أقلام فكرية

عصمت نصار: الجواب المطلوب وضرورة الفلسفة

يسألونك عن الفلسفة ومقامها ومنفعتها ومقاصدها فقل لما كانت المعاني والمفاهيم لا تعرف إلا بأضدادها ونظائرها فالفلسفة في أبسط معانيها هي المنهج المسئول عن تهذيب الأفكار ونقدها وتقويمها وتأهيلها للممارسة والتفعيل ولها جانبان تطبيقي ونظري يختص الأول بالنهوج والثاني بالآراء والرؤى والتصورات دون أدنى قيد أو شرط سوى العقلانية المشفوعة بالدليل والبرهان.

وأبسط مفاهيم الفلسفة التطبيقية أي في جانبها العملي والإجرائي هو المنهج الذي تشتمل مقاصده على تحليل بنية الوافد إلى العقل من معارف شتى ثم تنظيمها وترتيبها في شكل نسقي يسهل على الذهن استيعابه وتقييمه ثم نقضه وتوجيه تلك المعارف إلى خدمة صوالحه كفرد، وعضو في جماعة ومنتمي إلى وطن وعقيدة ووجهة.

والفلسفة أيضا هي ذلك الميزان الحساس الذي يفاضل بين الرغبات والغايات والطموحات بموازنة ترضي الأنا وينطلق من ما انتهت إليه من قناعات إلى العمل والاجتهاد والابداع ليحقق ما اهتدت إليه الذات ولعل مقدمة (إعرف نفسك) التي طالما رددها الفلاسفة والحكماء في شتى العصور والثقافات هي مفتاح حسن الاختيار وأفضل النهوج للعيش الصادق والآمن مع الذات والأغيار.

وهي النهج الذي يحتكم إليه لاختبار الآراء والعواطف والعادات والتقاليد والنافع من الأعمال ثم انتخاب أيسر الآليات لتحقيقها كما أن الحكمة العملية هي التي تمنح قدرة الذهن على التمييز بين الأضداد والمتشابهات (الاستبداد والحسم، الحرية والفوضى، الالزام والالتزام، الثابت والمتحول، الذكاء والدهاء، النافع والمفيد، الدين والعقيدة، الشرائع والشعائر، الحب والشهوة، مشورة الأيقاظ العارفين و ديموقراطية الدهماء المغيبين، القبيح والمستقبح.) وغير ذلك من الأشباه والنظائر التي تسبب شكلا من أشكال الإشكاليات.

والفلسفة هي دوما القادرة على البحث عن أجوبة مقنعة وبراهين صادقة مثل: ما سبب؟ وكيف يقع؟ ومن هو؟ وماذا يطلب؟. وعن طريق تلك الإجابات تمكن الأذهان من كشف النقاب وفضح المستور ونقد الأكاذيب، ونقض الأوهام.

أضف إلى ذلك كله أن للفلسفة خاصية تنفرد بها عن كل المعارف الإنسانية ألا وهي الجمع بين النقائض والأضاد ويرجع ذلك لكونها الرحم الذي تولدت عنه كل الأفكار والتصورات والرؤى بجميع أشكالها فهي لا تتبرأ من الجنوح والجموح والشطح والالتزام والركوض والرقود وهي تفلح في الوقت نفسه في إعطاء الدواء ومعالجة الجانحين والمجترئين والمتطرفين والرجعيين والجامدين والواقعيين والحالمين ولا تفيق بكل أشكال النقد ولا تعبئ بالنقض غير المبرر.

وهي اللغة التي تستطيع أن تتشكل في أنساق شتى وترتدي جل الأساليب للتعبير عن ما تحويه من أفكار وتصورات ومعاني فتخاطب العوام في قالب النكتة وتعبر عن مكنونها بالضحك والسخرية وهي قادرة على تهذيب وتثقيف أحاديث العلماء وتحمي تعبيراتهم من الغموض واللبس حتى يتحقق التواصل بين المتحاورين وتقترح الأفكار بين المخاطب والمتلقي . فالتفكير الفلسفي يمتلك الآليات التي تمكنه من بناء الأنساق العلمية وفحصها وتفكيك السياقات المعرفية وغربلتها .

وهي الآلية التي يعول عليها المفكرون بخاصة والمثقفون بعامة في إحياء النفيس من الموروث ونقضه وتجديده وتحديثه واستيعاب الطريف والمبتكر وتقييمه وتطويعه وإعادة تشكيله ليتوائم مع العقل الجمعي والروح العام لمختلف الثقافات.

***

أما عن الهجمة غير المبررة على التفكير الفلسفي ومكانة معارفه في المناهج الدراسية فأقل ما يمكننا وصفه به هو عبث حاطب ليل مثل طالب العلم الذي ألقى بآلياته بجية تحصيله أو من أراد القضاء على المرض بترياق الأفاعي أو من استشار البلهاء والحمقى لكتابة دستور وميثاق للمستقبل وحسبه في هذا المقام الاستشهاد بقادة الرأي وزعماء الإصلاح ورواد التنوير في مصر والعالم العربي وذلك في رحلة انتقال المجتمع من طور التخلف والتقليد إلى طور النهوض والتجديد إذ بدأوا بإدخال المعارف الفلسفية في بنية المناهج والمقررات الدراسية والتربوية بداية من أخريات القرن السابع عشر إلى نجاحهم في الاشراف على أقسام تدريس الفلسفة في شتى جامعات العالم العربي والإسلامي.

أما عن دور الفلسفة في نهضة الفكر المصري فتشهد الواقعات والأحداث بأن المتفلسفة المحدثين هم الذيم هذبوا المناهج الدراسية وطوروا المنابر الثقافية ووجهوا الصحافة صوب الغاية الكبرى ألا وهي إعادة تشكيل العقل الجمعي المصري لاستيعاب الوافد من الموروث والجديد من النافع غير المألوف.

وهم أيضا بفضل استيعابهم للمناهج الفلسفية حرروا العقل الجمعي من العديد من القيود التي فرضت عليهم مثل الجهل والخرافة والوعي الزائف والاستبداد والتبعية والخلط بين العقائد والمعتقدات والشائع والمعروف الذي تؤكده التجربة العلمية وراحوا يعودون شبيبة المثقفين على استيعاب مختلف الآراء دون تعصب والاقلاع عن الاندفاع في معالجة الصعاب والمشكلات وأن الأناه والموضوعية هما السبيل الأمثل للحل دون القوة والعنف أو التعلق بالشعارات الزائفة.

وعودوا قادة الرأي من الحكام والوزراء على ضرورة الاستعانة بالنابهين من المفكرين في التشاور.

وبالجملة أن من يتأمل سجل الأعلام في الأدب والعلم والتربية والسياسة والدين سوف يجد في طليعة كل هذه السجلات من تغذوا وفطنوا واستوعبوا النهوج الفلسفية في شتى نواحي حياتهم الشخصية والعملية والعلمية.

ومن المثير للأسف وجود عشرات الاستفتاءات قامت بها أعرق الصحف المصرية حول القرارات والقوانين والحلول المقترحة لحل كل قضايا المجتمع منذ مئة عام بينما نعاني اليوم من جمود فكري يطيح بالمعارف الفلسفية بحجة أنها غير منتجة في المدينة الفاضلة التي يحلمون بها علما بأن تلك الأحلام لا يمكن تحققها إلا بفضل من يريدون طردهم منها وعلى من يشكك في ما أوردته عليه بقراءة وقائع أسس النهضة المصرية ومقابلتها بالواقع المعيش الذي أهملنا فيه المعارف الفلسفية وقيدنا ألسنة وأقلام العارفين من أهلها وادعينا أن المجتمع والمستقبل المأمول ليس في حاجة إلى لغوهم وغاب عن أولئك المشككين أن منابرهم الإعلامية قد عملقت الأقزام وأجلست المشاهير من الجهلاء على الكراسي ومنابر بغير استحقاق.

ونصيحتي التي لن أمّل من تكرار التنبيه على ضرورة التمهل في الإجابة عن السؤال المطروح من نحن وماذا نريد ولماذا؟.

***

أ. د. عصمت نصار أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة فرع الخرطوم

 

في المثقف اليوم