حول الموضوع. "أي متعة تلك، عندما تضرب رياح البحر العاصفة الماء، وحين تنظر من الشاطئ الى ملامح الحزن الثقيل لدى رجل آخر؟ ليست ألام أي شخص هي بذاتها مصدرا للسرور..". (لوكريتوس، حول طبيعة الكون،الكتاب 2).

"من أي عاطفة ،يأخذ الناس المتعة في النظر من الشاطئ الى الخطر المحدق بهم عندما يكون البحر عاصفا ،او الى قتال، او عندما ننظر من قلعة هادئة لجيشين يواجهان بعضهما في ساحة المعركة؟ انها بالتأكيد في مجموع الفرح الكلي. هناك ناس آخرون لن يأتوا ابدا لهكذا مشهد. مع ذلك يبقى في المشهد كل من المرح والحزن. "(هوبز،عناصر القانون، 9-19). اذاً كيف نحل المفارقة؟

متعة أكثر من الألم

اولى المحاولات الواضحة جدا، تقوم على الادّعاء بان المتع المتحصلة في أي مشاهدة للتراجيديا تفوق حجم الآلام. "بالطبع قد نعاني عند مشاهدة أفلام الرعب، لكن التشويق والاثارة المصاحبان للتجربة يستحقان الألم ". بالنهاية، يمكن لأحد القول، ان أجمل المتع تأتي مع بعض التضحية، في هذه الظروف، التضحية هي ان تُصاب بالرعب.

من جهة اخرى، يبدو ان بعض الناس لايجدون متعة معينة في مشاهدة أفلام الرعب. اذا كانت هناك أي متعة، فهي متعة ان تكون في ألم. ولكن كيف يتم ذلك؟

الألم كنوع من التنفيس

الاتجاه الثاني يرى في السعي نحو الألم محاولة لإيجاد متنفس، اي بمعنى شكل من التحرر من تلك العواطف السلبية عبر إلحاق الأذى بانفسنا كشكل من العقوبة نجد بها الراحة من تلك المشاعر السلبية.

هذا بالنهاية، تفسير قديم لقوة وملائمة التراجيديا كشكل اساسي من الترفيه للسمو بأرواحنا عبر السماح لها في تجاوز الصدمات.

الألم أحيانا كتعبيرعن المرح

وهناك اتجاه ثالث لمفارقة الرعب يأتي من الفيلسوف بيريس جوت Berys Gaut. طبقا له، لكي تكون في ألم او لكي تعاني، ذلك يمكن ان يكون في بعض الظروف مصدرا للمتعة. أي ان، الطريق للمتعة هو الألم. وفق هذا المنظور، المتعة والألم ليسا متضادين بل هما وجهان لعملة واحدة . ذلك لأن ما هو سيء في الترجيديا ليس الإحساس وانما المشهد الذي يثير ذلك الإحساس. هذا المشهد مرتبط بمشاعر مرعبة، وهذه بدورها تثير مشاعر نجدها في النهاية سارة.

سواء كان افتراض جوت صائبا ام لا، بالتأكيد تبقى مفارقة الرعب احدى أهم الموضوعات الممتعة في الفلسفة.

***

حاتم حميد محسن

أبدى مؤسس مدرسة التحليل النفسي "سيجموند فرويد" ملاحظة هامة ذات مرة لـ "إريك إريكسون"، أحد مريديه قائلاً: أن تحب وأن تعمل، هما القدرتان التوأمان اللتان تمثلان علامتا النضج الكامل. وإذا كانت هذه هي المسألة، فالنضج إذن محطة بالغة الخطورة في حياة الإنسان.

يُحكى أن يابانياً من محاربين الساموراي، أراد أن يتحدى أحد الرهبان ليشرح له مفهوم الجنة والنار. لكن الراهب أجابه بنبرة احتقار: "أنت تافه ومغفل، أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك..".

آهان الراهب شرف الساموراي، الذي اندفع في موجة من غضب فسحب سيفه من غمده وهو يقول  " سأقتلك لوقاحتك... "، أجابه الراهب بهدوء " هذا تماماً هو (الجحيم)... ". هدأ الساموراي، وقد روعته الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه. فأعاد السيف إلى غمده. وانحى للراهب شاكراً له نفاذ بصيرته، فقال له الراهب: " هذه هي (الجنة)..".

هكذا كانت يقظة الساموراي المفاجئة، وإدراكه لحالة التوتر التي تملكته. تصور الاختلاف الحاسم بين أن يسيطر عليك شعور ما. وأن تدرك في الوقت نفسه أن هذا الشعور قد جرفك بعيداً عن التعقل. لا شك أن وصية الفيلسوف اليوناني سقراط التي تقول "اعرف نفسك" تتحدث عن حجر الزاوية في الذكاء العاطفي، الذي هو وعي الإنسان بمشاعره وقت حدوثها.

إن أي نظرة للطبيعة الإنسانية تتجاهل قوة تأثير العواطف هي نظرة ضيقة الأفق بشكلٍ مؤسف. والواقع أن اسم " الجنس البشري Homo Sapiens " ذاته أي الجنس المفكر، يعد تعبيراً خادعاً في ضوء الرؤية والفهم الجديدين لموقع العواطف في حياتنا واللذين يطرحهما العلم الآن. وكلما علمتنا خبرات الحياة، فإن مشاعرنا غالباً ما تؤثر في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا بأكثر مما يؤثر تفكيرنا عندما يتعلق الأمر بتشكيل مصائرنا وأفعالنا. ولقد غالينا كثيراً في التأكيد على قيمة وأهمية العقلانية البحتة التي يقيسها معامل الذكاء (IQ) في حياة الإنسان. وسواء كان هذا المقياس إلى الأفضل أو إلى الأسوأ، فلن يحقق الذكاء العقلي شيئاً لو كبح جماح العواطف.

شهدت الأبحاث والدراسات العلمية المتعلقة بعواطف الإنسان نقلة نوعية بما أن العواطف والمشاعر تلعب دوراً كبيراً في التأثير على السلوك الإنساني وإقامة العلاقات والروابط الاجتماعية مع الآخرين، فقد نقوم أحياناً باتخاذ القرارات والإتيان بالتصرفات وتحديد موقفنا من الآخرين بناءً على مشاعرنا أو عواطفنا. لذا سعى علماء النفس إجراء مجموعة من الدراسات والأبحاث لتفسير دور العواطف الإنسانية الإيجابي في الحياة اليومية، وبالأخص فيما يتعلق بالذكاء العاطفي.

تتمثل أهمية الذكاء العاطفي في الصلة بيـن الإحساس والشخصية والاستعدادات الأخلاقية النظرية، وأن المواقف الأخلاقية الأساسية في الحياة إنما تنبع من قدرات الإنسان الانفعالية الأساسية، ذلك أن الانفعال بالنسبة للإنسان هو (واسطة) العاطفة، وهو شعور يتفجر داخل الإنسان للتعبير عن نفسه في فعل ما. وهؤلاء الذين يكونون أسرى الانفعال أي المفتقرون للقدرة على ضبط النفس، إنما يعانون من عجز أخلاقي فالقدرة على السيطرة على الانفعال هـي أساس الإدارة وأساس الشخصية وأساس مشاعر الإيثار إنما يكمن في التعاطف مع الآخرين أي القدرة على قراءة عواطفهم، أما العجز عـن الإحساس باحتياج الآخر أو بشعوره بالإحباط فمعناه عدم الاكتراث به.

كما يعد الذكاء العاطفي صفة أساسية في تكوين شخصية القائد الناجح The personality of the successful leader، وذلك أن القدرة على التأثير في الآخرين هي الصفة الأهم في القيادة، لأن هذه الصفة تحدد فيما إذا كانت الصفات الأخرى ستعمل أم لا، فما قيمة صفة الذكاء والقدرة على التخطيط إذا لم يكن القائد قادراً على التأثير في الآخرين؟

أثبتت الدراسات والأبحـاث المعاصرة أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليها. بناءً على ما سبق يتحتم علينا الإجابة على التساؤلات الرئيسية التالي: ما هو مفهوم الذكاء العاطفي؟ وما هي أسسه؟ وكيف يؤثر في معرفتنا لأنفسنا؟ وما هي الصفات التي يتمتع بها أصحاب الذكاء العاطفي؟

- مفهوم الذكاء العاطفي: تشير تعريفات الباحثين للذكاء العاطفي على أنـه قدرات ومهارات في فهم مشاعر الذات ومشاعر الآخرين، وإن اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا المضمون. يعرف سالوفي وماير الذكاء العاطفي بأنه القدرة على معرفة الشخص مشاعره وانفعالاتـه الخاصة كما تحدث بالضبط، ومعرفته بمشاعر الآخرين، وقدرته على ضبط مشاعره، وتعاطفه مع الآخرين والإحساس بهم، وتحفيز ذاته لصنع قرارات ذكية.

 ويرى دانييل جولمان مؤلف كتاب "الذكاء العاطفي" الصادر عن سلسلة عالم المعرفة الكويتية، أن الذكاء العاطفي هو مجموعة من السمات، قد يسميها البعض صفـات شخصية، لها أهميتها البالغـة في مصيرنا كأفراد. بمعنى آخر، أن تكون قادراً على حث نفسك على الاستمرار في مواجهة الإحباطات، والتحكم في النزوات، وتأجيل، إحساسك بإشباع النفس وإرضائها، والقدرة على تنظيم حالتك النفسية، ومنع الأسى أو الألم من شل قدرتك على التفكير، وأن تكون قادراً على التعاطف والشعور بالأمل. ويعرفـه آخرون بأنه القدرة على التعامل مع المعلومات العاطفيـة، من خلال استقبـال هذه العواطف واستيعابهـا وفهمها وإدارتها.

بناءً على ما سبق يمكننا تعريفه بأنه مجموعة من القدرات أو المهارات الشخصية التي تساعد الشخص على معرفة مشاعره وانفعالاته، وسيطرتـه عليها جيداً، وفهم مشاعـر وانفعالات الآخرين، وحسن التعامل معهـم، وقدرته على استثمار طاقته الوجدانية في الأداء الجيد، وعلى إقامـة علاقات طيبة مع المحيطين. باختصـار هو قدرة الإنسـان على التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين، لتحقيق أكبر قدر من السعادة لنفسه ولمن حوله. ووفقاً لمجلة " Psychology today "، فإن الذكاء العاطفيEmotional Intelligence هو القدرة على تحديد وإدارة عواطفك وعواطف الآخرين، وهذا الأمر عادةً ما ينطوي على:

- الوعي العاطفي، ويتضمن القدرة على تحديد مشاعرك ومشاعر الآخرين.

- القدرة على تسخير المشاعر وتطبيقها عملياً في حل مشاكلك في الحياة اليومية.

 - القدرة على إدارة العواطف، مثل التحكم بمشاعر الغضب أو القدرة على الحفاظ على هدوئك عندما تكون مستاءً.

- أسس الذكاء العاطفي: يقوم الذكاء العاطفي على الأسس الآتية:

1- أن يعـرف كل إنسان عواطفه من خلال الوعي بالـذات Self - Awareness فالوعي بالنفس والتعرف على الشعور وقت حدوثه، هو الحجر الأساسي في الذكاء العاطفي، وامتلاك القدرة على رصد المشاعر من لحظة إلى أخرى يعد عاملاً حاسماً في فهم النفس، كما أن عدم القدرة على فهم المشاعر الحقيقية، تجعل الفرد يقع تحت رحمتها، فالأشخاص الذين يمتلكون هذه القدرة أشخاص واثقون في أنفسهم وفيما يتخذونه من قرارات.

وقد صنف " ماير" الناس بالنسبة للوعي بأنفسهم إلى ثلاثة أصناف: الأول الواعون بأنفسهـم: وهم الذيـن يدركون حالتهم النفسية في أثناء معايشتها، وعندهم الحنكـة فيما يخص حياتهم الانفعالية ويمثـل إدراكهم الواضـح لانفعالاتهم أساساً لسماتهـم الشخصية يتمتعون باستقلالية في شخصياتهم، واثقون من أنفسهم ويتمتعون بصحة نفسية جيدة، ويميلون أيضاً إلى النظر للحياة نظرةً إيجابية، وهم أيضاً قادرون على الخروج من مزاجهم السيء في أسرع وقت ممكن، باختصار تساعدهم عقلانيتهم على إدارة عواطفهم وانفعالاتهم. أما الصنف الثاني الغارقون في انفعالاتهم: العاجزون عن الخروج منها، وكأن حالتهم النفسية تمتلكهم تماماً، وهم متقلبو المزاج، غير مدركين لمشاعرهم إلى الدرجة التي يضيعون فيها ويتوهون عن أهدافهم إلى حدٍ ما، ومن ثم فهم قليلاً ما يحاولون الهرب من حالتهم النفسية السيئة، كما يشعرون بعجزهم عن التحكم في حياتهم العاطفية، إنهم أناس مغلوبون على أمرهم فاقدو السيطرة على عواطفهم. وأخيراً المتقبلون لمشاعرهم: وهـؤلاء على الرغم من وضوح رؤيتهم بالنسبة لمشاعرهم، فإنهم يميلون لتقبل حالتهم النفسية دون محاولة لتغييرها، وهؤلاء ينقسمون إلى مجموعتين، الأولى: تشمل من هم عادة في حالة مزاجية جيدة، ومن ثم ليس لديهم دافع لتغييرها. أما المجموعة الثانية: تشمل من لهم رؤية واضحة لحالتهم النفسية، ومع ذلك فحين يتعرضون لحالة نفسية سيئة يتقبلونها كأمر واقع، ولا يفعلون أي شيء لتغييرها على الرغم من اكتئابهم، فهم استكانوا لليأس.

2- إدارة العواطف والتحكم بهاEmotion Handling ، إن الوعي بالذات والتعامل مع المشاعر لتكـون ملائمة مع المواقف الحالية، يتم عن طريق القدرة على تهدئة النفس، والتخلص من القلق الجامح، وسرعة الاستثارة. وإن من يفتقر إلى هذه المقدرة، يظل في عراك مستمر مع الشعور بالكآبة، أما من يتمتع بهـا فهو ينهض من كبـوات الحياة وتقلباتها بسرعة أكبر.

3- تحفيـز النفس Motivation عبر توجيـه العواطف في خدمة هدف ما، فهذا أمر مهم لتنبيه النفس ودفعها للتفوق والإبداع، فالتحكم في الانفعالات وتأجيل الإشباع، أساس مهم لكل إنجاز ومن يتمتع بهذه المهارة الانفعالية يكون لديه فاعلية في كل ما يناط به من أعمال.

4- معرفـة عواطف الآخرين أو التقمص الوجدانيEmpathy ، وهي مقـدرة تتأسس على الوعـي بالانفعالات، حيث يدفع التقمص الوجداني الإنسان إلى الإيثار والغيرية (الاهتمام بالغير)، ومن لديه هذه الملكة يكون أكثر قدرةً على التقاط الإشارات التي تدل على أن هناك من يحتاج إليهم.

5- توجيه العلاقات الإنسانية أو المهارات الاجتماعية Social Skills عن طريق إدارة انفعالات الآخرين وتطويع عواطفهم، والقدرة على القيـادة الفاعلة والتأثير في الآخرين من خلال مشاعرهم.

خلاصة القول، إنك إذا كنت تتمتع بمستوى مرتفع من الذكاء العاطفي أو تريد تعزيزه من أجل تحقيق النجاح في حياتك الشخصية والاجتماعية والمهنية، نعرض لك في هذا السياق الصفات التي يشترك فيها الأشخاص الناجحون من أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع، وهي كالآتي: أولاً: لا يسعون للكمال، إن سعيك للكمال قد يقف بينك وبين إتمام المهام وتحقيق أهدافك، لأنك ستجد صعوبة جمّة عندما تريد البدء بأي عمل، وستجد نفسك تماطل وتفاضل بين المهام، الأمر الذي سيستغرق منك وقتاً طويلاً حتى تستقر على رأي. ولهذا السبب لا يسعى أصحاب الذكاء العاطفي العالي للكمال، ويدرك هؤلاء بأن الكمال غير موجود، لذا يمضون قدماً بخطى واثقة. وفي حال وقعوا في خطأ، يجرون التعديلات اللازمة، ويتعلمون من ذلك الموقف. ثانياً: يعرفون كيف يحققون التوازن بين العمل والراحة. إن العمل لفترة طويلة من الزمن من دون العناية بنفسك، سيؤدي إلى مشاكل نفسية وصحية أنت في غنى عنها، ولهذا السبب، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع متى يحين وقت العمل ومتى يحين وقت الاسترخاء. فعلى سبيل المثال، إذا كان هؤلاء الأشخاص يريدون الانقطاع عن العالم لبضع ساعات أو حتى في عطلة نهاية الأسبوع، فإنهم يفعلون ذلك، نظراً لحاجتهم لوقت مستقطع للحد من مستويات التوتر والإجهاد. ثالثاً: يتقبلون التغيير، بدلاً من الخوف من التغيير، يدرك أصحاب الذكاء العاطفي أن التغيير هو جزء لا يتجزأ من الحياة. والخوف من التغيير يعيق النجاح، لذلك يتكيف هؤلاء الأشخاص مع التغيرات المحيطة بهم، كما لديهم خطة تعينهم على التأقلم مع المستجدات الطارئة. رابعاً: لا يتشتت انتباههم بسهولة، لدى الأشخاص ذوي الذكاء العاطفي المرتفع القدرة على التركيز بشدة على المهام الموكلة إليهم، ولا يتشتت انتباههم بسهولة بفعل البيئة المحيطة بهم. خامساً: التعاطف مع الآخرين، يقول دانييل جولمان، كتابه " ركِّز (المحفز الخفي للتميز) "، إن التعاطف هو أحد المكونات الخمسة للذكاء العاطفي. في واقع الأمر، إن قدرتك على التواصل مع الآخرين وإظهار تعاطفك معهم، وانتهاز الفرصة لمساعدتهم، من العناصر الحاسمة التي من شأنها رفع مستوى الذكاء العاطفي الخاص بك. سادساً: يدركون مكامن قوتهم وضعفهم، يعرف أصحاب الذكاء العاطفي الأشياء التي يبرعون فيها والأشياء التي لا يتقنوها، كما أنهم يعرفون أيضاً كيفية الاستفادة من نقاط القوة والضعف من خلال العمل مع الأشخاص المناسبين وفي الوقت المناسب. سابعاً: لديهم دوافع ذاتية، إذا كنت ذلك الطفل الطموح الذي يعمل بجد واجتهاد، وكان دافعك الحقيقي تحقيق هدفك وليس المكافأة فقط؟ كونك مثابر، حتى لو في سن مبكر، فهي إحدى السمات التي يمتلكها أصحاب الذكاء العاطفي. ثامناً: عدم الرجوع إلى الماضي، ليس لدى أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع وقت للتفكير بالماضي، لأنهم منشغلون جداً بالتفكير في الاحتمالات التي سيجلبها لهم المستقبل، كما لا يدعون الأخطاء السابقة تثبط معنوياتهم. تاسعاً: يركزون على النواحي الإيجابية، يفضل أصحاب الذكاء العاطفي تكريس وقتهم وجهدهم في حل المشاكل، وبدلاً من النظر إلى السلبيات، يتطلعون للنواحي الإيجابيــــة وما يمتلكون السيطرة عليه.

وهكذا نجد أن الذكاء الذهني وحده غير كافٍ للنجاحات المستقبلية، بل يجب أن يتوفر إلى جانبه الذكاء العاطفي، فهو عبارة عن قدرات ومهارات قد تكون موجـودة لدى الشخص وقد تكـون غير موجودة، ولكن يمكن اكتسابها وتنميتها وتدريب النفس عليه. وفي ذات السياق لابد لنا من الإشارة إلى العلاقة القائمة بين الإيمان والذكاء العاطفي، فإذا كان الذكاء العاطفي يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة، فإن الإيمان يمكن الإنسان من التعامل الإيجابي مع ذاته ومع الآخرين حيث يحقق لنفسه ولمن حوله أكبر قدر من السعادة في الدنيا والآخرة، وإن الإنسان يشعر بحلاوة الإيمان عندما يتحلى بمهارات الذكاء العاطفي ويربطها بربه ودينه وآخرته.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

 

يعلمنا التحليل النفسي ما إنغرس في أعماقنا ويحرك سلوكنا، يقودنا إلى ما ننطق به إلى أهوال في بعض الأحيان عبر اللسان، وهو منطوق عبر الكلام، وهو مخزون في التفكير، كان تكوين فرضي، فتحول إلى واقع وصار نحن " أنا المتكلم" وقول المحلل النفسي الفرنسي كريستيان هوفمان في محاضرة له بتاريخ 2 / 12 / 2022 في رابطة الفضاء الفرويدي الدولي في باريس "محاضرة غير منشورة" قوله: تحليل السلوك هو تحليل الأنا، وتحليل الكلام هو تحليل الذات، ربما يقول البعض أن هوفمان ذهب بنا بعيدًا إلى فكر الفيلسوف الفرنسي والمحلل النفسي " جاك لاكان" وهي حقيقة واقعة، فما ننطق به هو مخزون في فكرنا، وما نقوله نعبر عنه بشكل جميل، مُحسن، مقبول يرضي السامع، ولكنه ليس هو ما نحمله في دواخلنا، وأفضل دليل على ذلك ما دونه لنا سيجموند فرويد في الهفوات وزلات اللسان والقلم. وقوله "سيجموند فرويد" بأن الفلتة نفسها يكون لها في بعض الأحيان معنى، والفلتة تنطوي على مغزى وقصد. ويضيف فرويد قوله: أن الهفوة قد تكون في بعض الأحيان سلوكًا يتسم بما يتسم به كل سلوك سوي، إلا أنه زج بنفسه مكان السلوك الذي يتوقعه الفرد أو يقصد عليه. وهي أيضًا أقصد الهفوة ليست وليدة المصادفة، بل أفعال نفسية جدية لها مغزاها، وتنجم عن تضافر قصدين مختلفين، أو على الأصح عن تعارضهما، وما نتعلمه من التحليل النفسي اليوم إمتدادًا لأفكاره في التكوين والتحديث الكثير فما يراه فرويد قوله: وعما إذا كان من الممكن أن تستوعب هذه النظرة شتى أنواع الهفوات الأخرى، كزلات القلم وعثرات القراءة والخطأ في تنفيذ بعض الأفعال، والنسيان، واستحالة العثور على أشياء حفظها الإنسان من قبل، وغير ذلك وما الدور الذي يقوم به التعب وشرود الذهن والاهتياج وتشتت الانتباه حيال الطبيعة النفسية للهفوات .

يؤكد لنا "سيجموند فرويد" بأن النشاط النفسي يخضع لحتمية سيكولوجية، فليس في العالم النفسي مجال للمصادفة الطارئة، ومن ثم فكل ما يصدر عن الفرد من سلوك إنما هو محتم " محتوم- حتمي" مقدر بما سبق أن خَبره في أطوار حياته. فهو يصدر ليس إعتباطًا، أو عشوائيًا، ويضيف "فرويد" الحق أنكم تتوهمون وجود حرية نفسية. إذن الأمر كل ما يصدر عنا له دلالة ومعنى، وإن غاب عن التفسير في الوقت الحاضر.

ما نتعلمه من التحليل النفسي أن نسيان الموعد مع شخص له دلالة ومعنى، وكذلك نسيان  تنفيذ الأوامر الموكلة لك في العمل، أيضًا لها دلالة ومعنى، ونسيان تنفيذ متطلبات الزوجة، أو الابناء، له دلالة ومعنى، وكذلك ضياع الأشياء واستحالة العثور عليها له أيضًا دلالة ومعنى، ويقول " فرويد" نحن نفقد الأشياء متى أختلفنا وتخاصمنا مع من قدموها إلينا، فلا نريد أن نذكرهم أو أن نفكر فيهم بعد، كما نفقدها إن مللناها فالتمسنا عذرًا لكي نتبدل بها خيرًا منها. ويرى فرويد أن كسر الأشياء وإسقاطها وإتلافها يؤدي أغراضًا شبيهة بالأغراض السابقة بطبيعة الحال. ونقول وراء كل سلوك دافع وإن كان خفيا.

ما نتعلمه من التحليل النفسي على حسب قول سيجموند فرويد أن بعض أنواع التفاؤل والتشاؤم لا تخرج عن أن تكون من قبيل الهفوات، من تلك تعثر الفرد أو سقوطه على الأرض، وإن كان لبعضها الآخر طابع الحوادث الموضوعية لا طابع الذاتية، ويضيف فرويد قوله: قد لا تصدقون كيف يصعب علينا أحيانًا أن نقطع بما إذا كان حدث ذو طابع الحوادث الموضوعية، أو إلى طابع الأفعال الذاتية، فالفعل يعرف في كثير من الأحيان كيف يتنكر ويلبس لبوس الحدث السلبي.

ما نتعلمه من التحليل النفسي هو أن للهفوات دلالة ومعنى، وأن لكل هفوة معنى، ويضيف فرويد: أن الهفوات أفعال نفسية تنشأ عن تداخل قصدين، ويمكننا القول إن الهفوات أفعال نفسية، ويفسر فرويد ذلك قوله: حين نصف ظاهرة بأنها عملية نفسية لذا يجدر بنا أن نضع عبارتنا في الصيغة الآتية، للظاهرة معنى، ونقصد بهذا أن لها دلالة، وأنها تصدر عن قصد، عن نزعة، وأنها تحتل مكانًا معينًا في سلسلة من العلاقات النفسية.

يدلنا فرويد في طروحاته العميقة عن فلتات اللسان حينما يؤكد بأن فلتة اللسان قد تكون مظهرًا لنزعة أُعيقت عن التعبير عن نفسها منذ زمن طويل، بل منذ زمن بعيد جدًا، بحيث لا يعود المتكلم يفطن إلى وجودها أصلًا، فيكون مخلصًا كل الإخلاص إن أنكر وجودها، وينهي قوله: أن قمع القصد – القصد إلى قول شيء – هو الشرط الضروري لحدوث فلتة اللسان.

يضيف لنا "فرويد" وللتحليل النفسي كيف أن الهفوات وزلات اللسان والقلم وضياع الأشياء واستحالة العثور عليها هي نتيجة لفعل قوي في النفس، وعلى أنها تعبيرات عن نزعات تعمل متضافرة للوصول إلى غاية. ويضيف  أن الإنسان لايميل إلى أن يعترف عن طيب خاطر بأنه تورط في فلتة لسان، بل يحدث في كثير من الأحيان أن يفوته سماع فلتة زل بها لسانه في حين لايفوته ألبته سماع فلتة وقع فيها غيره.

أما عثرات القراءة فيبين لنا سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي قوله: أختلف الموقف النفسي اختلافا بينًا عنه في فلتات اللسان وزلات القلم ، ذلك أن إحدى النزعتين المتصارعتين يحل محلها في هذه الحال تنبيه حسي قد يكون أقل منها مقاومة وإلحاحًا. ةيضيف قوله: إن ما يقرؤه الإنسان لا يكون غالبًا من نتائج عقله، كما هي الحال فيما يكتب. لذا فالغالبية العظمى من عثرات القراءة تنجم عن عملية " إبدال" تام، فالكلمة المقرؤة تُستبدل بها أخرى دون أن تكون هناك بالضرورة صلة بين مضمون المقروء ومضمون نتيجة الخطأ، بل يحدث الإبدال عادة عن طريق تشابه بين الألفاظ. يبين لنا فرويد ثمة صنف آخر من عثرات القراءة يستثير فيه النص المقروء نفسه نزعة دخيلة تحرفه، وكثيرًا ما تقلبه إلى ضده كما لو طلب إلى أحد أن يقرأ شيئًا لا يستسيغه، لا يحبه، لا يرغب بقراءته فيتضح من التحليل أن المسؤول عن التحريف في هذه الحالة رغبة قوية في نبذ ما يقرأ، ونحن نقول إنها رغبة لاشعورية في الرفض.

يرى فرويد أن النسيان وسيلة دفاعية تقي من الذكريات الأليمة، ويرى أن الحياة النفسية ميدان حرب وساحة صراع يقوم فيها الكفاح بين نزعات متعارضة، ديناميكية، تتألف من متناقضات وأزواج من الأضداد فقيام شاهد على وجود نزعة معينة لا يتنافى بأية حال مع وجود نزعة مضادة لها، فثمة مجال لكل واحدة منهما، ويضيف فرويد .. بيت القصيد هنا هو أن نعرف موقف إحدى النزعتين من الأخرى، والاثار التي تترتب على كل واحدة منهما والحديث عن تلك الظواهر النفسية التي تصدر من الإنسان لا ينتهي لأنها ترتبط بموضوعات آخرى منها الأحلام والإضطرابات النفسية والعقلية.

***

د. اسعد الامارة

 

بعد هذه السلسلة التي تتناول المعرفة الأخلاقية من منظور سياقي ادعي أن الصورة السياقية التي قدمتها دقيقة في وصفيتها إلى حد ما، على الأقل إذا ركزنا على الأسئلة التي تدور حول المسؤولية المعرفية في الاعتقاد الأخلاقي. ولكن حتى لو كنت محقًا في ادعائي الوصفي حول كيفية عمل ممارساتنا، فهل لدينا سبب وجيه لتأييد ممارساتنا؟ هل يمكننا تقديم سبب منطقي لوجود معايير وممارسات تشبه تلك التي لدينا؟ ننتقل،هنا، من الأسئلة الوصفية إلى الأسئلة المعيارية.

لا يسمح االمجال هنا بمتابعة القضايا المنهجية بأي تفاصيل، لكنني سأفترض أن الحكم على الملاءمة الكلية للنظرية المعرفية هو مسألة تماسك تلك النظرية بشكل شامل مع الافتراضات والآراء من الحس السليم في الأمور العملية ومجالات البحث الأخرى. هناك على وجه التحديد بعدين لهذا النوع من الكلية أو الشمولية يستحق الفرز. أولاً، قد يرغب المرء في أن تتوافق نظرية المعرفة الأخلاقية مع افتراضات الحس السليم حول الأمور المعرفية مثل الافتراض بأن العديد من الناس (على الأقل في بعض الأحيان) يعتقدون بشكل مبرر ببعض الافتراضات الأخلاقية. ثانيًا، يريد المرء أن تتوافق الالتزامات والآثار المترتبة على نظرية المعرفة مع أي افتراضات ونظريات ونتائج من المجالات التجريبية مثل علم النفس وعلم الأحياء والأنثروبولوجيا.[1] بالطبع، أن تقييم النظريات المعرفية هي مسألة مقارنة. يأمل المرء أن يُظهر أن النظرية المعرفية المفضلة لديه تقوم بعمل أفضل، مقابل أي منافس، في تلبية الرغبات.

على الرغم من أنني لن أجادل في هذه القضية هنا، لكن دعوني فقط أخمن أن وجهة نظري السياقية تتوافق بشكل أفضل من الآراء المتنافسة مع افتراضات الفطرة السليمة مثل أن الأشخاص العاديين غالبًا ما يكونون مسؤولين معرفيًا في العديد من المعتقدات الأخلاقية التي يعتقدون بها. أظن أن هذه الآراء المعرفية المتنافسة، بغض النظر عن الفضائل التي تمتلكها، تميل إلى فرض أعباء معرفية على المعتقديين العاديين والتي قد توحي بأنه ليسوا مسؤولين بشكل عام في العديد من المعتقدات الأخلاقية التي يعتقدون بها.[2] لذلك أعتقد أن السياقية أكثر منطقية من منافسيها فيما يتعلق بالهدف الأول لأي نظرية المعرفة الأخلاقية.

أعتقد أيضًا أن نظرية المعرفة السياقية التي اعرضها تتوافق بشكل جيد مع معطيات تجريبية معينة حول البشر. إن ما يدور في ذهني، على وجه التحديد، هو نوع من المنطق العملي الذي اشرت إليه في سياق هذا البحث للدفاع عن الشرط "البينية أو الفترات الفاصلة" التي تحكم مسؤوليتنا في التعامل مع الاحتمالات المضادة. لقد أشرت فيما يتعلق بالمتطلب المعني إلى أنه نظرًا "لمأزقنا" أو لوضعنا الصعب، بما في ذلك حقيقة أننا كائنات ذات موارد معرفية محدودة، ووقت محدود، وأهداف أخرى غير معرفية، فإننا نتوقع أن أنواع المعايير المعرفية في الحياة العملية اليومية من شأنه أن تفرض نوعًا من مستوى الرعاية "في الفترات الفاصلة" لفحص القدرات المحتملة التي اكتشفناها سابقًا. علاوة على ذلك، فإن النظر إلى المعايير المعرفية من هذا المنظور البراغماتي يجعل من المنطقي أن معاييرنا المعرفية بشكل عام لها تحيز "بريء حتى تثبت إدانته" تجاهها، وهو نزعة محافظة تذهب إلى صميم السياقية التي اتناولها.[3] إذا كان هذا صحيحًا، فبما أنه لا يبدو أن هناك أي سبب خاص لافتراض أن المتطلبات المعرفية المرتبطة بالمعتقد الأخلاقي تختلف في هذا الصدد عن تلك المرتبطة بالمعتقدات غير الأخلاقية، فإن نوع المنطق البرغماتي- العملي الموصوف سابقًا ينطبق على الحالات الأخلاقية ايضًا.

الخاتمة

لقد حاولت تقديم حجة لمعقولية نظرية المعرفة السياقية في مجال الأعتقاد الأخلاقي. لقد شرعت، بعد فرز وتوضيح العديد من أطروحات السياق المعرفي، في وصف فرد معرفي نموذجي مناسب للتقييم المعرفي اليومي للأشخاص العاديين. و شرعت، على أساس هذا النموذج، في تحديد صيغة من السياقية حول بنية الأعتقاد الأخلاقي المسؤول. اسمحوا لي أن أختم بإعداد قائمة جزئية لبعض المهام التي تنتظرنا إذا أراد المرء أن يدافع عن هذا الرأي بشكل كامل.

أولاً، هناك مفاهيم تلعب دورًا مهمًا من وجهة نظري والتي تركتها دون أن اوضحها. فكان المطلوب أن اقول المزيد عن مفهوم السياق وكيف يتم تحديد السياق الاجتماعي للتقييمات المعرفية المحددة.

ثانيًا، لقد أشرت إلى حيث تتطلب بعض المطالب السياقية الرئيسة دفاعًا أكثر مما قدمته. أظن، كان المفروض أن اقدم المزيد من الشرح لدعم دعم أطروحة المحافظة المعرفية. وينطبق الشيء نفسه على أطروحة الكفاية المعرفية، والتي بموجبها يمكن أن تكون المعتقدات غير القانونية والمسؤولة، بمثابة أساس مناسب للوصول إلى معتقدات أخلاقية أخرى بشكل مبرر.

ثالثًا، هناك العديد من الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن حول هذا النوع من وجهات النظر، وهي أسئلة تصبح أساسًا للاعتراضات: "ألا ترقى وجهة النظر هذه إلى مجرد صيغة من النسبية المعرفية (السياقية المعيارية) وبالتالي تشير ضمناً إلى أنه حتى الأشخاص الذين لديهم معتقدات أخلاقية مجنونة، والذين خضعوا لعملية تعليم" أخلاقي"، سيكونون مسؤولين معرفيًا عن تبني معتقدات أخلاقية شائنة؟" "إذا لم تكن وجهة النظر، بالمعنى الدقيق للكلمة، صيغة من النسبية، ألن تظل لها الآثار المعيارية نفسها مثل صيغة من النسبية المعرفية؟" "علاوة على ذلك، حتى لو تجنبت وجهة النظر المشاكل المذكورة للتو، ألا يعني ذلك أن الرأي يقع بنوع غير مقبول من الدوغماتية المعرفية لأن منظور المرء- الفاعل المعرفي النموذجي يستند إلى حساسيتنا المعرفية (المشتركة إلى حد كبير)، والتي قد ألا تشاركها مجموعات أخرى ولكننا نستخدمها لتقييم معتقدات المجتمعات الأخرى؟ "

أخيرًا، كما ذكرنا في نهاية القسم الأخير، يتطلب الدفاع الكامل عن نظرية المعرفة الأخلاقية السياقية أن أبين أن وجهات النظر المعرفية البديلة أقل منطقية من وجهات نظري. لقد ألمحت فقط إلى أسباب تقديم مثل هذا التأكيد.

أنا متفائل بشأن الرد على الشكوك وملء الحجج والتفاصيل المهمة. لكن المحاولة الأكثر شمولاً تنتظر مناسبة أخرى.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] إن الادعاء بأن العمل الوصفي في العلوم يجب أن يؤثر على التنظير المعرفي المنطقي يمثل ما يسمى بالنهج المتجنس لنظرية المعرفة، وهو النهج الذي يصر على أن التنظير المعرفي السليم يجب أن يعتمد على العمل ذي الصلة في العلوم. انظر، على سبيل المثال،

Hilary Kornblith, "Introduction: What Is Naturalistic Epistemology?" in Naturalizing Epistemology, 2d ed., ed. Hilary Kornblith (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1994), 1-14.

[2] Gilbert Harman, Change in View (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1986), chapter 2.

[3] لمناقشة نوع الأساس المنطقي لمفهوم المسؤولية المعرفية.، أنظر:

Foley, Working Without a Net, chapter 3

في الوجود لا توجد حقيقة سوى حقيقة الذات وفي الذات لا توجد حقيقة سوى حقيقة الإدراك والشك بما تدرك هذا هو جوهر (الكوجيتو الديكارتي). أنا أشك إذن فأنا أفكر وكل مفكر موجود إذن فأنا موجود.

نعم لا شيء يصمد أمام شكك إلا شكك لأنك مهما شككت فلن تشك في أنك تشك.

والشك تفكير والتفكير دليل قاطع على وجود ذات تفكر . ومن هذا الفكر تتبرعم كل ثمار العلاقة بين الذات والذات وبين الذات والموضوع.

العلاقة بين الذات والذات تجد ثمرتها في أنك تستطيع أن تقف خارج ذاتك فتتأملها وهنا يولد الحوار الذاتي حوار الذات للذات شكا ونقدا وهذا هو قمة الوعي الذاتي.

والعلاقة بين الذات والموضوع تجد ثمرتها في تأكيد إنفصال الذات عن الموضوع حيث تحكم الذات بوجود موضوع خارج عنها وهنا تكتمل علاقة الذاتي بالموضوعي فتبدأ المعرفة المنطقية وتتأسس قوانين الإدراك.

صار واضحا أن الوعي الذاتي له معنيان.

الاول معرفة الإنسان بذاته. والثاني قدرته على الخروج من معرفة الذات إلى معرفة الموضوع.

 الوعي الذاتي إذن هو ما يجعل الإنسان إنسانا أي كائنا واعيا يربط شبكة علاقات خاصة بالعالم وبذاته تميزه عن غيره من الحيوانات.

من هنا نستطيع أن نؤكد أن الوعي الذاتي هو ماهية الفكر الإنساني حصرا دون باقي الأحياء على الأرض.

وفلسفيا نستطيع أن نعرف الذات كجوهر متميز عن الجسد يحدد طبيعة أو ماهية الإنسان.

إذن الإنسان بالتعريف كائن أو جوهر مفكر ومن هذا التفكر أدرك أن الوعي الذاتي ميزته الخاصة التي يتعالى بها عن باقي أحياء الأرض أنه سيد هذا العالم بلا منازع أو غريم.

ومن رحم الوعي بالذات تولد الشخصية وتتوحد مع الأنانية وبفضل وحدة الوعي هذه التي تستمر أمام جميع التغييرات التي يخضع لها تكون الأنا والذات والشخص وحدة واحدة.

هنا تقيم الشخصية فرقا تاما بين الذات والأشياء حسب الترتيب الماهوي فتقول الذات (أنا أولا).

ومن هذا نفهم لماذا لا يستطيع الإنسان أن يخدم غرضا أسمى من تحقيق ذاته.

الموروث والمكتسب

الإنسان هو الكائن الوحيد على الأرض-دون بقية الحيوانات- الذي أمتلك الوعي الذاتي فأين يكمن سبب هذه الميزة؟

يولد الإنسان وهو مزود بأجهزة جسمية تختلف عن الأجهزة الجسمية لأي حيوان راقي حتى ذلك الحيوان القريب منه في سلم التطور البايولوجي ويبلغ الإختلاف أشده في أهم هذه الأجهزة الجسمية وهو الجهاز العصبي وعضوه المهم (الدماغ).

إن هذا الاختلاف يصبح اختلافا نوعيا وفريدا بهذا الكينونة لكنه يظل مشروعا غير مكتمل الإركان فالإنسان يولد مشروع إنسان وإنسانيته لا تكتمل إلا من خلال الهيئة الاجتماعية التي تمنحه هذه الصفة فتكتمل بذلك كينونته.

وبديهي ان هذه الكينونة أو الذات الطبيعية البشرية تظل تشترك مع أي كينونة أو ذات طبيعية حيوانية بحاجات بايولوجية ضرورية للاستمرار في بقاء هذه الذات كذات نامية تمر بمراحل معينة ومتعددة من التطور البايولوجي كالحاجة للطعام أو الحاجة للنوم او الحاجة للجنس ..ألخ.

على هذا الأساس فإن الإنسان كائن طبيعي كأي حيوان آخر سواء بسواء ذو حاجات بايولوجية أما السبب الدافع لهذه الحاجات فهو «الرغبة في البقاء على قيد الحياة». وعلى الرغم من وجود الإختلافات الكبيرة بين البيئة الداخلية للإنسان والبيئة الداخلية للحيوان (الأجهزة الجسمية الداخلية) وخاصة في أعظم أقسام هذه البيئة أي في الجهاز العصبي المركزي الصادر منه والمسيطر على جميع أنماط السلوك سواءا كان هذا السلوك بشريا أو سلوكا حيوانيا فإن الإنسان لا يبلغ أية درجة من الإنسانية التي يتميز بها عن حيوانية الحيوان إذا ظل معزولا عن المجتمع وغير متفاعل معه.

هذا معناه أن المجتمع هو الذي يمنح الإنسان إنسانيته ومقدار هذه الإنسانية يتوقف على مقدار إنسانية المجتمع الذى يتفاعل معه الانسان وعلى مقدار هذا التفاعل. وبذلك فإن إنسانية أي إنسان ستختلف حتما عن إنسانية أي إنسان آخر تبعا للإختلاف الحاصل في كل من هذين الشرطين وفي النهاية ما الإنسانية إلا مجموعة قيم والقيم هي التي تحدد السلوك.

هذا الاستنتاج يجد صداه فيما أورده (مستر جيسل) في كتابه (طفل الذئاب وطفل الإنسان).

إذ كشف لنا بمزيد من العمق والوضوح الوهم الذي كنا نظنه جزء من موروثنا الجيني إذ تبين إن هو إلا جزء من تراثنا الاجتماعي المكتسب من خلال التفاعل الايجابي المستمر والحاصل بين الإنسان وبيئته الاجتماعية.

ففى حالة الأطفال البشريين الذين اختطفتهم الذئاب لوحظ إن الطفل البشري المختطف يصبح كطفل الذئاب يعوي ويصرخ عند الحاجة إلى ذلك لكونه لا يعرف الكلام وبالتالي لا يجيد التفكير كما أنه يعدو بخفة على أربعة أرجل بدلا من أن يمشي منتصبا على قدميه

وينام في النهار ويستيقظ في الليل ويأكل الرمم بفمه مباشرة.

كان المستر (جيسل) مؤلف كتاب(طفل الذئاب وطفل الانسان).1. يعيش مع زوجته في الهند عام 1920 يدير ملجأ للايتام. وبينما كان في أحد الايام يمارس رياضة المشي عند حافة غابة وقت الغسق شاهد ذئبة مع (صغيرها). وعندما استعمل ناظوره تبين له ان الصغير كان بشرا يسلك سلوك الذئبة في الحركة ويجري على أربع.

كان المستر (جيسل) قد سمع وقرأ قصصا حول هذا الموضوع لكنه كان لا يصدقها رغم تكرارها لذا عمد الى بندقيته وتعقب الذئبة الى حجرها فقتل الذئبة وقبض على الصبية التي بدأت تصرخ صراخ الذئاب ووضعها في الملجأ.

يرجح انها ولدت عام 1912 أي ان عمرها كان يقدر بثمان سنوات ولا يُعرف كيف و متى واين خطفت.

كانت الصبية تنام في النهار وتصحو في الليل وان نهضت من النوم جلست ووجهها نحو الحائط. فإذا جاء منتصف الليل نشطت وصارت تمشي على أربع. كانت تشرب الماء لعقا بلسانها بعد ان تنحني فوقه ولم تكن تخشى الظلام. وفي ساعة معينة من الليل كانت تعوي عواء الذئاب. وإذا اقترب منها احد كشّرت عن أنيابها. وكانت تفتش عن الفضلات وتأكلها. كانت تحب جراء الكلاب وصغار القطط لكنها كانت تنفر من اطفال البشر.

وبعد الإغراء المستمر والمواظبة على التدريب الذي دام سنتين وقفت على قدميها وأكلت من الطبق بيديها. بدلا من أن تأكل بفمها مباشرة. ولكنها بقت الى هذا التاريخ تلعق الماء. بعد سنتين من التأهيل المكثف تعلمت لفظة(ما). وإذا عطشت وطلبت الماء أو جاعت وطلبت الطعام قالت(هو هو). ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمة مع انها كانت تصيح وتصرخ.

وفي عام 1925 شربت من كوب على الطريقة البشرية. وفي عام 1926 بلغ مجموع الكلمات التي تعلمتها عشرين كلمة ومشت مع الاطفال. ورفضت أكل الفضلات. وعندما بلغت (14) سنة ظهر عليها الحياء الغريزي ورفضت الخروج من غرفة نومها بدون كساء. وفي عام 1927 بدأت تخشى الكلاب إذا نبحت. بعدها بسنتين ماتت وعمرها 17 سنة. ولنا في حياة هذه الفتاة الهندية المخطوفة طائفة من العبر والملاحظات :

1-إن السلوك البشري يستقر في السنوات الخمسة الاولى من الطفولة لكن بعد ذلك يشق علينا تغيير هذا السلوك. ونعني بالسلوك الاستجابات العقلية التي ينشأ عنها التصرف.

 2-إن ما نسميه طبيعة وغريزة انما هو في احوال كثيرة تعليم وتنشئة اجتماعية. حتى بعد

سنوات. فذهن هذه الطفلة لم يتطور الى الدرجة التي كان يبلغها الاطفال عادة في هذه السن. لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه خالية تتقبل التعليم الجديد. لكن هذه المسكينة التقت بالبشر ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف البهيمية التي بعثتها فيها عشرة الذئاب. ومن هنا صعب تعلمها.

3-إن أسلوبنا الذي نتخذه في المشي والأكل والشرب كذلك في الخوف والغضب والمرح كل هذا مكتسب وليس وراثي.

4-إن اللغة هي التي تعين لنا السلوك والتصرف البشريين وهذا هو ما قصدناه في هذا الحديث. فإن هذه الفتاة التي قبض عليها وهي في الثامنة أحتاجت الى سنتين كي تتعلم لفظة(ما) وبدا ذكائها ينمو. فكان استظهار الكلمات ترافقه تغيرات في السلوك. وهذه التغيرات برزت نتيجة نبضات ذهنية ظهرت بفعل التمازج الذي حدث بين الفتاة والبيئة الجديدة.

واللغة والفكر يتبادلان الفعل والتأثير نحو بناء الفهم وهذه الفتاة حرمت من اللغة ولهذا حرمت من الفهم. وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسه بدلا من السلوك الحيواني. حين تعلمت بعض الكلمات. وكانت كل كلمة جديدة تعلمتها تعين لها فكرة جديدة او عاطفة جديدة ثم سلوكا جديدا.

الأمر الذي يتضح معه أن التراث الاجتماعي المكتسب وليس التراث الطبيعي الموروث هو الذى يشكل إنسانية الإنسان من حيث كونها ذاتا إنسانية تتفاعل مع ذوات الآخرين من حيث كونهم ذوات إنسانية وعلى قدر إنسانية هذه الذوات وعلى قدر تفاعل ذات الإنسان معها يكون قدر إنسانية هذه الذات. معنى هذا إن العمل الذى تأتي به الذات سواءا كان هذا العمل نبيلا او شائنا يتوقف حسب هذا التصور على جودة أو رداءة ذوات الآخرين وعلى حجم مجال التفاعل الذي يمنح للذات مع ذوات الآخرين.

إن الذات الإنسانية تجد نفسها كاملة كذات إنسانية في التوحد أو التفاعل مع ذوات الاخرين إذ لا يكفي ان تملك الذات الإنسانية التراث الطبيعي الموروث لتحقيق هذا التكامل مالم تملك إزائه التراث الاجتماعي المكتسب الذى يسبغ عليها مسوح الانسانية.

بعد هذا المستوى من الفهم للإنسان لابد وأن يواجهنا السؤال عن فحوى أو مضمون تلك الإنسانية أو بالأحرى عن ماهية هدف تلك الهيئة الاجتماعية التي منحت الإنسان إنسانيته أي عن ذلك الهدف الآخر الذي يكمن وراء هدف "الرغبة في البقاء على قيد الحياة" وهو الهدف الذي قلنا أننا نشترك مع الحيوان في السعي اليه.

لكن ما لا نشترك فيه مع الحيوان وهو ميزة فريدة لنا هو هدف إجتماعي يمنح الانسان إنسانيته إذ من دونه لا يصبح الإنسان إنسانا فلكون الحيوان لا يملك قدرة السعي إليه فهو لن يتعدى طور الحيوانية ولو تربى في حضن الإنسان وعاش في مجتمع إنساني.

أما الإنسان هذا الكائن الفريد الذي يشترك مع الحيوان في البايولوجي ويفترق عنه في الإنساني بفعل الهيئة الاجتماعية التى تفرض عليه هذا الهدف الذي يزيد على هدف الرغبة في البقاء على قيد الحياة.

ومن خلال هذا الادراك يتضح لنا ان الإنسان كائن بايولوجي واجتماعي في آن واحد أي كائن مزدوج فهو كائن ذو حاجات بايولوجية كالحاجة للطعام أو الحاجة للشراب أو الحاجة للجنس .. حيث يكون السبب الدافع لهذه الحاجات هو الرغبة في البقاء على قيد الحياة وهو كذلك كائن اجتماعي يصبح لرغبته في البقاء هدف أساسي لا يحيد عن تحقيقه اكتسبه من المجتمع الذي يحيا فيه.

الحقيقي والواقعي في الطبيعة البشرية

تبين لنا إن "الانسان كيان ذاتي" بمعنى أن الغاية من وراء مختلف أشكال السلوك هي بناء الذات وتوكيد هذا البناء وبذلك فأن منجزات الإنسان الثقافية والحضارية

ومنذ أن أكتسب الإنسان إنسانيته في الهيئة الاجتماعية هي نتائج للسعي إلى هدفه الخاص أي لهدف "تحقيق بناء الذات وتوكيدها".

إن سعي الإنسان الجاد من أجل البناء الذاتي وتوكيده هو الحقيقة التي تشكل محتوى القانون العام الذى يشترك به جميع البشر فدوافع مختلف أشكال السلوك البشري واحدة لأنها تتجه جميعها نحو غاية مشتركة.

أما الاختلاف الكائن فيما بينها فيكمن في اختلاف الوسائل الموصلة لتحقيق تلك الغاية حيث إن هذا الاختلاف الحاصل في الوسائل الموصلة ناجم عن الاختلاف في الظروف التي يتعرض لها إنسان معين في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية ولا يتعرض لها انسان آخر يعيش في بيئة أخرى مختلفة. إذ يتعرض لظروف أو لمواقف أخرى في تلك البيئة تفرض عليه نمطا مختلفا من السلوك.

على إننا حينما نقول إنها تختلف فإنما نعني بهذا الاختلاف أنها لا تتشابه إلى حد التطابق إذ إن هناك درجات معينة من التشابه والاختلاف.

ولعل معرفة هذه الحقيقة قادرة على أن توضح لنا سبب الاختلاف الحاصل بين سلوك إنسان ما وسلوك إنسان آخر.

ومما هو جدير بالتنبيه إليه هنا هو ضرورة التمييز بين ما هو "حقيقي" وبين ما هو "واقعي" فللطبيعة البشرية حقيقة كما أن لها واقع ملاحظ.

فحقيقة الطبيعة البشرية هي إنها تخضع لقانون (الصراع) الذي يعم لا الكائنات الحية فقط وإنما هو قانون كوني عام وشامل وعلى كافة التقديرات فقد تصارع الإنسان مع الحيوان في الغابات في بدايات وجوده الأولى حيث مكنته قوة عقله من البقاء وأضعاف الكائنات الاخرى فدجنها وتسيد عليها.

ثم صارع الإنسان الطبيعة بكل قساوتها وقاوم ظروف البرد القارس والحر اللاهب ببناء البيوت واختراع وسائل التدفئة والتبربد. لكن أقسى أنواع الصراعات كان صراع الإنسان مع الإنسان هي حرب منذ أن وجد وإلى حد الآن حيث الغزو والقتل والسبي والاغتصاب والتهجير والإبادة الجماعية أحيانا.

ورغم التقدم العلمي والحضاري الذي شهدته البشرية في جميع مجالات الحياة و في كل مكان من العالم في العصر الحديث وسن القوانين والتشريعات ذات المضمون الإنساني والمؤسسات الدولية والتي تدعو الى احترام حق الانسان بالحياة لازال الإنسان يمارس أنواع مختلفة من الصراعات من أجل التملك والتسيد والسيطرة على حساب حياة و راحة أخيه الإنسان.

ثم أخذ الصراع أبعادا إيديولجية فكانت صراعات وحروب الأديان أقسى الحروب ثم الصراع الأنكى والأمر وهو الصراع الطائفي الذي ليس له نهاية واضحة في الأفق ثم الصراع العشائري في البلدان المتخلفة ثم الصراع الحزبي في مؤسسات السياسة ثم العائلي ثم الفردي ثم الذاتي حيث يتصارع الإنسان مع ذاته.

وإذا كان الصراع بين أفراد المجتمع يشكل جوهر هذه الحقيقة فلا يعني ذلك أنه السبب في الواقع المزري الذي يعيشه أفراد المجتمع متمثلا باستعباد الرجل للمرأة أو في استغلال الرأسمالي للعامل أو في استعمار دولة لدولة اخرى.

وإنما لكون الصراع الذي تتضمنه حقيقة الطبيعة البشرية يتجه من أجل ديمومته نحو علاقات غير عادلة متمثلة بالاستعباد أو الاستغلال أو الاستعمار.

وفي كونه لا يتجه الى علاقات مغايرة في الوفاق الفردي والاجتماعي.

وأظن ان هذه المعرفة -معرفة تشخيص الداء- تشكل نصف وظيفة العلم في عصرنا الراهن أما نصفها الآخر فيكمن في ترشيد ذلك الصراع نحو وفاق يضمن ذوبان التناقض الحاد الكائن بين حقيقة الطبيعة البشرية في الصراع وواقعها المعيب في العلاقات الفردية والاجتماعية غير العادلة على هذا الأساس فإن الإجراء الإيجابي الوحيد يكمن في توجيه ذلك الصراع ما دام إن القضاء عليه يعني القضاء على الطبيعة البشرية نفسها.

وبديهي إن مثل هذا التوجيه لا يتم من خلال أفكار تعتمد على الإيديولوجيا أو على الدين لمعالجة أحوال اجتماعية معينة.

فعلى الرغم من إن حلول الإيديولوجيا أو الدين لا تخدم ذلك التوجيه لانها بصراحة تساهم في تأجيج حدة ذلك الصراع نحو مزيد من التناقض الجائر . إنما الحل يتم عبر أفکار تقدمية تعتمد أسس منهج العلم بعيدا عن مؤثرات الإيديولوجيا والدين والطائفة.

***

سليم جواد الفهد

............

1-أقتبست معلومات عن المستر (جيسل) من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لمؤلفه سلامة موسى.

 

التداخلُ بين الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية يُؤَدِّي إلى تكوين مصادر جديدة للمعرفة، وهذه المصادرُ تُمثِّل تأسيسًا للنَّزعة النَّقْدِيَّة للأنماط الاستهلاكية في المُجتمع، وتُجسِّد وَعْيًا بالصِّراع الدائر بين تفاصيل حياة الإنسان المُتَشَظِّيَة (الحنين إلى المَاضِي الذي لا يَمْضِي، والغرق في الحَاضِر الذي يتمُّ تفريغُه مِن مَعْنَاه وَجَدْوَاه، والخَوف مِن المُستقبَل الذي تتمُّ أدلجته كَمَنفى للرُّوحِ والجسدِ). ولا يُمكن للإنسان أن يَكُون هُوِيَّةً للوَعْي التاريخي إلا بالتخلُّصِ مِن الخَوْفِ الزمني والقَلَقِ المَكَاني، ولا يُمكن للمُجتمع أن يَكُون سُلْطَةً للمَعْنى الحضاري إلا بالتخلُّصِ مِن اغترابِ الكِيَان واستلابِ الكَينونة. وإذا كانَ الإنسانُ يَستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على الانعتاق مِن حُطَامِ الرُّوحِ وأنقاضِ الجسد، فإنَّ المُجتمع يستمد شرعيةَ وُجوده مِن قُدرته على التَّحَرُّر مِن انكسارِ الذات وغُربةِ الشُّعور.وهذا يَعْني أنَّ الإنسانَ والمُجتمعَ يُكوِّنان معًا تاريخًا للأحلام المُشترَكة يَمنع تَحَوُّلَ المَنطِق إلى ضِدِّه، ويَمنع انتقالَ العقلانية إلى نقيضها، تحت ضَغْط تضارُب المصالح الفردية والجماعية، وإفرازاتِ البيئة الحياتيَّة تاريخيًّا وحضاريًّا، وتأثيراتِ الطبيعة الوُجودية للأشياء والعناصر. والخطرُ الحقيقي الذي يُهدِّد البناءَ الاجتماعي هو تَحَوُّلُ مَنطِق التاريخ إلى نَمَط استهلاكي غَير مَنطقي، وتَحَوُّلُ عقلانيَّةِ الحضارة إلى غَريزة شَهَوَانِيَّة غَير عقلانية. والتاريخُ والحضارةُ يُشكِّلان منظومةً فلسفيةً مُوَحَّدَةً في الشُّعور والإدراك الحِسِّي، ومُوَحِّدَةً للانعكاسات الاجتماعية القَصْدِيَّة والعَفْوِيَّة في الزمانِ والمكانِ. وكُلُّ تَوليدٍ للوَعْي الخَلاصِي في التاريخِ والحضارةِ هو بالضَّرورة تأسيسٌ للمَعنى الإنساني في الظواهرِ الثقافية والعلاقاتِ الاجتماعية. والثقافةُ هي إعادةُ مُمارَسة التاريخ الإبداعي مِن مَنظور أخلاقي، والمُجتمعُ هو إعادةُ تَكوين الجَوْهَر الوجودي في بُنية العقل الجَمْعي المُسيطِر على تحوُّلات الفِعْل الاجتماعي.

2

إذا صَنَعَ الفِعْلُ الاجتماعي التجانسَ المركزي في شخصية الفرد الإنسانية، فإنَّ بُنية العَقْل الجَمْعي سَوْفَ تَنتقل مِن تأويلِ أنساق التاريخ إلى تغييرِ أنماط المُجتمع، مِمَّا يُؤَدِّي إلى تفعيلِ وسائل التواصل بين المُحتوى والشَّكْل، وتجسيدِ المشروع الإنساني المُتكامل في الأحداث اليومية القادرة على تكوين تَصَوُّر ثقافي للذاتِ والعَالَمِ، مِن أجل تخليصِ التجارب الحياتيَّة مِن التناقضات الداخليَّة، وتطهيرِ فلسفة التاريخ مِن المُسلَّمات الافتراضية، بِحَيث تُصبح الحياةُ إطارًا معرفيًّا للفِكْر الخَلَّاق والوُجودِ الفَعَّال، ويُصبح التاريخُ هُوِيَّةً جامعةً للسِّيَاقاتِ العقلانية والتَّشَظِّيَاتِ الواقعية. وينبغي الحِفاظُ على الفِعْل الاجتماعي كمشروعٍ للخَلاص يُعرَف بذاته ولَيس بأضداده، وكَفِكْرةٍ مصيرية تتوالد مِن ذاتها، ولَيس كأيديولوجية مُسَيَّسَة يُعاد تشكيلُها مِن أجل إقحام الأفراد والجماعات في الانتماء المصلحي النفعي. والفِعْلُ الاجتماعي لَيس حَدَثًا عابرًا في تفاصيل الواقع المُعاش، وإنَّما هو نَسَقٌ فلسفي عميق يَحْمِل خصائصَ تاريخِ المُجتمع داخليًّا وخارجيًّا، ويُفْرِز مناهجَ لُغوية تَجْمَع بين تشخيصِ الأحلام الإنسانية المَكبوتة، وبين تَكوينِ آلِيَّاتِ تفسيرها وأدواتِ توظيفها.

3

المناهجُ اللغوية لا يَقتصر دَوْرُها على التأثير في الأحلامِ المكبوتة والعناصرِ المُهمَّشة والحَيَوَاتِ المنسيَّة. إنَّ هذه المناهج تَنبُع مِن اللغة كَجَسَدٍ فلسفي، ونظامٍ تواصلي، ومسارٍ رمزي، وتُحوِّل الأحداثَ اليومية إلى ظواهر ثقافية مُتجانسة ومُتكاملة، اعتمادًا على الطبيعة الأخلاقية للفِعْل الاجتماعي، واستنادًا إلى الجُذورِ الحضارية، والسِّيَاساتِ الإنسانية، والهُوِيَّاتِ التاريخية، والماهيَّاتِ الفكرية. واللغةُ هي سُلطة المعرفة. ومعَ أنَّ المعرفة نِسبية وغَير يقينية، إلا أنَّ الطريق إلى المعرفة هو اليقين، والعمل أكثر أهميةً مِن النتيجة، لأنَّ العمل تحت سيطرة الإنسان، لكنَّ النتيجة خارج سَيطرته. وكُلُّ إنسانٍ مُتَأكِّدٌ أنَّه يسير في طريقه، لكنَّه غَير مُتأكِّد مِن الوُصول إلى هَدَفه. وهذا يَعْني أنَّ الطريق الحياتي هو الطريقة الوجودية، وأنَّ الإنسان يُؤَسِّس مَصِيرَه أثناء اختيار مَسَاره.وهذا يَفرِض على الإنسان أن يَبْنِيَ تَصَوُّرَات صحيحة حَوْلَ نَفْسِه،وطبيعةِ بُنيته الوظيفية في الحياة، لِكَيلا يُمَارِس المَاضِي في الحَاضِر، ولا يَتَقَمَّص أقنعةَ الأمواتِ في حياته، ولا يَلعَب دَوْرَ الضَّحِيَّة في المسرحية، ولا يَبني مَجْدَ أعدائه على حُطَامه، ولا يَترك الآخرين يَصعَدون على ظَهْرِه، لأنَّ الانحناء شديد الخُطورة، فقد لا تأتي الفُرصة للنُّهُوض مَرَّةً أُخْرَى.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في المفهوم: عصر التنوير المعروف أيضًا باسم «عصر المنطق». هو حركة فكريّة وفلسفيّة هيمنت على عالم الأفكار في القارة الأوروبيّة خلال القرن الثامن عشر. واعتقد المشاركون في الحركة أنّ من شأنها أن تنير ذكاء الإنسان وثقافته إثر عصور الظلام الوسطى. حيث سيطر على عقول الناس التفكير اللاهوتيّ المشبع بالخرافة والأسطورة، والعقل الميتافيزيقيّ، والذاتيّة. وتشمل خصائص التنوير بزوغ مفاهيم أساسيّة مثل الإيمان بالعقل والحريّة والمساواة والمنهج العلميّ في التفكير. وقد كانت فلسفة التنوير تنتقد الممارسات الدينيّة السائد في عصر الاقطاع، وخاصة ممارسات الكنيسة الكاثوليكيّة، وتدين الأنظمة الملكيّة والأرستقراطيّة الوراثيّة المستبدة. وبالتالي كان لفلسفة التنوير الأثر الكبير في التبشير بتشكيل الدولة المدنيّة ومضامينها كالمواطنة والمؤسسات وحرية الرأي والعقيدة وبصياغة الدساتير النابعة من مصالح الشعب بكل مكوناته وخاصة الطبقيّة منها، مثلما كان لها التأثير الكبير على قيام الثورات الشعبيّة في أوربا وعلى نخب العالم الثالث، وكان في مقدمة أسباب هذا التأثير المنطلقات النظريّة للثورة الفرنسيّة المشبعة بمفاهيم الحرية والعدالة والمساواة والعلمانية والدولة المدنيّة. (1).

لقد ساهمت الثورة الصناعيّة على امتداد القرنين السابع عشرة والثامن عشرة، ممثلة بحواملها الاجتماعيّة من الطبقة البرجوازيّة المالكة ومساندة الطبقة العماليّة المنتجة، في  تطوير القوى المنتجة في المجتمع، وخلق حالات جديدة من التناقضات بين أسلوب الإنتاج الرأسماليّ الذي أخذ يشق طريقه داخل العلاقات الاجتماعيّة السائدة، ممثلة بأسلوب الإنتاج الإقطاعيّ وحوامله الاجتماعيّة الرئيسة وهم الملك والكنيسة والنبلاء، وبخلق علاقات وتحولات عميقة في البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، ظهر للطبقة الرأسماليّة والعماليّة الدور الكبير في وجودها، وخلق بنيّة سياسيّة جديدة تقودها بشكل فعليّ الطبقة الرأسماليّة بشكل خاص. ومن أهم التجليات العمليّة لأفكار عصر التنوير كانت الثورة الفرنسية عام (1789)  التي تعمقت مفاعيلها داخل فرنسة حتى عام (1799)، من جهة، وكان لأفكارها الفلسفيّة وقيمها الثوريّة تأثيرات عميقة على أوروبا والعالم الغربي عموما، والنخب المثقفة في العالم الثالث ومنها عالمنا العربي على وجه الخصوص من جهة ثانية، هذه الثورة التي  انتهت بسيطرة البورجوازية خلال التحالف مع نابليون على السلطة. وتشكيل المرحلة الاستعماريّة معلنة بداية المرحلة الامبرياليّة للطبقة الرأسماليّة ذاتها التي راحت تتخلى شيئاً فشيئاً عن قيم ومبادئ هذه الثورة التقدميّة بعد وصولها غلى السلطة.

لا شك أن أسلوب الإنتاج الرأسماليّ قد ساهم في تطوير العلوم الفيزيائيّة والكيميائيّة والتكنولوجيّة والبيولوجيّة والرياضيات والعلوم الإنسانيّة بشكل عام وفي مقدمتها الفلسفة وعلم الاجتماع.. الخ. ومع سياق هذا التطور العلمي بدأت الأفكار الفلسفيّة الماديّة تشق طريقها في عالم الفكر بشكل أكثر وضوحاً مما كانت عليه مع بداية الثورة الصناعيّة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لتلامس ليس عقول الفلاسفة والمفكرين فحسب، بل وقوى الشعب التي عانت من قهر وظلم النظام الاقطاعيّ والكنيسة. بيد أن هذا التقدم الفلسفيّ جوبه من قبل القوى الرجعيّة آنذاك، وفي مقدمتها الكنيسة وسدنتها من رجال العلم والأدب الذين عملوا مروجين لأفكار الكنيسة وحلفائها من النبلاء.

وعلى الرغم من أن الفكر التنويريّ في بريطانيا كان سباقاً على الفكر التنويريّ في فرنسا، إلا أن الفكر التنويريّ في فرنسا كان له تأثيره الكبير على الفكر التنويريّ للغرب عموما، خاصة بعد قيام الثورة الفرنسيّة وكومونة باريز، (1871). وتأثير أفكارها ومبادئها التي أسس لها مفكرو التنوير الفرنسي أمثال فولتير وروسو وريكاردو ومنتسيكيو. ومع ذلك لم يخبو الفكر التنويريّ في بريطانيا، حيث "ظهر جان لوك" كمفكر تنويريّ ساهم مساهمة فعالة بحركة التنوير الفرنسيّة، فمع فولتير ومنتسيكيو بدا المثقفون التنويريون الفرنسيون يتعرفون على إنكلترا الجديدة وثقافتها وخاصة أفكار جان لوك. (2).

جان لوك والتنوير:

لقد طورت أفكار "جان لوك" -1632 – 1704. أفكار فلسفة التنوير، حيث دعا هذا الفيلسوف أنصار تيار التنوير الواسع إلى مناهضة الأيديولوجية الاقطاعيّة السكولائيّة/ المدرسيّة. أي (الدينيّة الوثوقيّة) التي جعلت الإيمان بديلاً عن العقل، والفضيلة بديلاً عن حل التناقضات الاجتماعية والاقتصاديّة والسياسيّة القائمة، وراحوا يؤكدون على العقل أولاً وتوظيفه لصالح العلم، واعتبار نور العقل وسيلة أساسيّة لإسعاد المجتمع،  كما نادوا بضرورة تحرير الأخلاق من الوصاية الدينيّة، ونشر الثقافة والعلم بين الجماهير باعتبارها القوة المحركة للتطور التاريخ، والشرط الأساس لسلطة العقل. (3).

الدور التاريخي لفلاسفة عصر التنوير في القرن الثامن عشر:

1- محاربة وفضح ركائز الأيديولوجيا الاقطاعيّة والحياة الفكريّة المدرسيّة /السكولائية التي توطت في المجتمع الاقطاعيّ، وكانت عائقاً كبيراً أمام تقدم العلم والمعتقدات العلميّة. ووطدت سيطرة الكنيسة الروحيّة على المواطنين، ودعمت استمرار السلطة السياسيّة للقوى الرجعيّة السائدة، ممثلة بالملك والكنيسة والنبلاء.

2- ضرورة محاربة هذه السيطرة بشقيها الدينيّ والسياسيّ، والدعوة لتحرير عقول الناس فكريّاً وسياسيّاً.

3- النظر إلى علاقة المعرفة بالإيمان. أي توضيح الرؤية العلميّة الحديثة بأحداث الكون، أمام المواقف الفكريّة للأساطير والخرافات التي شكلت عقول الناس بسبب توجهات الكتب الدينيّة اللاعقلانيّة في النظر إلى الكون وتشكله، وخلق الإنسان وغير ذلك. فرجال الدين يعتبرون كل ما ورد في الكتب المقدسة،  حقائق جرت في التاريخ، لا تقبل النقد والتعديل ولا حتى المراجعة، وهي قوانين سنها الله وحدد مثلها القواعد الأخلاقيّة والتنظيم السياسيّ والقانونيّ للمجتمع. أو بتعبير آخر قام التنوير بالدعوة إلى إعلاء شأن العقل والعلم أمام الغيبيات والأساطير والخضوع المطلق لسلطة السلف. أي الانتصار لعقليّة كوبريك وهارفي وسبينوزا، وكل المفكرين والفلاسفة العقلانيين الذين حاربتهم الكنيسة.

4- العمل على إشاعة روح التسامح الدينيّ.

5-  الدعوة إلى حريّة البحث العلميّ والفكر والفلسفة. (4).

نقد أفكار فلاسفة التنوير:

إن مشكلة فلاسفة عصر التنوير تكمن أساساً في كونهم لم يعتبروا التناقضات الاجتماعيّة وما تولده من صراعات بين اَلْمُسْتَغِلْ واَلْمُسْتَغَلْ هي أساس الصراع مع السلطات السياسيّة والدينيّة المتحالفة مع بعضها ضد مصالح الجماهير، بقدر ما اعتبروه صراعاً مع كنائس دينيّة ورجال الكهنوت الذين وقفوا إلى جانب الملك والنبلاء، كما جرى سابقاً للإصلاح الديني الذي قاده مارتن لوثر وزنغلي. إن نظرة التنوير للدين ظلت نظرة إيمانيّة إلى حد كبير، فهم يريدون القول بضرورة الاعتراف بالله علة أولى للعالم، وهذا ما قال به معظم فلاسفة التنوير، فهم لم ينكرون الإله والوحي والآخرة، وغيرها من المعطيات الدينيّة التي تنافي العقل أو تناقضه. ولكنهم رفضوا الاعتراف بأن كل شيء مخلوق لله، وكانوا يسخرون كثيراً من رجال الدين كما فعل فولتير في كتابه (قاموس الفلسفة)، وقدموا الكثير من رجالاتهم للمقاصل أثناء قيام الثورة الفرنسية.

لقد حمل التنوير دلالتين ثوريتين، الأولى: كينونة الإنسان العابرة للهويات الوطنيّة والقوميّة والدينيّة، أي وجوده الكونيّ. والثانية: قدرة العقل الإنسانيّ على بناء عالم مضيئ ومتنور، وبالتالي فالإنسان مشروع التنوير وهدفه، ففي الدلالة الأولى أطاح التنوير بالقوالب الدينيّة والطبقيّة والفلسفيّة السائدة في عصر الإقطاع، التي قزم فيها الإنسان، وأعلن القطيعة الجدليّة ولا أقول السكونيّة مع التراث القديم، على اعتبار أن هناك في التراث محطات ايجابيّة وجوهريّة في قيمها الإنسانيّة ولا بد من تبنيها واستلهامها وبالتالي توظيفها لخدمة الإنسان. وفي الدلالة الثانيّة أيقظ التنوير القدرة الفكريّة للفرد لمعارضة دور الدين الإرشادي لرجال الكنيسة في الفكر والعمل. وربطه بالفرد دون وساطة بين الله والناس، مثلما ركز على دور الإرادة الإنسانية وقدرة الإنسان على تحقيق مصيره بذاته. (5).

ملاحظة:

أأكد هنا على أن فلسفة عصر التنوير وكل تجلياتها، لم تكن موجودة في الأصل على أرض الواقع لولا قيام الثورة الصناعيّة، وتشكل الطبقة البرجوازيّة والطبقة العماليّة وشريحة الفلاسفة والمفكرين المعبرين عن مصالح هاتين الطبقتين وطموحاتهما. لذلك إن كل دعوة للتنوير في أي مجتمع من المجتمعات لم تتوفر فيها التحولات الموضوعيّة ممثلة في تطور قوى وعلاقات الإنتاج في الوجود الاجتماعيّ، ولم تتوفر فيها أيضاً التحولات الذاتيّة وفي مقدمتها تشكل طبقة اجتماعيّة واعية لذاتها ولمصالح شعبها، سيظل الفكر التنويري فكراً تبشيرياً رسولياً، تبشر به نخب مثقفة مرتبطة بقضايا شعبها، في الوقت الذي يلاقي فيه هذا الفكر والمبشرون به، الكثير من المعوقات من قبل القوى الحاكمة المستبدة ومشايخها من تنابل السلطان، وجهل الشعوب وتخلفها وسيطرة الفكر الجبريّ والأسطوريّ على عقولها.

***

د. عدنان عويّد

......................

المراجع:

1- موسوعة ستانفورد للفلسفة.

2- (موجز تاريخ الفلسفة، مجموعة من الباحثين السوفييت 0 دارالأهالي، دمشق، 1971). ص 266، وما بعد).

3- المرجع نفسه. 266 وما بعد.

4- للاستزادة أكثر عن أفكار عصر التنوير يراجع: كتاب (فلسفة الأنوار- تأليف ف. فولغين دار الطليعة بيروت 1981 طبعة اولى. ترجمة هنريت عبودي.).

5- موقع مجتمع الأكاديميّة بوست – فلسفة التنوير وتفكيك المقدس.

نأتي أخيرًا إلى الميزة 4 للمعتقد. غالبًا ما توفر المعتقدات الأخلاقية الأساسية الأساس التبريري لمعتقدات أخرى مبررة استنتاجيًا وفقً الصيغة السياقية البنيوية التي تحدث عنها. يُنظر إلى الاستدلال على أنه مسألة روابط استنتاجية بين العبارات أو المعتقدات في كثير من الأحيان. لكن في اعتقادي، يجب أن يتعرف التفسير الواقعي للتفكير الأخلاقي على ادعاء روس بأنه لا يتبع التفكير الأخلاقي نمطًا استنتاجيًا بسيطًا في كثير من الحالات، ولا يخضع هذا التفكير للقواعد التي تملي ما هو على وجه الخصوص عقلاني للاعتقاد به أو تصديقه في كثير من الحالات ايضًا. كانت وجهة نظر روس موضوع استياء فلسفي لأنه رفض تقديم أي خوارزمية أو إجراء عام للوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة في الحالات التي يوجد فيها اعتباران أخلاقيان ذات صلة  أخلاقية ببعضهما، ويدعم أحدهما على الأقل تقييمًا أخلاقيًا واحدًا للفعل و واحد على الأقل من الآخرين يدعم تقييمًا أخلاقيًا معارضًا. من المفترض أن تكون المشكلة أنه ما لم يكن هناك قاعدة أو إجراءات تغطية عامة يجب اتباعها للوصول إلى تقييم أخلاقي شامل للفعل، فإن أي حكم أخلاقي ناتج من جانب المرء سيكون تعسفيًا وبالتالي غير مبرر.

أعتقد أن روس محق في الطريقة التي نتبعها في كثير من الأحيان في التفكير في الأمور الأخلاقية: نحن نعمل مع عدد قليل من التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط غير القابلة للاختزال والتي لا يمكن ترتيبها بشكل معجمي لتوفير قاعدة للفصل في النزاعات بين التعميمات. ومع ذلك، فإن الفكر الأخلاقي والمداولات غير الخاضعين للقواعد بهذه الطريقة غالبًا ما يؤديان إلى معتقدات أخلاقية يمكن تبرير التمسك بها. على سبيل المثال، قضايا مثل الإجهاض (حيث تتجاذب العديد من الاعتبارات في اتجاهات أخلاقية متعاكسة)، يفكر الناس في أخلاق تلك الممارسة (أو حالات محددة منها) باستخدام مخزون المعتقدات الأخلاقية العامة ذات المستوى المتوسط نفسها، على الرغم من أن الأفراد يمكن أن يختلفوا في تقييمهم الأخلاقي لهذه الممارسة وأن يكونوا مبررين فياستجاباتهم الفردية المختلفة. علاوة على ذلك، بالإضافة إلى حالات تضارب التعميمات الأخلاقية، هناك العديد من الحالات التي ليس من الواضح فيها ما إذا كانت بعض التعميمات الأخلاقية تنطبق بشكل صحيح على حالة معينة أم لا. يتم التعبير عن التعميمات الأخلاقية من حيث مفاهيم مثل الأذى والكذب والشخص البريء وما إلى ذلك، والتي غالبا ما تكون غامضة.  تتطلب حالات التطبيق هذه مثل حالات الصراع أن يلعب الحكم الأخلاقي دورًا معرفيًا مهمًا في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة. إن ما يجب علينا فعله إذن هو جعل نظريتنا المعرفية الأخلاقية تتفق مع هذه الوقائع.

هناك اعتبارات فلسفية وتجريبية تدعم اعتقادي بأن التفكير الأخلاقي غير القائم على القواعد يمكن أن ينتج عنه اعتقاد أخلاقي مبرر. يتعلق الاعتبار الفلسفي الرئيس بأعمال بعض الفلاسفة حول مفهوم العقلانية.  فقد انتقد هارولد براون، على سبيل المثال، المفهوم "التقليدي" للعقلانية الذي وفقًا له كل المعتقدات العقلانية هي أعتقاد وفقًا لبعض القواعد. يجادل براون بشكل مقنع بأن وجهة النظر التقليدية تتضمن تصور مستحيل مما يعني أنه حتى البحث العلمي الدقيق يجب اعتباره غير عقلاني. ما يقترحه براون هو نموذج جديد للعقلانية، نموذجًا يوفر مكانًا لما يسميه ببساطة الحكم وهو: "القدرة على تقييم الموقف، وتقييم الأدلة، والتوصل إلى قرار معقول دون اتباع القواعد".[1] لذا فإن هذا النموذج العام للعقلانية الذي يحدد دورًا معرفيًا للحكم يتماشى جيدًا مع وجهة النظر القائلة بأن البحث العلمي عقلاني، ويتوافق أيضًا بشكل جيد مع الادعاء القائل بموازنة الاعتبارات الأخلاقية المتنافسة، وبناءً على هذه الموازنة، يمكن أن يؤدي الحكم (الذي لا يتعلق بالامتثال لقواعد محددة) إلى اعتقاد منطقي أو مبرر. أظن أن أحد الأسباب التي جعلت الفلاسفة غير متعاطفين مع روس هو أنهم يأخذون العلم كنموذجنا للتحقيق العقلاني، ويفترضون أن مثل هذا البحث محكوم بالقواعد تمامًا، وبالتالي يستنتجون بأنهم اذا اخذوا بوجهة نظر روس ستكون وجهة نظر  معيب وناقصة معرفيًا  بخصوص التفكير الأخلاقي. لقد قوض براون هذا الخط الفكري تمامًا. وإذا كان براون على حق، فإن دور الحكم الأخلاقي في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة ليس ظاهرة منعزلة وغير مألوفة من الناحية المعرفية وغريبة على التفكير الأخلاقي، بل مجرد مثال عن  فينومينو (ظاهرة) عامة تمامًا.

يمكن العثور على الاعتبارات التجريبية التي تؤثر على هذه المسألة في عمل الأخوين دريفوس. يجادلون بأن التفكير الأخلاقي والحكم هي أنشطة تشبه إلى حد كبير العديد من الأنشطة البدنية والفكرية (يناقشون قيادة السيارة ولعب الشطرنج) في أن القيام بها بشكل جيد هو مهارة تتطور عبر مراحل. في البداية يتم تعليم لاعب الشطرنج للمبتدئ أبن يتبع بوعي القواعد التي مع الخبرة  لم تعد ممتعة بوعي، حتى يتمكن المرء في النهاية من "رؤية" كيفية الرد على الأنواع المختلفة لمواقع الشطرنج. إن نقطتهم الرئيسة، التي يطبقونها على حالة التفكير الأخلاقي، هي أن الفرد يصبح أكثر مهارة في بعض النشاطات المعقدة ينطوي على اكتساب مهارة لمعرفة كيفية القيام بشيء ما، حيث لا يعتمد الفرد بوعي على القواعد (وهو كي لا نقول إن القواعد لا تلعب أي دور تبرير على الإطلاق في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة حول حالات معينة). لكنهم يطرحون وجهة نظر روسية أخرى، أي أن الحكم الأخلاقي الماهر والتفكير في الحالات المعقدة، حيث يدخل عدد من الاعتبارات الأخلاقية، لا يرتكز على أي قاعدة خوارزمية أو قاعدة عظمى من شأنها أن تحدد بعقلانية بعض النتائج.

أنهم يقولون: " إذا كانت فينومينولوجيا المواجهة الماهرة التي قدمناها صحيحة، فإن المبادئ والنظريات تخدم فقط المراحل الأولى من التعلم؛ لا يوجد مبدأ أو نظرية "أرضية" لأستجابة أخلاقية متخصصة، أكثر من لعبة الشطرنج، هناك نظرية أو قاعدة تفسر حركة المستوى الرئيس. كما رأينا في حالة الشطرنج، مع الاعتراف بأنه لا توجد طريقة لإثبات وجود الحدس في التفسيرهو خطوة مهمة على طريق اكتساب الخبرة".[2]

إن فينومينولوجيا التفكير الأخلاقي التي يقدمها الأخوان دريفوس تدعم وجهة نظر روس التي تؤكد على دور الحكم الأخلاقي في اتخاذ قرارات أخلاقية معقولة، وفي الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة.

تتوافق هذه الملاحظات حول الحكم الأخلاقي بشكل جيد مع وجهة نظري المعرفية الأخلاقية السياقية. في الحالات التي يفكر فيها المفكر الأخلاقي في بعض القضايا ويتوصل إلى اعتقاد حول أخلاق عمل ما، فهو منخرط في نشاط يزن ويوازن بين مختلف الاعتبارات الأخلاقية- الاعتبارات التي تنعكس في معتقداته الأخلاقية العامة التي تحدثت عنها بوصفها أساسية للسياق. المعتقد الأخلاقي الذي يستقر لا تمليه عليه في النهاية أي خوارزمية؛ فالحكم الأخلاقي المتربي و المتدرب عليه هو الفعال هنا. ومع ذلك، فإن ذو الخبرة يفكر في القضية ويمكنه، ذكر الأسباب التي كانت حاسمة في النهاية. يتم تمثيل أسبابه من خلال المعتقدات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط في الأساس. لذلك، يمكن لذو الخبرة تقديم تبرير لانتهاء معتقده من معتقداته الأخلاقية ذات المستوى المتوسط، ولكن لا توجد قاعدة تغطية متبعة تملي على نوع واحد من الاعتبارات الأخلاقية العامة أن يتفوق على الاعتبارات الأخلاقية المتنافسة في هذه الحالة. ما يكشفه هذا عن تلك المعايير المعرفية التي تحكم الاعتقاد الأخلاقي هو أننا نعمل وفقًا للمعايير المعرفية التي يسمح بعضها للمرء بالتمسك بمعتقدات أخلاقية، في ظروف معينة، على أساس ممارسة الحكم الأخلاقي.[3].

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.........................

[1] Harold Brown, Rationality (London and New York: Routledge, 1988), 137.

وقد تم التأكيد على نفس الموضوع  في ما يتعلق بتفسير نجاح العلم من قبل هيلاري بوتنام

Hilary Putnam, Reason, Truth and History (Cambridge: Cambridge University Press, 1981, p.195)

ويشير إلى أن محاولات إضفاء الطابع الشكلي على المنهج العلمي لم تنجح ولن تنجح، ولذا يجب علينا تجاوز محاولة ما يسمية "method fetishism"اي محاولة التعلق للاسباع بطريقة غير طبيعية  لفهم العقلانية العلمية. بدلاً من ذلك، وفقًا لبوتنام، يعمل العلماء مع مجموعة من "القواعد" غير الخوارزمية وغير الشكلية التي تتطلب "عقلانية غير  شكلية، أي الذكاء والفطرة السليمة، لتطبيقها".

[2] Hubert Dreyfus and Stuart E. Dreyfus, "What is Morality? p. 252.

[3] هناك الكثير مما يمكن قوله عن الحكم الأخلاقي وما الذي يجعل مثل هذا الحكم حكمًا جيدًا حتى لو لم يكن خاضعًا للحكم. لا يسمح الفضاء بمعالجة هذا الموضوع هنا، ولكن أهمية النماذج (المذكورة أعلاه في وصف النظرة الأخلاقية) تبرز هنا بشكل مهم. الحكم الأخلاقي الجيد هو الحكم الذي يتوقعه المرء من الخبراء الأخلاقيين. هذا هو نوع القصة التي نجدها في:

Brown, Rationality, and in Dreyfus and Dreyfus, "What is Morality?

من المعروف لدى الجنس البشري أن هناك علاقة وثيقة بين العوامل والظروف الاجتماعية وبين صحة الإنسان وتطور المرض عنده، فكثير من الأفراد يرون الأمراض من منظور مجتمعهم وثقافتهم الخاصة، حيث إن قيم الفرد ومعاييره ومعتقداته ونموذج حياته تؤثر على حالته الصحية وبالتالي على نوعية مرضه وأسبابه، فالعلاقة الوثيقة بين العوامل الاجتماعية ومستوى الصحة التي تتسم بها أي جماعة من الجماعات تجعلنا نقرر أن علم الاجتماع الطبي يعتبر فرعاً من فروع علم الاجتماع العام، فإذا كان علم الاجتماع يهتم بالعمليات والتنظيمات الاجتماعية وبسلوك الفرد والجماعة، فإن علم الاجتماع الطبي يهتم بالحقائق الخاصة بالصحة والمرض والوظائف الاجتماعية للتنظيمات والمنظمات الصحة، وبعلاقة انساق توزيع العناية والرعاية الصحية بغيرها من الانساق الاجتماعية الأخرى، كما أنه يعتني أيضاً بدراسة السلوك الاجتماعي للطبيب والممرضة لمعرفة العلاقة بينهما وأثرها على تطوير العناية الطبية(1).

يرجع ظهور علم الاجتماع الطبي المعاصر إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وذلك بسبب الهيمنة الثقافية للعلم والطب في وقتها، مما أدى إلى خلق شعور بالتفاؤل لإمكانية القضاء على العديد من أمراض وأوبئة المجتمع وقتها، حيث أُعطيت العديد من المساهمات وحُفز الاهتمام الأكاديمي لتطوير ذلك التخصص العلمي الوليد.

وقد أُسِسَ قسم علم الاجتماع الطبي في عدد قليل من أقسام علم الاجتماع في جامعات النخبة خلال سنوات تطويره الأولى، وبدأت في السبعينيات من القرن الماضي معظم أقسام الدراسات العليا في علم الاجتماع في تقديم علم الاجتماع الطبي ضمن البرنامج الدراسي، واليوم تنتشر عدة دورات في علم الاجتماع حول الصحة والطب في كل برنامج دراسات عليا تقريباً في الولايات المتحدة وكذلك في العديد من الدول الأوروبية وبعض الدول الآسيوية.

يرتبط علم الطب بعلم الاجتماع بعلاقة وثيقة، باعتبارهما علمان يدرسان المشاكل التي تواجه الإنسان في المجتمع، حيث يسعى كل منهما إلى استخدام نظرياته ومناهجه وطرق بحثه وأدواته في جمع البيانات والمعلومات لدراسة وتحليل وتفسير الموضوعات التي يهتم بها. كما يسعى عالِم الطب والطبيب الممارس إلى دراسة علم الاجتماع، نظراً للضرورة الملحة التي يمكن من خلالها الاسترشاد بطرق البحث الاجتماعي وأساليب دراسته للظواهر الاجتماعية " بغية فهم ومعرفة العوامل الاجتماعية التي تؤثر على انتشار الأمراض والأوبئة والرعاية وفعالية الخدمات الصحية والطبية، فقد أصبح لزاماً البحث والتدقيق وإجراء الأبحاث والدراسات عن العلاقة الترابطية والوثيقة ما بين علم الاجتماع والطب وبالتالي تأثير كل منهما في الآخر "(2). هذا ما جعل معظم دول العالم منذ عقود طويلة إلى فرض تدريس علم الاجتماع في كلية الطب، وهذا ما طبق بالفعل في العديد من جامعات الدول العربية والدول النامية. وأصبح علم الاجتماع الطبي Medical sociology، من أهم فروع علم الاجتماع المتخصصة التي يلتقي من خلالها فكر وتصورات وآراء كل من علماء الاجتماع والطب في نفس الوقت (3).

كما أصبح هنا فروع أخرى متخصصة في علم الاجتماع الطبي والتي يطلق عليها سوسيولوجيا المستشفى Sociology of hospitals أحد المجالات الهامة التي تهتم بدراسة الأمراض المتوطنة وغير المتوطنة، ونظم إدارة المستشفيات، وأساليب رعاية المرضى، والطاقة الإنتاجية المثلى لكل من الفئات العاملة بالمستشفى مثل: الأطباء، وهيئة التمريض، والفئات المهنية المعاونة الأخرى.

ومن هنا يتحدد تعريفنا لعلم الاجتماع الطبي بأنه الدراسة السوسيولوجية لقضايا الصحة والمرض، وتناول المستشفى كنسق اجتماعي وثقافي، ودراسة علاقة المريض بالقوى العاملة الطبية وبالمؤسسات العلاجية، كما يحددها البناء الاجتماعي والوضع الطبقي. كما يُعرف علم الاجتماع الطبي بأنه مجموعة الجهود الرامية إلى تطوير الأفكار السوسيولوجية في داخل سياقات الأنساق الطبية، وإلى دراسة القضايا التطبيقية المهمة فيما يتصل بعمليات المرض ورعاية المريض(4).

يهتم علماء الطب والاجتماع عموماً بالاستفادة المتبادلة من خبرات تخصصاتهم المهنية والأكاديمية. فعالم الطب أو الطبيب العادي لا يمكن أن يشخص حالة مرضاه دون الرجوع إلى كثير من المتغيرات السوسيولوجية: مثل التاريخ المرضي للمريض وأسرته، وما يعرف بالحالة المرضية، والوضع الطبقي، والمهنية، والدخل، والأسرة، ومستوى التعليم والثقافة وغير ذلك من متغيرات ضرورية قبل أو خلال مراحل العلاج التي تقدم إلى المريض ذاته(5).

وعند دراسة الأمراض وتوطنها في المجتمعات وكيفية القضاء عليها أو التخفيف من حدتها يلجأ الأطباء إلى الاستعانة بخبرات علماء الاجتماع، وهذا ما أكده الكثير من المتخصصين في علم الاجتماع الطبي مثل فردسون Friedson وجلاسر Glasser وغيرهم، أو ما اهتم به دوركايم عند دراسته للانتحار وغيره من العلماء الذين أكدوا على ضرورة استخدام المداخل السوسيولوجية المختلفة عند تشخيص الأمراض سواء للمرضى أو بدراسة طبيعة الأمراض التي توجد في المجتمع، والأسباب التي تؤدي إلى تفاقمها أو الحد من سلبياتها. وهذا ما ظهر أخيراً عند دراسة الأمراض مثل: الإيدز، والسرطان، والكوليرا، والتيفوئيد، والسل، والبلهارسيا، الطاعون، شلل الأطفال، ... وغيرها. خاصة، وأن هناك أنواع معينة من الأمراض تكون متوطنة في مناطق معينة دون الأخرى مثل: أنيميا وأمراض البحر المتوسط، وفقر الدم... وغيرها. ومن ثم، فإن دراسة الأمراض من قبل علماء الطب أو الاجتماع تستلزم التعرف بوضوح على البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والشخصية للمرضى حتى يمكن تقديم سبل العلاج اللازمة. علاوة على ذلك، أن استجابات المرضى للعلاج أو التماثل للشفاء أو الاستعداد لإجراء العمليات الجراحية تلزم الأطباء، ضرورة التعرف على أساليب سوسيولوجية معينة للتعامل مع مرضاهم والتي يطلق عليها علماء الاجتماع الطبي علاقة الطيب بالمرضى Doctor – Patient relationship  والتي على ضوئها يتم معرفة آراء المرضى وتحليل استجاباتهم نحو معالجتهم من الأطباء أو هيئات الطب المختلفة، كما نجد كثيراً من الأفراد المرضى أو البسطاء يرفضون أخذ العلاج الذي حدده الطبيب لأن مدخل الطبيب أو أسلوبه أثناء العلاج، لم يكن أسلوباً اجتماعياً، وهذا ما يفسر مدى إقبال المرضى على طبيب معين دون الآخر، بالإضافة طبعاً إلى متغيرات الخبرة الطبية والتشخيص الجيد(6).

عموماً، بعد انتشار كليات الطب المختلفة والمنظمات العالمية مثل منظمة الصحة العالمية  World Health Organization وغيرها من المنظمات على المستويات الإقليمية والقومية، التي تؤكد دراساتها على ضرورة تبنى المداخل السوسيولوجية من قبل الأطباء عند معالجة مرضاهم، أو دراسة أسباب حدوث وانتشار الأمراض في مناطق معينة من العالم دون الأخرى وكيفية الحد من الآثار السلبية للأمراض الاجتماعية مثل الإيدز على سبيل المثال، والتي لا يمكن معرفة أسبابها دون الرجوع إلى العوامل الاجتماعية البيئية المحلية والعوامل الأخلاقية والدينية التي توجد في المجتمع، وهذا بالطبع يدخل في مجال اختصاصات عالم الاجتماع. وفيما يلي ندرج أهم خصائص علم الاجتماع الطبي الذي يعتبر تتويجاً للعلاقة الوثيقة ما بين علم الاجتماع والطب، وهي كالآتي(7):

التركيز على دراسة العلاقة بين الحالة الصحية والمرضية والواقع الاجتماعي بأبعاده وتأثيراته المتداخلة بين الميدانين الطبي والاجتماعي.

الاهتمام بالمفاهيم الاجتماعية للصحة والمرض من خلال تحليل العناصر الثقافية السائدة في مجتمع ما التي تكون على شكل عادات وتقاليد وأعراف وقيم وقوانين وفنون وأساليب المعيشة.

التأكيد على دراسة التأثير الاجتماعي الذي يمارسه الأفراد على بعضهم البعض، والربط بين المفاهيم الاجتماعية للأفراد وبين موافقهم ومعتقداتهم حول الصحة والمرض والوقاية والعلاج.

التأكيد على أهمية الوظيفة الاجتماعية للمؤسسات الطبية في توعية الأشخاص ومحاربة العادات والتقاليد السيئة التي تؤدي إلى انتشار المرض.

استخدام المناهج العلمية للبحوث الاجتماعية التي تمكن هذا العلم من الوصول إلى التفسير المنهجي العلمي للظواهر والموضوعات التي يتناولها، وكذلك استخدام المداخل المنهجية العلمية المستمدة من العلوم الطبية مثل مدخل الخبرة الطبية العلاجية، ومدخل دراسة معدلات المرض، ومدخل دراسة معدلات الوفيات.

بمعنى آخر، يتخصص علم الاجتماع الطبي في أربع مجالات رئيسة، وهي كالآتي:

علم الأوبئة الاجتماعية يرصد علم الأوبئة الاجتماعية انتشار الأمراض بين مختلف فئات المجتمع، وأثر هذه الأمراض على السكان، وتُدرس فيه مسببات المرض والوفيات، مثل: العوامل الاجتماعية، العوامل الاقتصادية، العوامل الديموغرافية، العوامل السلوكية.

دراسة التنمية والديناميات التنظيمية: تدرس فيه المهن الصحية والمستشفيات ومنظمات الصيانة الصحية والرعاية طويلة الأجل، بالإضافة لدراسة العلاقات بين المنظمات والسلوك بين الأشخاص، مثل: العلاقة بين الطبيب والمريض، وينظر في حاجة المنظمات الطبية للمساعدة من المؤسسات الاجتماعية من أجل رعاية المرضى(8). وتشمل الوحدة التنظيمية الطبية المختلفة مثل: المستشفيات والجمعيات الطبية وما إلى ذلك مركز الصحة العامة وإمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية الأولية في المناطق والأحياء السكنية(9).

دراسة ردود أفعال المجتمعات تجاه المرض: يهتم في دراسة المعاني الثقافية والتوقعات المعيارية، حيث يدرس ردود أفعال الأفراد في تفسير تجارب المرض والتفاوض بشأنها وإدارتها وتكوينها اجتماعياً، ويقيم ويصف الطريقة التي يتفاعل معها الأفراد مع الأمراض، لتوقع وجهة نظرهم ولتعريفهم بمجموعتهم الاجتماعية والثقافية داخل ذلك المجتمع.

دراسة السياسات الاجتماعية: يهتم في دراسة السياسات الاجتماعية والحركات الاجتماعية والظروف الاقتصادية التي تتشكل بسبب عوامل الصحة والمرض داخل البلدان الفردية، بالإضافة لدراستها ضمن سياق دولي مقارن مثال ذلك: دراسة أسباب انتشار جائحة كورونا (كوفيد 19) والآثار الكارثية المترتبة عليها على الصعيد العالمي(10).

نستنتج مما سبق أن أهمية علم الاجتماع الطبي تنبثق من أهمية ارتباطه بالطب ودراسته لقضايا الصحة والمرض والنتائج الإيجابية، التي لمسها الجميع من هذا الارتباط بين الاجتماع والطب، والفوائد الجمة التي فرضها علم الاجتماع على الطب نتيجة الدراسات والأبحاث، التي قام بها علم الاجتماع الطبي، وما تفرع علم الاجتماع الطبي إلى عدة فروع إلا دليل واضح وصريح على أهمية هذا العلم على المجتمعات البشرية. حيث إن لعلم الاجتماع الطبي دور أساسي ودراسات مستفيضة في قضية مهمة جداً تخص المجتمع والطب على حد سواء، وهي قضية المدمنين على المخدرات والكحول، لأن قضية الإدمان بالذات تعتبر قضية ومرض اجتماعي إلى جانب المرض الطبي والصحي، لأن التأثير السلبي للانحراف على المجتمع كبير جداً ويهدم بعض المجتمعات، لأنه إلى جانب التأثير الصحي هناك تأثير وسلبية اقتصادية وأخلاقية، مما يبث الخوف في نفوس المختصين في المجال الاجتماعي، وعند معالجة المدمنين يتلازم العلمين معاً الاجتماعي والطبي لمعالجة الإدمان، لأننا نريد أن نعالج السبب النفسي والفسيولوجي إلى جانب العلاج العضوي، مما يعطينا نتائج أفضل للبعد عن الإدمان، ونظراً إلى نظرة المجتمع للمدمن، فإن العلاج يتصف بالسرية أحياناً لجدوى العلاج(11). كما لعلم الاجتماع الطبي أهمية كبرى في دراسة وبحث القضايا الأسرية وخاصة الدراسات التي تتعلق وتتلاقى مع الطب مثل: زواج الأقارب والرضاعة وتباعد الأحمال، وعدد حالات الإنجاب وخدمات الأمومة والطفولة والثقافة الأسرية الصحية إلى جانب ثقافة الوالدين وتعلم الأبناء العادات الصحية والتثقيف الصحي، ولا ننسى دراسات علم الاجتماع الطبي في مجال تأخر الحمل أو العقم عند الرجال أو السيدات، مما يجعلنا لا ننكر أبداً دور علم الاجتماع بالتعاون مع الطب في معالجة هذه المشكلة التي تبدو أنها مشكلة اجتماعية طبية مشتركة.

وفيما يتعلق بنظرة المجتمع إلى ذوي الاحتياجات الخاصة نجد أنها اختلفت من حضارة إلى حضارة، فتارةً تقوم الحضارات بالتخلص من ذوي العاهات سواء العقلية أو الجسدية، وتارةً تحترم وتقوم بعض الحضارات بالاعتناء واحترام ذوي العاهات، وتساهم في انخراطهم في المجتمع عن طريق التأهيل، فهنا كما نرى أن قضية ذوي الاحتياجات  الخاصة والتأهيل هي قضية اجتماعية إلى جانب أنها صحية، فعملية التأهيل تكون بإتباع أساليب وطرق اجتماعية إلى جانب العلاج العضوي للمعاق، مما يجعل نتائج التأهيل أكثر إيجابية وجدوى عند تلازم وتعاون علمي الاجتماع والطب، ﻷن نظرة المجتمع للمعاق تحدد نفسية المعاق وتقبله للعلاج، وما القوانين العالمية في دور ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع، إلا دليل على اهتمام المجتمع والطب لهذه القضية.

كما أن أي ظاهرة صحية في المجتمع يجب ربطها مع الظواهر الاجتماعية، لأنهما متلازمتين أي قضيتي الاجتماع والطب، واعتبار أي دراسة اجتماعية أو طبية لأي مجتمع يجب أن ترتبط بالأخرى، فمثلاً دراسة صحة أو مرض قلة معينة من المجتمع، مثل أصحاب المهنة الواحدة (الأمراض المهنية) مرتبطة بواقع جغرافي وطبيعي، لأن الأمراض المهنية تصيب أشخاص يعيشون نفس البيئة الاجتماعية ويتأثرون بالعوامل الطبيعية المسببة للمرض، مثل تعرضهم للحرارة أو الرطوبة أو الأبخرة والإشعاعات، وبالتالي علم الاجتماع الطبي يقوم بدراسة المرض المهني من ناحيتين الاجتماعية والطبية معاً.

بالمقابل، نجد أن ثقافة المجتمع ما من عادات وتقاليد وقيم وأعراف، هي دراسة اجتماعية بحتة تلعب دور كبير في قضية نظرة المجتمع إلى قضايا الصحة والمرض، وبالتالي فإن ثقافة المجتمع الصحية من عادات وطرق سليمة من النظافة وعادات الأكل وتثقيف المجتمع صحياً يأتي عن طريق دراسة علم الاجتماع لهذه العادات، وبالتالي تكون النتائج الاجتماعية ذات الطابع الصحي، مما يساعد الطب على وضع البرامج الصحية وتنفيذها بالتعاون مع علم الاجتماع. فعلى سبيل المثال يعتبر الإيدز (نقص المناعة المكتسبة) مرض العصر الذي بدأ يهدد البشرية بأكملها، وبالرجوع إلى الأبحاث والدراسات التي أجريت على هذا المرض توضح لنا أن المرض أساسه اجتماعي أخلاقي سلوكي، وطريقة الإصابة به ناتجة عن خلل أخلاقي نظراً للعلاقات الجنسية الخاطئة والممارسات الجنسية الشاذة، وهذا سبب اجتماعي، وبالتالي بعد هذه العلاقة الخاطئة يصاب الإنسان بالإيدز وتظهر الأعراض المرضية العضوية، وهنا طريقة علاجه تأتي عن طريق الدور الكبير لعلم الاجتماع في التوعية والتثقيف الاجتماعي الأخلاقي، ويتعاون العلمين في الوقاية من المرض عن طريق النواحي الخلقية والنفسية إلى جانب توضيح الأخطار العضوية والمرضية على الشخص المصاب(12).

وفي النهاية، تنبع أهمية علم الاجتماع الطبي من خلال تأهيل وتثقيف العاملين في النسق الطبي اجتماعياً إلى جانب تأهيلهم طبياً، وما المساقات المقررة في الكليات والجامعات التي تدرس التمريض والمهن الطبية، إلا دليل واضح على أهمية وجدوى معرفة دراسة علم الاجتماع الطبي، الذي يلعب دوراً أساسياً وكبيراً في معرفة العاملين في النسق الطبي لثقافة المجتمع والأسباب الاجتماعية التي تكون سبباً مخيفاً للأمراض العضوية، وتأثير الأمراض العضوية على سلوك الأفراد والمجتمع، مما يسهل عملية العلاج الطبي عند معرفة الأسباب الاجتماعية للمرض وبالعكس.

*** 

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

...................

(1) عبد المجيد الشاعر وآخرون: علم الاجتماع الطبي، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان، 2000، ص(23).

(2) قدري الشيخ علي وآخرون: علم الاجتماع الطبي، مكتبة المجتمع العربي، عمان، ط1، 2008، ص (50).

(3) عبد الرحمن محمد عبد الرحمن: علم الاجتماع النشأة والتطور، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص (79).

(4) علي مكاوي: علم الاجتماع الطبي – مدخل نظري، جامعة القاهرة، القاهرة، 1989، ص (46-47).

(5) عبد الرحمن محمد عبد الرحمن: علم الاجتماع النشأة والتطور، مرجع سبق ذكره، ص (80).

(6) المرجع السابق نفسه، ص (81).

(7) نجلاء عاطف خليل: في علم الاجتماع الطبي (ثقافة الصحة والمرض)، مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة، 2006، ص(137).

(8) المرجع السابق نفسه، ص (81).

(9) Ramesh Sigdel: Role of Medical Sociology and Anthropology in Public Health and Health System Development, Health Prospect, vol.11, 2012, p.(28).

(10) For more reading and viewing see: Indranil Chakrabortya and Prasenjit Maity: COVID-19 outbreak: Migration, effects on society, global environment and prevention, Science of The Total Environment, Volume: 728, 1 August 2020. https://www.sciencedirect.com/journal/science-of-the-total-environment

(11) قدري الشيخ علي وآخرون: علم الاجتماع الطبي، مكتبة المجتمع العربي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2008، ص(58).

(12) المرجع السابق نفسه، ص(58-59-60).

يتحدث عدد كبير من السياسيين عن الشخصية، الفضيلة، الأخلاق، وإنجاز الأشياء الصحيحة. ولكن عندما ننظر الى ما يقومون به كأفعال وليس كأقوال، فان سلوكهم نراه بعيدا عن الفضيلة. هم يكذبون، يخادعون، واحيانا يكرسون سلطاتهم او يشنون الحروب المدمرة المسببة لتعاسة عدد لا يحصى من الناس. الحديث هنا ليس عن السياسة الحالية في امريكا او المملكة المتحدة او روسيا. بل يتعلق باوربا النهضة، في وقت كان البابوات يجسدون الدور الأعلى للمسيحية بعد يسوع، كانوا احيانا  يلبسون الدروع ويمتطون الخيول ليخوضوا المعارك.

أصل السياسة الواقعية Realpolitik

يمكن القول ان الفجوة بين الكلمات والأفعال لم تختف في القرون الخمسة الأخيرة. لكن هذا التناقض الصارخ في السياسة بين النظرية والتطبيق أثار انتباه الدبلوماسي الشهير نيكولاي ميكافيلي (1469-1527) لدرجة انه كتب كتاب (الامير) الذي أعطى فيه نصائح لرجال الدولة بناءً على تقييم صريح للواقع السياسي وليس بناءً على نوايا الخير الطوباوية.

كانت لدى ميكافيلي عدة تجارب شحذت رؤاه السياسية. احدى هذه التجارب تتمثل بلقائه رجل الدولة الايطالي سيزاري بورجيا Cesare Borgia، في وقت اعتبره ميكافيلي أمل ايطاليا في الوحدة ضد الغزاة الأسبان والفرنسيين (وهو ما لم يحدث). في عام 1503م، التقى ميكافيلي بـ بورجيا للمرة الثانية في سياق مهمة دبلوماسية. خلال اللقاء تعلّم شيئا او اثنين حول طريقة عمل بورجيا. في فترة ما، واجهت بورجيا مشاكل عميقة مع النبلاء في المدينة المجاورة التي كانت يديرها اورسيني (ايطالي ارستقراطي)،حيث وُجّهت لهم الدعوة من قبل بورجيا للحضور في مدينة سينغاليا بهدف إجراء محادثات سلام والوصول الى اتفاقية سلام متبادل. حالما وصلوا اُلقي القبض عليهم واُعدموا جميعا.(الاسلوب الايطالي الدبلوماسي،سيركا،1500 م.)

وهناك واقعة اخرى حدثت في مدينة سيزينا المحتلة من جانب بورجيا، وهي المنطقة التي كانت بحاجة الى تهدئة. يذكر ميكافيلي: "عيّن بورجا ريميردو ،الرجل القاسي وأعطاه سيطرة كاملة. في مدة قصيرة تمكن ريميردو من إشاعة السلام وتوحيد المنطقة .. ولكن حالما وجد بورجا ذريعة، قام بقطع رأس ريميردو ووضع جثته في الصباح أمام العامة في صندوق خشبي الى جانب سكين ملطخة بالدماء. وحشية المشهد تركت الناس بين صدمة وإعجاب" (الامير). ترك بورجا أحد أتباعه يقوم بالمهمة البشعة، متيقنا ان هذا سيُغضب الناس ولكن طالما يحتاج الامير الى الدعم الشعبي، فهو وجد عذرا لقتل الحليف له، وهكذا أعطى للناس ما يريدون وخفف من غضبهم.

لا غرابة لو سمى برتراند رسل كتاب الأمير بـ "مرشد العصابات". وكما أوضح تم بارك Tim Parks في مقدمته لترجمة داربنجوين "كتاب ميكافيلي الصغير كان تهديدا مستمرا. انه يذكّر الناس ان السلطة دائما ما تكون مغرية، هناك دائما سؤال حول ما يمكن أخذه بالقوة او بالخيانة، ودائما رغم كل الاحتجاجات، تبقى السلطة هي الاهتمام الرئيسي لأي حاكم".

كان ميكافيلي اول كاتب حديث فكر منهجيا في ما يسمى السياسة الواقعية. منذ ذلك الحين، شهدت الواقعية السياسية عددا من التطورات ونالت عدد كبير من المؤيدين. يمكن القول ان أشهر الفلاسفة المبكرين في هذا السياق هو توماس هوبز الذي اوضح في كتابه اللفياثان (1651) الحاجة الى حاكم قوي لكي يجنب الناس "دولة الطبيعة "العنيفة،التي من دون ذلك ستكون العودة اليها حتمية. هذه الدولة وصفها بـ "حرب الجميع ضد الجميع":

"في مثل هذه الظروف لا مكان هناك للصناعة،لأن الثمار منها غير مؤكدة، وبالنتيجة لا ثقافة على الارض، لا بناء مادي، لا معرفة، لا حساب للزمن، لا فنون، لا رسائل، لا مجتمع، وما هو أسوأ ، هناك خوف مستمر وخطر الموت العنيف،وحياة الانسان منعزلة، فقيرة، مقرفة، وحشية، وقصيرة".

أليس من المنطقي التخلّي عن بعض الحريات لكي يمكن تجنّب كل تلك الأخطار؟ بين الممارسين للميكافيلية، كما يسميها البعض هم رجال الدولة الحديثين المبكرين والمعاصرين، من الكاردينال الفرنسي ريشيليو، الى الملك البروسي فردريك الاكبر، من كافور الايطالي الى بسمارك وصولا الى ماو وشارل ديغول وهنري كيسنجر.

الطريقة السقراطية

غير ان هناك طريقة اخرى للنظر الى العلاقة بين الأخلاق والسياسة بدون الحاجة للاستسلام لنفاق بابوات النهضة والسياسيين الحديثين. انها طريقة وضعها سقراط في القرن الخامس قبل الميلاد وتعتمد كليا على شخصية رجل الدولة الطموح. عُرف سقراط في اثينا القديمة بـ (ذبابة الحصان) المزعجة، دائما يسعى ليبيّن للناس انهم حقا لا يعرفون عن ماذا يتحدثون عند التطرق الى مبادئ حاسمة مثل العدالة (كما أوضحها افلاطون في الجمهورية او التقوى (كما في يوثيفرو). ولكن مظهرا اخرا كبيرا لنشاطات سقراط يبرز من مصدر ثانوي. فمثلا، مذكرات زينوفون (370ق.م) تعرض حدثين فيهما ينصح سقراط حول تفضيل او معارضة العمل السياسي، اعتمادا على الشخص الذي يتحدث اليه. في احدى المناسبات، يلتقي سقراط مع الشاب جلوكون Glaucon الاخ الاكبر لافلاطون . جلوكون مصمم على العمل السياسي، وهو يعتقد انه يعرف ماذا يعني ذلك. سقراط يبدو معجبا على نحو ما ولكن كالمعتاد هو يبدأ باستجواب محاوره: "حسنا،يا جلوكون، بما انك تريد ان تنال الشرف،أليس من الواضح انك يجب ان تنفع مدينتك؟

"بالتأكيد".

"لاتصمت،أخبرنا كيف تقترح ان تبدأ خدمتك للمدينة".

جلاكون بقي صامتا، يبدو كأنه يفكر في كيفية البدء " (المذكرات، 3.6.3-4).

في نقطة ما جلوكون يخبر سقراط ان اثينا ستكون قادرة على زيادة احتياطاتها من خلال الحرب. سقراط يرد على هذا:

"لكي تنصح بالقتال، من الضروري معرفة قوة المدينة (اثينا) وقوة العدو، لأنه اذا كانت المدينة هي الأقوى، ربما احد ينصحها بالذهاب للحرب، ولكن اذا كانت أضعف من العدو،لابد ان تقنعها بأخذ الحذر".

"أنت على صواب".

"اولاً، أخبرنا عن القوة العسكرية والبحرية لمدينتنا ومن ثم عن قوة العدو".

"كلا،بالطبع انا لا استطيع اطلاعك بشيء سخيف وخطير" (3.6.8)

بعد ذلك يسأل سقراط ما اذا كان جلوكون لديه تقدير جيد للفترة التي يستمر بها مخزون الحبوب، لأن تلك المسألة حاسمة لتغذية المدينة. يجيب جلوكون بان تلك المهمة مرهقة للغاية وانه لا يحب تنفيذها. هنا سقراط يوبخ جلوكون مذكّرا اياه انه اذا رغب المرء بتحمّل مسؤولية المنزل، فيجب ان يهتم بالضبط بالتفاصيل التي لحد الان يتجاهلها جلوكون عندما يأتي لشؤون الدولة. جلوكون يجيب:

"حسنا، انا استطيع عمل شيء لبيت عمي اذا كان يستمع لي". ماذا؟ انت لا تستطيع اقناع عمك وايضا انت تفترض انك قادر على اقناع كل الاثنيين بما فيهم عمك، للاستماع لك؟ انتبه يا جلوكون ان طموحك لا يقود للسقوط، الا ترى خطورة قول او فعل ما لا تفهمه؟"(3.6.15-16).

ذلك يبدو حقق الهدف المطلوب، جلوكون أجّل حلمه في ان يصبح رجل دولة. في الحقيقة، هو لن يصبح كذلك ابدا. بدلا من ذلك، هو قاتل ببسالة في معركة ميغارا في ذروة حرب البيلوبونيز ضد سبارطة عام 424 قبل الميلاد. هو لاحقا اصبح موسيقي بارز كما أكّد سقراط ذلك في الجمهورية.

مقارنة هذا الحدث مع ذلك الذي حدث بعد سنة يستلزم إشراك خارميدس: "ترى ذلك يا جلوكون .. كان رجلا محترما واكثر قدرة من السياسيين هذه الايام، الذين مع ذلك خففوا من التحدث في الجمعية العامة والمشاركة في السياسة، قال سقراط: "اخبرني يا خارميدس ماذا تعتقد في الرجل الذي كان قادرا على الحصول على النصر في الالعاب الكبرى وبالنتيجة الفوز في الشرف لنفسه وتحقيق السمعة لبلده في العالم اليوناني، ومع ذلك رفض المنازلة؟". "انا يجب ان اعتقد انه جبان بالطبع" (3.7.1).

خارميدس أدرك حالا ان سقراط يتحدث عنه حول العلاقة مع السياسة، وهو ينصب له الفخ السقراطي المألوف: "لا ترفض مواجهة هذا الواجب: كافح بجدّية اكبر لتنتبه لنفسك، ولا تهمل الشؤون العامة، اذا كانت لديك السلطة لتحسينها " (3.7. 9). في هذه الحالة الخاصة،لم تمض الاشياء على ما يرام. خارميدس دخل فعلا في السياسة، لكنه كان سيء الحظ في خدمة اثينا في ظل حكم الثلاثين طاغية الذين عينتهم سبارطة  بعد الهزيمة الاسبارطية لأثينا في الحرب.

توفي خارميدس في معركة ميونخ عام 403 قبل الميلاد. هذا يؤكد مسألة نالت اعجاب ميكافيلي بعد عدة قرون: رجل الدولة يحتاج المهارة وكذلك الحظ. كان بورجان ماهرا جدا على الأقل وفق المعايير الميكافيلينية، ولكن في النهاية هو فقد الحظ. أقوى مساعديه، ابوه، البابا الاسكندر السادس ماتوا قبل ان يتمكنوا من تحقيق تقدم كافي في مواصلة خططهم.

أصر سقراط على العنصر الثالث الى جانب المهارة والحظ وهو الفضيلة. هذا الإصرار اصبح واضحا جدا في سياق حوار السيباديس الاول First Alcibiades(الذي نُسب عموما لافلاطون رغم ان البعض يشك في  تأليفه له). السيباديس كان صديقا وتلميذا لسقراط، وكان مرغوبا جدا. في وقت الحوار،  كان عمره عشرين سنة ، وسيما، غنيا،كاريزميا،وواثقا بنفسه. اراد السيباديس ان يحدث فرقا في العالم، لذا هو ذهب الى سقراط للنصيحة حول ما هي احسن طريقة لمتابعة مسار الفضيلة. ولكن في سياق المحادثة اتضح ان السيباديس كان مهتما كثيرا بالمجد وتضخيم الذات. في لحظة ما سقراط يشخص مشكلته بعبارات صريحة: "وا أسفي، يا السيباديس، أي ظروف انت تعاني منها، انا اتردد بتسميتها لكن طالما نحن الاثنين وحيدين هنا، فلابد ان تُقال . انت تعاني من الحماقة، وهذا يفسر لماذا انت تقفز الى شؤون المدينة قبل ان تتعلم". (السيباديس 1.26). بالطبع السيباديس لم يصغ الى مرشده واتّبع بدلا من ذلك غرائزه. هذا ادى الى سلسلة مذهلة من الكوارث السياسية في كل العصور القديمة بما في ذلك الدور الرئيسي في هزيمة اثينا في حرب البيلوبونيز ومن ثم موت السيباديس بأيدي الفرس الذين كانوا يعملون لمصلحة سبارطة.

شيشرون والطريق الثالث

اذا كان ميكافيلي يجادل بان المهارة والحظ وليس الفضيلة هما اللذان يخلقان القائد الجيد، سقراط رهن كل شيء بالفضيلة. الفيلسوف الروماني شيشرون يقول انهما كلاهما يشكلان فقط جزءاً من الصورة: القائد الجيد لايحتاج فقط الشخصية الجيدة وانما ايضا يحتاج ليكون قادرا على ان ينجح برجماتيا في المواقف المعقدة من خلال المقايضة والتسويات. هذا يفسر لماذا كان شيشرون حادا مع صديقه الشاب كاتو، الرواقي الصارم الذي تسبب بالنهاية بالمزيد من الضرر للجمهورية الرومانية بدلا من الخير: " .. صديقنا كاتو يتحدث ويصوّت كما لو كان في جمهورية افلاطون وليس في حثالة رومولوس"(رسائل اتيكوس، 2.1.8). في الحقيقة اننا دائما نعيش في "حثالة رومولوس"(رومولوس كان مؤسس روما الاسطوري).القادة الجيدون يدركون ان أتباعهم معيبون،ويتصرفون طبقا لذلك بدون الذهاب الى الحدود القصوى لـ بورجيا.

شيشرون عرف عن ماذا كان يتحدث طالما هو كافح طوال حياته لحفظ الجمهورية الرومانية. هو حوّل ولائاته السياسية وأهدافه القصيرة الأجل لكي يُبقي عينيه دائما مفتوحة على الجائزة النهائية. وهو قام بهذا مع محاولة الحفاظ على سمعته والتزاماته الفلسفية. في النهاية هو فشل في حماية الجمهورية ربما بسبب ان الجمهورية لم تعد نموذجا يمكن ادامته ولابد من افساح الطريق للامبراطورية كضرورة تاريخية، او ربما بسبب ان العديد من الآخرين الذين حوله تصرفوا بالطراز الميكافيلي، واضعين توقهم للسلطة والمجد قبل الخير العام. كان بامكانهم ممارسة هذا السلوك لأن الشعب الروماني تخلى عن مطالبة قادته التصرف بفضيلة كما تحدثوا. يجب عدم تكرار نفس الأخطاء.

***

حاتم حميد محسن

إن الميزة الثانية للمعتقدات الأساسية السياقية (بعد أن تناولنا الأولى في البحث السابق في هذه السلسلة) التي يجب أخذها في الاعتبار هنا هي فكرة أن  تكون اساس أوقاعدة حساسة  للسياق، وبالتالي فإن ما هو أساس في سياق ما قد لا يكون أساسيًا في سياق آخر. دعونا نبدأ بالنظر في السياقات الاجتماعية المختلفة التي تنطوي على مجتمعات مختلفة لديها وجهات نظر أخلاقية مختلفة. فقد تكون هناك بعض الاختلافات في الافتراضات الأخلاقية التي تعتبرها هذه المجتمعات بشكل عام أمرً مسلم به، بالإضافة الى الوزن الأخلاقي المرتبط بالعديد من الاعتبارات الأخلاقية التي تلخصها القواعد على الرغم من أن المرء يتوقع أن تشترك أيً نظرتين أخلاقيتين في العديد من الافتراضات الأخلاقية الأساسية نفسها (على سبيل المثال، الافتراضات ضد قتل البشر والسرقة وما إلى ذلك).[1] وإذا كان الأمر كذلك، فإن إحدى الطرق التي يكون فيها الأساس حساس للسياق هي قد تأخذ المجتمعات المختلفة معتقدات أخلاقية مختلفة كأمر مسلم به.[2]

هناك احتمال مثير للأهتمام لأستكشافه هو المدى الذي قد تكون فيه تقييماتنا المعرفية حساسة للسياق بطريقة من شأنها أن توحي بأن قد يكون المرء  مسؤولاً معرفيًا عن الألتزام ببعض المعتقدات الأخلاقية دون تبرير في سياق، وغير مسؤول للألتزام بها في سياق آخر؛ حيث تشمل الاختلافات في السياق هنا مجتمعات مختلفة. فقد يكون للفرد نظرة أخلاقية تختلف افتراضاتها الأخلاقية الأساسية عن افتراضات نظرته الأخلاقية السابقة بمرور الوقت.[3] يشبه هذا النوع من الحالات، في بعض النواحي، الحالة الموضحة في الفقرة السابقة: هناك وجهتان أخلاقيتان متميزتان تخلقان سياقين مختلفين. ولكن حتى بالنسبة للمرء الذي تظل نظرته الأخلاقية ثابتة نسبيًا على مدى فترة من الزمن، والتي تعتبر معتقدات أخلاقية معينة أساسية في السياقات العادية والمشتركة للفكر والتداول الأخلاقي، فقد تكون هناك سياقات اخرى لا تكون فيها تلك المعتقدات الأخلاقية أساسية.  هناك نوع واحد من الحالات الملائمة لهذا الوصف هو السياق الذي يواجه فيه المرء تحديات متشككة في النظرة الأخلاقية للفرد، التحديات التي تستهدف تلك المعتقدات الأخلاقية، والتي تكون أساسية في سياقات المشاركة. سأوضح نوع الحالة التي أفكر فيها بمزيد من التفصيل.

دعونا نفرق بين السياق المشترك للفكر الأخلاقي والسياق المنفصل الذي لا يفكر فيه المرء ويتداول بالكامل من داخل نظرته الأخلاقية، ولكنه ينظر إليه من الخارج. والآن، حيث لا يتم التركيز على التحديات المتشككة في تلك النظرة في سياق ملتزم بالتفكير الأخلاقي، يكون المرء مسؤولًا معرفيًا في جعل  تلك المعتقدات والافتراضات الأخلاقية الأساسية (بدون تبرير) أكثر أو اقل اساسية بالنسبة إلى النظرة الأخلاقية. ومع ذلك، بمجرد أخذ التحديات المتشككة على محمل الجد، يتم تغيير السياق (بمعنى أن المجتمع الأساسي للتقييم المعرفي هو مجموعة المشككين). لم تعد تلك المعتقدات الأخلاقية الأساسية عادةً أساسية في هذا السياق المنفصل نسبيًا الذي يتم  فيه تحدي الافتراضات الأخلاقية الأساسية للنظرة الأخلاقية للفرد. لنفترض، على سبيل المثال  أننا نفكر في التحديات المتشككة في أعمق جوانب النظرة الأخلاقية للمرء، وتخيل أن هذا المرء يواجه مجموعة من النيتشويين الذين يجادلون، بأن المجتمعات الديمقراطية تنتج ضميرًا أخلاقيًا زائفًا، وبالتالي فإن الكثير من المعتقدات الأخلاقية التي يتم اعتبارها كأمر مسلم به في مثل هذه المجتمعات خاطئة أو مشكوك فيها على الأقل.  يبدو أن ما يحدث غالبًا في مثل هذه السياقات المنفصلة هو أن القواعد المعرفية السارية فيها تختلف عن تلك المعمول بها في السياقات المتفاعلة أو المنخرطة في سياقات من النوع  الأول،  حيث لا يجوز للمرء أن يأخذ المعتقدات الأخلاقية التي قد يعتبرها المرء كأمر مسلم به في سياقات من النوع الأخير كأمر مسلم به (كما ناقشناه سابقا). إن سبب الاختلاف في المعايير المعرفية التي تحكم هذه السياقات واضح إلى حد ما. لا يُطلب من المرء أن يكون لدي أسباب لبعض المعتقدات الأخلاقية التي تعتبر أساسية للنظرة الأخلاقية في السياقات المنخرطة المتفاعلة، حيث يكون الهدف والغرض من السياق هو التفاوض حول طريقته في عالم اجتماعي. لا يُسمح للمرء بأخذ المعتقدات والافتراضات الأخلاقية الأساسية للفرد على أنها أساسية في السياقات المنفصلة، حيث يكون الهدف والغرض من السياق هو فحص النظرة الأخلاقية للفرد في محاولة لاكتشاف وتصحيح أي تحيزات ثقافية أو شخصية.

تثير الحالات التي تتلاءم مع هذا الوصف العام والتي يدخل فيها المرء سياقًا منفصلاً أسئلة مهمة حول الظروف التي يصبح من المناسب في ظلها أو ربما يكون مطلوبًا الدخول في مثل هذا السياق بالإضافة إلى أسئلة حول أنواع المعايير المعرفية السارية في مثل هذه السياقات.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

....................

[1] Francis Snare, "The Diversity of Morals," Mind 89 (1980), 353-69

[2] أنظر:

Donald G. Kraybill, The Riddle of Amish Culture (Baltimore and London: The Johns Hopkins University Press, 1989.

[3] للحصول على وصف لمثل هذه التحويلات الأخلاقية الراديكالية التي تنتج عن تحول "متقطع" في النظرة الأخلاقية للفرد.ن أنظر:

DePaul, Balance and Refinement, Routledge, 2013, 39-48.

 

كما اشرت في البحث السابق  الى أن الادعاء 2 هو ما يميز السياقية حول البنية عن الأسسية. وكما رأينا، يحافظ السياقي على الادعاءين التاليين1.

(1) لا تحتاج المعتقدات الأساسية المعرفية إلى التبرير في السياقات العادية للتبرير العقائدي.

(2) قد تتطلب المعتقدات الأساسية في سياق معين تبريرًا في سياق مختلف.

ساقوم في ما يلي بتفصيل هذين الادعاءين. أبتداءً لابد أن نوضح مفهوم السياق عند تناول الادعاء الأول (كما أستخدمه هنا). وتوضيح دور المعتقدات الأساسية للسياق في السياقات العادية للفكر والمناقشة الأخلاقيين.

سأبدأ بالتركيز على السياقات العادية والمشتركة للتفكير الأخلاقي - السياقات التي  لها تأثيرًا على بعض  المسائل الأسئلة الأخلاقية- وسأتناول بعض التفاصيل المهمة من الناحية المعرفية لهذا السياق. إذن، فيما يخص الأعتقاد الأخلاقي، فإن جزءًا مهمًا من السياق عندما يتعلق الأمر بالأسئلة حول التبرير في التمسك بمعتقدات أخلاقية مختلفة ينطوي على دور النظرة الأخلاقية للفرد. فما هي النظرة الأخلاقية؟

تمثل النظرة الأخلاقية طريقة لعرض بيئة المرء والاستجابة لها من وجهة نظر أخلاقية؛ إنه منظور يتخذ من خلاله المرء موقفاً أخلاقياً. تأتي النظرة الأخلاقية للمرء من خلال التربية الأخلاقية التي تتضمن سمات اساسية وهي:

(1) تطوير حساسية تجاه السمات المختلفة لبيئة الفرد الأخلاقية وبالتالي تكون أساس التقييم الأخلاقي وفقًا لوجهة النظر الخاصة التي يتم تعليمها أو التربية عليها.

(2) تَعلم ربط الاستجابات العاطفية المختلفة بالتقييم الأخلاقي (على سبيل المثال، تعلم الشعور بالذنب والاستياء تجاه بعض أفعال الفرد وأفعال الآخرين).

(3) التعرف على بعض الأمثلة، أي الحالات النموذجية للأفعال الأخلاقية أو اللا أخلاقية والأشخاص والمؤسسات وما إلى ذلك2.

(4) تَعلم التعميمات الأخلاقية التي تلخص أهم السمات الأخلاقية التي يطور المرء من خلال التدريب عليها حساسيته الأخلاقية.

(5) تعلم الأنماط الأساسية للتفكير الأخلاقي (على سبيل المثال، القاعدة الذهبية / التفكير الانعكاسي وكذلك تعلم التفكير في الأنتقال من التعميمات الأخلاقية إلى حالات معينة). يكتسب المرء نتيجة لأنشطة التعلم هذه مجموعة من المهارات المترابطة والمعتقدات والاستجابات العاطفية وما إلى ذلك والتي تشكل النظرة الأخلاقية للفرد.

يوفر وجود وجهة نظر أخلاقية معينة جزءًا من "السياق" الذي يكون لدى المرء فيه معتقدات أخلاقية مبررة عادةً. لكن يكون سياق اجتماعي غني في الحالات العادية عندما يحدث التعليم الأخلاقي في بيئة اجتماعية معينة يتشارك أعضاؤها بشكل أو بآخر بعض القيم والمعتقدات الأخلاقية. حيث يجلب المرء في السياقات الأخلاقية المتفاعلة النظرة الأخلاقية للتأثير على حالة تتطلب استجابة أخلاقية، وغالبًا ما تلعب بعض المعتقدات الأخلاقية- ما أطلقنا عليه سابقا التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط - دورًا تبريرًا خاصًا، وكذلك يمكننا من خلال رؤية كيفية عمل هذه المعتقدات الأخلاقية في النظرة الأخلاقية للفرد  أن نفهم بشكل أوضح الحالة المعرفية لتلك المعتقدات. دعونا إذن ننظر في دور المعتقدات الأخلاقية العامة ذات المستوى المتوسط في النظرة الأخلاقية.

تمثل السمات الخمس للنظرة الأخلاقية،على الأقل جزءًا من، ما يمكن أن نسميه السمات "الشكلية" للنظرة الأخلاقية؛ السمات التي تميز أينظرة أخلاقية أو معظمها. قد تختلف وجهات النظر الأخلاقية في المحتوى، لكن إحدى الطرق المفيدة لوصف وجهة نظر أخلاقية معينة، وتمييزها عن وجهات النظر الأخلاقية الأخرى، هي من حيث السمات الأخلاقية المذكورة في (1) و(4). دعنا نقول، إذن، أن تلك السمات من الناحية الأخلاقية للأفعال والأشخاص والمؤسسات وما إلى ذلك والتي تمثل (وفقًا لوجهة النظر) أهم السمات الأخلاقية الأساسية للأشياء التي تشكل أساس التقييم الأخلاقي، هي سمات مميزة لتلك النظرة الأخلاقية المعينة. إن التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط، كما أفهمها، تربط تلك السمات الأخلاقية بالأشياء من خلال مصطلحات التقييم الأخلاقي. ومن ثم، يمكننا القول أن مجموعة من هذه التعميمات ذات المستوى المتوسط تشكل وجهة نظر أخلاقية معينة. وهكذا، تساعد هذه المعتقدات الأخلاقية العامة في بناء وتنظيم فكرنا وتجربتنا الأخلاقية، في العديد من سياقات التفكير الأخلاقي العادية والمشتركة حول مسائل وقضايا أخلاقية محددة. عندما ينصب تركيزنا على قضايا محددة، فهي تكون جزء من مجموعة كبيرة من الافتراضات التي نستخدمها في تفكيرنا. علاوة على ذلك، تعتبر مثل هذه المعتقدات الأخلاقية في مثل هذه السياقات أمرًا مفروغًا منه: فلا توجد شكوك أو تحديات جادة يتم أخذها في الاعتبار أو على محمل الجد من قبل المجتمع المعني. نظرًا لأن جزءًا كبيرًا من المسؤولية المعرفية يتعلق بالقدرة على اكتشاف التحديات والتعامل معها، وإن التحديات التي تواجه التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط ليست ذات صلة بها وفي السياق العادي للتبرير الأخلاقي، إن اعتناق المرء لمثل هذه المعتقدات وإسناد معتقدات أخرى غير أساسية عليها لا يخضع للنقد المعرفي، وبالتالي يكون المرء مسؤولًا معرفيًا في حملها دون أن يكون لديه أسباب مبررة.

لذا، إذا كنت على حق، لا تتطلب معاييرنا وممارساتنا المعرفية الفعلية أن يكون لدى الأفراد أسباب مبررة لبعض معتقداتهم الأخلاقية التي غالبًا ما تلعب دورًا معرفيًا حاسمًا عندما يتعلق الأمر تبريرها استنتاجيًا في تبني  معتقدات أخلاقية محددة.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.......................

1- مهتم هنا فقط بما أشرنا اليه سابقا  بأطروحة المحافظة المعرفية وأطروحة حساسية السياق الاجتماعي.

2- Thomas Kuhn, "Second Thoughts on Paradigms," in The Essential Tension, ed. Kuhn (Chicago: University of Chicago Press, 1977), p. 298.

أرغب في التعبير عن السياقية وبنية المعتقد الأخلاقي.[1] وساقدم في هذه الحالة بُعدًا وصفيًا ومعياريًا. أولاً، أنا مهتم بتوصيف ممارساتنا الفعلية عندما يتعلق الأمر بالأعتقاد الأخلاقي، وتلك الممارسات المعرفية التي تؤثر على التحرر من اللوم المعرفي أو استحقاقه على وجه الخصوص. فرضيتي الوصفية هيِ أن معاييرنا المعرفية، كما تنطبق على المعتقد الأخلاقي، لا تتطلب أن يكون لدى الفاعلين المسؤولين معرفيًا أسبابًا تبرر تحمل مسؤولية جميع معتقداتهمالأخلاقية عادةً. تعمل بعض المعتقدات الأخلاقية، لاسيما تلك التي تشكل جزئيًا وجهة نظر المرء الأخلاقية، كمجموعة من الافتراضات الأخلاقية الأساسية التي لا تحتاج إلى تبريرفي السياقات العادية للفكر والمناقشة الأخلاقيين. إذا كانت هذه الأطروحة الوصفية صحيحة، فمن الصحيح ، أيضًا، وصف بنية التبرير الأخلاقي التي تنطوي عليها معاييرنا المعرفية على أنها سياقية. وأطروحتي المعيارية هي أن هناك سببًا وجيهًا لتأييد مثل هذه المعايير بشكل انعكاسي.

إن خطتي من أجل تقديم حجة لادعائي الوصفي، هي تقديم صورة مقبولة حول ممارساتنا في تبرير المعتقدات الأخلاقية. إن الصورة التي في ذهني موجودة في كتابات السيردبليو دي روس. أريد أن أشير بإيجاز إلى بعض الأسباب التي تجعلنا نقوم بالتفكير في الأمور الأخلاقية كما تقترح الصورة التي يرسمها روس، وبعد ذلك سأقوم بتوضيح بعض الميزات المعرفية االذي يمثله "السياق العادي للفكر والمناقشة الأخلاقيين." إن ما ينبثق من الصورة هو وصف سياقي لبنية التبرير.

روس والتبرير في الأخلاق

أميل إلى الاعتقاد بأن بعض آراء روس حول طبيعة التبرير في الأخلاق صحيحة، فأستخدمها لرسم صورة سياقية للتبرير في الأخلاق. تقدم الصورة التي في ذهني القواعد الأخلاقية باعتبارها توفر أساسًا لتبرير معتقدات أخلاقية معينة. وعلى الرغم من أنني أعتقد أن القواعد لها دور تلعبه في تبرير الاعتقاد الأخلاقي، فإن وجهة نظري للسياقية ليست ملتزمة بالادعاء بأن تكون القواعد الأخلاقية في تفسير المعتقد الأخلاقي للفرد مبررة ضرورة في جميع السياقات.[2] وبالتالي، تهدف الصورة إلى توضيح الصيغة التي اقدمها من السياقية الأخلاقية فقط.

كان روس بالطبع اسسيا أخلاقيًا دعا إلى صيغة من التعددية الأخلاقية. تضمنت صيغته من الأسسية الأخلاقية الادعاءين التاليين: (1)هناك في الأخلاق، كما هو الحال في الرياضيات، توجد بعض "الأفتراضات أو القضايا" التي لا يمكن إثباتها، وهي لا تحتاج إلى إثبات،[3] و(2) مثل هذه الافتراضات هي حقائق ضرورية بديهية تصف الحقائق والخصائص الأخلاقية غير الطبيعية التي يمكن معرفتها بطريقة قبلية أو بشكل مسبق. وتضمنت التعددية الأخلاقية ادعاءين رئيسيين أيضًا: (3) هناك مجموعة من التعميمات ذات المستوى المتوسط غير القابلة للاختزال وتعبر عن التزامات أخلاقية للوهلة الأولى. (لا تحتاج هذه الافتراضات إلى دليل). (4) قد تتعارض هذه الالتزامات الأخلاقية البديهية الواضحة في حالات محددة للوهلة الأولى، وعندما يحدث هذا، لا يوجد إجراء أو قاعدة أو خوارزمية يمكن للمرء الفصل في هذه النزاعات من خلالها.

أقبل، مبدئيًا مع بعض التعديلات، ادعاءات روس (1) و(3) و(4)؛ لكن ما لا أقبله هو الأسسية الإبستيمولوجية ( نظرية المعرفة ) وما يرتبط بها من ميتافيزيقيا (2). فكرتي هي: يمكننا إعادة صياغة بعض آراء روس من خلال تجريدها من نظرية المعرفة الأسسية والميتافيزيقية غير الطبيعية، وإعادة تفسير الادعاءات الأخرى في ضوء الإبستيمولوجيا السياقية. تمثل الادعاءات (1) و(3) و(4) ما أعتبره صورة لجزء مهم من بنية الأعتقاد الأخلاقي المبرر. فيتضمن المنظور البنيوي في نظرية المعرفة الأخلاقية السياقية، الادعاءات المركزية الأربعة التالية:

1. هناك عدد من التعميمات الأخلاقية غير القابلة للاختزال التي نكتسبها نتيجة للتربية الأخلاقية. وغالبًا ما تكون هذه قاعدة معرفيًة أساسية في السياق العادي للتبرير في الأخلاق.

2. ومع ذلك، فهي قاعدة أساسية من حيث السياق: انها لا تمثل حقائق أخلاقية واضحة بذاتها أويمكن معرفتها بشكل قبلي ولا تنتج عن تحرر ملكة الحدس الأخلاقي. وإن وضعها كقاعدة أساسية مرتبط بالسياق بطريقة سأفصلها أدناه.

3. توفر المعتقدات الأساسية للسياق (جنبًا إلى جنب مع المعتقدات الواقعية غير الأخلاقية التي تتصل بالسياق) الأساس التبريري للاعتقاد المبرر في افتراضات أخلاقية أخرى غير أساسية. وهكذا، (مع ثبات العوامل الأخرى) يمكن تبرير المعتقدات الأخلاقية الأخرى غير الأساسية إذا كانت تستند إلى بعض المبادئ الأساسية للسياق.

4. ومع ذلك، فإن الانتقال من المعتقدات الأخلاقية الأساسية- التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط- إلى معتقدات أخلاقية أكثر تحديدًا حول حالات معينة ليس دائمًا مجرد مسألة أخذ التعميم الأخلاقي جنبًا إلى جنب مع المعلومات التجريبية التي لها صلة بها والوصول الى نتيجة أخلاقية. ففي كثير من الحالات، سيكون هناك اعتباران أو أكثر من الاعتبارات الأخلاقية التي تعبر عنها التعميمات الأخلاقية الأساسية في حالة واحدة، وفي هذه الحالات لا نحتاج إلى خوارزمية أو نظام ترتيب يمكننا اللجوء إليه للفصل في النزاع. يستحوذ الحكم الأخلاقي في هذه الحالات على شيء يمكن للمرء أن يفعله بشكل أفضل أو أسوأ ولا يحتاج إلى وجود قاعدة تغطية من أجله تملي ما يكون من المنطقي تصديقه. ومع ذلك، ، يمكن تبرير تبني الأفراد معتقدات أخلاقية معينة في الحالات التي تتطلب حكمًا أخلاقيًا في السياقات العادية للفكر والنقاش الأخلاقي.

اسمحوا لي أن أوضح وجهة النظر هذه.

تشكل عقيدة 1 و3 معًا فكرة مألوفة جدًا حول بنية التبرير الأخلاقي- وهي وجهة نظر مشتركة بين كل من الأسسسية والسياقية. يأتي دعم وتاييد لهذه العقائد من الملاحظة المنطقية ومن العمل التجريبي في علم النفس الأخلاقي.[4]

إذن ما الذي تقترحه الأدلة المتاحة؟ إذا قمنا بفحص الأجزاء الفعلية من التفكير الأخلاقي، فمن المعقول أن نفترض أن تبرير الأعتقاد في الأخلاق يرتكز على معتقدات معرفية أساسية من نوع ما. ومن الطبيعي أن نفترض أنه من خلال التعبير بصدق عن أسباب اعتقادنا الأخلاقي، إننا نعبر عن البنية المعرفية لمعتقداتنا الأخلاقية. فعندما يُطلب من الناس التعبير عن أسباب اعتقادهم الأخلاقي حول قضية معينة، مثلا فأنهم يعبرون وفقًا للنمط المألوف لديهم لتقديم اعتبارات عامة تتعلق بالحالة المحددة التي يعتبرونها ذات أهمية أخلاقية. وعادة ما تصاغ مثل هذه الاعتبارات بوصفها تعميمات أخلاقية متوسطة المستوى مثل: "الكذب خطأ" و"إيذاء الآخرين أمر خاطئ". علاوة على ذلك، هناك سمتان جديرتان بالملاحظة لهذه التعميمات الأخلاقية ذات المستوى المتوسط. أولاً، لقد أفاد الناس عند سؤالهم عنها أن مثل هذه الادعاءات تبدو بديهية. ويرتبط هذا الجزء من الظواهر بحقيقة أن الناس يعاملون هذه التعميمات على أنها غير تعسفية. وهذا يعني أنه لا يميل معظم الناس في السياقات العادية إلى مواجهة تحديات هذه المعتقدات بجدية - فهي تمثل المحصلة الأخلاقية للشخص بالنسبة لهم. وتشير هذه الحقائق إلى أن الكثير من الناس ليس لديهم أسباب مبررة لهذه المعتقدات التي تمثل الحد الأدنى الأخلاقي لهم. لكن لا يعني هذا أنه لا يمكن للفرد أن ينفصل عن معتقداته الأخلاقية، وأن يبقيها بعيدًا عن ألسئلة التي تتعلق بالنظرة الأخلاقية للفرد (على الطريقة النيتشوية مثلا). فأغلب الناس عندما يسألون عن تبرير معتقداتهم الأخلاقية يكونون مندهشين من السؤال حيث يعتبرون معتقداتهم الأخلاقية واضحة وبدهية. [5] ويوجد نوع آخر من الردود، كما أشار دريفوس ودريفوس أنهم يحاولون للتصرف بطريقة تجعل العالم مكانًا أفضل للعيش فيه إون أسمى مبادئهم الأخلاقية هو "افعل شيئًا جيدًا".[6]

قراءتي لكل هذا هي: توجد في العديد من السياقات معتقدات أخلاقية توفر الأساس لتبرير معتقدات أخلاقية أخرى، وليس للمعتقدات التي لدى معظم الناس العاديين سبب مبرر. لا أعتقد في هذا أنه من المعقول انتقاد هؤلاء الأشخاص لكونهم لايتمتعون بالمسؤولية المعرفية. ولديهم معتقدات أخلاقية معينة تستند إلى تبريرهم لمعتقدات أخلاقية معينة أخرى تمثل جوهر حساسيتهم الأخلاقية. علاوة على ذلك، لإنهم يعتبرون هذه المعتقدات واضحة وغير اعتباطية، وبالتالي يعرضون نوع من الالتزام العقائدي من الدرجة الثانية المميزة للمعتقدات الأساسية للسياق. هناك، بالطبع، الكثير لنقوله عن كل هذا، لكن اقتراحي هنا هو أن التفكير في هذه الحالات العادية يساعد في الكشف عن شيء مهم حول معاييرنا المعرفية عندما يتعلق الأمر بالأعتقاد الأخلاقي، أي، لا يحتاج المرء في "السياقات العادية للفكر الأخلاقي والمناقشة" إلى أسباب مبررة لمعتقدات أخلاقية معينة تلعب دورًا معرفيًا حاسمًا في كون المرء مبررًا له تبني معتقدات أخلاقية أخرى.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] Carl Wellman, Challenge and Response (Carbondale, Ill.: Southern Illinois University Press, 1971);

Charles Larmore, Patterns of Moral Complexity (Cambridge: Cambridge University Press, 1987);

and Jeffrey Stout, "On Having a Morality in Common," in Prospects for a Common Morality, eds. G. Outka and J. P. Reeder (Princeton, N.J.: Princeton University Press, 1993).

يتبنى هؤلاء المفكرين صيغة أو أو اخرى ن السياقية البنيوية حول المعتقد الأخلاقي.

[2] لذلك ، على سبيل المثال ، في سياقات محددة ، قد ينطوي تبرير الاعتقاد الأخلاقي على مناشدة نهائية للنماذج الأخلاقية ، أو ربما بدلاً من ذلك مجرد مناشدة لخصوصيات حالة معينة قيد التدقيق ، وقد لا تلعب القواعد الأخلاقية أي دور على الإطلاق. أنا هنا أفكر في الآراء المعرفية لما يسمى بالخصوصية الأخلاقية. انظر ، على سبيل المثال:

Jonathan Dancy, Moral Reasons (Oxford and Cambridge, Mass.: Blackwell, 1993), chapters 4- 7).

[3] W. D. Ross, The Right and the Good (Oxford: Oxford University Press, 1930), 30.

[4] حول علم النفس الأخلاقي أنظر مثلا : الربيعي، د. علي رسول:

https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&cad=rja&uact=8&ved=2ahUKEwj8g96s2cT8AhWPWcAKHdpOBtgQFnoECAsQAQ&url=https%3A%2F%2Fhdf-iq.org%2F%25D8%25B9%25D9%2584%25D9%258A-%25D8%25B1%25D8%25B3%25D9%2588%25D9%2584-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25B1%25D8%25A8%25D9%258A%25D8%25B9%25D9%258A-%25D8%25B9%25D9%2584%25D9%2585-%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2586%25D9%2581%25D8%25B3-%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25A3%25D8%25AE%25D9%2584%25D8%25A7%25D9%2582%25D9%258A%2F&usg=AOvVaw1_apMJXtnCM8Ya0qvpQhaJ

[5] Carol Gilligan, In a Different Voice (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1982);

"Moral Orientation and Moral Development," in Women and Moral Theory, eds. E. F. Kittay and D. T. Meyers (Savage, Md.: Rowman and Littlefield, 1988);

Carol Gilligan, J. V. Ward, J. M. Taylor, and B. Bardige, Mapping the Moral Domain (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1988).

[6] Hubert Dreyfus and Stuart E. Dreyfus, "What is Morality? A Phenomenological Account of Ethical Expertise," in Universalism vs. Communitarianism, ed. D. Rasmussen (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1990), 252.

 

"لا تقف الفتوي على أعتاب الدين فقط، بل تشكل أيضاً رؤى الفكر والحياة.."

"يمارس المفكر العربي أفكاره بذهنية الإفتاء التي رضعها من الثقافة الموروثة والسائدة.."

أوصافٌ كثيرةٌ هي التي وسمت كوكبَ الأرض، منها الكوكب الأزرق بفضل الألوان الزرقاء التي تعكسها مياة البحار والمحيطات والأنهار، ومنها كذلك أنَّ الأرض هي الكوكب الأخضر ارتباطاً بكونها مغطاةً بالغابات والنباتات الخضراء. وليس هذان الوصفان الطبيعيان هما الوحيدين فقط، بل قد يُوصف كوكبنا بألوان ثقافيةٍ أخرى: كوكب العولمة، كوكب الشركات العابرة للحدود، كوكب أنماط الحياة المتنوعة، كوكب الضوضاء، كوكب الحروب والصراعات.

لكن من قبيل الإتيان بجديدٍ لدى متابعي القضايا والمشكلات، لماذا لا توجد هناك أوصاف مغايرة؟! في هذا الباب المفتوح على مصراعيه، يمكن أنْ نسمي الأرض بـ" كوكب الفتوى ". بيد أنَّ وصفاً كهذا به حتى ظلم للفتوى التي غدت (أفقاً معرفياً ونموذجاً عقلياً) في أغلب مجالات الفكر والمعرفة والثقافة!! فهي الآلية التي يعرفنا بها العقل العربي على الحياة والعالم والطبيعة، وهي واسطة النظر إلى المجتمعات العربية من خلال التواصل المعرفي بين الأفراد. الحق يُقال إنَّ الفتاوى في واقنا المعيش قد تجاوزت الأرض، أمست كوكباً مستقلاً بذاته، كوكب يظهر وقت الأزمات والكروب والعواصف السياسية والاقتصادية ووقت الأوبئة العاصفة بالمجتمعات ووقت الركود الفكري والتراجع الحضاري. مثل عواصف (كوفيد19) التي جعلت الكوكب معصْوبَ الرأسِ، ومُغطّى بكماماتٍ فوق أنفاسه خلف بعضها البعض!!

وإذا كان للقرود كوكب مستقل في السينما العالمية، كحال الفيلم الذي يحمل العنوان نفسهPlanet of the Apes وهو فيلم خيال علمي إنتاج عام1968 ومن إخراج فرانكلين ج. شافر، والفيلم مقتبس من رواية كوكب القرود التي كتبها بيير بول.. نقول إذا كان ذلك كذلك، فلماذا على المنوال نفسه لا يكون هناك كوكب الفتاوى؟! لا لشيء بعينه من قبيل التشبيه ولا التقليل من الإفتاء في مجاله الخاص، إنما لكون بعض فئات رجال الدين ورجال الفكر والثقافة يحاولون أنْ يستقلوا بالدين والفكر والثقافة دون سواهم. ولا يكفون عن غزو الأرض- كل الأرض- بما لديهم من فائض رغبات وفتاوى لا تنتهي. وكأنَّهم يعيشون بمفردهم على كوكبٍ لا يطأهُ الآخرون. وبعضهم يريد العكس، أي أنَّه يأخذ الناس إلى كوكب آخر لينفردوا بهم، وقد فرشوا هذا الكوكب بالفتاوى، وأنبتوا أشجاره وغاباته من الفتاوي، وأسّسوا المنازل والأسواق من الفتاوي، ووضعوا لافتات من الفتاوي، وخطّطوا طُرقات ومُدن الكوكب من الفتاوى أيضاً.. وهلم جرّا!!

الفتوى والتخطيط الكوكبي يبدوان كصنوين في ذهنية هؤلاء الناس حتى اللحظة. بالفعل هناك هوسٌ محموم بالتحكم في عقول الآخرين وتوجيههم أينما حلُوا. ذلك منذ أن كانت الفتوى تحمل كرسي الحاكم العربي ذاهبةً به إلى حيث يريد. ومنذ أنْ نُسجت ملابسه المهيبة والمقدسة من الفتوى، رغم أنه قد يكون قاطعَ طريقٍ أو قاتلاً أو سفاحاً على رؤوس الأشهاد. وتلك الفكرة ليست سهلةً في التراث العربي مثلما نتحدث عن وظيفة البيانات وخطابات التأييد للحكام ورجال السلطة. فكل الكائنات لا تعرف الفتوى، بينما لو سبرنا أغوار الإنسان وأحواله، لكان هو مجرد إنسان لاجئ في حظيرة الفتوى، إذ تحمله إلى ما لا يدرك. وتفرض طبيعة عملها الثقافي على تفاصيل حياته شاءَ أم أبى وسط غياب المصادر الحقيقية للمعرفة وتطور العلوم والتقدم الفكري.

على سبيل المثال، فإنَّ الفتوى الدينية بالتحديد هي عمل لاحق دائماً، لا يمكنها أنْ تكون أصلاً أو مرجعاً بذاته. فهي تقيس ما هو حاضر على ما هو غائب، وتقرن ما لا نعلم بما نال اليقين بالضرورة. والرابط بينهما (الحاضر– الغائب) هو الإعتقاد في صحة الإتصال بين حالين، أحدهما ماض ولا يمكن الإتيان به، لكونه قد انقضى، بينما الآخر ماثل أمامنا ولا نملك الهيمنة عليه ولا معرفة تفاصيله على وجه الدقة. ومن ثمَّ، فإنَّ (الحالة المستفتي عنها) تأخذ أهميتها من حالات سابقةٍ بالضرورة، وتقف على قدم المساواة معها بالتبعية. وعليه، فكان هناك حثٌّ دائم على مرجعية معينةٍ هي الأصوب والأقرب للصحة، وأنَّها الأقوى في ترجيح الأمور نحو ما تقوله الفتاوى. وإلى هذا الحد كانت الفتوى تؤدي وظيفة دينية مطلوبة مع تجدد العصور والابتعاد عن الأصول، وكانت تجيب عن أسئلة الناس الملحة والطارئة.

ولكن عندما تصبح الفتاوى مجرد معرفة مكررة تعيد عقارب الزمن إلى الوراء، وتختزل الدين كله في أحكام، فهنا بيت القصيد المعبر عن الانحراف والتضخم الرمزي لتلك الوظيفة التواصلية. ولذلك كلما ذهبت الحياة إلى أقصى ما تريد بحكم التطورات والتحولات الزمنية، تستوقفها الفتاوي الدينية وتعيدها إلى نقطة البداية مرة أخرى مذكرةً أياها بأنَّ هناك أصلاً واحداً يجب الإرتباط به. والفتوى من تلك الزاوية أحد أسباب التراجع الحضاري في العالم الإسلامي، لأنّها ترتبط بأحكام الدين مغلفةً بالثقافة ومراحلها الماضوية. أي لا تنظر إلى الدين الاسلامي مجرداً من نمط الحياة والظلال الفكرية عليه، إنما تخلط الأصول بالممارسات الأخرى. وتعتبر هذا الخلط من جوهر الفتاوى الراهنة دائماً، رغم أنها قديمة قدم التاريخ. وحين لا تتغيا الفتاوى إحكامَ الدين خالصةً، فإنها تأخذ بالمبررات الثقافية كقرينة على الدين وتؤصّل لتجسُد الأحكام في الواقع، وهذا ما يجعلها تُسيء عادةً فهمَ الظروف المعاصرة للمجتمعات.

التدرُج في تلك العملية يقول إنَّ الفتوى انتقلت من تبيان الأمور الشرعية مع تغير وتصريف أحوال الناس إلى أنْ أمست شرطَ الاعتقاد والإيمان. أي ارتهن الدينُ نفسه كنظام روحي واعتقادي وحياتي بطبيعة الفتاوى. بل أخذت الفتوى مكان الدين وحلحلت أواصره وبات اعتقاد الناس في الفتاوي أغلظ من اعتقادهم في الأصول وكتاب الوحي والسنة النبوية الصحيحة، وباتوا يترقبونها كمن يترقب طوق النجاه الأخير من غوائل الزمن ومن مشكلات الحياة. ولهذا كانت وظائف الفتوى أكثر خطوةً ألحقت ضرراً غير مباشر بالدين والناس جنباً إلى جنبٍ. ولا يخفى على القارئ أنَّ التاريخ يرسخ الممارسات الخطأ ولو لو كانت كذلك خاطئة أمام الناس، وقد يزحزح التاريخُ الناس والمجتمع عن الممارسات الصحيحية ولو كانت كذلك صحيحة. لأنَّ الأمر مرهون بغلبة نمط الحياة السائد بكل تعقيداته ومركزيته، إذ يكتسح ما يقابله من أحوال صانعاً لواقع جديدٍ ليس أكثر.

من ضمن آثار غلبة الفتوى أنْ تحول (العقل العمومي والفردي) لدى العرب المعاصرين إلى عقل قائمٍ على الفتوى. والمقصود أنَّ هناك (بنية عميقة) تشكل طرق التفكير والتواصل وانتاج المعرفة وهي البنية الثقافية اللاواعية التي تتحكم في أنشطة المثقفين والأفكار الناتجة عن الكتابات والأقوال الخاصة بهم. وتلك البنية تتشكل بطرائق وأساليب وسريان الإفتاء دون نقاش ولا حوارٍ. فحينما يتحدث ما يسموّن أنفسهم بالمفكرين والأساتذة والمثقفين يقفزون فجأة - ضمناً أو صراحةً - إلى مقاعد الإفتاء. بالضبط مثلما يتسلم رجل الدين الموقع نفسه في النظام الديني التقليدي، وهو المأخوذ عن جوانب لاهوتية وسياسية في التاريخ العربي والإسلامي.

لقد أسست الفتوى (جوانب العقل) في الثقافة العربية طوال الوقت انتقالاً من عصرٍ إلى آخر، واستمرت في تغذيته بالمداد نفسه الذي يمهرُ به رجل الدين خطاباته ومدوناته وشروحاته. ولذلك ليس بعيداً عن الملاحظة كون الإفتاء وظيفة سياسية نشطة لا خاملة، قوية لا ضعيفة، نافذة الدلالة لا مترددة. لأنها الجانب القائم على الرأي والمبررات والتأصيلات التي يمكن الخروج بها بحسب الحالة المستفتي عنها. كما أنَّ الفتوى تغطي المساحة المتأرجحة من الآراء الحرة لدى عموم الناس، وتغطي المساحة الافتراضية بين الحاكم وسلطة الدولة والمجتمع إزاء الأفراد وخضوعهم للنظام العام. وليس هذا البُعد فقط، لكنها تحسم الصراع بين الإرادات على أحوال المجتمع والأفراد. وكأن تلك الفراغات الثقافية ستكون في مأمن طالما ستخرج فتاوى لصالح أولياء الأمر.

وأقرب الظن أنَّ تلك الحالة هي التي شكلت آفاق المثقفين وأصحاب الفكر وظلّت تتحكم في إنتاجهم القولي والكتابي بالمثل. وأنَّ الذهنية التي يفكرون بها ذهنية فتوى لا أكثر ولا أقل، ذهنية لا تعتمد على الجدل والنقاش والبحث والتقصي المبدع، فهذه الأشياء تتطلب أدوات معرفية مغايرة وتحتاج إلى مفاهيم عقلية مختلفة عن الإفتاء. أي أن رجل الفكر والإبداع لدينا نحن العرب: هو المثقف- المُفتي، هو الشاعر- المُفتي، هو المفكر- المفتي، هو الكاتب- المفتي، هو السياسي- المفتي، هو المعلم - المفتي، هو المتحدث - المفتي، هو المحلل- المفتي، هو الخطيب- المفتي.. كل تلك المواقع الثقافية المزدوجة تبقى في جميع أحوالها مضروبة في الإفتاء قلَّ أو زادَ عن حده. وهو شخص واحد برأسين متوازين يحدثنا بهما معاً، احداهما تقبع خلف الأخرى وتتسابقان في التكلم وإبداء الآراء.

والأغرب أنْ ينطبق هذا الضرب الحسابي على المثقفين الذين لا يميلون إلى التوجهات الدينية، سواء من أصحاب الأفكار العقلانية أو التنويرية أو العلمانية أو غير ذلك إلى أخر القائمة. ستجد هؤلاء عقلانيين بمنطق الإفتاء، يفتون في كل شيء ولا يرجعون إلى مفاهيم التنوع والاختلاف ولا يقبلون رأياً معابراً آخر. وستجد أولئك تنويريين ببغاوات وإمعات قح، لكنهم يرتدون عباءة الإفتاء والأقوال المستندة إلى أصول فلسفية غربية بالمنطق ذاته. وستجد بخلاف هؤلاء وأولئك، علمانيين يطلقون الأحكام في كل اتجاه ويمارسون دور رجال الإفتاء على الأصالة، ويصورون الزمن والمستقبل في ضوء مرجعية دنيوية على شاكلة المرجعية الدينية، ويمارسون التعصب الأعمى كأي مُتشددٍ أو مؤدلج دينياً.

على هذا المنوال، كثيراً ما يشترك بعض رجال التنوير والعلمانية والعقلانية مع رجال الإفتاء فيما يلي:

أولاً: التشبث بالأصول:

إذْ يحرص هؤلاء جميعاً على وضع أصولٍ ثابتةٍ تحت بصرهم ووعيهم. وفي مجال الدين والإعتقاد، قد نعرف ما المقصود بالأصول تحديداً، وعادة ما تخضع الأصول المتعارف عليها للإيمان الذي محله القلب والروح. وهي أمر محمود حتى يحافظ الناس على صحيح الدين وأصول العقيدة. أما الفئات الأخرى من التنويريين والعلمانيين والعقلانيين، فلا ندري لماذا يكررون الأصول ويثبتونها كأنها وحي راسخ لا مرد له؟! ولماذا يضعون نتاج الثقافة الغربية الحديثة بإعتبارها الأصول الحاكمة لفكرة التنوير والعقل والعلمانية في تاريخ العالم قاطبةً؟! حيث يظل هؤلاء الثلاثة يدافعون عن الأصول الفلسفية الغربية دون مللٍّ، حتى ضد ما تقول هذه الأصول ذاتها!!

ولئن كان الإفتاءُ عبر فضاء الدين أمراً خاصاً بتبيان الأحكام الشرعية إزاء الأحداث والأعمال التي لا حكم صريح فيها، فالتنويريون والعلمانيون والعقلانيون يبينون حكم الأصول على أحوال المجتمعات كذلك. ويبدون في فكرهم كأنهم نسخ بليدة وخائبة من أصول لم يكن منبتها الثقافة العربية الإسلامية. إنه"البؤس الإفتائي" الذي يسكن ذهنية هذا القطيع الثقافي الجديد، ويحركه أينما ذهب بشكل أعمى البصر والبصيرة. وتلك الفكرة توجد بصورة متفاوتة بين هؤلاء الثلاثة (التنويريين والعلمانيين والعقلانيون). تجد أحدهم يفهم التنوبير على أنه خطاب لحُوح ومكرر بصورة غثة خارجاً من قضية إلى أخرى، فتكتشف أنها الدائرة نفسها لمرجعية مشوهة. فيأخذ في ترديد العبارات والكلمات والنقول من غير فهم ولا أصالة ولا فهم، كأنه رجل" إفتاء قُح " لا يملك من واقعه غير قياس الحاضر على الغائب.

ثانياً: الدعوة والداعية:

 يتبنى (التنويريون والعلمانيون والعقلانيون) أفكارهم وكلماتهم بمنظور الدعاة، يطلقون المماحكات اللفظة نفسها والجري وراء المعاني البعيدة. ويتحولون إلى دعاة بحرفية الكلمة متنطعين بالعبارات، ويقدمون أفكارهم بأساليب الفتوى من جهة الشرح والتوضيح والتأثيل الذي يرد الأفكار إلى مفاهيم ونصوص غربية المصدر وشرقية التكرار.

بحسب المناخ الثقافي العام، يستعمل هؤلاء خطاب الدعاة علانيةً، وكم ريناهم على وسائل التواصل، وعلى بعض التلفاز وهم يعبرون بممارسات الوعظ المعرفي وبأساليب المداحين والبكائين والنداهين على السلع الفكرية البائرة في البيئات الشرقية. وهذا لا يؤسس ثقافة مغايرة ولا يقدم حلولاً لمعضلات الفكر والواقع ومفارقاته. لأنَّ هؤلاء جزء أصيل من الأزمة التي تمر بها المجتمعات العربية الإسلامية ولا يشكلون خطوة نحو الحل. فهم مع تقدم العالم فكرياً يرتدون إلى النموذج الأولي الذي يسكنهم، نموذج الفقهاء ورجال الفتوى.

ثالثاً: آلية التبرير:

طوال الوقت يذهب مثقفونا التنويريون والعلمانيون والعقليون إلى تبرير خطابهم بشكل نصوصي textually، أي التخفي من الحياة داخل النصوص والإقتباسات. لم يعودوا فاهمين للواقع والحياة، وإلّا لغيروا مواقف النقل والتدبيج عن الآخرين، إنما التبرير على غرار الفقهاء في عباءة السابقين من الشيوخ والعلماء.

وهناك منهم من يطلق على نفسه فقيهاً بصريح القول، بل اعتبر الفقه مرتبة تمنى لو وصل إليها يوماً ما، بينما ينسج بعضهم الآخر أقوالهم بماء الفتاوى الفقهية واقعاً في دائرة التبرير الدجمائي ليس أكثر. والتنويريون العرب كارثة ما بعدها كارثة: أغلبهم مقلدون يغلفون أفكارهم بمزيد من التوقُح الفارغ ضد الناس ومعتقداتهم. وعلى الرغم من كون الواقع أسوأ من ذلك، لكن هؤلاء كانت مبرراتهم رديئة وواقعة في فخ الذهنية التي ينتقدونها طوال الوقت. التنويري لدينا مجرد لص نصوص وأفكار في أفضل الأحوال، وفي أدق المعايير لا يستطيع انتاج فكرة مبدعة ترى المشكلة الحقيقية وتعالج المواضع السلبية.

رابعاً: من أعلى إلى أسفل:

الإفتاء يعطّي صاحبه - بوعي أو بدونه - مرتبة العارف والمشرَّع البديل تدريجياً. حتى وإنْ كان في مرتبة المستنبط لأحكام الشرع إزاء القضايا المستجدة، فإنَّه في الثقافة يحتل هذه المكانة المقلوبة لما يفعل. والمدهش أنَّ التنويريين يتعاملون بالذهنية ذاتها مع الواقع البائس الذي يعيشون فيه، فهم يتكلمون بلهجة التعالي الأجوف ويمارسون الخُيلاء والصفاقة الخطابية بمنطق: نحن الأعرف بأمراض الثقافة!!

إن ذهنية الإفتاء بطبيعتها الثقافية ذهنية متسلطة، لأنها تقول كل شيء في أي شيءٍ وتفتارض أن السائل سيتقبل ما يقال دون اعتراض، وتبادر إلى ذلك في جميع المواقف، وهي نوع من التعالم المتخفي في قول الحقيقة.

واللعبة معروفة في فرض الآراء والتوجهات دون اعتناءٍ بماهية الواقع نفسه، وبات المشتغلون بالفكر كأنهم أصحاب شرائع وأديان بالفعل. وصحيح أن كانط حصر وظيفة العقل في التشريع للعقل من جهة ممارسته بشكل مفتوح وحر، غير أن هؤلاء لدينا مشروعون لصنف منقرض من الوظائف: هي وظائف الكهانة الجديدة. وارتدوا القبعة العصرية فوق العمامة الدينية، وإذا نزعت القبعة الملونة ستفاجأ بهذه الذهنية الكامنة في كافة التفاصيل.

والأنكى أنَّ التنويريين يلمون عقول الناس حولهم بأساليب الأتباع والتابعين باحثين عن الرواج والتداول. تجدهم مهوشين على وسائل التواصل الإجتماعي بطريقة الشيخ والمريد، الخطيب والمتلقي، المفتي والمستمعين. هذا النموذج الرديف المكمل لذهنية الإفتاء التي لم يفلت منه مثقف ولا مفكر عربي واحد. وسرعان ما تُعمدّه الثقافة العربية على نطاقٍ لم يكن ليحتمله ولا يتوقف عنده بالضرورة.

السؤال: لماذا ينتشر "برادايم الإفتاء" على نطاق واسع؟!

جميع الأمثلة السابقة تقول شيئاً واحداً: إن تلك الذهنية هي الذهنية التي تجد سلطة نافذة بين الناس، وترسخها الممارسات السياسية والإجتماعية المختلفة. فكمْ لدينا من مسئولين يتشوفون إلى ذهنية الفتوى باستمرار دون ضابط ولا رابط. وذلك لغياب الوعي ولغياب الشفافية وقتل البحث الحر عن الفكر والمعرفة.

المثقف لدينا يأتي دوماً متأخراً عن قطار الحياة بسنوات وسنوات وربما قرون وقرون، فيتثبث بكل ما يعطيه المكانة والقيمة في المجتمع، كما أن ذهنية الإفتاء تُلخص جميع معضلات العقل والتفكير والتواصل والسلطة والممارسات العامة في الثقافة العربية الإسلامية. والمثقف يبحث عن المجد الغابر الذي لم يصنعه متمسكاً بأضابير الدين قدر ما يستطيع، محولاً عقله إلى جراب حواه أمام الجماهير التي يحلم بتصفيقها على وسائل التواصل الإجتماعي. وقد أعطته الأخيرة فرصة الإفتاء المجاني وجعلته صاحب مكانة مدفوعة التبريرات مسبقاً. وأخذ المتابعون يتلقطُون غثاءه كحبات الألماس النادرة، وهو لا يعدو أنْ يكون بهلوناً جديداً في مُسوح الكاهن الأشر.

***

سامي عبد العال

(الواقع الراهن- رؤية ابستمولوجية)

لا يخفى على العاملين في الحقل الاجتماعي أن علم الاجتماع في البلدان العربية كان ومازال دون آفاق مجتمعية، ما زال غريباً عن المجتمع، لأنه لم يولد في رحم هذا المجتمع، ولم تشكل ملامحه الثقافة العربية، ولم تكون هويته الفكرية.

إن علم الاجتماع العربي علم مقهور وخائف، شأنه شأن الإنسان الذي يريد دراسته، وما دام هذا هو وضع الإنسان، موضوع علم الاجتماع، كيف سيكون حال علم الاجتماع؟

إذا كان علم الاجتماع صوت الإنسان في التاريخ والحاضر، أو هو الضمير الأعلى للمجتمع وقراءة علمية للتغيرات الفكرية والثقافية والمجتمعية، فإن الإنسان العربي دون صوت دون علم يدرس هواجسه وهمومه، وما لنا إلا أن نراجع أدبيات هذا العلم، لنرى أنه ليس علماً عربياً، ولا نقرأ فيه صورة الإنسان العربي المقهور، إنه تجميع من هنا وهناك، إنه ظاهرة عبثية، ويدرّس في مجتمع، لا يمت بصلة إليه، ولا قيمة له في هذا المجتمع ما دام لا يساهم في فهم العالم الاجتماعي وتفسيره. كما أنه لا يعبر عن تحولات مجتمعية وثقافية وتاريخية، بل هو علم مستورد، مع أنه يعود للعلامة ابن خلدون 1332-1406، الذي تناول في مقدمته إشكالية تكوين المجتمع العربي والإسلامي.

وفي هذا المقال سنسعى إلى تناول أهم الإشكاليات التي يعاني منها علم الاجتماع في البلدان العربية، القائمة في بنية العقل والثقافة العربية، والتي أعاقت استقلال هذا العلم وتحديد صورته وميادينه. فحتى الآن مازال الباحثون يتناقشون حول دور علم الاجتماع وأهميته، ومنهم من يخلط بينه وبين الخدمة الاجتماعية، وهذا المجتمع يعاني من مشاكل اجتماعية لا حصر لها، وهو في أمس الحاجة إلى هذا العلم أكثر من أي وقت مضى، لأن علم الاجتماع لا يدرس المشاكل الاجتماعية ويساهم في حلها فقط، بل يساهم أيضاً في تطوير رؤية فكرية واجتماعية للمجتمع، وفي تكوين الشخصية والهوية الفكرية للمجتمع.

- الإشكاليات التي يعاني منها علم الاجتماع في البلدان العربية:

يشير مفهوم الإشكالية إلى أنه سؤال مطروح يطلب حلاً أو مسألة علمية أو نظرية لا يوجد لها حلاً، وتكون الإشكالية أولية حينما يضعها الباحث ويبنى عليها فرضياته أو خطة بحثه، وعندما يجمع الباحث المادة العلمية، ويبدأ في دراستها وتمحيصها ثم تنقيحها أو تعديلها وإضافة إليها ما يلزم تصبح نهائية. أي أن الإشكالية قضية كلية عامة تثير نتائجها الشكوك بحيث أنها تقبل الإثبات أو النفي أو الأمرين معاً. والإجابة في الإشكالية غير مقنعة وتبقى دائماً بين أخذ ورد.

ويعتبر بعض المفكرين الإشكالية كمظلة تتسع لكل المشكلات، تتمثل في أن المشكلة جزء من الإشكالية حيث إن الإشكالية مجموعـة من المشكلات الجزئية، فإذا استطعنا أن نحدد موضوع الإشكالية عرفنا المشكلات التي تتبعـها. وبمعنى آخر، المشكلة طابعها جزئي، والأسئلة التي تتناولها أسئلـة جزئية بينما الإشكالية طابعها شامـل وعام يتناول القضايا الكبـرى.

وهذا يعني أن القضايا التي تطرحها الإشكالية هي قضايا عميقة عالقة فـي الفكر الإنساني تعكس البحث الدائم للإنسان من أجل أن يتكيف مع الوسط الذى يحيط به.

يعاني المجتمع العربي من مجموعة من الإشكاليات البنيوية، بسبب حالة الانغلاق الفكري والمجتمعي وغياب التجديد البنائي والثقافي والعقلي. هذا الركود الثقافي جعل المجتمع لا يتفاعل مع الأزمات الأحداث الكبرى، مما أفقد حسه التاريخي، فالتاريخ ليس هو الماضي بل القدرة على صناعة التاريخ. وعلى العموم تصدر المشهد المعرفي لولادة علم الاجتماع العربي مجموعة من الإشكاليات، وهي كالآتي:

1- إشكالية العلاقة بين علم الاجتماع والتراث:

يُعرف التراث بأنه ما خلفه الأجداد لكي يكون عبرةً من الماضي ونهجاً يستقي منه الأبناء الدروس ليعبروا بها من الحاضر إلى المستقبل. والتراث في الحضارة بمثابة الجذور في الشجرة، فكلما غاصت وتفرعت الجذور كانت الشجرة أقوى وأثبت وأقدر على مواجهة تقلبات الزمان. ... كذلك فكل الناتج الثقافي للأمة يمكن أن نقول عنه " تراث الأمة ".

وفي حقيقة الأمر يخضع الفكر العربي لوصاية التراث والمجتمع، ولم يتجرأ حتى الآن على خوض الصراع مع المرجعية التراثية (العادات والتقاليد والخرافة والمعرفة اللا علمية)، التي تأخذ في كثير من الأحيان طابع المقدس في المخيلة العربية. حيث إن كل ماضٍ مقدس، وكل مقدس يتم توارثه دون مراجعة. فالمجتمعات التي تقدس التراث يكون العقل أول ضحاياها. وهذا يصدق على الواقع الاجتماعي الذي تحكمه العادات والذي لكثرة ما سمعه الناس، وَقَرَ في نفوسهم كشيء مقدس. وعلم الاجتماع طبيعة الحال هو ضحية هذه النظرة اللا عقلانية، التي تضع التاريخ والثقافة خارج النقد والتقويم، مما يعيق دور علم الاجتماع بمعالجة المشاكل الجوهرية التي يعاني منها الواقع العربي.

2- إشكالية المرجعية:

يعني مفهوم المرجعية الرجوع إلى المرجع في كل عمل وعدم الانحراف عنه ويمكن تفصيل آلية المرجعية في خطوات كالتالي:

أ‌- هي أن يرجع النظام إلى المرجع ليقارن نفسه به.

ب‌- يلاحظ مدى انحرافه عن المرجع.

ت‌- يستفيد بهذه الملاحظة ويبني عليها عمل تصحيحي يؤدي لتقليل انحرافه عن المرجع.

ث‌- أن يكون العمل التصحيحي مناسب وفي وقته فلا يكون أقل مما ينبغي ولا مبالغ فيه ولا يكون في وقت غير مناسب.

ج‌- يعود مرة أخرى إلى المرجع ليختبر صحة الخطوات السابقة وهكذا لكل عمل. والمراد بالمرجعية ثلاث مستويات:

- المستوى الأول (وهو أعلاها): الإطار الكلي والأساسي المنهجي والركيزة الجوهرية في أي خطاب أو ملة أو دستور أو نظام.

-  المستوى الثاني: المصادر والمستندات والأدلة التي يعتمد عليها لتكوين أي نوع من أنواع المعرفة.

- المستوى الثالث (ممثلو المرجعية): هم الأشخاص الذين يعاد إليهم في الشؤون العلمية أو العملية.

وفي حقيقة الأمر يعاني علم الاجتماع العربي من غياب المرجعية الموحدة، وفي الوقت نفسه من تعدد المرجعيات، ونقصد بالمرجعية مركز المعنى أي النظام الرمزي للمجتمع القائم على مركز معنى متخيل. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان الدين في العالم الغربي المعنى في العصور الوسطى، والآن أصبح الإنسان والاقتصاد الرأسمالي هو مركز المعنى للحداثة، أما علم الاجتماع العربي فيفتقر للمرجعية المجتمعية. إن القضية المركزية التي يستند عليها العلم وينطلق منها هي العقل. فالعقل هو المرجع الأولي لدراسة المجتمع وتفسيره، عندها يتحول علم الاجتماع إلى فكر تاريخي وديناميكي مرتبط بالحياة والواقع، ولكن حتى الآن ما تزال المرجعية المعرفية لعلم الاجتماع العربي هي الغرب والشرق، وليس العقل والفكر والإنسان العربي.

ويجب أن يكون الإنسان مشروع علم الاجتماع وهدفه، وعندما نقول ذلك نقصد أن الوظيفة الأساسية لهذا العلم تكمن في قيام مجتمع إنساني يحترم إنسانية الإنسان، ويؤسس مؤسساته على أساس هذه المعايير. كما ينبغي على علم الاجتماع العربي الأخذ بالحسبان خصوصية المجتمعات العربية الدينية (العامل الديني الذي يوجه كل مناحي الحياة) باعتبارها مرجعية أولية مع العقل في دراسة وحل القضايا والمشكلات الاجتماعية من منطلق أن الإيمان لا يتعارض مع العقل والعلم.

3- إشكالية غياب المداخل المنهجية والنظرية:

في هذا السياق نقصد بالمداخل النظرية مجموعة من القضايا الفكرية، التي تتداخل مع بعضها البعض منطقياً، بغية تكوين النسق النظري لها، الذي يتم من خلاله تحليل وتفسير ونقد الواقع الاجتماعي. بمعنى آخر يمكن القول بأنها كيان نظري له مبادئه وقضاياه الرئيسية التي توجب على أي بحث علمي مستنداً إلى هذا الكيان أن يشتق فروضه الرئيسية منه، ثم بعد ذلك استخدم المقولات الرئيسية للكيان النظري في عمليات أخرى: كالوصف والتحليل والتفسير والتنبؤ.

ويمكن القول أيضاً إن المداخل النظرية تتشكل من مقولات وقضايا نظرية بناءً عليها يتم إدراك الواقع الاجتماعي من خلال إعطاء تصورات متباينة وتنظيماً محدداً لمتغيراته وطبيعة واتجاه التفاعل بين هذه المتغيرات.

أما مفهوم المداخل المنهجية فيمكن القول بأنها أقل تجريداً من المستوى السابق الذي يتعلق بالمبادئ الأساسية للمداخل النظرية في علم الاجتماع، فالأسس المنهجية تتعلق بطبيعة الحال بالمداخل المنهجية التي تمثل زاوية الاقتراب من قضية البحث موضوع الدراسة، وعليه يمكن القول إن المدخل المنهجي أكثر ارتباطاً ببناء النظرية لأن المقولات النظرية هي التي تفرض هذا المدخل أو ذاك. وبالمقابل فإن المدخل المنهجي بدوره هو الذي يحدد مناهج وطرائق البحث المناسبة في هذا البحث أو تلك القضية.

بناءً على ما تقدم نجد أن معظم دراسات وأبحاث علم الاجتماع في البلدان العربية تتصف بالفقر الابستمولوجي والنظري والمنهجي. صحيح أن المناهج البحثية عالمية بما أنها تستند إلى جوهر خطوات المنهج العلمي، لكن بطبيعة الحالة مضامينها محلية وثقافية واجتماعية. فمن يقرأ دوركايم، ماركس، وفيبر، وغيرهم يقرأ التاريخ الاجتماعي والأوروبي والثقافة الأوروبية لأن علم الاجتماع بنظريات ومناهجه رغم اختلافه جاءت استجابة للواقع الغربي بكل ملامحه وتجلياته. ولهذا لا يتطور الفكر الاجتماعي إلا في سياق تاريخي واجتماعي محدد. وهنا يجب أن نشير أن إنتاج المعرفة لا يتولد إلا داخل فضاء فكري منفتح، أما الفضاء الفكري المنغلق فإنه عقيق لا يتفاعل مع مجتمعه. وهذا يعني أن الثقافة العربية ثقافة مغلقة متخلفة عن زمانها وعصرها، أما الثقافة المنفتحة فهي بنت زمانها. لهذا لم يفرز الفضاء الفكري العربي نظريات ومناهج تعبّر عن واقع مجتمعاتنا وتتوافق مع خصوصيتنا، كما توافقت النظريات والمناهج في علم الاجتماع الغربي مع منطلقات الواقع الأوروبي ومفرزاته.

4- إشكالية علماء الاجتماع العرب ومسؤوليتهم الأخلاقية والعلمية:

فمن المعلوم أن النظريات والمناهج الاجتماعية طورها علماء وهبوا أنفسهم للعلم، وقد فهم هؤلاء العلم رسالة ومسؤولية، رسالة لفهم الكون وتفسيره والحفاظ عليه، ومن ثم فإن للمناهج بعد قيمي وأخلاقي وإنساني، وهذا تأخذه عن الثقافة.

وقيم المفكرين تجسدها مناهجهم، وهذا ما تعبر عنه علاقة المنهج بالإيديولوجيا، وبإنتاج المعرفة والفكر مرتبطتين بطريقة رؤيتنا للكون. فعلى سبيل المثال، فإن المنهج الفيبري، أو المنهج التاريخي الاجتماعي المطبق على دراسته) الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية)، يرى أن حركة الإصلاح البروتستانتية، هي التي أسست الحضارة الغربية، فهو يقرأ تقدم المجتمعات وتخلفها من خلال حركة الإصلاح البروتستانتي. كما نجد إيديولوجيا ماركس قائمة في منهجه، وكذلك إيديولوجيا فيبر وبارسونز.... إلخ، والإيديولوجيا فكر وقيم سياسية وثقافية ومعرفية. ولا نجد عالماً ذا مدرسة دون هذا البعد الإيديولوجي، والعلوم الاجتماعية كلها ليست بعيدة عن الإيديولوجيا، والإيديولوجيات هي الرؤى المتعددة للكون، وإن هذه الرؤى المختلفة هي التي تكون النظريات والمدارس، فتبرز المدراس الفكرية بقدر ما يوجد من اتجاهات نظرية.

نستنتج مما سبق أن مدراس علم الاجتماع طورها مفكرون وعلماء أصحاب رؤى سوسيولوجية. وهذه الرؤية تسعى إلى دراسة وتحليل وتفسير وتطوير الواقع الاجتماعي لأنها قائمة على المنهج والنظرية. فالبعد الإيديولوجي، أو الحكم القيمي هو أساس التنظير ولما غاب التنظير عن علم الاجتماع العربي، فقد غابت عنه المدارس والاتجاهات الفكرية المفسرة للمجتمع، ذلك أن التنظر ليس عملية خارج المجتمع والتاريخ، وإنما يتم في سياق ثقافي ومجتمعي وتاريخي معين. وما سردناه عن النظريات السوسيولوجية ينطبق على المناهج وطرائق البحث الاجتماعي، فهذه تمثل جانب الضعف في علم الاجتماع وهي مرتبطة بالنظريات فلا يقوم التنظير دون منهج، ولذلك نلاحظ أن غياب الاتجاهات والمدارس عندنا، إنما يعود إلى ضعف الانتماء النظري والمنهجي.

وفي النهاية نقول إن إشكاليات تمكين علم الاجتماع في البلدان العربية كثيرة، ولا مجال لتحليلها ومناقشتها جمعياً، إلا أنه يجب علينا التسليم بكل الأحوال بأهمية هذا العلم الذي يمثل في جوانب مختلفة فكر وفلسفة ونقد اجتماعي، فالمجتمعات المتقدمة، تقدمت بأفكارها ومعرفة أخطائها بالتوازي مع التقدم المادي. وهذا ما يجب أن يحدث في المجتمعات العربية من خلال تفعيل دور لعلم الاجتماع الذي سيكون استجابة حقيقة لواقعنا وخصوصيتنا الثقافية والاجتماعية.

الله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

القيمُ ضرورةٌ لأنسنة الإنسان، الإنسانُ بلا قيم يخرج من إنسانيته ويتحول إلى كائنٍ متوحش مخيف. القيمُ مُثُلٌ سامية يتطلع ويسعى الإنسانُ للتحقّق بها، لتتكاملَ شخصيتُه، ويثري حياتَه بالمعنى، ولن يبلغ مدياتِها القصوى إلّا الأفذاذُ من البشر. القيمُ ضرورةٌ للحياة الإنسانية، وهي شرطٌ لوجود كلِّ مجتمع حيوي خلّاق.

هناك ثلاث مجموعاتٍ من القيمِ التي ينهلُ منها الإنسانُ وتشبِعُ متطلباتٍ معنويةً أساسية لحياته، وهي: القيم الروحية، والقيم الأخلاقية، والقيم الجمالية، ولكلّ واحدةٍ منها وظيفتُها الأساسية، وكلٌّ منها يحقّق للإنسان كمالًا على شاكلته، ويشبِعُ احتياجاتٍ أساسيةً في حياة الفرد والمجتمع. وبين هذه المجموعات الثلاث للقيم علاقةٌ عضويةٌ من التأثر والتأثير المتبادَل، فوجودُ كلٍّ منها يعزّز وجودَ الأخرى ويثريها، وترسيخُ كلٍّ منها يرسّخ وجودَ الأخرى ويكرّسها[1].

الحقيقةُ القيمية كالحقيقة الدينية، يدركهما الإنسانُ بالتدريج عبر التاريخ، فمع تقدّمِ الزمن تتضح رؤيةُ الإنسان وتنضج وتتكامل، تبعًا لتطورِ وعيه، وتراكمِ خبراته، وتكاملِ مناهج وأدوات المعرفة التي يوظفها في الفهم. مصاديقُ تحقّق القيم نسبيٌّ في حياة الفرد والجماعة، كما أن السعادةَ والنجاحَ والكمالَ نسبيةٌ[2].

الكرامةُ والكونيةُ هما المعيارُ الذي تتحدّد على أساسه القيمُ الأخلاقية، بمعنى أن هذه القيمَ شاملةٌ، وأنها قانونٌ كلّي يصلح للتعميم لكلِّ الناس الذين تتوحد مصائرُهم في الأرض، فمهما كان الإنسانُ فإنه يحتاجُ الكرامة، لأن الكرامةَ تتحقّق بها إنسانيتُه، يحتاجها كلُّ إنسان بوصفه إنسانًا، بغضِّ النظر عن دينه وإثنيته وثقافته وعصره.كما يحتاجُ الإنسانُ مهما كان: الصدقَ والمساواةَ والحريةَ والعدلَ والأمانةَ، وهي كلّها تكرِّس الكرامةَ وتحميها من الانتهاك. الكرامةُ والحرية والمساواة والعدل والصدق والأمانة كغيرها من القيم الإنسانية الكونية، لم يولد الوعي بمفهومِها واكتشافِ مصاديقها دفعةً واحدة، بل تَطَلَّبَ وصولُ الإنسانية إلى الوعي بمعانيها المعروفة اليوم، والتعرّفُ على حدودها وتطبيقاتها ومصاديقها عبورَ محطات موجعة، وهي تقطع مسارًا طويلًا مريرًا شاقًّا عبر التاريخ. وذلك ما انتهى إليه الإعلانُ العالَمي لحقوق الإنسان، فلم تعد حقوقُ الإنسان الكونية قيمًا ترتبط عضويًّا بالثقافة المحلية والهوية المجتمعية؛ ذلك أن بعضَ الثقافاتِ المحلية والهوياتِ المجتمعية يتمايزُ فيها البشرُ، وتتفاوتُ حدودُ مكانتهم ومساحةُ حقوقهم وحرياتهم تبعًا لجنسهم ومعتقدهم وإثنيتهم.

لا حياةَ أخلاقية بلا قيمٍ كلية كونية تتجاوز الزمانَ والمكان والواقع، وتتموضع بوصفها معايير ثابتة للحق والخير والعدل والفضيلة والسلام والصدق والكرامة والمساواة والحرية والأمانة. مفاهيمُ هذه القيم تقف خارج التاريخ، لكن تطبيقاتِها تاريخية، تتناغم على الدوام وإيقاعَ رؤية الإنسان للعالَم وعلومه ومعارفه، وتعبّر مصاديقُها عن وعيه وتطوره الحضاري وثقافته ونمط عيشه في كلِّ عصر. يرى إيمانويل كانت أَنَّ: "الصفة المميزة الجوهرية لأي قانون هي أنه كلي، أي صادق بالنسبة إلى جميع الأحوال بدون استثناء... وبالمثل القانون الأخلاقي، أو قانون الحرية، وهو القانون الذي يقول إن الفاعل الأخلاقي يتصرف أخلاقيًّا، إذا سيطر العقل على كل ميوله. فإن كان هذا قانونًا، فيجب ألا يكون له استثناء مهما تكن الظروف، كما أنه لا يمكن أن يكون صادقًا بالنسبة إلى أناس دون أناس، بل يجب أن يصدق على الجميع على السواء. خذ مثلًا: الواجب. إنه ليس واجبًا عليّ فقط دون غيري، وليس واجبًا في ظرف دون ظرف آخر، ولا يحتمل أي استثناء لمصلحة هذا أو ذاك. والأخلاق يجب أن تتألف من قوانين صادقة بالنسبة إلى كل الكائنات العاقلة على السواء"[3]. ويذهب كانت أيضًا إلى أنّ على الإنسان الذي يفعل أيَّ فعلٍ أن يفعله بالشكل الذي يصيّره تشريعًا عامًا لكلِّ البشر، إذ يقول: "افعل الفعل بحيث يمكن لمسلمة سلوكك أن تصبح مبدأ لتشريع عام... افعل الفعل بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص كل إنسان سواك باعتبارها دائما، وفي الوقت نفسه، غاية في ذاتها، ولا تعاملها أبدا كما لو كانت مجرد وسيلة"[4]. نعني بالأخلاقِ هنا ما يحكمُ به العقلُ العملي أو العقلُ الأخلاقي، وهي الأخلاقُ بالمعنى الفلسفي، ولا نعني بها الأخلاقَ بمعنى الأحكام على وفق التصنيف الفقهي، أو ما عرُف بالآدابِ الشرعيةِ في تراثنا، وهذه الآدابُ ضربٌ من الأحكامِ الفقهية، عندما أضحى مفهومُ الشريعةِ مطابقًا لمفهومِ الفقه.

لا تتنكّر القيمُ الأخلاقية الكونية للحقِّ في الاختلاف، والحقِّ في الاعتقاد، والحقِّ في التفكير، والحقِّ في إبداء النظر، والحقِّ في التعبير. التكفيرُ يصادر كلَّ هذه الحقوق ويتنكّر لها، لأنه لا يرى إلا وجهًا واحدًا للحقيقة، ولا يعتقد إلا بوجود صورةٍ واحدةٍ لله، وتصورٍ واحد لصفاته، وطريقٍ واحد إليه، وقوالبَ جزميةٍ للاعتقاد به، وكلماتٍ أبديةٍ في التعبير عنه.

ألا يجدر بنا أن نُسائل التراثَ الأخلاقي في عالَم الإسلام، لماذا عجز عن الوفاء ببناءِ ضميرٍ أخلاقي يحمي حياةَ الفرد والمجتمع من: انتهاك الكرامة، وتضييع الحقوق، وتجاوز الخصوصيات الشخصية؟ لماذا كانت مدونةُ الأخلاق شحيحةً، مقارنةً بمدوناتِ الحديث والرجال والتفسير والفقه والكلام واللغة وغيرها؟ لماذا يفتقر هذا التراث، على الرغم من سعته، إلى مقاربةٍ واقعية تتبصّر طبيعةَ الكائن البشري في ضوءِ الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع والمعارف الحديثة، لئلا تُكرِه الإنسانَ وتعنّفه على فعلِ ما هو الضدّ من طبيعتِه الإنسانية؟

إن ما نعنيه بافتقارِه لمقاربةٍ واقعية تتبصّر طبيعةَ الكائن البشري بعمق: أنه تراثٌ يتسع لعناصر متضادّة، وُلِدت في سياقات متنوعة، تعود إلى مجتمعاتٍ عاشت في أزمنةٍ مختلفة، وتنحدر من ثقافاتٍ متعدّدة وهوياتٍ متنوعة، وتحيل إلى مرجعياتٍ ليست موحدة. لذلك أخفق هذا التراثُ في تأليفِ المختلِف، وتوحيدِ المتعدّد، بالتعرّفِ على مشتركاته واستخلاصِ جوهره الأخلاقي، وصياغةِ رؤيةٍ تكرّس الحياةَ الأخلاقية، وتنشد تحقيقَ معادلة تَوازُنٍ تستجيب لاحتياجات مكوّنات طبيعة الكائن البشري، وتشبعها في سياق أخلاقي؛ لا يقدّم الجسدَ قربانًا للروح، ولا يجعل العقلَ قربانًا للمشاعر والعواطف، ولا يختزل الكلَّ في واحد.

الحقُّ في الاختلاف يفرض بناءَ قيمِ التنوع والتعدّدية والعيش المشترك، لكن يتعذر ذلك في مجتمع تتفشّى فيه أحكامُ تكفير المختلِف في المعتقد. التكفير هو اللغم الأخطر في التراث الذي يقوّض كلَّ مسعىً للانخراط في العصر، إنه عنصرُ الممانعة الأقسى والأعنف لحضورِ المسلم الفاعل اليوم في العالَم. التكفيرُ في علم الكلام القديم يمنع المسلمَ من التفاعل العضوي الخلّاق داخل المجتمعات المتنوعة الأديان والثقافات، كما يمنع ولادةَ المواطنة بوصفها ركيزةَ بناء الدولة الحديثة، لذلك يتعذّر بناءُ الدولة الحديثة في البلاد التي تعتمد مقولاتِ الكلام القديم وتتخذها مرجعيةً في دساتيرها وتشريعاتها وقوانينها وبرامجها.

***

د. عبد الجبار الرفاعي

...........................

[1] الرفاعي، عبدالجبار، الحب والايمان عند كيركغورد، ص 12، 2016، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

[2] الرفاعي، عبدالجبار، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص 119 – 120، ط 2، 2019، دار التنوير، بيروت، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد.

كنت، إيمانويل، الأخلاق عند كنت، ص 58، 1979، وكالة المطبوعات، الكويت. [3]

[4]  كنت، إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوي، ص 11، ط1، 2002، منشورات الجمل، كولونيا - ألمانيا.

هناك أدعاء يقول إن بعض المعتقدات، على الأقل في سياقات معينة، لا تحتاج إلى تبرير على الرغم من أنها قد تزود المرء بأسباب مبررة للأعتقاد بمعتقدات أخرى. دعونا نلقي نظرة فاحصة على الادعاء.

تتكون الأطروحة السياقية البنيوية الأساسية من ثلاثة مبادئ أساسية: (1) قد يكون المرء مسؤولاً معرفيًا عن اعتناق معتقدات معينة في وقت ما، على الرغم من عدم وجود دليل مبرر أو أسباب مبررة للاحتفاظ بهذه المعتقدات في ذاك الوقت. (2) قد تكون هذه المعتقدات بمثابة أساس معرفي لتبرير اعتناق معتقدات أخرى. (3) تعتمد المعتقدات التي تحتاج إلى تبريرعلى حقائق معينة حول الظروف الاجتماعية للفرد - السياق الاجتماعي للفرد. دعونا نأخذ هذه واحدة تلو الأخرى.

1. إن الفرضية القائلة بأنه من الممكن لشخص ما أن يكون مسئولًا معرفيًا عن اعتقاد ما دون تبرير هي إحدى الطرق للتعبير عما أصبح يسمى بالمحافظة المعرفية. يدعي المحافظ المعرفي أن مجرد الالتزام العقائدي قد يكون كافيًا لخلق درجة معينة من الاحترام المعرفي لمعتقدات معينة. هناك صيغتان اساسيتان من هذه العقيدة.[1]. وفقًا لمفهوم المحافظة من الدرجة الأولى، قد يكون الاحترام المعرفي إلى معتقد كنتيجة لمجرد الإيمان بهذا الاعتقاد أو، بشكل أكثر معقولية، كنتيجة للاحتفاظ بهذا الاعتقاد طالما أنه لا يتعارض مع المعتقدات الأخرى التي يمتلكها المرء. وفقًا للمحافظة من الدرجة الثانية، فإن المعتقدات من الدرجة الثانية- المعتقدات حول المعتقدات - ضرورية لخلق درجة معينة من الاحترام المعرفي لمعتقد من الدرجة الأولى. لذلك، على سبيل المثال، وفقًا لإحدى الصيغ الممكنة للمحافظة من الدرجة الثانية، من أجل أن يزداد مستوى معين من الاحترام المعرفي لبعض المعتقدات (التي ليس لدى الشخص أسباب أو أدلة مبررة لها)، يجب ألا يكون لدى المرء الأعتقاد فقط، ولكن يجب عليه أيضًا أن يصدق بانه الحقيقة.[2] باختصار، يجب على المرء أن يعتبر الأعتقاد سليمًا صحيحًا من الناحية المعرفية.

ليس هذا هو المكان المناسب للتحقيق في المحافظة المعرفية. فقد حاجج جوناثان كيفانفيج[3] بشكل مقنع بأن صيغة المحافظة من الدرجة الأولى لا يمكن الدفاع عنها ولكن أي نظرية معرفية معصومة من الخطأ تحتاج إلى التسليم بصيغة من المحافظة من الدرجة الثانية. كنت قد قدّمت في البحث السابق نقاشا عن النزعة المحافظة وأوضاعنا الصعبة: نظرًا للقيود على قدراتنا المعرفية وحدود عصرنا، فمن المنطقي لا تتطلب ممارساتنا المعرفية من المعتقدين دائمًابأن يكون لديهم أدلة أو أسباب مبررة لكل ما يعتقدون بشكل مسؤول. كما سنرى في القسم التالي من بحثنا، تُظهر ممارساتنا المعرفية فيما يتعلق بالأعتقاد الأخلاقي النوع نفسه من النزعة المحافظة. لذلك سأستمر على افتراض أن المحافظة من الدرجة الثانية صحيحة.

2. المبدأ الأساسي الثاني لسياق السياق البنيوي- ما يمكن أن نسميه أطروحة الكفاية المعرفية- يدعي أن المعتقدات القائلة بأن المرء مسؤول معرفيًا عن اعتقاده، وبدون امتلاكه أي مبرر، تكون أحيانًا كافية معرفيًا كأساس للاعتقاد المبرر في القضايا الأخرى. يمكن أن ينتهي رجوع المرء الى الوراء بالتبرير الى الأعتقاد بمعتقدات لا يملك أسبابًا تبرر التمسك بها. إذا كنت على حق في أن ممارساتنا المعرفية الفعلية تتوافق مع أطروحة الكفاية المعرفية، فإن هذه الحقيقة حول الأطروحة توفر، كما حاججت، سببًا افتراضيًا لصالحها. لكن تتطلب هذه الأطروحة، مثل أطروحة المحافظة المعرفية، طريقة للدفاع عنها أكثر مما يمكنني تقديمه هنا.

3. أخيرًا، يعتمد ما إذا كان هناك حاجة إلى تبرير اعتقاد ما أم لا لكي يكون بمثابة معتقد أساسي صحيح بشكل حاسم على السياق، وعلى وجه الخصوص، على السياق الاجتماعي. وهذه هي أطروحة حساسية السياق الاجتماعي. والآن، الفكرة العامة القائلة بأن التقييمات المعرفية الصحيحة حساسة للسياق، بمعنى أنها تعتمد على ظروف المرء،وكما رأينا في المناقشة التي قدمتها سابقا حول التبرير والمسؤولية المعرفية، مقبولة. بشكل عام، ما إذا كان الفرد له ما يبرره (أو إذا لم يكن له ما يبرره، فعلى الأقل مسؤول معرفيًا) في الاحتفاظ ببعض المعتقدات سيعتمد على سمات معينة لظروفه. إن ما يجعل السياقية مميزة هو الادعاء بأن التقييم المعرفي الصحيح، وعلى وجه الخصوص، ما إذا كان اعتقاد المرء يحتاج إلى تبرير أم لا، يعتمد بشكل حاسم على "السياق الاجتماعي" للفرد- على حقائق اجتماعية معينة. لقد لاحظنا بالفعل أن بعض الحقائق الاجتماعية تؤثر على التقييم المعرفي الصحيح، وأن الحالة المعرفية لمعتقدات الفرد حساسة لهذه الأنواع من الحقائق الاجتماعية ليست مميزة للسياقية البنيوية. ما يدعيه السياقيون هو أن الحقائق حول الالتزامات العقائدية للمجتمع المحلي مهمة للتقييم المعرفي بشكل عام، و كذلك لمسألة ما إذا كانت بعض معتقدات المرء بحاجة إلى تبرير (تحت وطأة اللامسؤولية المعرفية) على وجه الخصوص. تتمثل إحدى طرق وضع هذه الفكرة فيما يتعلق بالمعتقدات التي تحتاج إلى تبرير أو لا تحتاج إليه في القول ما إذا كان المرء بحاجة إلى تبرير أو لا يحتاج له حيث يعتمد في بعض المعتقدات على ما تسمح به مجموعة الفرد للإفلات من الاعتقاد دون وجود مبرر.

بالطبع، هناك أسئلة كبيرة وصعبة تلوح في الأفق للسياقي حول المسألة المتعلقة بحساسية السياق الاجتماعي. نظرًا لأن يعتقد السياقي أن التقييم المعرفي حساس للسياق الاجتماعي، فإنه يحتاج إلى معالجة أسئلة حول أنواع العوامل التي تحدد السياق الاجتماعي ذي الصلة لتقييم الحالة المعرفية لمعتقدات الفرد. نحن أعضاء في العديد من المجموعات (الاجتماعية) في وقت واحد، وهناك طرق لا حصر لها لتخصيص المجموعات وفقًا للأغراض المطروحة. بالطبع، أشك بشدة في وجود خوارزمية أو صيغة عامة وكافية تمامًا يمكن للمرء استخدامها لإصلاح السياق الاجتماعي ذي الصلة في أي حالة معينة بطريقة غير تعسفية. بدلاً من ذلك، فإن الأسئلة المتعلقة بالسياق الاجتماعي ذي الصلة هي نفسها (كما قد تتوقع) حساسة للسياق. وإذا كان هذا صحيحًا، فلن يكون لدينا خيار سوى المضي قدمًا على أساس كل حالة على حدة، على الرغم من أن القيام بذلك لا يستبعد صياغة تعميمات قابلة للتنفيذ حول أنواع العوامل التي تساعد في إصلاح مجموعة اجتماعية في سياق معين.[4]

قبل الانتقال إلى الأسئلة حول التبرير الأخلاقي التي سأناقشها في البحث اللاحق، اسمحوا لي أن أربط الموضوعات السياقية الرئيسة في هذا البحث بمفهوم المسؤولية المعرفية الموضحة في البحث السابق المنشور. إن أحد المسؤولية المعرفية تجاه بعض المعتقدات التي يحملها المرء تكون فقط عندما يتعامل بشكل مناسب مع تلك الاحتمالات التي تشير إلى أهميتها من خلال معتقدات تمثل الخلفية الخاصة بها وتلك التي تشير إليها المعلومات التي يشترك بها المجتمع المعني على نطاق واسع. تلك الحالات التي يحمل فيها المرء بعض الاعتقاد دون أن يكون لديه سبب مبرر للاعتقاد والتي لا توجد فيها إمكانات محتملة ذات صلة من النوع المذكور للتو هي حالات مرشحة يبدو من المناسب فيها القول إن المرء مسموح له معرفيًا ومن ثم فهو مسؤول في التمسك بهذا الاعتقاد. ولكن، في ضوء التمييز بين المحافظة من الدرجة الأولى والثانية، أعتقد أنه يجب علينا إضافة الشرط التالي لوصفنا للمعتقدات الأساس للسياق: ليس فقط في حالة عدم وجود احتمالات مضادة ذات صلة بالاعتقاد المعني، ولكن يجب أن يكون الاعتقاد المعني، حتى يكون اساسه صحيح، هو الذي يعتبره المُعتقد ومجتمعه سليم من الناحية المعرفية. إن المعنى الضمني حول المعتقدات الأساسية للسياق هو أن وضعها كأساس يعتمد بشكل حاسم على السياق الاجتماعي وأنواع المتطلبات المعرفية التي يتوقع المرء أن يفي بها وكذلك مستوى التزام المجموعة المعرفي بالمعتقد المعني.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................

[1] يتبع نقاشي للتحفظ المعرفي، بما في ذلك التمييز بين الأنواع من الدرجة الأولى والأنواع من الدرجة الثانية وجهة النظر جوناثان كفانفيج.

Jonathan Kvanvig, "Conservatism and Its Virtues," Synthese 79 (1989), 153-63.

[2] يقترح روبرت عودة أن المدافع عن المحافظة لا يحتاج إلى مطالبة المؤمنين بامتلاك معتقدات من الدرجة الثانية، وبدلاً من ذلك يمكن أن يتغلبوا على شرط أن يكون المؤمنون على استعداد فوري للحصول على النوع المناسب من الاعتقاد من الدرجة الثانية. أعذر نفسي من التشويش على تفاصيل الصياغة الملائمة للمحافظة من الدرجة الثانية.

Robert Audi, Belief, Justification, and Knowledge (Belmont, Calif.: Wadsworth, 1988.

[3] Jonathan Kvanvig, "Conservatism and Its Virtues

[4] أحد العوامل الواضحة التي تظهر بشكل مهم في تقييماتنا المعرفية تتعلق بالمعرفة الخاصة للفرد والمهارات والمعرفة والمهارات التي قد تكون مرتبطة أو غير مرتبطة بمهنة المرء. وفقًا لمبدأ الشخص العاقل من القانون كما هو موضح في Keeton et al.، The Law of Torts، "الأشخاص المحترفون بشكل عام وأولئك الذين يقومون بأي عمل يتطلب مهارة خاصة، لا يُطلب منهم فقط ممارسة العناية المعقولة فيما يقومون به، ولكن أيضًا لامتلاك حد أدنى من المعرفة والقدرة الخاصة "(ص 185). يشير هذا إلى أننا نتوقع المزيد من الأشخاص الذين لديهم معرفة خاصة أو أعضاء في مهن تتمثل مهمتهم في معرفة المزيد عن موضوعات معينة.

 

إذا كانت السلفيّة في خطابنا الإسلاميّ تشكل موقفاً فكريّاًّ ومنهجياً يدعو إلى فهم الكتاب والسنة وفقاً لفهم سلف هذه الأمّة لهما، والأخذ بأحكام الكتاب والسنة، وبنهج وعمل النبي وصحابته، والتابعين، وتابعي التابعين باعتباره يمثل نهج الإسلام الصحيح عندهم، والابتعاد عن كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، وعن كل ما أجمع عليه هذا السلف...

فإن الحداثة في سياقها العام هي تحديث وتجديد ما هو قديم في حياتنا ولم يعد قادر على مواكبة تطور الحياة وتجددها. وهو مصطلح يبرز كثيراً في المجال الثقافيّ والفكريّ موضوع دراستنا هذه.

وللنظر في قضيّة الخطاب السلفيّ وموقفه من الحداثة نقول: منذ أن أصدر الخليفة العباسيّ "المتوكل" عام (232) للهجرة، أوامره لرجال الدين بترك العقل والتوجه نحو النقل، مع فرض عقوبات صارمة أقرتها محاكم للتفتيش، شُكلت لمن يخالف هذه الأوامر، لم يعد هناك مجال تحت مظلة الخلافة الإسلاميّة في المشرق العربيّ منذ ذلك الوقت لأي نشاط فكريّ عقلانيّ خارج فهم النص الدينيّ المقدس للقوى السلفيّة التي فسرت وأولت هذا النص وفقاً لرؤيتها، وبما يخدم مصالحها ومصالح أسيادها من القوى الحاكمة. فعلى أساس هذا الموقف الفكريّ الجموديّ توقف الاجتهاد العقلانيّ من جهة، وتوقف الاشتغال فكريّاً على العلوم الأخرى (الوضعيّة) التي تناولها فلاسفة ما قبل مرسوم الخليفة المتوكل من جهة ثانيّة، واقتصر العمل الفكريّ بشكل عام على علوم الدين من حديث وفقه وعلم كلام اقتصر على الجانب العقيدي وتصوف وعبادات وغير ذلك. واعتبر أي خروج فكريّ عن هذه العلوم بدعة وضلالة، إن كان من حيث الاشتغال على الفكر الوضعيّ العقلانيّ، أو الخروج فكريّاً عن رؤية علماء الدين السلفيين في تفسير وتأويل النص الدينيّ المقدس، أو ما أَصَلَ له الشافعي في الفقه وأصوله، أو ما أصل له أبو حسن الأشعري والغزالي في علم الكلام. هذا مع تأكيدنا هنا، بأن هناك اتجاهاتٍ فكرّيةً عقلانيّةً محدودة راحت تتعامل مع النص الدينيّ وفهم الواقع إن كان في المغرب العربيّ، أو في الأندلس كابن حزم وابن رشد وابن خلدون وغيرهم، بالرغم من أن بعض هؤلاء المفكرين الفلاسفة لم يسلموا من الحسبة على ما طرحوه من أفكار عقلانيّة كان للبعد السياسيّ دوراً فيها، كما جرى لابن رشد وابن خلدون على سبيل المثال لا الحصر.

إذن نستطيع القول: منذ تاريخ المتوكل حتى سقوط الدولة العثمانيّة كان هناك حصار قد فرض على التفكير العقلانيّ الحداثي أو التنويريّ بشقيه الدينيّ والوضعيّ. ولا نستغرب أن علماء الأزهر وغيرهم في مصر قد اختلفوا في تاريخنا الحديث على النظر في مسألة السماح باستخدام (حنفيّة الماء) في الحياة العامة، فمنهم من رفضها باسم الدين واعتبارها بدعة، ومنهم من قبلها باسم الدين أيضاً، كدعاة الفقه الحنفيّ، ومن هنا جاء اسم (الحنفيّة) نسبة إلى المذهب الحنفيّ. ولا نستغرب أيضاً أن مشايخ الدين السلفيّ قد أفتوا بعدم صحة التعلم بالمداس الحكوميّة زمن محمد علي باشا عندما أسس الطهطاوي هذه المداس بأمر حكوميّ، الأمر الذي كان يدفع أولياء الطلاب بتوجه من مشايخ السلفيّة المتزمتة والجاهلة إلى ممارسات لا إنسانيّة بحق أعضاء أولادهم الجسديّة حتى لا يلتحقوا بهذه المدارس اللادينية. كقطع اليد أو الرجل أو فقع العين... الخ. (1).

على العموم مع بداية القرن التاسع عشر راحت تظهر توجهات عقلانيّة باتجاه العلم الحديث وخاصة في مصر محمد علىّ باشا، وفي تونس خير الدين التونسيّ، دون أن ننكر تلك الارهاصاتِ الأوليّةَ لهذا التحديث في المشرق العربيّ، كتجربتي فخر الدين المعنيّ في سورية، وطاهر باشا في العراق، إلا أن كلا التجربتين قد أجهضتا، وبقي لتجربتي محمد على باشا وخير الدين التونسي تأثيرها على تاريخنا الحديث والمعاصر. وراحت نتائجهما تظهر بوضوح في مصر مع الطهطاوي وتلامذته من جهة، ثم مع مدرسة جمال الدين الأفغانيّ ومحمد عبده من جهة ثانية. فهذه المدرسة التنويريّة الإسلاميّة راحت تتعامل مع مفردات أفكار الثورة الفرنسيّة، كالديمقراطيّة والحريّة والعلمانيّة وماهية الإنسان، والاجتماع المدنيّ، والمرأة، والقيم الإنسانيّة، والدولة، والتطرف، والتسامح وغير ذلك من مفردات وضعيّة، محاولين أسلمتها من خلال البحث عن نصوص دينيّة أو مواقف ذهنيّة لهذا الخليفة أو ذاك، أو لهذا الفقيه أو ذاك تتوافق مع مضمونها. فالديمقراطيّة وجدوا مرادفة لها وهي الشورى، والعدل والمساوة وجدوا له أحاديث وآيات وموقف ذهنيّة كموقف عمر بن الخطاب من قضية ابن عمر بن العاص والقبطي في قوله (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً).. والعلمانيّة وجدوا لها حديثاً للرسول وهو تأبير النخل.. وللمرأة وحريتها كان موقف عمر ابن الخطاب من المرأة التي حاججته وأخذ برأيها.. وهكذا دارت أمور التحديث. وبالرغم من أن هذا التوجه التنويريّ راح يتسع فيما بعد مع بناء الدولة الحديثة وتوسع التعليم المدنيّ في كل مراحله، ودخول الاختصاص الفلسفيّ في الجامعات. إلا أن شهوة السلطة في الأنظمة العربيّة التي تحولت إلى أنظمة شموليّة حاصرت أصحاب التوجهات الفكريّة التنويريّة وفسحت في المجال واسعاَ للتيار السلفيّ كي يمارس دوره في الوقوف بوجه التيار العلمانيّ التنويريّ، والتصدي لرجالاته ومحاصرتهم وتكفيرهم والتشهير بهم كونهم مارقين عن الدين، ولم يتوانوا أحيانا في التعدي على بعضهم أو تصفيته جسديّا.

أمام كل الذي جئنا عليه هنا، يظل السؤال المشروع يطرح نفسه علينا وهو: كيف الخروج من المأزق السلفيّ في خطابنا الفكريّ العربيّ المعاصر.

لا شك أن الإجابة على مثل هذا السؤال الإشكاليّ ليست وصفة طبية لمعالجة مرض فيزيائيّ يصفها طبيب لمرض شائع، وإنما المرض الذي نعاني منه هو مرض اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ وثقافيّ. فإذا كان المرض الاجتماعيّ يتجسد في البنية الاجتماعيّة المفوّتة حضارياً، أي التي لم تزل مسكونة بمرجعيات تقليديّة سيطرت عليها روح وعلاقات القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب، والكثير من القيم الأخلاقيّة التقليديّة المحكومة أيضاً بالعرف والتقليد والعادة، و هي قيم اتخذت الصفة المعياريّة وتعود إلى مئات السنين، أشبعت بقيم الدين التي لا يأتيها الباطل من بين بين يديها أو من خلفها، مع تأكيدنا أيضاً على انتشار الجهل والفقر والتخلف واستبداد الحاكم في الوجود الاجتماعي.  فالمرض الاقتصاديّ محكوم بدوره بقوى وعلاقات إنتاجيّة متخلفة وهجينة أو متعددة الأنماط، يسيطر عليها اقتصاد السوق البسيط أو الصغير على مستوى الداخل، والاقتصاد الريعيّ والاستهلاكيّ على مستوى التعامل مع الخارج، وإن وجد هناك أسواق صناعيّة في بعض الدول العربيّة، فهي أسواق صناعيّة تجمعيّة أو ذات اللمسات الأخيرة، ومعظم مكونات هذه الصناعة الأساسيّة مستوردة من الخارج. وهذا الواقع الاقتصاديّ المزري سينتج عنه بالضرورة اقتصاد متخلف غير قادر على تحقيق الاكتفاء الذاتي ، أو خلق أسواق قادرة على المنافسة مع الخارج ، وأخيراً غير قادر على إنتاج طبقة صناعيّة وطنيّة قادرة على وعي نفسها ودورها التاريخيّ، وبالتالي التخلص من سماتها وخصائها الكومبرادوريّة، وتحقيق إمكانيات قيادتها للدولة والمجتمع. أما على المستوى السياسيّ فغياب المجتمع المدنيّ، سيؤدي بالضرورة إلى غياب البنية السياسيّة العقلانيّة بحواملها الاجتماعيية المؤمنة بتداول السلطة والمشاركة السياسيّة ودولة القانون والمواطنة.. الخ. وبناءً على ذلك ظلت البنية السياسيّة مرتبطة بحوامل اجتماعيّة تقليديّة يسيطر عليها شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة في الوجود الاجتماعي، أو يسيطر عليها  الأمير والملك والزعيم والقائد الملهم وغير ذلك في الهرم السياسيّ. والملفت للنظر أن عدوى هذا المكونات السياسيّة التقليديّة انتقلت إلى الأحزاب التي تدعي التقدميّة والعلمانيّة حيث راح قادتها يخضعون لشهوة السلطة مما زاد في الطين بلّة بالنسبة لأزمة الخطاب السياسيّ في هذه الدول التي راحت تسير في خطابها السياسيّ كـِسيرِ (بول البعير)، أي الرجوع إلى الوراء. الأمر الذي كان وراء قيام ما سيمّي بثورات الربيع العربيّ التي كشفت عورات هذه الأنظمة وبينت مساوئها ومساوئ القوى المعارضة لها على السواء. أما بالنسبة للمسألة أو البنّية الثقافيّة، فقد أشرنا إلى تخلفها وهجانتها وسكونتيها ووثوقيتها وشفويتها واستسلام حواملها الاجتماعيين لما هي عليه، كما بينا دور القوى السياسيّة المتخلفة التي تدفع باتجاه تكريس هذا الثقافة المفوّتة حضاريّاً خدمة لمصالحها، يساعدها في ذلك مشايخ السلطان ومؤسساته الدينيّة والعديد من المثقفين والاعلاميين من المطلبين  والمزمرين الذي يعملون ليل نهار على تكريس التخلف وتغييب الفكر العقلانيّ التنويريّ، ومحاربة حوامله الاجتماعية، إما عن طريق سجنهم كأصحاب رأي أو دفعهم للهجرة خارج الوطن، أو تحريض مشايخ السلطان عليهم للتشهير بهم، تحت ذريعة الكفر والالحاد من جهة، أو الفسح في المجال للقوى الأصوليّة الجهاديّة على قتلهم والتنكيل بهم من جهة ثانية.

****

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- للاستزادة في هذا التوجه الأصولي ومقاومة الحداثة، راجع كتابنا: إشكالية النهضة في الوطن العربي من التوابل إلى النفط –  إصدار داري المدى والتكوين - دمشق .

تتصل المسؤلية المعرفية بأنشطة مثل: (1) جمع الأدلة، (2) النظر في الأحتمالات المضادة والتعامل معها، (3) التعامل مع الصراعات الداخلية في المعتقدات. عادةً ما ننتقد الأشخاص الذين لا تستند معتقداتهم إلى أدلة كافية، والذين لم يتحققوا من الاحتمالات ذات الصلة بما يعتقدون به، والذين يفشلون في القضاء على بعض تضارب المعتقدات. لكي يكون المرء مسؤولاً معرفيًا عما يعتقد به، يجب ألا يندرج تحت معايير أو قواعد معينة تحكم هذه الأنشطة أو تسيطر عليها. ماذا تتطلب المعايير؟ وبشكل أكثر تحديدًا: ما مقدار الأدلة الكافية للحصول على اعتقاد مبرر؟ ما هي الاحتمالات المضادة التي يجب على المرء التحقق منها؟ ما هي صراعات المعتقدات التي يجب القضاء عليها؟ نظرًا لأننا مهتمون بمنظور المرء المسؤول معرفيًا، فإن هذه الأسئلة تدور حول أكثر المعايير المعرفية العامة التي تميز هذا  المرء. لا تسمح قيود المساحة بمعالجة هذه الأمور بشكل كامل هنا، ولكن يمكننا تقديم  صورة مختصرة لشخص مسؤول معرفيا ستكون كافية للأغراض الحالية من خلال التركيز بشكل أساس على تلك المسؤوليات المعرفية والمعايير المرتبطة بها ذات العلاقة بفحص الاحتمالات المضادة.[1]

يمكن أن تتراوح المسؤولية عن التحقق من الاحتمالات المضادة للقضايا التي نعتقد بها في وقت معين من متطلبات صارمة للغاية تتوافق مع معيار يتطلب من الأشخاص التحقق منها بداية من جميع الاحتمالات المضادة الممكنة منطقيًا إلى المتطلبات المتراخية للغاية، حيث سيكون هناك، في الحد الأقصى، حرية كاملة للقيام بأي فحص. هناك بين طرفي النقيض مجموعة من المعايير المحتملة التي يتطلب التحقق منها  أكثر من الشخص أو أقل. إذا بدأنا بافتراض أن نوعًا من المطالب، مثل المطلب "الوسط" لا يناسب الممارسة المعرفية الفعلية فحسب، بل يمكن الدفاع عنه، فإن اقتراحًا واحدًا معقولاً لتحديد نطاق الاحتمالات المضادة التي يكون المرء مسؤولاً عنها معرفيًا يمكن وضعه بالصوغ التالي:[2]

المسؤولية المعرفية: يكون الشخص س  مسؤولاً معرفيًا عن تصديق بعض الافتراضات ب p في زمن  ت فقط إذا تحقق س من كل تلك الاحتمالات المضادة التي تشير اليها معتقداته.

دعنا نأخذ الفرد المسؤول معرفيا كنموذج مثالي للممارسة المعرفية البشرية الفعلية، ويكون بعيدًا عن بعض العوامل التي من شأنها أن تشوه حكمه كشخص مسؤول من الناحية المعرفية، وعليه يفترض، أولًا،  أن يطابق الشخص المسؤول من الناحية المعرفية معتقداته مع مجموعة المعايير المعرفية التي تتصل بها دائمًا ، تمامًا كما هو الحال في القانون،حيث "يجب ألا يٌعرًف الشخص العاقل مع أي شخص عادي قد يفعل أشياء غير معقولة أحيانًا؛ أنه شخص حكيم وحذر، وهو يرتفع الى مستوى المعايير دائمًا ".[3] ثانيًا، أن نتجاهل في وصف أنشطة الشخص النموذجي الذي ذكرناه أعلاه، السكر، والتخدير، والتعب، والتشتت، وغيرها من العوامل المثبطة التي من شأنها أن تضعف الحكم الطبيعي للشخص العادي. وثالثًا، لايقع الشخص النموذجي  تحت ضغط المواقف الطارئة الملحة التي من شأنها أن تتداخل مع تركيزه أو انعكاسها على بعض االقضايا أو المعتقدات التي تكون حالتها المعرفية موضع شك.

نريد أن يعكس شخصنا المٌتخيًل القدرات البشرية الطبيعية. تمامًا كما هو الحال في القانون، حيث يُتوقع من الشخص العاقل أن يتمتع بقدرات معرفية "طبيعية" للبشر، فيجب تشكيل نموذجنا الخاص بالشخص العارف بهذا المثال. يمكننا أن نبدأ بالإشارة إلى أن هناك كل أنواع الاستدلالات الاستنتاجية التي يتعذر على البشر العاديين القيام بها. وبالمثل للاستدلالات غير الاستنتاجية. إذا كان من المستحيل على البشر العاديين أن يقوموا في بعض هذه الاستنتاجات أو كانت غير قابلة للتنفيذ  فلا ينبغي أن نحمل الأشخاص المسؤولين عن الاحتمالات المضادة التي قد تتطلب منهم تقديم استنتاجات غير مجدية  وغير عملية ولا يمكن القيام بها بسهولة من مجموعة معتقداتهم السارية. نحن نتوقع من الناس أن يتوصلوا إلى استنتاجات من مجموعة معتقداتهم السارية تكون مجدية وعملية للبشر العاديين. وهنا يأتي دور الاعتبارات التجريبية التي تسفر عن نظريات الجدوى الاستنتاجية وغير الاستنتاجية كما يسميها تشيرنياك،[4] أو نظريات الوضوح كما يسميها كوهين،[5] لتلعب دورًا في المساعدة على وضع معايير مقبولة توفر ماهو ضروري للمعرفة لفحص الأحتمالات المضادة. علاوة على ذلك، نتوقع، عند تحديد مستوى المسؤولية المعرفية للتعامل مع الأدلة المضادة، أن يكون الأفراد قادرين على تذكر المعلومات ذات الصلة من الذاكرة، على الرغم من أننا لا نلزم الناس بمعايير الذاكرة التي تتجاوز ما هو ممكن للبشر العاديين. تساعد نظريات الاستدلال الممكن والذاكرة المجدية على تحديد مستويات المسؤولية المعرفية المناسبة للبشر العاديين أيضًا. دعونا نستخدم تعبير "الاحتمالات المضادة الواضحة" للإشارة إلى تلك الاحتمالات المضادة التي يمكن أن  يدركها إنسان عادي يتمتع بقدرات معرفية طبيعية. وبالتالي، يجب مراجعة اقتراحنا  بحيث يُطلب منا التحقق من بعض وليس كل تلك العلاقات المحتملة المضادة التي ينطوي عليها ما نعتقد، ويتم تحديد القيود المفروضة على التحقق من الاحتمالية المضادة جزئيًا من خلال وجهات نظرنا التجريبية حول القدرات المعرفية "الطبيعية" أو العادية.

لا يعني مجرد التحقق من كل تلك الاحتمالات المضادة الواضحة التي تتضمنها مجموعة المعتقدات الحاصلة في وقت معين أن المرء مسؤول معرفيًا، لأنه (1) قد يفتقر إلى معلومات عامة مفترض أن يعرفها أي شخص أو (2) ) التقصير في الحصول على أدلة لها علاقة بقضية أو مطلب معين. (هذا هو المكان الذي تلعب فيه المسؤوليات المتعلقة بجمع الأدلة للشخص المسؤول معرفيًا). هناك أشياء معينة، فيما يتعلق بالمعلومات العامة التي يفترض يعرفها المرء، يُتوقع أن يعرفها أي فرد، حيث نعتمدها فيما يتعلق بظواهر اجتماعية مثل التجربة المشتركة ( كحرائق الغابات والماء سوف يغرق مثلا، وعدد لا يحصى من المعلومات الأخرى)، والخبرات التعليمية المشتركة على نطاق واسع (مثل، الحقائق الأولية حول العلوم الفيزيائية، والتاريخ، وما إلى ذلك)، والمعلومات التي تم جمعها من خلال وسائل الإعلام. ينعكس مطلب المعرفة العامة هذا في عقيدة الشخص العاقل: " فهناك حد أدنى من المعرفة، بناءً على ما هو مشترك في المجتمع"،[6] يمتلكه الشخص العاقل وبالتالي يجب ان يمتلكه الأشخاص العاديون.

فيما يتعلق بالمعلومات الخاصة التي تتعلق ببعض الادعاءات أو المعتقدات على وجه التحديد  فإن ما هو مشترك بين المجتمع يساعد في تحديد مدى مسؤولية الشخص عن إدراك تلك المعلومات عادةً.  وقد حاجج سوسا وآخرون،[7] في إننا عادة ما نتحمل المسؤولية عن المعلومات التي تمثل الاحتمالات المضادة والمعروفة عمومًا في مجتمعنا وجهلنا بهذه المعلومات ليس عذرًا. تعكس هذه الحقيقة التي تتعلق بممارساتنا المعرفية أهمية فكرة وجود بُعد اجتماعي للمسؤولية المعرفية. ويلعب هذا البعد دورًا مهمًا في الصورة السياقية للمسؤولية المعرفية كما سأتناوله في دراسة لاحقة  في سلسلة نقاشنا المعرفة الأخلاقية  ووضعيتها السياقية.

يمكننا إعادة صياغة المسؤولية المعرفية لتعكس النقطة المتعلقة بالمعلومات المتاحة اجتماعيًا وكذلك  المتعلقة بوضوح الاحتمالات:

المسئولية المعرفية: الشخص س المسئول معرفيًا عن تصديق بعض الدعوى ب في الوقت ت فقط إذا قام س بالتحقق من كل تلك الاحتمالات المضادة الواضحة التي يُشار إليها من خلال مجموعة مناسبة من المعتقدات في ت.

كنت منخرطًا حتى حتى الآن في ما أعتبره مشروعًا لوصف سمة مهمة من تقييماتنا المعرفية اليومية الفعلية. لكنني أعتقد أيضًا أن هناك سببًا وجيهًا للنظر في المعايير الأخرى المتصلة في الموضوع.  أفكر هنا في الأساس المنطقي البراغماتي الذي ينظر إلى المعايير المعرفية من حيث هدفها  لنا  كبشر. باختصار، أن الأساس المنطقي هو: نظرًا لأننا مخلوقات محدودة ذات موارد معرفية محدودة ولدينا أنواع من الأهداف غير المعرفية في الحياة، فنتوقع أن تعكس أي معايير معرفية مفيدة حقًا مثل هذه الحقائق. لقد صغنا الآن المسؤولية المعرفية  بوضوح بحيث تعكس قدراتنا المعرفية المحدودة. علاوة على ذلك، لا تتطلب معاييرنا المعرفية منا أن نكرس قدرًا كبيرًا من الوقت للتحقق من ادعاءاتنا ومعتقداتنا بحثًا عن خطأ محتمل، بل تتطلب فقط أن نقضي قدرًا "معقولًا" من الوقت في القيام بذلك، وأننا لسنا كائنات فكرية بحتة اهتمامها الوحيد امتلاك مخزون من المعتقدات الحقيقية.[8] فالحياة قصيرة وهناك أشياء أخرى يجب القيام بها. نظرًا للحاجة إلى بعض المعايير المعرفية، ولما نحن عليه (بما في ذلك القيود)، يبدو أن المعايير كالمسؤولية المعرفية هي  نوع المعايير التي نريدها ونتوقع أن تكون فعالة في الحياة اليومية. لذلك، بمجرد أن نفكر في المعايير بهذه المصطلحات البرغماتية، يمكننا أن نرى أن أنواع المعايير التي نميل إلى استخدامها هي تلك التي يوجد لها أساس منطقي جيد.

أخيرًا، قبل مغادرة  قضية هذه الدراسة ، أود أن أطرح سؤالًا يتعلق مباشرة بصطلح المسؤولية المعرفية، إن  هذا المصطلح أوسع من مفهوم الاعتقاد المبرر. لكي يكون الفرد مبررًا معرفيًا بشكل إيجابي في الاعتقاد هي أن يكون له أسبابًا إيجابية كافية لهذا الافتراض. لا يتطلب كون المرء مسؤولاً معرفيًا عن اعتقاد ما أن يكون مبررًا التمسك بهذا الاعتقاد بالضرورة. لذلك، قد نتساءل، في ضوء توصيفنا للمسؤولية المعرفية، عما إذا كان المرء مطالبًا دائمًا بالحصول على أسباب مبررة لجميع المعتقدات التي يحملها، ويتمسك بها دون أن يكون غير مسؤول من الناحية المعرفية. ربما تلعب بعض المعتقدات التي لا يكون المرء غير مسؤول في التمسك بها في بعض السياقات دورًا معرفيًا في تبرير معتقدات أخرى لا تحتاج في حد ذاتها إلى تبرير. وسواء كانت هناك حالات كهذه أم لا، سيعتمد ذلك على المعايير والممارسات المعرفية للشخص المسؤول إبستمولوجيًا. قد يكون الأمر كذلك،  حيث في النهاية وفي بعض السياقات نحن مسؤولون معرفيًا عن اعتناق معتقدات معينة يمكن أن تكون بمثابة أساس للاحتفاظ بمعتقدات أخرى، حتى لو لم تكن لدينا أسباب مبررة لتبرير المعتقدات المعنية.

أعتقد أن هذا هو الحال بالفعل وأن نوع المنطق العملي الذي تم رسمه للتو للدفاع عن المسؤولية المعرفية  يمكن توسيعه لتفسير سبب ممارساتنا المعرفية على هذا النحو. باختصار لدينا أهدافًا غيرمعرفية، وأننا غير قادرين على تذكر كل ما تعلمناه، وأن أي مسعى فكري يستغرق وقتًا، لا ينبغي لنا قضاء الوقت في التحقيق وجمع الأدلة لجميع معتقداتنا؛ فلا نتمكن من القيام بذلك. ليس لدينا خيار سوى الاعتماد على جميع أنواع المعتقدات والمهارات والقدرات التي نمتلكها عندما ننخرط في أي مسعى فكري. وبالتالي، فإن التفكير في حالتنا  النهائية يجعل من المعقول افتراض أن المرء مسؤول معرفيًا عن اعتقاد معين ما لم تكن هناك أسباب ملموسة للشك.[9]

وهذا يسمح بأن يكون المرء مسؤولاً عن تصديق بعض الافتراضات حتى لو لم يعد لديه ، أو في الواقع ، لم يكن لديه أبدًا، دليل إيجابي من النوع الذي يمكن أن يكون بمثابة أسباب مبررة للقضية المعنية. إن الفكرة القائلة بأن المرء قد يكون مسؤولاً معرفيًا في التمسك بمعتقدات معينة دون الحاجة إلى تبرير هي أمر أساسي للسياقية البنيوية. دعونا ننظر في هذه الأطروحة بمزيد من التفصيل في الدراسة القادمة .

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

………………….

[1] يبدو أن المسؤوليات المتعلقة بجمع الأدلة تنبع في الغالب من مسؤوليات التعامل مع الاحتمالات المقابلة ذات الصلة. علاوة على ذلك ، فإن أنواع المعايير التي تحكم القضاء على التناقضات الداخلية مماثلة في الشكل لتلك الخاصة بإلغاء الاحتمالات المضادة. أنظر:

C. Cherniak, Minimal Rationality (Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1986), chapter 1.

[2]للدفاع عن مبدأ مشابه يسميه "شرط الأسباب الخاصة". الكثير من نقاشي حول المسؤولية المعرفية متأثر بـجميك، أنظر:

C. Cherniak, Minimal Rationality , chapter5 .

[3] W. P. Keeton, D. B. Dobbs, R. E. Keeton, and D. G. Owen, Prosser and Keeton on The Law of Torts, 5th ed., (St. Paul, Minn.: West Publishing Co., 1984), 175.

[4] Chemiak, Minimal Rationality, chapter 2.

[5] أنظر:

Cohen, "Knowledge, Context, and Social Standards."

[6] Keeton et al., The Law of Torts, p. 184.

[7] انظر:

Sosa, "How Do You Know?" and "Knowledge in Context."

[8] ما يعتبر قدرًا "معقولًا" من  زمن  حساس للسياق ، وسيعتمد على عوامل مثل مدى أهمية وجود معتقدات صحيحة حول بعض الموضوعات في بعض المناسبات بالإضافة إلى مهنة الفرد ( أن مستوى اهتمام الفرد في التعامل مع ستكون الاحتمالات المضادة أعلى من المعتاد إذا كان الفرد عضوًا في مهنة خاصة وظيفتها الحصول على معلومات دقيقة حول بعض الموضوعات).

[9] أنظر  ملاحظة بيرس  في:

C. S. Peirce, Collected Papers (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1932),358.

 

Heidegger et Dieu

بقلم: مجموعة من الكتاب

إعداد وتقديم وترجمة د. جواد بشارة

***

توطئة: هل يمكننا بالعقل وحده معرفة الحقيقة: وهل الذكر والتعبد يكفي لإثبات وجود الله؟ لن تكون الفلسفة وحدها قادرة على إحداث أي تأثير فوري يغير الوضع الفكري القائم حالياً لدى البشرية في العالم.

المقدمة: هيدغير والوجود الإنساني

ﺍﻧﻄﻠﻖ ﻫﻴﺪﺟﺮ ﻣﻦ ﺩﺭﺍﺳﺔ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ‏وماهو حوله (ﺍﻟﺬﻱ ﻫﻮ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ‏) ﻟمعرفة ﻣﺎﻫﻴﺔ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ، ﺣﻴﺚ ﻳﺮﻯ ﺑﺄﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻫﻮ ﻛﺎﺋﻦ ﻣﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﻣﻌﻨﻰ ﺫﻟﻚ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﻮﺍﺟﺪ ﺿﻤﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻤﺎﺩﻱ ﻷﺷﻴاء ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻟﻜﻨﻪ ﻳﺨﺘﻠﻒ ﻋﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻷشياء ﺑﺘﻤﻴﺰﻩ ﺑﺨﺼﻮﺻﻴﺎﺕ ﻭﻣﻨﻬﺎ ﺫﺍﺗﻴﺘﻪ ﻭﻓﺮﺩﻳﺘﻪ، ﻛﻤﺎ ﺃﻧﻪ ﻳﺘﻮﺍﺟﺪ ﻣﻊ ﺫﻭﺍﺕ ﺁﺧﺮﻯ ﺗﺸﺒﻬﻪ ﻭﺗﺨﺘﻠﻒ ﻋﻨﻪ؛ ﺃﻱ ﺃﻥ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻟﻴﺴﺖ ﺫﺍﺗﺎً ﻣﺴﺘﻘﻠﺔ ﺗﻤﺎﻡ ﺍﻻﺳﺘﻘﻼﻝ، ﺑﻞ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﻜﺲ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻫﻲ ﺗﺘﻮﺍﺟﺪ ﻣﻊ ﺫﻭﺍﺕ ﺁﺧﺮﻯ؛ ﻓﺎﻹﻧﺴﺎﻥ ﺣﺴﺐ ﻫﻴﺪغر ﻳﺘﻤﻴﺰ ﺑﻮﺟﻮﺩﻳﻦ : ﻭﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﻭﻭﺟﻮﺩ ﻣﻊ العالم أي مع ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﺇﺫ ﻗﺴﻢ ﻫﺎﺫﻳﻦ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩﻳﻦ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻭﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺰﺍﺋﻒ .

ﻭﻗﺪ ﺃﻭﺿﺢ ﻫﻴﺪغر ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺨﺺ ﺗﺼﻨﻴﻔﻪ ﻟﻠﻮﺟﻮﺩ ﺑﺄﻥ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻣﻊ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻳﺘﺠﻠﻰ ﻓﻲ ﻛﻮﻥ ﺍﻷﻧﺎ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ الذي ﻳﻌﻴﺶ ﺑﻴﻦ ﺍﻷﺷياء ﻭﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻭﻳﻤﺘﻠﻚ ﻣﻦ ﺍﻹﻣﻜﺎﻧﺎﺕ ﻭﺍﻟﻄﺎﻗﺎﺕ ﻣﺎ ﻳﻤﻜﻨﻪ ﻣﻦ ﺭﺑﻂ ﻋﻼﻗﺎﺕ ﺇﻳﺠﺎﺑﻴﺔ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ ﺍﻟﺨﺎﺭﺟﻲ، ﻭﻣﻦ ﺗﻘﺎﺳﻢ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﻣﻊ ﻏﻴﺮﻩ ﻣﻦ ﺍﻟﺬﻭﺍﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻣﻮﺿﺤﺎً ﺃﻧﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﻘﺪﺭﺍﺕ ﺍﻟﺘﻮﺍﺻﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻪ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩﻳﺔ ﻣﻊ ﺍﻵﺧﺮ، ﺇﻻ ﺃﻥ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﻳﺤﻤﻞ ﻭﺟﻬﺎﻥ ﻣﺘﻨﺎﻗﻀﺎﻥ، ﻭﺍﺣﺪ ﺳﻠﺒﻲ ﻭﺍﻵﺧﺮ ﺇﻳﺠﺎﺑﻲ، ﻭﺫﻟﻚ ﺗﺒﻌﺎً ﻟﻸﺳﺎﻟﻴﺐ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻬﺠﻬﺎ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺗﻪ، ﺣﻴﺚ ﻳﻌﺘﺒﺮ ﺍﻟﺠﺎﻧﺐ ﺍﻹﻳﺠﺎﺑﻲ ﺃﺳﻠﻮﺑﺎً ﺃﺻﻴﻼ ﻭﻳﺸﻜﻞ ﻧﻘﻴﻀﻪ ﺍﻷﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺰﺍﺋﻒ، ﺇﺫﻥ ﻓﺎﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻋﻠﻰ ﺣﺪ ﻗﻮﻝ ﻫﻴﺪغر، ﻳﻨﻄﻠﻖ ﻣﻦ ﺗﺤﻤﻞ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻟﻤﺴﺆﻭﻟﻴﺎﺗﻪ ﻭﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺗﻪ ﻭﻗﺪﺭﺗﻪ ﻋﻠﻰ ﺍﺗﺨﺎﺫ ﺍﻟﻘﺮﺍﺭﺍﺕ ﺑﻮﻋﻲ ﻛﺎﻣﻞ ﺑﺎﻷﻭﺿﺎﻉ ﻭﺍﻟﻈﺮﻭﻑ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﺤﻴﻂ ﺑﻪ .

ﺃﻣﺎ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﺰﺍﺋﻒ، ﻓﻴﺮﻯ ﻫﻴﺪغر ﺃﻧﻪ ﺍﻟﻮﺟﻮﺩ ﺍﻟﻨﻤﻄﻲ ﺍﻟﻐﺎﺭﻕ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮ، ﺣﻴﺚ ﻳﻨﻔﺼﻞ ﺍﻟﺸﺨﺺ ﻋﻦ ﺍﺧﺘﻴﺎﺭﺍﺗﻪ ﺍﻟﺬﺍﺗﻴﺔ ﻭﺇﻣﻜﺎﻧﻴﺎﺗﻪ ﺍﻟﺨﺎﺻﺔ، ﻭﻳﺼﺒﺢ ﺗﺎﺑﻌﺎً ﻹﺭﺍﺩﺍﺕ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ، ﻓﻴﺴﻘﻂ ﻓﻲ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻻﻏﺘﺮﺍﺏ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻌﺰﻝ ﻓﻴﻬﺎ ﻋﻦ ﺫﺍﺗﻪ ﻭﻳﺘﺤﻮﻝ ﻭﺟﻮﺩﻩ ﺇﻟﻰ ﺷﻲﺀ ﻏﺮﻳﺐ ﻋﻨﻪ؛ ﻓﺎﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻴﻮﻣﻴﺔ ﻋﻠﻰ ﺳﺒﻴﻞ ﺍﻟﻤﺜﺎﻝ ﺗﻔﺮﻍ ﺍﻟﺬﺍﺕ ﻣﻦ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻭﺗﺼﺒﺢ ﻣﻬﺪﺩﺓ ﻣﻦ ﻃﺮﻑ ﺍﻵﺧﺮﻳﻦ ﻭﻻ ﺗﺸﻌﺮ ﺑﻮﺟﻮﺩﻫﺎ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ..

الله والوجود أم الكينونة والله؟

هذا موضوع شغل التفكير في العصور القديمة سواء في الشرق أو الغرب لدى الحضارات اليهو- مسيحية أو الإسلامية التوحيدية أو الوثنية، ولكن يبدو إن الفكر الغربي المعاصر قد أهمله نوعاً ما.  ولكن قبل أن نبتعد قليلاً عن علاقة فكرة الوجود وفكرة الله من الأهمية بمكان معرفة أصل الحضارة الغربية وعلاقتها بالدين، وأن ندرك ونفكر مرة أخرى في انتمائنا المزدوج إلى حقيقة الوجود كما كشف عنها الفيلسوف الإغريقي باراميندس وأفلاطون والفلسفة اليونانية القديمة كنقطة انطلاق ومن ثم تناول الأطروحة التوراتية في العهد القديم وقصة موسى والتوحيد من زاوية العلم كما تناولها سيغموند فرويد وتعاطي بقية الأنبياء لغاية المسيح عيسى بن مريم ومحمد ". بين قطبي تأثير العبرية والهيلينية هذين يتحرك عالمنا ومن هذا اللقاء المفترض ينجم فكر جديد عن الوجود يحفر التفكير بالوجود من منظار الفكر الديني.

من البديهي القول برأي أغلب الفلاسفة المعاصرين إن مارتن هايدغر هو بلا شك الرائد الرئيسي لمحاولة تجديد مسألة الوجود وإعادة قراءة التقليد الميتافيزيقي كتاريخ للوجود، وعلى نحو أكثر دقة، كتاريخ للنسيان. فالوجود من التطرف والتعقيد بمكان بحيث لا يمكن لقرن الأزمة هذا أن يصل إلى أجوبة لهذه السمة الراديكالية للوجود. فهناك بلا شك تفكيك حاسم " للهيكل الموجود" والطافح على سطح الميتافيزيقيا ومنطقها مما يدل على عدم ملائمة هذا المنطق للحقيقة التي يحاول تعريفها.

بعد ذلك سوف نعثر لدى هيدغر على دعوة لعمل "خطوة إلى الوراء" للشروع في بداية جديدة أخرى بدءاً من الشعراء ومن الفكر السائد ما قبل سقراط ومن اهتمام أكثر جوهرية بحقيقة الوجود، كما نراه يتألق في الوجود الإنساني والإبداع الفني. أخيراً أعلن هيدغر، الذي حرر الفكر من قبضة العقلانية التكنولوجية، عن تحرير الإنسان نفسه وتحرير الكائن الذي يتحداه. صدفة غريبة بين هذه اللفتات التحررية وتلك الخاصة بالفكر الديني، والتي ولدت أيضا من الأزمة أزمة نفسية متعطشة بنفس القدر إلى حقيقة أكثر أصالة وإلى دعوة لإعادة قراءة التقاليد، حيث يضعنا هيدغر وجهاً لوجه مع سؤال لا يمكن تجنبه ويجعلنا عقبة أمام الحلول الموجزة: ما هي العلاقة بين أن يتم كشف النقاب عن طريق الأنطولوجيا الجديدة وبين الله؟

فهيدغر المستهدف باستجواب ديني جديد، وتماشياً مع أسلوب تفكيره، ترك لنا سؤالاً مفتوحاً وليس خاتمة أو أطروحة ناجزة. ما هو مطلوب منا هو الاستماع إلى هذا السؤال فمثل هذا الاستماع يمكن أن يقود مفكري الوجود ومفكري الله أيضًا إما لاتفاق، وإما لاختلاف ومعارضة أو تعارض، أو لعدم التفكير في السؤال الهيدغري نفسه. بطريقة لا مفر منها لطبيعة هذا السؤال، حتى لو أدت المواجهة إلى طريق مسدود. أولئك الذين يأخذون الكلمة في هذا النقاش ليسوا كلهم من أتباع الفكر الهيدغري. وربما تكون هذه التعددية في الأصوات هي التي تكمن في مصلحة هذا الاجتماع.

إن عواقب استجواب جديد للوجود بالنسبة للفكر الديني لم يتم استكشافها بالكامل؛ لكننا نأمل أن تمثل النصوص في هذه المجموعة الخطوة الأولى في تساؤل أكثر جذرية، وهو الانفتاح والحوار.

هل تغير موقف هيدغر الديني؟ وهل صحيح إنه في السنوات الخيرة من حياته انتبه إلى ضرورة وجود " إله مخلّص" إله ينقذ الوجود من شقائه مع الكائنات؟ وهل يتعارض مع الجهد المبذول للتفكير في الله من قبل هيدغر؟ لم تكن رباعية هيدغر، الأرض، السماء، البشر والآلهة خاصة بالهيلينية، بل الشكل الذي يتخذه العالم البشري، حتى في الكتاب المقدس، علماً إن هذا الأخير موضوع يتجاهله هيدغر في تأمله. من ناحية أخرى، إذا تم النظر إلى الممكن على أنه ملف البعد الذي من خلاله يتم تحديد الوجود والعدم أولاً، كما يقترح هيدغر، إذن فالمطلوب مراجعة جادة لأفكارنا عن الله ولغتنا اللاهوتية. بالنسبة إلى هيدغر، يتباعد اللاهوت وفكرة الالتقاء حول نقاط محددة، مثل العلاقة بين الهدوء الهيدغري والأمل أو الخلاص اليهودي المسيحي، ثم يتباعدان حسب زاوية التفكير بإظهار الاختلافات في التركيز وفي الاهتمام بين البحث الصوفي ومسار الحادثة. للعودة إلى سؤال أكثر جوهرية من مسألة الكينونة، السؤال الأخلاقي الذي يقاوم أي جهد لإعادته إلى أصل الوجودية وخارجها حيث لا يجد الوجود لنفسه أي مبرر. بحجب أسبقية المصير، نحن نغفل عن ما يمكن أن يربط معنى الرسالة الكتابية (والتي لا ينبغي اختزالها في "الإيمان، غير قابل للتواصل) بالمعنى الأنطولوجي الذي جعل هيدغر نفسه مترجمًا له. إن ما يُدعى خطأً "على المنطق" قد حمى سمو الله وعدم قابليته للتعبير عنه أفضل بكثير مما يُعتقد. كان دور مفهوم الوجود في اللاهوت المسيحي معقدًا للغاية ولا يمكن "التغلب عليه" بسهولة. ربما تكون "الخطوة إلى الوراء" التي ندعوا إليها اليوم أكثر راديكالية مما يوحي به النموذج الهيدغري.

سوف نفهم أن هذا الازدهار غير المتوقع لوجهات النظر المتنوعة لا يسمح باستنتاجات نهائية. شاهد الحوارات اللاحقة التي قمنا بترجمتها: في الجزء الثالث من هذه المجموعة. يتهم توني أوكونور علماء اللاهوت الذين ألهمهم هيدغر بالتقليل من خطورة أزمة مؤسسة الرب. يبدو أن فكر ليفيناس، المستوحى من الأساليب الكتابية لإظهار الله، واعد أكثر لبناء خطاب ديني معاصر. في المقابل، يسعى باتريك هيدرمان للدفاع عن هيدغر ضد انتقادات ليفيناس، مشيرًا إلى أن هيدغر أدرك أهمية الاستماع.

التفكير بالألوهية:

يقول بول ريكور:" ما أدهشني كثيرًا مع هيدغر هو أنه، على ما يبدو، تجنب بشكل منهجي المواجهة مع كتلة الفكر العبري. كان يفكر أحيانًا من الإنجيل ومن اللاهوت المسيحي؛ لكنه يتجنب دائمًا الكتلة العبرية، وهو الغريب المطلق فيما يتعلق بالخطاب اليوناني، فهو يتجنب الفكر الأخلاقي بأبعاده المتعلقة بالآخر وبالعدالة، والتي تحدث عنها ليفيناس كثيرًا. إنه يتعامل مع الفكر الأخلاقي بإيجاز شديد باعتباره فكرًا ذا قيمة، مثلما قدمه الفكر الكانطي الجديد، ولا يدرك اختلافه الجذري عن الفكر الأنطولوجي. يبدو لي أن سوء الفهم هذا موازيًا لعجز هيدغر عن اتخاذ "خطوة إلى الوراء" بطريقة تسمح لنا بالتفكير بشكل مناسب في جميع أبعاد التقليد الغربي. ألا تتطلب مهمة إعادة التفكير في التقليد المسيحي من خلال "خطوة إلى الوراء" أن ندرك البعد العبراني الجذري للمسيحية، والذي يتجذر أولاً في اليهودية وبعد ذلك فقط في التقليد اليوناني؟ لماذا تأمل فقط في هوديرلان وليس على المزامير؟ "

في " هيدغر وعلم اللاهوت" يقول جون بوفريه" يدعونا هذا السؤال إلى العودة إلى المناقشات الأولى التي أثارها نشر كتاب الوجود أو الكينونة والزمن Sein und Zeit، أي فيما يتعلق بفرنسا، في اجتماع الجمعية الفلسفية الذي انعقد في الرابع من ديسمبر 1937، برئاسة ليون رونتشفيك، الجلسة التي دُعي إليها هيدغر رسميًا، كما تشهد رسالة منه نُشرت في النشرة! توثق مساهمته لكنه لم يحضر 'بسبب عمل' الفصل الدراسي الحالي 'العمل المعني كان موضوعه جين الفلسفة  الأساسي Grundfrp. gen der Philosophie، أعلن اليوم كمجلد 45 من الأعمال الكاملة Gesamtausgabe. إذا كان غياب هيدغرHeidegger، الذي جاء إلى باريس فقط للمرة الأولى والوحيدة في عام 1955، بمناسبة وفاة Cerisy، كان الدافع الوحيد لهذا العمل؛ في ذلك الوقت، رحلة من جانبه خارج ألمانيا لم يواجه أي صعوبات أخرى. لا تزال هناك حقيقة تاريخية: ضيوف هيدغر في عام 1937 تحملوا بمرح، وبعد ثماني سنوات، إقالته من الجامعة بناءً على طلب سلطات الاحتلال الفرنسي: في تلك الجلسة لم يكن موضوع اللاهوت هو المحوري بل التفكير في الله. كان هيدغر يلتف على الموضوع من خلال الالتفاف على كيركيغارد Kierkegaard. كان هذا هو السؤال الشائك الذي كان رائجًا آنذاك حول العلمنة المزعومة لهيدغر من قبل غاسبرز- (كما يقول ريومور سيباستوبول) عن فكر كيركيغارد. بعد عشر سنوات، ما زال أحد أصدقائي يقول لهايدغر (ذات يوم كنا نحن الثلاثة نسير في غابة بالقرب من زاهرينجن): "ما يقولونه عنك في فرنسا هو أنك قبل كل شيء، علمنت فلسفة كيركيغارد. "لا يزال بإمكاني سماع رد هيدغر المبتهج:" ("لكن كيف يمكنني أن أعلمن فلسفة حيث لا توجد فلسفة؟") هذا ما كتبه هيدغر بالفعل إلى غاسبرز. ودوّن في عام 1937. وجود الإنسان: لكن مسألة كونك تطرح هذا السؤال الوحيد الذي يطرحه كتاب الوجود والزمن Sein und Zeit، لم يتعامل معه Kierkegaard أكثر من نيتشه، وقد تجاوزه غاسبر Jaspers تمامًا. بعد بضع سنوات، سيقول هيدغر بشكل أكثر وضوحًا في نص مُدرج في كتابه نيتشه: "كيركيغارد، الذي ليس لاهوتيًا ولا ميتافيزيقيًا، على الرغم من أنه جوهر كليهما في نفس الوقت دعونا نفهم أنه يجمع بشكل رائع بين "الشغف اللاهوتي" (المرجع نفسه، 477) مع العمى الكاذب لدى الميتافيزيقيا لمسألة "حقيقة" الكينونة مثل الانطلاق من الميتافيزيقيا، سوف يسعى هايدغر إلى تطويرها إلى "العودة إلى قلب الميتافيزيقيا" ولكن بعد ذلك، من هو Kierkegaard؟ هو يقول ذلك بنفسه (كما يتذكر Holzwege هولزفيغ،. "كنت ومازلت مؤلفًا دينيًا"، بمعنى أن "نشاطي ككاتب عن كل شيء يتعلق بالمسيحية، بصعوبة أن تصبح مسيحيًا، بأهداف جدلية مباشرة وغير مباشرة ضد هذا الوهم الهائل الذي هو النصرانية Christlichkeit، وبعبارة أخرى الادعاء بأن جميع سكان بلد ما هم مسيحيون مثلهم ". علاقة كيركيغارد بهيغل تعرض بالكامل في هيدغر وعلم اللاهوت 2 - أحد تلك "الأهداف الجدلية" حيث يقدم نفسه على أنه "خصم" لهيغل الذي خيب آماله، بينما كان ينتظر أن يكون مقلبًا من الدرجة الأولى، والذي لا يمنعه من البقاء تحت التبعية تمامًا للمثالية الألمانية التي حصل منها على الأطروحة القائلة بأن أساس الأشياء يتألف من الذاتية، بينما يتنفس المرء هواء العصر. أعلن في عام 1846 في حاشية الفتات الفلسفية: "تلك الذاتية والداخلية هي الحقيقة، هذه أطروحتي". وهي، في الواقع، أطروحة هيغل. إن هيغل بالفعل، وليس كيركيغارد، هو الذي أعلن في دورة برلين في فلسفة التاريخ، الذي كرر عدة مرات من 1822 إلى 1831 من تقريره حين كتب، "كان هذا! الطرح هو حل صالح لكل شيء بالنسبة لهيغل، لا يتلقى كيركيغارد فقط أطروحة أسبقية الذاتية، التي من المفترض أن تعطي المسيحية تفسيرًا أكثر جذرية من هيغل، ولكن أيضًا الرؤية الهيغلية للعالم اليوناني باعتباره الطفولة السعيدة للبشرية، أنه، من الناحية الفلسفية، يلتصق بديهياً من ناحية بوجهة نظر الذاتية ومن ناحية أخرى بتفسير غير نقدي للفكر اليوناني. وهي الأطروحة "التي لا تخضع بأي حال من الأحوال لمدرسة القرون الوسطى" كل هذا لا يمنع بأي حال من الأحوال قيام نيتشه وكيركيغارد بعمل مذكرة الاكتشافات التي وصفها بأنها غير حكيمة بعض الشيء كالكذب في "علم النفس (مثل المزيد في أواخر نيتشه، لكنها كانت موضة) والتي سيتعجب منها هيدغر. من هناك إلى الادعاء بأن الوجود والزمن أو الكينونة والزمن Sein und Zeit كـ "علمنة الفكر الكيركيغاردي هناك هاوية. ولماذا، أطلق كتاب كارل بارث، ولكن في الاتجاه المعاكس، على رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية لن يخضع لنفسه نوع الخصم ذاته؟ أن هيدغر وبارث قرأوا قراءة واحدة والآخر كيركيغارد بالذوق والربح كما يقولون، لم يترددوا في قول ذلك، فقط حكم مسبق في نظر الأدباء على الأسئلة التي كانت في أصل تفكيرهم.

ومع ذلك، إذا تخلينا عن الالتفاف عبر كيركيغارد باعتباره خارج السؤال، فإن "صعوبة أن تصبح مسيحيًا" ليست بأي حال من الأحوال مقدمة للفلسفة، فهي تعلق أهمية أكبر على حلقات واحدة من مقابلات ندوة Cerisy.

وكما أتذكر بشكل صحيح، الخميس 4 سبتمبر1955. خصصت جلسة ذلك اليوم بأسرها للأسئلة أو الاعتراضات التي وجهها الجمهور إلى هيدغر. في هذه المناسبة، صاغ بول ريكور سؤالاً أو اعتراضًا على "التراث العبري" بما في ذلك محاضرة تمهيدية عن: ما هي الفلسفة؟ بدا له أنه لا يتفوه بكلمة واحدة. ليس هناك سؤال (لقد أعدت تكوين مداخلة ريكور وفقًا لملاحظاتي) "لا عن الكائنات ولا عن الكينونة ولا حتى عن" ما هو اليوناني "الذي يتساءل بامتياز. ولكن هناك دعوة، سواء كانت دعوة تجوال موسى أو اقتلاع إبراهيم. هل يمكن استبعاد مثل هذه الدعوة، التي هي ليست يونانية، من الفلسفة؟ ترجمة الكتاب المقدس إلى اليونانية، والمعروفة باسم ترجمة الترجمة السبعينية، أليس هذا حدثًا لا يُسبر غوره في القاعدة من ثقافتنا؟ ما الذي، في الفلسفة، يحمل استجوابًا؟ وهل يمكن أن يكون الوجود دون أن يكون الكائن الأول؟ أو، على العكس من ذلك، ألا يكون الكائن الأول هو نفسه تمامًا ومصدر إشعاع لكينونة الكائنات؟ أجاب هيدغر: "هنا تتطرق إلى ما أسميته الطابع" اللاهوتي "للميتافيزيقيا والذي تعاملت معه كثيرًا. هل من الضروري حقًا في هذا الموضوع ربط الفلاسفة بالأنبياء، كما تقترح؟ أنا مقتنع بأنه بالنسبة لأي شخص ينظر إلى الأشياء عن كثب، فإن تساؤل أرسطو - سواء كان، كما سنقول لاحقًا، وجوديًا أو لاهوتيًا - له جذوره في الفكر اليوناني. وليس له علاقة بالدوغماتية الكتابية ". كما قال هايدغر بالفعل عن الشعارات وتفسيرها بهذه الطريقة، لا يصرح هيدغر بأنه حصري لكنه يظهر أقصى درجات الحذر تجاه سؤال: هل يمكننا حقًا، على أساس الفلسفة، الجمع بين المساهمة اليونانية والمساهمة التوراتية حيث تيس القديمة ما هي المساهمة اليهودية على وجه التحديد؟ لمن يرى الأشياء من بعيد يبدو أن الندوة لا تقدم أي شيء قدر المستطاع ربما كان الأمر مطروحاً بالفعل من العصور الوسطى ثم من الفلاسفة المعاصرين. ومع ذلك، فالأمر ليس كذلك بل أكثر من ذلك، بالنسبة لأي شخص يدرك أن المساهمة اليونانية هي بالضبط الفلسفة نفسها، والتي ليست بأي حال من الأحوال إطارًا عامًا يمكن ملؤه بلا مبالاة. بالاعتماد على مصادر أخرى، ولكن من إشكالية متمايزة، ألا وهي إشكالية وجود الكائنات. لمقاربة مسألة الكينونات فقط من بداية مسألة الكينونة، كان هذا هو المعنى الأنسب لما أطلق عليه الإغريق اسم الفلسفة وكذلك لكل شيء ظهر في العالم منذ الإغريق تحت هذا الاسم. الفلسفة أو الميتافيزيقيا، المصطلحان مترادفان بشكل صارم. هذا هو السبب في أنه لا يمكن للمرء أن يقرأ بدون أن يتفاجأ بعض هذه السطور من بول ريكور، الذي كتب عن هيدغيرHeidegger (la Métaphore vive، الاستعارة الحية ص 395): "لقد حان الوقت، يبدو لي لمنع الراحة، التي أصبحت كسلًا لـ الفكر، لتجميع تحت كلمة واحدة - ميتافيزيقيا - الفكر الغربي كله. لا ينكر هيدغر، بالطبع، وجود شيء آخر غير الميتافيزيقيا، أي الفلسفة، في الغرب. هناك أيضًا علوم وتقنيات ومعلوماتية وتحليل نفسي وأديان وحروب وحكومات ووزارات وخدمات عامة ومبادرات خاصة ونقابات ومعارض للرسم. إن عدم التفكير بأي من هذا هو أمر واضح للغاية. لكن هذا الفكر في كل مكان يعمل، فهو بالضبط مثل الفلسفة التي تدعي أنها تجتمع في قمتها الخاصة، أو حتى أنها تشكل اسم هيغل الأخير الأعمق الخيّر- ليس أقل وضوحًا. ربما تكون مساهمة هيدغر الأكثر جذرية هي إنه: جعل من المستحيل استخدام كلمة فيلسوف لتعيين أي صهارة أو مزيج من الأفكار العامة المتعلقة بأصل أو سبب العالم والأشياء بالإضافة إلى النهاية المفترضة التي سيكشف عنها تاريخهم، في المعنى الذي تحدث به هوسرل عن "غائية العقل"، ولكن لإعادة اكتشاف الدوام السري لسؤال أولي، من أحد أطراف الفلسفة إلى الطرف الآخر، وهو السؤال الذي لم يصبح سؤالًا فقط مع الإغريق ليظل بعيدًا، لهم ولنا، "إن لم يكن خارج أنفسنا". كل المشكلة موجودة في أن" الفيلسوف، في الغرب، خاصة، متخصص في العموميات؟ أين الفلسفة هناك؟

هل كانت المثابرة، لأكثر من ألفي عام، من السؤال بمبادرة من الإغريق؟ كيف أصبحت كريهة؟ وصولاً إلى لوثر الذي عاد إلى رسالة القديس بولس، وأعلن، بصدق أكثر من الرسول، تلك الفلسفة كانت صوفية، في العالم، من نصيب الشيطان وأنه سيكون من الأفضل حرق أرسطو. ربما كان لوثر، وهو يتحدث بهذه الطريقة، يتعمق أكثر من أولئك الذين يرضون أنفسهم بأقل تكلفة منه، الادعاء بالتفلسف دون فقدان الإيمان أو دون أن يحرم الإيمان نفسه من التفلسف. تفوقت الكاثوليكية في الواقع "لتسخير الخيول والغريفين معًا" (كانط)، وبفضل تقنية "الحظر" التي أعجب بها كانط. اتفق هيدغر على عكس ذلك مع لوثر، على الرغم من كونه على الجانب الآخر وهو الجانب الفلسفي، فهو غير خبير في "الإضرابات".

***

لماذا نُصدّق الأكاذيب والشائعات؟ هل لأنَّها قابلة للتصديق هكذا رغم معرفتنا بها أم أنَّ هناك نقصّاً في خبراتنا ومعارفنا؟ هل ثمة عنصرٌ في الأكاذيب يُمررها على الوعي دون نقدٍ؟! للإجابة عن أسئلةٍ كهذه، يجب التأكيد على كلمة (القابلية ability)، فهي تعني الإمكانية الذاتية لتقبُل ما يُقال في وضع تلقٍ دون مُساءلةٍ. ولكن: هل تلك الإمكانية واعيةٌ ولديها المبررات الكافية لاتخاذ المواقف؟!

يعني مصطلحُ  القابلية لكذا...) إمكانيةَ عمل شيء ما له نتائج مؤثرة أو لا تؤثر. وأنَّ هناك أمراً معيناً يصل بالإنسان إلى تلك المرحلة، ويكون جزءاً من أفكاره ودافعاً من دوافعه المُلّحة. لكن وعي الإنسان القابل لتصديق الموضوعات المتداولة– سواء أكان متجسداً في شخصٍ أم جماعة – يدفعنا إلى التفرقةَ بين مستويين:

أولاً: هناك الإمكانية بوصفها مسارَ قضيةٍ أو موضوعٍ أو فكرةٍ أو خطابٍ. وهذا المسار موجود في المجتمعات تحت ضغوط الثقافة السائدة، والأخيرةُ في الحقيقة تحاول كوظيفة رمزية توجيه المسارات إلى خطابات معينةٍ بحسب السمات التكوينية لها. والتوجيةُ يجري بشكلٍّ تلقائي دون أن يشعر به الناسُ، ويختلف من سياق إلى غيره ويسهم هؤلاء الناس في صناعته بنصيب وافر من التداول والأخذ والطرح والرد. لدرجة أنك عندما تجري مسحاً للآراء المقبولة وهي ليست حقيقة، ستندهش من مقدار التضخُم والإضافات التي قيلت فيها وجعلتها عند هذا المستوى.

ثانياً: هناك القبول العام الذي يُوجّه هذه المعطيات صوبَ ناحيةٍ بعينها. أي عندما يتم قبول هذه الفكرة أو ذاك الخطاب، فإنّ القبول إشارة إلى جر الشيء المقبول إلى مستوى آخر من التأثير. إذ لا يخضع الشيء المقبول للفحص والنقد، ولكن من مرةٍ إلى أخرى، يمتثل الوعي لتلك العملية بشكل متواصل حتى يصبح وعياً مستلّباً.

وبالتالي قد تأتي المبررات التي سيتمّ بناءً عليها قبول الموضوعات والأقوال من عدمه. وسيأخذ القبولُ مجراه فارضاً وجوده على وجهات النظر المختلفة. إذن (فكرة القابلية) بمثابة إمكانيةِ السماح لما هو ممكن في (مستواه) إنتقالاً إلى (مستوى آخر)، فيصبح الممكنُ جزءاً من نظام المعرفة عموماً، حيث يكون الأنا أو الـ" نحن" لاعباً أساسياً في تلك العملية المتبادلة. فهما اللذان يفتحان الطريق لقبول الشائع والرائج على أنَّهما حقيقة. وبقدر ما تكون العلاقة بينهما قائمةً على الشفافية أو التسلُّط يأتي وعي الأفراد يقظاً أو غافلاً عما يدور حولهم.

وقد يتعامل الأفرادُ مع الأكاذيب والشائعات على أنها جزءٌ مما يقبله الإنسان وكفى. لأنَّ ملء العقل بما يشغل الفراغ الحاصل أمر لا تتركه أنظمة بعض المجتمعات للصدفة، فحركة الفكر تتطلب محتوى جديراً بالعقل. وفي حالة ما لم يوجد المحتوى اللائق، ستكون الشائعات هي الغذاء اليومي للناس. ولن يكون هناك حد فاصلٌّ بين الشائعات والواقع المعيش طالما لا يستطيع الناس التمييز. وتدريجياً يتحول الوعي إلى (وعاء عام) يتقبل مع يطرح له وقد يذبُل حتى الإضمحلال. وستظهر بالتأكيد أمراض فكرية شديدة الخطورة لدى الأفراد مثل: ضعف الفهم وتشوش التفكير وانخفاض الآمال والإكتفاء باليومي والعابر والإنشغال بالأشياء الهامشية وتسطيح الرؤى.

ولذلك لوجئنا إلى معانٍ تقترب من فكرة (قابلية التصديق) لنحدد مضمونها بالنسبة إلى الإنسان، لوجدناها مختلفةَ المعنى هكذا:

القدرة: إذ ليست القابلية للتصديق قدرةً بالمعنى المعروف، لأنَّ القدرة إمكانيات فاعلة active تتجسد في أعمال للذات، ويستطيع أنْ يحققها الإنسان مؤثراً في محيطه. فلئن كان هناك منْ له قدرة على صناعة شيءٍ أو إنتاج شيءٍ أو إنجاز شيءٍ آخر، فهذه الأعمال تتخلق في الواقع اعتماداً على ما يمتلكه الإنسان من قدرات ذاتية (معرفية – نفسية - فكرية- جسمية...)، بينما القابلية للتصديق إمكانية متوجهة إلى الذات، من الخارج إلى الداخل وتقتحم وجود الإنسان رأساً. وليس هذا فقط، بل تشكِّل بعضاً من طريقة تفكيره ورأيه ومواقفه إزاء الأشياء والأحداث والأشخاص.

التمكُّن: التمكُّن هو القدرة على إمتلاك ناصية شيء ما أو مهارة معينة أو معرفة محددة. وهو الوصول إلى مرحلة القبول بهذا الشيء، لدرجة أنَّه يصبح موضوعاً محدداً بالنسبة للذات المتمكنة. ولكن إتساقاً مع ما سبق لا يعد القابل للتصديق من  جنس هذا التمكُّن الخاص، لأنَّ التمكن جهد مبذول بوعيٍ تجاه ما نريد التمكُّن منه عاجلاً أم آجلاً.

الكفاءة: لا تعد القابلية للتصديق كفاءةً، فالكفاءة بمثابة إضافة وزيادة تمكنان شخصاً من إنجاز عملٍّ بعينه. وبالتالي حينما نقول: إنَّ شخصاً معيناً كفؤٌ لهذه المهمة يعنى كونه إنساناً فاعلاً وقادراً على إتمامها بنجاح. وكل ذلك لا يتوافر في معنى القابلية للتصديق من بداية الطريق.

الطاقة: وهي وسع الفرد لأنْ يتقبل شيئاً ما بناء على روية خاصة به وبناء على قدرات يتمتع بجوانبها الحيوية. والطاقة بذل الوسع لأجل بلوغ شيء معين، ومن أول وهلة لن يكون معنى طاقة الإنسان موازيا لقابلية التصديق. لأنَّ الإثنتين مختلفتان في البنية وفي طريقة العمل. فالقابلية للتصديق تلغي (طاقةَ الفرد) على الفعل، أي تجعل الإنسان دون طاقةٍ، وهي تنظر إليه باعتباره وجوداً سلبياً. مجرد تراكم بشري ليست له فاعلية خارج ذاته، وإلّا لما صدّق كل ما يقال له بالضرورة.

الحَوْل والطَّوْل: وهما كلمتان متميزتان في اللغة العربية، إذ يتم التصرف في الأمور والتأثير فيما يحيط بالإنسان. ومن حيث المبدأ، فإنَّ الذي يتميز بالحول والقوة يستطيع أنْ يكون رقماً صحيحاً في معادلة الواقع والحياة. ولكن يتبين أن القابلية للتصديق تسلبُ إنسانها تلك الخاصية، تجعله مجرد عرض فارغ ملقٍ على قارعة الآخرين.

ذلك إنَّ القابلية للتصديق تعود بالإنسان إلى كونّه كائناً منفعلاً، أي أنّ الإنسان عندما يكون لديه (قابلية للتصديق  believability) لا يتم الأمر منفصلاً عن تكوين فكري عام يدمجُه والموضوع القابل للتصديق جنباً إلى جنبٍ، بل يصبح الأمر من جملة الأشياء والموضوعات التي تجري في هذا الإتجاه. على سبيل المثال: لو قيلت شائعات أو أخبار متداولة عن شخصيةٍ مشهورةٍ نحن نعرفها، فإنَّ القابلية للتصديق تتوقف على المُناخ العام الذي يصوغ الأخبار، ويساعد على انتشارها وإطلاق بذورها قيد الريح. وتبدو العقول كأنها مستقبلات لخطاب موجودٍ بالفضاء الثقافي، وليس يحتاج أكثر من الوصُول إلى الأسماع حتى يصدق الناسُ ما يُقال.

ومع توجُهات الثقافة الجارية، قد يشارك الناسُ أنفسهم في صياغة الشائعات وإطلاقها على الرغم من كونهم متلقين. لأنَّ الشائعات تختلط بقدرات المتلقي على القول، والتعبير عما يكمن في الثقافة من فراغاتٍ ممتدةٍ. وأحياناً تعتبر الشائعات تنفيساً لما يعتمل في نفوس الناس من غرائز وصراعات نفسيةٍ. عندئذ يكون المتلقي لديه القدرة على أنْ يكون مصدراً للأخبار الكذوبة رغم أنه في مرحلة التلقي السلبي. فمع الوقت ينقلها بمبررات لا واعية إلى الآخرين، وتصبح عالقةً بالمواقف والعلاقات الإجتماعية طالما تستطيع الثقافة إزكاء جوانب القول وترويجه على نطاق واسعٍ. والفرد هنا مجرد صدى رديء للمناخ العام سامحاً للآخرين بالتلاعب بوعيه وأن يصبح رد فعل ليس أكثر.

ولنلاحظ أنَّ سلطة المعرفة (مصدرها ومؤسساتها و رمزيتها وآثارها) تكرس حالة القابلية بوصفها إمكانية مرهونة بمواقف تشبع الوعي حتى النهاية. نظراً لعدم وجود البدائل القوية التي تتفق مع جوهر المعرفة ومناهجها. فالسلطة تمثل بالنسبة إلى الوعي الوصفة السحرية التي تراوغ مقاومته لصالح مركزيتها المفترضة. ويعد الوعي مجالاً خصباً لا لإدراك السلطة بوصفها متجاوزة له، بل باعتبارها ملتحمة به في تحولاته وعناصره وطريقة عمله داخل المجتمع والتاريخ والثقافة.

أي أن السلطة هي أصلاً نوع من (القابلية لأحداث كذا..) في تكوينها وممارسة وجودها، وهي ما نطلق عليه السلطة كأثر يتجاوز موضوعاتها القريبة. لماذا تُوجد السلطة حين لا نتوقع وجودها في المجتمعات الإنسانية عادةً؟! أثر السلطة هنا هو الوجود الممتد والذي نقابله دوماً باساءة التقدير، لأنه يوجد حيثما لا نتوقع وعندما نتوقع لا نقدّره كما هو بالضبط، إذ ينتشر في المناطق الرمادية من حياتنا المشتركة. ويظهر وجود السلطة بإستمرار مع الوعي بحركة المجتمع ووجود الآخر.

وبالتأكيد نمثل نحن البشر أبرز حوامل السلطة دون أنْ ندري وقد نعيد إنتاجها على المدى القريب والمحتمل. بدليل أنَّ المرء لو رأى سلوكاً غير متسقٍ مع العادات والتقاليد أو مع القوانين، سرعان ما تبدو عليه علامات الإستنكار وقد يتخذ موقفاً ملموساً. وهذا معناه أنَّ السلطة تترك أشكالَّها البديلة في موضوعاتٍ حاملةٍ لمعناها ومعاييرها من واقع الثقافة الجارية.

إنَّ انتشار السلطة هي الصفة نفسها التي تجعل الشائعات ممكنةً وقابلةً للتصديق. أي أنَّ الأكاذيب تزدادُ رواجاً في المناطق الرمادية من الوعي الجمعي ضمن المجتمعات الإنسانية. بمعنى أنَّ العلاقة عكسية بين إعمال العقل وزيادة رقعة التسلط، والعلاقة تجعل العقول ضائعة وسط ضجيج الأقوال دون مصدرٍ موثوق لها. ومتى كانت المجتمعات حُرّة ويتمتع أفرادها بحقوق التعبير والتفكير، قلّت درجة القابلية للتصديق. لأن القابلية للتصديق تنتشر في البيئات الأدنى شفافية، والتي يتسطَّح فيها الوعى إلى مساحات أفقية ممتدة طوال الوقت.

في المقابل يعد المجال العام بمثابة مجال عدم القابلية للتصديق، ولذلك كان من طبيعة هذا المجال كونه مجالاً فارزاً لكل ما يُضاد الإنسان، ولكل ما يُضاد التعميّة والقبول من غير شروطٍ. وإنعدام قابلية التصديق يعني إيجاد معايير موضوعية تحتاج إلى تمحيص دائم. والديمقراطية في أحد مستوياتها تدعم عدم القابلية للتصديق، وبخاصة أنها تمثل نطاقاً من العمل المشترك لأجل الآخر حاضراً وغائباً. وتلك الوضعية تتطلب إقراراً بالثقة في العقل، ولكنه في الوقت نفسه لن يكون باباً خلفياً لمرور الأكاذيب والمزاعم دون توقفٍ.

لعلَّ عدم القابلية للتصديق سمةٌ من سمات التنوع والإختلاف، ويُقصد بها عدم القابلية لأن يكون( عقلُّ الإنسان) موضوعاً رديئاً وكفى، وألّا يصبح كالورقة البيضاء – عبارة جون لوك مرة أخرى ولكن في سياق مختلف- التي يكتب عليها أيُّ عابر سبيل ما يشاء. وتلك هي الكارثة التي تشهدها مجتمعات أقل شفافية، حيث تأخذ الأكاذيب والشائعات دورتها الشعبوية مروراً على أغلبِ العقول، حتى تشطب ما يبديه الإنسان من نقدٍ أو معرفةٍ حقيقيةٍ.

***

د. سامي عبد العال

 

تلعب فكرة الذات دورا مركزيا في الفلسفة الغربية وفي الهند وفي الثقافات الكبرى الاخرى. هناك ثلاث رؤى رئيسية حول الذات يمكن تمييزها. احداها تنطلق من التصور الكانطي للذات العقلانية المستقلة، والرؤية الثانية ترتكز على ما يسمى بنظرية الانسان الاقتصادي ذات الأصل الارسطي. كلا الرؤيتين تؤكدان استقلالية الانسان عن بيئته الاجتماعية والبايولوجية. مقابل هاتين الرؤتين، جرى افتراض رؤية اخرى تعتمد الذات المتطورة ضمن بيئة معينة.

مكان الذات

تشغل فكرة الذات دورا مركزيا في معظم الفروع الفلسفية. فمثلا، في الميتافيزيقا، نُظر الى الذات كنقطة بدء في التحقيق (في كل من الفلسفتين التجريبية والعقلانية) او كينونة يكتسب فيها التحقيق قيمة وتحديا (الفلسفة السقراطية). اما في الأخلاق والفلسفة السياسية، تُعتبر الذات مفهوما أساسيا في توضيح حرية الارادة بالاضافة الى المسؤولية الفردية.

الذات في الفلسفة الحديثة

في القرن السابع عشر، ومع ديكارت، اتخذت فكرة الذات حيزا مركزيا في التقاليد الغربية. اكّد ديكارت على استقلالية الفرد: انا استطيع ادراك اني موجود بصرف النظر عن العالم الذي أعيش به. بكلمة اخرى، يرى ديكارت ان الاساس الإدراكي لتفكيره الشخصي هو مستقل عن علاقاته البيئية وان عوامل الجنس والعرق والمكانة الاجتماعية والتربية جميعها غير ملائمة لفهم فكرة الذات. هذا المنظور عن الذات ستكون له نتائج حاسمة في القرون اللاحقة.

المنظور الكانطي

يُعتبر كانط هو أول منْ طور المنظور الديكارتي بطريقة أكثر قوة وثورية. طبقا لكانط، كل شخص هو كائن مستقل قادر على تصور مسارات الفعل التي تتجاوز أي علاقات بيئية (العادات، التربية، نوع الجنس، العرق، الحالة الاجتماعية، المواقف الشعورية). مثل هذا التصور عن استقلالية الذات سيلعب دورا هاما في صياغة حقوق الانسان: كل انسان مؤهل لهذه الحقوق بسبب الاحترام الذي يستحقه كـ انسان بقدر ما هو كائن مستقل. منظور كانط يشكل واحدا من أقوى وأهم الاسس النظرية التي تنسب دورا مركزيا للذات.

الانسان الاقتصادي والذات

رؤية الانسان الاقتصادي تنظر لكل انسان ككيان انفرادي يكون دوره المركزي وربما الوحيد في الفعل هو المصلحة الذاتية. وفق هذا المنظور، الاستقلالية الانسانية يُعبّر عنها في أفضل الاحوال في السعي لتحقيق رغبات المرء الشخصية. تحليل أصل الرغبات ربما يشجع اعتبار العوامل البيئية، لكن تركيز نظرية الذات المرتكزة على الانسان الاقتصادي ترى كل فرد كنظام من الأفضليات منعزل بدلا من شخص متكامل مع بيئته.

الذات الايكولوجية

أخيرا، المنظور الثالث للذات يراها كعملية من التطور تحدث في مكان بيئي معين. عوامل مثل الجنس ونوع الجنس والعرق والمكانة الاجتماعية والتربية والتعليم الرسمي والتاريخ العاطفي جميعها تلعب دورا في تشكيل الذات. كذلك، معظم الكتّاب في هذا المجال يتفقون على ان الذات ديناميكية، وهي في عملية صنع دائم: الذاتانية ربما هي التعبير الأكثر ملائمة لهذه الكينونة.

***

حاتم حميد محسن

أحتاج لتمهيد الطريق لصيغة السياقية المعرفية التي اعتزم مناقشتها هنا، أولاً إلى تحديد فكرة التثمين أو التقييم المعرفي. إن اهتمامي الأساس هنا هو طرح أسئلة حول تبريرالأعتقاد الأخلاقي وليس أسئلة إثبات المبادئ الأخلاقية أو كشفها أوعرضها. أحتاج إلى توضيح ما أعنيه هنا، وأحتاج إلى توضيح كيفية عمل مصطلحات معينة من التقييم المعرفي (مثل "التبرير"،"العقلانية") أيضًا. وكما سأوضح، من الأفضل تفسير إسهامات التبرير (والعقلانية) على أنها تتضمن معايير معينة ومتغيرة سياقيًا. سيسمح لي شرح هذه الأمور بتوضيح الفكرة المحددة للتبرير العقائدي التي تثير اهتمامي، وهو فكرة أن يكون المرء مسؤول معرفيا عما يؤمن به. دعني أوضح.

ملاحظات أولية حول التبرير

أهتم -هنا- بالأسئلة المتعلقة بالتبرير العقائدي، أي الأسئلة المتعلقة بالوقت الذي يكون فيه شخص ما لديه ما يبرره من اعتقاد رمزي، وعلى وجه التحديد الأعتقاد الأخلاقي.[1] يجب التمييز بين الأسئلة المتعلقة بالتبرير العقائدي، اي المتعلقة بمعتقدات المرء والأسئلة المتعلقة بالظروف التي يمكن بموجبها إثبات صحة أو التحقق من صحة أو "تبرير" بعض االقضايا أو المطالب أو الادعاءات. لقد كان هناك الكثير من التركيز على موضوع التبرير في الأخلاق. ويدل على ذلك محاولات الفلاسفة الأخلاقيين لتوضيح وتفسير أنواع الاعتبارات التي يمكن استخدامها لإثبات أو إظهار حقيقة (صحة) الافتراضات أو الادعاءات الأخلاقية بما في ذلك المبادئ الأخلاقية خصوصًا. أفكر هنا في محاولات الفلاسفة الأخلاقيين لشرح أنواع الاعتبارات التي يمكن استخدامها لإثبات أو إظهار حقيقة (صحة) الافتراضات أو الادعاءات الأخلاقية بما في ذلك المبادئ الأخلاقية. وتتمثل هذه المحاولات في: محاولة ماركوس سينجر[2] لإثبات مبدأ حجة التعميم استنادًا إلى اللجوء الى منطق الخطاب الأخلاقي، ومحاولة جيويرث[3] لإثبات ما يسمى بمبدأ الاتساق الشامل استنادًا إلى ادعاءات حول طبيعة الفعل العقلاني، ومحاولة دوناجان[4] لإثبات مبدأ الاحترام الكانطي للأشخاص بناءً على ادعاءات حول طبيعة الأسباب العملية وطبيعة الأشخاص الأخلاقيين، ومحاولة براندت[5] لتبريرصيغة من النفعية تستند إلى حد كبير على الاعتبارات التجريبية من علم النفس المعرفي، ومحاولة راولز[6] في تبرير مبدأيه الخاصين بالعدالة على أساس اعتبارات التماسك العام المتصورة على نطاق واسع، ومحاولة هير[7] في تبرير مبدأ أخلاقي نفعي قائم على منطق المفاهيم الأخلاقية. نظرًا لأن المبادئ الأخلاقية هي في صميم النظريات الأخلاقية المعيارية، فإن محاولات هؤلاء الفلاسفة الأخلاقيين لإثبات المبادئ الأخلاقية تتعلق بمسائل قبول النظرية في الأخلاق، وليس معنية بمسائل التبرير العقائدي (أيً التي تتعلق بمعتقدات المرء) بشكل مباشر.[8] ومع ذلك، حتى إذا اتخذ المرء موقفًا مضادًا للنظرية الأخلاقية وينكر إمكانية تنظيم الظواهر الأخلاقية من خلال مبدأ واحد أو حتى بمجموعة صغيرة من المبادئ، فإن التمييز بين التبرير العقائدي وغير العقائدي يعد مهما واجبا.[9]

نجد في نظرية المعرفة المعاصرة مجموعة متنوعة من التفسيرات لتبرير الأعتقاد. يشير ريتشارد فولي، إلى أن إسناد العقلانية يجب أن يُفهم على أنه يتضمن إشارة إلى (1) هدف أو مجموعة أهداف (2) وكذلك الى منظور.[10] أنا مهتم في المقام الأول بمفهوم تبرير الأعتقاد الذي يمكن فهمه بشكل مفيد وفقًا للخطوط التي يوصي بها فولي للأعتقاد العقلاني. سواء كانت الفكرة التي أهتم بها متطابقة مع فكرة فولي عن الأعتقاد العقلاني أم لا، فإنني أترك هذا مفتوحًا. ما أقترحه، إذن، بعد فولي، هو التفكير في وصفات التبرير العقائدي على أنها تنطوي على عوامل معينة متغيرة سياقيا . أريد أن أعلق بإيجاز على اثنين من هذه المعايير حتى أكون على وصف أكثر دقة لمفهوم تبرير الأعتقاد.

بادئ ذي بدء، إذن، أن التقييمات التي تستخدم التبرير سواءً بشكل صريح أو ضمني،أو الترويج لبعض الأهداف دائما ما تُعزز بمعتقدات مبررة. إنه من المعتاد هنا التمييز بين الأهداف المعرفية مثل امتلاك معتقدات حقيقية وتجنب الأهداف الخاطئة، ومختلف الأهداف غير المعرفية مثل البقاء على قيد الحياة. بالمقابل، نميز بين التبرير المعرفي والتبرير غير المعرفي. وهذا يعتمد ما إذا كان اعتقاد ما مبررًا معرفيًا وعلى ما إذا كان يروج لأهداف امتلاك معتقدات صحيحة وتجنب المعتقدات الخاطئة.[11] إنه من المهم بشكل خاص التمييز بين التبرير المعرفي من التبرير غير المعرفي، ولاسيما في الأخلاق حيث تكون المناقشات حول ما إذا كانت العبارات الأخلاقية صحيحة أو حتى لها قيم حقيقية في مركز الصدارة.

ثانيًا، تفترض وصفات التبرير منظورًا بشكل مسبق. يصف فولي المنظور بأنه مجموعة من المعتقدات أو من الآراء التي يمتلكها بعض الأفراد أو المجموعات الفعلية أو الخيالية. ومن المفترض أن تتضمن هذه المجموعة من الآراء معتقدات معرفية تعكس مجموعة من المعايير المعرفية التي تظهر في المنظور المعني.[12] هناك وجهات نظر معرفية مختلفة تنطلق منها التقييمات المعرفية؛ وتتضمن: المنظور الذاتي أو الأناني للشخص، والمنظور الذي يجمع بين أفراد المجتمع، ومنظور مجموعة من الخبراء. غالبًا ما تمر حقيقة التبرير منظوريًا دون أن يلاحظه أحد لأننا لا نوضح المنظور الذي تجري من خلاله مثل هذه التقييمات في كثير من الأحيان. لكن تعكس وجهات النظر المختلفة السارية في وصفاتنا للتبرير والعقلانية اهتمامات وأغراض تقييمية مختلفة لدينا. على سبيل المثال، عندما نكون مهتمين بفهم بعض المعتقدات التي يتبناها شخص معين في مناسبة ماضية، وعندما يبدو هذا الاعتقاد خاطئًا بشكل واضح الآن، فغالبًا ما نهتم بكيفية ظهور الأشياء للمرء في المناسبة المعنية. هنا من الطبيعي أن نستدعي منظورًا ذاتيًا وأن نسأل عما إذا كان له ما يبرره، بالنظر إلى المنظور المعرفي للفاعل في ذلك الوقت، في التشكيك في الاعتقاد.

ومع ذلك، قد نكون مهتمين، ولأغراض معينة، بتقييم فرد ما بالنسبة للمعايير المعرفية السائدة في مجتمعه، وفي هذه الحالة يتضمن تقييمنا منظورًا اجتماعيًا. ورغم أنه، في سياقات أخرى، لدينا اهتمام المسائل المتعلقة بالتبرير بصرف النظر عن المنظور الذاتي أو بين الذوات في المجتمع كطريقة لالتقاط منظور موضوعي مناسب. ياتي التعبير عن الدرس الأكثر أهمية للتعلم من كل هذا الحديث عن المنظورات بشكل جيد من قبل فولي: "لا يوجد منظور واحد مناسب لفهم النطاق الكامل لأحكامنا المتعلقة بالعقلانية. نحن نصدر مثل هذه الأحكام لمجموعة متنوعة من الأغراض وفي سياقات متنوعة، وفي نوع الحكم الذي نميل إلى إصداره وفقًا لهذه الأغراض والسياقات.[13]

هناك الكثير مما يمكن قوله حول هذه العوامل المتغيرة سياقًا للتبرير المتعلق بمعتقدات المرء، وسنكتشف كيفية عملها أثناء تقدمنا في البحث. وبعد حديثنا الذي تقدم يمكننا ان ننتقل للحدث عن التبرير الأخلاقي.

أولاً، أنا مهتم بالتقييم المعرفي لمعتقدات الأفراد، حيث يكون الهدف الأساسي الذي ينطوي عليه مثل هذا التقييم هو امتلاك معتقدات صحيحة وتجنب المعتقدات الخاطئة. ثانيًا، أنا مهتم بشكل خاص بنوع التقييم المعرفي الفعال في تقييماتنا المعرفية اليومية للأفراد.[14] إن نوع التقييم الذي يدور في ذهني يتعلق بأسئلة حول كيف يمكن أن يكون المرء مسؤولاً معرفيًا عن المعتقدات التي يحملها.تتمثل إحدى الطرق المضيئة في تقييم المسؤولية المعرفية للفاعل هي في استدعاء منظور ما يمكن أن نطلق عليه "االفرد المسؤول من الناحية المعرفية" على التناظر مع معيار "الشخص العاقل" في القانون.[15] تكمن الفكرة في استخدام هذا النموذج كأساس للتحقيق في المعايير المعرفية الأساسية التي نستخدمها عادة في تقييم الحالة المعرفية للاعتقاد الأخلاقي. هناك نوعان من السمات التي يجب أن يتمتع بها هذا النموذج إذا كان سيخدم في هذا الدور. أولاً، إذا كان لها أي نوع من المعيارية تكون مفيد كمقياس لشخص مسؤول معرفيا بخصوص المعتقدات التي يؤمن بها، فيجب أن يأخذ طابع المثالية، أيً أفضل مما هو عليه في الواقع. إن المرء المسؤول معرفيا هو المرء الذي تعمل أنشطته المعرفية كمعيار لأنشطتنا المعرفية: يجب أن نلتزم بتلك المعايير التي تميز المرء المسؤول. ثانيًا، نظرًا لاهتمامنا بتوصيف فكرة التبرير المعرفي الذي ينطبق على البشر، فإننا نريد مفهومًا للمسؤولية المعرفية غير مثالي بشكل مفرط. باختصار، نريد نموذجًا للمسؤولية المعرفية يمثل "نموذجًا واقعيًا". بعد وضع هذه القيود في الاعتبار سأشرع في رسم جزء من نموذج للمسؤولية المعرفية.

**

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] من المهم أن نميز بين ما يمكن أن نسميه التبرير العقائدي الفعلي والتبرير العقائدي الافتراضي. يشير الأول إلى الحالات التي يكون فيها: (1) لدى المرء أدلة كافية e تبرر الاعتقاد بأن أ، (2) يعتقد المرء أن p، و (3) يعتقد المرء أن أ على أساس ب. الحالات التي لا يكون فيها المرء مبررًا فعليًا ولكن فقط افتراضيًا هي تلك الحالات التي يكون فيها البند (1) صحيحًا ولكن إما (2) أو (3) (أو كليهما) يفشل في الاحتفاظ به ؛ بالنظر إلى الأدلة أو الأسس، يمكن تبرير اعتقاد المرء بأن يؤسس هذا الاعتقاد على الأدلة أو الأسس. أنا مهتم في المقام الأول - هنا- بمسائل التبرير الواقعي الواقعي. يمكن العثور على بعض المناقشات حول هذا التمييز في:

Robert Audi, Belief, Justification, and Knowledge (Belmont, Calif.: Wadsworth, 1988), 1-2,

على الرغم من أنه يستخدم مصطلحي تبرير الاعتقاد والتبرير الظرفية لما أطلقنا عليه التبرير الواقعي والافتراضي على التوالي.

[2] Marcus G. Singer, Generalization in Ethics (New York: Atheneum, 1961).

[3] Alan Gewirth, Reason and Morality (Chicago: University of Chicago Press, 1978).

[4] Alan Donagan, The Theory of Morality (Chicago: University of Chicago Press, 1977).

[5] Richard B. Brandt, A Theory of the Good and the Right (Oxford: Oxford University Press, 1979).

[6] John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1971).

[7] R. M. Hare, Moral Thinking: Its Levels, Method, and Point (Oxford: Oxford University Press, 1981).

[8] لمزيد من المعلومات حول التمييز بين الأسئلة حول التبرير العقائدي والأسئلة حول التبرير غيرالعقائدي nondoxastic في الأخلاق، انظر:

Norman Daniels, "Wide Reflective Equilibrium and Theory Acceptance in Ethics," Journal of Philosophy 76 (1979), 257 n. 1;

David Copp, "Considered Judgments and Moral Justification: Conservatism in Moral Theory," in D. Copp and D. Zimmerman, eds., Morality, Reason, and Truth (Totowa, N.J.: Rowman & Littlefield, 1984), 143;

and Mark Timmons, "Foundationalism and the Structure of Justification in Ethics" Ethics 97 (1987), 598-99.

[9] بالطبع، الأسئلة المتعلقة بالتبرير غيرالعقائدية ذات صلة بالأسئلة حول التبرير العقائدي على الأقل: إذا كان، على سبيل المثال، يمكن إثبات الافتراضات أو الادعاءات الأخلاقية أو `` تبريرها '' من خلال استنتاجها من الافتراضات المتعلقة بالطبيعة البشرية، فإن إحدى الطرق التي يمكن تبريرها بشكل منطقي في التمسك بمعتقدات أخلاقية مختلفة هي الاستدلال عليها من مجموعة المعتقدات ذات الصلة (التي يتم تبريرها) حول الطبيعة البشرية. ولكن لا يجب أن تكون هذه هي الطريقة الوحيدة، أو حتى الطريقة الأساسية، التي يتبنى بها معظم الناس العاديين معتقدات أخلاقية بشكل مبرر. انظر، على سبيل المثال،

William Tolhurst, "Supervenience, Externalism, and Moral Knowledge," The Southern Journal of Philosophy 29, supplementary volume on "Moral Realism" (1986), 43-55,

[10] بالإضافة إلى الأهداف والمنظور، يدعي فولي أن التقييمات المعرفية يجب أن تُفهم على أنها تشير أيضًا إلى ما يسميه مجموعة من الموارد التي يمتلكها المؤمن. يقدم فولي هذه الصيغة، إذن، لفهم إسناد العقلانية: "من المنطقي أن تصدق - لأن لديك مورد ج، ولانه يبدو من منظور أ  في حالة ج تعتقد بـ د.

Foley, Working Without a Net (Oxford: Oxford University Press, 1993), p. 34.

[11] نحن نتفهم الاعتقاد المبرر فيما يتعلق بتعزيز أهدافك على ما يبدو بدلاً من القول، على سبيل المثال، أنه يجب في الواقع تلبية أهدافك لأنه حتى في الحالات التي لا تفي فيها معتقداتك بأهدافك، فنحن نريد السماح لك بأن تظل مبررًا في الأحتفاظ بإيمانك.

[12] هذا الأمر ليس واضحًا عند فولي. ينطوي الحكم من منظور ما على الحكم بالنسبة للمعايير المعرفية التي تميز جزئيًا المنظور المعني. على الرغم من أن فولي لم يكن صريحًا بشأن هذه المسألة، إلا أنه يبدو أنه يعتقد أن المعايير المعرفية للمنظور يتم تمثيلها على أنها معتقدات (يتم تعريف المنظورات، بعد كل شيء، على أنها مجموعات من المعتقدات). أظن أن الطريقة الأفضل لتفسير منظور لن تكون من منظور المعتقدات، لكننا لا نحتاج إلى الخوض في هذه المسألة هنا.

[13] Foley, Working Without a Net, p. 14.

وهذا يعني، بالطبع، أن الإسهامات الإبستيمولوجية ( المعرفية) حساسة للسياق - وهو ادعاء يتبناه السياقيونالإبستيمولوجيون . ومع ذلك، سوف يتضح مع تقدمنا في البحث أنه يمكن للمرء أن يؤكد أن التقييمات الإبستيمولوجية سياقية بالطرق التي يتضمنها مخطط فولي دون أن تكون من النوع السياقي حول البنية التي سأناقشها في هذا البحث.

[14] اضع هنا تعليقين : أولاً، ربما يكون من التبسيط للغاية افتراض أن هناك هدفًا معرفيًا واحدًا - امتلاك معتقدات صحيحة وتجنب المعتقدات الخاطئة. فولي، على سبيل المثال، يوصف الخلاصة الإبستيمولوجية المحضة ( الهدف النهائي الذي بموجبه يتم تأسيس القيم والأولويات في نظام أخلاقي.) على أنه وجود نظام دقيق وشامل من الإيمان. Foley, (Working Without a Net, p. 19.

يجادل مايكل ديبول بأنه يجب علينا أن ندرك أنه بالإضافة إلى وجود معتقدات حقيقية وتجنب المعتقدات الخاطئة، تتضمن الخلاصةالإبستيمولوجية نظام معتقدات "عقلانية" و "مضمونة".

Balance and Refinement: Beyond Coherence Methods of Moral Inquiry (London and New York: Routledge, 1993), chapter 2.

ثانيًا، نظرًا لكوني مهتمًا بمفهوم بالتسويغ الإبستيمولوجي (التبرير المعرفي )، فأنا ملتزم بالتالي بالمنظور الميتا-أخلاقي الذي يسمح للحقيقة أن تُبنى على الجمل الأخلاقية وتتنبأ بشكل صحيح. ومع ذلك، فإن وجهة النظر حول الحقيقة الأخلاقية التي أقبلها تهدف إلى التوافق مع موقف ميتافيزيقي (يقبل الموقف كما هو ومستعد للتعامل معه وفقًا لذلك) حول الخطاب الأخلاقي. لتوضيح وجهة نظر محددة حول الحقيقة الأخلاقية، والتي تفسر حديث الحقيقة على أنه ينبثق من الافتراضات الأخلاقية بروح الحد الأدنى، انظر:

Mark Timmons, Morality Without Foundations: A Defense of Ethical Contextualism, Morality Without Foundations: A Defense of Ethical Contextualism.1998.

[15] قد يبدو، إذن، أنني مهتم بالتقييمات التي يتم إجراؤها من منظور اجتماعي، وعلى وجه الخصوص، المنظور المعرفي لمجموعة واحدة (على الرغم من أنني أقترح فهم الحديث عن "مجموعة الفرد"). هذا ما يهمني، بمعنى ما، لكني أريد تجنب سوء فهم معين لما أنا بصدد القيام به.

أولاً، نحتاج إلى ملاحظة أن هناك نوعين مختلفين من التقييم الإبستيمولوجي يستعملان أو يوظفان منظورًا اجتماعيًا. أولاً، تستدعي بعض التقييمات القائمة على المركزية الاجتماعية المنظور الإبستيمولوجي لمجتمع المعتقد بغض النظر عن المجتمع الذي قد يكون عليه. قد نسمي التقييمات الاجتماعية من هذا النوع عالمية أو عامة في الروح. إنها تمثل موقفًا نسبيًا مألوفًا في الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة) والسياقية المعيارية. لكن في سياقات أخرى، قد يكون الاحتجاج بمنظور اجتماعي محلي ( يمثل طائفة معينة من الناس تلتزم بأعتقاد معين) بشأن الروح. هذا هو، لبعض الأغراض، قد نكون مهتمين بتقييم معتقد الفاعل طبقا للمنظورنا الإبستمي، والذي يشمل، بالنسبة لنا، تلك المعايير الإبستمية (المعرفية) التي نؤيدها. الآن، من خلال التركيز على المنظور التخيلي للمعتقد مسؤول معرفيًا، فأنا مهتم بالتقييمات المعرفية التي تعكس ما أعتبره أكثر معاييرنا المعرفية عمومية وأكثرها استخدامًا على نطاق واسع، ولذا فأنا مهتم بالتقييمات ذات الروح المحلية ( التي تمثل جماعة معينة).

ثانيًا، أفسر مهمتي على أنها وصفية جزئيًا؛ إن المعايير المعرفية التي يستخدمها الفاعل المعرفي المؤهل هي المعايير التي تميز بشكل عام ممارستنا المعرفية االقائمة. لكنني أعتقد أيضًا أن أنواع المعايير المعرفية العامة التي لدي في ذهني - المعايير التي تحكم عادةً، بطريقة عامة، المهام ذات الصلة المعرفية المتمثلة في جمع الأدلة والتحقق من الاحتمالات المضادة للادعاءات التي نعتقدها - هي معايير تصمد أمام التدقيق النقدي، وبالتالي تمثل المعايير التي نود استخدامها في التقييم المعرفي.

على سبيل المدخل:

يبدو عنوان ندوة الدكتور عبد الجبّار الرّفاعيّ "الدّين: حياة في أفق المعنى"[1] لافتا، جذّابا لسببين على الأقلّ. لكونه يلفت الانتباه إلى مستويين في المعنى، أوّلهما وجوديّ، وجدانيّ يربط الدّين بالحياة الإنسانيّة في أعمق أبعادها. وثانيهما معرفيّ - تفكّريّ، يتقوّم بالرّبط بين الدّين والمعنى، فيؤسّس لعلاقة بين العقديّ والمعرفيّ.

والمطّلع على كتابات الرّفاعي يدرك أنّه يبني رؤيته الإسلاميّة التّجديديّة على هذين المقوّمين الرّئيسين، اللذين ترتكز عليهما جلّ المبادئ الفرعيّة. وقبل أن ننظر في الإجابات التي قدّمها وأسّس عليها مشروعه الفكريّ في إصداراته العديدة، وآخرها خماسيّته التي نحن بصددها:

1. الدّين والنّزعة الإنسانيّة.

2. الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ.

3. الديّن والاغتراب الميتافيزيقيّ.

4. الدّين والكرامة الإنسانيّة.

5. مقدّمة في علم الكلام الجديد.

يعنينا أن نتفكّر في الأسئلة التي طرحها أوّلا. من جهة كون السّؤال يمثّل أولى خطواتنا التّأويليّة في اتّجاه المعنى. فسؤالنا حينئذ: عمّ تساءل عبد الجبّار الرّفاعي في سياق تجربته الفكريّة والرّوحيّة وفي إطار بحثه عن المعنى الدّينيّ وعلاقته بالمعنى الإنسانيّ؟

من خلال مراكز الاهتمام التي ضمّنها كتبه ومنشوراته، كان سؤال الإنسان في فكر عبد الجبّار الرفاعي هو السّؤال المركزيّ الذي تدور في مداره كامل الأسئلة، وتطوف حوله كلّ المباحث والمشاغل.

فقبل السؤال عن الدّين ومقتضياته ومشروطيّة الانتماء إليه، لا بدّ من فهم حقيقة الوجود الإنسانيّ. حيث أنّ الدّين لا يتقوّم إلا بالإنسان. ولا يتعرّف الإنسان إلى الدّين إلا بمعرفة نفسَه أوّلا.

هذا السّؤال المركزيّ عن الإنسان، تتفرّع عنه أسئلة تفصيليّة تختصّ بالبعد النّفسيّ والبعد الرّوحيّ بما هما بعدان داخليّان في وجوده، تنتج عنهما الأبعاد الوجوديّة الأخرى على المستوى الاجتماعيّ والثّقافيّ والسّياسيّ وغيرها. ويتفرّع عن سؤال من نحن؟ ومن أنا؟ أسئلة من قبيل ما الحياة؟ ما الموت؟ أيّة رحلة وجوديّة تربط بين البدايات والنّهايات؟ أيّ سبيل للخلاص؟....

هذه المشاغل غير منفصلة عن بعضها البعض، بل هي تحتكم إلى تواصل وتواشج وثيقيّن، وتتقوّم بعلاقة التّأثير والتّأثّر. ذلك ما نقف عليه في طرح الرّفاعي ونجد عليه أدلّة ثابتة في مؤلّفاته.

ذلك أنّ مساءلاته عن الإنسان وعن حقيقة وجوده في الكون، وعن علاقة ذلك بوعيه بذاته وبالآخر وبصيرورته التّاريخيّة، جعلته يخصّص أقساما كبرى من كتاباته - وخاصّة في مؤلّفه "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ"- للإصغاء إلى صوت ذاته العميقة وهي تتحدّث إليه.

يمكن انطلاقا من هذا المدخل أن نوجّه اهتمامنا إلى نقطتين أساسيّتين:

I.  ماهية الإنسان ، ماهية الدّين: أيّة علاقة؟

1-  من هو الإنسان؟ [من الماهية الموهومة إلى الماهية المطلوبة]

1-1 الماهية الموهومة

1-2 الماهية المطلوبة

2-  ماهية الدّين: نحو تصحيح المسارين المفهوميّ والعمليّ

2-1 الماهية المحرّفة

2-2 الماهية المنشودة

II.  "السّؤال اللاّهوتيّ الجديد" ومساراته الممكنة

1-  المسار القلبيّ - الوجدانيّ - الحيويّ وآفاقه

2-  المسار الفكري - المعرفيّ

3-  المسار التّفعيليّ - الواقعيّ

I.  ماهية الإنسان ، ماهية الدّين: أيّة علاقة؟

يؤكّد الرّفاعي في غير موضع من كتاباته أنّه لا وجود لدين جامد - جاهز يقدَّم في شكل قواعد متكلّسة، ثابتة. وأنّه لا وجود لماهية واحدة تختزل التّنوّع الإنسانيّ في وحدة صامتة مصمتة. التّنوّع الإنسانيّ الذي قوامه تعدّد البيئات الحاضنة لطفولة كلّ إنسان والذي يتأسّس على كثرة التّجارب وتعدّد الثّقافات، يحتّم على من يتجشّم مسؤوليّة التّعريف بالإنسان عامّة أن ينطلق من تجربته المخصوصة، ويتتبّع تفاصيلها، ويتملّى دقائقها، ويلج أغوارها بصبر شديد وجرأة كبرى على مواجهة آلامها الدّفينة، ورغباتها الخفيّة، وهواجسها الكامنة. وذلك ما تجرّأ عليه الرّفاعي في إطار ما يعرف بـ "كتابة الذات".

من هو الإنسان؟ [بؤرة الأسئلة]

"لكي تعرف من أنت، عليك أن تعرف ما لست أنت" [حكمة شرقيّة]

(على سبيل التّصدير)

1-1 الماهية الموهومة:

يرفض الرّفاعي في التّعريف بالذات الإنسانيّة أمورا عدّة أوكدها وأبرزها:

* التّنميط، بمعنى حصر الوجود الإنسانيّ في قوالب انتماء موروثة ومسقطة.

* نسيان الذات واغترابها عن ذاتها.

* تعريف الذات بملامح شخصيّة مستعارة - مقنّعة.

* تزييف الأنا واستتارها وراء أنماط مجتمعيّة سائدة ومكبّلة.

* تنزيه الذات وتجريدها من تناقضاتها (إقصاء ثنائيّة الخير والشّرّ).

* تقزيم الذات ورفض تناقضاتها.

* اختزال الإنسان في الذات الاستهلاكيّة - التّملّكيّة.

* اختزال التّنوّع الإنسانيّ في مفهوم تبسيطيّ - سطحيّ.

* تعنيف الذات (استحضار التّجربة التّعليميّة التّربويّة الأليمة في طفولة الرّفاعي، ويحيلنا على هذه المعاني تحديدا كتابه "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ").

* إقصاء قيمة الكرامة في التّعريف بماهية الوجود الإنسانيّ.

* الاستعباد والاستكانة، وذلك في شكليها: "العبوديّة المقنّعة الطّوعيّة" و"العبوديّة المسلّطة - المفروضة".

* ذوبان هويّة الذات الفرديّة في الذات الجمعيّة. وانمحاء فردانيّتها لتكون جزءا من نظام كلّيّ يلتهم وجودها ويفرغه من ذاتيّته ليحتكره. (مثال الذات الجمعيّة الطقوسيّة - الذات الجمعيّة الاجتماعيّة، السّياسيّة...)

1-2 الماهية المطلوبة:

"إنَّ الإنسانَ أشْكَلَ عليهِ الإنسانُ" [أبو حيان التّوحيديّ]

"من أهمّ الاكتشافات التي يكتشفها الإنسان في حياته هو اكتشافه لعجزه عن فهم نفسه" [عبد الجبّار الرّفاعي، الدّين والكرامة الإنسانيّة، ص70].

هدف الإنسان الأكبر "أن يخلِّدَ الحياةَ ويميتَ الموتَ" [الدّين والنّزعة الإنسانيّة، ص58.]

(على سبيل التّصدير)

في مقابل التّعريف المزيّف للذّات، يعرّف الرّفاعي الذات الإنسانيّة بكونها:

1- الذات المتسائلة عن ذاتها، المتعطّشة لحقيقتها.

2- الذات المعترفة بالاختلاف مع الآخر وبصيرورة حالاتها الوجوديّة (احتضان تناقضاتها، "الطبيعة الإنسانية ملتقى الأضداد"، الدّين والكرامة الإنسانيّة، ص69.)

3- الذات اللاّنمطيّة - اللاّمتكلّسة: الحركيّة، الحيويّة "حياتي عبور متواصل" (الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ، ص122).

4- الذات المقرّة بأخطائها والمتطوّرة بواسطتها ("أولد كلّ يوم عبر أخطائي"، الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ، ص95).

5- الذات الغافرة لزلاّتها، الرّحيمة بذاتها، إذ أنّه لا يمكن أن يغفر الإنسان للآخر ما لم يغفر لذاته عثراتها.

6- الذات المتحرّرة من أشكال عبوديّاتها، الفارضة لكرامتها.

7- الذات الواعية بغربتها، والباحثة عن الألفة في الوجود في تصالحها مع المآزق الوجوديّة، وأبرزها "الموت".

8- الذات الواعية بحقيقتها المركّبة. "الإنسان كائن مركّب غامض (...) والطّبيعة الإنسانيّة عميقة مركّبة متضادّة" [الدّين والكرامة الإنسانيّة، ص71.]. ويستدلّ الرّفاعيّ على صعوبة ضبط الطّبيعة البشريّة بقول ابن عربيّ: "لا شيء أوسع من حقيقة الإنسان، ولا شيء أضيق منها".

ومن دلائل التّركيب، تداخل الأبعاد النّفسيّة والجسديّة والذّهنيّة والرّوحيّة فيما بينها، وتفاعلها في نسيج حياتيّ محبوك السّبك، بحيث لا استقلاليّة لبعد منها عن الآخر.

9- الذات المحبّة، المتّصلة بقيم الحبّ بما هي قيمة القيم.

10- الذات الجامعة بين الذّكاء الرّوحيّ والعاطفيّ والذّهنيّ. وهنا ننبّه إلى أهمّيّة اشتغال الرّفاعي على البعد الوجدانيّ في الإنسان، إذ يفرد في مؤلّفاته أقساما صريحة للطّرح النّفسيّ، من ذلك حديثه بدءا من ص80 من كتابه الدّين والكرامة الإنسانيّة، عن "علم النّفس الإيجابيّ".

2-  ماهية الدّين: نحو تصحيح المسارَين المفهوميّ والعمليّ

تصحيح المفهوم هو أوّل خطوات تصحيح التّجربة. فكلّ انزياح دلاليّ لا يؤدّي فقط إلى الخطإ النّظريّ المجرّد، بل كذلك إلى خطإ تفعيل ذلك المفهوم في التّجربة المعيشة.

الماهية المحرَّفة للدّين:

يرفض الرّفاعي أن يكون الدّين:

1- نظاما طقوسيّا مغلقا أصمّ وأخرس وغير تفاعليّ، منجزا ومكتملا وغير حيويّ.

2- مجموعة قواعد فوقيّة تتسلّط على الإنسان وفق منطق الأمر والنّهي، والثّواب والعقاب والتّرغيب والتّرهيب... هذا الفهم الأرثوذوكسيّ الذي تبنّته المؤسّسات الإسلاميّة الرسميّة قديما وحديثا، سواء في الوسط السّنيّ أو الشّيعيّ، هو أكبر مشوّه لماهية الدّين. وربط الإنسان به على وفق منطق الواجب، الإكراه، الخوف، الطّمع... يكشف عن تركيزٍ على الجانب الظّلاميّ في الإنسان لا على البعد النّورانيّ فيه. وفي هذا السّياق ينتقد المؤلّف بشدّة كلّ تشكّلات الصّياغة السّلفيّة للدّين عند كل المذاهب، القائمة على إقصاء الآخر لا فقط فكريّا بل كذلك جسديّا.

3. رفض أدلجة الدّين والاستحواذ عليه عمليّا. اعتماد الدّين أداة إيديولوجيّة سياسيّة واجتماعيّة يتضادّ مع ما أسماه الرّفاعي "العقلانيّة الدّينيّة". إذ الغاية من الأدلجة الهيمنة على عقول الأتباع ووجدانهم.

4. رفض الانتماء الشّكلانيّ المفرغ من جوهرانيّته.

5. رفض اعتماد الدّين ذريعة لتدمير نفسيّة الإنسان والهيمنة عليه وتوجيه رغباته وإثارة هواجسه.

6. رفض الاستحواذ التّأويليّ والرّمزي على الدّين باسم التّخصّص المعرفيّ الأكاديميّ (المشيخة، كلّيّات الشّريعة، معاهد التعليم الديني التقليدية...).

7. رفض تحصيل التّجربة الدّينيّة عبر التّلقين والتّكرار السّلبيّ في غياب تامّ لكلّ إبداع.

8. رفض كلّ أشكال الدّين الشّعبويّ – المرضيّ – الشكّليّ – الاستهلاكيّ – التّكفيريّ – الإقصائيّ – العدواني - الحسيّ المباشر...

9. رفض النّقد العلمانيّ الدّحضي المناهض لحضور الدّينيّ في الحياة العامّة. هذا الموقف لا يقلّ تطرّفا عن الموقف السّلفيّ للدّين. فهو أشبه ما يكون بالسّلفية العلمانيّة التّقدّميّة على غرار السّلفيّة الرّجعيّة الماضويّة. فهما وجهان لعملة واحدة وإن بدا عليهما الاختلاف والتّعارض.

2-2 ماهية الدّين المنشودة:

يتمحور مفهوم الرّفاعي للدّين حول النّقاط التّالية:

1. الدّين الحيويّ:

"الدّين حياة": إشادة الرّفاعي بالبعد الحياتيّ المعيشيّ المتخلّل لكلّ تفاصيل التّجربة الإنسانيّة يستبطن موقفا نقديّا ممّن يعزل فعل التديّن عن فعل الحياة ويقضي بحصر وجوده في دور العبادة المغلقة.

2. الدّين الرّمزيّ:

يعدّ عبد الجبّار ألا وجودَ لاعتباطيّة في العلامة الدّينيّة. فكلّ حركات الإنسان وكلّ سكناته الوجوديّة، لها دلالة روحيّة عميقة. وفي ضوء ذلك يكون التّديّن الحقيقيّ حركة وعي بهذه الحقيقة الرّوحيّة، وتفعيلا لذلك الوعي في المعيش اللّحظيّ.

إنّ إضفاء البعد الرّمزيّ لا يعني التّجريد والتّعالي ومفارقة الواقع، بل هو عين التّجذّر في الواقع الرّمزيّ للإنسان بما هو "كائن استثنائيّ" - رمزيّ، على حدّ تعبيره. على نحو تلازميّ، يعدّ عبد الجبّار تفريطَ الإنسان في بعده الرّمزيّ تفريطا في الحقيقة الرّمزيّة للدّين وعكس ذلك صحيح.

3. الدّين اللاّمركزيّ:

المقصود من توصيف الدّين بكونه لامركزيّا أنّه يراد له أن يكون تشاركيّا - تفاعليّا، غير محتكَر من المؤسّسات الرّسميّة، ولا ممّن يدّعون التّخصّص فيه.  الدّعوة إلى اللاّتمركز الدّينيّ إذن، لا تعني فقط رفض التّمركز من خارج الذات، بل كذلك التّمركز من داخل الذات المتديّنة، حتّى لا تتوهّم حيازتها للحقيقة الإلهيّة واحتكارها لها.

4. الدّين التّحرّريّ:

يقصد به الرفاعي رفض الانتماء الاستعباديّ الإكراهي. فالدّين إن لم يقد إلى تحرير الإنسان من عبوديّة الأشياء والأشخاص والأحداث، "لا يعوّل عليه" بعبارة ابن عربيّ.

5. الدّين القيميّ:

نفهم من كتابات الرّفاعيّ أنّه يميّز بين الدّين المشاعريّ الحيّ، والدين الشّعائريّ الميكانيكيّ/الآليّ.

6. الدّين التّوسّعيّ، التّطوّري:

نفيد من هذا التّوصيف أنّ معاني الدّين ليست محصورة في فهم واحد، وليست حكرا على شخص دون آخر، ولا على زمن دون آخر.

ونفهم التّوسّع هنا حينئذٍ على نحو بينيّ: بيزمانيّ، تطوّري (عبر التّجربة التّاريخيّة الممتدّة) وتذاوتيّ/بيذاتيّ (بين الذّوات المسهِمة في تشكيل معناه).

من البداهة بعد عرض كلّ من ماهيتَيْ الإنسان والدّين، أن يكون السّؤال الأساسيّ الذي ينبغي طرحه هو التّالي: ما الذي يجمع بين ماهية الإنسان وماهية الدّين عند الرّفاعي؟

قد نجد بعض إجابة في قوله: "من لا يعرف نفسه، لا يعرف الله"، وفي تركيزه على فكرة "الإنسانيّة الإيمانيّة"، وفي عدد غير قليل من عناوين كتبه منها "الدّين والكرامة الإنسانيّة" "الديّن والنّزعة الإنسانيّة"، "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ" إذ البعد الأنطولوجيّ لا يكون إلا إنسانيّا...

إنّ ملخّص مفهوم الرّفاعي لماهيتي الإنسان والدّين كما يرتضيهما وينظّر لهما نقرؤه في قوله: "الطريق إلى الله يمرّ عبر الإنسان".

II.  السّؤال اللّاهوتيّ الجديد ومساراته الممكنة

1-  المسار الوجدانيّ - الحيويّ

يقول الرّفاعي "الدّين كائن حيّ"، إذ لا يمكن الحديث عن تجديد دين "ميّت". فالتّجديد لا يكون إلا في كنف الحياة. والحياة التي يفعّلها الإنسان في عمق ماهيته تنعكس على الدّين لا بما هو مجموع قواعد جامدة، بل بما هو "كائن" يشاركنا الوجود. وهو ما يقتضي إخراج الدّين من القراءات النّمطيّة المسيّجة إلى فضاءات المعنى المعيش المتحرّك دائما.

إنّ البحث في مسارات القلب الذي هو "الطّريق" [كما يعبّر الرفاعي عن ذلك في كتاب الدّين والكرامة الإنسانيّة] يستتبع أن تكون العلاقة بالدّين قلبيّة – ذوقيّة. وهو ما يجعلنا نقف على حضور المعنى العرفاني بقوّة وكثافة في نصّ الرّفاعي. ومن منطلق ذلك يكون المسار الوجدانيّ طريقا نحو "دين العشق"، وتخارجا من مجرّد "دين الفرض والواجب" إلى بعد جماليّ فنّيّ في الدّين.

هذا المسار يتفعّل فيه البحث في أغوار النّفس البشريّة، وفي سبل تحرّرها من برمجيّات المجتمع والنّظم الفوقيّة المتسلّطة عليها، والتي تجعلها تعكس هذه النّظرة الضّيّقة على فهمها للدّين ذاته. ذلك أنّ الدّين يتلوّن "بالوعاء الذي يحلّ فيه"، كما ورد في كتاب "الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ".

كما أنّ هذا المسار من شأنه أن ييسّر الانسجام مع الحركة السّيّالة للأفكار والانطباعات. ويدحض الجهل بالطّبيعة الإنسانيّة المعرقل لكلّ تجربة إصلاح في الوعي الدّينيّ.

يمكن أن نخلص من كلّ ذلك إلى أطروحة الرّفاعي الرّئيسيّة فيما يخصّ المسار الوجدانيّ مسلكا للتّجديد الدّينيّ عبر تجميع عناوين مؤلّفاته التي يشعّ فيها جميعِها الجانب الإنسانيّ وينعكس بوضوح على الأفكار المضمَّنة في متونها. فالتّديّن إرواء للظّمإ الأنطولوجيّ إلى المقدّس، وفكّ للاغتراب الميتافيزيقيّ للإنسان في هذا العالّم، واستئناف لنزعته الإنسانيّة المولّدة بالضّرورة لكرامته، والسّاعية في طلبها بإلحاح.

المسار الفكريّ - المعرفيّ:

إنّ إعادة فهم الدّين ضرب من "إيقاظ العقل" للتّفكّر في الوجود انطلاقا من مدارات اهتمام واسعة. من شأنها أن تفضي إلى أنسنة الخطاب الدّينيّ وعقلنته، بما هما هدفان يجريان نحو التّصدّي لمآزق التّكفير والانتماء الآليّ للدّين، ونحو احترام قوانين الاختلاف.

ضمن هذا المسار أيضا، يتجلّى الوعي بقيمة المشروع الكلاميّ في تجديد الرّؤية الدّينيّة. فعلاقة الرّفاعي بعلم الكلام وثيقة جدّا، إذ كان موضوع كتب عديدة وإصدارات متنوّعة، إضافة إلى تخصيص أعداد كثيرة من مجلّة قضايا إسلاميّة معاصرة لموضوعات الكلام الجديد ومناهجه المجدّدة. وفي قوله "تجديد الدّين يبدأ بتجديد علم الكلام"(مقدّمة في علم الكلام الجديد، ص78)، نفهم أنّ المقاربة العقديّة تحديدا هي التي تمثّل شغله الشّاغل، فهو لم يتّخذ الرّؤية الفقهيّة التّشريعيّة مثلا منطلقا للتّجديد، لأنّها في تقديره مستوى لاحق، تابع للمستوى التّأصيليّ.

إنّ العلاقة بالنّصّ الكلاميّ تجمع النّصّين التّراثيّ والمعاصر - الرّاهن. فعندما يقول الرّفاعي في كتابه "مقدّمة في علم الكلام الجديد"، "ملّكتني الحوزة مفاتيح التّراث" (ص101)، فهو لا يعدّ التّراث موضوعا جامدا خاضعا لسلطة الذات الدّارسة له، ولا جثّة هامدة تطبّق عليها أدوات التّشريح. ولا يعني كذلك ذاك التّراث المتحفيّ الذي يعرض في المتاحف للانبهار أو الاعتبار بسرديّات القدامى وآثارهم، بل هو يعني تحديدا ذاك "التّراث الحيّ" الحاضر فينا تأويليّا، على الرغم من كونه ماضيا حدثيّا. هذا الحضور له وجهان: استحضار تواصليّ - نقليّ ، واستحضار نقديّ.

إلى جانب ما سلف، يلفتنا تأكيد الرّفاعي في أكثر من موضع في خماسيّته، على الاشتغال في أفق إنسانيّ - غير مذهبيّ/ ميامذهبيّ. ويبدو ذلك صريحا وواضحا في قوله: "لا هويّة مذهبيّة لعلم الكلام الجديد" (مقدّمة في علم الكلام الجديد، ص217.) واعلانه: "أنا مسلم وكفى" (الدّين والظّمأ الأنطولوجيّ، ص 237.)

3- المسار التّفعيليّ - الواقعيّ

تنعكس تجلّيات هذا المسار على جميع مستويات الواقع الإنسانيّ، نكتفي فيها بضرب مثالين:

الجانب السّياسيّ: ويهدف إلى التّصدّي للاحتكار الإيديولوجيّ – السّياسيّ للدّين. السّياسة باعتمادها الأسس الأخلاقيّة للدّين، يمكن أن تصحّح فيها بعض المسارات وتعدّل بعض التّمشّيات المصيريّة.

الجانب الاجتماعيّ: هو جانب مرتبط بدوره بالمنظومة الأخلاقيّة للدّين، القائمة لا على أساس ردعيّ - حدّيّ، بل على أساس اقتناعيّ - عشقيّ.

فالعلاقة السّليمة الصّحيّة بالأخلاق، من شأنها أن تنظّم كلّ ما يشمل علاقة الإنسان بذاته وبغيره أيّا كانت مجالات التّعامل معه. ذلك أنّ كلّ طريق للإصلاح مفصول عن إصلاح الذات الإنسانيّة من داخلها، هو طريق مسدود.

على سبيل الخاتمة

إنّ الطّرح النّفسيّ - التّأويليّ الذي يتخصّص فيه عبد الجبّار الرّفاعيّ بالإمكان تطويره في شكل اختصاص قائم الذات قد يحمل اسم: "علم النّفس الكلاميّ- العقديّ".

وإلى جانب ذلك، فإنّ مشروع عبد الجبّار الرّفاعي ينشغل بالدّوائر الوجوديّة الإنسانيّة الأربع: دائرة الوجود الحسّيّ، والذهنيّ، والنّفسيّ، والرّوحي. في شكل رؤية تكامليّة - تفاعليّة بينيّة. فلا يمكن الحديث عن مستوى وجوديّ إلا وهو في علاقة بالمستويات الأخرى، وهو ما كان واضحا في خطابه بشكل لافت.

فضلا عن أنّ ما يصوغه الرّفاعي في مقاربته من أفكار ومقترحات وتعديلات، ليس تنظيرا ولا تجريدا مفارقا للواقع (كما تذهب إلى ذلك بعض القراءات النّقديّة)، بل هو سعي إلى تجذير فلسفته في صميم المعيش. إنه ضرب من استشكال اليوميّ ومن ترميزه من جهة، وهو أيضا تدريب عمليّ على معايشة هذا الرّمز وهذا الحضور الرّوحيّ الأخلاقيّ في صميم التّجربة المعيشة. فما يعرضه من ذكريات طفولته ودراسته وتدرّجه في مراحل الحياة، هو نقل لتجربة حيّة تتأصّل في أفقها رؤية "حياة في أفق المعنى"، عودا على ما بدأنا.

والسّيرة الذاتيّة التي نقلّب صفحاتها في كتبه هي ليست مجرّد كتابة للذّات المتحيّزة بأطر الزّمان التّاريخيّ ولا المكان الجغرافيّ، بل هي سيرة الإنسان يطلّ من خصوصيّته على الأفق الإنسانيّ الكلّيّ، ويصطحبنا في رحلته الرّوحيّة نحو ما يراه فطرة نورانيّة في الإنسان. هذا ما تدعونا نصوص عبد الجبّار الرّفاعيّ إلى قراءته، أو هكذا يمكن الإصغاء إلى ندائها.

***

د. إيمان مخينيني - باحثة وأكاديمية تونسية

أستاذة بالجامعة التونسية، متخصصة في التأويل في الفكر العربي الإسلامي (اختصاص علم الكلام والتّصوّف). من مؤلفاتها: " تشكل مرجعية الصحابي في كتاب سيرة الأولياء"، و"الانتماء العقديّ والفعل السّياسيّ في الطّرح الكلاميّ الجديد"، الكلام الجديد مشروعا بيتخصّصيّا.

[1] "الدّين: حياة في أفق المعنى" عنوان ندوة د. عبد الجبار الرفاعي في مركز مسارات تنوير في عمّان / الأردن، مساء 31-12-2022. وهذه الورقة إعادة تحرير لمداخلة د. إيمان مخينيني في الندوة.

فلسفةُ البناءِ الاجتماعي تعتمد على استخراجِ الإشارات مِن الوَعْي الوجودي، واستنباطِ الرُّمُوز مِن المُستويات التعبيرية في النظام اللغوي كجسدٍ معرفي، وتجسيدٍ للبُنى الوظيفية في المُجتمع، التي تُعيد كتابةَ تاريخ العلاقات الاجتماعية مِن مَنظور إنساني ومَصلحي في آنٍ معًا. وإذا كانَ الوَعْيُ الوجودي لا يَنفصل عن اللغة، فإنَّ السُّلوك الإنساني لا يَنفصل عن المَصلحة. وهذا يَعْني أنَّ كُلَّ نشاط عقلي هُوَ مُمَارَسَة لُغوية تُساهم في تَكوينِ الفِعل الاجتماعي، والدفعِ به في اتِّجاه تحقيق مصلحة الفردِ والجماعةِ ضِمن النسيج الحَيَاتي، بِكُلِّ تفاصيلِه النابعةِ مِن مُكَوِّنَات اللغة، وتأثيراتِه الحاسمةِ على الظواهرِ الثقافية والمعاييرِ الأخلاقية. والنسيجُ الحَيَاتي لا يُوجَد بِمَعْزِل عَن التجسيد العملي للفِكر اللغوي في أنساق التاريخ، الذي يُعاد تأويلُه باستمرار، لِيَصِيرَ التاريخُ تواريخَ مُتكاثرة، تحتاج إلى الوَعْيِ والإدراكِ للسَّيطرةِ عليها، ومَنْعِها مِن التَّشَظِّي خارجَ المَعنى الإنساني للحضارة القائمة على الفِطْرَة والخِبْرَة. وإذا تَشَظَّى التاريخُ فإنَّ المَعنى يَفقد وُجُودَه، وتَختفي المعاييرُ الحاكمةُ على الحُلْمِ الإنساني، والمحكومةُ بالأحداث اليوميَّة. ولَيس للحُلْمِ الإنساني وُجُودٌ إلا دَاخل فلسفة البناء الاجتماعي، ولَيس للأحداث اليومية شرعيةٌ إلا داخل طبيعة الظواهر الثقافية.

2

الوَعْيُ الوجودي لا يَحْتَل اللغةَ مِن أجل تَدجينها وتوظيفِها في بُنية العلاقات الاجتماعية، وإنَّما يُحَرِّر اللغةَ مِن أجل إدماجها في الثقافة باعتبارها نظامًا جوهريًّا مُسْتَقِلًّا، ولَيْسَتْ شيئًا تابعًا للأنظمة الاستهلاكية. وتحريرُ اللغةِ هو تحريرٌ لمصادر المعرفة مِن ضَغْط اللحظة الآنِيَّة، مِمَّا يُسهِّل عمليةَ نقلِ الفِكْر المَحصور بالتأويلات إلى الذات الفاعلة المُنْطَلِقَة، ونقلِ الوَعْي الوجودي إلى التجربة العملية، ونقلِ الصورة الذهنية للحَياة المُعَاشة إلى العقلانية الواقعية التي تُخلِّص المُجتمعَ مِن الهَيمنة التَكنولوجية، وتَمنع سيطرةَ الآلَة على الفرد. وإذا عادَ الفردُ إلى شخصيته الإنسانية، وعادَ المُجتمعُ إلى مركزية وُجوده في فلسفة اللغة، فإنَّ التاريخَ سَيَصِير فِعلًا اجتماعيًّا إبداعيًّا في الحضارة بِوَصْفِها منظومةً ديناميكيةً مُرتبطةً معَ الإطار الأخلاقي، الذي يَشتمل على التوازنات الثقافية العميقة والسطحية. وهذه التوازناتُ ضرورية لضبطِ انعكاسات العلاقة بين هُوِيَّة الفرد وسُلطة المُجتمع تَصَوُّرًا وَتَحَقُّقًا، وتَكوينِ مَنطق للتاريخ روحيًّا وماديًّا، وتأصيلِ الأنساق الثقافية في العُلوم الإنسانية، وتشييدِ البناء الاجتماعي على قاعدة الوَعْي الوجودي الخالي مِن القطيعة معَ الزمانِ والمكانِ، وإعادةِ إنتاج قِيمة الفرد الإنسانية، مِن أجل تحقيق التكامل بين الفاعلِ الواعي الذي يُدْرِك ذَاتَه ومُحِيطَه، وبين الفاعليَّة اللغوية التي تُولِّد التفاعلاتِ الرمزية في تيَّارات الشُّعور داخل الفِعل الاجتماعي وخارجه.

3

مركزيةُ الوَعْي الوجودي في البناء الاجتماعي تُولِّد نَقْدًا مُستمرًّا لِسِيَاقات سُلطة المعرفة، وتَكشِف الأبعادَ المَرْئِيَّةَ وغَير المرئية لِدَلالات هُوِيَّة اللغة، مِمَّا يُسَاهِم في تأسيسِ حركة تفسيرية للمَسَارات التاريخية، وتحريرِها مِن هَيمنة الأحكامِ المُسْبَقَة على المُجتمع،وسَيطرةِ الأفكارِ التقليدية على الفرد، وتَسَلُّطِ التَّصَوُّراتِ المُسْتَهْلَكَة على الوُجود. وإذا نَجَحَ الفردُ في تشخيص إشكاليات البناء الاجتماعي، باعتباره قُوَّةً توليديةً للمفاهيم المعرفية ذات الامتداد الأُفُقي في النظام اللغوي القابل للتطبيق على أرض الواقع، وذات الامتداد العَمُودي في أنساق الحضارة القابلة للتَّحَوُّل إلى رُوحٍ عقلانيَّة فرديَّة، ونزعةٍ مَنطقيَّة جماعيَّة، فإنَّ الوَعْي الوجودي سَيَكتشف مواطنَ الخَلَل في هياكل المُجتمع، ومواطنَ الانقطاع في مَسَارات التاريخ، وعِندئذ يُصبح الفردُ تاريخًا داخلَ التاريخ، ولَيْسَ ذاتًا مُتعاليةً على التاريخ، وسُلطةً حاكمةً عَلَيه، ومُتَلاعِبَةً به. وهذا يُؤَدِّي إلى تَكوينِ فَهْم أفضل للعَالَم، وإنشاءِ آلِيَّات فكرية لتحليل علاقةِ الفرد بالبيئة، وعلاقةِ المُجتمع بالطبيعة، وعلاقةِ الوُجود باللغة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

المقدمة: أتناول هنا الخطوط العريضة للإبستمولوجيا (المعرفة) الأخلاقية السياقية. غالبًا ما توصف السياقية المعرفية بأنها بديل للنهج الأكثر تقليدية في الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة- استعملها تطابقا)  التحليلية والتي تعود جذورها الى كتابات البراغماتيين مثل بيرس وديوي وفيتكَنشتاين في وقت لاحق. يدعي السياقيون أن الأعتقاد المُسًوغ/ المُبررَ يستند في نهاية المطاف إلى معتقدات غير مبررة في حد ذاتها، وبذلك يعارضون كل من وجهات النظر الأسسية foundationalist والتماسكية أو الترابطية Coherentist حول بنية التبرير والمعرفة. لكن اكتسبت ما يُعرف بالمطالب السياقية الأخرى، التي لا علاقة لها بالقضايا البنيوية، اعترافًا ومناقشة متزايدة من قبل الابستيمولوجيين التحليليين في العقود الأخيرة. يعتمد أحد هذه االمطالب على امتلاك مثل هذه القيم الابستمية كمعرفة وتبرير لظروف المرء أو "سياقه" بشكل كبير، بما في ذلك حقائق معينة عن مجتمع المرء.

إن هدفي هنا هو التعبير عن الإبستمولوجيا الأخلاقية التي تتضمن عددًا من الموضوعات السياقية. وبشكل أكثر تحديدًا، خطتي هي: أخصص القسم الأول من هذه الدراسة لفرز وتوضيح أهم هذه الأفكار السياقية نظرًا لأن السياقية ربما تكون أقل ألفة بنظرية المعرفة الأخلاقية من الرؤى المعرفية الأخرى، و بسبب تنوع الموضوعات والأطروحات السياقية التي يُدافع عنها أيضًا،. وكما سنرى، أنا مهتم بتأييد صيغة "السياقية البنيوية" فيما يتعلق بالأعتقاد الأخلاقي المبرر. ومع ذلك، نظرًا لعدم وجود مفهوم واحد للتبرير، فقد خصصت القسم الثاني من هذه الدراسة لتوضيح التصور المعرفي– أيً التصور عن المسؤولية المعرفية - التي هي محور تفكيري حول تبرير الأعتقاد الأخلاقي. أوضحت، في القسم الثالث، الأطروحات الرئيسة للسياق البنيوي، ثم، شرعت، في القسم الرابع، بتطويرصيغة من السياقية البنيوية حول الأعتقاد الأخلاقي. إن هدفي هوالتدليل على أن صيغة السياقية تعبر عن منهج أو مقاربة واعدة للأسئلة المتعلقة بتبرير الأعتقاد الأخلاقي.

السياقية المعرفية

سأفرق بين السياقية الظرفية والسياقية المعيارية والسياقية البنيوية. تتشابه الأطروحتان الأوليتان تقريبًا مع وجهات نظر النسبية المألوفة في الأخلاق. وتمثل الثالثة ردًا على المواقف السلبية من مشكلة التبرير.

السياقية الظرفية

يمكن التعبير عن أحد الموضوعات السياقية في نظرية المعرفة الحديثة (المطبقة على قضية التبرير)، باسم "السياقية الظرفية"، بالطريقة التالية: تعتمد بعض الافتراضات أوالقضايا جزئيًا على حقائق معينة عن المرء وعن بيئته سواء كان لديه معرفة أواعتقاد مبرر.

بلا شك يعرف المرء أو يعتقد بشكل مبرر أن بعض القضايا أو الافتراضات تعتمد على السمات "الداخلية" (النفسية) لظروفه مثل الدليل الذي يمتلكه (سواء في شكل معتقدات أخرى أو حالات تجريبية معينة)، وما إذا كان يمتلك أي دليل مقوّض، وما إلى ذلك. لكن  لفت العديد من الإبستيمولوجيين الانتباه إلى خصائص "خارجية" معينة لظروف المرء قد تؤثر على الحالة المعرفية لمعتقداته. لقد كانت الفكرة التي تقول: أن المعرفة والتبرير يعتمدان على حقائق حول البيئة الاجتماعية للفرد وأن التقييم المعرفي له "بُعد اجتماعي" ذات أهمية خاصة في الإبستيمولوجيا الحديثة. وفقًا لستيوارت كوهين وإرنست سوسا، هناك علاقة بين بعض الحقائق الاجتماعية، أيً حقائق حول مجتمع الفرد، والمتطلبات المتعلقة باستخدام القدرات الأدراكية للفرد التي توضح كيف يمكن للمعرفة والتبرير أن يعتمدا على الظروف الاجتماعية للفرد.

تنبثق سياقية كوهين من دراسته للظروف التي يحوز أو يتحصل فيها الدليل على تقويض معرفة المرء. ويجادل أولاً ما إذا كان يمتلك المرء الدليل (أي معتقدات يعتبرها المرء كدليل ضد بعض الافتراضات التي يعتقدها) الذي يقوض معرفته بهذا الافتراض أم لا يعتمد على القدرات المنطقية لاي عضو في المجتمع وما إذا كان بعض الأدلة المقوضة التي يمتلكها المرء ستكون واضحة للأعضاء العاديين في ذلك المجتمع. وهكذا، من وجهة نظر كوهين، يتم تحديد أحد مكونات المعرفة من خلال حقائق نفسية معينة عن المجتمع. ولكن ماهو المجتمع الذي يعمل كأساس للحكم على مدى وضوح الأدلة المقوضة؟ اقتراح كوهين هو أن "تُحدد المعايير السارية في سياق معين من خلال قوى التفكير العادية لأعضاء مجتمع المرء".[1] ويقترح أيضًا، في ضوء هذا البعد الاجتماعي للمعرفة، أن أفضل تفسيرلعزو المعرفة (وإنكارها) هو مؤشرها الحساس للسياق: فيمكن أن تختلف مجموعة معايير الوضوح بين الذوات التي تنطبق عليها إسهامات المعرفة من سياق إلى آخر اعتمادًا على  المجتمع وسماته كمجتمع. ربما تنطبق فكرة أن المعرفة تنطوي على مستوى محدد اجتماعيًا بخصوص القدرة على التفكير على القدرات المعرفية للذاكرة والإدراك أيضًا.[2] لا يمكن قياس المتطلبات المعرفية للتعامل مع الأدلة المضادة من خلال بعض الحقائق الاجتماعية المتعلقة بالقدرات المعرفية فقط، ولكن تلعب العوامل الاجتماعية الأخرى دورًا في المعرفة. يجادل سوسا، على سبيل المثال، بأن مدى امتلاك أفراد المجتمع بعض المعلومات يؤثر على معرفة المرء. فعلى سبيل المثال، إذا كان لدى معظم أفراد المجتمع معلومات تتعارض مع بعض الافتراضات الحقيقية فسيكون لدى المرء دليل قوي لتصديق تلك المعلومات وعندئذٍ يفشل المرء في الحصول على المعرفة. إنه من الممكن، وفقًا لسوسا في مثل هذه الحالات، استنتاج أن المعرفة لها" جانب اجتماعي" بحيث لا يمكن أن تعتمد على ماهو معروف بشكل عام."[3]

السياقية المعيارية

هناك ادعاء سياقي آخر هو أن التبرير (للعقلانية والمعرفة) يعتمد على الممارسات الاجتماعية وقواعد مجتمعات أولئك الذين يستفسرون ويتحققون أو ما يرتبط بها. يشيربعض السياقيين إلى أن ممارسات جمع المعرفة لدينا اجتماعية بطبيعتها ومرتبطة بشكل مهم بالممارسات المعرفية ومعايير أعضاء مجموعتنا. ويُفهم على أنه ادعاء وصفي حول تقييماتنا المعرفية، ربما يكون هذا الادعاء صحيحًا لأنه يرقى إلى الادعاء بأن تقييماتنا المعرفية يتم إجراؤها عادةً على أساس الممارسات و القواعد المقبولة والمستخدمة بشكل عام من قبل مجتمع المستفسرين الذين ننتمي إليهم. ومع ذلك، فإن السياقيين الذين أفكر فيهم يقصدون المطالبة بشكل معياري (أي كادعاء حول الظروف التي بموجبها يعرف المرء، أو يكون له ما يبرره في التمسك، ببعض المعتقدات). إذا تركنا "السياق" يشير إلى بعض مجتمعات المستفسرين والممارسات والمعايير التقييمية المشتركة، فيمكننا صياغة توصيف عملي للسياق المعياري بالطريقة التالية:

إن السياقية المعيارية هي أن: يمتلك الشخص "س" المبرر في وقت محدد لاعتقاده ببعض الافتراضات في السياق "ج" فقط في حالة توافق "س" مع المجموعة ذات اصلة بالممارسات والمعايير المعرفية المعمول بها في ج.

أذن، هناك بُعدًا اجتماعيًا للتقييم الإبستيمولوجي وذلك لأعتماد المعرفة والتبرير على مجتمع ينتمي اليه المرء وهي يمكن أن تؤخذ بطريقتين. أولاً، كما رأينا مع كوهين وسوسا، يمكن اعتبارها ميًزة واحدة لظروف المرء ذات الصلة بالتقييم المعرفي. ولكن، كما أوضحنا للتو، يمكن اعتبارها كفكرة تقول أن المعرفة والتبرير مرتبطان بالمعايير المعرفية للمجتمع أيضًا، بحيث تعتمد على ما إذا كان لدى المرء معرفة أو له ما يبررتصديقه بعض الافتراضات أم لا على ما إذا كانت يتوافق معتقد المرء مع المعايير المعرفية للمجتمع أم لا. لا ينبغي الخلط بين أطروحة السياقية الظرفية والسياقية المعيارية. فمن المعياري التمييز بين النسبية الظرفية (الظرفية والبيئية) والنسبية الأخلاقية في الأخلاق. الأول مشابه للسياقية الظرفية وغالبًا ما يتم التعبير عنه كأطروحة مفادها أن الصواب والخطأ لأفعال وممارسات معينة يعتمدان جزئيًا على حقائق حول ظروف الفاعل. لذا، على سبيل المثال، ما إذا كان من الخطأ أن يمتنع شخص ينظر الى طفل يغرق عن القفز  في مياه عميقة  لمحاولة لإنقاذ الطفل يعتمد (جزئيًا) على حقائق حول هذا الشخص نفسه، وعلى وجه الخصوص، على ما إذا كان بإمكانه السباحة أم لا. على النقيض من ذلك، تمثل النسبية الأخلاقية نظرية معيارية تجعل الحقيقة الأخلاقية نسبية للمعايير الأخلاقية للمجتمعات: تحدد المعايير الأخلاقية لمجتمع ما العبارات الأخلاقية المعينة لأعضاء ذلك المجتمع. إن النظير المعرفي للنسبية الأخلاقية هو ما نطلق عليه السياقية المعيارية. نقطتي هنا هي أنه كما يجب ألا نخلط بين النسبية الظرفية في الأخلاق والنسبية الأخلاقية المعيارية، لا ينبغي لنا أن نفسر السياقية الظرفية لكوهين وسوسا على أنها معادلة للسياق المعياري أو تستلزمه.[4]

أريد أن أذكر ذلك في هذه المرحلة ليس في نيتي الدفاع عن صيغة معينة من السياقية المعيارية ضد وجهات النظر المعرفية غير النسبية. قد يكون من المشروع في بعض السياقات ولأغراض معينة تقييم الحالة المعرفية لمعتقدات المرء بالنسبة للمعايير المعرفية لمجتمع ذلك المرء كما سنرى في القسم الخاص بالتبرير والمسؤولية المعرفية. لكن هناك سياقات نعتزم فيها إجراء تقييمات معرفية قاطعة وغير نسبية، حتى لو كنا أثناء القيام بذلك أننا نستخدم المعايير المعرفية التي نقبلها.

السياقية البنيوية

لقد هيمنت على نظرية المعرفة التحليلية القضايا البنيوية المتعلقة بالتبرير والمعرفة في العقود الأخيرة. وغالبًا ما يُنظر إلى السياقية على أنها أطروحة حول بنية التبرير المقصود منها أن تكون استجابة لمشكلة التبرير. تنشأ هذه المشكلة عندما نلاحظ أن بعض القضايا أو الافتراضات التي نعتقد أنها مبررة تدين بتبريرها لمعتقدات أخرى نقبلها؛ فتشكل مثل هذه المعتقدات سلسلة معرفية. لكن ما لم تكن هذه المعتقدات المبررة في السلسلة مبررة بحد ذاتها، يبدو أن لدينا فقط ما يمكن أن نسميه التبرير الشرطي: الارتباط الأصلي في السلسلة مبرر إذا كانت الروابط الإضافية مبررة. لكن كيف لنا إذن أن نفهم طبيعة التبرير غير المشروط؟ الخياران المعياريان للرد على هذا السؤال هما التاليان: 1) الأسسية المعرفية: يتوقف التراجع عن المعتقدات التي يتم تبريرها بطريقة غير استنتاجية، بمعنى أنها لا تُعزى في تبريرها الى الاستدلال على معتقدات أخرى أو استنادها إلى معتقدات أخرى؛ 2) التماسك المعرفي: لا توجد موانع للتراجع، بل إن التبرير هو مسألة ترابط مجموعة محدودة من المعتقدات. تمثل السياقية خيارًا ثالثًا: 3) السياقية المعرفية: ينتهي التراجع بمعتقدات لا تحتاج إلى تبرير في سياق معين.[5] لذا يمكن وصف ما السياق البنيوي على النحو التالي:

إن السياقية البنيوية: قد تنتهي تراجعات التبرير بشكل صحيح بالمعتقدات التي لا تحتاج إلى التبرير في السياق المعني. نطلق على هذه المعتقدات الأخيرة، المعتقدات الأساسية للسياق.[6]

تنقل هذه الصيغة التقريبية الصورة البنيوية الأساسية للتبرير الذي يفضله السياقيون. ويُترك الحديث عن "السياق" بدون تفسير، كما هو الحال بالنسبة للحديث عن المعتقدات التي لا تحتاج إلى تبرير. سأوضح هذه المفاهيم (في القسم التالي) عند تناول الفكرة المحددة للتقييم المعرفي التي اثرت في تفكيري. ومع ذلك، قبل المضي قدمًا، لاحظ أن السياقية البنيوية لا تتطلب أن تستند جميع المعتقدات المبررة استنتاجيًا إلى معتقدات أساسية من حيث السياق، بل تسمح بأن قد ينتهي التراجع بشكل شرعي بمثل هذه المعتقدات. هذا يعني أن السياقي يمكن أن يسمح بأن المعتقدات المبررة للفرد قد تظهر إما كبنية اسسية أو بنية متماسكة.[7] إن ما يدعيه السياقيون هو أن الصورة السياقية تمثل صورة واقعية ودقيقة للبنية الفعلية للمعتقدات المبررة للمرء. وهذا بالفعل ما أخطط لمناقشته فيما يتعلق بالأعتقاد الأخلاقي.

في الختام ، لابدأن نتعرف على ثلاث أطروحات سياقية عامة. أنا أعتبر السياقية الظرفية غير مثيرة للجدل إلى حد ما، على الرغم من أن الإبستيمولوجيين قد يختلفون حول أنواع العوامل الظرفية التي تؤثر على الحالة المعرفية لمعتقدات المرء. وكما سنرى في لاحقا، توضح نظرية المعرفة الأخلاقية أهمية الظروف الاجتماعية للمرء في الوصول إلى معتقدات أخلاقية مبررة. إن السياقية المعيارية (أي النسبية الإبستيمولوجية) مثيرة للجدل تمامًا ولا يجب الخلط بينها وبين السياقية الظرفية أوالبنيوية. لا يُقصد من نظرية المعرفة الأخلاقية السياقية التي سأتناولها أن تكون صيغة من السياقية المعيارية. أخيرًا، أخطط  لنقاش قوة  صيغة من السياقية البنيوية حول الأعتقاد الأخلاقي المبرر، والتي ستكون مدار أهتمامي فيما يلي.

***

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.....................

[1] Stewart Cohen, "Knowledge and Context," Journal of Philosophy          83 (1986), 579.

[2] لمناقشة حالات الذاكرة والإدراك أنظر:

Stewart Cohen, "Knowledge, Context, and Social Standards," Synthese 73 (1987), 3-26.

[3] Ernest Sosa, "Knowledge in Context: Skepticism in Doubt," Philosophical Perspectives 2 (1988), 139-55.

[4] Ernest Sosa, Knowledge in Perspective (Cambridge: Cambridge University Press, 1991), 10 n. 14,

إرنست سوسا صريح حول هذا الموضوع. لذلك يمكننا أن نقول مع كوهين وسوسا فيما  يقترحان ما يعتبرانه مبادئ معرفية صحيحة  بشكل عام والتي تشير إلى أن حقيقة بعض التقييمات المعرفية المحددة تعتمد على الحقائق (بما في ذلك الحقائق الاجتماعية) حول ظروف المرء.

[5] يتحدث الأسسيون عن المعتقدات التأسيسية التي لا تحتاج إلى تبرير أحيانًا ، ويقصدون بها أن مثل هذه المعتقدات، لأنها، على سبيل المثال، "تبرر ذاتها"، فلا تحتاج الحصول على تبرير من معتقدات أخرى. ومع ذلك ، فإن السياقي البنيوي يقصد شيئًا أكثر راديكالية هنا، أي أن هناك معتقدات معينة، في سياقات معينة على الأقل، لا تحتاج إلى نوع من الحالة المعرفية المتمثلة في التمتع بالدعم الإيجابي للأدلة (إما متأصلًا أو من معتقدات وخبرات أخرى) من أجل لعب دور وقف الانحدار في بنية الاعتقاد المبرر. بحصوص الدفاعات عن اللسياق البنيوي فيما يتعلق بالإيمان التجريبي، انظر:

David Annis, "A Contextualist Theory of Epistemic Justification," American Philo¬ sophical Quarterly 15 (1978), 213-19;

Michael Williams, "Coherence, Justification and Truth," Review of Metaphysics 34 (1980), 243-72, and David Henderson, "Epistemic Competence and Contextualist Epistemology: Why Contextualism Is Not Just the Poor Person's Coherentism," Journal of Philosophy 91 (1994), 627-49.

[6] يجب التمييز بين التبرير الاستنتاجي وعملية الاستنتاج النفسي لقضية ما من الأخرى. علاوة على ذلك ، فإن مثل هذا التبرير لا يتطلب أي عملية استنتاج من هذا القبيل ، أنظر:

Laurence BonJour, The Structure of Empirical Knowledge (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1985), 19-20.

[7] بالطبع ، سينكر  السياقي (الذي يتبنى النظرية السياقية)  أي ادعاء من قبل الأسسي بأن وجود اعتقاد أساسي (كما يتصوره الأسسي) ضروري لامتلاك أي معتقدات مبررة على الإطلاق. وكذلك ، سينكر السياقي أي ادعاء من قبل التماسكي( الذي يتبنى نظرية التماسك) بأن وجود مجموعة متماسكة من المعتقدات أمر ضروري لامتلاك أي معتقدات مبررة على الإطلاق.

 

 

موقع مقالات المملكة المتحدة

ترجمة ا. د. رحيم محمد الساعدي

***

تاريخيا، تطورت الفلسفات الشرقية والغربية بمعزل عن بعضها البعض. وحددت المسافة الجغرافية والثقافية بين الحضارة الشرقية والحضارة الغربية اختلافات جوهرية بين الفلسفات الشرقية والغربية.

وفي أعمال الفلاسفة اليونانيين القدماء، مثل سقراط، والفلسفات الشرقية، مثل الطاوية، بعض الأفكار والمفاهيم المشتركة، وبغض النظر عن أوجه التشابه، فإن الاختلافات بين الفلسفات الشرقية والغربية واضحة. ففي هذا الصدد، من الممكن الخوض في الفلسفة التي طورها سقراط والطاوية كفلسفتين مختلفتين، وقد احترمتا صراع الأفراد لتحسين حياتهم وكمالهم الذاتي .

وبهذه الطريقة، قامت الطاوية بعبادة (طاو) باعتباره السبب الأول للكون وطورت الفلسفة التي عبدت طاو وعززت الكمال الذاتي للأفراد لتلبية المثل الطاوية، في حين وقف سقراط على أساس أن الأفراد يجب أن يبحثوا عن الحكمة كطريق للكمال الذاتي، مع الاعتناء بأرواحهم للوصول إلى الانسجام والتوازن الروحي.

مبادئ سقراط

في الواقع، سقراط احد أكثر الفلاسفة تأثيرا في اليونان القديمة التي حددت، إلى حد كبير، تطور ليس فقط الفلسفة القديمة ولكن أيضا الفلسفة الغربية بشكل عام. ووضع سقراط الأساس للمبادئ الأساسية للفلسفة الغربية، والتي تم تعديلها وتغييرها وتكييفها من قبل فلاسفة آخرين. في الوقت نفسه، كانت وجهات نظره، بطريقة ما، عالمية لأن سقراط ركز على تطوير الأفكار والمفاهيم والقيم التي كانت عالمية وقابلة للتطبيق على الثقافات المختلفة. ومن ثم، استمرت فلسفة سقراط عبر الأزمنة والأماكن لعدة قرون.

في مثل هذا السياق، من المهم التركيز على المبادئ الأساسية لفلسفة سقراط ومقارنتها بالمبادئ الأساسية للفلسفة الطاوية. بادئ ذي بدء، شدد سقراط على أهمية الحكمة والمعرفة. واصر على ان الناس يجب أن يتعلموا العالم المحيط  بأنفسهم والظواهر من حولهم.

وطور فكرة أن الحياة لا تبحث لا تستحق العيش. في الوقت نفسه، ظل ناقدا للغاية فيما يتعلق بذاته ومعرفته.

وعند تحليل معرفته يقول "أنا أحكم رجل على قيد الحياة، لأنني أعرف شيئا واحدا، وهو أنني لا أعرف شيئا". بهذه الطريقة، وقف سقراط على الأرض وأن العقل البشري بالكاد يمكن أن يصبح حكيما تماما. بعبارة أخرى، كان لدى سقراط شكوكا في أن الناس يمكن أن يعرفوا كل شيء. وفي هذه المرحلة، كانت وجهات نظره قريبة من الطاوية، تلك التي احترمت طاو باعتباره الإله الأكثر حكمة، والذي لا يمكن تحقيق حكمته للبشر العاديين.

في مثل هذا السياق، تجدر الإشارة إلى حقيقة أن سقراط أصر على أن الحكمة لا ينبغي أن تكون الهدف النهائي للحياة البشرية ولكن ما جعل الحياة هادفة هو البحث عن الحكمة والتعلم:

قرر أن الحكمة ليست هي التي تمكن الشعراء من كتابة شعرهم، بل بنوع من الغريزة أو الإلهام، كأن يجده عند العرافين والملهمين الذين يوصلون كل رسائلهم السامية دون أن يعرفوا على الأقل ما تعنيه.

في الوقت نفسه، ناقش سقراط بأن اهم مهمة في الحياة هي الاهتمام بالنفس: "كل أرواح الرجال خالدة، لكن أرواح الصالحين خالدة وإلهية". لذلك، قال سقراط بأن الناس يجب أن يعتنوا بانفسهم وأن يعيشوا حياة فاضلة ليكونوا جيدين وسعداء. يركز سقراط على حقيقة أن الناس يجب أن يعملوا على تحسين الذات والكمال الذاتي لرعاية روحهم والعيش حياة سعيدة.

في هذه المرحلة، هناك مبدأ آخر لسقراط له أهمية قصوى. يعتقد سقراط أن الشخص الجيد لا يمكن أن يتضرر من قبل الآخرين. ولم يكن الرفاه المادي للشخص مهما بالنسبة لسقراط لأنه: "إنه الأغنى الذي يكتفي بالأقل، لأن محتواه هو ثروتة الطبيعية". لذلك، اعتقد سقراط أنه من خلال الحياة الفاضلة يمكن للناس أن يكونوا سعداء ويعيشون في وئام مع أنفسهم ومع الآخرين.

مبادئ الطاوية

لقد كانت  المبادئ الأساسية للطاوية، بطريقة ما، تشبه مبادئ سقراط، على الرغم من أن المبادئ الطاوية مبنية على أساس ديني. بتعبير أدق، يعتقد الطاوي أن الطاو هو السبب الأول للكون:

"نحن نؤمن بطاو الأبدي الذي لا شكل له، وندرك أن جميع الآلهة المجسدة مجرد اشياء بشرية. نحن نرفض الكراهية والتعصب والعنف غير الضروري، ونحتضن الانسجام والحب والتعلم، كما تعلمنا الطبيعة. ونضع ثقتنا وحياتنا في الطاو، حتى نتمكن من العيش في سلام وتوازن مع الكون، سواء في هذه الحياة الفانية أو خارجها".

وتختلف آراء الطاوية تمامًا عن آراء سقراط  في مجال اخر، لأن الطاوي نظر إلى طاو على أنه الكائن الأسمى، الإله الذي يحكم العالم والبشر، بينما أصر سقراط على قوة العقل البشري. لذلك، كان سقراط أكثر تركيزًا على الإنسان مقارنة بالطاويين الذين كانوا ينظرون إلى طاو على أنهم الإله الأعلى.

في الوقت نفسه، كانت أهداف حياة الإنسان ووجوده في الطاوية، بطريقة ما، مماثلة لأهداف سقراط. وقف الطاوي على الأرض أن هدف المؤمنين هو الانسجام مع طاو. هذا يعني أنه من المفترض أن يسعى الطاوي إلى الانسجام والكمال الذاتي للتوافق مع طاو كما اقترح سقراط للبحث عن المعرفة والكمال الذاتي لرعاية الروح.

في الوقت نفسه، كان سقراط على ما يبدو مهتمًا بالحياة الروحية للناس قبل كل شيء، في حين أن الجوانب المادية للوجود البشري كانت ثانوية بالنسبة له. وأصر على ضرورة تطوير المعرفة والحكمة لدى البشر. في المقابل، شددت الطاوية على أهمية الصحة والحيوية على عكس روح سقراط. بهذه الطريقة، اعتقد الطاوي أن السعادة مستحيلة بدون الصحة والحيوية، بينما كان سقراط أكثر اهتمامًا بالمعرفة والحكمة والروح لدى الناس، بدلاً من جسدهم المادي وصحتهم وحيويتهم.

ومع ذلك، طور الطاوي معتقدات كانت قريبة من فلسفة سقراط. بتعبير أدق، اهتم الطاوي بتطوير الفضيلة على أنها المهمة الرئيسية للفرد. والمقصود هنا أن الطاوى يجب أن يعيش أسلوب حياة فاضلة للوصول إلى الانسجام مع  طاو . وفي المقابل، تؤدي الحياة الآثمة إلى مصائب ومشاكل لا يستطيع الناس مواجهتها في حياتهم.

ولقد  طور الطاوي الاعتقاد بأنه يجب على الناس التخطيط مسبقًا والتفكير بعناية في أفعالهم قبل اتخاذها. ففي هذا الصدد، يتشابك الاعتقاد في التخطيط للأعمال البشرية مع تأكيد سقراط على أهمية الحكمة في حياة الإنسان .

ومن ناحية أخرى، تم تحديد تركيز الطاوية على أهمية تخطيط الإجراءات من خلال الاعتقاد بأن الإجراءات تميل إلى المعاملة بالمثل مما يعني أن الإجراءات الجيدة للفرد تؤدي إلى أفعال جيدة يرتكبها الآخرون فيما يتعلق بالفرد والعكس صحيح.، فإن الأفعال السيئة تثير المصائب والأفعال السيئة التي ترتكب فيما يتعلق بالفرد.

وشدد كل من سقراط والطاوية على أهمية الحياة الفاضلة. واكد سقراط على الحياة الفاضلة كجزء من عناية النفس، بينما نظر الطاوي إلى الحياة الفاضلة كوسيلة للوصول إلى الانسجام مع طاو. بهذه الطريقة، نظرت كلتا الفلسفتين إلى الحياة الفاضلة على أنها ضرورية لأنه بدون نمط حياة فاضل لا يمكن للناس أن يكونوا سعداء في حياتهم. في هذه المرحلة، تعد الحياة الفاضلة أحد المفاهيم الأساسية لكلا الفلسفتين. من ناحية أخرى، تجدر الإشارة إلى حقيقة أن طرق تحقيق الحياة الفاضلة والسعادة تختلف في فلسفة سقراط والطاوية. بعبارة أكثر دقة، آمن سقراط بالحكمة والمعرفة كأداة رئيسية يمكن للناس من خلالها أن يصبحوا فاضلين، بينما اعتقد الطاوية أنه من خلال عبادة الطاو واحترام مبادئ الطاوية يمكن للناس أن يتمتعوا بالفضيلة، وبالتالي سعداء.

استنتاج

مع الأخذ في الاعتبار كل ما ذكر أعلاه، من المهم التركيز على حقيقة أن سقراط والطاوية طورا لفلسفات كان لها أوجه تشابه واختلاف. للوهلة الأولى، تختلف فلسفة سقراط والطاوية تماما، خاصة فيما يتعلق بدور المعتقدات الدينية في حياة الناس. فمن ناحية، نظر سقراط إلى المعرفة والحكمة على أنهما قضيتان تستحقان العيش. ومن ناحية أخرى، نظرت الطاوية إلى عبادة الطاو والعيش وفقا لمبادئ الطاوية على أنها الطريقة الوحيدة للحياة للطاويين الحقيقيين. وفي مثل هذه الحالة فان سقراط والطاويين طوروا وجهات نظر كانت متشابهة إلى حد ما. كما نظر كلا من سقراط والطاوية إلى الحياة الفاضلة كمفاهيم أساسية لسعادة الناس. في الوقت نفسه، كما اتفق كل من سقراط والطاوية على أن الناس، على الرغم من جهودهم للتعلم والكفاح من أجل المعرفة، لا يمكن أن يكونوا دائما حكماء وأن الناس الحكماء يمكن أن يكونوا قليلي المعرفة .

***

إن المنهج الذي تبناه ماركس في فلسفته السياسية، وفي بناء نظريته حول الدولة، يؤكد على ضرورة الابتعاد عن المطلق والخلود والتقديس والذاتيّة في رؤيتنا للظواهر الاجتماعيّة ومنها الدولة، والتركيز على النسبية في آليّة عمل الظاهرة التي نتعامل معها.

بتعبير آخر: إن المنهج الماركسي يرفض كل إضفاء المطلق على الحقائق الخالدة، أو على أي موضوع يُعْتَقُد أنه يوجد لذاته بعيداً عن العلاقات الاجتماعيّة الموضوعيّة والذاتيّة، بل يجب الانطلاق من التجربة الإنسانيّة، ذلك أن العالم المحسوس ليس هو سوى الفعاليّة العمليّة والمعرفيّة للنشاط الإنسانيّ الماديّ والروحيّ معاً، وأن العلاقة بين النشاط الإنسانيّ والمعرفة، هي علاقة جدليّة ديالكتيكيّة، ذات سيرورة وصيرورة مستمرة.

انطلاقاً من هذه الرؤية المنهجية الماديّة التاريخيّة، فأن البحث في الظواهر يجب أن يستقل عن الأيديولوجيات المسبقة التي وضعت داخل الغرف المغلقة، وأولها المفهوم المطلق الذي يضفي على الموضوع نوعا من التحيز واللاموضوعيّة. والأيديولوجيا حسب ماركس، هي الوهم الذي يقوم على طرح معرفة تعد نفسها مستقلة عن السيرورة الحيويّة للإنسان وعن وجوده الاختياري. وهذا ما يجعلنا نستنتج أن ماركس ينطلق من الواقع باعتباره الأساس الذي يفضي إلى المعرفة، وهو نفسه – أي ماركس - الذي أدى به إلى الارتباط بالفكر الثوريّ المعارض للأيديولوجيات، وبه سينتقد العلاقة بين طبقات المجتمع. إذاً من خلال هذا المنهج يُطرح علينا السؤال التالي: كيف نظر كارل ماركس إلى الدولة؟

الصراع الطبقيّ والدولة:

لقد أكد فكر ماركس في كتابيه (الجزء الثالث من الرأسمال) و(مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي)، وكذلك انجلز في كتابه (أصل الملكيّة والعائلة والدولة)، ولينين في كتابه (الدولة)، بأن ظهور اَلْمِلْكِيّةِ الخاصة يعتبر السبب الرئيس في تشكل النواة الأولى للدولة، هذه اَلْمِلْكِيّةُ التي فرزت المجتمع منذ البداية بين مالك ومنتج، وأوجدت بالضرورة علاقات استغلاليّة أدت إلى تناقضات وصراعات متواترة في حدتها، أفضت إلى خلق تحولات عميقة ومستمرة داخل البنية الاجتماعيّة، ممثلة في طريقة أسلوب الإنتاج المهيمن في كل مرحلة من مراحل تحول التاريخ البشري. وهذا ما جعل منظرو الماركسيّة وفي مقدمتهم ماركس يذهبون إلى القول بأن الدولة ما هي إلا ثمرة الصراع الطبقيّ، فمنه ولدت الدولة أول مرة، لكي تعمل على إخماد نيران التناقضات والصراعات التي نشبت ولم تزل تنشب بين طبقتين متناقضتين اقتصاديّاً، فالأولى: تملك وسائل الإنتاج وتطمح إلى تراكم وزيادة الأرباح، والثانية :طبقة منتجة لا تملك إلا قوة عملها، حيث استطاعت الطبقة المالكة أن تحول قوة العمل (أي جهد المنتج) ذاتها إلى سلعة، بعد أن استُلبت قوة العمل هذه اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا وروحيّا، وبعد أن قامت بتغريب العامل المنتج وتشيئه وتحويله إلا ترس في آلة.

إذن لقد استعمل كارل ماركس الصراع الطبقيّ من أجل فهم وتحليل الظواهر الاجتماعيّة، وعلاقة المجتمع بالحروب والأوبئة والثورات والغنى والفقر، وانتهى إلى القول: إن كل المجتمعات في صراع دائم، مادامت الأطماع تتنافس على السلطة والثروة، كما يؤكد على أن القوي وصاحب الهيمنة هو من يستطيع الانفراد بالسلطة والحصول عليها والهيمنة على الثروات، بدون أن يكون هناك الحاجة إلى التوافق المهاراتي والتعاقد، وأن الطبقات المستغلة تسعى دائما إلى الاغتناء والحفاظ على مكانتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ويكون سلاحهم في ذلك القمع والسيطرة على حقوق الطبقة المسحوقة أو المستغلة، بيد أن تصور الماركسيّة للتاريخ يبين لنا أن هذا الظلم الذي مارسته وتمارسه الطبقات المالكة على القوى المنتجة ومنها البروليتارية من قبل الطبقة الرأسماليّة، (1)، لابد أن ينتج عن هذا الاستغلال المتوحش للطبقة العاملة ردود أفعال وثورات ضد الطبقة الرأسماليّة ونظامها. لأن من طبيعة الطبقة البرجوازيّة الوقوف ضد رغبات القوى المضطهدة ومنعها من تحقيق عدالتها ومساواتها، أي منعها من تحقيق إقامة نظام اجتماعيّ عادل تختفي فيه الفوارق بين الأفراد وتزول فيه الطبقات. هذا وينظر ماركس إلى المجتمع باعتباره وحدة عضويّة كليّة ومترابطة، ولا يمكن فهم أي جزء منها معزولا عن الأجزاء الأخرى، فالعلاقات التي تحكم المجتمع هي أساساً علاقة التكامل والتواصل والترابط، ولا مكان فيه لاصطدامات بين مكوناته، ومن خلال النص التالي يبين لنا ماركس كيف تحولت العلاقة بين الطبقة البروليتاريّة والطبقة البرجوازيّة إلى علاقة صراع. “يستتبع التملك الخاص لوسائل الإنتاج تقسيم العمل، ولهذا التقسيم وجهه الإيجابيّ فيما أنه يحقق تقدما في جعل العمل اجتماعيّا (بواسطة السوق) غير أن هذه القوة الإنتاجيّة تفلت من رقابة الناس وتنتج بدورها نتائجها الخاصة، إذ يستحوذ أصحاب الوظائف العليا على وسائل الإنتاج وتتيح ملكيّة هذه الوسائل للمالكين أن يتناقلوا وظائف القيادة التي تستبعد عنها غير المالكين، حينئذ تظهر الطبقات الاجتماعية، وعلى هذا الأساس لم يكن تاريخ كل مجتمع إلى أيامنا هذه غير تاريخ صراع الطبقات”.(2).

يحسم ماركس في أن التاريخ كله صراع بين الطبقات، والتاريخ دائما في طريقه نحو غاية محددة ومن بين مراحله، خضوع الطبقة البروليتاريّة لظروف مجحفة، سيؤدي لا محالة إلى التفاوت الطبقيّ وتجلي تناقضاته الكبيرة، وبالتالي اندلاع الثورة، كما يفترض ماركس بأن التوزيع غير المتكافئ داخل المجتمع سيبقى على حاله من خلال الإكراه الإيديولوجيّ، حيث أن البرجوازيّة تفرض على البروليتارية الرضوخ لظروف العالم الرأسماليّ، ونجده ينبه إلى أن البروليتارية ستثور على قوانين البرجوازية. “من خلال فهم جدل التاريخ الكليّ للماضي والحاضر والمستقبل، وسيقوم التناقض الجدليّ بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج المتوسعة باستثمار القانون الصارم الضروري للتاريخ، والذي نستطيع بواسطته التنبؤ بالمستقبل والتطور التاريخيّ التالي كأمر حتمي، وبناءً على ذلك سوف تصبح البروليتاريا ذات توجهات ثوريّة وتقضي على العلاقات الرأسماليّة للإنتاج وعلى القاعدة الاقتصاديّة للنظام الرأسماليّ تماما، مثلما قضت الطبقة الرأسماليّة الناشئة على الأساس الاقتصاديّ للنظام الإقطاعيّ، وسوف تقوم البروليتاريا باستحداث طريقة شيوعيّة للإنتاج، وتستولي على السلطة السياسيّة، وتقيم ديكتاتوريّة البروليتارية كمرحلة انتقاليّة قبل قيام المجتمع غير الطبقي، وفي هذا العالم الشيوعيّ المستقبلي لن تكون هناك أية مِلْكِيّةٍ خاصة أو تقسيم للعمل أو صراع طبقيّ أو استغلال للبشر أو اغتراب في أي من المؤسسات الأسريّة والأخلاقيّة والقانونيّة والحكوميّة، ولن تكون هناك أي إيديولوجية”. (3).

إن للصراع الطبقي إذاً نهاية بنظر ماركس ومنظري الماركسية، حينما تقوم الثورة من قبل القوى المنتجة المضطهدة على القوى المالكة والمسيطرة على السلطة، وهذا ما حدث في مرحلة العبوديّة عندما ثار العبيد على اسيادهم في الإمبراطوريّة الرومانية (سبارتاكوس) مثلاً. وهذا ما تم مع ثورات الفلاحين (1524_1525) في المانية، حيث كانت ثورة شعبيّة عارمة في الإمبراطوريّة الرومانيّة المقدسة، نتيجة للاضطهاد القاسي الذي تعرضوا له والأوضاع المعيشيّة السيئة التي عاشوها..(4). وهذا ما قمت به الطبقة الرأسمالية وحليفتها الطبقة العماليّة في الثورة الفرنسيّة ضد سلطة الملك والنبلاء والكنيسة (1789).(5). وكذلك في كومونة باريس (1871). وكانت حركة نقابيّة وعماليّة يساريّة، قامت بثورة تعتبر أول ثورة اشتراكيّة في العصر الحديث استولت على السلطة في فرنسا لمدة شهرين. وقامت بتعديل لون العلم الفرنسي إلى اللون الأحمر، وأجرت العديد من الإصلاحات أهمها: الإصلاحات التربويّة، وفصل الدولة عن الدين، وإلغاء العمل الليليّ، ومنع الغرامات و الضرائب المفروضة على أجور العمال، واستطاعت تشغيل المعامل التي تركها أصحابها هرباً ولجأوا إلى فرساي، تحول العمال والعاملات إلى جنود فوق المتاريس للدفاع عن إنجازهم، لكن كان قمع الثورة دمويا بشكل فظيع على يد "تيير"، وذلك في الايام الستة الأخيرة من عمر الثورة، مما اأدى إلى سقوط الثورة بعد مجازر دمويّة، لكنها كانت النار التي أوقدت العديد من الثورات الاشتراكيّة بعدها، وما زال الشيوعيون حول العالم يحتفلون بذكرى كومونة باريس إلى يومنا هذا. (6).

وهكذا واجهت البروليتاريا الطبقة البرجوازيّة، رافضة العيش داخل المجتمع الرأسماليّ، الذي يعتمد على تقسيم العمل وفق قوانين غير عادلة، وأمام طموحات الطبقة البرجوازيّة، رافضة استمرار استغلالها.

إن كل تلك الثورات التي جئنا عليها أعلاه عبر التاريخ، وغيرها من ثورات ستأتي لا حقا داخل المجتمعات والدول التي يسيطر فيها المالك المستبد على المنتج، لعبت وستلعب دوراً في تغيير طبيعة النظم الاجتماعيّ والدولة معاً بنظر ماركس وقادة الفكر الماركسي. بل ستؤدي بالضرورة هذه الثورات عندهم إلى (اضمحلال الدولة) في نهاية الأمر، لأنها كانت ولم تزل إلى جانب الطبقات والقوى المستغلة وغير عادلة، والمسخرة مؤسساتها وأدوات قمعها دائما لمصلحة طبقة على حساب أخرى، ولم ترع حقوق الأفراد داخل المجتمع، لذلك (تنبأ) ماركس بدولة شيوعيّة ستحارب الملكيّة الخاصة لوسائل الإنتاج وستمنع الاستحواذ عليها من طرف طبقة معينة، والأهم من هذا ستختفي الإيديولوجيا لأنها كانت تمثل أداة للسيطرة بواسطة نشر الأفكار التي تفرضها الطبقة الحاكمة. كما أن ماركس يتحدث عن مرحلة أساسيّة بعد قيام الثورة، وهي المرحلة الانتقاليّة التي يسميها بـ(ديكتاتوريّة البروليتاريا)، وجميع المجتمعات البشرية مرت كما بينا في موقع سابق بمراحل تحكمها جدلية التناقض الطبقي، بدءا بالمرحلة البدائيّة وبعدها المرحلة العبوديّة ثم مرحلة الإقطاعيّة وبعدها الرأسماليّة، إلى أن تستقر الأوضاع في المجتمع الشيوعيّ الأقرب لتوفير إمكانيّة العيش بكرامة لجميع الأفراد، بحيث أن المجتمع الشيوعيّ هذاعلى حد تعبير ماركس، لا تتواجد فيه الطبقات، ويضمن الحريّة للجميع باعتبارها أساس الشيوعيّة، وإلى حين الوصول إلى هذه المرحلة يقبع المجتمع أثناء المرحلة الانتقاليّة في ظل تغير العلاقات الاجتماعيّة وستزول التمايزات الطبقيّة نتيجة استغلال السلطة الثوريّة التي تتمتع بها البروليتاريّة التي تمثل غالبية القوى الشعبيّة. وتحدث ماركس عن المرحلة الانتقاليّة بصفتها واحدة لجميع الشعوب لأنها هي المرحلة النهائيّة لعصر الثورة الاشتراكيّة العالميّة.(7).

يتبين إذن، أن الدولة كمفهوم سياسيّ وفلسفيّ لم يتناوله كارل ماركس بذلك التقديس الذي تعامل معه فلاسفة العقد الاجتماعيّ، وإذا كان هؤلاء قد أسسوا لقوانين الدولة وبينوا أهميتها وضرورتها لضمان الحريّة والحقوق للجميع، باعتبارها المشترك الذي يتشارك فيه كل أفراد المجتمع، إلا أن كارل ماركس راح يحذر من الدولة باعتبارها حاملة للإيديولوجيا وغير بريئة، وأنها لا تخدم جميع مصالح أبناء الوطن الوحيد، كونها هي نتيجة للصراع داخل المجتمع بين المستغِل والمستغَل وستتخلى عن الواجب والمسؤوليّة التي تم تأسيسها من أجلهما، وستتحول إلى اداة قمع بيد الطبقة المسيطرة على مقاليدها، وستقوم القوى المسيطرة عبر الدولة بفرض قوانين تخدم مصالحها وليس مصالح الشعب، وبناءً على ذلك فإن مصير الدولة سيكون الاضمحلال والزوال، لكي يقوم مجتمع جديد ينبع من ثورة البروليتاريا ومجتمعها الشيوعيّ الضامن للحريّة والمانع لاحتكار وسائل إنتاج الثروة.

ومع ذلك سيظل السؤال المشروع يفرض نفسه علينا هنا وهو: كيف ستسقط الدولة إذن؟.

اضمحلال الدولة وفخ الأيديولوجيا:

الشائع أن ماركس نظر إلى الدولة باعتبارها أداة للقمع والسيطرة وفرض الإيديولوجيا المهيمنة ضد الطبقة المسحوقة داخل المجتمع، وهذا ما قال به "انجلز" بأنها الجهاز القمعي الذي تمتلكه طبقة ضد أخرى، وهي في أحسن الأحوال شر ترثه البروليتاريا المنتصرة في الكفاح، من أجل السيطرة الطبقيّة، كما أنها ليست سوى منظمة مؤقتة تستخدم في النضال من أجل تحطيم الأعداء بالعنف، وأنه من التناقض القول بدولة شعبيّة حرة. وما دامت البروليتاريا في حاجة إلى الدولة، فإنها لا تحتاج إليها من أجل الحريّة وإنما لقمع أعدائها، وما أن يصبح بالإمكان التحدث عن الحريّة حتى تزول الدولة بوصفها دولة. فالدولة عند ماركس وانجلز بالتالي، هي النقيض الضروري للحريّة، ولابد من مرحلة في التاريخ تسقط فيها الدولة في ظل الحاجة الملحة للطبقة الشعبيّة التي ستتمتع بالحريّة بكونها أساس الحياة العادلة. حينئذ تبرز جماعة مشتركة يكون النمو الحر داخلها لكل واحد فيها هو الشرط لتحقيق الحريّة والعدالة والمساواة.. فما أن تزول التناحرات بين الطبقات عندئذ ستفقد السلطة العامة طابعها السياسيّ، فالسلطة السياسيّة بالمعنى الصحيح هي السلطة المنظمة لطبقة من أجل اضطهاد الطبقات الأخرى.

فالدولة إذن عند ماركس، مرتبطة بالاضطهاد لكونها تمثل سلطة سياسيّة، وزوالها هو إيجابيّ وفي صالح المجتمع الشيوعيّ الذي يخضع لمنطق السلطة العامة عوضاً عن السلطة ذات الطابع السياسيّ، ورغم هذا فإن ماركس لم يعط تصوره للمجتمع الشيوعيّ بالشكل المطلوب، بحيث يسهل فهم نظريته حول الدولة، وفهم غاية الرجل من هذا المجتمع المستقبلي، غير أنه واضح القول بمجرد قيام النظام االشيوعي تنحل الدولة من تلقاء ذاتها وتزول. هنا وقع ماركس برأيي ومن أيده في طرحهم لفكرة نهاية الدولة في فخ الأيديولوجيا، حيث من خلال المنهج الماديّ الجدليّ التاريخيّ الذي من خلال قوانينه ومقولاته قاموا بتحليل الماضي والحاضر وفقاً لمعطيات تاريخيّة فسحت لهم في المجال واسعاً كي يحللوا معطيات الماضي، وكذلك معطيات الحاضر ويكتشفوا حقائق موضوعيّة وذاتيّة عجزت عن إثباتها المناهج المثاليّة عموماً، وعند محاولة تحليلهم رسم أفق المستقبل الذي يفتقد إلى معطيات ملموسة، وبالتالي يقوم النظر إلى هذا المستقبل وفق استنتاجات منطقيّة تتكئ على معطيات الماضي والحاضر المعيوش. والاستنتاجات المنطقيّة تظل رؤى ومواقف ذهنيّة وفي أعلى مستوياتها نظريات هي أقرب إلى الأيديولوجيا، التي نعتها ماركس نفسه بأنها وهم.

لقد تبين معنا من خلال نجاح الثورات العماليّة أو حتى الشعبيّة التي أدت إلى قيام الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكيّة واستمرار أنظمتها حتى العقد الأخير من القرن العشرين، أن الدولة استمرت في حضورها القوي والفاعل، ورغم ما حققته من انجازات عظيمة لشعوبها، إلا أن شهوة السلطة عند الطبقة أو القوى التي سيطرت على الدولة في هذه الأنظمة قد حولتها إلى دول شموليّة سميت بأنموذج الدولة الستالينيّة، وهي دولة حوصرت فيها حريّة الفرد والمجتمع ورفض الرأي الآخر وبناء السجون للمختلف والتنكيل به، وزرع الخوف في عقول أبناء المجتمع، وفي العديد من الأنظمة الاشتراكيّة تحولت السلطة فيها إلى سلطة عشيرة وقبيلة وطائفة. الأمر الذي أفرغ كل منطلقات هذه الدولة من مضمونها الديمقراطيّ والعلمانيّ. لذلك انهارت أو سقطت معظم هذه الدول وفي مقدمتها الاتحاد السوفيتي.

نستخلص من كل الذي جئنا عليه اعلاه، أن نظريّة الدولة عند كارل ماركس ارتبطت بمسألة الأداة، لأنها تخدم طبقة معينة، وهي الطبقة الحاكمة من أجل فرض وضمان استقرار المجتمع الطبقيّ، ومع وصول الجميع إلى الحريّة ستنهار الدولة، وهذا ما اثبت فشله تاريخيّا، وفشل (الاناركيّة) أو اللاسلطويّة كفلسفة سياسيّة، قامت فكرتها على أن الدولة غير مرغوب فيها، وهي غير مهمة ومضرّة للمجتمع، وبالتالي راحت تروّج لمجتمع بلا دولة، و تسعى لتحجيم أو الغاء تدخل السلطة في سلوك العلاقات الانسانيّة. الأمر الذي أوصل دعاة الاناركيّة إلى التطرف، وتصنيف دعاتها تحت اسم "اليسار المتطرف ". (8). كما فشلت أيضاً مقولة مزيداً من الاشتراكيّة، يعني مزيداً من الديمقراطيّة، أي الحريّة.

***

د. عدنان عويد

.........................

الهوامش:

1- للتعمق أكثر في معرفة هذه المسألة راجع (كتاب أصل رأس المال - لأنجلز إصدار دار التقدم - موسكو) وكتاب (تحول قوة العمل إلى رأسمال لماركس. إصدار دار التقدم موسكو).

2- راجع البيان الشيوعي. تأليف ماركس وانجلز - ترجمة العفيف الأخضر -

3- للاستزادة في هذا الموضع راج موقع منبر 24 -“مفهوم الدولة عند كارل ماركس ونقده للدولة الرأسمالية”. بقلم حسن سمر: أستاذ باحث في الفلسفة السياسية.

4- راجع موقع المعرفة – حرب الفلاحين في ألمانية.

5- راجع موقع الموسوعة السياسية. الثورة الفرنسية - الإعداد العلمي - أحلام أزوتار نشر في: 2021-04-18)... وراجع أيضاً موقع بدايات - ماركس والدولة – تلخيص لكتاب – (لماذا كان ماركس على حقّ؟). لتيري إيغلتن.

6- راجع موقع المعرفة – كومونة باريس من قبل الطبقة العمالية ضد الطبقة الرأسمالية.

7- للاستزادة في هذا الموضع راج موقع منبر 24 مرجع سابق.

8- ويكيبيديا.

 

في المثقف اليوم