أقلام فكرية
محمد سيف: كيف تؤثر الأدوار الاجتماعية على الهُويّة الذاتية؟
كائناتٌ جمعية، نحن البشر، إذْ يعيش الأشباه منّا في تكتّلات نطلق على الواحدة منها مصطلح (مجتمع) يشترك أفرادُه إلى جانب الرُّقعة الجغرافية في بعض الخصائص كالثقافة والموروث من العادات والتقاليد والعِرق والتاريخ، وفي العصر الحديث حيث المجتمعات المَدَنية تأتي رابطةُ المواطنة وشيجةً عامة ينخرط فيها الناس، ومن ثَمّ نقول: المجتمع البريطاني والمجتمع العُماني، والمجتمع الروسي والمجتمع العراقي، وهكذا دواليك، وليس بِخافٍ أنّ داخل المجتمع العريض فُسيفساء متشابكة من المجتمعات المصغرة تجمعهم المناطقية إلى جانب روابط أخرى أكثر تحديدا، على أنّه ثمّة توسّع في استعمال مصطلح (مجتمع) إذْ لا يمثل الارتباط المكاني فيه عنصرا محوريا، ولكن القاسم المشترك في هاته الاستعمالات هو مجموعة من الناس تربطهم خصائص مشتركة.
هذا النمط من الكينونة الإنسانية حين تتفاعل داخل سياج المجتمع يحتّم علينا - نحن الكائنات العاقلة المَدَنية - التموضع في عدة شخصيات نتمثّلها ونمارس عبرها ما يتساوق ومواقعَنا المجتمعية، بحيث يكون لكل شخصية منها سلوكيات بعينها وتصرفات تمايزها عن غيرها، وتعمل حدًّا فاصلا فيما بينها، وإن كان وصفها بالحدود المتماهية أقرب للدقة! هذا ما نطلق عليه مصطلح (الأدوار الاجتماعية)، فالفرد قد يكون ابنا وأبا وموظفا وجارا وأخا… إلخ تلك الأدوار التي يمثلها بصيغة محددة، فحين يكون ابنا فإنه - بديهيا - يتصرّف على هذا النحو وبما يختلف عن كونه أبا، وحين يكون موظفا فتفاعلُه في مجتمع العمل مختلف عن مجتمع الجوار، وهلمّ جرّا، على أنّ هذا الاختلاف يتصل بمناحٍ متعددة، فهناك القاموس اللفظي، والممارسات المسموحة والأخرى الممنوعة، وما إلى ذلك من العناصر اللازمة لتتأهّل الشخصية لِلَعِب دورٍ معيّن، ومما يجب التفطّن له - كما أشار إلى ذلك مؤسس علم النفس التحليلي السويسري يونغ في كتابه (الفرد والحَشْد) - أنّ المجتمعات توفر سياقا حيويا لنمط محدد من التفاعل، لكنه متحرك وفقا للمتغيّرات.
ما يحدث هو أنّ المجتمع لديه توقّعاته الخاصة إزاء كل (دور اجتماعي)، فهو يتوقع ممن ينخرط في دور الأب أن يكون بالصفة الفلانية، ومَن تشغل وظيفة إدارية ينبغي أن تصدر عنها في بيئة العمل سلوكيات محددة لا تحيد عنها، وقس على ذلك بقية الأدوار الاجتماعية. إنّ موضوع التباين يتعدّى ذلك، فكل مجتمع لديه (توقّعات اجتماعية) عن كل دور من (الأدوار الاجتماعية) يختلف عن غيره من المجتمعات، فما يُسمح للأب (هنا)، يكون فعله من الأب باعثا للنبذ والاشمئزاز (هناك)، وما يصنعه الجار (هناك) من معروف، قد يكون كفيلا بأن يسقط من عينِ (هُنا)! ولهذا السبب عينِه يساورُنا القلق من انطباعات مجتمع جديد عنا، حين تدفعنا ظروف الحياة للانتقال إليه بسبب لقمة العيش أو النفاذ بالجلد من قضبان المجتمع الذي نشأنا فيه، فترجع فردانيتنا الذاتية القَهقَرى جرّاء وطأة هذا القلق؛ بُغية حقن أنفسنا في نسيج المجتمع الجديد، إذن التفاعل الفردي-المجتمعي حاصل في مختلف الأدوار الاجتماعية من جهة، ومتفاوت من مجتمع إلى آخر من جهة أخرى.
إن القضية المحوريّة هي أنّ هذه التوقعات المجتمعية لها تبعاتها المتغطرسة على سيادة الهُويّة الفردية، فـ (التوقّعات الاجتماعية) تمثّل حدودا صارمة تذوي داخلها هُويّة الأفراد، وتتضاءل سلطتها - أي الهُويّة الذاتية - إلى حد كبير، فأي محاولة فردية للقفز على هذه الحدود فإنه يتم إلغاؤه اجتماعيا بحسب حجم قفزة الفرد وأنياب المجتمع! ولأن الاعتراف الاجتماعي ضرورة بشرية وحتميةٌ يقتضيها الاجتماع الإنساني - كما أسلفنا - فإن الفرد يعيش صراعا داخليا في الموازنة بين هُويته كما يحب أن تكون، وبين هُويّته كما يفرضها المجتمع! الذي يصدر أحكامه على كل دور من أدوار الفرد الاجتماعية، فيحدُث أن يكون أحدهم في نظر المجتمع أبا مثاليا لكنه جار فاشل، لا لشيء سوى أنه لم يتوافق مع محددات الدور الاجتماعي (الجار) التي ارتضتها (التوقّعات المجتمعية) فينخفض معدّله المجتمعي!
ولكن، يحق لنا نفتح في هذا الجدار العتيق كُوّة لينفذ منها سؤال: مِن أين يا تُرى يأتي المجتمع بتوقّعاته حول تلكم (الأدوار) ومن أي دستور يرسمها، وتاليا يفرضها على أفراده؟
يمكننا القول إن التراكم الاجتماعي لمجتمع ما بتفاعله الزمكاني وما يحيط به من ظروف وأحداث يقوم بصياغة محددات الأدوار، وحيث إنه جهد بشري تراكمي، فهو يجري عليه التغيير والنسبية، فإذا كان ذلك كذلك فإن لائحة الممارسات المنوطة بكل دور اجتماعي ما هي إلا نتاج تجربة بشرية يجري عليها ما يجري على أي تجربة من الخطأ والغلوّ، والتغيير إنما يأتي في ضوء الصيرورة للإصلاح والتطوّر، كل مجتمع بحسبه، فما تجاوزه مجتمع ما باعتباره ضربا من هضم مجحف للحقوق الإنسانية بعد أن مارسه دهرا طويلا، هو في منظور مجتمع آخر نقلة نوعية مقارنة بماضيه البائس!
نعود فنقول: إن منطقة الاشتباك المربكة بين (الذاتية والمجتمعية) تجعل القضية معقّدة في رسم الحدود، الأمر الذي يشكّل عقبةً كَؤودًا في سبيل فهم ذواتنا بعيدا عن صخب المجتمع، وفي هذا السياق يصف الفيلسوف وعالم الاجتماع الأمريكي (George Herbert Mead) الذاتَ في كتابه (Mind, Self & Society) بأنها "في جوهرها عملية اجتماعية تتكون من مرحلتين متميزتين: الأنا الذاتية والأنا الاجتماعية.. الأنا الذاتية هي الاستجابة العفوية للفرد تجاه الآخرين، وهي غير خاضعة للإملاءات، في حين إن الأنا الاجتماعية هي مجموعة التصرفات والمعايير التي يتبناها الفرد من منظور المجتمع" وكلام جورج يفتح الباب واسعا في اختراق الدور الاجتماعي - ولا بُدّ - في الهوية الفردية للدرجة التي نمارس (أنَانَا) بنسخة مجتمعية، فتصير الذاتُ مرآةً يعكس عليها المجتمع ملامحه الأنانية.
المفارقة أن الموضوع يتعدى الصراع الفردي-المجتمعي بحيث يكون الأفراد منزوعين من الفردية، فالأدوار الاجتماعية لا تأخذ طابع الفردانية حصرا، بل ثمة ممارسات يقوم بها الأفراد بشكل اجتماعي وليس فرديًا، بمعنى أن الفرد لوحده ما كان ليبدر منه ما بدر لو كان على انفراد، بل يجب للقيام بذلك الفعل أن يكون صادرا ضمن حدود جماعة ما، وفي ذلك يتساوى الجاهل والمطّلع والخامل والنبيه، وفق ما بيّنه عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (روح الجماعات) بحيث يكون الفرد في الجماعة آلة تعجز إرادتُه عن قيادة نفسها، بحسب تعبير لوبون.
نخلُصُ مما سبق إلى واقع أنّ (الأنا) هي تركيبة ذاتية معقّدة، يقرب من المستحيل تجميدها في شكل واحد حين نتلبّس بالتفاعل في مجتمع ما، ويبدو أننا نكون غريبين إلى حد كبير حين نخلو بأنفسنا ونحن نشاهد(نا) نصول ونجول في أروقة المجتمع بأقنعةٍ شتّى، مجتمع نعيش في فضائه الذي يُسمح لنا بمشاعر موجّهة تعتملُ في صدورنا، وسلوكيات مقنّنة تحدُّ خطواتنا، وتُضَخّ فيها أجندات إعلامية هائلة مسيّسة لصالح أربابها، للدرجة التي يمكن ملاحظة أنه يُراد لـ(ـلفردانية الذاتية) المنتمية لهذا الفضاء أن تكون لَبُؤة تموءُ خضوعًا في عرين (المجتمع) الأسد، ووسط هذا الصراع نجد أنفسنا في مسرح الحياة مضطرين لأنْ نجسّد دورا كما يُراد لنا بمقتضى سيناريو (Script) كتبته أقلام المجتمع الذي لا يتكلم إلا بلسانه، لا وفق القصة التي نحدد خياراتها نحن بمحض إرادتنا!
إنّ توقّعات الآخرين لا تمثّل حدود صورتنا الذاتية، أو هكذا على الأقل يجب أن نفكر، والموازنة بين (التوقّعات الاجتماعية) وبين وعينا الذاتي، تمثّل نقطة انطلاقية مُعتبَرة لِنَنْتشل هُويّتنا الذاتية من أصفاد الضغط المجتمعي، ولِمَ لا يشكّل مَن يكون هاجسهم وهوسهم كهذا مجتمعًا داخل المجتمع؟ ليفرض توقعاته المجتمعية الجديدة، فلا يفُلّ الحديد إلا الحديد!
ومع ذلك خليقٌ بنا أن نعترف في خضمّ التفاعل الفردي-الاجتماعي بما يشير إليه الدكتور علي الوردي في كتابه (الأحلام بين العلم والعقيدة) من أن "التنويم الاجتماعي موجود أينما وجد الإنسان، ولا بد لكل إنسان أن يقع تحت وطأته قليلا أو كثيرا".
***
بقلم محمـــد سيـــف