أقلام فكرية
بتول قاسم: التفكيكية.. تقويض ميتافيزيقا (الأصل)
التفكيكية من التيارات الفلسفية والنقدية التي تأثرت بأفكار هيجل ونتشه وهايدجر وشتراوس كما تبين الدراسات، وهي تتصل بالفلسفة أكثر من اتصلالها بالنقد الذي انسحبت اليه من ميدان الفلسفة. وتعد امتداداً للبنيوية فهناك من يراها (حركة بنيوية) (1) ويعد مؤسسها دريدا مفكراً بنيوياً إلا انه تجاوز البنيوية وانتقدها، ولهذا يعدونها كذلك (ضد البنيوية) وانقلاباً عليها وأنها تمثل مرحلة (ما بعد البنيوية). وقد وجه دريدا نقداً للتراث الفلسفي والميتافيزيقا الغربية التي يمثل التعبير الأكثر صرامة عنها - كما يرى - نظام هيجل ونظام دي سوسير اللغوي، وسعى الى تفكيك هذين النظامين عن طريق کشف التباساتهما وتناقضاتهما (2). وقد وضع الافتراضات الميتافيزيقية الأساسية في الفلسفة الغربية منذ افلاطون موضع الاستفهام والسؤال ووجه اهتمامه الى نقض وتقويض فكرة (الأصل) التي توحي بمعنى: الأول السابق والأساس الذي يُبنى عليه والمركز والمبدأ والعلة في الوجود وهو ما يرتبط بفكرة الثبات والتعالي والماوراء والتجاوز. وهو قد صدر بهذا عن طبيعة العصر الفينومينولوجية وأفكاره المادية التي تنفي فكرة الغيب وماوراء الوجود، وتدعو الى ملاحظة عالم الظواهر المادي والاهتمام به وهو عالم التغير والحركة والصيرورة التي لا تعرف الثبات. وتمثل فكرة نيتشه (موت الإله) التجسيد الأبرز لنزعة العصر المادية ونفي فكرة المرجع الذي يتجاوز الوجود الظاهر. وقد دأب دريدا على تفنيد فكرة الأصل الأول والمركز الثابت فلا وجود له كما يذهب لأن الأفكار والأشياء يتخللها الاختلاف فالأصل هو الاختلاف الذي يتخلل هذا الطرف الذي ينظر اليه بأنه الأصل والمركز. ومادام الاختلاف يشوبه فلا يمكن أن نعده أصلاً فما يختلف معه أو نقيضه موجود معه فلا معنى لهذه الأصلية. ومن هنا ساوت التفكيكية بين الطرفين المتناقضين أو المختلفين في علاقة الاختلاف أو التناقض ورأت أن ليس صحيحاً التفريق بينهما بصفة الأسبقية المتعالية. ونرى أن إلحاحها على هذه الفكرة وتكريس جهدها لتفنيدها إنما هو موقف ايديولوجي أكثر منه فلسفة لترسيخ سلطان النزعة المادية على العالم وهدم اللاهوت والميتافيزيقا والأصل الإلهي للعالم للوصول الى عالم بلا أصل يتحرك في صيرورة مستمرة تائهة لا تعرف الثبات، وهكذا تنجز التفكيكية مهمتها العدمية.
ولقد أعلنت في نقدها للميتافيزيقا الأوربية أنها تريد إعادة صياغة العلاقة بين الطرفين المختلفَين اللذين يمثلان طرفي علاقة الاختلاف أو التناقض التي تدرس الفلسفات الجدلية من خلالها الظواهر. فالثنائيات الفلسفية - كما ترى - هي تراتبات يكون فيها الطرف الأول أصلاً وسابقاً ومستقلاً وأساسياً. ويعامل فيها الطرف الثاني على انه تبع وتكرار أو تجل للطرف الأول، فقد بدأ الميتافيزيقيون جميعاً على النحو الآتي: الخير قبل الشر، الإيجابي قبل السلبي، البسيط قبل المعقد، الجوهري قبل العرضي، المركز قبل الهامش، الخ.. ويطلق ديريدا على الرغبة في المركز اسم التمركز حول المنطق في كتابه (علم الكتابة). وتعمل التفكيكية على حل وتفكيك هذه الثنائيات المتراتبة. وتفكيك هذه التراتبات كما تبيّن، يعني قلبها بالكشف عن أن الطرف الأول الذي افترض فيه الأصلية والاستقلال يمكن معاملته على انه حالة خاصة للثاني أو طرف مقابل ومساوٍ له. وترفض التفكيكية السماح لأي عنصر من عناصر النظام أو النسق بالتحول الى مركز ضامن للحضور بملاحظة التراتب والعمل على قلبه ومقاومـة استفحـال أي تراتب جديد يحـل فيه الـطرف الثاني في موقـع الأفضـلية أيضاً (3)، فهي تبقي على تكافؤ الضدين قائماً لأن أحد الضدين يحيل الى لاحقه دائماً فلا هوية خالصة له(4) لذا فإن الاختلاف هو الأصل.
لقد أنكرت التفكيكية التمركز حول أحد النقيضين أو المختلفين دون الآخر وانتقدت التمركز حول العقل في الفلسفة الغربية بوصفه أصلاً ومصدراً متعالياً للمعرفة يقرر المعنى والحقيقة والقيم وعملت على نسف مرجعيته والتشكيك بقدراته مما يؤدي الى انكار كل حقيقة وكل يقين فلا معرفة ولا حقيقة يمكن الظفر بها وهي غائبة مرجأة دائماً، والارجاء يشير الى غياب المعنى الدائم. ويذكرنا موقف التفكيكية هذا بالسفسطائية التي قامت على مبدأ الشك فلا حقيقة ثابتة مطلقة، وليس العقل مصدراً للحقيقة لديها. الخطاب التفكيكي كذلك يلغي مركزية العقل والانظمة المعرفية التي صدرت عنه انتجت أوهاماً وزيفاً كما يدعي وهو يسعى الى تفكيكها بالبحث عن الاختلافات والتناقضات في داخلها وجعلها سبباً لتدميرها.
ولمزيد من الإيضاح لطبيعة التفكيكية وعملها تبيّن انها تقيم مرحلياً داخل الأفق الميتافيزيقي المغلق لهذه المقابلات عاملة على رجه من داخله أو قلب تراتبه بحيث يحتل ما هو فرع أو هامش أو أسفل مكان ما هو أصل أو مركز أو أعلى. هذه الحركة تجد في نظر دیریدا تبريرها في كوننا داخل المقابلات الفلسفية الكلاسيكية لا نجدها في تعایش سلمي ومقابلة حيادية وإنما في عمل عنف وصراع. ثم تأتي حركة ثانية تتمثل في العمل ميدانياً داخل النسق الذي يجري تفكیكه للكشف عن عجزه وتناقضه، ولفرض نظام بدائل أخرى. هكذا يطاح بالعلاقة التراتبية القديمة ويمهد لمجيء (مفهوم) جديد لا يمكن فهمه ولا تمكينه من العمل دون النسق السابق (القديم). وفي تعريفه للتفكيك يبيّن ديريدا أنه تخلع أو فقدان الشيء بنيته أو تقويض وتفتيت للبنية والتموضع داخل الظاهرة وتوجيه ضربات متوالية لها من الداخل لكي تتفكك وتتحلل ويحل الاختلاف محل مركزية أحد طرفي علاقة الاختلاف الذي تنظر اليه الميتافيزيقا بأنه أصل وسابق. فالاختلاف هو السابق وهو حدث ما ورائي کلي أزلي لا تحد سلطته حدود وهو ليس حسياً ولا عقليا وليس مادياً ولا روحياً(5) كما يصفه. ولا نفهم معنى أن يكون كلياً أزلياً وماورائياً ثم لا يكون عقلياً ولا روحياً، فهو نوع من السفسطة والتلاعب بالألفاظ وانكار البديهيات مما أقره المنطق وطمس الحقائق والايهام في المعنى.
إن الاختلاف هو (الأصل) كما يذهب دیريدا، ويوضح ذلك (بتصديه للمفهومات المؤسسة للميتافيزيقا الغربية ولمفهوم (الأصل) IÓRIGINEبخاصة. يرينا دیریدا بمماحكة ديالكتيكية نوعاً ما من أن (الأصلي) لا يكون (أصلياً) إلا باستناده الى (النسخة) التالية له التي يسود الزعم انها تأتي لتنسخه وتكرره ضامنة له بذلك حيازة تسمية (الأصلي) او (الأصل). لا يكون (الأول) (أول) إلا بالاستناد استناداً مؤسساً، أي يقيم في جوهر (الأول) نفسه بما هو (أول)، نقول الاستناد الى (الثاني) الذي يدعم ذلك (الأول) في أوليته. ومن هنا.. فإن (الأول) هو (في نظر ديریدا) أول / ثان والثاني ثان / ثان، الخ.. هذا يعني انه ليس ثمة من أصل محض، وان الأصل يبدأ بـ (التلوث) أو الابتعاد عن مقام الأصلية بمجرد أن يتشكل كأصل فيجد نفسه مجبراً على ان يمهد لمسار تأتي فيه (الآثار) المتتابعة لتعدله في (أصلیته)... الأصل طريق الى الأثر مثلما يكون اليوم الأول في حياتنا يوما أول في اتجاه الموت في آن واحد معاً. وإذن فـــــ (في البدء كان الاختلاف)، وهذا هو ما يفسر مقولة ديريدا في التأخر أو الأرجاء الاصلي... الأصل يحيل الى لاحقه دائما، و (الهوية) الى (آخرها) الذي يؤسسها هي نفسها كهوية، بذا يكون الاختلاف.. في حقيقته إحالة إلى الآخر وأرجاء لتحقق الهوية في انغلاقها الذاتي) (6).
وهكذا يطور دیريدا استراتيجية عامة نظرية ومنهجية للتفكيكية الفلسفية، وكان هيجل رائداً له في تفكيره كما كان نيتشه الفيلسوف الألماني الذي عمل على إبراز الطابع المتناقض للظواهر الفلسفية واللغوية والأدبية. وكان يتصور ديالكتيكاً يتخذ نقطة للانطلاق جمعاً للضدين عصياً على التجاوز ويستحيل اخضاعه ودمجه في النظام. ومثل نيتشه في التأثير فيه كان هايدغر الذي ينتسب الى نيتشه وتحضر فلسفة نيتشه في أعماله، وكانا قد وجها نقداً الى الميتافيزيقا الغربية وهذا النقد استأنفه دیريدا وبول دومان وتفكيكيون آخرون وجذوره(7).
ومن هذا التصور الفلسفي في ابراز الطابع المتناقض للظواهر انطلق هؤلاء التفكيكيون في دراستهم للنصوص اللغوية والأدبية وهم يرون أنها تحكم بتناقض لا يمكن محوه، ولهذا فإنهم لا يقرأون النص لكي يكشفوا التجانس الصوتي والدلالي والنحوي الخاص به، إنهم يبحثون عن اجتماعات الأضداد المتعذر تبسيطها فيه وعن تناقضاته ومآزقه المنطقية، إذ أن كشف تناقضات النص وتشوشاته يتقدم أحيانا على أنه واجب أخلاقي لدى هؤلاء التفكيكيين، فهم يؤسسون لعلم اخلاق في القراءة يتمثل بالاعتراف بالطابع المتناقض للنص وعدم إمكان قراءته والتسليم بفشل القراءة بدلاً من تطبيق النظريات عليه لإخضاعه للمفاهيم.
لقد أكد التفكيكيون وهم يدرسون الظواهر والنصوص الأدبية أسبقية كينونة حالة الاختلاف أو التناقض الذي يحكم هذه الظواهر والنصوص فهو الأسبق وهو الذي كان في البدء كما يصفه ديردا، أي انهم يثبتونه أصلاً ومبدأ وبهذا تناقض التفكيكية نفسها، فهي تنكر الأصل السابق وتثبته كذلك، تنكر هذه لأصلية عندما توحي بفكرة المركزية والأحادية التي لا تتضمن إختلافاً وتناقضاً وعندما تكون سابقة على الاختلاف او التناقض أو لا تساوي بين المختلفين أو المتناقضين. ولقد ذكرنا أن التفكيكية تأثرت بفلسفة هيجل وكذلك بالبنيوية لأنهما تهتمان بعلاقات الاختلاف أو التناقض وتدرسان الظواهر من خلالها، ولكنها وجهت نقدا الى كليهما، فالمنهج الجدلي الذي يتخلل الظواهر عند هيجل يتألف من أطراف بينها علاقة تناقض ولكن الطرف الأول أو الخطوة الأولى سابقة منطقياً على الخطوة الثانية وهو يسمي الخطوة الأولى بالوجود الخالص أو الروح أو الفكر الكلي وهو وجود جوهري يتجلى عن طريق الوجود المتعين الواقعي. ولهذا أنكر ديريدا هذه الأسبقية لأنها جوهرية تؤكد أصلاً سابقاً ًيتجلى فنجده يقدم نقداً جذرياً لمفهوم الجوهر لدى هيجل الذي يعطي الأولية الى المضمون الكلي أو الجوهر الذي يتجلى في عالم الظاهر، فجوهر الأشياء لايكون سابقاً ثم يظهر في العالم التجريبي، وهو بذلك يتأثر بنيتشه الذي يقدم نقداً جذرياً لمفهوم الجوهر، ويحدث قلباً تراتبياً بين الظاهر والجوهر عن طريق الإلحاح على أولوية الظاهر في الفن. ونيتشه من هذه الناحية يبدو رائداً لديريدا والتفكيكيين. وكما وجه نقداً لنظام هيجل كذلك فعل ديردا مع البنيوية ونظام دي سوسير اللغوي فهو يأخذ عليه كونه صاحب خطاب تسيطر عليه المركزية الصوتية أو اللوغو مرکزية. والمركزية الكلامية أو الصوتية هي مبدأ أساسي للميتافيزيقا الغربية وهي سيطرة اللغة المحكية أو الكلام الذي يضمن حضور المعنى وأسبقيته من افلاطون الى هايدغر الذي انتقده دیریدا كذلك وأخذ عليه ما أخذه على دي سوسير. فالفلسفة المثالية منذ افلاطون والفلاسفة المثاليين الآخرين تقدم المعنى وتنتهي الى إدانة الكتابة بأنها غريبة عن الحياة ومعادية لها لأنها قابلة للتأويل وغير ثابتة إذ تقرأ وتعاد قراءتها في سياقات مختلفة ومتغيرة، فلا تضمن حضور المعنى كما يفعل الكلام أو الصوت الحي، فهي تابعة للرأي المتقلب فلا تنتج العلم بل الرأي كما يقول افلاطون. ويميز دي سوسير بين الدال والمدلول لحساب المدلول وهذا بالنسبة الى ديريدا بقية باقية من الميتافيزيقا الأوربية، ومن هنا يأخذ على البنيوية أن فكرة (البنية) فيها تفترض سلفاً مركزاً للمعنى من نوع ما ويتحكم هذا المركز بالبنية ويكون سابقاً عليها.
وفي نظرته إلى التاريخ ينتقد ديريدا التمركز العقلاني أو اللوغوسي في الفلسفة الغربية للتاريخ. ويرى أن طريقة النظر الى التاريخ طريقة ميتافيزيقية او مثالية، سواء ما كان منها من المثالية أو المادية الديالكتيكية، فهذه برأيه كذلك مادية كلاسيكية قابعة داخل الميتافيزيقا بالقدر نفسه الذي تكون عليه المثالية. ويصف طرق النظر هذه بأنها محاولات للاحتواء، والاحتواء مثالي دائماً. وهو يتبنى مادية لا تكون آلية ولا جدلية، مادية غير جدلية لم تدخل الحيز الميتافيزيقي أو المثالي، مادية ما قبل افلاطونية أو ما قبل سقراطية ترجع بنا الى ديموقريطس والی تفکیر محدد حول الصدفة، فالتفكيك هو ضد الاحتواء والأمثلة(9). وهو يقول عن هذا وعن اتهامه بتجاوز التاريخ: (إنني تاريخاني بصورة كاملة، وإن ما يهمني دائما هو الإنحدار التاريخي لجميع المفهومات التي نستخدمها وجميع حركاتنا، وإنه إذا كان هناك شيء لا يمكن نسيانه فهو التاريخ. إلا أن ما شجع على إطلاق هذه التهم أو غذاها هو كون مفهوم (التاريخ) بقي مستخدماً لدى الكثير من الفلاسفة والمؤرخين ومؤرخي الفلسفة - وسواء أتعلق الأمر بالمثالية أم بالمادية ولدى هيجل أم لدى مارکس - ضمن نزعة بدت هي الأخرى ميتافيزيقية مما يجعلني أقف منها موقف المتحفظ أو المحترس، ولكن ليس باسم لا تاريخية أو لا زمنية وإنما باسم فكر آخر للتاريخ)(10) فهذا المفهوم الآخر للتاريخ الذي يقدمه لا ينطلق من تفسير المثالية والمادية اللتين تصدران عن نزعة ميتافيزيقية كما يصفها تتبنى وجود أصل أو علة مركزية تحرك التطور التاريخي كما أنه ينكر هذا التطور والتجاوز التاريخي الذي تؤمنان به.
التفكيكية ترفض العلة المركزية والأصلية الجوهرية السابقة التي تحرك التاريخ كما ترفض التطور والتجاوز في علاقة الاختلاف أو التناقضات التاريخية لأن هذا التجاوز ينهي حالة الصيرورة التي تريد إبقاءها قائمة كما أنه يشير الى غلبة أحد النقيضين وأفضليته على الآخر وهو ما لا ترضاه، ولهذا نجدها لا تؤمن بالغائية التي ترتبط بالجدلية وبالصراع والتجاوز والتغير، وتؤكد أن هذه الديالكتيكية التاريخية التي تتجاوز التناقض الى بنية مركبة شاملة مفهوم ترفضه بحزم. وهي تنكر على فلسفة هيجل أنها لا تبقي التناقض قائماً أبدياً سرمدياً بل هي تطوره وتحوله الى تأريخ يمر بمراحل ينتابها الصراع الذي ينتهي الى غاية وهو ما لا تؤمن به. ولهذا نجد ديريدا لا يعترف بالمركب الهيجلي لأنه خطوة تجاوز ولحظة تغير وحركة وهو ما تحاربه التفكيكية التي تبقي التناقض أو الاختلاف على حاله في موقفه المأزقي دون غلبة وتجاوز أي دون حركة، والتاريخ حركة. وهذا يعني أنها تدرس التاريخ في لحظة سكونية متوقفة، لحظة تولّد التناقض أو الاختلاف لا لحظة تجاوز هذا الاختلاف، وهي لحظة الحركة. وهذا عين ما تفعله البنيوية. إن لحظة الاختلاف أو التناقض لحظة تاريخية لا أصلَ سابقاً لها فالاختلاف هو الأصل كما يذهب دريدا. وهي لحظة ثابتة لا تتحرك، لأن الحركة التي يأتي بها الاختلاف أو التناقض هي تجاوز وهي صراع يؤدي الى هذا التجاوز كما تؤكد فلسفة هيجل التي يلتقي معها دیریدا في انطلاقه من مبدأها الفلسفي الأساسي وهو كون الاختلاف أو التناقض يتخلل كل شيء إلا أنه ينكر التجاوز والحركة التي يدعو إليها الصراع بين أطراف الاختلاف أو التناقض والذي هو أساس التطور التاريخي. إنه لأمر جوهري إذن أن نتصور التناقض التفكيكي كجمع أقصى للنقيضين يستبعد أي تأليف هيجلي وأية وحدة ديالكتيكية بوصفها وحدة نقائض، أي انه ينكر الخطوة الثالثة من خطوات المثلث الهيجلي، التي هي الوحدة أو المركب بين الخطوتين الأولى والثانية. إن جمع نقائض تخيله ديريدا وميلر ودومان ومارسه في الماضي نيتشه هو تفكيكيٌ ومأزقيٌ ولا يولِّد أي وحدة ديالكتيكية، ويحل محل هذه الوحدة الأرجاءُ الديریدي(11)، فبدلاً من الصراع الذي يقتضيه الاختلاف والتناقض يبقي الاختلاف قائماً لا يشوبه أي صراع ولا يعقبه أي نفي وتغير وتحول لأن عملية النفي تعني فاعلية أحد الطرفين وقدرته على الفعل مما يؤكد أصليته وأسبقيته وهذا ما لاتريده التفكيكية فلا قدرة لأحد الطرفين على نفي الآخر، لا قدرة للأصل على نفي ما هو تبع وهامشي فهما متكافئان متساويان، ومن أجل ذلك ينفي ديريدا أن يكون التفكيك فعلاً أو عملية. ويتحدث عما يسميه (التاريخ الداخلي) وهو طاقة العمل وحركياته الجوانية التي تتجاوز الثنائيات الميتافيزيقية أو تقلب تراتبها وتبقيها في لحظة تقابل أبدية. وهو يبعد هذه الحركة عن الالتباس بالوعي الذاتي وهذا ما يختلف به مع الهيجلية والماركسية، فالتفكيك عملية لا تنتظر وعياً من ذات: (التفكيك حاصل: إنه حدث لا ينتظر تشاوراً أو وعياً من من لدن الذات الفاعلة...التفكيك يحدث حيثما يحدث شيء ويقوم حيثما هناك شيء قائم.. يجب أن نحدد أيضاً أن التفكيك ليس حتى فعلاً أو عملية)(12).
الاختلاف إذن يقوم حيثما هناك شيء قائم، ولهذا فإن التفكيك كما يبين ديريدا هو عملية تتغلغل في كل شيء لأن كل شيء يتخلله الاختلاف، وان أي حدث يتضمن الاختلاف. ولا يختلف دريدا مع هيجل في تصوره أن الاختلاف أو التناقض يتخلل كل الأشياء، ولا يختلف معه في وصفه لعلاقة الاختلاف والتناقض، فلدى هيجل أن علاقة التناقض هي الحقيقة العينية الأولى، لأن لا وجود لأحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، فالعلاقة هي الوجود العيني الأول، أي الوجود المتحقق. أما قبل هذا الوجود فإن هناك ما يسميه هيجل (الوجود الخالص) وهذا الوجود يساويه بالعدم لأنه كان وحده بلا علاقة له مع نقيضه. وعندما يتحقق التناقض ويوجد بوصفه حقيقة عينية واقعة، فإن أحد النقيضين لا ينفصم عن علاقته بالآخر وإلا يستحيل الى عدم. وهيجل يعرِّف العدم بأنه أحد النقيضين خارج علاقته بالآخر، فأحد النقيضين لا ينفك عن علاقته بالأخر، وهذا ما يراه ديريدا وأن الأول يرتبط بالثاني، والأصل يستند إلى النسخة التي تأتي لتكرره، فهذا لا يختلف به ديريدا والتفكيكية مع فلسفة هيجل، وهي تؤكد مبدأ اجتماع النقيضين أو المختلفين أي أن أحدهما لا معنى له أو لا وجود إلا بنقيضه فالأصل يحتاج الى نقيضه لكي يكون أصلاً فلا أسبقية له عليه بل هو موجود معه ولا انفكاك له عنه ولهذا يساويه بالعدم عندما يكون وحده قبل خلق التناقض. وعندما يكون أحد النقيضين وحده فإنه - كما يبين هيجل - ينطوي على نقيضه، أي ان نقيضه موجود فيه بالقوة وهو يخرجه الى الفعل ليوجد التناقض، وهذا يضرب مبدأ الهوية وعدم التناقض لدى المنطق القديم. فأحد النقيضين لا ينفصم عن الآخر والتناقض أو الاختلاف قائم منذ البدء ولكنه لدى هيجل كامن في الوجود الخالص أما لدى ديريدا الذي يؤكد: (في البدء كان الاختلاف) فهو موجود وجوداً عيانياً واقعياً، ولهذا لا معنى لتفضيل أحدهما على الآخر إذ لا أسبقية لأحدهما على الآخر ومن هنا فإن مفهوم الأصل أو المركز مرفوض لديه. ولكن ديريدا يتغافل عن أنهما مختلفان أو نقيضان وأن هذا الاختلاف يحدد هوية كل منهما فالهوية ليست مرجأة، وهذا يوجب أن يكون التناقض أو الاختلاف قائماً ويبيح للعقل وللميتافيزيقا أن تقدم أحدهما على الآخر بناءً على هوية كلٍ منهما وما يتصف به كل منهما، فيبقى الأصل أصلاً سابقاً وثابتاً والأول أولاً والثاني ثانياً. وليس الأمر واجباً أخلاقياً يرتب على التفكيكي أن يقوم به وأن يعيد الأمور الى نصابها ويحق الحقوق وإنما هو من طبيعة الأشياء وخلقتها أن تكون كذلك فلكي يكون الأصل أصلاً لابد أن يكون أولاً ولابد أن يكون الآخر تبعاً وثانياً ولا يمكن أن تتبدل طبائع الأشياء وأن يرتفع أحدهما الى مكانة الآخر، كما أن هذه الطبائع تقضي أن يكون بينهما تفاعل يؤدي الى نتيجة وتطور وبقائهما في حالة سكون دائم أمر ترفضه في طبيعتها كما يرفضه الواقع.
والذي يبدو أن التفكيكية تلجأ الى المغالطة ولا تريد أن تقف عند هذه الحقائق وحاجة أحد النقيضين الى الآخر لكي يوجد، وتلازمُه معه لا يعني تساويهما وعدم اختلافهما أوتناقضهما وما يقتضيه هذا التناقض من تفاعل وتطور كما قلنا.
أما كيف يمكن أن نفسر أن يكون أحد المختلفين أصلاً وأولاً أي سابقاً على الآخر وفي الوقت نفسه هو في حاجة الى وجوده لكي يوجَد وتتحدد هويته ويكون أصلاً وأولاً ؟، فهذا نجيب عنه بما توصلنا إليه من استدلال عقلي برهاني في بحوث سبق نشرها(13) ونقول: إذا كان أحد النقيضين لا يوجد أو لا يعرف إلا بالآخر أي إلا بعلاقته بالآخر فهذا يعني أن العلاقة سابقة على وجوده لأنها علة وجوده إذ لا وجود له إلا بها، وأسبقية وجودها وهي (طرفين اثنين) على وجوده يعني أسبقيتها على وجود أحد طرفيها أي اسبقيتها بأحد طرفيها وهذا هو الطرف السابق والأول والأصل، أما الطرف الآخر الذي كانت سابقة عليه والذي كان عدماً والذي يوجد بها فهو الطرف المتأخر عن وجود الطرف الأول وهو بهذا يستحق وصف الطرف الثاني والتابع. كيف نبرر أسبقية أحد الطرفين في علاقة التناقض على نقيضه وقد قلنا إنه لا وجود له إلا بنقيضه ؟.. هذا نجيب عنه بأن وجود أحد النقيضين وعدم وجود الآخر هو تناقض أو اختلاف قبل وجود التناقض أو الاختلاف وجوداً عيانياً واقعياً. وبهذا يكون الأصل أصلاً وسابقاً والآخر تبعاً متأخراً وليس كما ترى التفكيكية.
.....................
د. بتول قاسم
.......................
الهوامش:
1. ينظر: الكتابة والاختلاف، جاك دريدا، ترجمة كاظم جهاد، دار توبقال للنشر الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، ۱۹۸۸، ص 59-60.
2. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، بيير، ف. زیما، تعريب: أسامة الحاج المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1417ه/ ۱۹۹6م، بیروت، لبنانص 6، 9.
3. ينظر: التفكيك: نقد المركزية الغربية (ملف شارك فيه جوناثان كلر، رامان سلدن، بول دي مان)، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة آفاق عربية، ص 65-69، العدد الخامس، 1992، و: البنيوية وما بعدها، من ليفي شتراوس الى دريدا، تحرير: جون ستروك ترجمة: د. محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة (۲۰6)، يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1416ه/ ۱۹۹6م، ص 207 – 235.
4. ينظر:التفكيك، نقد المركزية الغربية...، ص 65-69 العدد الخامس، 1992. و(البنيوية و مابعدها)، ص 207-235. والكتابة والاختلاف، ص 30 – 31.
5. ينظر: الكتابة والاختلاف، ص 28-29، 47، 58.
6. ينظر: المصدر السابق، ص 30-31.
7. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص 36، 37، 38، 39، 66، 130.
8. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص 40ـ41، 55، ـ59. والكتابة والاختلاف ص 31، 35، 36،47 ـ49، 59، 60.
9. ينظر: الكتابة والاختلاف، ص ۵۲.
10. المصدر نفسه، ص 52.
11. ينظر: التفكيكية، دراسة نقدية، ص38 -39، 66، 105 -106، 130.
12. الكتابة والاختلاف، ص 61. والتفكيكية، دراسة نقدية ص 66.
13. ينظر: من الفينومينولوجيا الى النومينولوجيا، تجاوز هيجل، دار الفارابي، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2024، ص 151 - 155.