آراء

آراء

أول مناظرة بين ترامب وبايدن تمت. وكأنها الحرب!. حرب حقيقية بين شخصين ومن ورائهما حزبين متنافسين، ثم شعب منقسم على ذاته لا يعرف كيف يختار بين سيئ وأسوأ. الحرب هنا لا تكمن فقط فى التنافس بين الحزب الديمقراطي ومناصريه، وبين الحزب الجمهورى وأنصاره، وإنما فيما ينتظر الولايات المتحدة الأمريكية من اختبار حاسم يختار فيه الأمريكيون رئيساً سيقودهم لإحدي حربين: إما حرب فى أوروبا، أو حرب فى بحر الصين الجنوبي!!

بين نارين

 معلوم أن أساس اختيار الشعب الأمريكي لرئيسه قائم على حال الاقتصاد الأمريكي فى المقام الأول، بينما يأتي دور السياسة الخارجية للرئيس، وصلاته باللوبيات فى المقام التالي. إلا أن هذا الأمر سيتغير فى انتخابات هذا العام.

 حرب غزة بات لها تأثير فاق التوقعات. والطريقة التي أدار بها بايدن حرب غزة سوف تنعكس على نتائج الانتخابات بلا شك. فأما الجالية العربية فلابد أنها ستختار إما الامتناع عن التصويت أو ضد بايدن، هذا الذي انحاز لإسرائيل وزودها بالأسلحة والأموال واتهم المقاومة كذباً وافتراءً باغتيال المدنيين فى أول الحرب، ثم اتضح كذب تلك الادعاءات، وأن قتلي غلاف غزة فى أول الحرب تم بطائرات إسرائيلية وبأوامر مباشرة من نتنياهو، وهي الادعاءات التي روج لها بايدن! ثم دوره فى قمع مظاهرات طلاب الجامعات. كل هذا لا بد أنه سيؤدى للتصويت ضد بايدن لا عند العرب وحدهم بل وعند كثير من اليهود الأمريكيين. فهؤلاء بعضهم ضد الحرب فى غزة وبعضهم الآخر منحازون لليمين اليهودي المتطرف، أي لحكومة نتنياهو، تلك الحكومة التي وصلت العلاقات بينها وبين بايدن لطريق مسدود.

 حتي لو تناولنا الاقتصاد كسبب للتصويت مع الحزب الديمقراطي أو ضده، فلن يكون لصالح بايدن وحزبه الديمقراطي أبداً؛ إذ ارتفعت نسبة البطالة والتضخم فى عهده لدرجة كبيرة بالمقارنة مع عهد ترامب الذي كان أفضل اقتصادياً.

 لقد حسم الحزب الجمهوري اختياره فوضع ترامب مرشحاً وحيداً له، رغم كل القضايا المرفوعة ضده والتي لم تؤثر فى شعبيته إلا بالزيادة. ولن يكون بإمكان البيت الأبيض زحزحة ترامب أو تنحيته باستخدام لعبة القضايا مهما كانت قضايا حقيقية وغير ملفقة. وبات على الشعب الأمريكي أن يختار بين رئيسين أحدهما مدان والآخر مصاب بالزهايمر!!

مناظرة نارية كاشفة

 ما جري فى المناظرة التي أقيمت بين بايدن وترامب كان متوقعاً.

ماذا تنتظر من رجلين أحدهما منفلت اللسان والثاني كان سبباً فى إيداعه السجن؟ لابد أن كلاهما توعَّد الآخر واستعد للقائه بالويل والثبور وعظائم الأمور، غير أن الريح جرت بما لا تشتهيه سفن الحزب الديمقراطي!

 المناظرة التي استغرقت ساعة ونصف تقريباً تميزت بالتحفز والحدة كما كان متوقعاً ، لكن بايدن بدا مهتزاً ضعيفاً أمام ترامب، والسبب الشيخوخة. الكلمات كانت تخرج من فم بايدن بصعوبة، لدرجة أن كثيراً من عباراته بدت غير مكتملة ومتضاربة. وقد برر أنصار الحزب الديمقراطي هذا الأداء بأن الرئيس كان مصاباً بالبرد، وهو تبرير لا ينطلي على أحد.

 أغلب الظن أن بايدن سيتم استبداله، فلا يُعقل أن يكمل الحزب الديمقراطي خوض الانتخابات القادمة بمثل هذا الأداء، وربما يتم إجراء المناظرة القادمة بين ترامب وكامالا هاريس نائبة الرئيس بايدن.

 فى كل الأحوال فإن كلا الحزبين منحاز لإسرائيل. ولن يقل الدعم الأمريكي لها أو يفتر، بل سيزداد فى الفترة القادمة من كلا الجانبين لضمان أصوات اللوبي الصهيوني فى الولايات المتحدة الأمريكية.

 المناظرة الأولي حسمت عدة أمور عالقة: أهمها أن مكانة ترامب لم تهتز عند أنصاره بل ازدادت وهو ما يعني عودة الشعبوية الترامبية بما تتميز به من عنصرية وكراهية للمهاجرين، تزامناً مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وهو يحمل نفس الفيروس العدائي ضد العرب!

 كما حسمت المناظرة تأرجح أرقام الاستطلاعات قبلها، وظهر جلياً أن أداء الحزب الديمقراطي يتدني باستمرار، وقد يحسم هذا لا الانتخابات الرئاسية وحدها بل وانتخابات الكونجرس ذاتها. وقد نشهد أربعة أعوام قادمة جمهورية بامتياز. وسوف يعود ترامب منفرداً بقراراته العنترية بعد أن يكتسح حزبه مجلسي الكونجرس والشيوخ. وعلينا أن نستعد لقدومه وقد اختبرناه. ومهما كانت مثالب ترامب وعيوبه إلا أنه وعد بمنع حدوث حرب عالمية يتحدث الجميع بأنها قادمة لا محالة، فهل باستطاعته فعلاً إيقافها؟!

حرب هنا وحرب هناك

 ترامب مختلف جذرياً عن بايدن. وهناك الكثير من الملفات الخارجية سوف تتغير اتجاهاتها بقدوم ترامب. وأول هذه الملفات ملف الحرب الأوكرانية الروسية.

 وإذا كان التفاوض بين بايدن وبوتين وصل إلى طريق مسدود، فإنه ممكن ومتاح أمام ترامب؛ فالعلاقة بينه وبين بوتين جيدة للدرجة التي استطاع بها خصوم ترامب اتهامه باستخدام روسيا لتزوير انتخابات 2016!

 التفاوض بين روسيا وأمريكا قد يوقف الحرب العالمية مؤقتاً لكنه لن يستطيع إيقاف مخاوف وقوعها لعدة أسباب: أولها أن أوروبا ستصبح هي ضحية أي اتفاق يجري بين ترامب وبوتين، وهو الأمر الذي لن تقبله أوروبا، وقد يؤجج الأوضاع بدلاً من إخماد الحرب. وثانيها أن عداوة ترامب للصين قد تجعل الأخيرة تتخذ خطوة استباقية لعودة ترامب، وربما انتهزت الفرصة واقتحمت تايوان أثناء انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بانتخاباتها. فتبدأ الحرب العالمية من بحر الصين الجنوبي. وتصبح أمريكا بين خيارين أحلاهما مُرّ: فإما يفوز الحزب الديمقراطي فتشتعل أوروبا بحرب تبدأها روسيا. أو يفوز ترامب فيشتعل بحر الصين بحرب أشد وأقوي!

فلسطين بين رئيسين

 العجيب أن فلسطين ستكون لها الكلمة الأولي فى الانتخابات الأمريكية، والأعجب أنها لن تتأثر مطلقاً بأي من الاختيارين، فسواء جاء ترامب أو جاءت كامالا هاريس أو بايدن فإن الوضع لن يتغير. وسوف تظل إسرائيل مهددة أكثر مما مضي بالزوال والانهيار التدريجي.

 إسرائيل اليوم فى أسوأ أحوالها. مهما كانت غزة تكابد الجوع والضفة الغربية تواجه الاعتقالات والقدس تفتقد أنصارها. إلا أن إسرائيل تعاني أكثر وسوف تزداد معاناتها أكثر فى المستقبل القريب. الجيش الإسرائيلي يعاني نقصاً فى الذخيرة، وجنوده يتسربون ويفرون وبعضهم كتب بياناً برفضه العودة لحرب يعلم أن نهايتها ليست فى صالحهم، والحريديم رفضوا قرار المحكمة التي أجمع قضاتها على ضرورة انخراطهم فى الجيش ومنع الدعم الحكومي عنهم، فأصروا على الرفض. وهكذا كلما طالت الحرب وامتدت ازداد الانقسام فى الداخل الإسرائيلي بين اليمين واليسار فى الحكومة، وبين العسكريين والمدنيين وأهالي الأسري في الشعب الإسرائيلي.

 إسرائيل تريد توسيع الحرب ونقلها نحو الشمال فى اتجاه لبنان. وحزب الله يهددها بحرب لا سقف لها، وبادر بنشر فيديو أقل من  عشر دقائق هي حصيلة ساعات من مراقبة لصيقة بطائرات مسيرة لبنانية اسمها "الهدهد" رصدت عدداً من أخطر المواقع فى مختلف المدن الإسرائيلية فى الشمال والوسط والجنوب. هذا الهدهد الذي هدد وأرعب إسرائيل لم يمنع بنيامين نتنياهو من اتخاذ خطوات فى اتجاه تنفيذ حرب شاملة ضد لبنان!

 إنها الحرب إذن. تشعلها إسرائيل فى غزة أو فى لبنان. أو تشعلها الولايات المتحدة الأمريكية فى أوكرانيا أو فى بحر الصين الجنوبي. فهل ستتأخر الحرب حتي تنتهي أمريكا من انتخاباتها فى نوفمبر القادم، أم تشتعل قبل نهاية العام؟ وقبل أن تتجهز وتستعد؟

 مهما يكن الأمر فإن علينا أن نستعد لأسوأ السيناريوهات؛ لأن هناك أموراً خطيرة على المحك: مثل السعر العالمي للدولار، وإمدادات القمح والطاقة، وحركة التجارة العالمية، وتوازنات القوي فى الإقليم وحول العالم.

***

د.عبد السلام فاروق

اقتحم الشعبويون اليساريون المشهد السياسي في أوروبا خلال العقد الأخير، وتمكنوا أيضاً من إدراج أجنداتهم الاشتراكية الصريحة في برلماناتهم وإحداث تغيير جوهري سيظل مطبوعاً في الثقافة السياسية لأوروبا. ومن المثير للدهشة أن الأكاديميين لم يعيروا هذا الأمر سوى القليل من الاهتمام. فكيف أصبحت الحركات والأحزاب الشعبوية اليسارية بارزة في أوروبا خلال السنوات العقد الماضي؟ وإلى أي مدى لعب الركود الاقتصادي والأزمة المالية الكارثية عام 2008 دوراً في إثارة هذه الحركات؟

كانت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، إلى جانب نظيراتها من يمين الوسط، هي المهيمنة في السياسة الأوروبية. PSOE في إسبانيا، وحزب العمال في المملكة المتحدة، Labor Party والحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا SPD ، والباسوك في اليونان PASOK . كانت جميع الأحزاب السياسية من يسار الوسط بمثابة قادة اليسار بلا منازع. لكن أدى تراجعهم إلى انقسام في الجانب الأيسر من الطيف الأيديولوجي.

فبعد "الطريق الثالث" الذي تبناه "توني بلير" Tony Blair  بدأت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الأوروبية في تبني المزيد من جوانب الرأسمالية، وأداروا ظهورهم لعدم المساواة في الدخل وإخفاقات السوق الأخرى مثل عمليات الإخلاء العشوائية.

وقد خلق هذا، فضلاً عن صعود "انقسام العولمة"، مرحلة حيث أصبحت الأحزاب الشعبوية اليسارية قادرة على تلبية احتياجات الناخبين الذين ظلت نوعية حياتهم على حالها أو انخفضت بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

على الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظي به صعود الحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا، إلا أن الشعبويين اليساريين لم يخضعوا لقدر كبير من التدقيق. تتميز الشعبوية على نطاق واسع بخطابها المناهض للمؤسسة والذي يمكن رؤيته في كل من الشعبوية اليمينية واليسارية. وإلى جانب هذه الخاصية، لم يتفق الأكاديميون على الصفات الشاملة التي تربط بين معسكري الشعبوية اليميني واليساري.

وبالنظر على وجه التحديد إلى الشعبوية اليسارية، جاءت معظم الأبحاث كرد فعل على استكشاف أمريكا اللاتينية للشعبوية اليسارية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فإن الشعبوية اليسارية "تُعرّف العدو من حيث حاملي الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، ونادراً ما يكونون مجموعات معينة.

شهدت دولتان أوروبيتان على وجه التحديد صعود الشعبوية اليسارية بطريقة قوية ومتشابهة بشكل خاص: اليونان وإسبانيا. كان لدى كل من البلدين نظام حزبين يتوازن بين يسار الوسط ويمين الوسط قبل أزمة عام 2008، وتعرضت صناعاتها المصرفية لأضرار بالغة، وبلغت البطالة مستويات قياسية، وخلقت إجراءات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي وضعا اقتصاديا لا يطاق بالنسبة للبلاد مما أفقرالمواطنين.

بسبب أوجه التشابه العديدة في حالتي اليونان وإسبانيا، سنقارن صعود الشعبوية اليسارية في كلا البلدين ونبحث في آثار الانهيار الاقتصادي عام 2008 على صعود هذه الحركات. أجد أن أزمة 2008 لعبت دورا حاسما في صعود الشعبويين اليساريين في كلا البلدين، ولكن بقدرات مختلفة. في اليونان، دفعتهم الصعوبات الاقتصادية التي واجهها الأفراد إلى التصويت لصالح حزب جديد يرفض تدابير التقشف. ومع ذلك، في إسبانيا، كان التصور الاقتصادي السيئ للبلاد هو الذي دفع البعض إلى التصويت لصالح انتفاضة الشعبويين. وفي كلتا الحالتين، ساعد الشك في وحدة أوروبا في صعود هذه الأحزاب، لكنها فعلت ذلك بشكل أكبر في اليونان مما كانت عليه في اسبانيا. هذه النتائج مهمة لأنها تظهر أن الأزمة المالية لعام 2008 كانت حافزاً للشعبويين اليساريين الذين جلبوا عدم الاستقرار السياسي إلى أوروبا وساعدوا في تعزيز المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي.

صعود الشعبوية في مناطق أخرى من العالم

لقد شهدت أميركا اللاتينية تحولاً سريعاً نحو اليسار في نهاية التسعينيات، ولقد قام المنظرون بتحليل هذه الظاهرة المتكررة التي ظهرت الآن في بعض بلدان أوروبا. أولاً، لا بد من تصنيف نوع اليسار الشعبوي الذي ظهر. يتميز الشعبوي اليساري باتباع سياسات اقتصادية يسارية غير اعتذارية مع استخدام خطاب يهاجم قطاع المجتمع الذي يمتلك أكبر قدر من رأس المال. علاوة على ذلك، فأن الشعبوية اليسارية ثنائية، على عكس الشعبوية الثلاثية وهي طبيعة الشعبوية اليمينية. وبعبارة أخرى، فإن "الشعبويين اليساريين يناصرون ضد النخبة أو المؤسسة"، حيث يوجد هجوم ثنائي القطب واحد من الفقراء إلى الأغنياء. ومن ناحية أخرى، يهاجم الشعبويون اليمينيون النخبة لتفضيلها مجموعة ثالثة، مثل المهاجرين أو المسلمين أو غيرهم من المجتمعات المنبوذة. هذه الخاصية التي تتميز بها الشعبوية اليسارية هي سمة ولدت لأول مرة في أمريكا اللاتينية ثم شوهدت لاحقاً في السياق الأوروبي.

بعد تحديد نوع الشعبوية وخصائصها، أصبح من الممكن الآن التركيز على أسباب صعودها. تجد الأدبيات ثلاثة أسباب رئيسية وراء صعود الأحزاب الشعبوية اليسارية في أوروبا: الصعوبات المالية الفردية بعد ركود عام 2008، وتصور التدهور الاقتصادي، وتدخل الترويكا ـ المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي ـ في السياسات الاقتصادية المحلية.

إن الكثير من الأبحاث المتعلقة برد الفعل الانتخابي على أزمة عام 2008، جمعت بشكل عام كل الشعبويين عبر الطيف في حساباتهم. على سبيل المثال: إن "الخاسرين" من العولمة في أوروبا كانوا أكثر عرضة للتصويت للأحزاب الشعبوية بعد ركود عام 2008. وفي البلدان التي يشكل فيها الشعبويون اليساريون القوة المهيمنة على الشعبويين اليمينيين فإن تلك الأصوات أفادتهم، مثل اليونان وإسبانيا. إن تأثير الصراعات المالية للفرد على الصعود الانتخابي لليسار أمر محل خلاف إلى حد ما. من ناحية فإن الوضع الاقتصادي السيئ للفرد سيجعله أكثر عرضة للتصويت لحزب راديكالي إذا كان الوضع العام للبلاد مزدهراً. تتوافق هذه النظرية جزئياً مع من يعتقد بأن زيادة عدم المساواة تدفع الناخبين إلى التحالف مع السياسيين الذين يعدون بإعادة توزيع الثروة. علاوة على ذلك، فإن مقارنة النتائج الانتخابية بعد عدة سنوات من الكساد الكبير والركود الكبير في أوروبا، يمكن للمرء أن يلاحظ الدعم الأولي للأحزاب اليمينية، ولكن هناك تحرك لاحق نحو اليسار في السنوات التي تلت الركود. علاوة على ذلك، فإن الخصائص المحددة لبيانات الاقتصاد الكلي لبلد ما قد تؤثر أيضًا على النتائج الانتخابية. وتبين أن العاطلين عن العمل أكثر ميلاً للتصويت لصالح "حزب سيريزا" Syriza party في الانتخابات اليونانية التي شهدت تراجع "حزب باسوك" PASOK Party. كما أدى ارتفاع الدين الوطني إلى زيادة الأصوات لصالح اليسار.

ومع ذلك، فقد جادل البعض بأن الأبحاث لم تثبت بشكل كامل أن عوامل الاقتصاد الكلي تؤثر على القرارات الانتخابية: وبدلاً من ذلك، فإن التصور ورد الفعل على الركود الاقتصادي واسع النطاق هو ما يؤدي إلى ظهور الأحزاب الشعبوية اليسارية. إن العوامل الاقتصادية لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كبير في التحليلات الوطنية، وأن القدرة على إلقاء اللوم على الحزب الحالي تتنبأ بالنتائج الانتخابية بشكل متكرر. وهذا وثيق الصلة للغاية بحالتي إسبانيا واليونان لأن كان كلاهما يتمتعان بنظام حزبين متين مع تغييرات متكررة في السلطة، وبالتالي، كان بإمكان الناخبين بسهولة معاقبة الوضع الراهن للأحزاب من خلال التصويت لحزب ناشئ ومثير يعبر عن القضايا المنسية من قبل المؤسسة. علاوة على ذلك، يمكن وصف هذا النوع من التحول الدراماتيكي من حزب رئيسي إلى حزب راديكالي جديد بأنه انقلاب من النوع أ. وفي هذا السيناريو، يرتبط التحول بشكل أوثق بعدم استقرار نظام الحزب ومن المرجح أن يؤدي إلى تقلبات من النوع أ. يحدث هذا عندما يكون أداء الاقتصاد سيئاً. وسوف يحدث ركود كبير ومثير

يحث الناخبين على رفض المرشحين الحاليين ودعم الأحزاب المتطرفة التي تقدم منظوراً جديداً للسياسة.

وأخيراً، انتقد أكاديميون آخرون دور المنظمات الدولية في خضم الأزمات الاقتصادية. وكان صندوق النقد الدولي في أميركا اللاتينية، والاتحاد الأوروبي في أوروبا، بمثابة موردي الأموال والمشرفين على السياسات الاقتصادية، لكن المنتقدين المحليين كثيراً ما زعموا أن فرضياتهم كانت متعجرفة للغاية وألحقت الضرر بالطبقات الدنيا بشكل غير متناسب. وكثيراً ما استخدم الشعبويون اليساريون في كلا المنطقتين هذا الخطاب أثناء صعودهم إلى السلطة. ورغم أن الأبحاث حول هذا الموضوع في أوروبا لم يتم توحيدها، إلا أن حالة أمريكا اللاتينية كانت موضع تدقيق أكبر بكثير. إن الشعبويين اليساريين البارزين في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين مثل رئيس البيرو السابق "ألبرتو فوجيموري"  Alberto Fujimori، والزعيم اليساري البرازيلي "لولا دا سيلفا"  Lula da Silva، والرئيس الفنزويلي "هوغو تشافيز"Hugo Chávez هاجموا بشكل متكرر تدابير التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي. وقد أعطت خطط ديون صندوق النقد الدولي، التي تعرضت لانتقادات باعتبارها سياسات إمبريالية جديدة، منصة لهذه الحركات الشعبوية لجذب الاهتمام بسرعة.

السؤال المحوري هنا هو: كيف أصبحت الحركات والأحزاب الشعبوية اليسارية بارزة في أوروبا خلال السنوات الست الماضية، وإلى أي مدى لعب الركود الاقتصادي عام 2008 دورًا في إثارة هذه الحركات؟

سنلقي نظرة على الصراعات المالية الفردية، والتصور الاقتصادي العام، ورد الفعل ضد تعدي الاتحاد الأوروبي على الاقتصاد كمتغيرات أدت إلى ظهور الشعبوية اليسارية، مستوحاة من مراجعة الأدبيات. وسأقارن بين حالتي إسبانيا واليونان، مع النظر في صعود حزب "بوديموس" Podemos  وحزب "سيريزا" SYRIZA على التوالي بين عامي 2014 و2019. ستأتي البيانات المستخدمة في المقام الأول من أبحاث أخرى حول هذا الموضوع، والمسوحات الوطنية، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي.

الحالة الإسبانية

أدت عودة إسبانيا إلى الديمقراطية في عام 1976 إلى ظهور نظام حزبين ملفق، وذلك بسبب صغر حجم المقاطعات في الدوائر الانتخابية للبرلمان. حكم الحزب الاشتراكي الإسباني (PSOE) والحزب الشعبي (PP) السياسة الإسبانية من عام 1982 حتى عام 2015، عندما دخل حزبان جديدان إلى البرلمان مما وضع حداً للسياسة الإسبانية التقليدية. وقد حصل أحد هذه الأحزاب الجديدة وهو "بوديموس" Podemos ، على 1.3 مليون صوت في الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي عام 2014 و20.7% من الأصوات في الانتخابات العامة عام 2015، من خلال حملته الانتخابية على برنامج التجديد السياسي وإنهاء تدابير التقشف.

 ضربت الأزمة المالية لعام 2008 إسبانيا بشكل خاص مقارنة بنظيراتها من الدول الأوروبية. وارتفع معدل البطالة إلى 26% في عام 2013 (55% بين الشباب)، وارتفع الدين العام إلى 93% من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي لتسعة أرباع سنة متتالية. علاوة على ذلك، وصل الاستياء العام من المؤسسة السياسية إلى مستويات قياسية. بحلول عام 2014، رأى أكثر من نصف الإسبان أن الوضع السياسي "سيء للغاية"، وفقاً لمركز التحقيقات الاجتماعية (CIS). علاوة على ذلك، في نفس العام، اعتبر 44% أن الفساد هو المشكلة الأكثر أهمية في إسبانيا، وهو رقم قياسي. وبعد عدة سنوات من الصعوبات الاقتصادية وإجراءات التقشف، انتشرت الاحتجاجات في جميع أنحاء إسبانيا. وفي عام 2007، كان هناك ما مجموعه 10000 احتجاج، ولكن في عام 2010 ارتفع هذا العدد إلى 25000. بدأ المتظاهرون في تنظيم أنفسهم وشكلوا في نهاية المطاف ما يسمى بـ "حركة 15 مليوناً"، التي دعت إلى وضع حد لإجراءات التقشف، والتداعيات القانونية للسياسيين الفاسدين، ووضع حد للمحن الاقتصادية العديدة.

ومن بين حركة 15 مليونًا، جاء حزب بوديموس، الذي جسد هذه المبادئ وقرر إحداث تغيير من داخل النظام السياسي الإسباني بدلاً من الاعتماد فقط على التعبئة الاجتماعية والاحتجاجات والإضرابات. وسرعان ما صعد الحزب إلى مكانة بارزة واكتسب حضوراً كبيراً في الحكومات المحلية، وفاز بمجالس المدن الرئيسية في مدريد وبرشلونة وقادس.

في ظل هذا الوضع الاقتصادي الكارثي ونظام الحزبين الراسخ الذي يمكن معاقبته بسهولة، قد يفترض المرء بسرعة أن السبب الرئيسي لصعود حزب بوديموس هو تراجع الوضع الاقتصادي للسكان. ومع ذلك، فإن هذا محل خلاف على نطاق واسع بين الباحثين. على الرغم من أن بعض الدراسات التي تتعلق بصعود الشعبوية اليسارية تشير إلى الصعوبات الاقتصادية باعتبارها السبب الجذري للتحول اليساري في السياسة، إلا أن هذا لا يبدو أنه ينطبق بشكل مباشر على الحالة الإسبانية.

كان للأداء الاقتصادي تأثير متواضع على قرار الإسبان بالتصويت لصالح حزب بوديموس وفقاً للعديد من الدراسات. على سبيل المثال، لم يكن من المرجح أن يصوت الفرد الذي كان عاطلاً عن العمل لصالح حزب بوديموس Podemos وبدلاً من ذلك، كان أكثر ميلاً للتصويت لصالح حزب الشعب من يمين الوسط. ومع ذلك، فإن أولئك الذين واجهوا مشاكل في دفع فواتيرهم كانوا أكثر عرضة للتحول من PSOE إلى بوديموس Podemos  بنسبة 13٪ في انتخابات عام 2015. وجدت دراسات أخرى وجود علاقة غير مهمة بين الموارد المالية الشخصية للشخص واختياره للحزب والتصويت لصالح بوديموس. لذلك، كان للوضع المالي الشخصي تأثير معتدل أو ضئيل في صعود حزب بوديموس في إسبانيا. ورغم أن بوديموس يقدم نفسه كحزب للأغلبية مع التركيز بشكل واضح على أولئك الذين يعانون من عدم الاستقرار المالي، فقد تبين أن ناخبيه لا يمثلون الطبقة العاملة من الطبقة الدنيا التي يصورونها بشكل رومانسي.

وجد تحليل للناخبين لكل حزب سياسي رئيسي أجرته صحيفة إل باييس  EL PAÍS باستخدام بيانات من رابطة الدول المستقلة أن حزب بوديموس هو الحزب الأقل شعبية بين الأشخاص ذوي الأجور الأقل (أقل من 600 يورو شهرياً). وبدلاً من ذلك، كانوا الأكثر شعبية بين الطبقة المتوسطة المتعلمة، مما يدل على أن عدم الاستقرار المالي للفرد لا يزيد من احتمالات تصويته لصالح حزب بوديموس. وبدلاً من ذلك تشير الدراسات إلى تصور الفرد للوضع الاقتصادي العام باعتباره المتغير المحدد الذي يجعل الشخص يصوت لصالح حزب بوديموس. وقد وجد تحليل شامل لعدة بلدان حول صعود الشعبوية اليسارية في تسع دول أوروبية أن "دور العوامل الاقتصادية الشخصية يتضاءل مقارنة بالتأثير الأعظم لتصورات الاقتصاد الوطني.

وأخيرا، فإن معظم الدراسات التي تتناول الشعبوية اليسارية في إسبانيا بالكاد تذكر تأثير الترويكا ــ في إشارة إلى المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، الذين فرضوا العديد من تدابير التقشف خلال أزمة عام 2008 ــ في آراء الناخبين. قرارات التصويت لصالح حزب بوديموس. ومع ذلك، استخدم "بابلو إغليسياس"  Pablo Iglesias المؤسس المشارك وزعيم حزب بوديموس، الهجمات ضد الترويكا كجزء حاسم من خطابه. واحتجت حركة "15 مليون غاضب" بشدة ضد إجراءات التقشف، وبالتالي هاجمت الترويكا. كان الخطاب حاضرًا في الغالب خلال الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي عام 2014، حيث انتقد إغليسياس إجراءات التقشف التي فرضها "ثاباتيرو" Zapatero و"راخوي" Rajoy على الترويكا، ووعد بالدعوة إلى إنهاء التقشف. ومن حيث البيانات، فمن الصعب تمييز التأثير الملموس لمثل هذا الخطاب على النتائج الانتخابية لسبب رئيسي واحد: يتمتع الأسبان بوجهات نظر أفضل بشكل ملحوظ تجاه الاتحاد الأوروبي مقارنة بالدول الأعضاء الأخرى. وفقا لمقياس "يوروباروميتر" Eurobarometer لعام 2015، كان لدى 29% من الإسبان وجهة نظر سلبية تجاه الاتحاد الأوروبي، مقارنة بنسبة 44% في اليونان. ومع ذلك، كان الإسبان لا يثقون في البنك المركزي الأوروبي أكثر من غيرهم بين الدول الأعضاء بنسبة (77%). لذلك، بالنظر إلى إن الهجمات على الترويكا ـ بسبب التعدي على السياسة الاقتصادية المحلية ـ تشكل أهمية مركزية في خطاب بوديموس، ونظراً للنجاح السريع في انتخابات الاتحاد الأوروبي، يمكن للمرء أن يستنتج أنها ساعدت بالفعل في صعود بوديموس.

كان للأزمة المالية في عام 2008 تأثير كبير بالفعل على قرارات الناس بالتصويت لصالح حزب بوديموس، ولكن ليس لأن الوضع المالي للفرد استلزم التغيير الاقتصادي الذي دعا إليه حزب بوديموس، بل بسبب الاستياء من الوضع الاقتصادي العام في إسبانيا.

الحالة اليونانية

مما لا شك فيه أن الدولة الأكثر تضرراً في أوروبا بعد ركود عام 2008 كانت اليونان. وعلى نحو مماثل لإسبانيا، ارتفعت معدلات البطالة إلى عنان السماء، وأصبحت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي هي الأعلى في أوروبا، ودخل نمو الناتج المحلي الإجمالي في تراجع وانكماش غير مسبوقين. وعلى غرار إسبانيا، كان هناك نظام مستقر قائم على حزبين لعدة عقود قبل ركود عام 2008 مع وجود نظام حزبي مستقر. الانتشار الأخير للحزب الاشتراكي الديمقراطي باسوك PASOK سمح للناخبين بمعاقبة الأحزاب القائمة نظراً لظهور حزب سياسي جديد. لقد اختفت حقبة ما بعد عام 2008 في الوضع السياسي الراهن في اليونان، ودفعت مجموعة "سيريزا" SYRIZA الشعبوية اليسارية إلى الأمام، تحت قيادة "ألكسيس تسيبراس" Alexis Tsipras. تأسس الحزب في عام 2004 نتيجة شراكة بين العديد من الأحزاب الشيوعية وغيرها من الأحزاب اليسارية المتطرفة، ولعب دوراً صغيراً في البرلمان إلى أن تخلى جانباً عن العديد من مواقفه الأكثر تطرفاً ــ بما في ذلك المخططات الإنتاجية التعاونية وخطط التأميم الضخمة ــ وقدم برنامجاً للسياسة الاقتصادية الكينزية Keynesian economics كخطة لإنعاش الاقتصاد اليوناني في عام 2014. وكان رد فعل حزب سيريزا وسياساته ضد تدابير التقشف التي اضطر حزب "باسوك" PASOK إلى تنفيذها من قبل الترويكا، ووعد بنوع جديد من التعافي الاقتصادي القائم على المثل الاشتراكية.

كما هو الحال مع حزب "بوديموس" في إسبانيا، كان حزب "سيريزا" في اليونان هو الخيار الأكثر شعبية بين الطلاب والشباب والجمهور المتعلم. ومع ذلك، فإن الوضع المالي الشخصي للفرد كان أكثر أهمية من حالة اسبانيا. وفقا لدراسة أجرتها "إفتيشيا تيبيروغلو" Eftichia Teperoglou الأستاذة في "جامعة ارسطو" اليونانية Aristotle University عام 2015 حللت نتائج عام 2014 في الانتخابات الأوروبية في اليونان، كان حزب "سيريزا" الأكثر شعبية بين العاملين في القطاع العام، الذين تلقوا تخفيضات هائلة في الأجور. علاوة على ذلك، كان حزب سيريزا يتمتع بشعبية كبيرة بين العاطلين عن العمل وأولئك الذين وأفادوا بأن وضعهم الاقتصادي الفردي قد تدهور نتيجة للأزمة. ولأن نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي انخفض بما يقرب من النصف في غضون سبع سنوات فقط (في مقابل انخفاض بنسبة 25% في إسبانيا)، فيبدو من المفهوم أن يؤثر الاقتصاد الشخصي على الانتخابات بشكل أكثر بروزاً مما حدث في إسبانيا. علاوة على ذلك، فإن هذه النتائج تتوافق بشكل أكبر مع الدراسات التي أجريت عبر البلاد حول الشعبوية اليسارية في أوروبا والتي خلصت إلى أن "الخاسرين" من العولمة هم أكثر عرضة للتصويت للأحزاب الشعبوية اليسارية لأنهم ينتقدون المُثُل الليبرالية الجديدة التي بنيت عليها العولمة.

يبدو أن تصور الاقتصاد لم يلعب دوراً حاسماً في تحديد الاختيار الانتخابي. وربما يرجع ذلك إلى أن التشاؤم المحيط بالاقتصاد في اليونان أوسع بكثير منه في أي دولة أوروبية أخرى. في عام 2017، رأى 2% فقط من اليونانيين أن الوضع الاقتصادي الوطني "جيد"، مقارنة بـ 28% في إسبانيا.37 لذلك، من الصعب تمييز أي استنتاجات من هذا المتغير إذا كان هناك اختلاف بسيط في الرأي بين الناخبين.

وفيما يتعلق بتصور المنظمات الدولية الخارجية التي تسيطر على اقتصاد اليونان، فإن انعدام الثقة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي والترويكا أكثر انتشارا بين ناخبي حزب "سيريزا". من المؤكد أن إنفاق الترويكا مليارات الدولارات لمساعدة الموارد المالية لليونان كان له تأثير على الناخبين، حيث كان للمنظمات صوت أكبر بكثير بشأن إجراءات التقشف التي شهدها اليونانيون. ورغم أن اليونان بشكل عام واحدة من أكثر الدول مناهضة للاتحاد الأوروبي في أوروبا، فإن انعدام الثقة في المؤسسات مرتفع بشكل خاص بين ناخبي حزب "سيريزا". بالإضافة إلى ذلك، وُلد حزب "سيريزا" من رحم الأحزاب الشيوعية الأوروبية، التي آمن الكثير منها بقيم الوحدة والسلام الأوروبيين، لكنها رفضت المُثُل النيوليبرالية التي تربط الدول الأعضاء ببعضها البعض من خلال الاتحاد الأوروبي. وفي ظل مثل هذا التاريخ والرفض الساحق لتدابير التقشف التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، فليس من المستغرب أن يكون اقتراح رئيس وزراء اليونان السابق "الكسيس تسيبراس" Alexis Tsipras الرئيسي هو منع مؤسسات الاتحاد الأوروبي من اتخاذ القرار بشأن مستقبل اليونان الاقتصادي.

وهذا يوضح أنه كلما كان الناخب اليوناني أكثر معارضة للتكامل الأوروبي، كلما زاد احتمال تصويته لصالح الشعبوية اليسارية. وينعكس هذا الاتجاه في العديد من الدراسات الأخرى والاستطلاعات، مما يشير إلى أن التشكيك في أوروبا هو متغير موثوق للتنبؤ بالدعم الانتخابي لسيريزا خلال انتخابات عامي 2014 و2015.

باختصار، على الرغم من أن تصور الوضع الاقتصادي في اليونان لم يكن مؤشراً جيداً لدعم الشعبوية اليسارية بسبب التشاؤم العام فيما يتعلق بالاقتصاد، إلا أن التشكك في أوروبا والوضع المالي للفرد كانا ذا صلة.

الخلاصة

بشرت الأزمة المالية لعام 2008 بعصر جديد من الاقتصاد والمجتمع والسياسة في أوروبا. وكان جنوب أوروبا على وجه التحديد المنطقة الأكثر عرضة للصعوبات الاقتصادية. أثارت الاقتصادات الراكدة غضب المواطنين الذين احتشدوا ضد الوضع السياسي الراهن الذي ظل دون منازع لفترة طويلة. أصبحت السياسة في جميع أنحاء أوروبا غير مؤكدة مع صعود الشعبوية. وتمكنت الشعبوية اليسارية من تحدي الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية بشكل جدي. وفي إسبانيا واليونان، صعدت الأحزاب الشعبوية اليسارية بسرعة واستولت على الحكومات البلدية والإقليمية، بل وحتى الوطنية في حالة اليونان.

وكانت السياقات السياسية في إسبانيا واليونان متشابهة إلى حد ما، ولكن النتائج المختلفة بعد أزمة عام 2008 أدت إلى صعودين منفصلين في الشعبوية اليسارية. في نهاية المطاف، يمكن الاستنتاج أن تداعيات الأزمة أثارت تجدد اليسار المتطرف في كلا البلدين، لكنها أثرت على السياسة بسبب متغيرين مختلفين. في إسبانيا، سمح الغضب ضد سوء إدارة الاقتصاد من قبل الحزبين التقليديين، المقترن بالغضب ضد فضائح الفساد العديدة التي ظهرت بعد عام 2008، لحزب "بوديموس" بالتحرك. ولم يكن للمصاعب الاقتصادية الشخصية التي يعاني منها شخص ما تأثير كبير على اختياره السياسي كما كان للتصور الاقتصادي العام.

ربما يرجع هذا إلى أن الأحزاب التقليدية مثل حزب الشعب قدمت نفسها على أنها أحزاب استقرار يمكنها توليد فرص العمل والأمن الاقتصادي. في حين فضلت الطبقة المتوسطة المتعلمة الراسخة التي اهتمت بالقضايا النسوية والبيئية والعمالية بشكل عام فضلت خياراً جديداً ومثيراً في السياسة. ولذلك، فإن أولئك الذين لديهم تصورات سلبية عن الاقتصاد المحلي كانوا أكثر دعماً لليسار الشعبوي. ولكن في حالة اليونان، كانت أزمة عام 2008 أكثر تأثيراً على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للناس مقارنة بإسبانيا، الأمر الذي جعل اليونانيين بالتالي أكثر انشغالاً بمحافظهم المتقلصة من انشغالهم ببيانات الاقتصاد الكلي.

وأخيرًا، كان لدى الناس من كلا البلدين ردود فعل سلبية تجاه الطريقة التي تدخلت بها المنظمات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في السياسة الاقتصادية المحلية. وفي اليونان برز هذا الأمر لأن تلك المنظمات لعبت دوراً أكبر بكثير في الاقتصاد مقارنة بإسبانيا.

 ومن ناحية أخرى، اقتصر حزب "بوديموس" على مهاجمة الترويكا لتمثيلها دول النخبة الثرية التي فرضت إجراءات التقشف على دول جنوب أوروبا، لكن ذلك لم يكن جانباً مركزياً في خطابه. عندما يتعلق الأمر بسؤال ما هي الدولة التي شهدت المزيد من التغيير بسبب صعود الشعبوية اليسارية، فإن الإجابة مثيرة للجدل. ورغم أن المرء قد يزعم أن تأثيراته في اليونان كانت أكثر بروزاً لأن حزب "سيريزا" فاز بالحكومة، فمن الممكن أن يقول أيضاً إن التغيير الذي وعدوا به ضد التقشف لم يتحقق نظراً للوضع الكارثي في استفتاء عام 2015.

وفي إسبانيا، دخل حزب "بوديموس" لاحقاً فقط في الحكومة في ائتلاف مع الحزب الاشتراكي العمالي، لكنه نجح في إحداث تغيير كبير في المدن التي يحكمها، مثل سياسة تغير المناخ في مدينة مدريد Madrid  وخفض الديون في مدينة "قادس" Cadiz.

والسؤال الأخير الذي يتعين علينا الإجابة عليه هو: لماذا يشكل هذا أهمية بالنسبة للأوروبيين اليوم؟ أولاً: أدى الصعود الذي لا يمكن وقفه للشعبوية اليسارية في أوروبا إلى تدمير الوضع السياسي الراهن في العديد من البلدان، ومن غير المرجح على الإطلاق أن تعود اليونان أو إسبانيا إلى نظام الحزبين العتيق. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي ـ كما رأينا في إسبانيا منذ بضع سنوات ـ بل وقد يدعو إلى إعادة هيكلة السياسة بشكل عام. وفي إسبانيا، قد يعني هذا تكييف مجلسي النواب والشيوخ، وإعادة النظر في مبدأ التناسب في الانتخابات، بل وحتى إجراء إصلاح شامل للدستور برمته.

ثانياً: أدى التحول الهائل نحو اليسار في السياسة الأوروبية إلى إعادة معايرة بقية الطيف. وفي كل من اليونان وإسبانيا، اكتسبت أحزاب الفاشية الجديدة اليمينية المتطرفة الكثير من الدعم، ويرجع ذلك جزئياً إلى صعود حزب "سيريزا" وحزب "بوديموس". علاوة على ذلك، اضطرت الأحزاب الأخرى أيضاً إلى إعادة النظر في سياساتها، واهتم الديمقراطيون الاشتراكيون بالقضايا الاجتماعية التي تركوها وراءهم خلال الأزمة. لذلك فإن تأثيرات الشعبوية اليسارية ستكون طويلة الأمد وستؤثر على مستقبل البلدان، فضلاً عن المصير العام للاتحاد الأوروبي.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

وقد تمادى شخص آخر يدعى الطاهر المعز فكتب مقالة في موقع "الأردن العربي" بتاريخ 25 حزيران 2024"، اتهم فيها تشومسكي تهمة مضحكة هي في الوقت نفسه كذبة دنيئة مفادها أنه (شارك في تصميم منظومة لُغَوية الكترونية تَزيد من فاعلية ودِقّة القَصْف الذي تُنفّذُهُ طائرات الفانتوم الحربية الأمريكية ضد شعب فيتنام... وساهم في تثقيف ضُبّاط الجيش الأمريكي بشأن حضارة ولُغة وعادات وتقاليد الشعوب التي يعتدي عليها الجيش الأمريكي"! تخيلوا هذا: منظومة لغوية إلكترونية تزيد من فعالية الطائرات الحربية!

ولكن بِمَ يتعلق النقد المعقول نسبيا الذي يوجه لتشومسكي من يساره؟ سأناقش مثالاً عليه في مقالة شهيرة للناشط نوح كوهين نُشرت سنة 2004. ويعتبرها البعض مرجعاً، يبدو وحيداً لكثرة ما تم الاستشهاد به، لنقد تشومسكي رغم قِدمه النسبي. وسأعتمد نصها الأصلي في موقع (Znet) في 30 آذار 2004، وكما أعاد نشرها (chomsky.info) بعنوان "العدالة لفلسطين؟"، وليس ما اقتبسه كوهين بطريقته الخاصة.

أشير بدءاً إلى أن نقد كوهين لطروحات تشومسكي الفلسطينية، وإنْ كان متشنجاً شكلاً وأسلوباً، ومتحيزاً أحياناً إلى درجة ضعف الأمانة في العرض، ولكنه ينطوي أحيانا على حجج مقنعة، وخصوصاً في الدفاع عن مشروع الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية الواحدة - الذي أتبناه شخصياً وأدافع عنه - وفي نقد الحجج المضادة للقائلين بحل الدولتين. ولكن هدفي هنا إبراز الفرق بين النقد اليساري الحريص على القضية والمنصف للصديق المختلف فكرياً ورفض التشكيك به وتخوينه باعتباره عميلاً للمخابرات الأميركية، وبين النقد المتشنج والعدائي المتأدلج. وأعتقد أن أفضل تحية لصديق فلسطين المريض نعوم تشومسكي الإنسان النقدي الصادق والشجاع والذي وصفه الراحل هادي العلوي بعبارة "هذا اليهودي البركاني" هي أن نقرأه نقدياً من دون مبالغات وافتراءات وإساءات.

إن تشومسكي يعطي لرده على سؤال محاورَيه شالوم وبودير طابعاً مؤقتاً ومشروطاً. يقول السؤال حرفيا: "ما هو الحل الأفضل في نظرك للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟"، فيرد تشومسكي: "ذلك يعتمد على الإطار الزمني الذي نضعه في الاعتبار. فعلى المدى القصير، فإنَّ الحل الوحيد الممكن واللائق هو على غرار الإجماع الدولي الذي عرقلته الولايات المتحدة من جانب واحد على مدى السنوات الثلاثين الماضية: تسوية الدولتين على الحدود الدولية - الخط الأخضر". بمعنى أنه لا يعطي رأياً نهائياً صالحاً لكل زمان ومكان كالنصوص الدينية المقدسة وخارج الظرف السياسي الدولي العام إنما يطرح رأيا لحل على المدى القصير من دون أن يلغي ثوابته المبدئية القديمة. فحين يذكِّره محاوراه بأنه "في وقت من الأوقات، كان يحث على إقامة دولة واحدة ثنائية القومية كأفضل حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهل يعتقد أن مثل هذا الحل مرغوب فيه اليوم؟ هل هو واقعي اليوم؟"، يجب تشومسكي بالقول "لقد كنت أؤمن بذلك - الحل - منذ الطفولة، وما زلتُ أعتقد بذلك. كان الأمر واقعياً أيضاً من عام 1967 إلى عام 1973 وكتبت عن ذلك كثيرا، لأنه خلال تلك السنوات كان الأمر ممكناً تماما... وبحلول عام 1973، ضاعت الفرصة، وكان الحل الوحيد الممكن على المدى القصير هو اقتراح الدولتين".

ثم يشير تشومسكي إلى أن هذا الرأي منفتح على المستقبل، على الحل الآخر حل الدولة الديموقراطية العلمانية فلا يكتفي بعبارة "على المدى القصير" بل يضيف "وربما على المدى الطويل، مع تراجع العداء والخوف، وتطور العلاقات بشكل أكثر رسوخاً على طول خطوط لا قومية (non-national lines)، ستكون هناك إمكانية للتحرك نحو نسخة فيدرالية من دولة ثنائية القومية، ثم بعدها ربما نحو تكامل أوثق، وربما حتى إلى دولة ديمقراطية علمانية". ومن الواضح أنَّ هذه التوقعات المتفائلة (بتراجع العداء والخوف) لم يعد لها معنى بعد حرب الإبادة الجماعية المستمرة الآن.

إذن، فتشومسكي يصف واقع الحال، فيما هو يبحث عن حل سريع يوقف المأساة الفلسطينية، وينفتح على حل آخر هو حل الدولة ثنائية القومية أو حتى على الدولة العلمانية الديموقراطية الواحدة لجميع سكانها.

لم أرد تزكية هذه الفكرة وتأييدها بل تأكيد الطابع المشروط والعملي والمؤقت لها للتفريق بينها وبين فكرة أولئك الذين بدأوا منها وانتهوا إليها معتبرين إياها حلاً نهائياً حتى حين أصبح من المستحيل تطبيقها بسبب تجاوزات ومصادرات وجرائم الكيان الصهيوني. ولكن إلى أي مدى يمكن الموافقة على هذا الفصل بين الثوابت الفكرية وبين حلول مؤقتة وظرفية ومشروطة بحالة مأساوية، حتى لو كان أهل القضية، وهم هنا منظمات المقاومة الفلسطينية، من الآخذين به؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن توجه إلى خطاب القائلين بالحل المؤقت والظرفي "دولتان لشعبين" وليس عبر التشكيك والاتهامات بالخيانة والعمالة للعدو... يتبع.

إن الحجج التي يسوقها تشومسكي لترويج حل الدولتين ضعيفة على الصعيدين النظري والعملي، حتى إذا نظرنا إليها حين طرحها قبل عشرين عاما، ويَصْدُقُ عليها نقد كوهين. فلنعد الآن لنقد هذا الأخير مهملين افتراءات البعض الآخر المهينة. يتمركز نقد كوهين لرؤية تشومسكي لحل الدولتين ومبرراته التي يعضد بها رأيه على نقطتين أو حجتين وردتا في تلك المقابلة.

يستنتج كوهين من كلام تشومسكي "محاولة عامة لإضفاء الشرعية على شكل ما من أشكال الوجود المستمر لنظام الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي وتعزيز الدعم الخلفي له بين التقدميين الأمريكيين". ومن الواضح أن الاتهام بـ "تعزيز الدعم الخلفي بين التقدميين الأمريكيين للاستعمار الإسرائيلي"، لا يخرج عن إطار الهجاء والاستنتاجات المتحاملة التي تكثر في النثر الذي يكتبه دعاة اليسارية القصوية غالبا، فتشومسكي هنا لا يريد أن يُشَرْعِنَ استمرار النظام الاستعماري العنصري الإسرائيلي بل يريد إنهاءه عبر حل الدولتين ولكنه مخطئ حين يعتقد بإمكانية ذلك؛ فحتى هذا الحل لم يعد ممكناً، ليس الآن بعد حرب إبادة غزة سنة 2024، بل حتى سنة 2004 حين لم يبقَ للفلسطينيين من أرض فلسطين التاريخية سوى (9.8) بالمائة، كما يوثق محمد سعيد دلبح على ص464 من كتابه "ستون عاما من الخداع". ثم يضيف كوهين أن حجة تشومسكي تقوم على ركنين يختزلهما في وجوب فصل تاريخ الاحتلال والتوسع الاستعماري الإسرائيلي عن جميع التواريخ الاستعمارية الأخرى كحالة خاصة، ويجب إيلاء اعتبار خاص للمستوطنين الاستعماريين الصهاينة باعتبارهم مجموعة ضعيفة تاريخياً" أولا. وثانيا في أن "الدعوة إلى إنهاء النظام الاستعماري أمر غير واقعي؛ إنه يؤذي المستعمَر (the colonized) فقط".

يصف كوهين جحتي تشومسكي هاتين بعد أن صاغهما هو - كوهين - بمفرداته، بأن الأولى التي تجعل اليهود أقلية مضطهَدة هي حجة أخلاقية. وهذا الوصف لا يدحض الحجة من حيث كونها محتملة أم لا، بل يحاول التشويش على جوهرها، فالأخلاق ليست عاملاً يحسب له حساب في المنطق العلموي القصوي الذي يأخذ به كوهين. وربما نجد دحضها الحقيقي في مكان آخر متعلق باحتمال حصول حالة، في سياق مختلف عن سياق التفكير بها؛ بمعنى، إن تشومسكي يسقط فكرة احتمالية قادمة من ظرف بلغ فيه الكيان الصهيوني ذروة قوته وهيمنته، فيسقطها على ظرف مختلف ليس هو ظرف انهياره وتفككه المحتمل. وفي أن القول بالفصل بين تاريخ الاحتلال والتوسع الصهيوني في فلسطين عن جميع التواريخ الاستعمارية الأخرى ليس صحيحاً.

ولكن هل حاول تشومسكي القيام بفصل كهذا، أم أن الأمر يتعلق بالتفريق بين أنواع أو كيفيات وخصوصيات حالات استعمارية أخرى خارج فلسطين؟ أما ما يقوله كوهين عن الحجة التشومسكية الثانية حول عدم واقعية الدعوة إلى إنهاء النظام الاستعماري الصهيوني هي "الدعوات غير واقعية على أي حال، ولن يستخدمها المتطرفون الصهاينة إلا لتبرير برنامجهم للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين (حجة براغماتية)"، فهو قول يحذف من المقولة طابعها المؤقت والظرفي وهو أمر يحتاج إلى تدقيق. فرغم أنه من الصحيح وصف الحجة بأنها برغماتية، ولكن البرغماتية تبقى محايدة، إذا تعلق الأمر بجوهرها القائم، كما يقول تعريفها، على اعتبار أن "المقولات والكلمات والأفكار هي أدوات للتحليل والاستشراف وحل المشكلات والعمل، وليست وصفاً أو تمثيلا للواقع فقط"، قبل وضعه في سياقه الصحيح.

فحين نسأل؛ هل يمكن لشعب يباد جماعياً أمام أنظار العالم أجمع وتصادر أراضي وطنه منه بمشاركة أقوى دولة في العالم المعاصر هي الولايات المتحدة، أن يطالب بإزالة الكيان أو النظام الاستعماري الاستيطاني ككل من الوجود فورا، أم أنه سيسعى إلى مقاومة المذبحة ومحاولة إيقافها أولا، ليتمكن بعد ذلك من التفكير بالخطوة أو الخطوات اللاحقة على درب نضاله التحرري الطويل دون نسيان هدفه النهائي؟ هذا السؤال سيقودنا إلى تفحص بعض أوجه النقد الصائب الموجه لآراء تشومسكي بعد وضعها في سياقها التأريخي والموضوعي الصحيح بعيدا عن أي تشنج وإساءات انفعالية وفي ضوء التطورات الأخيرة المتمثلة بحرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين بغزة، وهو ما سنحاول مقاربته تحليليا في وقفة أخرى.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

قبل أن ينالني مؤيدو الديمقراطية بالتخوين والشّيطنة، وأنا أحد المؤيدين والمتمنين نجاحها بأُصولها لمصلحة الأوطان لا لخرابها، العنوان ليس لي، مقتبس مِن أدب الشّيخ عبد الله العلايليّ (ت: 1996)، رجل الفكر والدّين، صاحب المواقف والطّرائف، عُرف بموسوعته في المصطلحات «المعجم موسوعة لغويّة علميّة فنيّة»(1954)، توصل إلى إطلاق هذه العبارة مِن الوضع الذي عاشته بلاده. غير أنّ السّبق، بما يقربُ مِن هذه العبارة، لمترجم وناشر ومُشيع نظرية «أصل الأنواع» شبلي شميل(ت: 1917)، بما نشره في «المقتطف»: «فلسفة النّشوء والارتقاء»(القاهرة: 1910).

كان العلايلي وشَميل مِن فضائل لبنان، مع اختلافهما في الاتجاه واتفاقهما على التّنوير. لذا، نالتهم الرّدود الشَّديدة، وحشوها في أذهان العامة ضدهما. فما إنْ كتب العلايلي «أين الخطأ؟» (1978)، حتى ردَّ عليه بعض زملائه مِن رجال الدّين، معتبراً كتابه «سقطة شنيعة وعثرة»(الجوزو، مجلة الأمان، العدد 69). يرى الاثنان، شميل والعلايليّ، أنَّ اتفاق الكثرة - ما يخص العلايليّ- قصد الانتخاب والتّصويت، على أمرٍ أو رأي ما ليس دليلاً على صحته، ولا اتخاذ قرار برلماني، نال موافقة المصوتين، يعني كان صحيحاً، لمصلحة النّاس والوطن، فالمصوتون أجناس، مَن يتبع زعيمه، على الخطأ والصّواب، ومَن يعتبر عقيدة حزبه الأصح، ومَن صوت طلباً لمغنمٍ ومطعمٍ، ومَن هو طبيعته كالماء، لا لون ولا رائحة، مثلما يُقال، فأي حقّ يُنال مِن أفواه هذه الكثرة؟

أما شميل فقصد الكثرة التي واجهته وكتابه المذكور، وهو وإنْ ارتفع سهمه منذ العشرينيات، وخسر إثر الانقلاب الصَّحوي في الثمانينيات وما بعدها، بتبني أطباء وأساتذة فيزياء وكيمياء، صحويون، الرّد عليه وعلى ملهمه تشارلز داروين(ت: 1882)، لكن أعيد للأخير اعتباره، وأعيد لشميل اعتباره أيضاً بقراءة كتابه مِن جديد، فلم يشك المنصف، غير المتلبس بالصحويَّة، أنهما يبحثان داخل هذا الكون لا خارجه.

كتب شميل مواجهاً الحملة الشّعواء ضده: «كن شديد التّسامح مع مَن يخالفك في رأيك، فإن لم يكن رأيه كلَّ الصّواب، فلا تكن أنت كلَّ الخطأ بتشبثك، وأقل ما في إطلاق حرية الفكر والقول، تربية الطّبع على الشّجاعة والصِّدق، وبئس النَّاس إذا قسرا على الجبن والكذب»(فلسفة النشوء والارتقاء 1910). أمَّا عن البرهان على صحة الرّأي بكثرة المؤيدين، فنجده يقول: «الإصابة ليست دائماً في جانب الاجماع، فالكثرة ليست حِجَّة قاطعة، أو هي وحدها برهان القوة، الوحشية والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع» (نفسه).

فلا تتباهوا بالهتاف والتَّظاهر، وقولوا ما شئتم فلستم بالغين الحقَّ، بكثرتكم، فما هو إلا موسم، ويتشرذم الجمع، لأنه خواء في خواء. أمّا العلايلي فكان مباشراً، في الشّأن السِّياسي والبلاء بديمقراطيات الطّوائف، قال: «فلا تمنعني غرابة رأي- أظنه أنه صحيح- مِن إبدائه، لأنَّ الشّهرة لم تعد أبداً عنوان الحقيقة... لأنَّ الحق لم يعد يُنال بالتّصويت الغبيّ، فالانتخاب لمَن عمل الطبيعة، وهي لا تغالط نفسها، كما لا تعمد إلى التّزوير» (المعجم موسوعة لغوية 1954)، وجعل ذلك شعار(العلايليّ، المعريّ ذلك المجهول).

عند التّصويت «الغبي» وتصويت «المتذاكين» تظهر الدّيمقراطيّة أكثر فجوراً، لدعهما بشرعيّات، عابرة للأوطان، لا المصلحة الوطنية. إحدى مميزات الدّيمقراطيَّة الشَّوهاء، أن يكون التَّصويت وفقها غبيّاً، وإن وصف العلايلي التصويت، ضد التقدم والوطن والعِلم، بالغبي، فهو يقصد مَن لا يعرف يساره مِن يمينه، وكذلك الأذكياء في خراب بلدانهم، الـ «‏مستأجَرِينَ يُخرِّبونَ دِيارَهُمْ/ ويُكافئونَ على الخرابِ رواتبا/ الحاقدينَ على البلادِ لأنَّها/ حَقَرتْهُمُ حَقْرَ السّليبِ السّالبا»(الجواهريّ، هاشم الوتريّ 1949).

ففي كل الأحوال الحقّ لا يُدرك بالتّصويت الغبي، والكثرة الجاهلة بالتّجهيل الممنهج، هذا ما أراد شبلي شميل وعبد الله العلايليّ التنبيه لخطورته، فبئس الاتفاق على تصويت لخراب الأوطان، لا عمرانها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ذكر شهر تموز في أساطير أبناء الحضارات العراقية القديمة وترتبط في ذاكرتهم في يومين.

 اليوم لأول ذكرى ممات تموز والأخر يوم يبعث حيا من جديد. تموز حسب تلك الأساطير راعي عشقته عشتار، ولكن سعادتهم كانت قصيرة. فبعد ان مات تموز مقتولا غابت عشتار عن سطح الأرض ونزلت الى الجحيم السفلي، غاب الحب وانقرض الحياة على ثرى الرافدين. وحينما عادت مع زوجها تموز الى الأرض مرة أخرى، عادت الحياة الى ارض الرافدين. تموز نجده كذلك في تراث أهلنا من الايزيديين الكورد كذلك.

الفاتح من تموز يوم مشهود في تاريخ أبناء الشعب العراقي بجميع قومياته وعقائده الدينية المختلفة. إذ ان هناك الملايين من العراقيين والعراقيات يحتفلون في هذا اليوم بعيد ميلادهم الافتراضي. سأحاول في مادتي هذه سرد تاريخا مختصرا من تاريخ صفحات دولة العراق الحديث وما جرى من حوادث على رحاها في تلك الفترة. طبعا هذا تاريخ ميلاد وهمي وافتراضي لميلاد الأفراد في العراق.  تم تسجيل نفوسهم ولأول مرة رسميا في تعداد السكاني لعام 1957. كان من نتائجها الاستقرار الاجتماعي وهذا التعداد السكاني يعتبر الأقرب الى الواقع من حيث النتائج ومن افضل واكمل التعدادات السكانية التي اجري في العراق. الا ان هناك انتقادات موجهه لهذا التعداد من حيث اعتبار اللغة المحكية في البيت أساسا لقومية الفرد. ذلك ما أدى الى نتائج غير واقعية بالنسبة للانتماء القومي لأبناء العراق. كان حصر الشعب العراقي في فقط قوميتين ادى الى الغبن بحق القوميات الأخرى في البلاد.

كنت قد كتبت حول الألقاب وعدم وجود اي ارتباط بين اللقب والانتماء القومي. الجدير بالذكر انه بلغ عدد سكان العراق بموجب هذا التعداد تقريبا ستة ملاين والنصف نسمة اما الإن فيعتقد ان نفوس العراق تعدى   35 مليون نسمة ولا يوجد اي تعداد سكاني لتوزيع القوميات. كانت المادة 140 من الدستور العراقي التي لم تتم تطبيقيها للمرور الزمني ينص على إجراء تعداد سكاني لتعين التوزيع القومي في إقليم كوردستان. والمناطق التي لم يتم البت في تبعيتها للإقليم او للحكومة المركزية في بغداد.

 اعتقد جازما بان اختيار هذا اليوم اي الفاتح من تموز تم بعملية حسابية باختيار منتصف العام يوما لميلاد الملايين من العراقيين افتراضيا. كان يوم الأول من كانون الثاني (يناير) يستخدم يوما لميلاد هؤلاء ممن لم يعرف يوم ميلادهم ابان العهد الملكي خاصة مواليد القرى والأرياف. الغريب انا شخصيا لدي دفتر النفوس الملكي وطبعا يوم ميلادي في الاول من يناير وفي دفتر النفوس الجمهوري الأول من تموز (يوليو).4183 الجنسية العراقية

دفتر النفوس أصدرت في نهايات العهد الملكي وفي العهد الجمهوري الصق الشعار الجمهوري الأخضر على التاج الملكي. دفتر النفوس اخذ به كأساس لمنح الجنسية العراقية لاحقا، ولكن بشرط ان يكون الفرد من التبعية العثمانية وليس الإيرانية. كانت التبعية الإيرانية سببا مباشرا لتهجير ملايين من العراقيين منذ بدايات السبعينات مع مجيئ البعث الفاشي للحكم واستمرت بشدة وبطرق مأساوية مع الحرب العراقية الإيرانية ١٩٨٠ الى ١٩٨٨.

الحقيقة ان بين التاريخين الفاتح من كانون الثاني وشهر تموز حوادث هزت العراق جالبا الانقلابات والحروب وسيطرة المغامرين من العسكر على دفة الحكم كما جاء بالشر والعنف أحيانا وازدهرت السجون بزواره من الوطنين العراقيين من سجناء الرأي والعقيدة. كما تم تطوير أساليب التعذيب باستخدام ادوات متطورة وأساليب غير شريفة في التحقيق للوصول الى غاياتهم والحصول على اعتراف الضحية زورا.  واحيانا اخرى عاش العراقيين ولبعض الوقت الهدوء والسلام النسبي.

الدولة العراقية تأسست في اذار عام 1921 وكان قد سبقتها تأسيس الجيش في نفس السنة في 6 كانون الثاني.4184 سقوط الملكية

أما سقوط النظام الملكي في صبيحة ١٤ تموز من عام 1958 بقتل افراد من العائلة المالكة وإعلان الجمهورية فقد ومنذ ذلك اليوم الى سدة الحكم العديد من العسكر من المغامرين. لذلك تتابع الانقلابات العسكرية وسميت ب(الثورة) وتبعه نهاية الحكم الملكي بعد مرور اربع سنوات ونصف جاء انقلاب العسكري الثاتي في الثامن من شباط عام 1963 واعتلاء الفكر القومي السلبي سدة الحكم بعد قتلهم لرجال ثورة تموز 1958. آنذاك اعتلى البعث الاشتراكي على سدة الحكم في شباط 1963 لفترة قصيرة ما يسمى بفترة (المنحرفون).  ومرة اخرى تكرر عودتهم في 17 تموز والانقلاب الداخلي الذي تلاه في 30 تموز

من عام 1968. بعد ازاحة احد رجال الدولة المسالمين عن سدة الحكم واعني الرئيس المرحوم عبد الرحمن عارف الذي حكم العراق بين سنوات (1966 الى 1968).

 الذي نفي بعد الانقلاب ١٧ تموز   الى تركيا عن طريق بريطانيا وتوفى في الاردن. ثم تلى الحياة السياسية في العراق فترة اعوام من الاستقرار النسبي مع بيان 11 اذار عام 1970 الذي قدم تصورا لحل المسالة الكوردية وما يسمى بقانون الحكم الذاتي. تلك الفترة القصيرة انتهت باندلاع الحرب في كوردستان ونهايته مع توقيع اتفاقية الجزائر 1975 مع شاه ايران والتنازل عن الأراضي العراقية على طول الحدود مع ايران وأمور اخرى والتي تكون لاحقا احد أسباب اندلاع الحرب مع ايران وإلغاء الاتفاقية.  تلى ذلك أعوام 1978 الى 2003 سنوات من حروب وماسي ابتداء من حرب كوردستان ومن ثم تلاها يوم 23 ايلول 1980 حرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات وتلالها مباشرة احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية الى اليوم الذي جاء احتلال العراق في 19 اذار من عام 2003 وسقوط النظام الفاشي القومي السلبي وسقوط الدكتاتورية (لمن يريد معرفة المزيد حول دكتاتورية النظام عليه العودة الى كراس الحزب خندق واحد ام خندقان). وجاء سقوط النظام بعد 35 عاما من الحروب الداخلية في كوردستان وقصف حلبچة الشهيدة بالغاز وحملة الأنفال السيئة الصيت والمقابر الجماعية وضرب المعارضة الوطنية العراقية والحروب مع الجيران ايران واحتلال الكويت والصراع مع النظام السوري. راح ضحية تلك الحروب والصراعات الجيل القديم من مواليد الفاتح من تموز والبقية معظمهم من ضحايا الحرب من المعوقين جسديا او نفسيا وهؤلاء اللذين نجوا بأنفسهم وباتوا في غيابته المنافي. كما ادى كل ذلك الى دمار البلاد والعباد.

الشعب العراقي اليوم و بجميع أطيافه يترقب الى المستقبل بعيون ملئها الأمل لعالم جديد بعيد عن كل موروث تلك الماسي التي مر بها هذا الشعب العريق خلال قرن من الزمان منذ تأسيسها كدولة مستقلة.

دعنا جميعا نقدم احلى التبريكات لجميع العراقيين من مواليد هذا اليوم،  الأول من تموز، مبارك وسعيد، عليكم جميعا أينما كنتم.

***

  د. توفيق رفيق التونچي  - السويد

 

قضية النائبة العمالية فاطمة بايمن والتي صوتت الى جانب حزب الخضر على مشروع قرار من أجل أقامة الدولة الفلسطينية ما زالت تتفاعل داخل حزب العمال وعلى المستوى الوطني.

حزب العمال يحاول ان يمسك العصا من الوسط في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحرب الابادة على غزة والضفة الغربية علمأ ان موقف حكومة حزب العمال كان يجاري مواقف القوى الغربية التي دعمت أسرائيل وقالت بحقها الدفاع عن نفسها بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين اول (اكتوبر).

موقف حكومة العمال بدا يتبدل قليلاً عندما صوتت أستراليا في الامم المتحدة في أيار الماضي الى جانب 143 دولة من أجل منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة لتصبح الدولة 194 وقد صوت ضد القرار 9 أعضاء وامتنع 25 عن التصويت، لكن التصويت أدى إلى انقسام داخل حزب العمال، حيث أعرب نواب وأعضاء حاليون وسابقون عن غضبهم من القرار، بينما رحبت به قوى حزبية أخرى.

رغم هذا الموقف والبيان المشترك الذي وجهه رئيس الوزراء الأسترالي انتوني البانيزي ورئيس وزراء كندا ورئيس وزراء نيوزليندا في كانون اول (ديسمبر) وعبروا عن دعمهم للجهود الدولية العاجلة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة الا ان حزب العمال لم يتخذ قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية والذي تبناه سابقا مؤتمرعام سابق للحزب، لكن رئيس الوزراء انتوني البانيزي وفي مؤتمر الحزب التاسع والاربعين الذي عقد في مدينة برزبن في اواخر آب (اوغسطس) الماضي ركز جهوده على تمرير صفقة أوكس وعقد صفقة مع مؤيدي الاعتراف بدولة فلسطين على أن يعمل مستقبلا ً لإقرار الاعتراف بفلسطين.

السينتورة فاطمة بايمن قالت انها خالفت قواعد الحزب الصارمة بالتصويت الى جانب الخضربما يمليه عليه ضميرها قالت: لبرنامج (انسايدرز) على تلفزيون أي بي سي 30/6/2024 انها على أستعداد للتصويت مرة اخرى في نفس الاتجاه إذا ما طرح المشروع مجدداً امام البرلمان مضيفة ان المسالة لا تتحمل التـأجيل بسبب معاناة الشعب الفلسطيني والذي خسر عشرات آلاف الضحايا.

وانتقدت النائبة بايمن  وزيرة الخارجية بيني وونغ ضمنيًا وقالت إنها كانت تستمع إلى رغبات الحركة العمالية الأوسع بشأن فلسطين وكان لا بد من تقديم شيء ما.

تصريح بايمن دفع رئيس الوزراء بالاتفاق مع وزيرة الخارجية بيني وونغ ووزير الدفاع ريتشرد مالر الى اتخاذ قرار بوقف مشاركة بايمن في اجتماعات الحزب الى أجل غير مسمى لانها خرقت التضامن الحزبي بعد ان كان الحزب اتخذ قراراً اوليا بوقف مشاركتها لمرة واحدة في اجتماع الكتلة البرلمانية ومجلس الحزب(الكوكس).

ووصف رئيس الوزراء تصرف بايمن بأنه بلا مبرر" وأنها، من خلال تصرفها من جانب واحد، وضعت نفسها فوق المصلحة الحزبية وأعضاء كتلة الحزب البرلمانية الآخرين البالغ عددهم 103 أعضاء.

وراى الكاتب في الهيرلد جيمس ماسولا انه "إذا لم يتحرك رئيس الوزراء، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من الانقسام، وربما إلى تجرأ أعضاء البرلمان الآخرين الذين يقررون المجازفة والتحدث بشأن أي قضية سياسية".

نشير الى انه بموجب القوانين الحزبية الصارمة المعمول بها من 130 سنة  فان من يصوت ضد الحزب يطرد من الحزب بصورة آلية، خطوة بايمن الاخيرة هي الاولى من نوعها منذ عام 2005. وفي وقت سابق كانت بايمن قد تلقت تحذيراً من رئيس الوزراء عندما هتفت في البرلمان بشعار "من البحر الى النهر فلسطين حرة" والتي يعتبرها رئيس الوزراء غير مناسبة وهناك ضغوط من اللوبي المؤيد لاسرائيل لمنع استعمال هذا الشعار على اعتبار انه معادي للسامية. 

والان، السؤال الذي يطرح نفسه  بعد قرار حزب العمال بوقف نشاط النائبة بايمن هل ستنتهي مشاكل حزب العمال؟!

 سيواجه الحزب عدة ردات فعل ومشاكل حزبية وعلى المستوى الشعبي حيث يخشى الحزب على التماسك الاجتماعي في البلاد بسبب الحرب الأسرائلية على غزة والضفة وهذا ما يردده دائماً رئيس الحكومة ووزرائها.

 حزبياً العمال بحاجة الى صوت النائبة بايمن في مجلس الشيوخ لتمرير مشاريع القوانين لانهم لا يملكون الاكثرية في المجلس مما سيضطرهم لعقد صفقات مع الاحزاب الصغيرة والنواب المستقلين لتمرير مشاريع القوانين الحكومية والتي ستكون لها كلفة سياسية ومالية.

أما على المستوى الشعبي فإن قرار حزب العمال قد يكون له تداعيات مهمة، حيث سيفسر هذا الموقف بانه انحياز الى جانب الموقف الاسرائيلي على حساب الفلسطينين، مما سيؤثر على طريقة تصويت الجالية الاسلامية الاسترالية في الانتخابات الفيدرالية القادمة (سيكون آخر موعد لإجرائها أيار عام 2025 ) حيث توجد عدة مقاعد في كل من ملبورن وسدني (6 مقاعد) يلعب الصوت المسلم فيها دوراً مهماً للفوز بها، مع العلم ان الحكومة تحكم باكثرية صوتين فقط في مجلس النواب من أصل 151 مقعداً والتي سوف تخفض الى 150 مقعدا بعد التقسيمات الجديدة للمناطق الانتخابية التي قامت بها مفوضية الانتخابات الاسترالية.

أخيرا، من هنا وحتى موعد الانتخابات، هل سيقدم حزب العمال ويعمل الى اتخاذ إجراءات للحد من التداعيات السياسية والاجتماعية التي يتخوف منها، ويرسم خطة وطنية تستوعب التنوع الحزبي والمجتمعي، بعيداً عن شعارات التعددية الثقافية التي افرغت من مضمونها، ويقرن القول بالفعل في ما خص الاعتراف بالدولة الفلسطينية والعمل على وقف اطلاق نار شامل في غزة وليس كما يردد وقف اطلاق نار انساني؟

***

عباس علي مراد

 

عندما ترى شارعاً باسم «خالد بن يزيد»، ليس غير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سُفيان (ت: 85- 90 هجرية). يوجد خوالد، وباسم الأب نفسه، في معاجم الرّجال، لكن لا يذهب الذَّهن إلا إلى الأمويّ. يختلف الموقف مِن المسمى به شارع في إحدى العواصم، مَن يراه ابن يزيد، وتحضر في ذهنه قصة كربلاء (61 هجرية)، مع أنَّ خالداً لم يدركها، فيحتج غاضباً، وإن عرف ما عرفه عن دور ابن يزيد في العِلم والتّرجمة، لأنَّ الأمر يتعلق بالمسميات لا بالذَّوات، ومَن يراه مستحقاً إطلاق اسمه على شارع كونه أميراً أمويَّاً، وبذلك ضاع خالد العالم والأديب، بين الموقفين، فالطَّرفان يهمهما الاسم، وعليه ينسجان الموقف والرَّأي. قبل الإشارة إلى ما يتعلق بخالد، مِن علويَّة وأمويَّة، وكيف تصالح الأحفاد، وصاروا أنساباً وأصهاراً، دعونا نرى مَن هو خالد؟ كتب الجاحظ (ت: 255 هجرية): «كان خطيباً، شاعراً فصيحاً، حازماً ذا رأي، وهو أول من تُرجمت له كتب الطِّب والنُّجوم، وكتب الكيمياء» (البيان والتّبيين).

وأضاف أبو الفرج النَّديم (ت: 380 هجرية): «قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصَّنعة (الكيمياء)، فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعتُ في الخلافة فاختزلت دوني، فلم أجد منها عوضاً إلا أن أبلغ آخر هذه الصِّناعة، فلا أحوج أحداً، عرفني يوماً أو عرفته، إلى أن يقف بباب سلطان رغبةً أو رهبةً» (الفهرست).

هذا، ورأى النّديم نحو خمسمائة ورقة له، منها كتاب الحرارات، والصَّحيفة الكبير، والصَّحيفة الصَّغير، ووصيته إلى ابنه في الصَّنعة (نفسه). تزوج خالد بن يزيد أمَّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، مِن زوجته ابنة عمه زينب بنت علي بن أبي طالب (الدار قُطنيّ، الأخوة والأخوات. المجلسي، بحار الأنوار)، أي كان الحُسين بن علي (قُتل: 61 هجرية) خالها. وكان عبد الله بن جعفر صديقاً لمعاوية بن أبي سُفيان (ت: 60 هجرية)، وقد بُشر بولادة ولدٍ له، مِن أم ولدٍ (جارية)، وكان عند معاوية بالشَّام، فأسماه «معاوية» (المسعوديّ، مروج الذَّهب والمرزباني، معجم الشّعراء).

كان معاوية المذكور شاعراً، وصديقاً ليزيد بن معاوية (ت: 64 هجرية)، وهو القائل فيه: «إذا مَذق الإخوان بالغيب ودَّهم/ فسيِّد إخوان الصَّفاءِ يزيد» (المرزباني). بعدها صار لخالد حفيد أسموه عليّاً، وكنيته أبو الحسن وأبو العُميطر، وهو عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فوالد عليّ (عبد الله)، تزوج حفيدة العباس بن علي بن أبي طالب، نفيسة بنت عبيد الله بن العباس.

كان عليّ، العلويّ الخؤولة والأمويّ العمومة، يُردد: «أنا بن شيخي صفين» (المرزويّ، الفتن. ابن عساكر، تاريخ دمشق)، يقصد عليّا ومعاوية. ثار عليّ الأمويّ على العباسيين، وبويع بدمشق (195هجرية)، ثم غُلب وهرب (ت: نحو 200 هجرية). ظهر في كُتب عن المهدي المنتظر أنه «السّفياني» (كتاب الفتن). تداخل وتخالط الأبناء والأحفاد بمصاهرات وقرابات، بينما تُنصب اليوم الحرابات بالنزاعات الغابرة. على ما يبدو أنَّ الأولين لم تُغيَّب عقولهم، كي يؤبِّدوا العداوات، فكم كان آل الزُبير أعداءً للأمويين، لكنَّ العشق قرّب بين رملة بنت الزُّبير وخالد بن يزيد، وهو القائل: «تجُول خلاخِيلُ النِّسَاء ولا أرَى/ لِرَمْلَة خَلْخَالاً يَجُول ولا قُلْبَا» (الأصفهاني، الأغاني). أقول: ألم يجتمع علويون وأمويون في تلك الزَّواجات، وتبادلوا الوفودَ لإتمام الخطبة مثلاً؟ ألم يجتمع الأحفاد، في مجالس أسرهم في تلك المناسبات؟

مجرد تساؤل لا غير. يغلب على الظَّن أنَّ الأولين سيعتبرون ما يحصل اليوم هذياناً، عند المقابلة بين أمسهم ويومنا. أكتب لعجَبٍ عُجَاب، أن يكون عليّ أموياً ومعاوية حفيداً لأبي طالب؟! والحروب التي نحسُ بأوارها تجري بالأسماء، هذا، والعجز لأبي تمام (ت: 231 هجرية): «عجائبُ حَتَّى لَيْسَ فِيهَا عجائبُ» (الثَّعالبيّ، يتيمة الدَّهر).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كتب: ايلان بابيه

ترجمة: علي حمدان

***

يمكن تشبيه هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول بالزلزال الذي ضرب مبنى قديما. الشقوق كانت بدأت بالفعل تظهر لكنها الان اكثر وضوحا. بعد مرور اكثر من 120 عاما علي بدايته، هل يمكن ان يواجه المشروع الصهيوني في فلسطين، فكرة فرض دولة يهودية على ارض دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية، احتمال الانهيار؟ تاريخيا، هناك عدد كبير من العوامل التي يمكن ان تتسبب في انهيار دولة ما: يمكن ان ينجم عن الهجوم المستمر من قبل الدول المجاورة او عن حرب أهلية مزمنة، ويمكن ان يتبع انهيار المؤسسات العامة، والتي أصبحت غير قادرة على تقديم الخدمات للمواطنين. غالبا ما تبدأ كعملية تفكك بطيئة تكتسب زخما ثم، بعد  فترة قصيرة من الزمن، تنهار الهياكل التي كانت ذات يوم صلبة وثابتة.

الصعوبة تكمن في رصد هذه المؤشرات مبكرا، هنا، سأجادل بان هذه المؤشرات أوضح من أي وقت مضى في حالة إسرائيل. نحن نشهد عملية تاريخيّة- أو بدقة اكبر، بدايات من المرجح ان تنتهي بسقوط الصهيونية. وإذا كان تشخيصي صحيحا، فإننا ايضاً ندخل منعطفا خطرا بشكل خاص، فبمجرد ان تدرك إسرائيل حجم الأزمة، ستمارس عنفا غير مقيد لمحاولة احتوائها، كما فعل النظام العنصري الجنوب أفريقي خلال أيامه الأخيرة.

المؤشر الأول هو انقسام المجتمع اليهودي الإسرائيلي. وحاليا يتكون من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة. وينبع هذا الصدع من التناقضات التي تشوب تعريف اليهودية باعتبارها قومية. وفي حين ان الهوية اليهودية في إسرائيل بدت في بعض الأحيان ليست اكثر من  مجرد موضوع للنقاش النظري بين الفصائل الدينية والعلمانية، فقد أصبحت الان مادة للصراع حول طبيعة المجال العام والدولة نفسها. يخاض هذا الصراع  ليس في وسائل الاعلام فحسب، بل في الشوارع أيضا.

احد المعسكرين يمكن تسميته ب" دولة إسرائيل"، وهو يضم اليهود العلمانيين والليبراليين على الاغلب، ولكن ليس حصرا على اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة واحفادهم، الذين كان لهم دور فعال في تأسيس الدولة في عام 1948 وتمتعوا بالهيمنة علي الدولة حتى نهاية القرن الماضي. ويجب ان لا نخطيء في ان دفاعهم عن "القيم الديمقراطية الليبرالية " لا يؤثر على التزامهم بنظام الفصل العنصري الذي فرض، بطرق مختلفة، على جميع الفلسطينيين، الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الابيض المتوسط. رغبتهم الأساسية ان يعيش المواطنون اليهود في دولة ديمقراطية، مجتمع تعددي يستبعد منه العرب.

المعسكر الاخر هو" دولة يهودا"، والذي نشأ بين المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، يحظى بمستويات متزايدة من الدعم داخل البلاد ويشكل القاعدة الانتخابية التي ضمنت انتصار نتنياهو في انتخابات نوفمبر 2022. تأثيره في الطبقات العليا من الجيش الإسرائيلي والخدمات الأمنية يتزايد بشكل مضاعف. ترغب دولة يهودا في ان تصبح إسرائيل نظاما دينيا يمتد على كامل فلسطين التاريخية. من اجل تحقيق هذا، فهي مصممة على تقليل عدد الفلسطينيين الى ادنى حد ممكن، وهي تفكر في بناء هيكل ثالث مكان المسجد الأقصى، يعتقد أعضاء هذا المعسكر ان بإمكانهم من تجديد العصر الذهبي للمالك الكتاب المقدس. بالنسبة لهم، فان اليهود العلمانيين هم بدرجة ما مهرطقين كالفلسطينيين اذا رفضوا المشاركة في هذا المسعى.

كان المعسكران قد بدأ في التصادم بعنف قبل أسابيع من أكتوبر. خلال الأسابيع الأولى بعد الهجوم، بدا انهما يضعان خلافاتهم جانبا امام عدو مشترك. ولكن هذا كان وهما. ان القتال في الشوارع قد عاد، ومن الصعب رؤية ما يمكن ان يجلب المصالحة. النتيجة الأكثر احتمالا بالفعل تتكشف امام اعيننا. اكثر من نصف مليون إسرائيلي، يمثلون دولة إسرائيل قد غادروا البلد منذ أكتوبر، مما يشير الي ان البلاد تغرق في دولة يهودا. هذا مشروع سياسي لن يتحمله العالم العربي، وربما حتى العالم بشكل عام على المدى الطويل.

المؤشر الثاني هو ازمة اقتصاد إسرائيل. لا يبدو ان الطبقة السياسية لديها أي خطة لتحقيق توازن في المالية العامة وسط الصراعات المسلحة المستمرة،  بل تعتمد بشكل متزايد على المساعدات المالية الامريكية. في الربع الأخير من العام الماضي، انخفض الاقتصاد بما يقرب من 20 ٪ ؛ ومنذ ذلك الحين كان الانتعاش الاقتصادي هشا. الوعد الأمريكي ب 14 مليار دولار من غير المرجح ان يغير من هذا الوضع. بل ان  العبء الاقتصادي سيزداد سوء ا اذا قامت إسرائيل بتنفيذ نيتها للدخول في حرب مع حزب الله وزيادة النشاط العسكري في الضفة الغربية، في وقت بدأت فيه بعض البلدان – بما في ذلك تركيا وكولومبيا- بفرض عقوبات اقتصادية.

تتفاقم الازمة بسبب عدم كفاءة وزير المالية بيتساليل سموتريتش، الذي يقوم باستمرار بتوجيه الأموال الى المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ولكن يبدو عاجزا خلاف ذلك عن إدارة وزارته.  ان الصراع بين دولة إسرائيل ودولة يهودا، جنب الى جنب مع احداث السابع من أكتوبر، يؤدي الى نقل  رؤوس الأموال الى خارج البلد من قبل النخب الاقتصادية. الذين يفكرون في نقل استثماراتهم يشكلون جزءا هاما من20 ٪ من الاسرائيليين الذين يدفعون 80 ٪ من الضرائب.

المؤشر الثالث هو تزايد عزلة إسرائيل دوليا. حيث تصبح تدريجيا دولة منبوذة. ان هذه العملية بدأت قبل السابع من أكتوبر ولكن الامر تفاقم منذ بدء عمليات الإبادة. تمثل ذلك في المواقف الغير مسبوقة التي اعتمدتها المحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. في السابق، كانت حركة التضامن العالمية مع فلسطين  قادرة على تحفيز الناس على المشاركة في مبادرات المقاطعة، ومع ذلك فشلت في تعزيز احتمال فرض عقوبات دولية. في معظم البلدان، بقى الدعم لإسرائيل قويا من قبل المؤسسات السياسية والاقتصادية.

في هذا السياق، يجب ان ننظر الى قرارات المحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية الأخيرة- التي تقول  ان إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وانه يجب عليها وقف هجومها على رفح، وانه يجب اعتقال قادتها بتهم جرائم حرب- كمحاولة  للاستجابة الى اراء المجتمع المدني العالمي، بدلا من مجرد انعكاس لاراء النخب. لم تخفف المحاكم من الهجمات الوحشية على شعب غزة والضفة الغربية، ولكنها ساهمت في زيادة الانتقادات الموجة الى الدولة الإسرائيلية، والتي تأتى بشكل متزايد من كل الاتجاهات.

المؤشر الرابع المرتبط هو التغيير الجذري بين اليهود الشباب في جميع انحاء العالم. بعد الاحداث التي وقعت خلال الأشهر التسعة الماضية، يبدو ان العديد منهم الان مستعدين للتخلي عن ارتباطهم بإسرائيل والصهيونية والمشاركة بنشاط في حركة تضامن مع الفلسطينيين. كانت المجتمعات اليهودية، خاصة في الولايات المتحدة، في وقت ما توفر لإسرائيل حصانة فعالة ضد الانتقادات، فقدان هذا الدعم، او على الأقل الخسارة الجزئية، له تأثيرات كبيرة على مكانة البلد عالميا. لا يزال بإمكان "ايبك" الاعتماد على الصهاينة المسيحيين لتقديم المساعدة والدعم، لكنها لن تكون نفس المنظمة القوية بدون شريحة يهودية كبيرة، ان قوة اللوبي بدأت بالتأكل.

المؤشر الخامس هو ضعف الجيش الإسرائيلي. لاشك ان الجيش الإسرائيلي يظل قوة قوية بأسلحة متطورة في تصرفه. ومع ذلك، تم الكشف عن محدودية قوته في 7 أكتوبر. يشعر العديد من الإسرائيليين ان الجيش كان محظوظا للغاية، حيث كان يمكن ان تكون الحالة أسوأ بكثير لو انضم حزب الله الى هجوم تنسيقي في السابع من أكتوبر. منذ ذلك الحين، اظهرت إسرائيل انها تعتمد بشدة على تحالف إقليمي، تقوده الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها ضد ايران، الذي شهد هجومها التحذيري في ابريل استخدام نحو 170 درون بالإضافة الى الصواريخ الباليستية والموجهة. اكثر من أي وقت مضى، يعتمد المشروع الصهيوني على الاستعانة السريعة بكميات هائلة من الامدادات من الأمريكيين، دونها لا يمكنه حتى مقارعة جيش صغير من المحاربين غير النظاميين في الجنوب.

هناك الان اعتقاد واسع الانتشار في عدم جاهزية إسرائيل وعجزها عن الدفاع عن نفسها بين السكان اليهود في البلد. أدى ذلك الى ضغط كبير لإلغاء الاعفاء العسكري لليهود الأرثوذكس- الذي كان قائما منذ عام 1948وبدء تجنيدهم بألالاف. هذا نادرا ما سيحدث فرقا كبيرا على الساحة العسكرية، ولكنه يعكس مدى التشاؤم حول الجيش - الذي بدوره عمق الانقسامات السياسية داخل إسرائيل.

المؤشر النهائي هو تجدد الطاقة النضالية بين الجيل الشاب من الفلسطينيين. انهم اكثر توحدا وترابطا عضويا ووضوحا من النخبة السياسية الفلسطينية. نظرا لان سكان غزة والضفة الغربية من بين الاصغر عمرا من سكان العالم. ان هذه الشريحة الجديدة ستمتلك تأثيرا هائلا على مسار النضال التحرري. تظهر المناقشات التي تجرى بين الشباب الفلسطيني انهم مشغولون بإنشاء منظمة ديمقراطية حقيقية – اما ان يتم تجديد منظمة التحرير الفلسطينية او انشاء منظمة جديدة ستسعى وراء رؤية تحررية تتناقض مع حملة السلطة الفلسطينية للحصول على الاعتراف كدولة. يبدو انهم يفضلون حلا  لدولة واحدة بدلا من نموذج الدولتين الذي فقد مصداقيته.

هل سيكونون قادرين على تقديم استجابة فعالة لانحسار الصهيونية؟ هذا سؤال صعب الإجابة عليه. فانهيار مشروع دولة لا يتبعه دائما بديل اكثر اشراقا. في مناطق أخرى في الشرق الأوسط – في سوريا واليمن وليبيا- راينا كيف يمكن ان تكون النتائج دموية ومديدة. في هذه الحالة، سيتعين تحقيق عملية التخلص من الاستعمار، وقد اظهر القرن السابق ان واقع ما بعد الاستعمار لا يكون احسن من الوضع الاستعماري. فقط وضع الفلسطينيين  يمكن ان يقودنا في الاتجاه الصحيح. اعتقد انه عاجلا او اجلا، سيؤدي الاندماج المتفجر لهذه المؤشرات الى انهيار المشروع الصهيوني في فلسطين. عندما يحدث ذلك، يجب ان نأمل ان تكون هناك حركة تحرير قوية لتملأ الفراغ.

لأكثر من 56 عاما. كان ما سمي ب "عملية السلام " والتي لم تؤدي الى نتيجة- في الواقع سلسلة من المبادرات الامريكية الإسرائيلية التي طلب من الفلسطينيين الرد عليها، اليوم، يجب ان يحل "السلام " محله بالتخلص من الاستعمار، ويجب على الفلسطينيين ان يكونوا قادرين على صياغة رؤيتهم للمنطقة، مع الطلب من الاسرائيليين الرد عليها. سيمثل هذا المرة الأولى، على الأقل لعدة عقود، التي ستتخذ فيها حركة الفلسطينيين زمام الأمور  بوضوح وتقديم اقتراحاتها لفلسطين ما بعد الاستعمار وما بعد الصهيونية( واي كان المسمى للكيان الجديد). في القيام بذلك، من المحتمل ان ننظر الى أوروبا( ربما كانتونات سويسرا والنموذج البلجيكي). او، بشكل اكثر ملاءمة الى الهياكل القديمة لشرق البحر الابيض المتوسط، حيث تحولت الجماعات الدينية المعيارية تدريجيا الى جماعات عرقية ثقافية عاشت جنبا الى جنب على نفس الأرض.

سواء رحب الناس بالفكرة ام انها تثير الرهبة، اصبح انهيار إسرائيل قابلا للتنبؤ  به. هذه الاحتمالية يجب ان تجعلنا ان نفكر في مستقبل المنطقة. سوف يتم اجباريا وضع هذه المسالة على جدول اعمال الناس، حين يدركوا ان المحاولة التي دامت قرنا كاملا، بقيادة بريطانيا ومن ثم الولايات، لفرض دولة يهودية على بلد عربي تقترب ببطء من نهايتها. لقد حققت نجاحا كافيا لأنشاء مجتمع من ملايين المستوطنين، والعديد منهم الان من الجيل الثاني والثالث، ومع ذلك لا يزالوا  يعتمدوا في وجودهم، كما كان عند وصولهم، على قدرتهم في فرض ارادتهم بعنف علي ملايين من الشعب الأصلي، الذين لم يتخلوا ابدا عن كفاحهم من اجل تقرير مصيرهم والحرية في وطنهم. في العقود القادمة، سيتعين على المستوطنين التخلي عن هذا النهج وإظهار استعدادهم للعيش كمواطنين متساويين في فلسطين محررة ومتخلصة من الاستعمار.

نيولفت ريفيو 21 يونيو/ حزيران 2024.

هذه مقدمة قصيرة لمقالة مطولة بعض الشيء أعكف على كتابتها وسوف أنشرها مستقبلا. وأشير إلى أنني لم أشأ الإشارة إلى ذلك الشخص الذي ينشر باسم (Said Mohammad) لو لا أنه ذكرني بالاسم وصور أحد منشوراتي وعلق عليه بأسلوب استفزازي وغبي في آن واحد. فهو لم يفهم المقصود من المنشور الذي كنت أنتقد فيه أولئك الذين أغفلوا ذكر فلسطين وحرب الإبادة التي يشنها العدو حين أتوا على ذكر الخبر الكاذب عن وفاة تشومسكي وقفزوا على تصريحات زوجته الذي ذكرت فيها أن زوجها يتابع المجزرة الصهيونية رغم مرضه وإنه حينما يسمع أو يشاهد الفظاعات المرتكبة يرفع ذراعه اليسرى احتجاجا وغضبا. بمعنى أنني لم أدافع عن موقف تشومسكي من حل الدولتين ولم أتبنَ موقفه هذا ولم أتطرق له أساسا، لقد انتقدت هؤلاء وتساءلت في المنشور "ولكن كيف يجرؤ مَن لم يذكر فلسطين وشعبها بكلمة طوال أشهر المحرقة التسعة، أن يذكر ما قاله وفعله تشومسكي من أجلها؟ يبدو أن البعض يتعامل مع تشومسكي من أجل الكشخة "والبرستيج" ويقدمه كحداثوي ليبرالي "نص ردن" كان يشرب قهوة مع سفراء الاحتلال الأميركي أو الصهيوني"! ويبدو أن هذه الكلمات هي التي أفقدت هذا الشخص صوابه فراح يشتم ويشنع ويصف تشومسكي بأنه أحد "العجول الذهبية التي تخلقها الماكينة الإعلامية للمخابرات الأمريكية ليعبدها القطيع".

لم يشفع لنعوم تشومسكي موقفه الحازم من الكيان الصهيو ني والحكومات الصهيو نية المتوالية ولا اتهامه باطلا بمعاداة السامية التي صارت تعني حرفيا "معاداة الصهيو نية ودولتها العنصرية" ومنعه من دخول إسرا ئيل والضفة الفلسط ينية الغربية في العقود الأخيرة لدى بعض المؤدلَجين والباحثين عن عدو تحت السرير أو بين السطور والمبالغين في قراءة أخطاء الخصم أو الصديق إلى درجة التشكيك والاتهام بالخيانة، واعتباره واحدا من "العجول الذهبية التي تخلقها الماكينة الإعلامية للمخابرات الأمريكية ليعبدها القطيع" كما كتب أحد المؤدلَجين ممن يختبئون خلف صورة ماركس إلى درجة أنه شوَّه اسم الرجل من نعوم إلى "هذا الناحوم"! فحتى لو افترضنا أن تشومسكي أخطأ بتبنيه حل الدولتين - الذي تتبناه منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كما توصف، وغالبية منظمات المقاومة الفلسطينية ومنها حماس (التي قال نائب رئيسها خليل الحية في تصريح له قبل أسابيع - سنتخلى عن سلاحنا إذا طبق حل الدولتين) باعتباره مرحلة أولى نحو تحرير فلسطين كاملة - حتى إذا افترضنا ذلك وهو افتراض صحيح عندي، فهل يوجب ذلك هذا التشنيع والحقد على من تعتبره وسائل الإعلام الصهيونية والغربية المعادية عدوها الأول أم أن وراء الأكمة ما وراءها وأنه عداء مشبوه ومخطط له من جهات معادية؟.

 كما اتهمه شخص آخر أكثر اعتدالا ونزاهة ولكنه مخطئ في معلوماته، "بأنه -تشومسكي - لم يفكر قط بزيارة قطاع غزة بعد أن منعته الحكومة الصهيونية من دخول الضفة الغربية". والحقيقة، فهذه المعلومة خاطئة تماما. فحين منعه الاحتلال من دخول الضفة الغربية زار تشومسكي غزة سنة 2012 على رأس وفد يضم عشرة مفكرين غربيين، للمشاركة في مؤتمر علمي حول اللغويات والأدب تنظمه الجامعة الإسلامية في غزة. بل واعتبر تشومسكي نفسه من "أهل الدار" فانتقد استمرار الانقسام الفلسطيني والصدع الشديد بين حركتي فتح وحماس، واعتبر أن استمرار الانقسام يعود بفائدة كبيرة على الدول الغربية ومصالحها، ودعا للتخلص منه لتجاوز هذه الأزمة وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح". وهناك تقرير مفصل عن زيارته تلك نجده في أرشيف غوغل تحت عنوان " تشومسكي يحاضر بغزة رغم الحصار"!.

غير أن إنصاف تشومسكي يختلف عن تصنيمه ورفض النظر إلى تراثه بنقدية، فهو لا يحتاج إلى كبير جهد لإنصافه لأنه معروف عالميا بمواقفه النقدية والتضامنية في عشرات القضايا العالمية ومنها القضية الفلسطينية والمناهضة للإرهاب الإمبريالي الأميركي وضد الكيان الصهيوني وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني. ولكنه يبقى بشرا يرتكب الأخطاء إلى جانب الصواب أحياناً وليس ملاكاً معصوماً من الخطأ. لقد عبر تشومسكي نفسه عن نقده لنفسه وندمه الصريح من بعض مواقفه حتى أنه اتهم نفسه بـ "مهادنة" الكيان الصهيوني في فترة مبكرة من حياته حيث قال قبل سنوات قليلة في لقاء منشور معه "إنه بدأ بمعارضة الحرب في فيتنام في بدايات الستينيات ولكن كان عليه أن يبدأ قبلها بسنوات، حين بدأت الولايات المتحدة تساند فرنسا في إعادة احتلال فيتنام. وبخصوص فلسطين، ذكر أنه لم يبدأ بانتقاد "سياسات إسرائيل الإجرامية" إلا في 1969 وأضاف "وكان يجب أن أبدأ قبل ذلك بكثير، شهدت بنفسي ذلك في 1953 حين زرت إسرائيل، كنت أعرف القليل من العربية مما يكفي لفهم الحوارات. كما رأيت القمع وكيف يهين الأشكنازُ اليهودَ المغاربةَ. كان يجب أن أتحدث عن كل ذلك. لكنني لم أبدأ إلا بعد 1967 وبعد أن بدأت سياسات إسرائيل التوسعيّة الاستيطانية في الأراضي المحتلة والتي قادت إلى كل ما يحدث، كنت مهادناً أكثر من اللازم في نقدي وتأخرت كثيراً/ اقتبسه الروائي العراقي سنان إنطون - 21 حزيران يونيو 2024".

ولكن بم يتعلق النقد الذي يوجه لتشومسكي من يساره تحديدا؟ في الأسطر التالية سأناقش مثالا على هذا النقد في مقالة شهيرة لنوح كوهين (الناشط اليساري في لجنة نيو إنجلاند للدفاع عن فلسطين في بوسطن - ماساتشوستس) نشرها سنة 2004 في مدونة (ifamericansknew) ويعتبرها البعض مرجعا لنقد تشومسكي رغم قِدمها النسبي. وسأعود إلى نص المقابلة مع تشومسكي التي اعتمدها كوهين وليس لما اقتبسه كوهين بطريقته الخاصة وسأعتمد ترجمتي الشخصية وهي ليست ترجمة احترافية للمقالة والمقابلة.

***

علاء االلامي

حشد التّيار الصّدريَّ، الممثل بمقتدى محمد محمد صادق الصّدر، ليكون (18 ذو الحجة) عيداً رسمياً بدأ مِن هذا العام (1445هـ)، تحت عنوان "عيد الغدير"، ومثلما هو معروف القرارات التي تؤخذ في البرلمان العراقيّ، تؤخذ وفقاً لمصلحة المحاصصة، فصوت الأعضاء الأكراد، ولم يعترضوا على اعتبار الغدير عطلة رسمية، للعراق كافة، مقابل اعتبار مناسبة الأنفال عطلة رسمية وهكذا، لا أحد يعنيه العراق، وهنا لا نبحث بصحة أو عدم صحة أن يكون تاريخ (18 من ذي الحّجة)، تتويجاً إلهياً للإمام والخليفة الرَّابع الرَّاشدي علي بن أبي طالب(اغتيل: 40هـ)، إنما نبحث في موقف فقهاء الشّيعة، في هذه الولاية، واعتبارها فقرة من فقرات الأذان أم لا؟

مِن المعلوم، ليس هناك خلاف بين المسلمين كافة على الوحدانية، ويعبر عنها في الأذان بـ"أشهد أنَّ لا إله إلا الله"، ولا اختلاف بينهم في الرسالة، ويعبر عنها بـ"أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، لكن الخلاف وقع على "الولاية"، والتي عُرفت بالشّهادة الثّالثة، ورفعها في الأذان بعبارة "أشهد أنَّ علياً ولي الله".

 لا يقرها السّنَّة على مختلف مذاهبهم، كذلك فرق شيعيَّة، مِن غير الإماميَّة الاثني عشريَّة، كالزَّيدية مثلاً، لا يقرون بها، كولاية سياسية، أو تتويجاً إلهيّاً، ويعتبرون علياً أحد أعاظم الصّحابة، ويقرون بولايته عندما تسلم الخلافة بما قُرُّ بالحل والعقد، لكن عدم اعتبار الشّهادة الثّالثة (إنَّ علياً ولي الله) في الأذان الإماميّ الاثني عشري، ناهيك عن الزّيدية وتفرعات التشيع الأُخر، يؤكد هناك اختلاف على الإمامة نفسها، لذا ففقهاء الاثني عشرية أنفسهم تجنبوا ما أدخله "الغلاة" على التشيع، وبثوه في الأذان، ومعلوم أنَّ الغلاة يعدون في الرسائل الفقهيّة الشّيعيّة  الاثني عشريةكفاراً أنجاساً، شأنهم شأنه شأن "النَّواصب"، الذي ينصبون العداء بالقذف والسّب لعلي وبنيه.

خلو الأذان مِن الولاية

ألتفت فقهاء شيعة، مِن الذين كانوا يقرون بولاية الفقيه، ثم حادوا عنها، وتخلوا عن جعل الأئمة فوق البشر، وإنما أخذوا بمن سبقهم من القدماء واعتبروهم مجرد "علماء أبرار"، وليسوا مثلما يقدمون في الأدب الشّيعيّ اليوم بالمعصومين، وبنواب الله، ومنها ظهرت ولاية الفقيه أو نيابته. بينهم مَن تعرض إلى المحاكمة والاعتقال، لأن تشكيكهم هذا يؤدي إلى رفض ولاية الفقيه، المفروضة دستوريَّاً بالجمهورية الإسلاميَّة الإيرانيَّة، منهم الفقيه محسن كديور، وقد جاء في كتابه "القراءة المنسية إعادة قراءة نظرية: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار"، اعتبر فيه أن الإمامة بما هو معروف اليوم مِن تراث الغلاة، وليس التشيع الأصيل. 

قال متسائلاً: "هل كان تلقي الشّيعة في العصور المختلفة لأصل الإمامة، وفهمهم له، هو ذات تلقي الشّيعة الإماميَّة اليوم لهذا الأصل، وفهمهم له؟ أم أنَّ المفهوم"الإمامة" قد تطوَّر عبر الزَّمن، وشهد تحوُّلاً وتبدلاً في العصور، التي تلت ظهوره لا سيما في القرون الخمسة الأولى"(كديور، القراءة المنسية). يُجيب الشيخ كديور بالتحول والتبدل، ولم يكن هذا في أصل التشيع. أقول: على هذا لم ترد الولاية في الأذان، إلا أن بعص الفقهاء جعلوها مستحبة مسايرة لمزاج العوام، الذي تأسس منذ العهد الصّفويّ.

يقول أبو جعفر محمَّد بن عليّ القُميّ، المعروف، عند الشّيعة الإماميَّة، بالشيخ الصّدوق(تـ: 381هـ)، ويُعد مِن أقدم وأهم راوية حديث إماميّ: فقرات الأذان: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أكبر، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الصَّلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله"(القُميّ، مَن لا يحضره الفقيه، منشورات الحوزة العلمية بقّم). 

ثم أردف موضحاً ومؤكداً: "هذا هو الأذان الصَّحيح، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوضة(من فرق الغلاة) لعنهم الله قد وضعوا أخباراً، وزادوا في الأذان محمَّد وآل محمَّد خير البرية مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أنَّ محمداً رسول الله أشهد أنَّ علياً ولي الله مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك  أشهد أنَّ علياً أمير المؤمنين حقاً  مرتين، ولا شك في أنَّ عليا ولي الله، وأنه أمير المؤمنين حقاً، وأنَّ محمداً وآله صلوات الله عليهم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذُكرت ذلك ليعرف بهذه لزيادة المتهمون بالتفويض، المدلسون أنفسهم في جملتنا"(المصدر نفسه). 

رفض ما دسه الغلاة

رفض فقهاء الشِّيعة رأي الغلاة "المفوضيَّة"، أي القائلين بتفويض الأئمة مِن الله، في ما يختص به، فقالوا: "لا جبر ولا تفويض"(الشيخ المظفر، عقائد الإماميَّة).إذا كان التوحيد ورد قطعياً في القرآن والسُّنة، وكذلك الرّسالة أو النّبوة، لم يُختلف عليها، فأمر الإمامة اُختلف بها، ليس بين المسلمين، إنما بين فرق الشّيعة المتعددة، فالزّيديّة يرونها إمامة الفقه، والإسماعيليّة حولها منهم إلى أئمتهم المستورين، لا يطلبون بهم أمراً سياسياً اليوم، إنما عقيدة داخليَّة، تخصهم، ولا تخصهم سواهم.

غير أنّ زيادة الشَّهادة الثَّالثة في الأذان التي أُضيفت رسميّاً في العهد الصَّفويّ(تيرنر، التَّشيّع والتَّحول في العصر الصَّفويّ)، كان العديد مِن الشِّيعة يرفعونها قبل هذا العهد بكثير، ولكنها لم تُحسب مِن عبادات المذهب رسمياً، إنما مِن فعل الغلاة المرفوضين مِن قبل فقهاء الشّيعة أنفسهم. مثال على ذلك: أنَّ القاضي التّنوخي (تـ: 384هـ) ينقُل التَّالي عن أبي فرج الأصفهاني (تـ: 356هـ)، قال: "سمعتُ رجلاً مِن القطعية، يؤذن: الله أكبر الله أكبر، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ علياً ولي الله"(التَّنوخي، نشوار المحاضرة). مع إضافة تكفير تقول: "محمَّد وعلي خير البشر، فمَن أبى فقد كفر، ومَن رضي فقد شكر..."(المصدر نفسه).

 هذا، والقطعيَّة ظهروا بعد وفاة موسى بن جعفر (183هـ) عندما انقسم الأتباع إلى فرقتين، واحدة وقفت عنده، أي اعتبرته المهدي ولم يمت، وسميت بالواقفة، أي وقفت عنده، وأخرى عُرفت بالقطعية، لأنها قطعت بوفاته وتولت إمامة نجله علي الرضا (تـ: 203هـ)، وعلى هذا أن امتدادها هو قسم مِن الشِّيعة الإمامية (انظر: النُّوبختي، فرق الشِّيعة، ومشكور، موسوعة الفِرق الإسلامية). نقول هذا لأنَّ الإمامية انشطرت بُعيد وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (260هـ)، وتفرعت إلى الإمامية الاثني عشرية، وإلى النَّصيرية المعروفة الآن بسورية، وجماعة تولت جعفر بن علي الهادي إماماً.

كذلك يذكر ابن بطوطة (تـ: 779هـ)، مما أدخلخ الغلاة وتلقفه العوام في الأذان، أنه زار منطقة القطيف التابعة الآن إلى الإمارة الشرقيّة بالمملكة العربيّة السُّعوديّة، وهي مدينة شيعيّة قديماً، كان يُرفع فيها الأذان مع الشَّهادة الثَّالثة. قال: "يقول مؤذنهم في أذانه بعد الشَّهادتين: أشهد أنّ عليًّا وليّ الله، ويزيد بعد الحيعلتين حيّ على خير العمل، ويزيد بعد التَّكبير الأخير: محمّد وعليّ خيرُ البشر مَن خالفهما فقد كفر"(ابن بطوطة، الرحلة). كذلك كان الزائرون للضريح العلوي بالنجف مِن طالبي الشَّفاعة بالبراءة مِن مرض، يقولون: "لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ وليّ الله"(المصدر نفسه). 

اطلعنا على كتاب خاصّ بالأذان، وهو "الأذان بين الأصالة والتَّحريف"، وقد أهداه مؤلفه إلى أوّل مؤذن وهو بلال بن رباح الحبشيّ (تـ: 20هـ)، الذي لا يرفع في الأذان "الولاية لعليّ" ولا لغيره قائلاً: "إلى مَن لا يؤذن لأحدٍ بعد رسول الله إلا للزَّهراء والحسنين"(الشهرستانيّ، الأذان بين الأصالة والتَّحريف، قم). الكتاب فيه بحث واستقصاء، وكان موضوعه إجمالاً لتأكيد الهيعلة الثَّالثة "حيَّ على خير العمل"، التي تُعتبر أساساً في أذان الشِّيعة، ومنهم الزيديّة أيضاً، ولم يتعرض لرفع الشَّهادة الثَّالثة "علياً ولي الله". 

من الطُّوسي إلى السِّيستاني

لا يقر مراجع الشّيعة كافة، مِن الأولين والمتأخرين، في رسائلهم الفقهيَّة "الشّهادة الثّالثة"، فصيغة الأذان لدى مؤسس حوزة النَّجف الشّيعية(448هـ) الشَّيخ أبو جعفر محمَّد الطوسي (تـ: 460هـ) كالآتي:" التكبير أربع مرات، والشَّهادتان مرتين مرتين، وحيَّ على الصَّلاة مرتين، وحيَّ على الفلاح مرتين، وحيَّ على خير العمل مرتين، والله أكبر مرتين، ولا إله إلا الله مرتين"(الطُّوسي، كتاب الخلاف).

 كما أن فصول الأذان ثمانية عشر نفسها  عند المرجع، الذي خلف أبي القاسم الخوئي(تـ: 1992)، آية الله أبو الأعلى السبزواريّ(تـ: 1993)، سائراً على مَن سبقه مِن فقهاء الإماميّة كافة، ليس بينها الشَّهادة بالولاية، وذكرها استحباباً، بمعنى ليست مِن فقرات الأذان(السبزواريّ، منهاج الصَّالحين). كذلك جاء الأذان عند المرجع الشِّيعي الإمامي الحالي آية الله السَّيد علي السِّيستاني، مع إشارته إلى أن الشهادة بالولاية «لم تكن جزءاً من الأذان ولا الإقامة، وكذا الصَّلاة على محمد وآل محمد عند ذكر اسمه الشَّريف»(السّيستاني، منهاج الصَّالحين). أما آية الله الخميني (تـ: 1989)- نذكره كونه مؤسس دولة إسلامية- فلا يذكر تفاصيل صيغة الأذان من الأساس، على اعتبار أنها ليس من موجبات الصَّلاة، قال: "لا إشكال في تأكد استحبابهما للصلوات الخمس"(الخميني، تحرير الوسيلة)، ويقصد الأذان كافة. 

يدل مما تقدم أنَّ علماء الشِّيعة لم يسايروا ما أدخله العهد الصَّفوي (1501-1732) على فقرات الأذان؛ التي أخذها مِن أفواه "الغلاة"، وهي الشَّهادة الثَّالثة، التي أعلنها إسماعيل الصَّفوي رسمياً عند دخوله تبريز، العام 907 هـ 1502 م (تيرنر، التَّشيع والتَّحول في العصر الصفوي)، فالذين أثبتوا الشّهادة الثّالثة في الأذان ممن تبنوا رأي الغلاة، مثل محمَّد باقر المجلسيّ(تـ: 1699)، أحد أبرز فقهاء الفترة الصّفويّة، واعتبر ما جاء به الشّيخ الصدوق هو مِن أجل التقيّة، لكن الشيخ المجلسيّ، غفل عن  أن الشيخ الصّدوق القُمي عاش وكتب "مَن لا يحضره الفقيه" في ظل السلطنة البويهيَّة، وهي التي تبنت رأي الغلاة، في الطقوس وما يتعلق بالغدير، حالها حال الفاطميين، وثبتت المناسبات المذهبيّة أعياداً ببغداد، فإذا كانت التّقية مفروضة على الشّيخ الصّدوق فالأولى به مجاملة أو مسايرة البويهيين ببغداد وفارس، والمصريين بمصر، ويقر بالشّهادة الثالثة، مِما أدخله الغلاة على المذهب، لا يلغيها.

 لا يُعد ما ورد في «بحار الأنوار»(110 مجلد) للمجلسيّ، وهو أبرز فقهاء العهد الصفوي،  مثلما تقدم، معتبراً لدى أساطين المرجعية الاثني عشرية في هذه المسألة،، وقد وردت روايته، ضمن قصة خيالية، عن الجزيرة الخضراء، وذلك عندما زار أحدهم قرية بغية الوصول إلى تلك الجزيرة، وأنه قدمَ مذهبه لهم بالشَّهادتين فقالوا له: "لم تنفعك هاتان الشَّهادتان ... لِم لا تقول: الشَّهادة الأخرى(علياً ولي الله) لتدخل الجنَّة بغير حساب"، (المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار).

ضرورة المراجعة

لابد مِن العمل على نزع أداة من أدوات الخلاف الحادة؛ وعدم ترك الغلاة يتلاعبون بالشيعة نفسها قبل غيرها، ويعملون على تسميم العلاقات الاجتماعيَّة داخل الوطن الواحد، وما تثبيت "الغدير" عيداً إلا فتنة مذهبيّة، ادخلها غلاة الأمس وعابثو اليوم، مثلما عبر عنها أحد الباحثين، الذي كان على نهج حزب الدعوة في ما مضى، بشجاعة، وعاد إلى عراقيته بقوة.

أقول: إنها ستكون فتنة أشد، ليست لجيلنا، فهو  سيذهب بأمراضه وعقده، بل لأجيال شهدت طفولتهم الذبح على الهوية، فدعوهم يوصلون  النِّداء إلى السَّماء بلا ضغائن وأحقاد، فالأمر مثلما رأيتم من صنع الرِّجال، وبدوافع يبرأ الدِّين منها.

 عموماً، يحتاج التشيع مراجعة، وتنقية مما أدخله الغلاة، وإذا كان الشّيعة الاثنا عشرية، قد تولوا السّلطة، ولهم الكلمة الفصل بإيران والعراق، فعليهم حماية الأوطان مِن التفتت، ويفرضون ما جاء في الروايات المختلف عليها، فالإمامة نفسها أمر مختلف عليه، وليس حالها حال الإلوهية والنبوة، المتفق تمام الاتفاق عليهما بين المسلمين كافة وداخل الشيعة، لا يجب أن يأخذهم الغرور، بتمثل دور المظلوميّة، وهم في السُّلطة وخارجها.

***

د. رشيد الخيّون

توطئة: وزارة البيئة العراقية تكشف (العراق يفقد سنوياً 100 ألف دونم من أراضيه الزراعية بسبب الزحف الصحراوي والتصحر) وإن 50 بالمئة من موارد المائية للعراق أنخفضت منذُ عام، وأزمة شحة المياه وظاهرة التصحرفي العراق وعموم منطقة الشرق أوسطي إنها حديثة الساعة.

فكان للأعلام الأممي دورا واضحاً ومسؤولاً بدعوتها بالأحتفاء باليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف أو يوم البيئة العالمي في 17 حزيران 2021 فقررتْ أن يكون التذكيريوم 17 حزيران من كل عام، تدعوا المنظمة الأممية إلى توحيد الجهود بالأستجابة إلى نداء كوكبنا الآزرق: {تطلب التربة منكم المساعدة !؟} وهي دعوة أنسانية لضمان السلّة الغذائية للبشرفهي حقاُ أشارة توعية بنشرثقافة " الأمن الغذائي " وضمان بقاء البشرزاهيا على كوكبه الأزرق الجميل، وسوف نحتفي سوياً عبر محاور البحث الموضح بسيمياء العنوان وبأرخنة يوم 17حزيران الجاري - - - - !؟

لقد بدأت ملامح ظهور أزمة المياه في العراق خلال الجفاف وقلّة الأمطار الى الشحة في السنوات العشرة الماضية وإلى ضعف السياسات الحكومية التي توالت مصادر القرار بعد 2003 بالمطالبة بحصة العراق المائية المثبتة بقرارات دولية مع الدول المتشاطئة مع العراق أو المشاركة مع حوض المنبع (تركيا – سوريا – أيران – العراق) أضافة إلى تغافل حكومات ما بعد 2003 عن أنشاء السدود والنواظم، وغياب الخزن الأستراتيجي للمياه في بحيرات السدود، وأزدادت المشكلة تفاقماً بالأنفجار ا لسكاني التي تجاوزت{الأربعين مليون نسمة وأزدياد الحاجة الماسة والملحة للمياه.

إن هذا البحث العلمي المتواضع يطرح ثمة تساؤلات وطنية ! حول تغافل حكومات ما بعد 2003 في عدم أنشاء أي سد أو حتى ناظم، وكذلك غياب النظر لموضوع الخزن الأستراتيجي للمياه للمستقبل القريب والبعيد زمن العطش الأكبر، وعدم تدويل ومتابعة حصة العراق المائية حسب ما رسمته المواثيق الدولية والمطالبة الشرعية بها بطريقة قانونية حوارية أواللجوء إلى العامل الأقتصادي كأضعف الأيمان مع دول الجوار المسلمين والعرب الغاصبين حق العراق في أكسير الحياة " المياه".

1- التصحرْ Desetification: هو تعرض القشرة الأرضية للتدهور في المناطق القاحلة وشبه القاحلة والجافة وشبه الرطبة، مما يؤدي إلى فقدان التربة الفوقية ثُمّ فقدان قدرة الأرض على الأنتاج الزراعي ودعم الحياة الأحيائية والبشرية، ويكاد أن يكون التصحر عالمياً في شمول ما يقارب 50 مليون كم2 والأفراد الذين يتضررون على هذا الكوكب إلى ما يقارب 200 مليون نسمة، وهو يتمدد بصمت نحو المناطق الآهلة بالسكان أي إلى حاضرة المدن بما يسمى بظاهرة الزحف الصحراوي، بل هو في أتساع مستمر في المساحة أذ تغطي الصحاري ما يقارب خمس المساحة الكلية للكرة الأرضية.

وبتوضيحٍ أكثر شمولية لمفهوم التصحر بأنهُ ظاهرة تحول مساحات واسعة من الأراضي الخصبة وذات الأنتاج الجيد ألى مساحاتٍ فقيرةٍ في بناها الأحيائي سواءً كان النباتي أوالحيواني نتيجة إلى النشاط الأنتاجي الخاطيء وألى التغيّرات المناخية السالبة والمدمرة لقوّة خصوبة التربة، فأذاً هو أتساع مساحة الصحراء وطغيانهِ على المناطق الخصبة وخفض قدرته الأنتاجية بسبب تلف جذور النباتات والأشجار من جراء السيول الجارفة وكذلك الأمطار الغزيرة.

ومنظمة الأمم المتحدة ترعى مشكلة التصحر والجفاف في العالم ضمن فعاليات منتدى (دافوس) الأقتصادي الذي عُقد مؤخراً في سويسرا في الفترة بين 23- 26 من كانون ثاني 2018 بعنوان " مؤشرْ الأداء البيئي 2018 " بالتعاون مع المنتدى الأقتصادي العالمي، والتقرير يقوم على تقييم الوضع البيئي للدول من أجل تحسين الأداء البيئي وفي تقييم السياسات المتبعة حول الصحة البيئية وحيويتها، وبالتالي يمنح التقرير تقييماً بالدرجات حول أدائها.

2- مخاطرالتصحر في العراق:

منذُ قدم التأريخ والماء يعتبر المحدد الرئيسي في العلاقات الدولية، وحافزا فعالاً في أثارة الأحتكاكات وربما الحروب لأنها مولدة السلّة الغذائية للكائنات الحيّة على هذا الكوكب وأنهُ فاق على أهمية النفط الآيل للزوال.

- الماء هو أكسير الحياة، وأن المياه على كوكبنا غير موزّع بشكلٍ عادل حينما تتقاسم 23 دولة (ثلثي) الموارد المائية، بينما يتوزع الثلث الباقي بشكلٍ غير متوازن بما تبقى من الدول، ومن سوء الطالع للعراق أنهُ متشاطيء مع ثلاث دول مسلمة وعربية (تركيا أيران سوريا) أستعملت سياسة التعطيش والأبتزاز وبأنانية مفرطة ضد العراق وتوظيفهُ سياسياً، وواجه العراق في مطلع 2018 حرباً مصيرياً في بناء السدود والخزانات العملاقة في تركيا وتحويل مجاري روافد دجلة في أيران في قطع رافد الزاب المغذي لنهر دجلة وتحويل مسار نهر الكارون وحرمان شط العرب من مياهه ولم تكتفي بذلك حيث أطلقت على أراضي البصرة مياه البزل المالحة، وسوريا ومنذ حكم السيد الوالد تحاول بشتى الطرق بحرمان العراق حتى من حصته الآتية من تركيا عبر أراضيها، على العموم بدأت مؤشرات ملامح أزمة المياه في العراق جلية في الوقت الحاضر على أثر قلّة الأمطار وضعف الأطلاقات المائية من مصادرها الرئيسية.

- أن أزمة المياه ونقصانها والتي بدت واضحة في أنحسار مياه دجلة والفرات منذ مطلع هذه السنة بالرغم من أن هناك أتفاقات أممية دولية تلزم الأطراف تطبيقها مثل أتفاقية لوزان 1923 الموقعة بين الحلفاء وتركيا أكدت في مادتها 109 (لا يسمح لأية دولة من الدول المتجاورة (تركيا أيران العراق) بأقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر دون الأستشارة والحوار بين هذه الدول لضمان عدم ألحاق الأذى بأي منهم /أنتهى.

- له تأثيرات مفجعة في الحياة الأقتصادية للعراق حيث يؤدي التصحر إلى تناقص مساحة الأراضي الزراعية وبالتالي نقص المحاصيل الزراعية والتأثير على موجودات السلة الغذائية، وتصل لخسارة أكثر من سبعة مليار دولار سنوياً في تدمير المحاصيل الزراعية أضافة إلى زيادة أسعارها.

- مناطق زراعية في عموم الجنوب والفرات الأوسط اليوم تدخل في دائرة الخطربسبب شحة المياه وتصحر الأراضي وتناقص مياه دجلة والفرات وتبدو في مظاهر واضحة في موت النباتات وأنعدام الحياة البرية وبسبب الجفاف وشحة المياه كان في خبر عاجل اليوم مجزرة في ديالى ضحيتهخا ألف دونم من النخيل بسبب الجفاف وشحة المياه، وأنعكاسات هذه الظاهرة المخيفة بدت واضحة في ترك معظم الفلاحين أراضيهم وأتجهوا للهجرة نحو المدن، التغيير السياسي والأقتصادي والأجتماعي والهجرة الجماعية بسبب الجفاف والتصحر وقلة الأمطار.

- أصبحت مشكلة تذبذب وأنقطاع التيار الكهرباء الوطنية الذي لهُ علاقة قوية بضخ المياه وأستدامتها فشحة المياه أثرت على البيئة الحيوانية في نفوق مئات الأطنان من الأسماك والحيوانات البرية، ويساعد التصحر في خلق جو ملائم لتكثيف حرائق الغابات، ويزيد الضغوط على أكثر موارد الأرض أهمية كالماء وحسب تقرير الصندوق العالمي للطبيعة: فقدتْ الأرض حوالي 33 % من مواردها الطبيعية ما بين 1970 - 1995 بأثارة الرياح الأتربة من الصحارى الجافة وتدفعها حتى تصل إلى دول عديدة في العالم، كما تظهرالظاهرة في العراق في فصلي الصيف والربيع التي تزيد من معدلات الأختناق وربما الوفيات.

3: العوامل المساهمة في ظاهرة التصحّرْ:

أسباب طبيعية: تناقص كميات الأمطار، فقر الغطاء النباتي، أنجراف التربة، التعرية، زحف الكثبان الرملية، أسباب بشرية: الضغط السكاني على البيئة في قطع الأشجار وأجتثاث النباتات، وأستخدام أساليب زراعية خاطئة، والأستغلال السيء للموارد الطبيعية.

4- أذاً ما الحل؟

 أن أزمة شحة الماء تعتبر من أكبر مشاكل الأنسان العراقي اليومية، فهي ذات أبعادٍ متشعبة ومعقدة في توفير المياه لشعبٍ تعداده الحالي أكثرمن 38 مليون نسمة، وهذه جملة رؤى علمية متبعة في دول الجوار بالرغم من أن بعضها لا تمتلك أنهاراً وأشجاراً- أ

- أستخدام مصادر الطاقة المتجددة بدلا من أخشاب الأشجار.

- حماية الغابات وتنمية المراعي بقوانين رادعة.

- أدراج مشكلة التصحر في المناهج الدراسية.

- نشر الوعي البيئي.

- العمل على تثبيت الكثبان الرملية بالحواجز النباتية.

- ترشيد أستهلاك المياه في كل المجالات.

- أعادة تدوير المياه، أستخدام طرق علمية حديثة في الري مثل الري بالتنقيط والرش.

- دعم البحث العلمي الأكاديمي للتحفيز على أيجاد الحلول الفورية المناسبة لمشكلة العصر في الشرق الأوسط وخاصة فيما يخصُ العراق.

- أسناد وزارة الموارد المائية رجل متخصص ذو أمكانيات ذاتية وأكاديمية، بل يحتاج العراق أنشاء (خلية أزمة) لتجفيف مواطن الفساد في وزارة الموارد المائية.

- صيانة محطات التصفية ومعالجة أعطالها والأنكسارات في شبكات الماء الصافي وزيادة عدد الآبار الجوفية.

- التنسيق التام بين المركز والحكومات المحلية برصد مبالغ مالية لتكن كبيرة لتطوير آليات شبكات الماء للشرب أو للسقي.

- لأهتمام العالي بتوفير خزانات المياه في الأستخدامات البشرية والزراعية.

- أستخدام الدبلوماسية الناجحة والمؤثرة مع الدول المتشاطئة،

- أن المشروع الياباني في تصفية الماء يعتبر من أنجح التعاقدات التي أثمرت المزيد من الحلول لا ضير أن تتفق معها ثانية وحتى ثالثة،

- أستنساخ تجارب دول الخليج في تحلية المياه

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

حزيران 2023

........................................

مصادر البحث وبعض الهوامش

- آلآن جرينجر التصحر، ترجمة عاطف معتمد القاهرة 2002/نت

- محاضرات الدكتور موفق الخشاب – كلية التربية عام 1959بالجغرافية السكانية

- أحمدعبدالكريم –كتاب قانون حماية البيئة- ص349

- جون رافارتي – التصحر2022(ترجمة الكاتب لفقرة التصحر- المكتبة المركزية - بغداد)

desertification 2022 John Raffarty

ملحوظة: بمناسبة 17حزيران اليوم العالمي للتصحرأعيد نشر مدونتي عن التصحر في العراق المنشورة في حزيران 2023 في الأعادة أفادة.

 

كانت الإمبراطوريات قديماً، تحتاج إلى إعلان التّعصب لعقيدةٍ تسوق بها الجيوش؛ في حروبها، وإخضاع الأطراف. ثم تغيرت السِّياسات، ونشأت الدّولة الوطنيَّة، التي يأوي تحت جناحها مواطنوها، غير أن الطَّائفيين يحلمون بالعودة إلى إمبراطورية العقيدة، والتَّعصب لها، فإذا كف النّاس عن الخلاف الشّرس أفلس الطّائفيون، والقصة ليست عبادة إنما تجارة، ولأبي العلاء المعريّ(تـ: 449 هجرية) في هذا الشّأن منقبةٌ: «إنما هذه المذاهبُ أسب/ بٌ لجذبِ الدّنيا إلى الرُّؤساء»(لزوم ما لا يلزم). فكيف إذا الطَّائفيون مسكوا بزمام السُّلطة، وداروا دفتها باستبدال الطَّائفة بالوطن، وتسيلم مقدراته إلى خارج الحدود، تحت مبرر وحدة المذهب؟

تبث فضائيات، ومواقع إنترنت، ما يستدرج الأتباع إلى الماضي، بجعل العقول متاحفَ للمعارك الغابرة، حتّى غدا هذا الإنجاز العلمي الرَّائع وسيلةً للإفساد؛ كُتب على أبناء الألفية الثّالثة، في هذا البلد أو ذاك، الجدل العقيم عبرها، الذي لا يسفر إلا عن ضغائن قاتلة؛ قد لا يملك الساعون فيه، زمام السّيطرة، لصبغته القُدسية.

لا شغل للطائفيين إلا إثارة نزاعات ذهبت مع أصحابها، لا شأن للحاضرين بها، وحتّى لو حصل تنازل مِن الأطراف، واعتراف بخطأ وصواب، هذا المذهب أو ذاك، فما بات الأمر مجدياً. تبقى صورة المتنازعين تعبر عن الشّحاذيَن ببغداد، في القرن العاشر الميلاديّ.

نُذكر بأروع ما التفت إليه القاضي المُحسّن التَّنوخي(تـ: 384هجرية): «حدّثني جماعة من شيوخ بغداد: إنّه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسّل أحدهما بأمير المؤمنين عليّ عليه السَّلام، والآخر بمعاوية، ويتعصّب لهما النَّاس، وتجيئهما القطع(النقود) دارّة. فإذا انصرفا جميعاً، اقتسما القطع، وإنّهما كانا شريكين، يحتالان بذلك على النَّاس»(نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة).

نُقل التّراشق بحمم الطائقية إلى عواصم الغرب، باستغلال الحرية المتاحة، بلا رقيب ولا حسيب، وإذا كانت البلدان الغربيَّة لا يعنيها النزاع، وما يسفر عنه اليوم، فمجتمعاتها بدأت تتورم مِن هذا الخطاب، والعراك يجري في ساحاتها، قد لا تشعر الآن بهول الكارثة، لكن هناك جيلاً سينشأ على الكراهيّة، إذا لم يضعوا حداً لاستغلال الحرية، والقيام باجراءات وقائيَّة، قبل فوات الأوان.

دخل خطاب الكراهية إلى المدارس الدّينيّة، المقسمة على أساس مذهبي، تجري فيها التعبئة الطّائفيّة، وما هي سنوات وتلاميذ اليوم، في ظل الدّيمقراطيّة الغربيَّة، سيتبوأون مراكزَ في تلك الدّول، فبماذا تراهم سيتصرفون، لا شيء غير الكراهيّة المذهبيَّة.

ألم يوجد بين مذاهب اليوم شخصيات بحكمة سُفيان الثَّوْرِيُّ(تـ: 161هجريَّة)، الذي أدرك مساوئ الكراهيّة على الدّين والمجتمع، وكان أبرز فقهاء عصره، عندما قال: «إِذَا كُنْتَ بِالشَّامِ، فَاذْكُرْ مَنَاقِبَ عَلِيٍّ، وَإِذَا كُنْتَ بِالكُوْفَةِ، فَاذْكُرْ مَنَاقِبَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»(الأصبهانيّ، حلية الأولياء). لا يعجب هذا الكلام، مخربو الأوطان، فهم لا يضعون اعتباراً لكلام حكيم مثل الثَّوْرِيُّ.

أقول: لا يرتقي إلى نقد طاعون المذهبيّة، إلا أمثال: الثَّوريّ صاحب القول القامع للتعصب: «إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَنَا الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ، فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ»(ابن عبد البرِّ، جامع بيان العلم وفضله). وقيل دفعه تواضعه إلى تمزّيق «ألف جزء وطيّرها في الرِّيح، وقال: ليت يدي قُطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم أكتب حرفا»(الحمويّ، معجم الأدباء). كذلك ارتقى التَّنوخيّ إلى فضح استغلال النّاس بالطَّائفية، وهو القاضي الأديب؛ أمّا المعريّ فما ترك تحايلاً باسم الدّين إلا وفضحه.

فعلى العاقل إذا لم يستطع قول كلمة، ضد تماسيح الطّائفيَّة، ينفرد عن سربهم، والعودة للمعريّ، لإكمال ما جاء في المستهل: «فانفرد ما استطعت فالقائل الصَّا/ دقُ يُضحي ثقلاً على الجلساء»(لزوم ما لا يلزم). أقول: إنَّ مواجهة الطاّئفيين الطواعين، مِن الجهلاء والعلماء، تستحق الصّبر على الأذى، دفاعاً عن الأوطان.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

ظل يوم 14 تموز لعقود عديدة في ذاكرة العراقيين رمزاً للوحدة الوطنية وحدثاً فارقاً في تأريخ العراق الحديث. وقد استمرت محاولات النظام منذ الايام الاولى لمجلس الحكم المحلي لمحوه من الذاكرة الوطنية حتى تجرأت أخيرا على حذفه حتى من لائحة العطل الرسمية التي اقرها البرلمان لعام 2024 م. صوت الاحتجاج كان خفيضا، باستثناء قلة من الكتاب والمثقفين الحريصين على ذكرى الثورة ونضالات القوى الوطنية التي أسهمت في تحقيق استقلال العراق استقلالا ناجزاً، ولاذ بالصمت أو أفصح عن ترحيبه بالقرار -علناً أو تلميحاً- عدد كبير من المثقفين، وهذه ظاهرة تستدعي التامل والبحث في حيثياتها.

دون عناء يمكن تفسير سر عداء النخب الإسلامويه الحاكمة وكراهيتهم للثورة، فكما اشار عدد من الكتاب ان الاسلام السياسي الحاكم يكشف بوضوح عن نزعته الطبقية والأيديولوجية في العداء للجمهورية، انهم كطبقة أوليغاركية نهابة يمثلون وريثاً شرعياً للاقطاع فكراً، ولعدد منهم نسباً ايضاً، الى جانب التناقض الحاد بين ظلامية فكرهم الرجعي وتشريعات الثورة التحررية،  (عبر محسن الحكيم بعد اجهاض الثورة عن فرح وشماتة معتبراً ذلك عاقبة الهية.) لذا لم يكن مستغرباً ان النظام الحاكم قد بدأ وفي السنين الأولى من ( العملية السياسية)  محاولاته الحثيثة لالغاء قانون الأحوال المدنية بدل تطويره، ولحسن الحظ قوبل ذلك باعتراضات جمه لانه سيكون منافياً لابسط مبادئ الديمقراطية التي كانوا هم وسلطة الاحتلال يعدوننا بها.

وقد تكرر الامر بتقديم مشروع  ما يسمى بالقانون الجعفري بديلاً عن قانون الاحوال المدنية وهو الآخر لم يمر لنفس الاسباب اضافة الى اعتراض المكونات الاخرى لأبعاده الطائفيه الواضحة.

 حكومة الكاظمي والتى تعتبر أكثر ميلاً للغرب وابعد - ولو ظاهرياً - عن الإسلام السياسي نجحت في خطوة اولى لتغييب ذكرى الثورة حين قدمت وباقتراح من وزير ثقافتها (وهو مثقف لبرالي له مكانته في الوسط الثقافي) قانوناً للبرلمان باعتبار 3 تشرين عيدا وطنياً، وهو اليوم الذي أوصت فيه بريطانيا بادخال العراق عضواً في عصبة الامم مشترطة التزام العراق باتفاقية 1930 المجحفة بحق البلد، والتي عدتها القوى الوطنية ارتهانا للأستعمار البريطاني واذلالاً للعراق (كما عبرت عن ذلك بالإجماع الشخصيات الوطنية التي دعاها الملك الى الاجتماع لأخذ مشورتهم ومن بينهم جعفر ابو التمن، ياسين الهاشمي، محمد مهدي الجواهري، كامل الجادرجي وغيرهم). ولمعرفة تفاصيل تلك الاتفاقية سيئة الصيت يمكن الرجوع الى بنودها المنشورة على الانترنيت.

الانضمام الى عصبة الامم و انهاء الانتداب شكليا مع بقاء الهيمنة البريطانية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لا يعد استقلالاً ناجزاً، و لم يكن بالحدث الكبير في تاريخ العراق، بدليل انه لا يشغل و لو حيزاً صغيراً في ذاكرة المواطن العراقي، على عكس يوم ١٤ تموز الذي لم تستطع حتى الحكومات المتعاقبة والتي اجهضت الثورة محوه من ذاكرة الشعب. رغم ذلك فقد نشطت القنوات الفضائيه ومواقع التواصل الاجتماعي لتسويق (العيد الوطني الجديد) وتمجيد رجال الملكية والمتخادمين مع الاستعمار على انهم رجال دولة حققوا استقلال البلاد بالحنكة والخبرة السياسية، ويعد هذا اهانة للقوى الوطنية الممثلة للشعب آنذاك، واستهانة بمعارضتها لتلك المعاهدة وبنضالها من اجل الاستقلال الحقيقي.

 واليوم يتقدم النظام الحاكم بخطوة أبعد بالغاء 14 تموز من قائمة العطل الرسمية بغية تغيير الهوية الثقافية وترسيخ مفاهيم جديده تتناغم مع أجندته الرجعية.

سلسلة محاولات النظام الاسلاموي الحاكم لمحو الذاكرة الوطنية لم تكن لتمر هكذا بهدوء وصمت لولا شيوع الخطاب العدمي الذي اخترق العقل الجمعي في حملة لتشويه وعي المواطن العراقي بعد 2003، وقد شارك في ذلك نخبه من المثقفين والإعلاميين واليوتوبرز ومدمني الفيس بوك متأثرين باجتياح الاعلام المعولم والتطور السريع لتكنولوجيا الاتصالات.

يصف محمد عابد الجابري استجابة العرب للعولمة: (إما بالهروب الى الخلف أو الهروب الى أمام) الفريق الاول هارب الى الخلف يبحث في كهوف الماضي البعيد عن مدينة فاضلة، ليصنع هوية ساكنة غير متحركة مع الزمن، معزولة بجدار منيع عن ثقافات الأمم، تلك تندرج ضمن الهويات القاتلة بتعبير أمين معلوف. هذا الفريق بالطبع يرفض اي خروج من كهف الماضي البعيد ويعلن معاداته لأي منعطفات في تاريخنا الحديث وخاصة التحرري منها كثورة تموز.

أما الفريق الثاني الهارب الى أمام فانه يتماهى بالذوبان - لا بالتفاعل - مع كل ما تأتي به العولمة (معظم المفكرين العرب والاجانب يفضلون مصطلح الامركة بدل العولمة)، بل تتعالى دعوات هذا الفريق للطلاق البائن مع ثقافتنا وتاريخنا و منظومتنا القيمية عملًا - كما يدعون - بمبدأ الشك الديكارتي واعادة قراءة التاريخ القديم والحديث، ولكن بات واضحاً ان اعادة قراءة التاريخ  بالنسبة لهم لا لتنقيته من مفاهيم وافكار وقيم باليه، وانما لشيطنة الذات والامعان في جلدها، الامر الذي أسهم في تخليق شخصية وطنيه مهزوزة تعاني من عقدة نقص وفي حالة تيه وتشتت. وقد كان لثورة تموز النصيب الأكبر من المراجعة المزعومة. بدأ الامر بالتساؤل (هل 14 تموز انقلاب ام ثورة)، السؤال الذي بات يتردد وبتواتر محموم في الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب.

لا ضير من طرح الأسئلة اذا كان الهدف منها البحث عن الحقيقة، الا ان أصحاب تلك الحملة لهم إجاباتهم المسبقة ليس بنفي صفة الثورة عن 14 تموز فقط بل الادعاء بانه اول انقلاب عسكري فتح الباب لسلسلة من الانقلابات، وتحميل الثورة مسؤولية تعاقب الدكتاتوريات الدموية، متجاهلين حقيقة ان اول انقلاب في العالم العربي و ليس في العراق فقط هو انقلاب بكر صدقي عام 1936 ثم تلاه انقلاب رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وان الاعدامات و قمع الاحتجاجات واعتقال المعارضين لم يستحدث في الأنظمة الجمهورية، بل كان قائماً و مستمراً ابان الملكية أيضاً، نعم كان أقل قسوه لأن النظام كان فتياً غير مستقر ولم تزل أجهزته القمعية ضعيفة نسبياً مقارنة بانظمة ما بعد الثورة التي اصبحت أكثر ثراء و استقراراً وخاصة بعد تأميم النفط. ولم يتوقفوا ايضاً من تكرار إتهام الثورة بالدموية، لمقتل عدد من أفراد العائله المالكه الذي لم يكن بتوجيه أو بايدي رجال الثورة بل للأسف الشديد لرعونة البعض من الحشود الغاضبة، ويتناسى أصحاب الحملة الدعائية ضد الثورة ان الثورة الفرنسية مثلًا قد راح ضحيتها عشرات الآلاف، بل لم يسلم حتى قادتها من المقصلة(روبسبير، دانتون، جان جاك مارا) وأعدم فيها حتى عالم الكيمياء المشهور لافوازييه.

 الحديث عن منجزات الثورة في عمرها القصير والانفكاك من التحالفات الاستعمارية وتحقيق الاستقلال وما الى ذلك لا يلقى آذاناً لدى هذا الفريق، فالامر بالنسبة لهم محسوماً. 

 ليس مصادفة أن تجري تلك النقاشات بعد الأحتلال الامريكي مباشرة، فرغم ما يدعيه البعض ان حرية التعبير الجديده اتاحت طرح مثل هذه الأسئلة، فأن ما يفند هذا الزعم إن الانظمة السابقة وخاصة نظام البعث الدكتاتوري المعادي للثورة كان سيرحب بنفي صفة الثورة عن 14تموز، ومع ذلك لم تكن محاولات التشكيك شائعة حتى في المجال الاكاديمي. ترافقت محاولات التشكيك هذه مع شيوع الجدل في توصيف الوجود الامريكي، هل هو احتلال أم تحرير!!، ثم تطور الامر الى اعادة الاعتبار للاستعمار البريطاني وتمجيد الشخصيات المتخادمة معه، وهنا يكمن سر هذه الحملة بعد الاحتلال الأمريكى تحديداً. أدرك أو لم يدرك من شارك فيها كان الهدف هو تهيئة الشعب العراقي للترحيب بالاحتلال والايحاء بان اميركا كسابقتها بريطانيا سنصل معها الى فردوس الديمقراطية (فلا تفوتنا الفرصة كما ضيعناها بطرد الاستعمار البريطاني).

وهكذا بات واضحاً تلاقي الفريق الماضوي مع الفريق المتعولم العدمي في محاولات اعادة فرمتة الذاكرة الشعبية ومحو ذكرى ثورة تموز كخطوة في سلسلة لم تنته لتبديد الهوية الوطنية. كلا الفريقين أصوليان، الاول يدعونا الى مدينته الفاضلة ومرجعيته ماضٍ متخيّل مجيد، يجب أن نرحل اليه ونتوطن فيه الى الابد. والثاني يدعونا الى مدينته الفاضلة أيضاً ومرجعيته مستقبل متخيّل سعيد لايمكننا الوصول اليه إلا بالخلاص من ارثنا (الثوري المرضي) في مناهضة الاستعمار.

***

قصي الصافي

نقابة الصحافيين العراقيين.. متى يحين أوان إصلاحها؟!

لا ريب في أن الذي تسوقه الضرورة للدخول الى مقر (نقابة الصحفيين) العراقيين، سرعان ما يتولد لديه انطباع سيء مؤداه ؛ ان هذه المؤسسة (الثقافية) لا تختلف في شيء عن محاكم (التفتيش) التي كانت سائدة في أوروبا العصور الوسطى، سواء من حيث طريقة الاستقبال الجافة والخشنة للوافدين / المراجعين، أو من حيث أساليب التعامل مع مشاكلهم والإجابة عن استفساراتهم التي يتطلعون لإيجاد الحلول لها . حيث تضطر مرغما"لتقديم بعض التنازلات الاعتبارية أمام وجوه استوطنت ملامحها مظاهر التجهم والجفاء، فضلا"عن تجنب نظرات أدمنت التعبير عن الازدراء والتشكيك بكل زائر غريب . لا بل حتى ان آداب (السلام) – ولا أقول (الترحيب) – تبدو بالنسبة للعاملين فيها (مكلفة) لهم نفسيا"، بحيث تواضع الجميع على اختصار العبارات وابتسار الحوارات .

وهكذا، فما أن تطأ قدما الشخص المراجع أروقة هذه (النقابة - الوكر) التي استحالت أروقتها الى ما يشبه المتاهة، سيتملكه شعور منفّر ومقلق كما لو أنه في حضرة مؤسسة (أمنية) محاطة بإجراءات وممارسات لا علاقة لها بشؤون الفكر والثقافة لا من قريب ولا من بعيد ! . الأمر الذي يضع المرء المعني في حيرة من أمره إزاء طبيعة هذه المؤسسة وماهية الدور الذي تلعبه الوظيفة التي تزاولها ؛ هل حقا"أنها معنية بنشر قضايا (الفكر) وإشاعة مسائل (الثقافة) كما توحي بها اليافطة التي تحمل اسم (الصحافة) ؟! . وان كانت هي كذلك، فما الشروط والمعايير التي تعتمدها في اختيارها لأولئك الذين يتمتعون بعضويتها ويحملون هويتها ؟! . أما إذا كانت – وهذا هو واقع الحال - تستخدم هذه الصفة (الصحافة / الثقافة) لإغراض تتعلق بتعزيز الروابط والتضامنيات العصبية (الاثنية والقبلية والطائفية) من جهة، وتعظيم المكاسب الاقتصادية والمنافع السياسية والمآرب الإيديولوجية للقائمين على إدارتها من جهة أخرى . فهي، والحالة هذه، تبدو بحاجة ماسة وعاجلة لعمليات إصلاح جذرية وشاملة، ليس فقط على صعيد قوانينها الجائرة وانظمتها البالية التي تتسبب بحرمان العديد من الأساتذة والمثقفين من حقهم في التمتع بعضويتها، بحجة كونهم لا يعملون في أحدى المؤسسات الصحفية والإعلامية كما يشترط القيمين عليها فحسب، وإنما على صعيد رؤوس كوادرها وطواقمها المسؤولة فيها، والذين استحال معظمهم بالتقادم الى (مومياءات) متحجرة لم تعد صالحة لإدارة شؤون هذا المرفق الثقافي الحيوي والحساس .   

والحقيقة ان المعطيات الواقعية التي لمسناها خلال مراجعاتنا المتكررة لهذه المؤسسة المتداعية إداريا"والمتآكلة ثقافيا"، فضلا"عن تعاملنا مع بعض كوادرها الإدارية المسؤولة – بمن فيهم النقيب شخصيا"- تنفي بالمطلق أية علاقة لهؤلاء (الدينصورات) بعلاقات وتواضعات وتصورات تتسم بالثقافة والفكر أو حتى بالإنسانية . فعلى مدى سنة وأربعة أشهر – ولحد الآن لم يبت بفحوى الطلب - راجعت هذه النقابة لأكثر من عشر مرات على أمل البتّ بطلب تسوية موضوع (ترقين) قيد عضويتي فيها بسبب انقطاعي عن المراجعات الدورية التي اشترطتها هذه النقابة لديمومة العضوية فيها . حيث لمست لدى المعنيين بهذه القضية ليس فقط قلة الاكتراث والاستهانة بهذا الموضوع، فضلا"عن انعدام الرغبة في تقديم أية مساعدة قد تحتاجها هذه العملية (المعقدة) لإنهاء معاناة المراجعات المستمرة دون طائل فحسب، وإنما وجود حالة غريبة من مشاعر (التطيّر) و(الامتعاض) كلما حاولت – كباحث - أن استعين برصيدي الثقافي والفكري من الدراسات والمؤلفات، على أمل كسر تلك الحواجز النفسية التي لا يفتأ أصحاب الشأن في النقابة من إقامتها والتحصن خلفها، للحيلولة دون تحقيق رغبتي المشروعة والاستجابة لمضمون الطلب .

وبدلا"من أن يكون لقائي الشخصي وحواري المباشر مع السيد نقيب الصحفيين الأستاذ (مؤيد اللامي) مدخلا"لتجاوز تلك الأجواء من البيروقراطية الخانقة التي يعمل في كنفها المسؤولين في هذه النقابة، إلاّ إني قد صدمت من طغيان مظاهر الجفاف والجفاء التي أبدها نحوي السيد (النقيب) كما لو أن بيني وبينه (عداء) تاريخي، للحدّ الذي لم يستطع معها مغالبة رغبته في إلغاء عملية التواصل الإنساني وقطع الحديث الحواري بيننا، هذا مع الاستمرار بإشاحة وجهه عن مواجهتي المباشرة بحيث لا يحصل بيننا أي لقاء بصري متقابل . وكلما حاولت التخفيف من حدة ممانعاته وشدة اعتراضاته إزاء إلغاء قرار (ترقين) قيد عضويتي في النقابة باللجوء الى تذكيره كوني أحمل صفة (باحث) من جانب، ومستعينا"بعدد المؤلفات والدراسات والمقالات التي أنجزتها سواء في الصحافة المحلية أو مواقع التواصل الاجتماعي من جانب ثان . كلما استفزته طريقة احتجاجي بالمسوّغ (الفكري – الثقافي) المدعمة بالمعطيات والمعلومات الكفيلة باستحقاقي نيل العضوية (الصحفية)، خلافا"للكثير ممن تحصلوا على تلك العضوية دون أن تكون لهم أية إسهامات فكرية أو ثقافية بالمرة، اللهم باستثناء كونهم يعملون في بعض المؤسسات الإعلامية – ومنها نقابة الصحفيين ذاتها - كإداريين أو مصورين أو سواقين أو عمال خدمة ! . ومن باب الأمانة، فان 80% من حاملي عضوية نقابة (الصحفيين) – خصوصا"أولئك الذين تحصلوا عليها بعد عام 2003 - لا يستطيعون كتابة جملة مفيدة في أمور الثقافة العامة، ناهيك عن الخوض في غمار العلوم الاجتماعية والإنسانية التي لا يستحق (الصحفي) حيازة هذه الصفة دون الإلمام بها والتمكن منها ! .

وحيث لم يجد (نقيب الصحفيين) عذرا"أو مبررا"للتخلص من إلحاحي والتملص من إصراري للمطالبة ببيان موقفه والتصريح عن رأيه، فقد عمد الى التمسك بدعوته لي بالذهاب الى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين لإيجاد ضالتي هناك، معتقدا"- ربما - انه المكان الأنسب لانخراطي في عضويته والحصول على هويته، بدلا"من (اللاجدوى) التي أعلل نفسي بآمال بلوغها لدى نقابة الصحفيين المنيعة، وكأن هذه النقابة - كما أشرنا الى ذلك - غير معنية بأية أنشطة وفعاليات ذات طابع فكري وثقافي تبرر لي حق الانضمام لعضويتها والمطالبة بهويتها، بقدر ما باتت مقتصرة على منح الهويات وتوزيع الامتيازات لكل من هب ودب، ليس بناء على (الكفاءة) العلمية و(الجدارة) المعرفية (المهارة) الثقافية، وإنما بناء على ما تدره المجاملات الشخصية، والعلاقات الفئوية، والصفقات السياسية من مكاسب اقتصادية مبطنة ومآرب إيديولوجية مضمرة .    

وفي إطار الذكرى الخامسة والخمسون بعد المئة لميلاد الصحافة العراقية، بات من الضرورة بمكان أن يصار الى وضع هذه المؤسسة المتهالكة (ككيان وأشخاص) ضمن قائمة أولويات الجهات الحكومية المسؤولة عن برامج الإصلاح الاجتماعي والإنماء الاقتصادية والاستقرار السياسي، كمشروع وطني وحضاري أذن أوان إصلاحه جذريا"دون إبطاء أو تكاسل . ذلك لأن تغيير بنى المجتمع وتطوير أنماط وعيه لا يمكن حصد بيدرها وجني ثمارها إلاّ بالشروع أولا"من المؤسسات التعليمية / التربوية، قبل المؤسسات السياسية / السلطوية، والمؤسسات الفكرية / الثقافية قبل المؤسسات الاقتصادية / التجارية، والمؤسسات المعرفية / العلمية قبل المؤسسات الصناعية والزراعية . حيث تعتبر الأولى بمثابة الأسس والمرتكزات، في حين تعتبر الثانية بمثابة الهياكل والمنشآت .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

لا تُعنى هذه السطور بهجاء سلمان رشدي الشخص، بقدر ما تعنى بهجاء زمنٍ تافهٍ، غيَّبَ كل القيَم والأخلاق.. رغم كل ذلك يظل رشدي ينعقُ معزولاً خارج موجة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل.. التي إنضمت إليها كوكبة من الأدباء وكبار الفنانين، حتى من داخل"عرين" هوليود.. !

..........................

+".. لقد تغيَّرَ زمن الحق والقيم.. وعند غياب القيم والمبايء الإنسانية يطفو الفسادُ المبرمجُ، ذوقاً وأخلاقاً وقيماً.. إنه الزمن الهابط.. "(آلان دُنو)

+".. العالم لن يفنى بالقنبلة النووية، بل بسبب الإبتذال والإفراط في التفاهة، التي ستحوِّلُ الواقعَ الى نكتةٍ سخيفة.. "(كارلوس زافون)

+".. أكبر خطأ في الحياة، أنْ تتنازل عن مبادئك.. " (غاندي)

+".. إنَّ التفاهة وحدها، سادتي، هي التي تجني الأرباح هذه الأيام.. " (نيتشه)

(2)

مفهومٌ أنْ تجري تَغيُّرات على قناعات الناس في العيش الواعي.. لكن من الشائن أنْ يبصقَ المرء في البئر الذي شربَ ويشربُ الآخرون منه.. !

كيف إنقلب هذا اليساري إلى أحد دعاة اليمين؟!

سلمان رشدي ليس أول من إنقلب ولن يكون آخرهم ! فقد إنقلب الزمن، والقيم تدحرجت والأخلاق إنهارت. فرأينا وسنرى أعداداً أُخرى من المثقفين يهجرون نصوصاً كتبوها وأعمالاً أبدعوها، وقناعات كانت لهم،كي يلتحقوا بركب اليمين الصاعد والحكام المستبدين.

عَجَبي كيف يستطيع مثقف أمريكي أو بريطاني أن يُديرَ ظهره، بل ويهاجمَ أخيارَ العالم ومثقفيه وحركة الطلبة التي اندفعت لتأييده حين ألمَّت به مصيبة التحريم و"فتوى إباحة دمه" عام 1989.. فوجد نفسه بعدها وحيداً؟!

كان الخيار بين الشجاعة والأخلاق من جهة، والالتحاق بالسلطة وأدواتها من جهة أخرى..

ما فعله سلمان رشدي في إنقلابه المتدحرج نحو تأييد إسرائيل كان إنحيازاً للسلطة، وتخلّياً عن رفاقه القدماء، لأنهم ما عادوا ينفعونه شخصياً !

هل كان هذا الخيار مختبئاً في شخصية الرجل، أم أنه نبع فجأة؟

لا أؤمن بأفكار تنبع فجأة. فالرجل البرجوازي عاد إلى أصوله وانتفض ضد فلسطين كي يحمي نفسه من الخطر الصهيوني. فسقط في الخطيئة التي لا مخرج منها..

هل يمكن مقارنة «طالبان» بالمقاومين الفلسطينيين في غزة؟

هل يمكن مقارنة من يقاتل منذ ثمانية أشهر وظهرهم إلى الحائط وجثثهم مرمية في الشوارع، بعصابات المجرمين

- القاعدة و داعش- التي اقتاتت على الإسلام، لكنها ليست سوى أداة قتل وتدمير وموت؟

بيدَ أن رشدي وأضرابه من المثقفين لا يأبهون بمثل هذه الأسئلة، فهم مشغولون بلعبة المال والسلطة والنجومية. وكل ما عدا ذلك، لا قيمة له ! (إلياس خوري)

لذلك تراهم انقلبوا بخفة وخلعوا ثيابهم القديمة ليجدوا أنفسهم عراة ومكروهين ولا أحبة لهم سوى الحكومات الدكتاتورية في الغرب وإعلامها المناصر للصهيونية..

إنَّ "الوعود الكبرى" لن تتحقّقْ، وستبقى طوال حياتنا دون تحقُّق.. ستظل مشروعاً لنضال طويل الأمد، قد تحلُّ في مجراه خيبات كبرى. لكن هذا ليس نفياً لتلك الوعود، فــ "الوعد والخلاص" لم يصلا، إنهما في الطريق " فقط"!

"حتى إنْ تداعى الجسد، تبقى الإرادةُ حرّةً "، هكذا قال الشاعر الألماني إيريش مُيزام، الذي إغتاله النازيون في معسكر أورانينبورغ. إنها الحرية التي تتسامى على كل المسوّغات والتبريرات اللاحقة لكل فشل سياسي. دائماً ثمة تبريرات : "الوضع السياسي العالمي، النظام (النظام مسؤول دائماً !)" وبالتالي فأن كل إنسان يريد النجاة بالتأقلم مع ضغوط التكيُّف ! ضغوطٌ، يمكن فهمها ! لكن دون نسيان ميلِ الأفراد نحو الإمتثال والطاعة !

إذا كان الأمر كذلك، فهل أن الإرادة حرةٌ حقا بداخل كل فرد؟!

هي جملة لا تُقال لما هو لاحقٌ، مَضَى، إنما تُعنى أساساً بالحاضر.. بما هو واقع.. ففي عالم يفور بــ"العجائب" ترتبك كل الحقائق التي كانت تبدو ثابتة ! فالتحلّي بالشجاعة بعد فوات الأوان، ما هو إلاّ بداية لـ" تطامنٍ وطاعة" جديدين مع الواقع المُعطى ! فتحت هذا "التبرير"يرتكبونَ الخيانة والنذالة بكامل "قيافتهم"!

(3)

+.. " مصيبة عصرنا في إبتذاله ولا شاعريته"، كما قال هيغل.

+.. مَنْ ينبُشُ فينا ما ترسَّبَ مٍنْ صمتٍ، عَجَزنا عن قوله ؟!

في هذا الموضع أستعيدُ من الذاكرة، ما أحسبه يتناسب مع حضور أو غياب القيم..

رالف غوردانو 1923 - 2014 ، الذي أمضى سنوات الحرب العالمية الثانية مع والديه في قبو

(سرداب) عند عائلة بهامبورغ، أخفتهم عن عيون الغستابو والنازيين. بعد نهاية الحرب، قرَّرَ وهو شاب في أواسط العشرينات، أنْ يثأر من النازية بالإنتقال إلى الشطر الشرقي من ألمانيا- تحت السيطرة السوفيتة بعد التحرير.. إنتمى للحزب الشيوعي، درس في معهد الأداب بمدينة لايبزك، الذي تحوَّل إسمه بعد سنوات إلى – معهد يوهانَّس أر بَشَر- ثم دخل المدرسة الحزبية العليا، لتأهيل الكوادر، قيلَ عنه كان مُغرماً بستالين، وهو أمرٌ مألوفٌ حينها.. !

ستبدأ الحرب الباردة بين المعسكرين، ويتأسس حلف الناتو بحجة حماية الغرب من الخطر الشيوعي، وحلف وارشو بعد ذلك.. تمضي السنون على مهلٍ أو عَجَلٍ، سيصبح رالف غوردانو صحفياً وكاتباً معروفاً.. حتى يحلُّ عام 1964 فيهرب إلى ألمانيا الغربية ويجري الترحيب به كمنشق عن النظام الشيوعي في الشرق.. وسيقام له حفل إستقبال في إحدى القاعات الكبرى بجامعة كولونيا.

كانت القاعة تغص بالحضور الرسمي وممثلي الإعلام.. بدأ غوردانو حديثه بهجاء الشيوعية والنظام في ألمانيا الشرقية.. إلخ حتى نهضت من بين الحضور سيدةٌ مُسنة قالت، مشيرة بأصبعها إلى غوردانو :" هّذا، الذي أمامكم هو إبني، أنا أتبرّأ منه لأنه بَصَقَ في الصحنِ الذي أكلَ منه.. !"

..................

لستُ أدري ولا قدرةَ لي على وصف مشاعره وحالته النفسية، ساعةَ رؤيته أُمّه، التي لم يرها منذ قرابة عشر سنوات، وسط القاعة تُعلنُ براءتها منه.. في تناصٍ مع قصيدة مظفر النواب الشهيرة – براءة - !!

مثالٌ آخر، غير بعيدٍ عن الموضوع. أواسط الستينات من القرن المنصرم،كان الجدلُ بين اليمين واليسار محتدماً في ألمانيا الغربية، كما في غيرها من بلدان الغرب. لم يكن "الزواج الكاثوليكي" بين المؤسسة الحاكمة وسلطة الإعلام، مُمثلةً بإحتكار "شبرنغر" قد تمَّ، في إطار التنافس بين المعسكرين، مما إنعكس، محسوباً بدقة في مجال الإعلام !

في تلك الأجواء كانت صحيفة " بِلْدْ" – الصادرة عن إحتكار "شبرنغر" معروفة، ولمّا تزَلْ بشعبويتها وإبتذالها وكانت آنذاك سُبَّةً عند اليساريين والمثقفين – حتى المحافظين منهم -..

في تلك الأجواء، بثَّت إحدى قنوات التلفزوين حواراً جدلياً بين محافظ ويساري، وجَّه فيه الأخير

لزميله في المحاورة تهمة ترديد ما تنشره الصحافة الصفراء - صحيفة"بِلْدْ"- ! وكانت تلك في حينها بمثابة"تجريحٍ"، رَفَعَ فيها المعني دعوى قضائية ضد اليساري بحجة "القذف والتجريح الشخصي".. فما كان من المحكمة إلاّ أن حكمتْ لصالحه ضد اليساري.. !

هكذا يوم لم يكن الإعلام الإحتكاري قد تغوَّل مثلما هو الآن مع اللبرالية الجديدة، وإنصهاره التام مع رأس المال المالي وصنّاع القرار في مُجمَّع الصناعات الحربية.. مما أفضى إلى تسطيح وتسليع كل شيء.. بما في ذلك الآداب والفنون، حسب أدورنو.. ولم تعد هناك قيمٌ جماعية، إلاّ إعلاء شأن "الفردانية"وملحقاتها القيمية المبتذلة .. !

***

يحيى علوان

..........................

* الموريسكيون باللغة القشتالية هم مسلموالأندلس الذين أجبروا على الرحيل من بلادهم إلى دول المغرب الكبير بعد أن سيطر الإسبان على شبه الجزيرة الأيبيرية، فبدأ طرد العرب من الأندلس اعتبارا من عام 1609م بقرار من الملك الإسباني فيلبي الثالث. سلمان رشدي يقول أنَّ أصل عائلته يعود الى المورسيكيين، قبل أن ترحل الى الهند.

ومفاجأة حزب العمل الماركسي البلجيكي!

حقق اليسار في عدد من بلدان شمالي القارة الأوروبية مكاسب ملحوظة فيما تراجع اليمين المتطرف؛ ففي فنلندا، حقق حزب “تحالف اليسار” تقدما بحصده 17,3% من الأصوات، أي أكثر بأربع نقاط مقارنة بانتخابات عام 2019. وقالت زعيمة “تحالف اليسار” لي أندرسون "لم أكن أحلم قط بمثل هذه الأرقام". بالتالي، سيحصل الحزب على ثلاثة مقاعد من أصل 15 مخصصة لفنلندا في البرلمان الأوروبي، مقارنة بمقعد واحد فقط خلال الانتخابات السابقة. وتراجعت شعبية "حزب الفنلنديين" اليميني المتطرف المشارك في الائتلاف الحكومي، بحصوله على 7,6% من الأصوات، أي بانخفاض قدره 6,2%، ولن يحصل إلا على مقعد واحد.

* وفي السويد، حقق حزب الخضر المعتبر يساريا تقدما بحصوله على 15,7% من الأصوات، بزيادة قدرها 4,2 نقطة، وفق استطلاع لآراء الناخبين لدى خروجهم من مراكز الاقتراع. وفي السويد أيضا تقدم “حزب اليسار” (+4 نقاط إلى 10,7%)، بينما سجل اليمين المتطرف الذي يمثله “حزب ديموقراطيي السويد” تراجعا بمقدار 1,4 نقطة إلى 13,9%.، وحافظ الاشتراكيون الديموقراطيون على موقعهم في المقدمة بنسبة 23,1%.

* وفي الدنمارك، حيث المشهد السياسي مجزأ للغاية، احتل الحزب الشعبي الاشتراكي الصدارة وحقق تقدما ملحوظا بحصوله على 18,4% من الأصوات، بزيادة قدرها 5,2% مقارنة بعام 2019، وفق استطلاع لآراء الناخبين عند خروجهم من مراكز الاقتراع أجراه التلفزيون العام “دي آر”. وتراجع الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي يقود الائتلاف الحكومي إلى 15,4%. ومن المتوقع أن يفوز كل من الحزبين بثلاثة مقاعد من أصل 15 مقعدا في الدنمارك

* وتنفرد النمسا من بلدان الشمال في أن اليمين المتطرف فيها معبرا عنه في حزب الحرية "إف بي أو" اليميني المتطرف حصد 25,7% من الأصوات في أول انتصار له في تصويت وطني، قافزا بذلك من ثلاثة مقاعد في انتخابات عام 2019، إلى أضعاف هذا العدد في هذه الانتخابات.

* أما في بلجيكا عاصمة الاتحاد الأوروبي فقد خسر حزب رئيس الوزراء الليبرالي ألكسندر دي كرو بحصوله على 5.9% من الأصوات فقط في الانتخابات الفيدرالية فقدم استقالته إلى الملك. وعلى الصعيد الوطني، حصلت أكبر كتلة برلمانية هي كتلة «التحالف الفلمنكي الجديد» على 24 مقعداً، بخسارة مقعد واحد، تليها مباشرة كتلة الفلمنكيين القوميين اليمينية، التي حصلت على مقعدين إضافيين. تماماً مثل حركة الإصلاح الليبرالية اليمينية، بزيادة ستة مقاعد، وأصبح لدى اليمين المتطرف الآن 20 مقعدًا. وحقق الاجتماعيون المسيحيون أكبر زيادة بحصولهم على 14 مقعدا، مقابل 5 سابقا.

* المفاجأة الكبيرة جاءت من حزب العمل الماركسي البلجيكي بزعامة راؤول هيديبو  حيث حصد 15 مقعدا، بزيادة 3 مقاعد على الانتخابات السابقة. وفي برلمان منطقة الفلمنك، حصل على 9 مقاعد، مقابل 4 مقاعد سابقا. أما في انتخابات البرلمان الأوروبي فأصبح حزب العمل أقوى حزب يساري في بلجيكا، بحصوله على 10,7 في المائة من مجموع الأصوات. وحقق الحزب في العاصمة الفلمنكية أنتويرب مفاجأة بحصوله على قرابة 22 في المائة، حتى أصبح ثاني أقوى حزب، متقدماً بفارق كبير عن القوميين الفلمنكيين اليمينيين المتطرفين، وصرح أحد قادة الحزب ورئيس كتلته البرلمانية، خوسيه ديسي: "انها نتيجة مذهلة". وكان هذا الحزب قد حقق انغراسا وانتشارا جماهيريا كبيرا في أوساط الشباب والنساء والمتقاعدين ونظم عدة حملات استطلاعية وتثقيفية بين صفوف الناس في المصانع والموانئ والمحلات السكنية وعلى شبكات التواصل الاجتماعية وقدم مثالا مذهلا للقيادات اليسارية الذكية والتي تجترح المعجزات. وقد تمكن هذا الحزب من التحول من حزب ماركسي صغير لم تتجاوز عضويته 800 عضو في عام 2003، إلى حزب يضم أكثر من 25 ألف رفيقة ورفيق/ للمزيد - رابط مقالة حول نشاطات هذا الحزب في نهاية هذه المقالة لرشيد غويلب.

* وفي إيطاليا حقق اليمين المتطرف الحاكم تقدما ملموسا وتصدّر فراتيلي ديتاليا (أخوّة إيطاليا) النتائج محققا 28,8% من الأصوات متقدما على نسبته السابقة بأكثر من 2 بالمئة.

* أما في هنغاريا حيث يحكم حزب اليمين المتطرف "فيدس" بزعامة أوربان فقد احتفظ بالصدارة ولكنه سجل تراجعا صغيرا في أصواته حيث حصد بنسبة 4ر44%، فيما حصل الحزب الجديد /الاحترام والحرية/ أو "تيسا"، الذي شكله حليف أوربان السابق بيتر ماجيار، على 8ر29% في أول اختبار له في الاقتراع.

* في فرنسا حققت أحزاب اليمين المتطرف مجتمعة نسبة تقترب من أربعين بالمائة أما حزب الرئيس ماكرون فقد فشل فشلا ذريعا حيث حصل على أقل من 15% وهو أقل من نصف ما حصل عليه حزب اليمين المتطرف "التجمع الوطني الفرنسي" الذي نال 32% من الأصوات.

* وإثر ذلك قرر ماكرون حل البرلمان وإجراء انتخابات سريعة خلال عشرين يوما مع إعلانه إنه لن يستقيل من الرئاسة حتى إذا لم يفز حزبه في الانتخابات القادمة، محاولا ابتزاز الناخبين بوضعهم بين خيارين: انتخاب حزبه أو اليمين المتطرف في ظل تراجع نسبة اليسار مجتمعا غير أن الانتخابات الفرنسية عودتنا على ما يسمى السد الانتخابي الطارئ (Barrage électoral d’urgence) الذي تلجأ إليه أحزاب يمين الوسط واليسار ويسار الوسط لمنع اليمين المتطرف من الفوز بالرئاسة، ولكن هل سيتمكن هذا السد من منع اليمين المتطرف من الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات تشريعية؟ لن يكون الجواب على هذا السؤال بالإيجاب سهلا، فاليسار يتكتل وقد حققت بعض أطرافه تقدما مفاجئا كالحزب الاشتراكي الذي احتل المرتبة الثالثة بأقل من 14 بالمئة من الأصوات يليه حزب اليسار "فرنسا الأبية" بزعامة ميلونشون والذي يصفه الإعلام البرجوازي باليساري المتطرف على سبيل التهويل والمبالغة بأقل من عشرة بالمئة، والنسبتان أفضل من الانتخابات السابقة للحزبين ولكنها ليست كافية حتى الآن للوقوف بوجه اليمين المتطرف ويمين الوسط معا، ولكن هناك تعويل على كاريزما الزعيم اليساري ميلونشون وقيادته المبدئية والمعروفة بتضامنها القوي مع الشعب الفلسطيني، وعلى قاعدة الحزب الاشتراكي التي بدأت تضغط باتجاه تشكيل تحالف يساري جذري على نمط تحالف الجبهة الشعبية سنة 1936 بين الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الراديكالي الفرنسي، أو حتى تحالف اليسار سنة 1981 في عهد ميتران بين الاشتراكي والشيوعي.

* إن نجاح قوى اليسار الفرنسي في كبح اليمين واليمين المتطرف وكذلك الوصول إلى تشكيل الحكومة بوجود ماكرون رغم ضيق فترة المعركة الانتخابية وهو تضييق مقصود من قبل ماكرون ولكن انتصار اليسار سيكون صعبا ولكنه ممكن إذا تشكل تحالف مكين ببرنامج شامل وجذري وبتخلي قيادات الاشتراكي العريقة في الانتهازية السياسية عن ألاعيبها. جدير بالذكر ان نسبة مقاطعة الانتخابات الأوروبية كانت مرتفعة وتجاوزت نصف الكتلة الناخبة (سجلت نسبة مشاركة بلغت 45 بالمئة) ومعروف أن انخفاض نسبة المشاركة تصب دائما في مصلحة اليمين أما ارتفاعها فسيكون لمصلحة اليسار وقد يحمله إلى الحكم بسهولة وهذا الاحتمال هو ما يرعب الأنظمة الرأسمالية الأوروبية فتحاول دائما خفض نسبة المشاركة بشتى الوسائل وفي مقدمتها تقصير فترة الحملة الانتخابية كما فعل ماكرون وجعل مدتها عشرين يوما فقط (وثلاثة أيام لوضع برنامجها للحكم) كما قال ميلونشون اليوم 13.6.2024.

* أما المرشح الرئاسي عن اليمين المتطرف إريك زمور، فقد واصل بث تصريحاته العنصرية، في محاولة منه لكسب تأييد المزيد من المتطرفين في الانتخابات المقبلة. واستهدف زمور هذه المرة المساجد والأذان، في تصريحات على إحدى القنوات الفرنسية، حيث قال: “لا أريد أن أسمع صوت المؤذن في فرنسا ولن أسمعه إذا أصبحت رئيسًا للجمهورية”.

* أما في ألمانيا فقد حصل يمين الوسط أي التحالف المسيحي (المكون من الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي البافاري) على 30% من الأصوات. وحقق حزب اليمين المتطرف سليل النازية "البديل من أجل ألمانيا" على 15.9 في المئة من الأصوات، مسجلا تقدما بنسبة 11% في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019.

* وقد تراجع حزب المستشار شولتس "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" تراجعا كبيرا وحلَّ في المرتبة الثالثة بحصوله على 13.9 في المئة، ليسجل أسوأ أداء في انتخابات ديمقراطية على مستوى ألمانيا منذ أكثر من قرن لتيار يسار الوسط. وحل حزب الخضر اليساري في المرتبة الرابعة بحصوله على 11.9 في المئة متراجعا من 20.5 التي سجلها في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019.

المفاجأة جاءت من تقدم أحد أحزاب اليسار الجديد والذي يسمى "تحالف سارة فاجنكنشت – العقل والعدالة" وهو حزب يساري شعبوي صغير انشق عن حزب اليسار السياسي الألماني (Die Linke) بمبادرة من سارة فاجنكنشت وأميرة محمد علي احتجاجا على تزويد أوكرانيا بالأسلحة. وفقاً لاستطلاعات الرأي المختلفة قبل الانتخابات، نال الحزب ما بين 12 و20 بالمائة (تصل إلى 32% في شرق ألمانيا)، ولكن الحزب حصل على أكثر من ستة في المئة من الأصوات وهي بداية جيدة رغم إنها تقل كثيرا عما أعلن في الاستطلاعات.

* الخلاصة هي أن أوروبا ليست جديدة على اليمين المتطرف وهناك بلدان يحكمهما اليوم اليمين القومي المتطرف كإيطاليا وهنغاريا. وهناك تجربة دموية هائلة لحكم اليمين المتطرف النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا، والخلاصة هي أن أوروبا ليست جديدة على اليمين المتطرف ولا هو جديد عليها غير أن أوروبا العجوز ذاتها تتوفر على تجربة كفاحية ضخمة لليسار والقوى الديموقراطية المناهضة لليمين المتطرف من أحزاب وقوى ديموقراطية جذرية واشتراكية وشيوعية وبيئية "خضراء" يمكنها النهوض والتوحد في مواجهة هذا اليمين الصاعد وإنقاذ أوروبا والعالم من شروره. ومن اللافت أن اليمين الأوروبي المتطرف في أيامنا قد غير من قشرته وتحالفاته حيث نرى تقاربا بل وتحالفا بينه وبين الحركة الصهيونية ودولتها العنصرية التي تمارس الإبادة الجماعية منذ تسعة أشهر بحق الشعب الفلسطيني فيما يحافظ اليسار الجذري الأوروبي وخاصة في فرنسا على مبادئه في الدفاع عن الفلسطينيين ومناهضة العنصرية الصهيونية.

وأخيرا أشار تقرير إحصائي إلى أن مجموعات الحزب الشعبي الأوروبي (يمين) مع الاشتراكيين والديموقراطيين و"تجديد أوروبا" (وسطيون وليبراليون)، مجتمعة، احتفظوا بالغالبية في البرلمان الأوروبي، رغم تقدّم كبير لقوى اليمين المتطرّف، على ما أظهرت تقديرات نشرها البرلمان، الأحد.

ومع 181 مقعداً متوقّعاً للحزب الشعبي الأوروبي، و135 للاشتراكيين والديموقراطيين، و82 لـ "تجديد أوروبا"، تشكّل هذه الأحزاب "الائتلاف الكبير" الذي ستحصل في إطاره التسويات في البرلمان الأوروبي، مع جمعها 398 مقعداً من أصل 720. وهذا يعني أن وصول اليمين المتطرف إلى الرئاسة أو إلى اللجان النيابية المهمة في البرلمان الأوروبي صعب جدا بل وشبه مستحيل في مواجهة هذه الأغلبية من اليسار ويسار الوسط واليمين ويمين الوسط.

***

علاء اللامي

....................

* رابط مقالة بقلم رشيد غويلب للتوثيق: على الرغم من تصدّر اليمين / حزب العمل البلجيكي يواصل نجاحاته

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=832786

 

إن نسيت فلا أنسى اعتراض صاحب سيارة الأجرة، المنطلقة مِن عدن إلى صنعاء(1991)، والعادة تُسجل أسماء المسافرين، خشية السُّقوط مِن الجبال في الوديان، على أحد الرُّكاب وقد كتب «الدُّكتور» فلان. اعترض قائلاً: «يا أخي نحن رُكاب لا محامون ولا دكاترة»! خجل صاحبنا، وترك استخدام (الدّكتور) في غير موقعها، وظل شاكراً ذلك الفضل، وذلك التّعليم، فالحياة مدرسة، والبسطاء المعلمون. ظل صاحب (الدَّال) كلما تذكر الموقف قال: «أدبني فأحسن تأديبي».

كان ذلك مستهلاً للحديث عما نسمع عبر الفضائيات، والجرائد والمجلات، والأكثر في مواقع الإنترنيت، بضجة الألقاب العلمية والأدبيَّة، منها ما يرميه مقدم البرنامج مِن لقب «الدّكتور» و«المفكر»، و«الفيلسوف»، على الضّيف المتحدث، وترى الغالب منهم يلبس اللّقب، وإن كان ليس له حقٌّ به، ومنهم وهم النّدرة النَّادرة يحاول التّصحيح، تحلياً بالموضوعيَّة.

تأخذك الدّهشة عندما تجد لقب مركب «المفكر الفيلسوف»، أو «المفكر الكبير»، و«الخبير الاستراتيجيّ»، و«البروفيسور الدُّكتور»، و«الدُّكتور الشّاعر»، أو «العالم الرّبانيّ»، بما يخص رجال الدّين إلى آخر ما يخدش الآذان مِن ألقاب لأناس ليسوا أهلاً لها. كيف مَن ليس لديه شهادة ثانوية يُضفي عليه لقب الدكتور المفكر، وإذا كان دكتوراً في علم ما، فلا بد أنه يُفكر، وإذا كان مفكراً فلماذا الكبير؟ قد يكون ذلك، لكنها ألقاب علميّة، لا شأن لها في الحياة الاجتماعيَّة، إلا لطلب التّعظيم، بينما عظماء البشر لم يُعرفوا إلا بأسمائهم.

بدأ فيض الألقاب، خارج الاستحقاق، مع ظهور الجرائد والمجلات، فالبرامج الإذاعية والتلفزيونيَّة، مِن قِبل عصبة مِن الأدعياء، أشار إليهم الجواهريّ(ت: 1997)، وهو يتذكر أبا العلاء المعريّ(ت: 449ه): «تَصَّيدُ الجاهَ والألقابَ ناسيةً/ بأنَّ في فكرةٍ قُدسيَّةٍ لقبا»(قف بالمعرة: 1944).

كتب أمين باشا معلوف(ت: 1943) ناقداً فوضى الألقاب: «قلما تذكر مجلاتنا وجرائدنا شخصاً إلا (و) نعته بمثل قوله: العالم العلاّمة، والشَّاعر المجيد، والكاتب المتفنن، والقاضي العادل، والباحث المدقق، وفيلسوف الإسلام، والجهبذ، والألمعي... اقترح اجتناب هذه النُّعوت»(مجلة المقتطف 1911).

كذلك كتب محمد كرد علي(ت: 1953): «شاهدنا ما يُضحك من تحكم أرباب الصُّحف السَّيارة، في الألقاب العلمية، حتَّى آل الأمر ببعض الفضلاء أن يستنكفوا من ذكر أسمائهم بين أناس لا يلحقون غبارهم... وهكذا لفظ الأستاذ والمعلم والفاضل، وهذه اللفظة اليوم تُطلق على تسعة أعشار مَنْ يقرؤون ويكتبون»(مجلة المقتبس 1913).

أصبحت ألقاب: العالم الخبير، والمفكر الكبير، والعلامة، وغيرها سائرة سائدة في الثَّقافة، تعبر عن الهوس في طلب الألقاب، كتب علي جواد الطَّاهر(ت: 1996)، ناصحاً: «في تراثنا لا تخدم الشَّاعر صفة العالم، ولا تخدم العالم والعلامة صفة الشَّاعر... والدكتور لا تخدمك شاعراً...»(الباب الضّيق).

أمَّا الشيخ محمد جواد مغنّية(ت: 1979) فاختص بألقاب أقرانه، التي أخذت تُطلق على كل معتمر العِمامة، قال: «كهذا الشَّيخ الذي كتب بالقلم العريض، على ما جمع وطبع، تصنيف فلك الفقاهة، قلم التحقيق والنَّباهة، شيخ الطَّائفة، قدوة مجتهدي الفرقة المحقة، نائب الإمام، باب الأحكام، غياث المسلمين، حجة الإسلام، آية الله...» (تجارب محمَّد جواد مَغنية).

يحتاج اللّقب إلى صيانة، فوضع (الدَّال) قبل الاسم، لا يرفع الشَّأن، أو تقديم اللقب في التّعارف، لا يكبر حامله به، إذا لم يُصن باستدامة المعرفة.

أقول: رفقاً بالألقاب، فلا أجدها ابتذلت مثلما اليوم. هذا، ولمحمود باشا سامي الباروديّ(ت: 1904) قولٌ عندما جُرد مِن ألقابه وحُكم عليه بالإعدام ثم المؤبد(1883): «مَنَحْتُكَ أَلْقَابَ الْعُلا فَادْعُنِي بِاسْمِي/ فَمَا تَخْفِضُ الأَلْقَابُ حُرّاً وَلا تُسْمِي». تواضعوا، فالعلم عطاء لا باللّقب ثناء، لا الفارابي ولا الكندي ولا داروين ولا ديكارت، ولا بُناة المدن والحواضر، اعتزوا بغير أسمائهم وإنجازهم.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

جاء قانون العطلات الرسمية الذي صوت عليه البرلمان العراقي ( الأربعاء 22 ايار 2024) متضمنا المناسبات الدينية، وحذف مناسبات مهمة ومفصلية في تاريخ العراق والعراقيين، اهمها 14 تموز 1958 ..ذكرى سقوط النظام الملكي وتأسيس الجمهورية العراقية.

ومن جديده، أن البرلمان اقر اعتبار (عيد الغدير) عطلة رسمية .ومع ان امام سلطة الحق هو اكبر من ذلك، فانهم كانوا يعلمون ان اقراره يثير فتنة، ولا يكترثون ان في اقراره مفارقة مخجلة هي ان الأمام علي قال يوم تولى الخلافة " أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي فان خرجت بغيرهما فأنا خائن"..فيما الذين يدّعون انهم احفاده واخلص شيعته صاروا اصحاب ملايين ومليارات وعقارات وشركات!..وافقروا 13 مليون عراقي، باعتراف وزارة التخطيط، معظمهم شيعة!

وكانت حجة البرلمانيين في الغاء (14 تموز) هو الابتعاد عن خلافات جدلية بين (الملكية والجمهورية).. ومع انهم هم انفسهم غير مقتنعين بهذه الحجة غير المنطقية، ويعرفون انها بالضد من مشاعر ملايين العراقيين، فانهم يعرفون ايضا ان الموضوع يتعلق بعبد الكريم قاسم تحديدا..ولأسباب سيكولوجية واخلاقية واعتبارية.. نكشفها في الآتي:

الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ

هذه حقيقة يثبتها تاريخ الثورات والانقلابات في العالم، فما ان يطاح بنظام فان الناس تقارن بين ايجابيات وسلبيات النظامين. وانا هنا لا اتحدث عن النظام الجمهوري الأول والنظام الديمقراطي بعد التغيير(2003) بل بين شخص عبد الكريم قاسم كرئيس وزراء وبين من تولوا الحكم..من حيث القيم والأخلاق وما يفترض أن يقدمه الرجل الأول في الدولة من خدمات للوطن والمواطنين .

لقد تابعت حكومات ما بعد التغيير من (2005) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن حكّام النظام الحالي في العراق لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف. والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوما واحدا استشهد فيه قائد من اجل شعبه..فلماذا؟!

ان اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاقه ونزاهته وخدمته لشعبه..تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع).

نعم. قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكورد عام (61)، واستئثاره بالسلطة، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963).ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات.ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين السياسيين وعودة المنفيين وفي مقدمتهم الملا مصطفى البرزاني الذي استقبله اهل البصرة بالأهازيج..ولكن، حتى أبغض اعدائه، لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية..وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية بالدرجة الاساسية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم)..فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين .فلم يطل لحية وما لبس عمامة.

وبمنطق سيكولوجيا الشخصية فان الأنسان يشعر بالنقص حين يكون الآخر افضل منه في صفة أو اكثر، وتشتد حدّة هذا النقص حين يكون هذا الانسان شخصية عامة او قائدا في السلطة.. ولهذا فأن من تولوا الحكم بعد 2003 يغيضهم جدا، ويشعرهم بالأزدراء حين يقارن العراقيون بينهم وبين عبد الكريم قاسم .فالرجل كان يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته.فهو كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك، ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة.وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات، فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم. وما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية، بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع. ولقد منحه العراقيون لقب(ابو الفقراء)..لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، ومدنا اخرى في البصرة واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، فيما حكّام الخضراء حولوا الوطن خرابا، وافقروا 11 مليون و 400 ألف عراقي بحسب وزير التخطيط في (2020)، وسرقوا 840 مليار دولارا بحسب (بومبيو)، وأن ما فيهم نظيف يد بشهادة مشعان الجبوري :(لا ابو عكال ولا ابو عمامه ولا الافندي ولا لجنة النزاهة..كلنا نبوك من القمة للقاعده) ..ووصف مرجعيتهم الدينية لهم بانهم في الفساد..حيتان !

ولهذا فهم يخشون احياء ذكراه لأن الناس ستعقد مقارنة بين ما صنعه من اعمارفي أربع سنوات وبين ما صنعوه من دمار وخراب في عشرين سنة!، وأخرى تخزيهم في اربعة اضعاف مدة حكمه!. فمعظم الذين جاءوا بعد التغيير كانوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة، وصاروا يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية، وعزلوا انفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها (10) كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى..ولهذا فهم ينؤون عنه..لأن المقارنة ستفضي بالناس الى احتقارهم.والمخجل ان كثيرين منهم صاروا محتقرين شعبيا، وآخرين صاروا سخرية في وسائل التواصل الأجتماعي..ولا يخجلون حتى من هتاف العراقيين (باسم الدين باكونه الحراميه!).

وحكّام الخضراء فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغارا امام فضائل عبد الكريم قاسم..اقبحها أن الفساد في زمنه كان عارا فيما صيّره الطائفيون شطارة، واصبح العراق في زمنهم افسد دولة في المنطقة، حتى بلغ المنهوب من قبل وزراء ومسوؤلين كبار ما يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة!، وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة.

وصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزرارء والوزراء يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم..لا ليقدموا خبرة هم اصلا لا يمتلكونها، بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل اضعاف راتب استاذ جامعي..دكتور وبروفيسور..بلغ الستين!، فيما كان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته..مثال ذلك:ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر(ارشاد)هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب(شؤون اجتماعية)...نزيهة الدليمي(بلديات)..وهي اول وزيرة في تاريخ العراق.واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تأسست في زمنه..الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي..فأجابهم :(عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع)..فيما اعتمد الطائفيون مبدأ الانتماء الى الحزب والطائفة في المواقع المهمة بالدولة وان كان لا يمتلك كفاءة ولا خبرة ولا نزاهة.

وكان العراق في زمانه..دولة، فيما صار بزمن سادة الخضراء دويلات، بل ان كل وزارة في الحكومة هي دويلة لهذا المكون السياسي او ذاك، وما كانت فيه دولة عميقة او ميليشيات.وكان عبد الكريم محبّا للعراق ومنتميا له فقط، ولهذا كانت المواطنة، بوصفها قيمة اخلاقية، شائعة في زمنه بين العراقيين، فيما انهارت بزمن الطائفيين، وصار الناس يعلون الانتماء الى الطائفة والقومية والعشيرة على الانتماء للوطن..وتلك اهم وأخطر قيمة اخلاقية خسرها العراقيون..ولهذا فان الطائفيين يكرهون عبد الكريم قاسم، لأن احياء ذكراه توحّد الناس ضدهم..ولأن الضد الجميل في الأخلاق يبرز الضد القبيح في الأخلاق.

وتبقى حقيقة..أن عبد الكريم قاسم برغم مرور ستين سنة ونيف فانه باق في قلوب العراقيين الذين نسجوا عنه الاساطير، فيما حكّام الخضراء سوف لن يبقى لهم ذكر، ومؤكد ان العراقيين سيلعنون معظمهم بعد مماتهم.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

"إن ما ندعوه التاريخ هو شيء مكتوب من قبل المنتصرين في الحرب، سادة الإمبراطوريات والجنرالات المدمرين للأرض، لصوص الثروة العالمية، مستعملين لذلك عباقرة من المخترعين الكبار في العلوم والتقنيات من أجل بسط هيمنتهم الاقتصادية والعسكرية على العالم"  روجي غارودي

العنوان يحيل بداية، على مؤلف شهير للفيلسوف الفرنسي روجي غارودي، هو "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". وهو مرجع فكري جدير بالتأمل والإحاطة، ومثير للتفكير والتفكر. إذ إنه لاقى طيلة انتشاره الواسع في الفضاء الثقافي الأوربي والعربي، إقبالا منقطع النظير، وتشاكلا مزدوجا، أعاد صياغة "نظرية الإبادة" وجرائم "غرف الغاز" النازية إلى واجهة الأحداث، وما يرتبط بالقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، مع ما يحمل ذلك من دلالات سياسية وحضارية، ترخي بظلالها على السردية الإسرائيلية المتواترة، التي انبنت عليها "عقدة الذنب" و"فرائض التعويض التاريخي" والتباسات كل ذلك، إن على مستوى الكيان الصهيوني أو ما رافق من مشروع استنباته وصيرورته، على حساب الشرعية التاريخية والجغرافية للشعب الفلسطيني المضطهد.

تكاد الرواية التاريخية المستعارة تتكرر. وإن بألوان وألبسة جديدة. تتلحف بأغطية وزركشات إعلامية متحلقة. وتزدهي بفواخير استعلائية، تستوقد حضورها الدلالي من التخوم المستوردة للآليات الإعلامية المتحولة، وبإسقاطاتها الأيديولوجية والجيواسراتيجية المتساوقة والنظام الدولي الجديد . فالأساطير السياسية لإسرائيل الصهيونية، التي تؤسس لمزاعمها التاريخية بتحريف الحقائق التاريخية وتحميلها ما لا يحتمل، هي نفسها الأساطير التي تؤسس وجودها الاحتلالي من "البروبجندا" كدعاية منهوبة، تستعيض بها عن التأريخ الواعي بالأحداث وتوثيقها، باغتصاب العقل المفكر وتأليب الندوب المتوهمة، وتغيير السردية وإعادة تحويرها وإنتاجها بالشكل المتعسف.

وبمنظور آخر، فالدعاية هنا، تعني التأسيس المتعمد لما يمكن تسميته ب "السرد المعرفي على حساب أجندات سياسية"، والتي تنال من "الحقيقة التاريخية الموثوقة"، وتهدم مرتكز الموضوعية والدقة بمطية تقديم "التبريرات ومنح الشرعية لأية أفعال عدوانية ضد المخالفين في الرأي والعقيدة والجنس والقومية"، تحت غطاء التقية (الإرادة الإلهية) و(شعب الله المختار).

استأثرت الدعاية الإسرائيلية بمفهومها التاريخي السياسي والأيديولوجي، بالدوافع المستقاة من السرديات المحرفة ومنافذها الدينية والاعتقادية الهجينة. وظلت تحجب الفواعل الرئيسية المنظمة لحضورها الملغوم، طيلة عقود خلت، تحت الحماية الغربية، وما تشكله من حوافز مالية وعسكرية وتكنولوجية عالية. لكنها، لم تكن لتتعزز بالمقدار نفسه، بالرؤى الثقافية والفكرية والقيمية الأخلاقية، حتى من أقرب منظري الفلسفة الأنوارية، وما استتبعها من  قيم الديمقراطية المزعومة. ولا أدل على ذلك، أن كبار عباقرة النهضة في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، ظلوا مشدودين لسردية "التاريخ الموثوق" و"الحق الفلسطيني المستلب". يكفي أن نذكر، فقط ببعض الأصوات الفكرية الحرة في هذا الصدد: المفكرون الفرنسيون إدغار موران و فرانسوا بورغا وأوليفييه روا وآلان غريش. والكتاب الإيطاليون الإيطاليان فرانتشيسكو بورغونوفو ودافيدي بيكاردو ورومانا روبيو  والمستعربة البلغارية مايا تسينوفا، والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي ومواطنه من أصل إيراني حميد دباشي، وجوزيف مسعد، والمؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم ومواطنه شلوموساند والسويدي يوران بورين، وكيت وايتلام، وإيلان بابيه، والأكاديمي الأمريكي جيفري ساكس، وأوفير جافرا ... وغيرهم كثير.

وبهكذا قدر من التأويلية المستبطنة، تسترفد البروبجندا الصهيونية محترفاتها المدورة، من الراهنية الحربية، التي تجعل من الحرب على غزة والضفة الغربية، واجبا توراثيا مقدسا، يعيد تصحيح مسار الزعم المصطنع للسلام ومتقابلاته "أوسلو" "وادي عربة" واتفاقية ابراهام"، ويؤبد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على أساس الحق الموهوم القائم على بناء الهيكل الثاني، أو (بيت همقداش) بالمصطلح العبري، واستعادة كل الأرض الموعودة، وفقا للرواية الإسرائيلية التي تقول، "أن خيمة الاجتماع "قبة الزمان" كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيئهم بيت المقدس، وأنها مسكن الرب، وقد كانت مع بني إسرائيل في التيه، يصلون إليها، وهي قبلتهم، وأن يوشع بن نون لما دخل بيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى ملحقها، وهي الصخرة. ويرون أن أرض المسجد الأقصى هي أرض الهيكل وأن مسجد الصخرة هو: مكان قدس الأقداس، داخل الهيكل (هيكل سليمان في عقيدة اليهود، ص334).

على أن استيقاظ "البروبجندا" ضمن أنساقها الثاوية، عند الصهاينة الجدد، أشاحت بوجهها الحقيقي، تجاه المنظومة الدولية المغلولة بفيتوهات الغرب المنافق، الذي يرفض مقايضة الحسم في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، على أساس الأخلاق والشرائع والقوانين الدولية المتفق عليها. وهو ما أكدته الوقائع الحالية، التي تكرس الكيل بمكاييل ورفض الإدانة وتوقيف المجازر الإسرائيلية تجاه سكان غزة واستعمال التعطيش والتجويع كأدوات للضغط والتهجير القسري والقتل الممنهج والاختطاف والتعذيب ..إلخ.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

جامعة كولومبيا: الإرث المعرفي والنضالي لإدوارد سعيد (1935 – 2003) الغائب / الحاضر وأثره في ذلك.

تشهد العديد من الجامعات الأمريكية حراكا طلابيا كثيفا إلتحقت به العديد من الجامعات في فرنسا وإنجلترا وألمانيا مساندا للقضية الفلسطينية ومطالبا بإنهاء الحرب / الإبادة الجماعية التي ترتكب في قطاع غزة، منذ ما يزيد عن السبعة أشهر. هذا الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية يذكرنا بآنتفاضة الطلبة ضد حرب الفيتنام أواسط الخمسينات وأواسط السبعينات. صحيح أن الظرفية التاريخية للحدثين: الحدث الفيتنامي والحدث الغزاوي مختلفتين وإن كان هناك جامعا بينهما فهو النزعة الإحتلالية الإستعمارية بوجهيها الغربي والصهيوني. قد يتساءل البعض عن سبب إنطلاق الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية من جامعة كولومبيا بالتحديد؟

1 – الإرث النضالي والمعرفي لإدوارد سعيد:

كان إ. سعيد ذو الأصل الفلسطيني أستاذا جامعيا للنقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، إلا أنه أدرك أهمية المباحث الفكرية والمعرفية التي كان يرى لها تأثيرا كبيرا في بنية الوعي الغربي،فعمل على بذر بذرة المعرفة والنضال الملتزم بقضايا الحق والعدل في تلك المؤسسة الجامعية. فكان من الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الإستعمارية ( ما بعد الكولونيالية) ومدافعا عن حقوق الإنسان الفلسطيني وقد وصفه " روبرت فيسك " بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية. (1) لقد لمع نجم إدوارد سعيد بعد نشره كتابه المهم " الإستشراق " عام 1978 الذي شن فيه حملة شديدة على الإستشراق بآعتباره مؤسسة إستعمارية وأسلوبا غربيا للسيطرة على الشرق ورأى أن أغلب الدراسات الغربية عن الحضارة العربية الإسلامية إرتبطت بالفكر السياسي المحكوم بخلفية التفوق العرقي الأوروبي ولم تكن دراسات موضوعية. لقد كان لإدوارد سعيد نشاط سياسي، فقد كان عضوا بالمجلس الوطني الفلسطيني وإستقال منه إحتجاجا على إتفاقية أوسلو التي كان رافضا لها. لقد ثمنت مجلة فورين بوليسي الأمريكية ما يقوم به سعيد حين ذكرت قولته الشهيرة: " لم يعد اليوم إنتصار الصهيونية شبه التام من الأمور المسلم بها. " (2) إن ما تشهده جامعة كولومبيا قاطرة الحراك الطلابي المساند للحق الفلسطيني وما يشهده الوعي الطلابي والسياسي عامة من تحولات دراماتيكية، يعود الفضل فيه بدرجة كبيرة إلى الإرث الذي تركه إدوارد سعيد. في كتابه " الإستشراق " حفر إ.سعيد عميقا في بنية الخطاب الغربي حول الشرق ليكشف التمثلات التي غرقت فيها تلك الكتابات. إنها خلق جديد للآخر وإعادة إنتاج له وتسليط أحكام قبلية عليه بعيدا عن كل مقاييس علمية في التعاطي معه .يقول سعيد: " إن بنية الإستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا ما إنقشعت الحقيقة المتعلقة بها " (3). هذه البنية تخفي قوة أو إرادة قوة بالمعنى النيتشوي ومن بين مراميها طمس موضوع الواقع وإعادة إنتاجه إنتاجا تثوي فيه السلطة وتتخفى المؤسسة. (4) بعد أن كشف إدوارد سعيد الخلفية الإستعمارية للإستشراق ونزعته للهيمنة وسرقة التاريخ والثروات من أصحابها، إستشعر اللوبي الصهيوني خطورة ما يطرحه هذا المفكر الفلسطيني فعمل على تدمير الأساس الثقافي والحضاري للوجود العربي في فلسطين بالتشكيك في الطاقات الإبداعية للشعب الفلسطيني فوجدت في إدوارد سعيد الشخص المناسب لمحاصرته عبر التشكيك في هويته الفلسطينية، فقد نشر مراسل صحيفة " الديلي تلغراف " البريطانية جستس رايد فاينر مقالا إعتبر فيه أن إدوارد سعيد مصري وأن عائلته كانت تقيم في القاهرة وأنه مصري وليس فلسطينيا، ثم أعادت صحيفة " كومنتري " التي يصدرها اليهود اليمنيون نشر المقال إمعانا في التضليل وضربا لرمزية الرجل وقيمته الإعتبارية(5). إن خطاب إدوارد سعيد كما يصفه نصر حامد أبو زيد يمثل، في بنية الخطاب الغربي وخصوصا الأمريكي منه، خطاب الوعي الضدي لنسق الخطاب المهيمن، فقد كشف عوراته وأبان له عن مساوئه وجرائمه(6). كان إدوارد سعيد قد إتخذ مواقف عميقة من العالم ومن نظم تفكيره بدءا من الهيمنة الثقافية التاريخية ووصولا إلى الإستبداد في العالم العربي ولم يتسامح معهما وإنتقدهما بكل وسيلة وقد جسد ذلك من خلال زيارته لجنوب لبنان بعد تحريره سنة 2000، يتحدث عنها محمود درويش، يقول: " زار إدوارد سعيد جنوب لبنان ورمى حجرا عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية بآتجاه إسرائيل فثارت ثائرة الدوائر الإسرائيلية في العالم وتم نعته بأنه متعاطف مع الإرهاب. "(7) يقول إدوارد سعيد عن تلك الحادثة أنه لما عاد من لبنان إلى أمريكا- جامعة كولومبيا حيث يدرس، كانت هناك في العدد الأول من جريدة الجامعة المسماة " سبكتيتر " ثلاث مقالات على صفحة المحرر منها مقالة كتبها زميلان لي يطالبان فيها بفصلي من الجامعة، والفكرة الرئيسة من الحملة ومن رسائل الكراهية التي تلقيتها على الأنترنت والإتصالات التليفونية كانت إبعاد الإنتباه عما حدث في لبنان، كان التحدث عن الصورة أسهل من التحدث عن ثمانية آلاف إنسان عذبوا في سجن الخيام. (8)

2 – في علاقة الإستشراق بالصهيونية:

بعد أن فكك إدوارد سعيد بنية الإستشراق من خلال تحليل الخطاب والخلفية النظرية التي يعتمدها في دراسة المجتمعات العربية والإسلامية تاريخا وثقافة، عمد إلى البحث عن التماثلات بينه وبين الصهيونية، وقد بين أن الثانية أي الصهيونية تتغذى من الأول لتبني سلسلة من الأكاذيب والأساطير تؤثث بها سرديتها المزعومة حول فلسطين وتوظف " محنة اليهود " لتصوغ مظلومية كاذبة خاطئة تفرضها على الوعي الغربي وتعمل على أن تكون لها مقبولية ثم تعمد إلى تسييج ذلك الوعي برسم خطوط حمراء: الهولوكوست - المحرقة ومعاداة السامية، تجسدها نصوص قانونية تعج بها المدونة التشريعية في البلدان الغربية. يعتبر تيسير أبو عودة أن الإستشراق الصهيوني إمتداد للإستشراق الأوروبي وشكل جوهراني لخطاب التفوق الأوروبي والعولمة الرأسمالية والحداثة العلمية. ويعرف تيسير أبو عودة الإستشراق الصهيوني بأنه الخطاب السياسي والمعرفي والإيديولوجي الممنهج والمؤسساتي لدولة إسرائيل الإستعمارية والإستيطانية الذي يختزل الفلسطيني والعرب بآعتبارهم بشرا متوحشين بربريين جهلة، قتلة وإرهابيين وذلك من خلال تأصيل سرديتين مركزيتين: الأولى فلسطين أرض بلا شعب، صحراوية جرداء قاحلة، الثانية فلسطين قبل 1948 أرض بلا تاريخ ثقافي أو تعليمي، علمي (9) لم تكن الصهيونية غائبة يوما عن الإستشراق قديمه وحديثه فقد إستطاع المستشرقون الصهاينة أن يكيفوا أنفسهم ليصبحوا عنصرا أساسيا في إطار الحركة الإستشراقية الأوروبية، فقد دخلوا الميدان بوصفهم الأوروبي لا بوصفهم الديني أو السياسي .(10) ويضيف أوليفييه مووس خاصية أخرى للإستشراق الصهيوني يقول: " الإستشراق الجديد ليس في الغالب عمل مختصين أكاديميين وإنما يشارك في صياغة خطابه الصحفيون والكتاب والباحثون والخبراء والمدونون والناشطون في الحقول الفكرية والإعلامية وحقول الدراسات الأمنية. " (11) إرتبط المستشرقون اليهود بالحركة الصهيونية بعد إنطلاقها عام 1881، وقد تزامن ذلك مع بروز المسيحيين الصهيونيين إلى المشهد وإنتعاش أفكارهم التوراتية المخلوطة بمصالح سياسية في الشرق الأوسط. فوظفوا " معارفهم " لخدمة الحركة الصهيونية وتأصيل الوجود اليهودي في فلسطين، ثم عمل بعد 1948 على دراسة قضايا الصراع العربي الصهيوني بهدف تقديم العون للقيادة الصهيونية في إدارتها للصراع. إستمر الإلتقاء بين الإستشراق الأوروبي والصهيوني بعد نهاية " الإستعمار "،في شيطنة الإسلام وآعتباره عدوا مشتركا، فليس من الغريب أن رموزا إستشراقية وناشطين في حركة الإستشراق قديما وحديثا كانوا صهاينة، يقول إدوارد سعيد: " إستمدت الصهيونية نظرتها للعرب من المفاهيم الإستشراقية ومن ثم طورتها إستنادا إلى نظرتها العنصرية ." (12) هناك قاسم فكري مشترك بين الإستشراق والصهيونية قائم على النظرة الإستعلائية العنصرية مع إدعاء النقاء والتفوق العرقي والحضاري، وبالتالي فإن الإيديولوجيا الإستعمارية الغربية المبنية على مفاهيم الإستشراق تعد أحد أهم المصادر للإيديولوجيا الصهيونية. (13)

3 – طوفان الأقصى ونسف السرديات الزائفة: الحراك الطلابي نموذجا:

مازالت إرتدادات طوفان الأقصى تتالى وقد لامست العديد من المجالات والجوانب. يمتلك طوفان الأقصى قدرة عجيبة على نزع الأقنعة وكشف الحقائق التي عملت لوبيات المال والإعلام والسياسة على إخفائها والتستر عليها خدمة للمشروع الصهيوني في المنطقة العربية. كما كان حافزا محركا لمراجعة مفاهيم إستقرت حتى غدت " بديهيات " سكنت الوعي الغربي. إنه حدث فارق في تاريخ الإنسانية دفع بالمؤرخين والمفكرين وعلماء الإجتماع والفلسفة إلى التسلح بالعدة المعرفية اللازمة لتفكيك الحدث في مختلف أبعاده وإلى الحفر أركيولوجيا في التاريخ والتصورات بغرض الكشف عن مسار التشكل والحيثيات المرافقة لآستقرار تلك السردية وحمولتها المفاهيمية الملازمة لها. طوفان الأقصى يختزل إرتدادا لكل أطوار التاريخ التي علقت بفلسطين ليفتح أحاسيسنا على بهاء البدايات ونقائها، لكأن الحدث في جوهره صراع مع ذاكرة قد ملئت أكاذيب وإفتراءات بغرض الرجوع بها إلى الزمن السحيق حتى يتم للمستضعفين الذين آغتصبت أرضهم، لذة التفرد بحقهم المسلوب ومتعة التملك لتاريخهم نقيا بكرا لم يدنسه أحد. حدث طوفان الأقصى في تفاعله مع محيطه أعاد للقضية الفلسطينية مركزيتها بآعتبارها قضية تحرر وطني من إستعمار إستيطاني، ومع المؤثرات الخارجية التي تجلت في حركة الشعوب في مختلف أرجاء العالم المؤيدة للحق الفلسطيني ولحق الفلسطينيين المشروع فى المقاومة لإسترداد حقوقهم وكان الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية والفرنسية والبريطانية في أنصع صوره حيث الضمير الإنساني النقي تنتفض فطرته السليمة دفاعا عن حرية الشعوب في تقرير مصيرها وضد كل أشكال الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. لقد إكتشف الطلبة في كبرى الجامعات الأمريكية الأخطبوط الذي نسجته الصهيونية عبر شبكة علاقاتها ونفوذها مع الجامعات الغربية وعملت على توظيف المعارف الأكاديمية في شتى الإختصاصات لصالح مشروعها ولاسيما في الجوانب التقنية والعسكرية، إنها الإفاقة على أوجاع التاريخ العاصف حيث يجد الطلبة والإطار التدريسي في تلك الجامعات ذات الصيت الكبير، أنهم متلاعب بهم وأن قدسية المعرفة قد تم تدنيسها لخدمة مشاريع سياسية ملطخة بدماء الأبرياء، تهدف إلى تهجير قسري لشعب من أرضه، و إلى إذلاله وسرقة تاريخه وثرواته. لقد إكتشفت الشعوب الغربية ولاسيما طلبتها ونخبها أنهم كانوا ضحية تضليل إعلامي وتزييف للوعي قائم على نشر الأكاذيب والأساطير الواهية، بغرض تغييبهم عن مأساة الشعب الفلسطيني الذي ظل يرزح تحت نير إحتلال إستيطاني منذ ما يزيد عن سبعة عقود بتواطئ دولي غير مسبوق وخذلان عربي وإسلامي مقيت. سيظل طوفان الأقصى حدثا فارقا يضع الضمير الإنساني أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية، يتحول الحدث شاهدا على عصره، يحتكم إليه في أمهات القضايا ويستنطق ليكشف الرهانات المنذور إليها وليرسم الإستراتيجيات التي يرام تحقيقها.لم تعد شعارات " حق إسرائيل في الوجود " و" ضرب الإرهاب الفلسطيني " و" معاداة السامية " ... تستهوي الرأي العام في الغرب وخاصة الشباب منه. لقد حلت محلها شعارات " الفصل العنصري " و" التطهير العرقي " و" الإبادة الجماعية " و" الحرية لفلسطين " تكتسح أوساط الشباب الطلابي في الجامعات الأمريكية، وهو ما حدا بالصحفي توماس فريدمان الكاتب اليهودي في صحيفة نيويورك تايمز ليطلق قبل شهور تحذيرا للقيادة الإسرائيلية من تبعات الإستمرار في تبني سياسات يمينية ترفض بمقتضاها حل الدولتين وشدد فريدمان على أن إسرائيل بدأت تخسر الرأي العام ولاسيما في أوساط طلاب الجامعات الأمريكية مستشهدا بمقاومة الإتحادات في أغلب تلك الجامعات ورفضها إستضافة مسؤولين إسرائيليين رسميين للحديث داخل أدوارها.(14).

الخاتمة:

إن طوفان الأقصى كشف للعالم أن قطعة الأرض الوحيدة المحررة وتمتلك قرارها السيادي هي غزة وأن بقية العالم يعاني بشكل ما نقصا – يكبر ويصغر- في سيادته. لقد أتاح طوفان الأقصى للنظريات ما بعد الكولونيالية – والتي كان لإدوارد سعيد دور في تأسيسها داخل جامعة كولومبيا- أبعادا جديدة ووسع من أفقها، حيث أبان على أن أكثر من ثلثي العالم مازال يرزح تحت إحتلال من نوع جديد قائم على التحكم في مفاصل العمل السياسي والإعلامي والإقتصادي والأكاديمي والثقافي ( السينما – هوليود)، عبر فكر صهيوني يبث سمومه في كل مكان عبر ذراع " الهسبراه " (الشرح والتفسير) (15)، لتخضع سيادة الدول لرغباته ونزواته خدمة لدولة الإحتلال.ذاك ما يعطي للحراك الطلابي في مختلف أرجاء العالم ألقه وعنفوانه ويبشر بتحولات كبيرة تصيب بنية الوعي الغربي وتزلزل مفاهيمه وتصوراته. يقول تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " (سورة الفرقان / الآية23).

***

بقلم : رمضان بن رمضان

......................

الهوامش والتعليقات:

1 – موقع ويكيبيديا

2 – موقع: almayadeen.net بتاريخ 16 كانون الثاني 2023 .

3 – إدوارد سعيد، الإستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، ط 2، بيروت 1984، ص 41 .

4 – آنظر سالم يفوت، حفريات الإستشراق، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، المغرب 1989، ص 8 .

5 – إدوارد سعيد، " الإفتراء على الطريقة الصهيونية " جريدة أخبار الأدب عدد 320، 29 أوت 1999 .

6 – رمضان بن رمضان، " المثقف العربي والمركزية الأوروبية: محمد أركون وإدوارد سعيد نموذجين " صحيفة المثقف بتاريخ 06 كانون الأول/ ديسمبر 2023.

7– محمود درويش، " إدوارد سعيد في صورة المثقف من نقد الإستشراق إلى إزدراء الإستبداد " مقال أعيد نشره في موقع العرب، بتاريخ 09 فيفري 2014 .

8 – حوار قديم تناول النكبة والإحتلال والإعلام الغربي وتحرير الجنوب: إدوارد سعيد...عن ذلك الحجر الشهير عند بوابة فاطمة، محمد ناصر الدين، جريدة الأخبار اللبنانية، أعيد نشره السبت 4 تشرين الثاني 2023

9 – تيسير أبو عودة، " الإستشراق صهيونيا "، موقع فسحة عرب 48، بتاريخ 15 – 10 – 2021.

10 – عمود حمدي زقزوق، الإستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، دار المعارف، مصر،د.ت ص 52.

11 – أوليفييه مووس، تيار الإستشراق الجديد ...من الشرق الشيوعي إلى الشرق الإسلامي،صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية، مكتبة الإسكندرية مصر، سنة 2010، ضمن سلسلة " مراصد "، ص 5 .

12 – إدوارد سعيد، الإستشراق، ص 56

13 – مي عباس، " الإستشراق الصهيوني الجديد ومدد الإسلاموفوبيا، " مجلة البيان الرقمية، عدد 368، بتاريخ 20 ديسمبر 2017.

14- آنظر، محمد المنشاوي، هل تخسر إسرائيل تأييد الشباب الأمريكي؟، موقع الجزيرة نت بتاريخ 13 أكتوبر 2023 .

15 – الهسبرة أو هاسبارا (Hasbara): كلمة عبرية تعني " الشرح والتفسير " وهي مؤسسة في العلاقات العامة تعمل على نشر المعلومات الإيجابية في الخارج والدعاية لدولة الكيان المحتل هي نوع من البروباقاندا تأسست منذ ما يزيد عن أربعين عاما، لقد طور الكيان الغاصب أساليبه في تحسين صورته ببذل المزيد من الأموال والتدريبات التي تستهدف الدبلوماسيين للعمل على تسويق نفسه للخارج وإعادة إنتاج الروايات التي تدعم موقفه وإستغلال اللاسامية وتعزيز الإسلاموفوبيا.

حفل القرن العشرين بالكثير من الأحداث الجسيمة والحروب والصراعات على امتداد المعمورة، إنه عصر التطرُّفات، كما يصفه المؤرخ البريطاني المعاصر ذو التوجه الماركسي إريك هوبزباوم الذي غادر الحياة عام 2010، فيما كان قد أطلق أوصافاً عديدة على القرن التاسع عشر الذي خصص له ثلاثية سماه فيها بعصر الثورة، وعصر رأس المال، وعصر الإمبراطورية، على التوالي، وبحسب الأحداث الكبرى التي شهدها ذلك القرن بمختلف عقوده.

في كتابه “عصر التطرُّفات” يُقَسِم هوبزباوم التاريخ الوجيز للقرن العشرين من العام 1914 ولغاية العام 1991 إلى: عصر الكارثة، والعصر الذهبي، وعصر الإنهيار. ثم يتحدث في تصديره للطبعة العربية عن عصر التطرُّفات في العالمين العربي والإسلامي، مؤكداً بأن القرن العشرين هو العصر الأكثر خروجاً عن المألوف في تاريخ البشرية، وبأن الشرق الأوسط أصبح، وسيظل منطقة عدم استقرار على الصعيد العالمي، لا يمكن السيطرة عليه من جانب أي من القوى المحلية، أو الخارجية. وحتى قبل غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، فإن المنطقة عاشت ستة حروب، فضلاً عن اندلاع الثورات والصراعات والحروب الأهلية. وعندما وضع كتابه هذا فقد استنتج في تحليله لتاريخ العالم الثالث بأن نهاية الحرب الباردة قد تركت منطقة الشرق الأوسط أكثر قابلية للانفجار من أي وقت مضى. وقد تحققت بالفعل هذه الرؤية التي كانت مستقبلية في وقتها، مع غزو العراق بدايات الألفية الثالثة، وحرب اليمن، وثورات ما سمي بالربيع العربي في تونس وليبيا ومصر، والحرب في سوريا، وظهور الحركات الإسلامية المتطرفة، والحرب على القاعدة وداعش من بعدها، ثم أخيراً وليس آخراً حرب الإبادة الجماعية الاجرامية الصهيونية على غزة التي ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات بسبب النزعة العدوانية للكيان الصهيوني وقادته الرافضين لأي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.

لقد أنجز هوبزباوم الذي يُعد من أبرز المؤرخين الأكاديميين حيث كان يلقي محاضراته على طلبة جامعات عالمية كبرى في فيينا وبرلين وكامبردج، فضلاً عن عضويته في الأكاديمية البريطانية والأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، موسوعة متكاملة لتاريخ العالم المعاصر، من عصر الثورة، وعصر رأس المال، وعصر الإمبراطورية، ثم اكملها بعصر التطرُّفات “ القرن العشرين “ الذي بدأ فعلياً كما يرى بنشوب “ الحرب العالمية الأولى عام 1914، ثم ثورة أكتوبر الروسية البلشفية عام 1917، وانتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الوسطى عام 1991، وتخللته الحربان العالميتان، وانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وحروب الاستقلال والتحرر الوطني، ثم الحرب الباردة التي أعقبتها مرحلة الهيمنة الأميركية والصراعات الإقليمية والثورة المعلوماتية”. ولعل أبرز ما يخصنا نحن العرب في رؤية هوبزباوم للتاريخ تلك المقدمة التي تناول فيها تداعيات القرن العشرين وتأثيراتها في العالمين العربي والإسلامي والتي اختتمها بالتأكيد على حقيقة مهمة للغاية يبرهن فيها على” أن مشكلات الشرق الأوسط لا يمكن حلها أو السيطرة عليها حتى من جانب أغنى القوى العسكرية وأكثرها سطوة في أيامنا هذه “ ليتوصل إلى أن مشكلات المنطقة إذا قُدر لها أن تُحَل: فإن ذلك لن يتم على أيدي قوى خارجية، بل عن طريق قوى داخلية في المنطقة، ويقصد بذلك الغزو الأميركي للعراق الذي ينبغي على مؤرخي المستقبل أن يعدوه مؤشراً على بداية النهاية لاستئثار الولايات المتحدة وحدها بالهيمنة على العالم بحسب رأيه.

يستعير هوبزباوم من الشاعر البريطاني الشهير إليوت مقولته: “سينتهي العالَم لا بضجة مدويّة، بل بنشيج “ ويضيف لها : غير أن القرن العشرين الوجيز انتهى بكليهما!.

ان كان القرن الماضي انتهى بضجة ونشيج على طريقة الشاعر إليوت صاحب قصيدة “ الأرض اليباب “ أو “ الأرض الخراب “، فبماذا سينتهي قرننا الحالي الذي بدأ بضجة وحروب ونزوح وتشريد ودماء، وأي بيت من قصيدة يصلح لعصر المفخخات ؟! .

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

أهمية العيد الوطني، ونحن نتحدث هنا عن تحرير العراق من نير الاستعمار بثورة 14 تموز 1958، الخالدة ومطالبة الدولة الاعتراف به كرمز للهوية ومشاعر الانتماء لأرض العراق.

 الهوية الوطنية من ناحية المبدأ، هي الركيزة الأساسية التي تجمع أبناء الوطن تحت راية واحدة وتوحد جهودهم لبناء مستقبل مشرق. من هذا المنطلق فإن "اليوم الوطني" محور مهم للتعبير عن هذه الهوية في بلادنا. إذ يمثل تجسيد للسلام والتآخي بين مختلف الفئات من أبناء مجتمعاتنا وتاريخنا الوطني العراقي وانتمائنا العميق لهذه الأرض، عراق الرافدين. إن الاعتراف بالعيد الوطني ليس مجرد احتفال سنوي، بل هو اعتراف بقيمة هذه الهوية وأهمية الحفاظ عليها.

 تاريخ العراق مليء بالتضحيات والإنجازات التي تستحق أن تخلد في ذاكرة الأجيال القادمة. إن إحياء ذكرى هذه الأحداث من خلال "اليوم الوطني" يعزز الشعور بالانتماء والفخر الوطني، ويغرس في نفوس الأجيال الشابة قيم الولاء والتضحية من أجل الوطن. كما يعد فرصة سانحة لتعزيز الوحدة الوطنية وتقوية أواصر التلاحم بين أبناء الشعب بمختلف أطيافهم وقومياتهم المتآخية.

 لقد شكل يوم 14 تموز محطة فارقة في تاريخ وطننا، حيث شهد أحداثا جسيمة ونضالات بطولية سطرها أبناء الوطن على مدى أجيال بدمائهم وتضحياتهم. إنه ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو رمز للصمود والكفاح من أجل الحرية والكرامة الوطنية. إن تجاهل هذا اليوم وعدم الاعتراف به كعيد وطني يعتبر طمسا لهذه الذكريات المجيدة وتهميشا لتضحيات أبناء الوطن من مختلف القوميات والأديان...

إن إصرار مؤسسات الدولة "التشريعية والتنفيذية والقضائية" منذ سقوط النظام السابق على تجاهل وعدم الاعتراف بيوم 14 تموز عيدا وطنيا رغم ما يحمله من رمزية تاريخية ووطنية عميقة، أثار استياء جميع أبناء الوطن الغيورين على تاريخهم وهويتهم الوطنية، كما يعكس تقصيرا واضحا في مسؤوليتها تجاه الشعب والتاريخ.

 من هذا المنطلق، على الدولة الاعتراف الرسمي "باليوم الوطني" وتكريسه كحدث وطني رئيس يحتفل به على مستوى البلاد. وأن تتبنى برامج وأنشطة ومبادرات تشارك فيها مختلف فئات المجتمع تتضمن الفعاليات الثقافية والتربوية التي تعزز الشعور بالانتماء وتشجع على التفكير النقدي حول القضايا الوطنية الراهنة والمستقبلية وتسلط الضوء على تاريخنا المشرف ورموزنا الوطنية لتعريف المواطنين، خاصة الشباب، بتاريخ وطنهم وأهمية هذا العيد في ترسيخ الهوية الوطنية... إن الاعتراف بالعيد الوطني ليس مجرد مطلب شعبي، بل هو ضرورة ملحة لتعزيز الهوية الوطنية وترسيخ قيم الانتماء والولاء للوطن. كما أن الاحتفال به كل عام في يوم 14 تموز بشكل رسمي يبعث برسالة قوية إلى العالم عن وحدتنا وصلابة كياننا الوطني.

 السؤال الذي لا زال عالقا ويقتضي الإجابة عليه: لماذا لا تطرح العديد من القضايا الوطنية على الشعب وإجراء استفتاء عام عليها... ان كان ذلك غير ممكن بسبب طبيعة النظام وتسلط أسرة الحكم على مقاليد الدولة، فلا سبيل الا ان ننتظر متى تستيقظ "الأغلبية الصامتة" لتتحمل مسؤولية تحقيق، وطنا، فخورا بتاريخه وهويته.. إلا أن الإنتظار لم تعد له أية قيمة وإعتبار مرجو لهذه الطبقة النائمة على رمال.

 في الختام، إننا نأمل أن تستجيب الدولة على على تعزيز حضور هذا العيد في الوجدان الوطني، ليظل رمزا خالدا لهويتنا وانتمائنا، أسوة بما تفعله كل دول العالم في تكريم تاريخها وتضحيات شعوبها؟.

***

عصام الياسري

الصراع العالمي القديم يدخل في شوطه الأخير قبل تهيئة الملعب لمباريات ما قبل النهائي!

الأحداث كما يمكن أن يلاحظها أي مراقب مهتم تتسارع بشكل لا يُصدق! وتكاد كل المؤشرات تجتمع على أن قادم الأيام يحمل معه مفاجآت ومخاوف أكثر من قدرتنا على الاستيعاب والمتابعة، وهلم بنا نتتبع شيئاً من مفارقات هذا الشوط الأخير المثير للقلق والخوف.

تهديدات ترامب

مع اقتراب الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم يتهيأ الحزبان الديمقراطي والجمهوري شاحذين كل أسلحتهما للفوز بالرئاسة، وتزداد محاولات استبعاد ترامب من خلال القضايا المثارة ضده في المحاكم، واستطاع الديمقراطيون استمالة محامي ترامب في صفهم إذ خرج معترفاً ضده في إحدى القضايا الأخلاقية. غير أن ترامب لم يستسلم، بل ظهر مراراً في مؤتمرات جماهيرية يهدد بالأسوأ إذا تم استبعاده من الانتخابات المقبلة، ثم إن مستشاري ترامب السابقين سارعوا إلى نتنياهو دعماً له في أزمته الحالية؛ رغبة في كسب تأييد اللوبي الصهيوني في أمريكا وهو أحد اللوبيات الأشد تأثيراً في الانتخابات.

 مثل هذه التهديدات تنذر بمعركة انتخابية لم يسبق لها مثيل بسبب الانقسامات الشديدة حتى داخل الحزب الواحد؛ وقد شهد البيت الأبيض عدة استقالات بسبب موقفه من الحرب في غزة، بخلاف شعبية بايدن التي تدنت لأقل مستوي لها بعد فض اعتصامات الطلاب في الجامعات الأمريكية.

أزمة كريم خان

ما حدث من ضغوط وتهديدات ضد المحكمة الجنائية الدولية قبيل إصدارها مذكرة الاعتقال الخطيرة ضد نتنياهو وجالانت أمر غريب واستثنائي وله ما بعده..

 المحامي البريطاني ذو الأصول الباكستانية كريم خان أظهر ما كان خفياً من تلاعب وضغوط تعرض لها قضاة المحكمة الجنائية منعاً لها من إصدار أية أحكام ضد إسرائيل. التهديدات التي واجهها كريم خان دفعته للاحتماء بقوة الإعلام، فخرج في العلن وعلى الشاشات ليصرح بما تعرض له من تهديدات وضغوط بلا مواربة ولا خوف.

 تصريحات كريم خان لم تمنع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من استمرارهما في تهديده وقضاة المحكمة الآخرين. وبدأ حلفاء واشنطن الأوربيون يخرجون عن صمتهم داعين أمريكا لعدم تهديد مؤسسات القضاء الدولية، وإلا فقدت هذه المؤسسات مصداقيتها، وبالتالي ستفقد تأثيرها عالمياً.

الولايات المتحدة لم تعد تعتد بأي طرف، ولم تعبأ بأحد عندما استخدمت حق الفيتو مراراً ضد قرار بوقف إطلاق النار في غزة. وسوف تعيد إشهار هذا الحق عندما يأتيها قرار محكمة العدل الدولية.

 كل هذا ينذر بأن تلك المنظمات الدولية لن يكون لها أي دور مستقبلاً إذا احتدم الصراع وازداد بين القوي الكبرى، وهذا اليوم يبدو الآن أقرب كثيراً مما نتصور.

مؤامرات واغتيالات

كما جاءت بدايات الحرب العالمية الثانية بسلسلة من الاغتيالات فقد رأينا مثل هذا في الأسابيع الأخيرة. فقد تم اغتيال الرئيس السلوفاكي في عملية غامضة، ثم ظهر الرئيس التركي ليعلن عن محاولة صامتة جديدة للانقلاب عليه تم إجهاضها بشكل سريع. ولم تمر سوي أيام قليلة حتى جاء الخبر الغريب بسقوط طائرة الرئيس الإيراني، واتجهت أصابع الاتهام فوراً نحو إسرائيل التي نفت صلتها بالحادث وإن لم تخفي شماتتها فيه!

مثل تلك الأجواء الغامضة والحوادث المريبة تشي بأن أجهزة المخابرات الآن تعمل بأقصى طاقتها في كل مكان، وبخاصة في مناطق احتدام الصراعات والمعارك. تأتي تلك الأحداث الخطيرة في إيران بينما يتعرض رجل إيران الأول "خامنئي" لوعكة صحية وسط تساؤلات عمن يخلفه في قيادة البلد ذي التأثير المحوري في صراعات منطقة الشرق الأوسط.

مناورات مخيفة

لا شك أن أحداث غزة خطفت الأنظار وأشاحتها عما يحدث في الحرب الأوكرانية الروسية. وكثير منا لم يتابع تهديدات فرنسا بدخول الحرب، تلك التهديدات التي سرعان ما خمدت عندما لوحت روسيا باستخدام ترسانتها النووية، بل وسارعت الأخيرة بتحريك قوات إضافية نحو العمق الأوكراني. وهناك خوف شديد من بولندا وألمانيا وفرنسا بتفاقم الوضع هناك، لدرجة أن بعض السياسيين خرجوا ليعلنوا أن الحرب العالمية بدأت، وأننا نشهد الآن مقدماتها، ولدرجة أن تدعو بريطانيا مواطنيها من تخزين الطعام، وليخرج قانون تركي جديد من أكثر من خمسين صفحة يحدد مهام المؤسسات المختلفة في حالة حدوث حرب!

 أكثر من هذا أن الصين بدأت تتحرك في محور بحر الصين الجنوبي، وسارعت بإجراء مناورات هي الأخطر أحاطت من خلالها بجزيرة تايوان من جميع الجهات. الصين أعلنت أنها سوف تستعيد تايوان رغم أنف أمريكا، وهي تعد العدة لهذا منذ سنوات، المسألة مسألة وقت فقط. وموعد الحرب لم تحدده الصين بعد، وإن بدا وشيكاً. ربما تنتظر الصين أن تنشغل أمريكا عنها بأمور أشد خطورة، كالانتخابات أو بصراعها مع روسيا، ويبقي أمر التوقيت في علم الغيب!

تسارع الأحداث

بمجرد توقف المفاوضات بشأن الحرب في غزة وإعلان اقتحام رفح انفتحت أبواب الجحيم مجدداً في وجه إسرائيل. فسرعان ما انهالت الصواريخ على رأسها، وعادت سلسلة الكمائن ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة في رفح وفي الشمال الغزاوي وبخاصة في جباليا..

 ورغم أن الأطراف اجتمعتمؤخرا في باريس لمناقشة إعادة الحديث عن هدنة محتملة، إلا أن مسار الأحداث يتجه نحو التصعيد أكثر فأكثر. لاسيما وقد انفتحت جبهة صراع جديدة في رفح، وثقلت أيدي حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن ضد إسرائيل ربما بسبب الاتهام غير المؤكد بضلوعها في سقوط طائرة الرئيس الإيراني..

 عندما رأينا سابقاً ما حدث من انسحاب النفوذ الفرنسي في الغرب الإفريقي، ثم تغلغل للنفوذ الروسي الصيني في إفريقيا، وما سبقهما من صراع على القارة القطبية الشمالية وما تحويه من كنوز مطمورة، والذي قيل إنه أحد أهم أسباب حرب أوكرانيا. عندما حدث كل هذا وقع في يقيننا أننا مقبلون على مرحلة من صراع طويل، وصدقت تلك الظنون.

 وتيرة التصاعد والتسارع في الصراعات هنا وهناك تنبئ بانتهاء شوط ربما يكون هو الشوط الأخير في صراع سابق، تمهيداً للدخول في مرحلة جديدة من صراع وجودي تتغير على إثره خارطة العالم الاقتصادية والسياسية.

بؤر الصراع القادم

الحروب القديمة علمتنا أن الصراعات في جوهرها هي صراعات اقتصادية، حتى صراعات النفوذ والاستقواء وفرض السيطرة مغزاها ومنتهاها الهيمنة على الموارد وطرق التجارة..

وإذا اتخذنا معارك السودان مثلاً ونموذجاً سنفهم أن هناك أطرافاً خارجية تعبث بأطراف الصراع الداخلي. آخر هذه الأطراف إيران وروسيا؛ إذ يقال إن هناك اتفاق جري بين الجيش السوداني وبين قيادات من الجيش الروسي لتزويدهم بأسلحة مقابل ميناء سوف يتم منحه لروسيا على البحر الأحمر. وهو ما سيمنح محور الشرق أفضلية على محور الغرب، وسوف يزيد الأمور اشتعالاً، لاسيما وقد ازداد نفوذ الحوثيين، ذراع إيران في اليمن، على منفذ باب المندب.

 الآن وقد تعددت بؤر الصراع وازدادت رقعة اللهيب حول العالم: في السودان وغزة وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. وبدأت دول كبرى تتهيأ لتغيرات في قياداتها: إيران وأمريكا وبعض دول الشرق والغرب. وصارت مصداقية المنظمات الدولية على المحك. يمكن القول إن اتجاه السهم الصاعد باستمرار في مجريات الصراع سوف يتعلم القفز قفزات لا يمكن التنبؤ بمنتهاها..

بؤر الصراع الحالية في الشرق الأوسط وفى أوروبا الشرقية وجنوب آسيا لن تظل على جمودها وثباتها في المرحلة القادمة. والولايات المتحدة الأمريكية التي تظن أنها آمنة من أي صراع قد تفاجأ يوماً ما أنها في قلب المعمعة! ومن هناك سوف يعاد رسم خريطة العالم الجديد!.

***

د. عبد السلام فاروق

في حادثة أليمة تعاطف معها المجتمع الدّوليّ ككل، وهي حادثة تحطم مروحية كانت تقل الرّئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي، ومعه وزير الخارجيّة حسين أمير عبد اللّهيان، وإمام جمعة تبريز آية الله آل هاشم، ومحافظ أذربيجان الشّرقيّة مالك رحمتي، وعناصر أخرى من الحرس الثّوري، حيث كانت تقلّ الرّئيس من حدود أذربيجان وحتّى تبريز، وسقط في أذربيجان الشّرقيّة.

وعموما لستُ بصدد الحديث عن الحادث، ولكن كثرت التّأويلات حول سبب وقوعه، فمنهم من يرجع ذلك خارجيّا، ومنهم من يرجعه داخليّا، وعلى رأس أسبابه داخليّا هو الصّراع على السّلطة، وجميع ما قيل حول ذلك على سبيل التّخمين.

والمتأمل في العديد من دول العالم في الجملة يجد الحكم فيه إمّا حكم شموليّ أبويّ مطلق، تتوارثه أسرة معينة، له كافة الصّلاحيّات، أو ملكيّ تعاقدي دستوريّ، يجمع بين الوراثة من حيث الحاكم، والانتخاب من حيث رئيس مجلس الوزراء، أو رئاسيّ ديمقراطيّ منتخب، وأمّا إيران فقد كانت ملكيّة شموليّة في عصورها القديمة، وآخرها العصر القاجاريّ، وبداية عصر الشّاه، حيث تعيش الملكيّة المطلقة، ثمّ بعد ثورة المشروطة تحوّلت إلى ملكيّة دستوريّة تعاقديّة، فلمّا ساءت الأحوال في عهد محمّد رضا بهلوي (ت 1400هـ/ 1980م)، واجتمعت الأحزاب اليمينيّة واليساريّة على الثّورة، استطاع الشّعب أن يثور عليه بجميع توجهاتهم وأحزابهم، وكانت غايتهم إصلاح عهد الشّاه سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وفق البقاء على الملكيّة التّعاقديّة الدّستوريّة، ولمّا لم يتعامل الشّاه معها بحكمة أصبحت الغاية الانتقال إلى الدّيمقراطيّة التّداوليّة بين الجميع، وفق دستور يحمي الجميع.

بيد أنّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى يحتاج إلى شيء من التّوازن الدّاخليّ، وحتّى لا تدخل البلاد في فوضى داخليّة قد تقودها إلى حرب أهليّة، خاصّة وأنّ المخابرات السّابقة – أي في عهد الشّاه – لا زالت تلاحقهم باغتيالاتها، ومحاولة خلق فوضى داخلية، لهذا وجدوا من الإمام الخمينيّ (ت 1409هـ/ 1989م) رمزيّة وحدويّة داخليّة، اجتمع عليها الجميع، للتّمهيد لحكم ديمقراطيّ يشمل الجميع، تحت مظلّة ولاية الفقيه كصورة رمزيّة دينيّة لها صلاحيّتها المحدودة ابتداء وفق دستور الثّورة، أي الدّستور الأول، بينما السّلطة يتمّ تداولها ديمقراطيّا، ومفتوحة لجميع الأحزاب، وليست حكرا على فئة ثيوقراطيّة معينة.

إنّ جدليّة ولاية الفقيه هي مخرج فقهيّ وفق نظريّة الإمامة عند الشّيعة الاثني عشريّة، إذ ربطت الحكامة ابتداء بالأئمّة المنصوص عليهم نصّا جليّا – حسب رؤيتهم – من الإمام عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) وحتّى محمّد بن الحسن العسكريّ، المهديّ المنتظر، بيد أنّ المهديّ غاب عن الأنظار وهو صغير السّنّ، فدخل المجتمع الشّيعيّ في غيبة صغرى، وقد امتدت من 260هـ وحتّى 329هـ، وقد كان ينوب عن الإمام المهدي سفراء أربعة، ويقومون مقام الإمام في النّيابة الخاصّة، وبوفاة السّفير الرّابع أي عليّ بن محمّد السَّمريّ عام 329هـ دخل الإماميّة في غيبة كبرى حتّى اليوم، وحدث جدل فقهي قديم حول النّيابة العامّة، وكانوا أقرب إلى السّلب حتّى أتى الكركيّ (ت 937هـ)، وجعل للفقيه ما للإمام من نيابة خاصّة في الأمور السّياسيّة، بينما جمهور الفقهاء الإماميّة لم يتقبلوا هذه الرّؤية، ورأوها من اختصاصات الإمام المعصوم أو من يعيّنه من سفراء، وليس من اختصاصات الفقيه.

وفي نهاية القرن التّاسع عشر الميلادي كانت في إيران دعوات إصلاحيّة دستوريّة، توافق عليها كافّة الاتّجاهات الوطنيّة، ومنها بعض الرّموز الدّينيّة، وعلى رأسها الشّيخ النّائينيّ (ت 1355هـ/ 1936م) المشهور بكتابه: "تنبيه الأُمَّة وتنزيه الملّة"، والّذي قاد هذا إلى الثّورة الدّستوريّة، وهو تطوّر لأهميّة الفقيه وحضوره في المجال السّياسيّ، وكانت رؤية  حسين البروجرديّ (ت 1380هـ/ 1961م)،  وهو من أكبر المرجعيّات المؤثرة في عهد الشّاه، وكان منفتحا في رؤية النّائينيّ وبعض أجزاء ولاية الفقيه، وكما يذكر حسين منتظري (ت 1431هـ/ 2009م) أنّ البروجرديّ كان يطرح نظريّة ولاية الفقيه في دروسه حول صلاة الجمعة، بيد أنّ الدّروس الّتي ألقاها الإمام الخمينيّ عام 1969م أثناء نفيه في النّجف بالعراق، والّتي ظهرت لاحقا في كتاب "الحكومة الإسلاميّة" انتشرت انتشارا كبيرا في إيران وخارج إيران، ولقيت معارضة في الوقت ذاته من الرّموز التّقليديّة ومن العديد من المرجعيّات الدّينيّة، بيد أنّ الرّغبة الشّبابيّة الثّوريّة حينها بسبب الاتّجاهات الثّوريّة اليساريّة من جهة، وبداية ظهور الاتّجاهات الحركيّة الإسلاميّة من جهة ثانيّة، أظهرت العديد من النّظريّات في الوسط الشّيعيّ بسبب الحالة الفقهيّة الانغلاقيّة الّتي أشرتُ إليها، فظهرت نظريّة شورى الفقهاء، وولاية الأمّة على نفسها، ودولة الإنسان، كما تطوّرت نظريّة ولاية الفقيه، وكتب لها الحضور السّياسيّ في إيران بعد الثّورة.

ثمّ كثرت الجدليّات بعد الثّورة عن آلية اختيار الوليّ الفقيه وصلاحياته ومحاسبته وفق نظريّة ولاية الفقيه، فهل يكون بالتّعيين أم بالاختيار عن طريق مجلس الخبراء الّذي هو أقرب إلى أهل الحلّ والعقد، ويكون بالانتخاب، كذلك ظهر الجدل هل يكون شخصيّة واحدة أم هيئة استشاريّة، وهل يشترط أن يكون فقيها معمّما أم يعمّ ذلك من لديه قدرات إداريّة وسياسيّة ولو لم يكن فقيها، بيد أنّ القضيّة ضاقت من جهة، واتّسعت من جهة أخرى، لمّا صدر الدّستور الجديد بعد دستور الثّورة، فضاق في اختيار الوليّ الفقيه، واتّسع في صلاحيّاته، ممّا ضاقت صلاحيّات الرّئيس المختار من المجتمع.

وفي إيران، ولأسباب غلبة الاتّجاه الدّينيّ في إيران؛ ضعفت الاتّجاهات الأخرى حتّى يكاد ينعدم حضورها، بعدما كانت حاضرة أيام الشّاه، ومتدافعة مع الإسلاميين، وبعد فوز  محمّد خاتمي بانتخابات رئاسة الجمهوريّة عام 1997م بدأ الاتّجاه الإصلاحيّ في خطّه الإسلاميّ يتمدّد؛ إلّا أنّه ضعف لاحقا حتّى خفت حضوره حاليا، وأصبحت الغلبة للمحافظين، فهم من يمثلون مجلس خبراء القيادة، وهم الغالب حاليا في البرلمان والحزب الحاكم، وأصبحت الآراء تذهب اليوم إلى أنّ الوليّ الفقيه مرتبط اختياره من ذات دائرة المحافظين، لهذا ربط به إبراهيم رئيسيّ.

وطبيعيّ في أيّ دولة ملكيّة شموليّة، إذا لم يكن فيها ولي عهد؛ تكثر التّخمينات، خصوصا إذا كانت صلاحيات الحاكم مطلقة، وفوق جميع السّلطات كما هو الحال مع الوليّ الفقيه في إيران، وكذلك إذا كان عمر الولي الفقيه الحالي كبيرا في السّن، وطبيعيّ كلّما كبر عمر الإنسان ضعف في إدارة الدّولة، فظهرت التّخمينات سابقا أنّ الوليّ الفقيه المقبل هو محمود الهاشميّ الشّاهروديّ، بيد هناك من كان يضعف الأمر لكونه عراقيّا، وبسبب وفاته عام 1440هـ/ 2018م ظهرت الجدليّة أنّ الوليّ الفقيه هو إبراهيم رئيسي لقربه من الإمام عليّ الخامنئيّ، وبوفاته الحالية نجد التّخمينات تشير إلى ابنه مجتبى الخامنئيّ، وهذه لا تتجاوز التّخمينات، ففي أيام الخمينيّ كان الإيرانيون يتوقعون أنّ الوليّ الفقيه لن يتجاوز حسين منتظريّ، بيد قبل وفاته تفاجئوا بعزله، ثمّ بعد وفاة الخمينيّ عيّن الوليّ الحاليّ.

وكما أسلفت طبيعيّ مثل هذه الحالة تقلق الشّعب الإيرانيّ؛ لأن الوليّ الفقيه الحاليّ بصلاحيّاته المطلقة تعادل أي حاكم ملكيّ له مطلق الصّلاحيّات، كما يقلق العالم الخارجيّ أيضا، خصوصا أنّ الولي الفقيه يدور في دائرة المحافظين من جهة، ولارتباطه الكبير في قرارات العلاقات الخارجيّة من جهة ثانية، ومع أنّ الوضع الرّئاسيّ في إيران بالنّسبة للرّئيس محكم دستوريّا ومؤسّسيّا، وكما يبدو ظاهريّا في وضع اختيار الوليّ الفقيه من خلال مجلس خبراء القيادة، بيد أنّ القلق لا زال عالقا داخليّا وخارجيّا، وهذا ما نراه اليوم من قراءات متجاذبة في تفسير حادث المروحيّة ومقتل إبراهيم رئيسي، لا يخرج عن دائرة القلق لما يحدث في العالم حاليا، وأصبحت إيران طرفا فاعلا فيه، وللحالة السّياسيّة وللاقتصاديّة الّتي تعيشها إيران داخليّا، وللزّمن كلمته واقتضاءاته.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

ثلاث زوايا في استهداف المراجع الدينية بالنجف

السيد الصدر وقائمة الاغتيالات

قبل أسابيع (وبالتحديد في 19 شباط /فبراير 1999)، وفي ظروف غامضة، جرى اغتيال السيد محمّد صادق الصّدر ونجليه مؤمّل ومصطفى، حين كان عائداً إلى منزله في منطقة "الحنانة" في النّجف، حيث تعرّضت سيارته للملاحقة، فاصطدمت بشجرة قريبة فترجّل المهاجمون من السيارة المطاردة، وأطلقوا النّار على السيد الصدر ونجليه، وبذلك فقدت الحوزة العلمية في النّجف وجامعتها الشهيرة أحد أبرز روّادها الحاليين.

وقبل هذا الحادث بعدة أشهر اغتيل الشيخ علي بن أسد الغروي التبريزي (في ظروف وصفت بأنها غامضة) في 19 حزيران (يونيو) العام 1998، عندما كان في طريقه بين مدينتي النّجف وكربلاء، ودُفن بمقبرة وادي السلام في النّجف. وسبقه اغتيال الشيخ مرتضى البروجردي حين دُبِّرت له مؤامرة لتصفيته، إذ قام أحد العملاء بإطلاق النار عليه بعد عودته من صلاة الجماعة، التي كان يقيمها داخل الحرم المطهَّر، فسقط على أثرها مضرَّجاً بدمه في 22 نيسان (أبريل) 1998، ودفن بمقبرة وادي السلام في النّجف الأشرف حسب وصيته.

 كما جرت محاولة اغتيال الشيخ حسين الباكستاني. وحامت الشبهات حول اصطدام سيارة السيد أبو القاسم الخوئي ووفاته في 8 آب (أغسطس) 1992. (مع أنه كان قد بلغ من العمر عتياً، كما يُقال، لكنه تعرّض إلى وضع نفسي، خصوصاً بعد إجباره على الظهور في لقطة تلفزيونية).

كلّ ذلك يلقي بظلال قاتمة من الشكّ حول المستفيد من تصفية المرجعيات الإسلامية في النجف، وحول الأهداف التي يتوخّاها فريق التصفية ومن وراءهم، وكذلك حول الأساليب والخطط التي استخدمها هذا (الفريق)، الذي كان في كل مرّة يلوذ بالفرار، حيث كانت قوات الأمن والشرطة تصل إلى مكان الحادث، بعد أن يكون المرتكب والجاني قد غاب تماماً، فتلقي القبض على الضحية وتندّد بالجريمة، وتعدُ الحكومة بإنزال أقصى العقوبات بالفاعلين بعد إلقاء القبض عليهم، وسرعان ما كانت النار تبرد والكلمات الحماسية تختفي ويعود كل شيء إلى سابقه.

إن هذا الوضع المثير للارتياب وظروف ارتكاب الجريمة أو الجرائم المتواصلة، كان يثير الكثير من الهواجس والأسئلة المشروعة، ويضع العديد من الجهات القضائية والحقوقية الدولية أمام تساؤلات مشروعة، وكذلك منظمات حقوق الإنسان، التي أخذت تدعو لإرسال بعثة لتقصّي الحقائق ذات صفة دولية، وهو ما كان قد دعا إليه أيضاً السيد فان دير شتويل، المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان في العراق التابعة للأمم المتحدة، ووزير خارجية هولندا الأسبق.

ووصف فان دير شتويل حال حقوق الإنسان في العراق منذ العام 1992 بأنه "استثنائي"، ويتطلّب "معالجات استثنائية"، ولم يسمح له منذ ذلك التاريخ بزيارة العراق أسوة بلجان التفتيش عن الأسلحة، كما لم تصرّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومن ورائه الولايات المتحدة بضرورة مراقبة حالة حقوق الإنسان في العراق، طبقاً للقرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان في العراق، والحقوق السياسية لجميع المواطنين (1991) مثل القرارات الأخرى "المجحفة"، التي فرضت تطبيقها استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

بعد اغتيال السيّد الصّدر مؤخّراً وصدور ردود أفعال حادّة عراقية وعربية وإسلامية ودولية ضد تلك الجريمة، أقدمت الحكومة العراقية على إلقاء القبض على أربعة متّهمين، وقالت: إن خامساً لاذ بالفرار، وعرضت هؤلاء المتهمين على شاشة التلفزيون مُدلين (باعترافات) ملمّحين بـ(تورّط) جهات خارجية ولحسابات (ذاتية وخاصة)، قاموا (بارتكاب) الجريمة.

إن ذلك السيناريو ألقى المزيد من التشوّش والارتباك حول الجريمة وأبعادها، خصوصاً مسلسل تصفية المرجعيات الإسلامية في النجف، التي ظلّت مصدر شكٍّ في ولائها (للدولة) وسياساتها، ويتطلّب الأمر فيما يتطلّب كشف نتائج التحقيق والسماح بإرسال بعثة لتقصي الحقائق حول "الاغتيالات السياسية" ومنها حادث اغتيال الصدر محمد صادق، وإجراء محاكمات عادلة وعلنية للمتهمين، تضمن لهم حق الدفاع عن النفس وتوكيل محامين للدفاع عنهم ، وذلك لكشف أبعاد وتبعات هذه الجريمة، والذين يقفون وراءها، إذْ لا يكفي تنفيذ عمل إجرامي بحق مرجع ديني مرموق، ومن ثم إصدار حكم سريع، ولا تتوفّر فيه الشروط القانونية في التحقيق والمحاكمة وظروف وملابسات الحادث، لكي يتم إسدال الستار على هذه الفعلة النكراء.

البحث الذي نضعه بيد القارئ يعالج موضوع الاغتيال السياسي (العربي) مع تركيز خاص على العراق وهو يتناول المسألة من ثلاث زوايا:

- علم النفس الاجتماعي

- القانون الدولي

- مواثيق حقوق الإنسان

نأمل أن يساهم في تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، التي أصبحت جزءًا من مسلسل متواصل في العراق.

II - الاغتيال وعلم النفس الاجتماعي:

تمثّل قضية الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة ظاهرة خطيرة في الوطن العربي، وللأسف الشديد فإنها أخذت بالتوسّع والانتشار، في الوقت الذي يتطوّر فيه الوعي العالمي باحترام حقوق الإنسان الأساسية.

ولم تعد هذه الظّاهرة تقتصر على الحكومات التي عمّقت وطوّرت من إرهابها ووسائلها العنفيّة، بل امتدّت لتشمل قوى خارج السّلطات، فقد اعتمدت قوى التطرّف على وسائل مماثلة لحل النّزاع بينها وبين السّلطات ولرد إجراءاتها وممارساتها الإرهابية بأعمال إرهابية، فقد جرى اغتيال بعض الشخصيات الثقافية والفكرية السياسية اللاّمعة بفعل سيادة ظاهرة تغييب الرأي الآخر وإن اقتضى الأمر إلغاء حق الحياة الذي هو حق أساسي للإنسان، لا يمكن الحديث عن أية حقوق أخرى في ظلّ إهماله.

وقد نصّت المادّة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948 على ما يلي: "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". وقد وردت  بعض الحقوق التكميلية لحق الحياة والسلامة الشخصية  كعدم جواز الرق (المادة 4)  وتحريم التعذيب والمعاملات القاسية (م-5) وحق الاعتراف بالشخصية القانونية (م-6) والمساواة أمام القانون (م-7) وحق اللجوء إلى المحاكمة للإنصاف من الاعتداء على الحقوق الأساسية (م-8) وعدم جواز القبض على الإنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً (م-9).

ونصّت المادّة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام  1966 ، والذي دخل حيّز التنفيذ عام 1976، على أن "حق الحياة حق ملازم لكلّ إنسان وعلى القانون أن يحمي هذا الحق ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً". إذْ لا يمكن الحديث عن تلك الحقوق بدون حماية الحق في  الحياة، الذي هو حق أساس تصب بقية الحقوق وتتمحور فيه.

لا أريد هنا الحديث عن ظاهرة الاغتيال السياسي في التاريخ، علماً بأنها تطوّرت كثيراً بتطوّر وسائل العلم والتكنولوجيا، لكن الهدف ظلَّ واحداً وإنْ اختلفت الوسائل، ألا وهو إلغاء حق الخصم في التعبير، والإجهاز على الرأي الآخر حتى وإنْ تطلّب الأمر التصفية الجسدية.

وأياً كانت الذرائع المستخدمة، سواء سياسية أم فكرية، وأياً كانت المبرّرات سواء كانت "طبقية" أم " قومية" أم " دينية" أم "مذهبية"، وأياً كانت الوسائل المتبعة رصاصة أو سكيناً أو كاتم صوت أو كأس ثاليوم أو حادث سيارة أو تفجير، فإنها من زاوية علم النفس الاجتماعي تلتقي عند عدد من النقاط، هي باختصار:

الأولى - أنها تستهدف تغييب الخصم وإلغاء دوره ومصادرة حقه.

الثانية - أنها تعتمد على الغدر وإخفاء معالم الجريمة في الغالب.

الثالثة - أنها تتّسم بسرّية كاملة وقد يقوم بها بعض المحترفين .

الرابعة - أنها تستخدم جميع الأساليب لتحقيق أهدافها من أكثرها فظاظة وبربرية إلى أكثرها مكراً ونعومة، بحيث يمكن إخفاء أي أثر يُستدلُّ فيه على الضحية.

الخامسة - الحرص على إخفاء هوّية المرتكبين حين يسير المجرم في جنازة الضحية، وقد ينصرف الذهن إلى أن ثمة أطراف أخرى بهدف التمويه ودق الأسافين وتوريط جهات لا علاقة لها بالجريمة.

السادسة - أنها تتجاوز على حكم  القانون، سواء كانت الحكومات هي المسؤولة عن تطبيق القانون وحماية الحق في الحياة، أم كانت قوى التطرف، هي التي قامت بالارتكاب خارج  دائرة القانون، فأعطت لنفسها الحق في إصدار أحكامها، بل قامت بتنفيذها بعيداً عن القضاء والمشروعية القانونية.

ومهما كانت المبرّرات والأسباب التي استخدمت لتبرير الاغتيال وظواهر العنف والعنف المضاد، فإن هذه الظّاهرة تنتشر في ظلّ غياب الديمقراطية وشحّ الشرعية السياسية، وانعدام حالة الحوار بين السّلطة والمعارضة وبين الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية، وهي تمثّل حالة الضعف والخوف من جانب الجهات، التي تلجأ إلى استخدام الاغتيال ووسائل العنف لحلّ خلافاتها السياسية والفكرية، فالحكومات أو القوى التي تشعر أنها تحظى بتأييد الرأي العام ومؤسّساته واختيار الشعب، لا تفكّر في اللّجوء إلى وسائل العنف أو الاغتيال لإلغاء حق الخصم في التعبير، وبالتالي إلغاء حياته.

III - الاغتيال والقانون الدولي:

لا بدّ من الإشارة إلى أن الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة، هما أسوأ درجات انتهاك حقوق الإنسان، وهما دليلا ضعف وليس دليل قوّة، ولذلك فإن الجهات التي تلجأ إليهما أحياناً تحاول التنصّل منهما رسمياً أو تنفي مسؤوليتها عن أعمال تُرتكب باسمها.

كما لا بدّ من الإشارة إلى أن القوى التي تلجأ إلى الاغتيال ومصادرة حق الحياة في الغالب تعتمد على "الإيمانية" المطلقة أو "اليقينية" الثابتة، وهي جزء من الفكر الشمولي، الإطلاقي الوحيد الجانب، وهي لا تؤمن بالتعدّدية وبحق الآخرين، بل تعطي نفسها الحق أحياناً في تحريم أو تجريم الآخرين، ومصادرة حقوقهم تارة باسم " الشعب" كل الشعب، وأخرى باسم الأمة أو القومية أو الطبقية، وثالثة باسم الدّين.

ولا يربط القوى والجماعات التي تعتمد على الاغتيال والعنف وسيلة لحل الخلافات رابط مع العقلانية ولا الموضوعية، فالانحياز المسبق والتفكير المعلّب المصنوع خصيصاً من نسيج التصوّرات الناجزة، هو الذي يفعل فعله ويحكم علاقة هذه القوى والجماعات بالآخرين وبالموقف منهم.

ولم تكتفِ بعض الحكومات باعتماد محترفين للقيام بمهمّات الاغتيال، بل لجأت إلى استئجار مرتزقة، مُرغمة، في بعض، الأحيان الفاعلين عن طريق احتجاز عائلاتهم أو إكراههم على القيام بارتكاب جرائم "للنجاة بأنفسهم"، مقابل اغتيال خصوم تختارهم هذه السّلطات بالاعتماد على بعثاتها الدبلوماسية، التي تتمتّع بالحصانة الدبلوماسية بموجب اتفاقية فيينا لعام 1961 حول "العلاقات الدبلوماسية"، مهرّبةً الأسلحة والمعدّات ووسائل القتل بالحقائب الدبلوماسية، مستفيدةً من المزايا التي تمنحها اتفاقية فيينا.

هكذا تتحوّل الدبلوماسية، التي هي جناح من أجنحة الدولة لإظهار وجهها الحسن ولحماية مصالح البلاد الوطنية ورعاياها في الخارج، وتعزيز وتطوير علاقاتها الدولية إلى جهاز من أجهزة القمع، يجمع بعض المحترفين من القتلة، فدبلوماسية من هذا النوع، حسب  حسن العلوي في كتابه "دولة المنظمة السرية"، لا تعني سوى عين استخبارية مصحوبة بالعنف والإرهاب، أي "عين المقر" كما يطلق عليها.

وحين نكون أمام حالة انعدام المعايير واختلاط الرغبة في تطويع الآخر بتبرير حق تصفيته، وادعاء امتلاك الحقيقة، والرغبة في الحفاظ على المواقع بمصادرة حق الآخرين أو لقاء الله قرباناً لزرع العدل على الأرض، كما سمعنا الكثير من المسوّغات الإرهابية.

أغلب الظنّ أنّ الذين يمارسون الإرهاب والعنف ويصدرون أوامر الاغتيال، يريدون أن يصوروا الأمر لنا على هذه الشاكلة... هكذا يموت الإنسان بدون مُرتكب، بالمصادفة بشرب كأس الثاليوم، أو عن طريق رصاصة طائشة تستقرّ في رأسه يفارق الحياة، وبقدر غاشم تصطدم سيارته أو تسقط طائرته أو يلقى على قارعة الطريق ثم تقوم السلطات بإلقاء القبض على الضحية ويهرب الجناة، كما هو في الكثير من الأفلام السينمائية. هكذا يريدون أن نصدّق بأن الأشياء تحدث بدون مرتكب، سوى الصدفة المجنونة، وفي الواقع ليس ذلك سوى إهانة للعقول وتمادياً في الزيف واستخفافاً بالمنطق.

IV - الاغتيال ومواثيق حقوق الإنسان:

لم يعد الاغتيال فردياً، فقد وسعّت الحملات الجماعية من مفهومه، وتحوّل إلى نوع من العقوبة الجماعية: حروب إبادة لجماعات عرقية أو دينية أو مذهبية، وأحياناً لشعوب بكاملها . فلم تكتفِ "إسرائيل" والصهيونية العالمية بإلغاء وجود شعب فلسطين وحقه في الحياة وتقرير المصير، بل اقتطعت أجزاءً عربية عزيزة من جنوب لبنان، إضافة إلى  الجولان السورية وغيرها، وامتدت يد الإرهاب الصهيوني لتحاول اقتلاع بعض رموز ثقافة المقاومة، ولتُجهز على مثقفين بارزين أمثال غسان كنفاني، الذي طارت أشلاؤه في بيروت بانفجار سيارته، وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، الذين اغتيلوا في وضح النهار بقرصنة "إسرائيلية" في بيروت، وماجد أبو شرار في روما وخليل الوزير (أبو جهاد)، الذي اغتيل في تونس، وباسل الكبيسي في باريس، وناجي العلي في لندن. ولم تكن بعض الحكومات العربية أكثر رحمة مع الفلسطينيين من غيرهم، كما أن بعضهم لم يكن أقل عنفاً من الغرباء.

ظهر ذلك في الصراعات العربية - الفلسطينية والفلسطينية - الفلسطينية، وكان الرصاص المشبوه الهويّة، قد تكفّلته الصّراعات الداخلية وحلّ محل الحوار والعقلانية وحق الاختلاف وحرية التعبير... رصاص ملتبس ومتسلّل، وإنْ تعدّدت المصادر والجهات.

ومؤخّراً، شملت أعمال الاغتيال في الجزائر أعداداً كبيرة من المواطنين، وخصوصاً من المثقفين، حيث اغتيل إضافة إلى الكاتب الجزائري المعروف الطاهر جعوّط ونحو 33 صحافياً وفناناً، إضافة إلى عدد غير قليل من النساء اللّواتي جرى اغتصاب العديد منهن ثم اغتيالهن، ووصلت موجة الصدام بين الحكومة وقوى التطرّف إلى اغتيال سجناء أبرياء عزل، وتُرتكب مجازر يُلقي كل طرف مسؤوليتها على الطرف الآخر، في حين لا يمكن قبول تبرير مسوّغات قوى التطرّف وانفلات الإرهاب والتجاوز على القانون، كما لا يمكن قبول تبريرات الحكومة وممارساتها الإرهابية، التي تنتهك حقوق الإنسان بزعم مواجهة الإرهاب. 

وفي مصر امتدّت قوى التطرف لتنال من الكاتب والمبدع الكبير نجيب محفوظ، الذي حاولت سكّين حاقدة أن تقضي على حياته وتصادر حقّه في التعبير، خصوصاً بعد محاولات ظلامية لتكفيره عن رواية "أولاد حارتنا"، التي مضى على إصدارها أكثر من ثلاثة عقود، كما حدث مع الكاتب فرج فودة، الذي اغتيل غدراً في القاهرة قبل سنوات، وبتصاعد موجات التطرّف تضاعف الحكومة من أعمالها العنفية والإرهابية لتضيف ذرائع جديدة على كبت الحرّيات، وتقليص دائرة المشاركة.

وفي لبنان يوم سقط الشيخ الجليل حسين مروة مضرجاً بدمائه، وقف مهدي عامل مودّعاً زميله أمام ضريح السيدة زينب في دمشق، مخاطباً المثقفين بالقول: إذا لم توحّدنا الثقافة بوجه الظلام والتخلّف فماذا سيوحّدنا بعد... أهو كاتم الصوت؟ ولم يدر بخلده أنه سيكون الضحية القادمة بعد مروة بثلاثة أشهر، سبقه الصحافيان خليل نعوس وسهيل طويلة والقائمة تطول، وتشمل عشرات الأسماء اللاّمعة، والتي تشكّل منارة مشرقة في الثقافة اللبنانية والعربية.

وفي ليبيا كشفت نتائج غير قليلة من الأعمال التي ارتكبتها "الدبلوماسية الليبية"، في الخارج في لندن وألمانيا وأثينا وفيينا وغيرها، عن وجود "جهاز إرهابي" متخصّص مهمّته اغتيال المعارضين، وهو نهج يبدو أنه متبع، فعقب اختفاء المعارض الليبي المعروف وداعية حقوق الإنسان منصور الكيخيا، صدر أكثر من تصريح رسمي من مراجع حكومية متنفّذة استخفافاً منها بهدر دم المعارضة في الداخل والخارج، وهذا لعمري اعتراف صريح من جانب الحكومة بممارسة "الإرهاب" ضدّ مواطنيها على نحو علني ومباشر، بالضدّ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.

ونهجت حكومة السودان مؤخّراً نهج تصفية الخصوم وتصعيد العنف، الذي لم يكن بمعزل عن مساهمة قوى التطرّف، التي مارست أعمالاً عدوانية هي الأخرى، حيث اغتيل مؤخّراً الفنان الخوجلي عثمان بحجج واهية ولأغراض خاصّة بعد المفكّر الإسلامي محمد محمود طه، الذي أعدم بسبب أفكاره في 18 كانون الثاني (يناير) 1985.

والقائمة تطول عربياً، ولا يتّسع المجال لذكر كل التفاصيل، لكنّني سأتناول بشيء من التركيز على الاغتيال كوسيلة من وسائل تعميم الإرهاب في العراق، حيث يكاد يكون النموذج الأصرح ليس على صعيد العالم العربي وحسب، وإنما على الصعيد العالمي.

فقد اتّهم النظام بارتكاب "جرائم إبادة جماعية" في جنوب العراق، وبخاصة مناطق الأهوار وفي شمال الوطن "كردستان"، خصوصاً خلال الانتفاضة في 1991، وقبلها في "حلبجة" عام 1988، وعمليات "الأنفال" السيئة الصيت، ومارس الاغتيال ضدّ جميع القوى والتيارات والاتّجاهات السياسية والفكرية على الصعيد الداخلي والخارجي، أذكر بعض الحالات على سبيل المثال لا الحصر.

فبينما كانت الحكومة العراقية تتفاوض مع الحزب الشيوعي لتوقيع ميثاق الجبهة الوطنية، قامت باغتيال ثلاثة من قادته وهم: ستار خضير ومحمد الخضري وشاكر محمود. وحين تمّ الاتفاق مع قيادة الثورة الكردية في 11 آذار (مارس) 1970 استغفلت الأجهزة الأمنية عدداً من رجال الدّين فألغمتهم القنابل لتفجيرها في مقر الملاّ مصطفى البارزاني، وبينما كان صالح اليوسفي، الزعيم الكردي المعروف، مقيماً في داره في بغداد (أشبه بالإقامة الجبرية أو ما يسمّى تحت المراقبة)، أرسل إليه طردًا لينفجر ويقضي عليه، بينما اغتيل الزعيم القومي العربي فؤاد الركابي في حين كان يقضي سنواته في السجن بتهمة ملفّقة، وقبله اغتيل العسكري البعثي اللّواء مصطفى عبد الكريم نصرت بحادث مفتعل ومدبّر.

بينما اغتيل حردان التكريتي (في الكويت) وعبد الرزاق النايف (في لندن)، وهما من أركان انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968، وحامت الشبهات أيضاً حول اغتيال عدنان شريف وعدنان خيرالله طلفاح اللّذين لقيا مصرعيهما بحادثي طائرة، بينما سمّم بالثاليوم، كما أفادت التقارير الطبية، عضو قيادة قطر العراق مجدي جهاد، الذي توفّي في لندن في ما بعد.. ولقي مصيراً مشابهاً فؤاد الشيخ راضي. وتعرّض العديد من عناصر النظام إلى حوادث غامضة، أودت بحياتهم في ظروف ملتبسة.

وجرت محاولات تسميم بالثاليوم خلال فترات مختلفة لعدد من الشخصيات بينهم الدكتور محمود عثمان وعدنان المفتي وسامي شورش والدكتور حسين الجبوري والعقيد عادل الجبوري، ومؤخّراً صفاء البطاط والشيخ فيصل الشعلان، الذين نجوا من تلك المحاولات بأعجوبة.

كما جرت محاولة اغتيال كبرى لزعامات وشخصيات قومية عربية في القاهرة في 25 - 26 شباط (فبراير) 1972 شملت الدكتور مبدر الويس والفريق عارف عبد الرزاق وعرفان عبد القادر ورشيد محسن وصبحي عبد الحميد وهادي الراوي وسيد حميد سيد حسين الحصونة، لكن السّلطات المصرية أحبطتها بعد أول عملية تنفيذ.

وأقدمت الحكومة العراقية، بواسطة عدد من دبلوماسييها في الخرطوم، على اغتيال الزعيم الإسلامي المعروف السيد مهدي الحكيم نجل السيد محسن الحكيم وذلك عام 1988، وبعد تنفيذ هذه الفعلة النكراء هرب القتلة، ولم تكن التحقيقات بمستوى الحادث الأثيم، كما أثيرت الشكوك حول مصير السيد محمّد تقي الخوئي، الذي صدمت سيارته في الطريق العام بين مدينتي النجف وكربلاء، حيث نصب له كميناً على الطريق، وسحقت سيارته شاحنة كانت تنتظره على جانب الطريق العام ليلاً، ثم أشعلوا النار في السيارة التي كانت تقله، فأصيب بنزف في رأسه، وتم تطويق المنطقة في مكان الحادث، و محاصرة النّجف، ومنع الناس من نقل المصابين إلى المستشفى بحجة الانتظار لوصول سيارة الإسعاف، وبقي الشهيد ينزف في الشارع من المساء حتى الفجر، فتوفي في 22 تموز (يوليو) 1994.

وقد أعرب المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عن بالغ قلقه للظروف الغامضة والملابسات التي أحاطت بوفاته، إضافة إلى ما تعرّض له والده السيد أبو القاسم الخوئي، واعتقال العشرات من أفراد عائلته مما يثير الارتياب حول التقارير التي أشارت إلى أن السيارة تعرّضت للاحتراق ولم يتسن العثور على سائق الشاحنة.

ومن الحوادث المثيرة والصارخة اغتيال الشيخ طالب السهيل (رئيس عشيرة بني تميم العربية المعروفة) التي اتّهم بها موظفّان من السفارة العراقية في لبنان، حيث ألقي القبض عليهما بعد أن التجآ إلى السفارة العراقية واعترفا بأنهما قدما إلى لبنان خصيصاً بهدف قتل الشيخ طالب السهيل. ونشأت أزمة دبلوماسية بين لبنان والعراق نجم عنها قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق السفارة العراقية في بيروت.

هذه الحادثة تجعلنا نفكّر بأي زمن نعيش فيه حيث يتم اختلاط الأشياء وتداخلها وتنوّع وتبادل الأدوار والمواقف بقصد خلط الأوراق وإخفاء الحقيقة. فالشرطي يصبح دبلوماسياً، والدبلوماسي الذي يفترض أن يحترم قواعد القانون الدولي والبروتوكول الدبلوماسي يتحوّل إلى قاتل محترف، والدولة التي يفترض فيها أن ترعى حقوق مواطنيها تتحوّل إلى صيّاد للخصم لانتهاك الشرائع والأعراف، والحجة هي تصفية الرأي الآخر.

ونريد هنا أن نذكّر أن الحكومة العراقية والحكومات التي مارست وتمارس الإرهاب، تترتب عليها مسؤولية دولية جديدة، إضافة إلى مسؤوليتها في خرق قواعد القانون الدولي والقانون الدبلوماسي، كما أن من واجب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي تأمين احترام القواعد العامة للقانونين الدولي والدبلوماسي، وإرغام المرتكبين والمخالفين على الامتثال لهذه القواعد باعتبارها قواعد آمرة ملزمة، إضافة إلى تأمين احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي أصبحت قواعد ملزمة على الدول والحكومات احترامها وإلّا ستعرّض نفسها للمسؤولية، أي أنها واجبة الأداء وكما يُقال في اللاتينية Jus Cogens. يضاف إلى ذلك ثمة مسؤولية تقع على عاتق الحكومة العراقية  والمجتمع الدولي وبخاصة الأمم المتحدة على حدّ سواء؛ الأولى في ضرورة الامتثال للقرار 688 القاضي بكفالة احترام حقوق الإنسان في العراق؛ والثانية لتأمين تطبيقه. وفي الوقت الذي تصرّ فيه على تنفيذ جميع القرارات المجحفة وغير المتكافئة، نراها تغضّ الطرف وتتهاون إزاء تنفيذ القرار المذكور.

***

ونتساءل هل نحن حقاً أمام "حكومات" تمتثل للمشروعية القانونية وللشرعية السياسية، التي تتمثّل باحترام  الإرادة العامة للنّاس وعليها أن تسوسهم باختيارهم وتمثيلهم ومشاركتهم؟ أما ما يخصّ الشق الثاني من أعمال الاغتيال والإرهاب من جانب قوى التعصّب والتطرّف، نتساءل أيضاً: هل يمكن كسب الجمهور وتحقيق البرنامج السياسي بقوّة السلاح؟ وقد جربت قوى وأنظمة ذلك تحت واجهات مختلفة، لكنها لم تصل إلى ما تصبو إليه.

إننا أمام أسئلة محرجة وقاسية، "فهذا زمن تتقدّم فيه الأسئلة وينهزم الجواب" مثلما يقول الشاعر العربي الكبير أدونيس.

***

د. عبد الحسين شعبان

.......................

- نُشرت المقالة بعد أسابيع من اغتيال السيد محمّد صادق الصّدر، في جريدة المنبر (اللندنية) التي كان يصدرها السيد حسين الصدر، في حزيران (يونيو) 1999، بعنوان: "ملف الاغتيال السياسي.. إلى أين - بعد رحيل السيد الصدر محمّد صادق". وكان النص الأولي قد تُلي كمحاضرة ألقاها الباحث في لندن في غاليري الكوفة (ديوان الكوفة)، عن "الاغتيال السياسي"، لمناسبة اغتيال الشيخ طالب السهيل التميمي بمنزله في لبنان في عام 1994. وهو إذْ يعيد نشرها بعد مرور ربع قرن على اغتيال السيد محمد صادق الصدر، تعميمًا للفائدة.

أتحدث شاهد عيان، لا مما كُتب وقيل، مِن هجاء ومديح، فما قرأته وسمعته، كان فرصة ومناسبة لمَن تراجع رصيده الفكري والسياسيّ والاجتماعي، في مصر أولاً، فمن السّهل أن تُكفر وتُزندق، وتُخون، وتسخر، وهذا الرباعي لا يحتاج إلى فكر ولا روية، يحتاج فقط إلى خفةٍ في الضَّمائر، ومفردات نابية. لذا، التسقيط سهل، وإنّ كان هدفه طه حسين (تـ: 1973)، ونجيب محفوظ (تـ: 2009)، وحامد نصر أبو زيد (تـ: 2010)، وفرج فودة (اغتيل: 1992)، وحسين مروة (اغتيل: 1987)، وسواهم العشرات بل المئات.

حضرت ندوة "التّكوين" في القاهرة، والتي عُقدت يومي الرابع مِن أيار (مايو) 2024 والخامس منه، وشاركتُ في ندوتها "النقد الفكري قبول أم مواجهة". شارك في هذه النَّدوة، وسواها مِن ندوات المؤتمر، آخرون مِن أصحاب الفكر، شباباً وشيبةً، لكن جميعهم يعدون مَن ذكرنا مكافحين في النّور لا في الظلمة، مِن الذين نالوا قسطهم مِن محاكم التفتيش، والإقصاء والاغتيال، والتفريق عن الزوجات، بدعوى الكفر، وهم لو كانوا أحياء، لتقدّموا الصف الأول في هذه النّدوة وغيرها، حيث قاعة المتحف المصريّ الحديث.

كان ضيف الشّرف طه حسين، مناسبة مرور 50 عاماً على رحيله (1973- 2024)، فما الذي يؤذي أو يُنفر مِن طه حسين؟! الذي كان عنواناً لمؤتمر "التكوين". يبدو كان هذا الإشكال الأول، بعدها يأتي الاسم "التّكوين"، فقالوا: إنّه سِفر مِن أسفار الكتاب المقدّس - العهد القديم التّوراة، فمعنى هذا أنَّ المؤتمر ذو نكهة يهوديّة، وبالغ البعض وقال "صهيونيّة". يا سبحان الله، وهل احتُكرت الألفاظ والمعاني، وما عاد لأحد استخدامها، وهي مثلما قيل على قوارع الطّرق والسكك؟ وهناك مكتبات ومؤسسات بهذا العنوان، ولم تثر انتباهاً، ولا فضولاً مَن تناولوا عنوان هذه المؤسسة؟

أتذكّر عندما جرى التّفكير بتغيير العَلَم العراقي، بعد 2003، ليعبّر عن حِقبة عراقية جديدة، تغادر العصبيات، على أشكالها، تقدّم المعمار رفعة الجادرجيّ (1926-2020) بتصميم للعلم الجديد، فرمز بشريط أزرق إلى الرَّافدين، دجلة والفرات، فقامت الضجة والشَّيطنة للجادرجي، على أنَّ هذا العلم يحاكي العَلَم الإسرائيليّ، وبالتالي لم يؤخذ به، وظل العلم العراقي بما اقترحه الإسلامي سوار الذهب (تـ: 2018)، على صدام حسين، نقش عبارة "الله أكبر"، كرمز للجهاد، بعد احتلال الكويت (الدليمي، "آخر المطاف")، وما تغيّر هو كتابة العبارة بخط غير النّقش الأول.

آخر، وهو ابن رئيس سابق، لم يجد طريقة يغازل بها الإسلاميين، غير استغلال صورة مفبركة، أُخذت في الفندق وليس في قاعة المؤتمر، لجماعة مِن المشاركين، وعلى إحدى الطاولات وضعت علبة "ستيلا" المصرية، فربط ندوات "التكوين" بها، فصار اجتماعاً إباحياً، لكن ابن الرئيس هذا، يعلم أن "ستيلا" وغيرها مِن عهد والده، فعلامَ هذه المزايدة، والمغازلة لخصوم التنوير. مع أنَّ الثائر مِن أجل الدين نفاقاً، لم يحضر ندوات المؤتمر، كي يرى حقيقة ما حصل.

أما ما قيل عن أنّ "التكوين"، ولم أكن عضواً في أمانته، وهم مِن أبناء مصر والشّام، أنهم "ملاحدة"، وبالتالي أن "التكوين" مؤسسة إلحادية، هدفها هدم الإسلام، مثلما أراد طه حسين مِن قبل، وهو ضيف الشّرف، فهل صارت الأبحاث في التاريخ القديم، والأساطير، والتصوف، ودراسات في القرآن، إلحادية؟ نعم تكون إلحادية لأنّها مسّت الجماعات المتطرّفة المسيّسة، لا الدين نفسه، ومَن قال كل ما كتبه أعضاء الأمانة، وما كتبه الطاعنون بـ"تكوين"، كان صواباً، إنّها أفكار قد تُقبل وقد تُرفض، فإذا كل من تبنّى رأياً مخالفاً اتُّهم بالكفر والإلحاد، مثلما حدث في مناظرة معرض الكتاب في القاهرة، واغتيل فرج فودة بسبب التحريض، الذي أطلقه المحمدان عمارة والغزالي، لشُلت الألسن وكُسرت الأقلام، ولم يبق معنى وأهمية لـ"لا إكراه في الدين"، ولا لـ"وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ"، نقول هذا لمن يدّعون أنهّم الأحرص على الدين، وأنَّ كلَّ من خالفهم صار كافراً ملحداً.

هل كان كفراً عندما يُقال إنَّ القبول بين الأفكار، في التراث العربي الإسلاميّ، أقل كثيراً مِن المواجهة، وهل صار إلحاداً عندما يستشهد أحد المتحدثين، من على منصة "تكوين" بثلاث آيات تعطي حقّ الاختلاف: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة، آية: 48).

- ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي مَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (يونس، آية: 19).

- ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود، آية: 118).

هل إلحاد وكفر عندما يُستشهد، من على منصّة "تكوين" بالقول المأثور، ومنهم من اعتبره حديثاً "اختلاف أمتي رحمة"، أو يُستشهد بقول للفقيه سُفيان بن مسروق الثّوري (تـ: 161هـ): "إنما العِلم عندنا الرّخصة مِن ثقةٍ، فأما التّشدد فيُحسنه كلُّ أحد"، والرخصة تعني التفكير وتحترم الاختلاف. أو أن يرتقي المنصة أحد الأزهريين ويدلو بدلوه، فعلامَ هذه الحمية والغيرة الكاذبة على الدين، وأنتم لا تعجبكم هذه النصوص، ولو قدرتم لحذفتموها، ولكن جهدتم بتجميدها، بما تأسس من علم النَّاسخ والمنسوخ.

انتقد أحد المتحدثين، التشدّد الديني والإلحادي أيضاً، واعتبرهما مغذيين لبعضهما بعضاً، وحصل نقاش ثري في القاعة، على أنّ حرية الفكر لا تُجزأ، وما زالت لا تقوم بتفجير واغتيال، لك أن تؤمن أو تكفر، وهذا مشروع في آية قرآنية، لا تحتاج إلى تفسير وتأويل.

طرح هذا وغيره في ندوات "تكوين"، غير أنَّ ما أثير من ضجّة تخوين وشيطنة، لا صلة له بما حدث، فلو كان المؤتمر لعصائب وكتائب دينية، أو مؤتمراً لمفتين بالقتل، لجرى التسبيح له، لكن سوء حظه خصّ مثقفين، وقُدّمت فيه آراء لا فتاوى وقنابل، آراء ممكن الرّد عليها، لا، فهل كنتم عاجزين إلى هذا الحدّ، لا تملكون غير التجريح والتخوين وضجة الشّيطنة؟

إذا كانت هناك جهة أساءت إلى الدِّين، فهي الأحزاب والجماعات الدينيَّة السياسيَّة، التي جعلت مِنه سلّماً إلى السّلطة والثروة، وجلب الأتباع، لا مِن يريد إشاعة ثقافة العقلانيَّة، وما كانت البحوث تتناول الدّين، وتغور في الأُصول، لولا محاولات هذه الجماعات فرض أحكام خارج المنطق الفقهي نفسه، الذي يقول: "تتبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان"، فعندما تتساوى الأزمان، لا يتميز بين القديم والجديد، في إدارة الحياة، مِن المؤكّد يظهر مَن يقف إلى جانب الحياة، وما قُدم مِن على منصّة "التكوين"، لم يخرج عن هذا المطلب.

أقول: مِن حقّ المثقفين، على مختلف توجّهاتهم واهتماماتهم، أدباء وباحثين ومؤرخين وفنانين وشعراء، وقوى الأنوار كافة، قول كلمتهم في مواجهة الواقع المريع، الذي تفرضه قوى الظلام والموت، عقود وهم يتلاعبون بعقول النَّاس، دمّروا التّعليم، وفرضوا ثقافة التّخلف، بصحوات دينيَّة، أشيعت فيها الطائفيَّة والأوهام، ومغيبات العقل كافة.

اختلفوا مع "تكوين" أو غيرها، وهناك مِن التنويريين، اختلفوا مع هذه المؤسسة، التي لم تلد بعد، فقد ظهرت في ندوة لا أكثر، لكن لماذا الأكاذيب والتحشيد، باستغلال الدّين؟! لماذا تجعلون مِن الدّين بضاعة لتجارتكم، مرّة باسم "الإصلاح"، وأخرى باسم "الخير"، وتريدون من الآخرين السُّكوت، والانصياع لتخويفكم، وتهديدكم بالتّكفير!

كنتُ رصدت في كتاب "صرعى العقائد... المقتولون بسبب ديني في الماضي والحاضر" (مركز المسبار- دبي، ودار المدى- بغداد) المئات مِن الفلاسفة، والأدباء والشعراء، وأهل التصوف، ومِن رجال الدّين أنفسهم، ثغبت دماؤهم مِن عروقهم، بسبب كلمة أو بيت شعرٍ، أو فكرةٍ، وأسبابٍ مختلفة، فهل تريدون استمرار هذا الواقع، باختطاف الدّين مِن قبلكم؟ والمطلوب السُّكوت على سفك الدِّماء باسم الدّين.

نعيد القول ونؤكّده، إذا كانت هناك مسؤولية في الإساءة إلى الدِّين فيتحمّلها الإسلام السّياسي، في منظماته السّرية والعلنية، وممارسته السُّلطة في أكثر مِن بلد إسلاميّ، لا جماعة، لا تملك غير الكلمة، تقولها في وضح النهار، فاعتبروا العلمانيّة كافرة، لأنّها لا تريد تمكين الجماعات الدينية مِن السُّلطة، ولا تقرّ أنَّ السياسة عبادة، شأنها شأن الصّلاة والصّيام، ومَن لا يسير في هذا الاتجاه فدمه غير معصوم عند تلك الجماعات.

ما لا تريد الجماعات العقائديَّة فهمه، والتَّسليم به، أنَّ زمن التخوين انتهى، مِن قبل اليمين واليسار، على حدٍّ سواء، بضاعة بارة في خاناتها، ظل يتناقلها الذُّباب الإلكترونيّ، لا تغني ولا تسمن، وإذا كنتم تدّعون المعصوميَّة، باسم الدِّين أو القومية، فلا عصمة في الثقافة ولا الفكر، وهذا ما نقوله لأهل "تكوين" أو سواهم أيضاً.

إذا كنتم ترون مِن حقّكم في النّيل مِن الآخرين، بالتّكفير وسفك الدّماء، لأنكم تملكون الحقّيقة دون غيركم، والحاكميّة الإلهيّة مختصة بكم، فلمن يقع عليهم العبء، طريقه في الدِّفاع عن الحياة، ولا حاجة للضجة والشّيطنة.

ختاماً، أقول: سقى الله مِن شيّد العُمران، وعزَّ شعبه، بروعة البنيان، بتحقيق مقولة "الدّين لله والوطن للجميع"، وهل قال "تكوين" أكثر مِن هذا، وهل طلب المحتفى به طه حسين أقل مِن هذا؟! فعلامَ ضجّة التخوين والشّيطنة، والقصة كاملةً آراء تصيب وتخيب، قيلت في باحة التّاريخ حيث المتحف المصريّ، وكانت الأبواب والنَّوافذ مفتوحة، على مصاريعها، خالية مِن أجواء بيعة لمرشد أو لولي، على حساب الأوطان.

ما حصل كان خطيراً، وربَّما بسبب ضجّة التَّكفير والتزندق، لمجموعة من المثقفين، المصريون منهم على وجه الخصوص، سيتكرّر ما حصل لنجيب محفوظ، أن يتقدّم أحد الجهلة لقتله، لأنّه سمع أنّه كافر، فعندها من يحمل جرائم القتل، التي قد تطال الشخصيات المشاركة، فالمجتمع بجهود الإسلاميين صار مؤهّلاً لمثل هذه الأفعال الانتقامية؟!

***

د. رشيد الخيون

 

حول تكريس ثقافة السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية

بقلم: بول أوستر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في عام 1970، بدأت مهمة مدتها ستة أشهر في البحرية التجارية، حيث عملت كبحار ماهر على متن ناقلة إيسو، وعلى متن هذه السفينة اتصلت لأول مرة برجال نشأوا مع الأسلحة كانوا على علاقة حميمة بها. في أغلب الأحيان، كانت حمولتنا تتألف من وقود الطائرات، الذي كنا ننقله صعودًا وهبوطًا على ساحل المحيط الأطلسي وإلى خليج المكسيك. كانت إليزابيث بولاية نيوجيرسي، وبايتاون بولاية تكساس،وهما موقعان اثنان من أكبر المصافي في إيسو،كانا نقطتى النهاية لجميع رحلاتنا، مع توقفات معتادة في تامبا والموانئ الأخرى على طول الطريق.

كان هناك ثلاثة وثلاثون رجلاً فقط على متن السفينة، وبصرف النظر عن اثنين من الأوروبيين وحفنة من الشماليين مثلي، كان جميع الضباط وأفراد الطاقم من الجنوب، وجميعهم تقريبًا من لويزيانا ومدن ساحلية مختلفة من تكساس. يعود الآن اثنان من رفاق السفينة إلى ذاكرتي، ليس لأنهما كانا صديقين مقربين بشكل خاص، ولكن لأن كل واحد منهما، بطريقته الخاصة والمختلفة جدًا، كان له دور فعال في تعزيز تعليمي حول الأسلحة النارية.

كان لامار قصيرًا وشعره أحمر من باتون روج، وله بقعة قرمزية لامعة تشوه بياض عينه اليسرى، وثمانية أحرف موشومة على مفاصل يديه: L-O-V-E وH-A-T-E، وهي نفس العلامات المنقوشة على أصابعه. الواعظ المعتوه الذي لعبه روبرت ميتشوم في فيلم "ليلة الصياد". عمل لامار كمساعد تشحيم في غرفة المحرك وكان في عمري تقريبًا (ثلاثة وعشرون عامًا). على الرغم من وشم الولد الشرير، فقد وجدته شخصًا لطيفًا ومعسول الكلام، ولأننا كنا زملاء جدد على متن سفينتنا الأولى، فقد اعتبر أننا حلفاء ويبدو أنه يستمتع بالخروج معي. بعد الانتهاء من عملنا  وحقيقة أنني من الشمال وتخرجت من الكلية ونشرت بعض القصائد في المجلات لم تكن أمرًا ينظر إليه بعين الريبة. لقد قبلني كما أنا، وأخذته كما هو، وأصبحنا على وفاق - لم نكن أصدقاء تمامًا، بالضبط، ولكن زملاء السفينة بشروط ودية وسهلة.

ثم جاء الاكتشاف الأول، والصدمة الأولى. لقد شاركنا ما يكفي من القصص عن أنفسنا في ذلك الوقت لدرجة أنني اعتقدت أنني لن أسيء إليه إذا سألته عن البقعة الحمراء في عينه. دون أن يشعر بالإهانة، أوضح لامار بهدوء أن ذلك حدث قبل بضع سنوات، عندما وقف هو وحشد من الناس على الرصيف وألقوا الزجاجات خلال مسيرة احتجاجية قادها مارتن لوثر كينج. لقد تطايرت شظية من الزجاج المكسور في عينه وثقبت الغشاء، مما تسبب في إصابة تحولت إلى شيء أحمر سيئ سيبقى معه لبقية حياته. ومع ذلك، كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ بكثير، كما قال، وشعر بأنه محظوظ لأنه لم يفقد عينه.

حتى ذلك الحين، لم يقل لامار أبدًا كلمة ضد السود في حضوري، وعندما سألته لماذا فعل هذا الشيء الغبي والشرير، هز كتفيه وقال إنه بدا وكأنه شيء ممتع للقيام به في ذلك الوقت. لقد كان في سن المراهقة في ذلك الوقت ولم يكن يعرف أفضل من ذلك، مما يعني أنه لن يفعل هذا النوع من الأشياء اليوم. وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك ممكنا نظراً لأن مارتن لوثر كينج قد أسقطت طائرته وقُتل قبل عامين، لكنني اخترت تفسير كلماته باعتبارها اعتذاراً، على الرغم من أن لدي شكوكي. ثم جاء الاكتشاف الثاني.

كنا نقف على سطح السفينة بعد ظهر أحد الأيام نشاهد سربًا من النوارس يحوم فوق السفينة عندما أخبرني لامار عن شيء آخر من الأشياء الممتعة التي كان يحب القيام بها في ليالي السبت في باتون روج عندما كان يشعر بالملل، وهو أن يأخذ بندقيته ومعه كمية من الذخيرة، ويتوقف على الطريق السريع ويطلق النار على السيارات. ابتسم وهو يتذكر ذلك بينما كنت أحاول استيعاب ما كان يقوله لي. قلت أخيرًا، أثناء إطلاق النار على السيارات، لا بد أنك تسرح بي.وأجاب لا على الإطلاق، لقد فعل ذلك بالفعل، وعندما سألته إذا كان يستهدف السائقين أو الركاب أو خزانات الوقود أو الإطارات، أجاب بشكل غامض أنه أطلق النار بشكل عشوائى عليهم  جميعًا. وسألته وماذا لو ضرب أحدا وقتله ماذا سيفعل بعد ذلك؟ هز لامار كتفيه مرة أخرى، أتبعها بإجابة مقتضبة وغير مبالية وشبه فارغة: "من يدري؟"

حدثت هاتان الهزتان خلال أول عشرة أو اثني عشر يومًا من وجودي على متن السفينة، وحافظت على مسافة مهذبة بيني وبين لامار لعدة أيام بعد ذلك، ثم جاء إلي بعد ظهر أحد الأيام بينما كنا نقترب من الميناء وقال لي وداعًا. وقال إن كبير المهندسين لم يعجبه عمله، وقد طرده.

ضع مسدسًا في يد مجنون، ويمكن أن يحدث أي شيء.

في وقت سابق، أخبرني أنه خاض دورة تدريبية صارمة واجتاز امتحانًا كتابيًا للتأهل للعمل كعامل تشحيم،لكن اتضح أن لامار غش في الامتحان وكان يعرف الكثير عن مهنة عامل التشحيم. وكما قال لي كبير المهندسين فيما بعد: "كان من الممكن أن يفجر هذا الوغد الصغير الناقلة وكل روح حية على متنها، لذا للأسف قمت بطرده من هنا".

ثمة الكثير الذى ينبغى أن يقال حول صديقى السابق ، ليس مجرد عنصري يرمي الزجاجات، وليس مجرد محتال خطير، بل مختل عقليا فارغا لا يفكر في تصويب بندقيته نحو الغرباء المجهولين وإطلاق النار عليهم دون سبب سوى الطلقة، أو متعة إطلاق النار.ضع مسدسًا في يد مجنون، ويمكن أن يحدث أي شيء. نعلم جميعًا ذلك، ولكن عندما يبدو المجنون شخصًا عاديًا ومتوازنًا وليس لديه أي ضغينة على كتفه أو ضغينة واضحة ضد العالم، فماذا يجب أن نفكر وكيف يفترض بنا أن نتصرف؟ على حد علمي، لم يقدم أحد قط إجابة شافية على هذا السؤال.

كان بيلي نوعًا مختلفًا من الحيوانات؛ فهو حيوان أليف، ولطيف، وصغير السن، يبلغ من العمر ثمانية عشر أو تسعة عشر عامًا فقط، وهو أصغر أفراد الطاقم على الإطلاق. كنت ثاني أصغرهم سنًا، ولكن بجانب بيلي الأشقر ذي الوجه الناعم، شعرت بالتأكيد بالتقدم في السن. كان طفلاً لطيفاً من بلدة ريفية صغيرة في لويزيانا، وكان يتحدث في الغالب عن شغفه بالسيارات المجهزة وصيد الغزلان مع والده، الذي كان يشير إليه باسم "دادى" و"بابا". لقد ذهبنا إلى الشاطئ معًا عدة مرات مع مارتينيز البالغ من العمر أربعين عامًا، وهو رب عائلة من تكساس، ولكن بصرف النظر عن إعجابي ببيلي ووعدي بالذهاب معه للصيد يومًا ما إذا وجدت نفسي في لويزيانا، لم أفعل ذلك. لا أعرفه جيدا. لا شيء من هذا له أية أهمية الآن.

بعد مرور خمسين عامًا، ما يهم هو أنه خلال إحدى محطات توقفنا في تامبا، غادرنا السفينة مع مارتينيز، وبينما كنا نحن الثلاثة ننتظر سيارة أجرة لتقلنا وتأخذنا إلى المدينة،أجرى بيلي مكالمة  للمنزل من الهاتف العمومي الموجود على الرصيف. تحدث مع والده أو أمه لفترة بدا أنها طويلة جدًا، وبعد أن أغلق الهاتف التفت إلينا ونظرة الاضطراب على وجهه وقال: «أخي موقوف. لقد أطلق النار على شخص ما في حانة الليلة الماضية، وهو الآن محتجز في سجن المقاطعة”.

لم يكن هناك شيء أكثر من ذلك. لا توجد معلومات عن سبب قيام شقيقه بإطلاق النار على ذلك الشخص، ولا توجد معلومات عما إذا كان هذا الشخص حيًا أم ميتًا، وما إذا كان على قيد الحياة، وما إذا كان قد أصيب بجروح بالغة أم لا. فقط تفاصيل الأمر: أطلق شقيق بيلي النار على شخص ما، وهو الآن في السجن.

ليس لدي ما أقوله، لا يسعني إلا أن أتكهن. إذا كان الأخ الأكبر لبيلي مثل بيلي نفسه، أي إنسان حسن الطباع ومتوازن بشكل معقول، وليس شخصًا غريب الأطوار يحب إطلاق النار مثل لامار، فهناك احتمال كبير أن يكون إطلاق النار في الليلة السابقة قد حدث بسبب جدال. . ربما مع صديق قديم، وربما مع شخص غريب، وأن التأثيرات المثبطة للكحول لعبت أيضًا دورًا حاسمًا في القصة. تناول علبة بيرة شديدة التركيز ، وينفجر جدال لفظي فجأة وبشكل غير متوقع يتحول  إلى عراك بالأيدي.

تحدث مثل هذه الأشياء كل ليلة في الحانات والمقاهي في جميع أنحاء العالم، لكن الأنوف الدموية وآلام الفك التي تتبع عادة هذه المعارك في كندا أو النرويج أو فرنسا غالبًا ما يتبين أنها جروح ناجمة عن طلقات نارية في الولايات المتحدة.الأرقام مذهلة ومفيدة على حد سواء. إن الأمريكيين أكثر عرضة للإصابة بالرصاص بخمسة وعشرين مرة من نظرائهم في الدول الغنية الأخرى، والتي تسمى الدول المتقدمة، ومع وجود أقل من نصف سكان تلك الدول العشرين الأخرى مجتمعة، فإن اثنين وثمانين بالمائة من جميع الوفيات الناجمة عن الأسلحة النارية تحدث هنا. إن الفارق كبير للغاية، وملفت للنظر، وغير متناسب مع ما يحدث في أماكن أخرى، حتى أن المرء يجب أن يتساءل عن السبب. لماذا أمريكا مختلفة إلى هذا الحد – وما الذي يجعلنا البلد الأكثر عنفاً في العالم الغربي؟

قررت التركيز على المنشئات المادية للمشاهد الطبيعية الأمريكية العادية،الأماكن التي نذهب إليها للعمل، للصلاة، للتسوق، للدراسة، وممارسة حياتنا اليومية. لم أقم بتضمين صور الأسلحة أو الضحايا أو الجناة عمدًا. أردت أن أذكّر الجمهور بمكان حدوث هذه الجرائم، وما حدث للمباني والمناظر الطبيعية التي غالبًا ما يتم نسيانها أو تجاهلها. الأماكن دائمة، لا يمكنك محو مكان، يمكنك هدمه وإعادة بنائه، يمكنك تسويته، يمكنك إنشاء نصب تذكاري أو تركه كما هو. والحقيقة هي أنها ستظل موجودة دائمًا باعتبارها المكان الذي وقعت فيه هذه الفظائع.

***

.............................

* مقتطف من كتاب: (أمة حمام الدم)  للكاتب بول أوستر وسبنسر أوستراندر - 2023.

 

عرف الإعلام الألماني في الشهور الأخيرة ردود أفعال، مكنت من الكشف عن حقائق جديدة حول سيرة ومواقف شخصيات فكرية وثقافية ألمانية على وجه التحديد. ولعل هذا ما لقيناه مثلا في بيان موقع من نيكول ديتلهوف، وراينر فورست، وكلاوسغونتر ويورغن هابرماس. أهم ما جاء فيه: " أن تصرفات إسرائيل لا يمكن وصفهابأنها إبادة جماعية"!؛ وأن لدولة إسرائيل والجالية اليهودية فيألمانيا الحق في الوجود؛ وأن ما يحدث في قطاع غزة لا يمكن مناقشته باسم: "التضامن المفهوم بحق مع إسرائيل واليهود في ألمانيا".

عند قراءة بيان، يتولد انطباع بأن الصراع بينفلسطين وإسرائيل بدأ لأول مرة في 7 أكتوبر 2023؛ وأن ماضي المحرقة في ألمانيامرتبط بأعمال حماس. إن الهدف الأساس من البيان هو إيصال الفكرة التالية: أنه "في الماضي كان كل شيء على ما يرام، ولم تكن هناك مشاكل في فلسطين، وكل المشاكلبدأت مع عملية حماس في 7 أكتوبر 2023".

في المقابل، فإن البيان لا يدعو إلى مناقشة حياةالفلسطينيين ومعاناتهم في السجون مع الاستعمار والاحتلال ومآسيهم مع الإبادةالجماعية وهجمات المستوطنين والاغتيالات واللائحة تطول..

إن أرشيف هابرماس وغيره بات منذ الساعة محط نظر وإعادةالنظر لقراءة ما بين السطور. في هذا السياق، ينقل موقع ت. ر. ت دوتش: أن هابرماسوزملاؤه يستخدمون حياتهم المهنية بأكملها للمساهمة في إدارة التصورات عن إسرائيل داخلألمانيا وخارجا. لكن كيف ينظر المجتمع العالمي إلى هابرماس حتى الآن؟ ما هي القيمالتي دافع عنها حتى الآن؟

يقول دينس بيرغر: لقد حاول هابرماس- كما تعلم منمدرسة فرانكفورت- الالتزام بإجراء فحص نقدي ومساءلة الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهذا يعزز التفكير النقدي بهدف فهم أسس المشاكل الاجتماعية وتغييرها. معذلك، فإن بيانه الأخير لا يُظهر أي جهد لفهم جذور الصراع المستمر منذ 70 عاما بينإسرائيل وفلسطين. وبدلا من ذلك، يتم تجاهل معاناة الفلسطينيين والأطفال الذينقتلوا في غزة.

هناك اهتمام آخر لمدرسة فرانكفورت وهو: الحساسيةتجاه الظلم الاجتماعي وعدم المساواة. ولسوء الحظ، فإن البيان لا يظهر سوى الحساسيةتجاه إسرائيل. وفيما يتعلق بمسألة العدالة، فلا يوجد في البيان ما يشير إلى أنالفلسطينيين يعيشون تحت الحصار منذ سنوات.

لقد أكد هابرماس، الذي كان يعتبر في السابق "منظرا مهما" في مجالات التواصل والفضاء العمومي والمناقشات الأخلاقية، على أنالتواصل بين الناس يجب أن يكون حرا وعادلا، إلا أن تصريحه لم يذكر أن إسرائيل تغلقكافة وسائل التواصل الفلسطينية. بعد سنوات من اعترافه بأهمية النقاش العقلاني، لايوجد في بيان هابرماس ما يتعلق بالعقلانية. وبدلا من ذلك، هناك دعم أحادي الجانبلإسرائيل في هذا النص.

لماذا قام هابرماس والآخرون، الذين دافعوا لسنواتعن مفاهيم؛ مثل: "القيمة والأخلاق والديمقراطية والمناقشة والعدالةوالمجتمع"، فجأة بنشر بيان يتناقض مع كل هذه القيم؟ أ خدعونا في الدفاع عنهذه القيم أم أنهم الآن يستخدمون هذا الإعلان لخدمة إدارة الوعي؟ ما هو الهدف من البيان؟

جوابا على ذلك، يضيف بيرغر، أنه في عام 2012،عندما سأل أحد مراسلي صحيفة هآرتس الإسرائيلية هابرماس عن كيفية تقييمه لسياساتإسرائيل، صرح أنه ليس من وظيفة أي شخص من جيله أن يحكم على ذلك. في الواقع، فإنالتناقض الأساسي عند هابرماس ليس قضية اليوم؛ فمنذ سنوات، ظل هابرماس صامتا في وجهسياسة إسرائيل وتجاهل مفاهيم؛ مثل: النقد والعدالة والديمقراطية والقيم والنقاش. إنمشكلته الأساس له ولجيله هي سيكولوجية الذنب اللانهائية. إن الجيل الذي يتحدث عنههابرماس هو ذلك الجيل الذي عاش الحرب العالمية الثانية والمحرقة في أوروبا. ولكنهنا يكمن تناقض هابرماس: هل ارتكبت حماس هذه الإبادة الجماعية في التاريخ؟.

هنا، يستخدم بيرغر إعارة من أليكس كالينيكوس وهي نقدلاذع وساخر، يوصله إلى موت النظرية النقدية التي يشكل هابرماس أحد أعمدتها حتى اليوم. لقد كتب كالينيكوس عن بيان هابرماس وزملائه، وذلك مثال جيد على كيفية فصل"الأنظمة المعيارية" عن أي اعتبار للحقائق؛ يقول: إن الفلاسفة يدركونببساطة، ومن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء شرح، من أين حصلوا على هذه المعرفة: "أن حماس هي التي ترتكب الفظائع، وأن إسرائيل ليس لديها " نوايا الإبادةالجماعية"!، على الرغم من تأكيدات وزرائها المتكررة على هذه الفظائع. لقد ماتت النظرية النقديةرسميا".

إن مساهمة كالينيكوس ليست محض صدفة، بل هي مثال لقلةمن الأكاديميين ذوي الضمير الحي والموضوعي في الغرب، رغمأن المثقفين الغربيين يحاولون التعويض عن ذنب الماضي من خلال الصمت. وهنا هابرماس لم يختر ذلك، لقد فضل الكلام، ودافع عن أي سياسة إسرائيلية لسداد ديونجيله. لكن، كما يختم بيرغر " هناك حقيقة واحدة يتعين على المثقفين والناسكافة أن يتقبلوها اليوم: وهي أن الدروس المستفادة من المحرقة لا تكمن في مشاهدة الفلسطينيين وهم يُطردون من أرضهم أو يُقتلون"؛ أَضيف إليها مع شارلوته فيديمان،أن على الألمان أن يبدؤوا في نقد اعتبار أمن إسرائيل مصلحة عليا للدولة الألمانية.

***

محمد العفو

 

كنت نشرت اصبوحة عن مائدة نزهت، هذا نصها: (كنت أريد أن أبدأ لقائي الصحفي معها لمجلة الإذاعة والتلفزيون باغنيتها "على دربنا يحوم جذاب الاسمر" فخرجت لابسه أبيض بابيض وقالت: انا ذاهبة للحج، ورجتني أن اتوسط لدى الصحاف" لرفع أغانيها من الإذاعة والتلفزيون مع أن زوجها الفنان " وديع خوندة" هو الأقرب.

ما سر حج الفنانات بيت الله؟

وقبل ان نبدأ بالتحليل، اليكم نماذج من اجابات اكاديميين ومثقفين واعلاميين، كما هي:

 السر واضح لكل متابع.. هناك فهم جمعي مغلوط اخذ عن طريق الشيوخ ورجال الدين ان الذي يعمل بالفن بشكل عام والغناء بشكل خاص قد ارتكبوا خطايا ومعاصي،،، ولذا من الواجب التوبه من خلال الذهاب إلى الحج ليمحي ما سلف من أعمال وأفعال غير صحيحه، ولكن رأيي ان التوبه ليس شرطا ان تكون في الحج بل قبله أيضا، كما أن الغناء والموسيقى ليس محرما في ديننا فلم يرد ضمن المحرمات ال ١٤.

 دكتور الانسان بفطرته يركن للتقرب الى الله، احيانا بالصلاة الكثيرة او الزكاة او الصوم او الحج.. وفنانة مشهورة مثل المرحومة مائدة نزهت وجدت ان العمر تقدم بها، ناهيك عن شعور الفنانين انذاك بقسوة النظام واجبارهم على الغناء لتعظيم صدام والبعث وفقدان الفن لهويته بفعل اجواء الحرب مع ايران والتوجه للاغاني التعبوية.. كل تلك الضغوط ربما ساهمت بقرار نزهت، وانها ادخلتك كوسيط لشعورها بالخوف من ردة فعل الصحاف. حقظكم الله دكتور

 بضاعة بارت، وعمر يفنى، وجسد أكلته السهرات والمساحيق، وقد يكون الخوف من الآتي الاني والبعيد.

 الركون الى التدين، يأتي بعد الشعور بضعف بدني او نفسي نتيجة التقدم بالعمر أو" الفقر على الأغلب، " أو الشعور بالذنب بعد طول ترك طقوس الدين.. (فالله غفور عفوررحيم).

 لأن بعد ما يتقدمن بالعمر يتولد لديهن شعور بأن الغناء حرام، وبالتالي يتولد لديهن الشعور بالذنب وأن الله غاضبا عليهن لأنهن امتهنن الغناء في الشباب وسيحرمن من دخول الجنه.

 الانسان بطبعه حينما يكبر يميل الى الاستقرار،،، بعد ان اخذته الحياة والتفت به في مشاربها ومساربها المختلفه وتعبت ارجله وقله عزمه وتراخت قواه وتورمت اجفانه وأينعت ذاكرة النسيان ووسوست له نفسه ان الامتحان قريب، عاد ليمني النفس بكثبان ماجرى وما حل، ويصغي ايضاً لندائها الخفي اذ لابد من الهچوع والركون وتجاوز الضعف الى ربوع العزله وتقنين كل شيء حتى الاصدقاء ثم الانحدار الى مستويات الشفقه والبحث عن بوصلة الطقس المغترب او الركن غير المؤثث ليمسك بعصى الطاعة والايمان والتفكير الجدي بأن هذا الركن المبعثر ليكن حمالة التدين وشفيف العبادات وربما الطقوس بدلاً من ان يكون حمالة الحطب في نار وقودها الناس والحجاره.

 الانسان يولد على الفطرة وينشأ ويتربى في مجتمع اسلامي ؛ وعندما يكبر ويدرس ويخالط ناس اخرين فقد يتأثر بهم سلوكيا وفكريا، وبما انه يمر بظروف حياتية مختلفة فأنه يبدأ بالتفكير بأنه ميت لا محالة وانه ذاهب الى عالم اخر، فيبدأ بالتراجع عن افكاره الالحادية، فتجده يعود الى الصلاة والصوم وكل الشعائر الاسلامية. وهذه الحالة وصفها القرن الكريم بقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

 احد المطربين الكبار قال مرة :انا لست آسف على ما قدمته من غناء لترسلني الدولة للحج وانا اتوب. لم ترسله الدولة ولم يتب.

 ما بالك بمن تذهب للحج وترجع تتعرى وترقص كما بعض الفنانات!

ومن جميل ما قرأت انه في العام 2017 (وقبله ايضا) ذهب عدد من الفنانين والفنانات للحج، اليكم نماذج عنها من التعليقات.. معظمها ساخرة:

 آيمه حسين الجسمي راح يفخخون الكعبه

 لا هو مبين رح يتقبل اذا يرحون ويرجعون نفس ما همه. مع الاسف يمثلون الاسلام بهالطريقه.

 جان. اخذتو معاكم اليسا وهيفا ونانسي حتى تكمل!

 والله الحج للفنانيين اوبن تكت، واحنا نناضل صار عشر سنيين بدون فائده.

 كلهم على راسي بس ديانا كرزون وين مول الحارثية وين اللبس الفاضح خره بعقلج شكد نغلة قطت المول 110 مليون راحت بيهن للحج ام اللفيح!

 هيى خربانه ناس كلها معاصي شلون يصير تروح للحج حتى فلوسهم حرام!

 والله يا ربي لو تشيله لبيتك احسلك.. راح تجيك سمعه وين ماكو رقاصه تجيك!

 لج باوعي كولهم رايحين بس لا راح يسوون حفله بالسعوديه

 حتى الي يروح للحج ما راضين عليه على منو ترضون حتى رب العالمين، حار وياكم ياشعب!

 الظاهر ان الذهاب الى مكة هذا هو ليس للحج وانما لاخذ الصور وارسالها الى مواقع التواصل الاجتماعى. اهكذا هو الحج يا امة محمد. اهكذا علمكم رسول الله. الحج تفرغ للعبادة فى ايام معدودات. ما ادري ليش يحجبون نساءهم بمكة وخارجها يدافعون وبشراسة عن السفور وان الله لم يفرض الحجاب ويتحدونك بان تأتي بديل وانه رمز للحرية الشخصيه؟

 يتصورن الحج يكفر عن الذنوب !!!! اليوم اصبح الحج مثل باب الأغا.. يتسابق اليه كل من هب ودب.

التحليل

لست متخصصا في الدين، ما اقتضى ان اراجع اطاريح دكتوراه ومقالات علمية رصينة عن الحج والتوبة تمكنني من تحليل الحج بقصد التوبة. فوجدت ان للحج والتوبة مفاهيم متعددة، لكننا سنحددها بالتعرف على سيكولوجيا التوبة من المنظور الأسلامي، برغم تعدد الآراء الأسلامية فيها ايضا!

سنعتمد هنا تعريف التوبة من المنظور الاسلامي بأنها: عملية نفسية يقوم فيها الفرد بالتوقف عن سلوك مرفوض (إسلاميا) ؛ بعد معرفته لضرره، وندمه عليه ؛ مصحوبا بنية خالصة في عدم العودة إليه، والتخلص من الشعور بالذنب والعيش بقية عمره بهدوء بال وراحة نفسية.

وللتوبة ثلاثة شروط : الأول.. الأقلاع عن المعصية وعلامته مفارقة الذنب فورا، والثاني.. الندم على فعلها، وعلامته طول الحزن على ما فات، والثالث.. العزم على أن لا يعود إلى معصية أبدا، وعلامته التدارك لما فات وإصلاح ما يأتي.. فان فقد احد الشروط فأنه لم تصح توبته.

اما الحج فهو في المنظور الاسلامي يعد الركن الخامس من اركان الأسلام، وهو واجب مع الأستطاعة، اما العاجز فلا حج عليه، فيما يعني الحج في منظور علم النفس الأجتماعي بأنه سلوك او فعل او حدث يقوم به الفرد وينجم عنه راحة نفسية ودينية وروحية ويحقق له مكانة اجتماعية واعتبارية تتجسد بمخاطبة الآخرين له بلقب (الحاج او الحاجة).. يحصل فيها على احترام الناس ان كان سلوكه وتصرفاته تلتزم بقيم الدين، ويعيبون عليه، او يسخرون منه، ان كانت مخالفة لها.

والتساؤلات:

 هل الحج يلزم التوبة؟

الجواب: نعم.. دينيا، ولا.. عمليا

 وهل الغناء او التمثيل.. حرام؟

الجواب:

لم يرد نص ديني صريح بذلك، لكن علماء المسلمين يعدونه حراما اذا كان فيه فاحشة، وعاديا ان خلا منها، ومباركا ان كان يبتغي مرضاة الله.، فيما ترى الأغلبية الأجتماعية ليس حراما.

 وهل تقبل حجة الفنانة، الفنان.. من مال هو بمنظور الدين.. حرام؟.

الجواب: بمنظور اجتماعي.. لا تقبل، وبمنظور علماء الدين.. تختلف المواقف، لكنها تتفق اذا كانت متبوعة بتوبة نصوحة.. لأنك ان قلت لا تقبل فهذا يعني ان التوبة لا تقبل حتى لو كانت نصوحة.

 وماذا اذا عادت الفنانة ( الحاجة) تغني سافرة، والفنان يقبل هذه وتلك في ادائه لأغنية او مشهد تمثيلي؟

الجواب: لا تقبل توبته دينيا ولا اجتماعيا.

ختاما

ان الفنانة او الفنان.. حاله حال اي فرد في المجتمع في حقه ان يحج متى أراد، ولكن الأشكالية التي يتعرض لها انه عليه ان يلتزم بالقيم والاخلاق الدينية التي اشترطتها فريضة الحج. فلا يصح، او من غير اللائق، او غير المقبول ان تعود الفنانة التي ادت فريضة الحج سافرة، بل ان تبقى محجبة الى يوم تودع الدنيا، والألتزام نفسه ينطبق على الفنان.. وليس بالضرورة أن يطيل لحية.

وامران مطلوبان من الفنانين والناس.. ان لا يكون من اهداف حج الفنان الترويج لنفسه عند الناس، وان يتعامل المجتمع مع ظاهرة حج الفنانيين والفنانات على انه حق مشروع، وليس من حقه السخرية منهم الا من عاد بعد الحج كما كان قبله!

وتبقى حالة (مشابهة) نصوغها بتساؤل:

 وهل تقبل توبة الشيوعيين الذين كانوا في شبابهم ملحدين، اذا حجّوا؟

نلتقيكم معهم في موضوع قادم.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

ذكرتُ في مقال «فلسفتنا.. ردود لا فلسفة»(الاتحاد: 26 أبريل 2016)، قصة كتاب محمّد باقر الصّدر(أُعدم: 1980)، كيف صنفه رد فعل لطغيان اليسار، وكيف أنَّ مدير الأمن العام فاضل البراك(أُعدم: 1993)، زار مؤلفه كي تقوم مؤسسات الأمن العامة بإعادة طباعته، لمواجهة مد اليسار الثقافيّ، بالاتفاق مع الصدر نفسه، وطُبع الكتاب (النّعمانيّ، سنوات المحنة وأيام الحصار)، كان ذلك في بداية قيام الحزب الحاكم، بإنهاء وجود الحزب الشّيوعي العراقيّ(1977 وما بعدها).

كان راوية الخبر شاهد عيان، فهو الملازم للصدر في تلك الأيام، ثم استفسرتُ من قيادي في «الدّعوة»، وكان وكيلاً للصدر، فصادق على صحة ما رواه النُّعمانيّ. لم يبق الصَّدر ضمن حزب «الدّعوة»، إلا فترة وجيزة جداً، خرج منه بعد الوصول إلى دليل عدم صحة قيام نظام إسلامي، وفق ما جاء في سورة «الشّورى»، قبل ظهور المهدي، وبهذا لا فائدة مِن وجود تنظيم إسلاميّ، إذا لم يكن قيام دولة إسلاميَّة هدفه(أمالي السيد طالب الرِّفاعي. الحكيم، النظرية السّياسية عند الشهيد الصّدر).

كان الصّدر يُقدم الفصول التي ينجزها، محاضرات على طلبة الحوزة في جامع الهنديّ بالنّجف، «لكن طلبة الحوزة الدِّينية والحاضرين أخذوا بالانفضاض، بعد أن كانت قاعة المسجد مملوءة بالمعممين، فعاد إلى الدَّار، وأوقف تلك المحاضرات»(أمالي السيد طالب الرّفاعيّ). قبل ذلك كان العضو في حزب «الدّعوة» محمّد هادي السبيتي(أُعدم: 1988)، ينقل فصول الكتاب إلى صحيفة «الحرية» ذات التوجه القومي «البعثي»، وتنشرها باسم الصّدر(1959-1960).

عموماً، لا يرتاح الإسلاميون مِن أن يكون حراكهم ردَّ فعلٍ، فـ«الإخوان المسلمون» لم يتشكلوا إلا ردِّ فعل لإلغاء نظام السلطنة ثم الخلافة العثمانيّة(1924 انتهت رسمياً)، كي يملأوا الفراغ (1928)، وأنَّ حزب «الدّعوة» الإسلاميّ، وهو نسخة «الإخوان»الشّيعيّة، لا يريد الكوادر المتأخرة الاعتراف بالحقيقة أنَّ حزبهم تأسس(1959)، ردّ فعلٍ على قوة اليسار آنذاك، بشهادات مؤسسيه وكوادره الأوائل، وكذلك سيعترضون على القول بأنَّ كتاب فلسفتنا كان ردَّ فعل أيضاً.

بعد إعدامه ظهر اسم الصَّدر مقدساً، لا يُردّ على كتبه، ولا يُنتقد كلامه. أتذكر أحدهم، قيادي في «الدّعوة»، اعترض على الباحث جورج طرابيشيّ(ت: 2016)، وكنتُ حاضراً، لأنه لم يذكر في محاضرته- كانت عن الفلسفة الأوروبيَّة- اسم الصَّدر، وحسب المعترض: الصّدر «أذهل المناطقة الأوروبيين بفكره»، وآخر قال: ليموت الجميع بعد الصّدر، وغير هذا كثير. لذا واجهني أحدهم باستنكار عندما قلتُ هناك ردود على كتاب «فلسفتنا»، وأقصد، في حياته، قبل «التقديس»، وكان يعني لم يُخلق بعد مَن يرد على الصّدر.

أقول: لو لم يكن كتاب «فلسفتنا» مهماً للتيار الدّينيّ، في وقته، ما حاول نقضه أديب له باع في الكتابة والفكر العلميّ، الذي سنتناوله في مقال قادم، وقد تحرك الصّدر ورّد عليه. ثم صار الكتاب أيقونة عند الإسلاميين، وفي زمن الصَّحوة، فبعض الدراسات العليا أخذت تدرسه لطلابه الصحويين، بعد نزع غلافه، كذلك المحسوبون على التيار «الإخواني»، اعتبروه كتاباً عبقرياً، لكن هؤلاء لم ينظروا له ككتاب وفيه أفكار، إنما نظروا إليه شعاراً وهتافاً.

يغلب على الظَّن، لو لم يُعدم الصّدر، واعتبره النّظام السّابق متعاملاً مع نظام أجنبي، لوجد العراقيون كتاب «فلسفتنا» خلال الحملة الإيمانيَّة الكبرى(1993 وما زالت مستمرة)، على طاولات المدارس وفي الدوائر، فالكتاب ممكن اعتباره، على الرغم مِن بساطته، مِن أهم مناهج الصَّحوة الدّينيّة، فلا يجد الصحويون أفضل منه في المجال التّثقيفي، مثلما اعتقد «البعث»، لأن كاتبه رجل دين شيعي، ينفع في التأثير على الشيعة اليساريين، ففي الوقت الذي به كان العمل الإسلامي ممنوعاً، وتم إعدام كوادر مِن الدّعوة الإسلاميَّة(1974)، إلا أنَّ «فلسفتنا» كان يباع ويتداول علانية.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بالمصادفة وحدها، ونحن نعيش أجواء القمة العربية الثالثة والثلاثين التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي 16 مايس/ آيار2024 في المنامة، وقع بين يديَّ وأنا ارتب مكتبتي من فوضاها الخَّلاقة على عدد قديم من مجلة " المصور" المصرية، وهو عدد خاص بالجامعة العربية، صدر لمناسبة انعقاد القمة العربية الثالثة في القاهرة يوم 13 يناير/ كانون الثاني 1964، وكان علي أمين وقتها رئيساً لتحرير المجلة مع فكري اباظة، وقد كتب كلمة افتتاحية حماسية متفائلة جداً، تحت عنوان " العرب سنة 2000 "سجل فيها توقعاته للعرب "خلال الستة والثلاثين سنة القادمة، وكيف سيرى ان أحلامهم تتحقق حلماً بعد حلم" !.

عدد المصور الصادر في مارس/ آذار 1964 بعد حوالي أربعين يوماً من اختتام قمة القاهرة، سلط الأضواء على الملوك والزعماء والرؤساء العرب الذين حضروها. وأولهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر" من قرية بني مر محافظة أسيوط ولد في سنة 1918 "، والملك الأردني حسين بن طلال " أصغر الثلاثة عشر في لقاء القمة سناً، فهو في التاسعة والعشرين من عمره"، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة " ولد في 3 أغسطس سنة 1903، وتخرج في كلية الحقوق بباريس"، والرئيس الجزائري أحمد بن بيلا " ولد في قرية مغنية أقرب القرى الجزائرية لحدود المغرب"، والرئيس السوداني إبراهيم عبود " ولد في قرية محمد كول، بالقرب من بور السودان على ساحل البحر الأحمر عام 1900"، والرئيس العراقي عبد السلام عارف " صاحب الثلاث ثورات! "، والملك السعودي سعود بن عبد العزيز" من مواليد الكويت في 15 يناير سنة 1902 "، والرئيس اليمني عبد الله السلال " من مواليد صنعاء، تخرج في ثانوية الحديدة، وأتم علومه العسكرية في كلية بغداد العسكرية عام 1934 "، والرئيس السوري أمين الحافظ " كان ضابطاً في الجيش السوري برتبة عميد أركان حرب "، وأمير الكويت عبد الله السالم الصباح " يطلقون عليه في دولة الكويت اسم الأمير العود"، والرئيس اللبناني فؤاد شهاب " ولد في نفس العام الذي ولد فيه الملك سعود، وهو عام 1902 في قرية غزير بقضاء كسروان في لبنان"، والملك الليبي ادريس السنوسي " أناب عنه ولي عهده الأمير الحسن الرضا، فإن الملك لا يستطيع السفر بالطائرة، أما طريق البر فقد قطعته السيول بعد الأمطار الغزيرة التي هطلت على ليبيا "!، وأخيراً الملك المغربي الحسن الثاني " من مواليد الرباط في 9 يوليو سنة 1929 ".

نعود إلى علي أمين وتوقعاته التي فاتت عليها ستة عقود بالتمام والكمال حتى يومنا هذا، من قمة القاهرة إلى قمة المنامة، فالرجل كان يتوقع أن يرى في السنوات القادمة سوقاً عربية مشتركة تتحكم في أسواق العالم، وأن يعم الرخاء من الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي، وأن يرتفع مستوى المعيشة في كل بيت، وأن تختفي الأمية من كل بلد عربي مع اختفاء كل الحواجز الجغرافية والجمركية!. ويمضي أمين في توقعاته بأن تتحول الدول العربية إلى ولايات عربية متحدة، ويتم انشاء جيش عربي واحد، وأن يعود كل لاجئ عربي إلى بيته القديم! وأن يسترد العرب فلسطين، وتبدأ في إسرائيل حركة هجرة ضخمة من اليهود الذين يأسوا من تحقيق فكرة انشاء الوطن القومي،  وتوقع أن تصبح البلاد العربية منار الحرية في العالم، فيلجأ إليها كل أحرار الدنيا. وأن تضرب الأمة العربية مثلاً في التسامح والعدالة والحرية واحترام حقوق الإنسان. ويختتم توقعاته بالقول: اننا سنرى العجب في الستة والثلاثين سنة القادمة!، فإن ما سيحققه العرب في هذه الفترة، لم يحققه شعب آخر في 360 سنة!." أتوقع أن يصدر المصور سنة 2000 عدداً خاصاً من ألف صفحة يتحدث عن الانتصارات التي حققها العرب في السياسة والفن والعلوم! ".

سامحك الله أستاذنا علي أمين، اطمئن فتوقعاتك بالحفظ والصون منذ ستين عاماً، من قمة القاهرة إلى قمة المنامة. نم قرير العين في قبرك فقد تحققت توقعاتك كلها، وأكثر!.

ملاحظة : اضطر علي أمين للخروج من مصر، بعد الحكم بالسجن عشر سنوات على شقيقه التوأم مصطفى أمين بتهمة التخابر لصالح الـ ( CIA ) بعد أقل من عام ونصف على هذه التوقعات ! .

***

د. طه جزّاع

 

في تداعيات عملية "طوفان الأقصى"

منذ أن نعت دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق في إدارة بوش الإبن  ثم دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق،  أوروبا ب" القارة العجوز " وهما يقصدان عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها وعلى حاجتها إلى أمريكا في ذلك،  فإن العجز والشيخوخة تخطيا الجانب العسكري – الإستراتيجي للغرب في كليته ( أوروبا وأمريكا) ولامس الأصول القيمية التي إنبنت عليها الحضارة الغربية والتي هيمنت بها على العالم وجعلت منها نموذجا قابلا للإحتذاء والترويج. فيما يعرف بالمركزية الأوروبية  euro-centrisme  وهو ما أعطى للخلفية العقائدية لهذه الحضور اليهو-مسيحية Judéo-christianisme  التفوق الديني الذي تقاسمته الدولة – الوطنية Etat-nation  في الغرب. جاءت عملية " طوفان الأقصى " في السابع من أكتوبر 2023 لتعري زيفا تاريخيا إمتد لقرون ولتكشف قيما كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. لقد ترهلت تلك المبادئ ثم تكلست حتى أضحت أقرب للشوفينية منها إلى أي شيء آخر. يحتكرها الرجل الأبيض لنفسه دون سواه وهي في قناعة أصحابها ولاسيما أصحاب القرار منهم وبعض " مثقفيهم " تملكا مرضيا خالصا لهم ، رغم أن التاريخ الإنساني يشهد أن ما بلغته الحضارة الغربية إنما هو إرث بشري ساهمت فيه حضارات متعددة ومسارات تاريخية متنوعة منذ ظهور الإنسان على وجه البسيطة .( آنظر رضوان السيد ، الغرب : الصورة والهوية الحضارية وتداعيات الحرب،  صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ،  بتاريخ يوم الجمعة 01 جمادى الآخر 1445 هج/ 15 ديسمبر 2023 ) . لقد كانت عملية طوفان الأقصى بكل تداعياتها نوعا من أوجاع الإفاقة على التاريخ العاصف على حد عبارة أستاذنا توفيق بكار رحمه الله ، إنها وهي تفعل فعلها في الواقع / الحاضر تتوالى إرتداداتها لتعيد طرح  إستفهام كبير حول ما راكمه الموروث الإنساني من مفاهيم وتصورات ؟ هل هناك مفهوم واحد لل" إنسان " أم هنا إنسانات بصيغة الجمع  !!؟؟ . لقد فضحت طوفان الأقصى المفاهيم والنظريات الخلابة والمخاتلة حول الإنسان وحول قيم الحق والعدل وكشفت زيفها ودعت نخبنا الذين أصبحوا سدنة لتلك المنظومة وحراسا لمعابدها أن يراجعوا أنفسهم. لنتذكر ما حصل مع المفكر محمد أركون (1928 – 2010) عندما أثبت في أطروحة الدكتوراه " الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري،  مسكويه مؤرخا وفيلسوفا " أن العرب والمسلمين قد عرفوا النزعة الإنسانية منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلادي وحتى قبله مع الجاحظ ثم مع التوحيدي ومسكويه أي إنهم تحدثوا عن الإنسان في معناه المطلق بقطع النظر عن دينه وعرقه وجنسه،  ثارت ثائرة المستشرقين وإحتجوا على ذلك بدعوى أن الإنسية l'Humanisme هي مفهوم غربي محض (أنظر مقالنا: " المثقف العربي والمركزية الأوروبية: محمد أركون وإدوارد سعيد نموذجين،  صحيفة المثقف،  06 كانون الأول/ ديسمبر 2023 ) يقول أركون: " يبدو طبيعيا الحديث عن إنسية إسلامية un humanisme musulman  وتحديدا في نطاق الفلاسفة ومن حذا حذوها من أصحاب العقول الحرة الذين فوضوا للعقل الإنساني مهمة رسم المراحل العقلية المؤدية إلى هذه الحقائق الكبرى المعروضة على عقيدتنا من قبل الوحي، مثلما هو الأمر في كل الإنسيات كما حددها الغرب – الإنسان هو مركز كل البحوث الفلسفية والعلمية ، نتساءل حول مصيره وأصوله ومكانته في الكون ووضعه البيولوجي والروحي وسلوكه المطابق لنزوعه الإنساني نريد من خلال هذه الدراسة بيان إنتصار هذه النزعة في القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلاديا. " ( آنظر محمد أركون " الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي من خلال كتاب " الهوامل والشوامل " لأبي حيان التوحيدي ومسكويه " ضمن كتاب محمد أركون Essais sur la pensée islamique, ed Gallimard, Paris ,1977 pp 87-100 ترجمة رمضان بن رمضان  ،مجلة الحياة الثقافية تونس العدد 234 / أكتوبر 2012 ،ص33)   حين يقدم الكيان الصهيونى نفسه بآعتباره قاعدة متقدمة حاميا لقيم الحضارة الغربية في وجه البربرية والظلامية وهو يرتكب حرب إبادة يقصف البيوت والمربعات السكنية والمستشفيات والمدارس ويدمرها على رؤوس أصحابها ويقتل النساء والأطفال في ظل دعم لا محدود من قبل أنظمة غربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي هي الداعم الأساسي للكيان الغاصب ، هذا من شأنه أن يعري الغرب أمام شعوبه فهؤلاء الذين وصفوا حركة حماس ومن ورائها الشعب الفلسطيني بالوحوش الآدمية فهل هؤلاء هم كذلك لأنهم يخوضون حرب تحرير تبررها كل شرائع الأرض والسماء ، هل لأنهم يريدون حياة كريمة في ظل دولة حرة مستقلة ، هل لأنهم يرغبون في إسترجاع حقوقهم المسلوبة أرضهم ومقدساتهم منذ ما يزيد عن سبعة عقود يصبحون وحوشا آدمية ! لقد كذبت المقاومة الفلسطينية ممثلة خاصة في حركة حماس كل تلك الإفتراءات وأثبتت تشبعها بقيم الدين الإسلامي الحنيف وهي في جوهرها قيم إنسانية  ، تجلت في تعاملها مع الأسرى والمخطوفين في الوقت الذي كان الأسرى  - النساء والأطفال - من الفلسطينيين يلقون سوء المعاملة ويمنع أهاليهم من إظهار الفرح بتحريرهم  وقد تداولت مختلف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي مما أصاب السردية الإسرائلية في مقتل، لقد كان لذلك السلوك الذي أتته المقاومة أثره في الرأي العام الدولي ولاسيما شعوب البلدان الغربية التي أدركت أن الرواية الإسرائيلية حول فلسطين وحول شعبها  " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " وهو ما كانت تروج له الصهيونية،  رواية كاذبة ، زائفة لطالما لوثت الفكر الأوروبي الذي بدأ يتعافى من أدران الإعلام المتصهين ولوبياته التي ظلت لعقود تمارس الوصاية على الشعوب وعلى ثقافاتها.

إن عملية طوفان الأقصى هي في جوهرها حركة تحرير وطني ومن تداعياتها أنها حركة تحرر لنا ولشعوب الأرض قاطبة من صهينة الوعي القائم على لوبيات المال والإعلام التي عملت على تزييف الفهم وأتاحت للشعوب العربية والإسلامية إمكانية الإستئناف الحضاري للأمة من جديد والمساهمة مع أحرار العالم - الذين يقفون اليوم مع الحق الفلسطيني وفي وجه الغطرسة الصهيونية والأمريكية - في بناء منظومة قيم تقوم على الحق والعدل والمساواة والحرية.

***

بقلم رمضان بن رمضان : باحث في الحضارة العربية الإسلامية

بين حين وآخر، تُطلق في سماء بغداد مذنبات حارقة، وكأن «مدينة السّلام»، يعوزها سَعير الحرب. خرج مَن دعا إلى اعتبار «الغدير» عيداً، وزاد بوصفه وطنياً، بعد أنْ كان يلوم مَن دعا إليها مِن قَبل، لأنه، حسب تصريحاته، عدَّ نفسه صمام أمان العِراق، بينما اعتبار مناسبة تخص طائفة، عيداً في الدّولة تعسفاً للآخرين، بل لفريق مِن الشّيعة، مِن أهل الوئام والسّلام، الذين لا ينتصرون لمثل هذه الدَّعوة. لكن العِراقَ «ومِن عجبِ أنَّ الذين تكفلوا/ بإنقاذ أهليه هم العثراتُ»(الجواهري، الرَّجعيون 1929).

يُثار السؤال: هل احتفل عليّ بن أبي طالب بالغدير عيداً، وكان حاكماً(35-40هجرية)، وأنتم تعتبرونه «تتويجاً إلهيّاً»، وهو بحاجة لتكريسه، أكثر مِن حاجتكم، بسبب النّزاع بالبصرة(36هجرية)، وصفين(37هجرية)، ناهيك عما كان بينه و«الخوارج»، وقد أعلنوا خلعه، وكانوا رجاله؟ كما لم يذكره لا اسماً، ولا مناسبةً، في أدبه المجموع في «نهج البلاغة»، الذي تعتبرونه «أخو القرآن» (الطَّهراني، الذريعة)، ولا في القرآن نفسه. حتّى «فدك» التي تحولت إلى فضائيات للكراهية لم تكن تعنيه، «وما أصنع بفدك وغير فدك والنفسُ مظانها في غدٍ»(النهج).

كيف يكون التّتويج سياسياً إلهيَّاً، وحفيده زيد بن عليّ بن الحُسين(قُتل: 122 هجرية)، اعتبر ما أصطلح عليه بالوصية، إمامة فقه، حتَّى أتته الخلافة (ابن المرتضى، المُنية والأمل).

هذا وعليٌّ نفسه، لا يقر بسلطة إلهية، ذلك في ردَّه على شعار «لا حكم إلا لله»: «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر»(نفسه)، فحكم الله ليس الإمرة السِّياسية، إنما القضاء والقدر(ابن أبي الحديد، شرح النهج). أخيراً إذا كان تتويجاً إلهيّاً فيكون مِن تدبير الله، لا يمنعه أحدٌ مِن البشر! أليس هذا هو المنطق المعقول؟!

ذُكرت خطبة الوداع (10 هجرية)، عند غدير خُم، بين مكة والمدينة، ومنها: «فمَنْ كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ مَنْ والاه وعاد مَنْ عاداه»(اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي). أما الطَّبري(ت: 310هجرية) فسماها «حِجَّة الوداع» و«حِجَّة البلاغ»، وأورد فيها وضع الدِّماء التي كانت على الجاهلية، ووصية بالنِّساء، والالتزام بالأشهر الحُرم، دون ذكر الموالاة. لكنها موجودة، في كتب السُّنة والشِّيعة، والقصد منها العلم، حسب التفسير الزّيدي والصوفيّ، وتأنيب مَن تهجم على عليٍّ عندما كان باليمن، حسب المصادر الأُخر(الآلوسيّ، روح المعاني).

ليس المراد من تكريس الوئام الاجتماعي، حجب الاحتفال بهذه المناسبة أو تلك، فكثرة الأفراح تعمر الأوطان. لكن، ألا تكون سبباً لعاصفةٍ «طوى لها النَّسرُ كشحيه فلم يطرِ»! بمسألة الإمامة التي قال فيها إخوان الصفا(الرَّابع الهجري): «كثر فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين العداوات والبغضاء...»(الرِّسالة الأولى من الآراء والديانات).

أقول: ماذا لو استعادت الطَّائفة الأخرى، ما حدث السَّنة (389هجرية)، وأعلنت يوم «الغار» عيداً مثلما جعله أتراك الزَّمن الماضي (السلاجقة)! مواجهةً «للغدير»(ابن الأثير، الكامل في التّاريخ)، مثلما سنه عيداً صفويو الزَّمن الماضي أيضاً(البويهيون)! والطَّرفان يعرفان جيداً أنه لا شأن للغدير ولا الغار بسياسة الأمس واليوم، فإذا كان السّاسة يتبارون بالمناسبات الطّائفيّة، لم يبق غير القول: «كنا رأينا النُّور في أحلامنا/لو أطبقت جفوننا على المُقل/أظلمت الآفاق في وجوهنا/حتَى ولا بارقة مِن الأمل»(الخاقانيّ، شعراء الغري). ها وقد عدمتم، خلال العقدين والنصف الماضيين بارقة الأمل، ونشأ جيلٌ مشوهٌ باستدراج الماضي، فأخذ الشَّباب يعيشون أحداثه بحذافيرها، عبر المنابر، مفخخات العقول.

ختاماً، لو خرج عليٌّ، وشاهد ما شاهد باسمه، لخصف نعله، وكررها على ساسة اليوم، وهم يسنون «الغدير» عيداً: «والله لهي أحب إلى مِن إمرتكم، إلا أنْ أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً»(النهج)، فأي حقٍّ أقمتم، وباطلٍ دفعتم؟!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم : لورين ديلوناي ميلر

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد تغير نهج الولايات المتحدة في التعامل مع اللجوء عبر تاريخها - العرق أولاً، ثم السياسة التي تسيطر عليها الأيديولوجية السياسية فيما بعد

في الثاني من يوليو عام 1951، دخل مندوبون من 26 دولة إلى إحدى القاعات في جنيف بسويسرا. هناك، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أمضى الرجال 23 يومًا في مناقشة كلمة كان لها، حتى ذلك الحين، تعريف عامي مشترك ولكن لم يكن لها تعريف قانوني محدد.

وقد ساعد هذا التجمع، الذي أطلق عليه رسمياً اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، في ترسيخ دور مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين المنشأة حديثاً من خلال تحديد من سيحظى بالحماية على وجه التحديد كلاجئ.

وبحلول نهاية الشهر، سيوافق 19 من المندوبين على هذا التعريف، مما يلزم بلدانهم بفهم مشترك لما يعنيه أن تكون لاجئاً. ومع ذلك، وعلى الرغم من حضورها القوي في المداولات، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن واحدة منها. وبدلاً من ذلك، اختارت إنشاء تعريف خاص بها، وقد يستغرق الأمر عقودًا قبل أن يصبح متوافقًا مع التعريف المحدد في الاتفاقية.

لقد تغير تعريف اللاجئ في الولايات المتحدة مع المصالح الجيوسياسية للبلاد في جميع أنحاء العالم، مثل تصرفاتها المحسوبة خلال الحرب الباردة التي تشجع المنشقين وترحب بهم. وقد أثر هذا التعريف المتغير على حياة الملايين؛ إن الكلمات التي نستخدمها لوصف الأشخاص الذين غادروا ديارهم - من المهاجرين إلى اللاجئين، وطالبي اللجوء، والمفرج عنهم لأسباب إنسانية - لها عواقب قانونية مهمة بالنسبة لأولئك الذين تم تكليفهم بهم، وتؤثر بشكل كبير على كيفية النظر إليهم والترحيب بهم.

في يونيو/حزيران 2023، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن خطته لقبول 125 ألف لاجئ في البلاد في ذلك العام، وهو عدد أكبر بكثير مما تم قبوله في عام واحد منذ عقود. وفي نهاية البيان قال: "إن الترحيب باللاجئين هو جزء من هويتنا كأمريكيين - لقد تأسست أمتنا على يد أولئك الفارين من الاضطهاد الديني".

لكن هل كان المستوطنون الذين أشار إليهم بايدن لاجئين بالفعل؟ ولم يكن مثل هذا التصنيف موجودا في ذلك الوقت. وبينما ركز هو وغيره من السياسيين من قبله على المستعمرين الأوائل لأمريكا وسعيهم إلى ممارسة شعائرهم الدينية بشكل علني وحر، فإنهم غالبًا ما يهملون الإشارة إلى أن المستعمرين في بحثهم عن ملجأ، شردوا عددًا لا يحصى من الآخرين. هل أفعالهم جعلت الأمريكيين الأصليين لاجئين بالفعل؟ (الآن، في الوقت الذي أصبح فيه المشرعون من كلا الحزبين منشغلين بإحصاء عدد القادمين الجدد على وجه التحديد، يبدو من الواضح أنه لا توجد أرقام لعدد الأشخاص النازحين بسبب الاستيطان في الولايات المتحدة).

علاوة على ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يصلون إلى القارة، فإن فكرة سيادة الدولة لا تنطبق على الأراضي التي تحتلها مجتمعات الأمريكيين الأصليين، لذلك لم يكن هناك شعور بتلقي "الملاذ" من الدولة، وهو الأساس الحديث للمعنى. سوف تتشكل هذه الأفكار ببطء مع مرور الوقت مع تشكل الولايات المتحدة، وانفصالها عن الإمبراطورية البريطانية، وبدأت في نهاية المطاف في إدارة وتتبع وتقييد تدفق المهاجرين. تم وضع أول تعريف قانوني أمريكي للاجئ مع وضع المنشقين في الاعتبار، وخاصة أولئك الذين يمكن أن يثبتوا تعرضهم للاضطهاد الشخصي من قبل الاتحاد السوفييتي. ولكن مع تغير الهجرة، تتغير أيضًا الطريقة التي يشعر بها الناس بالحاجة إلى تجميع الأشخاص المتنقلين وتحديدهم. لقد تم تحديد سياسة الهجرة الأمريكية في القرنين العشرين والحادي والعشرين على أساس الإقصاء المحسوب.

إن التعريف المقبول دولياً للاجئ اليوم يرتكز على الفهم المشترك للسيادة، والذي بموجبه يحق للدول إبقاء أشخاص معينين خارج حدودها حسب تقديرها. ويشكل اللاجئ الاستثناء من هذه القاعدة، وهي مبدأ أساسي في اتفاقية عام 1951 وهو "عدم الإعادة القسرية"، أي الحق في عدم الطرد. وبالتالي فإن تعريف اللاجئ يشكل تصنيفاً مهماً لا يخبر البلدان فقط بالأشخاص الذين ينبغي لهم أن يسمحوا بدخولهم، بل أيضاً بمن يمكنهم بدورهم استبعادهم.3917 اللاجئون

يتوجه الناس إلى جزيرة إليس لإلقاء نظرة على تمثال الحرية وهو يقف في ميناء نيويورك وسط الثلوج في 31 يناير 2017 في مدينة نيويورك. (تصوير سبنسر بلات / غيتي إيماجز)

حصر قانون التجنيس الأمريكي لعام 1790 المواطنة في الأشخاص البيض الأحرار، وهذا يعني عمليًا أولئك القادمين من أوروبا الغربية. كان هذا بمثابة بداية لسياسة الاستبعاد الرسمي. وبعد ثماني سنوات، واصل قانون الأجانب والفتنة هذا النهج من خلال سن أول قوانين الترحيل في الدولة الجديدة. ومن هنا اتخذ الاستبعاد أشكالاً مختلفة. في عام 1803، حظر الكونجرس هجرة السود الأحرار على أمل تهدئة المشاعر المناهضة للعبودية في أعقاب الثورة الهايتية، على الرغم من أن قانون التجنس لعام 1870 من شأنه أن يوسع الحق في التجنيس ليشمل "الأجانب من أصل أفريقي والأشخاص المنحدرين من أصل أفريقي". وفي عام 1882، تحركت الولايات المتحدة نحو موقف تقييدي من خلال قانون استبعاد الصينيين.

واتخذ الكونجرس إجراءات أخرى لتقييد الهجرة أيضًا، بدءًا من حظر الوافدين الجدد الأميين إلى استهداف الفوضويين والراديكاليين. لكن العرق كان بلا شك الطريقة الأكثر أهمية ووضوحًا للإقصاء. ولا شيء قد يجعل هذا الأمر أكثر وضوحا من قانون الحصص الطارئة لعام 1921 وقانون الهجرة لعام 1924، والمعروفين باسم قانون جونسون-ريد، اللذين أنشأا معا حصصا عددية للوافدين على أساس جنسيتهم. وبموجب هذا النظام الجديد، يُطلب من المهاجرين المحتملين التقدم للحصول على تأشيرات قبل أن يشقوا طريقهم إلى الولايات المتحدة.

قُدّم  نظام الحصص في قانون عام 1921 كوسيلة لدعم الهجرة من البلدان المرغوبة، وسط قلق متزايد بشأن الهجرة من شرق وجنوب أوروبا. كانت الحصص الأولية، التي كان المقصود منها أن تكون تدبيرا مؤقتا، تحدد الهجرة بحيث لا تتجاوز 3% من عدد الأفراد الذين يحملون جنسية معينة في الولايات المتحدة اعتبارا من التعداد السكاني لعام 1910. ومع ذلك، ظل مبدأ الحصص قائما. حدد قانون 1924 الهجرة بنسبة 2% من عدد كل جنسية المسجلة في تعداد 1890 حتى عام 1927، عندما أعيد حساب الحصص باستخدام تعداد 1920 وتم تحديد كل جنسية بنسبة إجمالية قدرها 150.000 نسمة. ولم يقتصر تأثير تفاصيل التشريع على الحد بشكل كبير من الهجرة الإجمالية فحسب، بل كان أيضًا يحد بشدة من دخول الأفارقة والآسيويين.

حتى هذه اللحظة، كانت القيود مبنية على البلد الأصلي للشخص، وليس على الغرض من هجرته. لم يكن هناك نظام منفصل للأشخاص الفارين من الاضطهاد - أولئك الذين نسميهم غالبًا لاجئين اليوم. فالمهاجرون كانوا مهاجرين، بغض النظر عن دوافعهم. ورغم أن كلمة لاجئ استخدمت بالتأكيد، بمعنى مماثل لما هو موجود اليوم، إلا أنها لم يكن لها أي معنى قانوني ولم تمنح أية فوائد إضافية. لكن هذا النظام أصبح موضع تساؤل خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات التالية، عندما كانت الحكومة الفيدرالية تبحث عن وسيلة للالتفاف على الحصص لتعزيز مصالحها الجيوسياسية في الخارج. وسرعان ما ستحل الأيديولوجية محل العرق باعتباره النقطة المحددة التي تدور حولها سياسة اللاجئين.

في الفترة من 23 أكتوبر إلى 4 نوفمبر 1956، تناثرت زجاجات المولوتوف والدبابات والجثث في شوارع بودابست. لمدة 12 يوما، تمرد المجريون ضد الاتحاد السوفياتي، ولكن في النهاية تم خنقهم. وقد مات الآلاف، وبدأ عشرات الآلاف في الفرار، معظمهم سيراً على الأقدام، عبر الحدود إلى النمسا.

هناك، تم الاعتراف بالهنجاريين كلاجئين. وعلى النقيض من الولايات المتحدة، كانت النمسا طرفاً في اتفاقية عام 1951. ولكن النمساويين كانوا في حاجة إلى المساعدة. ومن خلال طلب المساعدة من الأمم المتحدة والبلدان في جميع أنحاء العالم، رأى الرئيس دوايت د. أيزنهاور الفرصة.

ولطالما ظلت الحصص قائمة، حاول الساسة والناشطون إيجاد سبل للتحايل عليها، وبالتالي تعزيز مصالحهم الجيوسياسية من خلال السماح بدخول المزيد من أنواع المهاجرين الذين يريدونهم. في عام 1940، أنشأ الرئيس فرانكلين روزفلت برنامجًا منفصلاً عن حصص الهجرة لاستيعاب 2000 لاجئ "سياسي ومثقف" من ألمانيا، على الرغم من أنه من المحتمل أن تكون إدارة روزفلت قد اختارت هؤلاء اللاجئين بعناية. كان الطلب على اللاجئين خلال الحرب العالمية الثانية هائلا، كما كان الخوف في الولايات المتحدة من أن المهاجرين قد يهددون الأمن القومي. وقد لعب السياسيون على هذا الخوف من التخريب من الداخل. وحتى روزفلت، في مؤتمر صحفي في يونيو 1940، قال: "الآن، بالطبع، يجب فحص اللاجئ لأنه، لسوء الحظ، يوجد بين اللاجئين بعض الجواسيس". وردا على ذلك، نُقلت المسؤولية عن ضوابط الهجرة من وزارة العمل إلى وزارة العدل، وزادت وزارة الخارجية من العقبات البيروقراطية أمام القادمين الجدد المحتملين.

ومع نهاية الحرب، كان عدة ملايين من الناس في جميع أنحاء أوروبا قد نزحوا. دعم الرئيس هاري إس ترومان البرنامج الذي أصبح فيما بعد قانون الأشخاص النازحين لعام 1948. لقد استمع إلى نداءات المدافعين عن اللاجئين، لكنه كان يعتقد أيضًا أن مثل هذا الفعل سيكون مفيدًا في أعقاب تدهور العلاقات مع الاتحاد السوفيتي. يذكرنا المؤرخان جيل لوشر وجون سكانلان أن عصر سياسة اللاجئين هذا تم تحديده من خلال فكرة مفادها، كما لاحظ روبرت س. ماكولوم، المتخصص في شؤون اللاجئين بوزارة الخارجية في عام 1958، أن "كل لاجئ من الفلك السوفييتي يمثل فشلاً للنظام الشيوعي". ". يعرّف لوشر وسكانلان سياسة اللاجئين هذه في فترة ما بعد الحرب بأنها "اللطف المحسوب"، وهي السياسة التي يتم من خلالها مساعدة اللاجئين فقط إذا كان ذلك مفيدًا أيضًا لأهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

على مدى السنوات الأربع التالية، وبموجب قانون الأشخاص النازحين، سمحت الولايات المتحدة بدخول أكثر من 350 ألف شخص، ووسعت تعريف اللاجئ ليشمل ليس فقط أولئك الذين يضطهدون من قبل نظام معين، ولكن أيضًا أولئك الذين نزحوا "لأسباب تتعلق بالعرق، الدين أو الجنسية أو الرأي السياسي. كتب كارل بون تيمبو في كتابه «الأميركيون عند البوابة: الولايات المتحدة واللاجئون خلال الحرب الباردة» أن هذا كان له ثمنه. في حين أن معظم الأشخاص الذين دخلوا بموجب قانون النازحين كانوا ضحايا الحرب، فقد تمكن بعض النازيين السابقين والمتعاطفين مع النازية من الدخول كلاجئين. على الرغم من أن قبولهم تم تنظيمه من قبل المخابرات الأمريكية على أمل تحويلهم إلى عملاء مناهضين للشيوعية، إلا أن المدافعين عن اللاجئين كانوا غاضبين من منح أماكن مرغوبة لهؤلاء الأشخاص.

وبينما استمر البرنامج في قبول اللاجئين حتى عام 1952، كان معارضو هذه الاستراتيجية يزدادون صخبًا. وقاد السيناتور بات ماكاران من ولاية نيفادا حملة فرض القيود، ودفع إلى تشديد إجراءات الأمن والفحص، ومهّد الطريق لمعركة أكبر حول الهجرة. وبينما كان المدافعون عن اللاجئين يأملون في إلغاء نظام الحصص، قال مكاران إن القيام بذلك من شأنه أن "يغير التركيبة العرقية والثقافية لهذه الأمة".

ولكن إذا كان هناك أي شيء يفوق نفور مكاران من المهاجرين، فهو كراهيته للشيوعية. وكتب بون تيمبو أن قانون الأمن الداخلي الذي أصدره عام 1950 "ربط بشكل واضح المهاجرين بالشيوعية وحذر من أن قبول الوافدين الجدد يدعو إلى التخريب الشيوعي والتجسس". وقال مكاران إن الحصص كانت حاسمة بالنسبة للأمن القومي.

تم تمهيد الطريق للمعركة، وفي عام 1952، تم تقديم مقترحات الهجرة الليبرالية والمحافظة. سادت تلك المقيدة .أقر مجلس النواب ومجلس الشيوخ مشروع قانون مكاران، الذي رعاه في مجلس النواب النائب فرانسيس والتر من ولاية بنسلفانيا. ولكن عندما وصلت إلى مكتب ترومان، تم نقضها بسرعة. " وقال الرئيس: "الفكرة وراء هذه السياسة التمييزية، بصراحة، هي أن الأميركيين الذين يحملون أسماء إنجليزية أو أيرلندية هم أشخاص ومواطنون أميركيون أفضل من الأميركيين الذين يحملون أسماء إيطالية أو يونانية أو بولندية". وقال إن اللاجئين الفارين من الشيوعية هم الذين يجب أن تكون لهم الأولوية على وجه التحديد. وبدون حماية إضافية للاجئين، رفض ترومان دعم مشروع القانون، لكن الكونجرس تجاوز حق النقض الذي استخدمه وأصبح التشريع قانونًا.

وعندما تولى أيزنهاور منصبه في العام التالي، استجاب لمخاوف المدافعين عن اللاجئين بشأن قانون مكاران-والتر بإصدار قانون إغاثة اللاجئين لعام 1953، والذي أعطى الولايات المتحدة أول تعريف قانوني رسمي لمن يمكن أن يكون لاجئا. سمح القانون بثلاث فئات من النازحين: اللاجئين والهاربين والمطرودين الألمان. تم تعريف اللاجئين على أنهم أولئك الذين يغادرون البلدان غير الشيوعية، والفارون هم أولئك الذين يفرون من المناطق السوفيتية أو الشيوعية في أوروبا، وكان المطرودون الألمان هم أولئك من "الأصل العرقي الألماني" الذين تم ترحيلهم من البلدان التي يسيطر عليها السوفييت. ولأول مرة، أصبح تعريف من يمكن أن يكون لاجئاً مرتبطاً قانونياً بأهداف أميركا المناهضة للشيوعية.

وقد خصص قانون إغاثة اللاجئين أكثر من 200 ألف تأشيرة، ولكن بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الثورة المجرية، كان البرنامج قد انتهى. سُمح لأقل من 800 مجري بدخول الولايات المتحدة بموجب نظام الحصص، ولكن إذا تمكنت إدارة أيزنهاور من إيجاد طريقة للالتفاف حول الحصص، فيمكنها في الوقت نفسه تقديم المساعدة للهنجاريين المحتاجين مع إصدار بيان علني قوي ضد الاتحاد السوفيتي، من الذي كان المجريون يفرون من قبضته.

بدأت الإدارة في البحث عن أداة تشريعية أو إدارية، أي شيء من شأنه أن يسمح لها بالبدء في قبول المجريين بسرعة، وقد وجدت ذلك في مكان غير متوقع: قانون ماكاران-والتر. وكان معظم النقاش حول مشروع القانون يدور حول دعم نظام الحصص، ولم يتم إيلاء سوى القليل من الاهتمام لما أصبح يعرف باسم سلطة الإفراج المشروط. يمنح القانون الرئيس الحق في الإفراج المشروط أو السماح مؤقتًا بدخول الأشخاص إلى الولايات المتحدة طالما أن ذلك يعزز المصلحة الوطنية. وما الذي يمكن أن يكون أفضل بالنسبة للبلاد من اتخاذ موقف قوي ضد الاتحاد السوفييتي؟

وبموجب سلطة الإفراج المشروط، قبلت إدارة أيزنهاور عشرات الآلاف من اللاجئين المجريين، وفي هذه العملية، شكلت سابقة للطريقة التي سيتم بها التعامل مع قبول اللاجئين لعقود من الزمن. عندما صدر قانون الهجرة والجنسية عام 1965، تم حل نظام الحصص وظهر تعريف قانوني جديد للاجئين، وهو تعريف يمزج بين أولئك الذين يخشون الاضطهاد بسبب العرق أو الدين أو الرأي السياسي مع أولئك الفارين على وجه التحديد من البلدان الشيوعية - أو الشرق الأوسط. وتعرف بأنها "المنطقة الواقعة بين ليبيا من الغرب، وتركيا من الشمال، وباكستان من الشرق، والمملكة العربية السعودية وإثيوبيا من الجنوب". ولا يزال من غير الواضح سبب حدوث هذا الشمول الشامل للمنطقة. وكما هو موضح في عام 1975 في مقالة نشرتها مجلة كليفلاند ستيت لو ريفيو، فإن "التاريخ التشريعي صامت بشأن سبب الإشارة إلى هذه المنطقة من العالم باعتبارها مصدر قلق خاص". ربما، كما كتب المؤلف نيكولاس ب. كاب، كان هذا نتيجة للقلق المستمر بشأن أزمة السويس في مصر عام 1956، على الرغم من أنه من غير الواضح سبب استمرارها.

وفي عام 1967، أصدرت الأمم المتحدة بروتوكولها المتعلق بوضع اللاجئين، لتحديث اتفاقية عام 1951، وأخيراً أضافت الولايات المتحدة اسمها كدولة موقعة. وكان تعريف عام 1951، المصمم لمعالجة تأثير الحرب العالمية الثانية، ينطبق فقط على الأوروبيين الذين نزحوا قبل ذلك العام. واعترافاً بالأزمات المستمرة حول العالم، تم تعديل التعريف لرفع تلك القيود. ولكن على الرغم من التزام الولايات المتحدة بقبول اللاجئين بموجب قانون الهجرة والجنسية، إلا أنه لا تزال هناك قيود، واستمر الرؤساء في الاعتماد على سلطة الإفراج المشروط لمساعدة النازحين وتعزيز المصالح الجيوسياسية باسم مكافحة الشيوعية.

في عام 1980، بعد استخدام حقوق الإفراج المشروط لقبول عشرات الآلاف من اللاجئين من جنوب شرق آسيا في أعقاب حرب فيتنام، اعترف المشرعون على جانبي المناقشة المتعلقة بالهجرة بأن النظام يحتاج إلى تحديث. وأخيرا، اعتمدت الولايات المتحدة رسميا تعريف الأمم المتحدة للاجئ في القانون وأنشأت نظام استقبال جديدا خصيصا للاجئين. هذا التعريف، الذي لا يزال مستخدمًا حتى اليوم، يُعرّف اللاجئ بأنه شخص خارج وطنه ولا يستطيع أو لا يريد العودة بسبب "الاضطهاد أو الخوف المبرر من الاضطهاد بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو العضوية في فئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي."

لقد اختفت اللغة المناهضة للشيوعية، ولكن في الممارسة العملية، استمر اللاجئون من البلدان التي تسيطر عليها الشيوعية في السيطرة على قبول اللاجئين. ومع ذلك، مع مرور الوقت، مع انتهاء الحرب الباردة، تلاشت فكرة أن الأشخاص الفارين من الشيوعية كانوا أكثر استحقاقًا للقبول من أولئك الفارين من الأزمات الأخرى. وما ظهر كان نظاماً جديداً كان فيه بلد المنشأ أقل أهمية من الدافع. وقد ساعدت الحاجة إلى إثبات حالة المرء حتى يتم تصنيفه كلاجئ في تعزيز نظام التفكير الثنائي حول المهاجرين واللاجئين: أولئك الذين اختاروا المغادرة مقابل أولئك الذين أجبروا على ذلك. ويعتقد البعض أن التمسك بهذا الثنائي أصبح محور التركيز الأيديولوجي الجديد لنظام الهجرة في الولايات المتحدة، مدعوما بالخوف السائد في كل مكان من أن القادمين الجدد ليسوا كما يزعمون.

كما كتبت الباحثة ريبيكا هاملين في كتابها لعام 2021، "العبور: كيف نصنف الأشخاص المتنقلين ونتفاعل معهم"، "اليوم، يحتل مفهوم "اللاجئ" كشخصية متميزة عن المهاجرين الآخرين مكانًا مهمًا". وأوضحت أن مصطلح "مهاجر"، على عكس مصطلح "لاجئ"، ليس له تعريف قانوني، مما يزيد من الالتباس المتزايد حول ما يشكل الفرق بين الاثنين.

تستنكر هاملين وآخرون في مجال دراساته النقدية المتعلقة باللاجئين هذه الطريقة الثنائية في التفكير. وتشير إلى أنه على الرغم من أن كلمة لاجئ كانت تشير بشكل صارم إلى المنشقين السياسيين من الدول الشيوعية الذين كانوا مهددين بشكل مباشر وواضح في بلدهم الأصلي، فإن هذا الوضع أصبح اليوم أقل شيوعًا. يتحرك معظم الناس بسبب عدد لا يحصى من الأسباب والتأثيرات المتداخلة.

توضح هاملين أن الحصول على الوضع القانوني كلاجئ في الولايات المتحدة اليوم هو، في بعض النواحي، وضع متميز. تأتي هذه الحالة مع بعض الحقوق والحماية التي لا توفرها الحالات الأخرى، مثل حالة الحماية المؤقتة. بسبب تسييس الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، لا تزال ثنائية اللاجئين وطالبي اللجوء مقابل المهاجرين تحتل مركز الصدارة. تكتب هاملين: "لا يقتصر تصنيف المهاجرين على إضفاء الشرعية فحسب؛ بل هو أيضًا «صنع للمكانة» لأن فعل التصنيف يضفي مكانة على الأشخاص."

لكي يتم اعتبار الشخص لاجئًا من الناحية القانونية، يجب أن يتم فحصه والموافقة عليه، في أغلب الأحيان من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، قبل وصوله إلى الولايات المتحدة. اللاجئون، بموجب هذا التعريف، هم الأشخاص الذين نزحوا من بلدهم الأصلي ولكنهم ما زالوا يبحثون عن الحماية وإعادة التوطين. بالنسبة للعديد من اللاجئين، فهي عملية معقدة تنطوي على مقابلات عديدة، وأوراق لا نهاية لها، وعادة ما تكون سنوات من الانتظار في مخيمات اللاجئين. إذا تمت الموافقة على طلب اللجوء الخاص بهم، فيمكنهم بعد ذلك الدخول إلى الولايات المتحدة بشكل قانوني.

ومن ناحية أخرى، فإن طالبي اللجوء هم الأشخاص الذين يعتقدون أنهم مؤهلون كلاجئين ولكن لم تتم الموافقة عليهم بعد. وكما كتبت هاملين، "يميل مؤرخو الهجرة إلى الولايات المتحدة إلى التركيز إما على اللاجئين أو المهاجرين، وكثيرًا ما تقع قصة طالبي اللجوء بين الشقوق". وبدلاً من التقدم بطلب للحصول على وضع لاجئ في الخارج، فإنهم يأتون أولاً إلى الولايات المتحدة ويقدمون طلباتهم من الداخل. وبموجب القانون الأمريكي، فإن الحق في طلب اللجوء محمي، سواء تم طلبه في ميناء الدخول أو بعد الدخول دون تفتيش. ولكن على الرغم من حقيقة أن طالبي اللجوء (المصطلح القانوني الذي يطلق على طالبي اللجوء الذين تمت الموافقة على طلباتهم) واللاجئين يحصلون على نفس الحقوق والحماية، إلا أنه لا تزال هناك تصنيفات قانونية أخرى للنازحين لم يوافق عليها.

وعلى الرغم من الحد الأقصى السنوي للاجئين الذي حدده بايدن، فإن برنامج القبول الذي تم إنشاؤه في عام 1980 لم يكن قادرًا على التعامل مع المواقف المتغيرة بسرعة. لا شيء يجعل هذا الأمر أكثر وضوحًا من استيلاء حركة طالبان على أفغانستان في عام 2021. وفرار عشرات الآلاف من الأشخاص بعد ذلك من البلاد، و جلب الكثير منهم إلى الولايات المتحدة. على السطح، كان هؤلاء الأفغان النازحون يلبيون الفهم اليومي للأميركيين لما يعنيه أن يكون لاجئا، وبالتالي كان يشار إليهم في كثير من الأحيان على هذا النحو في وسائل الإعلام، ومن قبل السياسيين، وغالبا من قبل الأفغان أنفسهم. لكن عدداً قليلاً جداً من الأفغان حصلوا على وضع اللاجئ القانوني، وكان وضعهم المشروط لأسباب إنسانية يعني أنهم يتمتعون بحماية أقل بكثير من اللاجئين.

يحق للمفرج عنهم الحصول على بعض المزايا، مثل التأمين الصحي، ويمكنهم العمل والالتحاق بالمدرسة، ولكن بدون وضع دائم. إنهم غير مؤهلين للحصول على الرسوم الدراسية داخل الولاية في العديد من الولايات أو للحصول على مساعدات مالية فيدرالية. ولا يمكنهم التقدم بطلب لم شمل الأسرة.و لعل الأمر الأكثر أهمية هو أنه يتعين عليهم أن يتحملوا عبء محاكم اللجوء المتراكمة على أمل الحصول على وضع قانوني دائم. من المفترض أن يكون الإفراج المشروط مؤقتًا، ولكن بالنسبة للأفغان الذين ما زالوا غير قادرين على العودة إلى ديارهم، فإن الحد الأقصى لوضعهم لمدة عامين جاء بسرعة مخيفة. ولم يحصل سوى عدد قليل من الأشخاص على حق اللجوء حتى الآن، في حين يعتمد عشرات الآلاف على تمديد البرنامج لمدة عامين. سيتم منحها في أوائل عام 2023. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كان البرنامج سيستمر بعد تاريخ انتهاء الصلاحية في عام 2025. وبدون حماية دائمة، يعيش الخاضعون للمراقبة تحت سيف ديموقليس: فبوسعهم أن يتمتعوا بحماية نسبية مؤقتة، ولكن ليس من دون التعرض لخطر اختفاء هذه الحماية.

وعلى نحو مماثل، أصبحت فكرة "لاجئي المناخ" شائعة على نحو متزايد، ولكن لا يوجد في أي مكان في الخطاب القانوني الدولي أو الأميركي ما يجعل هؤلاء الفارين من الكوارث الطبيعية مؤهلين للحصول على وضع اللاجئ القانوني. بالنسبة للعديد من العلماء والناشطين والسياسيين، تعتبر هذه الأمثلة مادة للحجة القائلة بأن التعريف الحالي لكلمة لاجئ لم يعد كافيا. وتضيف هاملين أنه ربما لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق. وتجادل بأن التعريف كان دائمًا صارمًا عن قصد، لذا فإن المناقشات حول من يجب السماح له بالدخول هي أيضًا، بالضرورة، مناقشات حول من يجب عدم السماح له بالدخول.

إن التساؤل "من يستطيع أن يكون لاجئا؟" يعني أيضا التساؤل: "من لا يستطيع؟" على الرغم من الضغوط اليوم لتصنيف القادمين الجدد إما كمهاجرين أو لاجئين، تحثنا هاملين على أن نتذكر بدلًا من ذلك أن هذا التصنيف جديد نسبيًا: ففي حين أن الناس، بطبيعة الحال، يبحثون دائمًا عن ملجأ، إلا أنهم لم يضطروا دائمًا إلى التوافق مع أحد هذه الصناديق.

ولا تحتاج البلدان اليوم إلا إلى إجراء هذا التمييز لأنها تواصل محاولة إبعاد الوافدين الجدد. مستفيدة من التهديد الدائم بالتخريب (أولاً من الشيوعية واليوم من الإرهاب)، عملت الولايات المتحدة، بل ودول في مختلف أنحاء العالم، على الحفاظ على هذه الثنائية التي تجبر النازحين على تعريف واضح لشيء معقد بطبيعته .

بينما نواجه مناخًا متغيرًا بدأ بالفعل في إجبار أعداد لا حصر لها من الأشخاص على الهجرة إلى أماكن أكثر مضيافة حول العالم، كيف سنفسر لغة الملجأ؟ إن قبول ما يسمى بلاجئي المناخ بموجب قوانين اللاجئين الدولية يعني الترحيب بقبول العديد من القادمين الجدد في وقت حيث أصبحت الهجرة محل نزاع كما كانت دائم.

في كتابه "كل من كان هنا رحل"، كتب جوناثان بليتزر أنه بينما كان المقصود من قانون اللاجئين توحيد إدارة قانون اللجوء من قبل دائرة الهجرة والجنسية، "فمن المفارقة أنه زود الحكومة أيضًا بذريعة قانونية لإصدار حالات الرفض" ". ويوضح أن العنف المعمم لم يعد كافيا، إذ يحتاج اللاجئون إلى إثبات تعرضهم للاضطهاد الفردي. ويقتبس من أحد مفوضي الوكالة شرحه لهذا الأساس المنطقي: "في الأساس، سيكون كل شخص في العالم أفضل حالًا في الولايات المتحدة".

ويبقى أن نرى كيف ستستمر الولايات المتحدة في استخدام هذه اللغة لتحديد الأشخاص المرحب بهم. ومع اقتراب الانتخابات بين المرشحين الذين لا يمكن أن تختلف مواقفهم بشأن القادمين الجدد بشكل كبير، فإن مستقبل أولئك الذين يبحثون عن اللجوء أصبح غير واضح أكثر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من الترويج لسقف مرتفع للاجئين، يفكر بايدن في تقييد الوصول إلى اللجوء من أجل تأمين الدعم للمساعدة لأوكرانيا وإسرائيل. وتتناول هذه المفاوضات إحياء برنامج الرئيس السابق دونالد ترامب المسمى "البقاء في المكسيك"، الأمر الذي يشكك في أساس القانون الدولي للاجئين: عدم الإعادة القسرية. إذا تم تقويض هذا المفهوم القائل بأن أولئك الذين يحتاجون إلى ملجأ لا يمكن إبعادهم، فماذا سيبقى؟

تكتب هاملين: "التصريحات العامة بأن بعض الأشخاص "لاجئون" يمكن أن يكون لها معنى رمزي هائل، حتى عندما يظل الناس بالمعنى القانوني غير مصنفين. إذا تخيل الجمهور مجموعة ما على أنها لاجئون بدلاً من المهاجرين، فإن استعدادهم لاستيعاب الوافدين يتبدل". باختصار، الكلمات التي نستخدمها لوصف القادمين الجدد تشكل الطريقة التي نرحب بهم بها.

عندما فر المجريون من الاتحاد السوفييتي، أشار إليهم الأمريكيون عادة -بتحريض من الساسة ووسائل الإعلام- باسم "المقاتلين من أجل الحرية" للمساعدة في تبرير وصولهم. وبعد ما يقرب من 70 عاما، يشبه ترامب اللاجئين بالثعابين. خلال فترة رئاسته، قامت خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية بإزالة اللغة من بيان مهمتها والتي عرفت أمريكا بأنها "أمة من المهاجرين .

إذا كانت سياسة اللاجئين، حتى عام 1980، تحددها "من"، فإنها أصبحت بعد 45 عاماً تحددها "لماذا". والآن، مع تصاعد الضغوط على بايدن للتوصل إلى اتفاق بشأن الهجرة، يتم تعريف سياسة اللاجئين أيضًا من خلال "كيف". وبينما تروج إدارة بايدن لزيادة قبول اللاجئين لأولئك الذين يتقدمون عبر قنوات الأمم المتحدة خارج الولايات المتحدة، فإنها تحد أيضًا من الوصول إلى طالبي اللجوء على الحدود الجنوبية.

وكما أوضحت المراسلة نادية ريمان مؤخرًا في برنامج "هذه الحياة الأمريكية"، "بدلاً من النظر في سبب مجيئك إلى الولايات المتحدة والحكم على ذلك بناءً على مزاياه، سنقوم الآن بحظرك بسبب الطريقة التي أتيت بها إلى الولايات المتحدة". وكما أفادj ريمان، فإن قاعدة جديدة تسمى "التحايل على المسارات القانونية" تتطلب من طالبي اللجوء إثبات أنهم تقدموا بالفعل بطلب للحصول على اللجوء في بلد مروا به في طريقهم إلى الولايات المتحدة - وتم رفضهم.

ولكن ربما يكون المثال الأكثر وضوحًا على سعي إدارة بايدن للحد من اللجوء بناءً على كيفية سعي المرء للحصول عليه هو تطبيق CBP1. يمكن لطالبي اللجوء التحايل على قاعدة التحايل على المسارات القانونية إذا تقدموا بطلب من خلال التطبيق، على الرغم من أن استخدام التطبيق كان مليئًا بالتحديات. يزداد الطلب على التطبيق لدرجة أنه يتعطل بشكل متكرر، وحتى عندما يتمكن طالبو اللجوء من الحصول على موعد، فإنهم غالبًا ما يحتاجون إلى الانتظار شهورًا حتى يصل هذا التاريخ.

إن سياسات اللاجئين اليوم، وأدوات مثل تطبيق CBP1، كانت غير مفهومة بالنسبة لواضعي اتفاقية عام 1951، الذين توقعوا أن منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين سوف يستمر لمدة ثلاث سنوات فقط. ومن المؤكد أنهم سيشعرون بالذهول إزاء وجود أكثر من 117 مليون نازح في جميع أنحاء العالم بعد مرور 73 عامًا. وكما كتب هاملين: "لم يتوقعوا الدرجة التي سيستمر بها البشر في الاختراع وإلحاق الفظائع ببعضهم البعض في العقود القادمة". ويبقى أن نرى ما إذا كانت السياسة المعاصرة قادرة على تعلم كيفية التكيف مع المتطلبات المتغيرة للجوء.

(تمت)

***

........................

المؤلفة: لورين ديلوناي ميلر/ Lauren DeLaunay Miller  كاتبة وصحفية حائزة على جوائز من كاليفورنيا. تركز تقاريرها على الصحة والبيئة والهجرة. وهي مؤلفة كتاب "وادي العمالقة: قصص من نساء في قلب تسلق يوسمايت".

 

عبد الرزاق عبد الواحد مثالا

القارئ للعلاقة بين السلطة والشاعر من بدء الدولة الأموية الى الآن يجد انها تتمحور في موقفين: اما ان تغدق على الشاعر ليكون مداحّها واذاعتها واعلامها الجماهيري، واما ان تضطهده اقتصاديا ونفسيا، وان تطلب الأمر قطعت رأسه الذي فيه لسانه.

قليل من الخلفاء والسلاطين والأمراء في امتنا تصرفوا مع الشعراء والفنانين تصرفا حكيما وانسانيا و(براغماتيا) كما تصرف الملك (فيليب) مع الفنان (فيلاسكس). فقد كان هذا الفنان مشتركا في مؤامرة ضد الملك الاسباني فيليب، فاعدم المتآمرين جميعهم الا فيلاسكس فقد جعله فنان البلاط. كان قتله سهلا كالآخرين، غير ان الملك فكّر بذكاء بأن الموهبة تكون في العادة نادرة، وأنه يمكن ان يستثمرها.. وكان له ما اراد. فلقد انتج فيلاسكس لوحات فنية رائعة خلدت الملك فيليب، والأهم انها شكلّت انعطافة جديدة في تطور الفن الاسباني، على العكس تماما من موقف سلطة فرانكو التي اعدمت شاعر اسبانيا العظيم الشاب (لوركا).. فخسرت اسبانيا والانسانية موهبة وعبقرية لا تعوّض.

وعبد الرزاق لم يفعل اكثر مما فعله شاغل الدنيا (المتنبي) الذي مدح حاكما وضيعا مغتصبا للسلطة ليوليه على امارة ولو بسعة مدينة حلب. ولما لم يستجب كافور لطلبه هجاه المتنبي بافضع ما في قاموس لسان العرب من مفردات بذيئة!. ولم يفعل اكثر مما فعل شاعرنا الخالد الهائل العظيم (الجواهري) الذي كان سكرتيرا للملك فيصل الأول ومدحه بقصائد كثيرة.. ومدح ملك المغرب وملك الاردن (يبن الملوك وللملوك رسالة.. من حقها بالحق كان رسولا).. ونوري السعيد ايضا: (أبا صباح وأنت العسكري..).. واحمد حسن البكر وصدام حسين: (نعمتم صباحا قادة البعث واسلموا... ) ثم هجاهم شرّ هجاء بعد انقلاب 14رمضان 1963:

(أمين لا تغضب وان اغرقت.. عصابة بالدم شهر الصيام،

وان غدا العيد وافراحه.. مأتما في كل بيت يقام).

ومع ذلك بقي الجواهري، صاحب الروائع الخالدات (أخي جعفرا، قف بالمعرّة، دجلة الخير.. )، والساكن في قلوب العراقيين.. والتاريخ.

ثم، ألم يكن (عبد الرزاق) افضل من شعراء (كبار) يتنفسون الآن هواء الوطن الذي حرموه منه؟.

ومن من هؤلاء الشعراء نظم قصائد وجدانية غاية في الرقة والمشاعر الانسانية الراقية كالتي نظمها عبد الرزاق؟. ومن من شعراء الاسلام، والشيعة تحديدا، نظم قصائد في (الحسين) كالتي تدفقت بها عبقريته، وهو الصابئي اصلا وفصلا؟!.

انا شخصيا (وبيننا لقاءات وجلسات سمر) اكره في عبد الرزاق عبد الواحد سلوكه، وأدين مدحه للطغاة والطغيان، واساءاته لعدد من المثقفين.. غير اننا لا نختلف بشأن عبقريته، بل نكاد نضع موهبته فوق منارة لا تقل علّوا عن منارات المتنبي والمعري والجواهري.. فلماذا ضحينا بعبقرية شاعر في عصر صار فيه ميلاد شاعر معجزة؟!

لقد تساءل الكاتب يوسف ابو الفوز في مقالة طويلة بالمدى (هل ينفع العراقيين اعتذار شاعر سلطوي: كيف سيكون اعتذار عبد الرزاق عبد الواحد، وبماذا سينفعنا ؟ وما قيمته؟)

ومع ان هذا الموقف يحمّل الشاعر مسؤولية جرائم الطاغية، الا انه مشروع، شرط ان يكون مبدأ " ينطبق على جميع الشعراء الذين امتدحوا الطاغية ونظامه. فالواقع يشير الى ان عددا من الشعراء الذين امتدحوا صدام بقصائد وصفوها ب(العصماء) وكانوا يتباهون بها امام طلبتهم.. تولوا الآن مسؤوليات ثقافية وعلمية عالية (الشاعر محمد حسين الياسين الذي لا علاقة له بالبحث العلمي)، ويحتفى بهم في اتحاد الأدباء.. ما يعني ان عبد الرزاق افضل منهم لأنه لم يتلوث برذيلة النفاق.. التي اشاعها شعراء وأدباء وفق مبدأ (عفا الله عما سلف!).. ولخاصة!!

والتساؤل لحضراتكم:

من الأفضل.. اخلاقيا.. الشاعر الذي يمدح الحاكم ولا ينافق، أم الشاعر الذي يمدحه وينافق؟

وهل كان موقفا صحيحا اننا تركنا شاعرا عبقريا يموت في الغربة، و نحرمه من رغبته في ان يدفن في وطن احبه بصدق وشفافية:

(ياعراق هنيئا لمن لا يخونك، هنيئا لمن اذ تكون طعينا يكونك،

هنيئا لمن يلفظ آخر انفاسه تتلاقى عليه جفونك).

اعرف ان بين المعنيين بشؤون الثقافة من صاروا يديرون اوجههم عن من يجهر بالحقيقة امامهم، ويتقصدون في ان لا يوجهوا له الدعوة بمؤتمراتهم ومناسباتهم الثقافية!

والأشكالية..

انهما سيبقيان جبلان لا يلتقيان!.

وهم الرابحون لمتع الدنيا.. وهو الخسران!

***

د. قاسم حسين صالح

بقلم: سوربي جوبتا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يحمل أبهيجيت بهاتاشاريا الشهير تشابهًا صارخًا مع الرئيس الراحل الذي أطيح به بعد الاحتجاجات في عام 2011

في يناير/كانون الثاني، كان المغني الهندي أبهيجيت بهاتاشاريا ضيفًا خاصًا في إحدى حلقات برنامج "Indian Idol"، وهو البرنامج التلفزيوني الشهير لمسابقة الغناء. بهاتاشارياهو أحد مطربي التشغيل الذين يقدمون أصواتهم للممثلين في الأفلام الهندية. لقد غنى بعضًا من الأغاني الأكثر شهرة في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين في بوليوود، ويُعرف شعبيًا باسم صوت النجم شاروخان، حيث قدمه في أكثر من 30 أغنية. أولئك الذين لا يعرفون تقليد الغناء، حتى في الهند، غالبًا ما يكونون في حيرة من أمرهم لأن صوت بهاتاشاريا يناسب تمامًا شخصية خان - يبدو كما لو أن خان نفسه يغني.

نظرًا لأن موسيقى الأفلام هي العنصر السائد في موسيقى البوب في الهند، فإن مغنيي التشغيل في البلاد يتمتعون بشعبية مماثلة لتلك التي يتمتع بها نجوم البوب في الغرب. ومن ثم، ليس من غير المعتاد أن تتم دعوة مغنيي التشغيل للتحكيم في العروض الموسيقية، والتي غالبًا ما تشيد أيضًا بالمغنين والملحنين والممثلين في صناعة السينما. كان الظهور في برنامج "Indian Idol" بمثابة عمل معتاد بالنسبة لـ بهاتاشاريا ومن خلال مقاطع الفيديو الخاصة بالحلقة على وسائل التواصل الاجتماعي، انغمس المشجعون الهنود في بعض الحنين إلى الماضي حيث غنى المتسابقون بعض الأغاني التي لا تنسى للمغني المخضرم.

ومع ذلك، انتشر أحدها على نطاق واسع ودفع بهاتاشاريا إلى نوع مختلف من النجومية - داخل مصر. بالنسبة للهنود، لم يكن هذا شيئًا غير عادي. كان بهاتاشاريا يدلي بتعليقاته لأحد المتسابقين، الذي غنى إحدى أغانيه الشهيرة من فيلم خان الموسيقي الرومانسي الشهير عام 1995، ("القلوب الشجاعة ستأخذ العروس"). لكن ما لاحظه المصريون هو أن المغني الهندي كان يحمل شبها لافتا بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك، مما جعله يثير ضجة كبيرة في البلاد.

انهالت التعليقات على مقاطع الفيديو الخاصة به عبر منصات التواصل الاجتماعي. قال واحد:  "يا رئيس مصر السابق، ماذا تفعل هناك؟" وقال آخر: "أرجو الهند أن تعيد رئيسنا، شعبك في انتظارك". وسأله ثالث: مش هتزور مصر قريب؟

لم توقف وفاة مبارك قبل أربع سنوات الحماس تجاه الرئيس السابق. وقال آخر مازحا إن الهند نجحت في استنساخ مبارك. اقترح بعض الناس أيضًا أن بهاتاشاريا له نفس الصوت وأسلوب المشي. وقال بهاتاشاريا لصحيفة نيو لاينز في مكالمة هاتفية من مومباي: "لقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بي بالتعليقات في الأسابيع الثلاثة الماضية". "في البداية، اعتقدت أنني أتلقى رسائل غير مرغوب فيها. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع فهم اللغة العربية، إلا أنني غارق في الحب والاستجابة من المجتمع العربي بأكمله.

وكان نجلا مبارك، وهما من محبي لاعب كرة القدم محمد صلاح، قد اكتشفا أن المغني قد انتشر بشكل كبير في البلاد.

وقال بهاتاشاريا: "أفهم أن الناس لديهم شعور بأنه بعد وفاة الزعيم السابق، جاء إلى الهند وحلفى  إلى جسدي". "لذا فهم يعتذرون له ويريدون منه أن يعود لمساعدتهم في حل المشاكل التي تواجهها البلاد، مثل ارتفاع التضخم، وأنهم سوف يستمعون إلى كل ما يقوله".

وقد تلقى المغني دعوات من شركات السفر لتسهيل رحلته إلى مصر. وقال: "لقد دعاني أحدهم لافتتاح مطعمه الجديد".

منذ الإطاحة بمبارك في انتفاضة عام 2011 التي بشرت بحركات شعبية أخرى في جميع أنحاء المنطقة فيما أصبح يعرف باسم الربيع العربي، كان المصريون متناقضين بشأن إرثه. وعندما تمت محاكمة الرئيس المريض بعد أشهر قليلة من عزله من منصبه، تجمعت مجموعات صغيرة من المتظاهرين خارج قاعة المحكمة حاملين لافتات كتب عليها: "نحن آسفون، سيدي الرئيس".

قد تنامت هذه المشاعر على مر السنين عندما أعقب الانتفاضة حكم إسلامي وثورة شعبية 30 يونيو أتت بالرجل القوي عبد الفتاح السيسي إلى السلطة – حيث خلص الشعب منحكم الأخوان المسلمين ،وأعاد لمؤسسات الدولة هيبتها فى الداخل والخارج على الرغم من الصعوبات الاقتصادية فى الفترة الاخيرة ، خاصة بعد الحرب الروسية الاكورانية ، وهجوم إسرائيل الإجرامي على غزة .

هذه الصعوبات، كما هي الحال في بلدان أخرى في المنطقة شهدت انتفاضات سلمية وعنيفة، جعلت المصريين يتساءلون ما إذا كان من الأفضل لهم لو لم يفعلوا شيئا على الإطلاق في عام 2011. كما ساعدت في تغذية صناعة وطنية من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الوردية التي تمجد ماضي البلاد، حتى أنها تعود إلى النظام الملكي الذي أطيح به في عام 1952.وقد أدى هذا الحنين إلى الأيام الخوالي إلى زيادة افتتان وسائل التواصل الاجتماعي المصرية بالمغني باتاتشاريا والمطالبات (شبه) المزاحية بأن تعيد الهند مبارك.

وهناك تشابه غريب بين بهاتاتشاريا ومبارك، من ملامح وجهه المربعة وجبهته البارزة إلى تسريحة شعره.

أثار التشابه سيلًا من القصص ومقاطع الفيديو القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المحلية، مما سلط الضوء بشكل خاص على تعصب بهاتاشاريا تجاه صلاح ورضاه عن المصريين الذين انتبهوا إليه فجأة، بما في ذلك الوعد بتخصيص أغنية باللغة العربية للبلاد. وكانت الردود على وسائل التواصل الاجتماعي في معظمها  تشوبها روح الدعابة. وفي حين أعرب البعض عن أسفهم لمعاناة البلاد في السنوات التي تلت الإطاحة بمبارك، أبدى آخرون ابتهاجاً بالتشابه. أطلق أحد مقاطع الفيديو على إنستغرام اسم خطاب مبارك على فيديو بهاتاشاريا، وقال أحد المعلقين مازحا: الآن بعد أن حصلت على مظهر جديد، يرجى العودة. بدونك نحن مثل الأيتام الذين يعيشون مع زوجة الأب الشريرة.

ونظرًا لشعبية بوليوود وخان في الشرق الأوسط، فهو منفتح على فكرة إقامة حفل موسيقي في مصر.

وقال المغني: "الناس يتعرفون على الأغاني لكنهم يدركون الآن من هو المغني لأننا نبقى في الغالب في الخلفية... لكن دعونا نرى ما إذا كان بإمكاني زيارة البلاد".

ولكن في العقد الماضي، مع قيام حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، بتجميع السلطة، أدت السياسة والتعبيرات المتزايدة عن القومية الراسخة إلى انقسام الناس بشكل متزايد، خاصة في صناعة السينما الهندية، التي كانت تاريخياً بوتقة تنصهر فيها جميع الأديان. والمناطق والخلفيات الثقافية. بدأ الناس يتساءلون عن التعاون بين الفنانين الباكستانيين وبوليوود في أعقاب الهجمات الإرهابية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، أصبح الزواج بين الأديان بين الممثلين تحت المجهر العام، كما هو الحال مع حقيقة أن الممثلين المسلمين يهيمنون على الصناعة على مدى العقود الثلاثة الماضية.

في هذه البيئة السياسية شديدة الاستقطاب، أثار بهاتاشاريا في كثير من الأحيان الجدل بسبب عدم موافقته على الفنانين الباكستانيين في الصناعة والتصريحات الهجومية التي أدلى بها ضد المسلمين، الذين يشكلون، كما هو الحال في باكستان، الأغلبية الساحقة في مصر. لقد تم تعليقه بالفعل من X (في ذلك الوقت على تويتر) لإدلائه بتصريحات متحيزة ضد ناشطة هندية.المشاهير الذين اضطروا في السابق إلى الاعتماد على الصحف والمجلات لبث آرائهم، يمكنهم الآن مشاركتها مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي غالبًا ما يضعهم في مشاكل. لا يزال يتعين علينا أن نرى كيف قد يكون رد فعل المعجبين المسلمين الجدد بهاتاتشاريا عندما يكتشفون تعليقاته المثيرة للجدل.

وفي وقت كتابة هذا التقرير، أعرب المغني عن سعادته بالظهور على نطاق واسع باعتباره شبيهًا لمبارك فقط من خلال منشور على إنستغرام، حيث وضع صورته بجوار صورة مبارك والسطر الأول من أغنيته الشعبية " نحن "  عام 1994، والتي تترجم تقريبًا إلى "كلانا مختلف وفريد من نوعه." سيكون من المثير للاهتمام مشاهدة رد فعل بهاتاشاريا على شعبيته المفاجئة في مصر.

***

...............................

سوربي جوبتا/ Surbhi Gupta: سوربي جوبتا محررة جنوب آسيا في مجلة ناي لاينز.

 

يُتحفنا شمس الدين الذهبي(ت: 748 هـ) في «سير أعلام النبلاء»، ثم ابن العماد شهاب الدِّين الحنبلي(ت: 1032هـ) في «شذرات الذهب» بأسماء أشراف الدِّين وشموسه وتُقاته، عُرفوا بـ«الصَّهاينة»، مثل شرف الدِّين عبد القادر الصّهيوني، وشمس الدِّين محمد بن عبد الرَّحمن الصُّهيوني (ت: 949هـ)، وتقي الدِّين أبي بكر بن محمد الصهيوني(ت: 993هـ) وغيرهم، نسبة إلى جبل صهيون بفلسطين، لكن ما أن نسب تيودور هرتزل(ت: 1904) عقيدته إلى الجبل، صار اللقب مرفوضاً، لا يقبل مِن صاحبه، في مجتمعات ودول عديدة، حتى نُسي اسم الجبل نفسه.

كذلك على مدى التّاريخ تسمى الطائفة اليهوديّة بالعراق: الطّائفة الإسرائيليّة (الدليل العراق 1936)، لكن بعد (1948) صار هذا اللقب سلبياً، فتحول اسم الطَّائفة إلى الطائفة الموسوية، وظل هكذا(الدليل العراقي 1960).

كان السواد في العصر العباسي مقدساً، أو صار هكذا، بعد تعميمه شعاراً للثورة العباسيّة، ثم لباساً رسميّاً، في دوائر الدولة، فرضه أبو جعفر المنصور(ت: 158هجرية)- من القفطان إلى العمامة، ثم استبدلت الخضرة بالسواد، بأمر عبد الله المأمون(ت: 218هجرية)، بعد تعيين عليّ الرضا(ت: 203هجرية) ولياً للعهد، فالخضرة كانت شعار العلويين، ومازال، إلى يومنا هذا، المنتسبون للعلويين أو الهاشميين، ثيابهم تجمع بين السواد والخضرة، العمائم السُّود على رؤوسهم، والشّالات الخُضر حول رقابهم.

بيد أنَّ الخليفة المأمون، خشية مِن الانقلاب، سرعان ما عاد إلى السّواد، فاستبدل الموظفون السواد بالخضرة(الطَبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، ومِن المؤكد، بعد اجتياح المغول بغداد، صار السّواد يقتل صاحبه، على أنه نية لإعادة العباسيين إلى السّلطة.

أثرت السّياسة في الفقه ومسائله في الألوان، فكان الإمام أبو حنيفة النُّعمان(ت:150هـ) يعتبر صباغة الثَّوب المُغتصب بالسّواد ينقصه، لأنه يعد السَّواد نقصاناً في زمنه (الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشَّرائع). لكن بعدما أصبح المذهب الرَّسمي للدولة في زمن تلميذي النُّعمان قاضي القُضاة أبي يوسف(ت:182هـ)، وصاحب ديوان المظالم محمد بن الحسن (ت:189هـ) «اعتبرا السَّواد وسائر الألوان سواء» (نفسه).

كذلك، يغلب على الظَّن أنه لو عاش أحفاد المحدث إبراهيم بن مسيرة الطَّائفيّ (ت: 132 هـ)، والإمام أبو زكريا يحيى بن سُليم الطَّائفي (ت: 195 هـ) إلى اليوم، ما سلموا من المضايقة والمعارضة، لأنه تحول إلى «نبز»، مع أنَّه كان لقباً، نسبة إلى الطَّائف المدينة، ولا أظن النَّاس، الذَّائقين مرارة الطائفية، سيلتذون بالعنب الطائفي، مع أنه «عناقيده متراصفة الحَب» (الزَّبيديّ، تاج العروس). هذا، وقد تجد كلّ عقيدة وجماعة مَن يفتخر باسمها، إلا الطّائفيّة، تمارس بقوة، ويتبرأ الجميع مِن لفظها.

ليس أكثر مِن السّياسة الحزبيّة تلاعباً بالعقول، خصوصاً عندما تصبح بيد جماعات لا هم لهم غير تحشيد الأعوان، واجتماعهم بالألوان. ما نتذكره مِن تاريخ العراق القريب، بعد (1963) وطغيان التّيار القومي صار اللون الأحمر تهمةً، حتّى بائعي «الرقي»، امتنعوا مِن مناداتهم «أحمر شرط السكين»، ولا يُقال للطماطم حمراء، بالمقابل عند طغيان التيار اليساري الشيوعيّ، كان النّاس يتغنون باللون الأحمر.

سأختم، بفضيحة ما فعلته تلك السَّياسات بعقول النّاس، وهي واقعة وليست حديث قصاصين، كان صاحب دكان بالبصرة، بشرته تميل إلى الاحمرار، فأُتهم أنه مِن التنظيم الشّيوعيّ، بسب بعض زبائنه المنتظمين، والرجل كان بسيطاً، ليس له في حزب أو نظرية، فأخذ رجل الأمن يعذبه كي ينتزع منه اعترافاً، ولما عجز، صرخ بوجهه: «كيف أنت مو(ليس) شيوعي ووجهك أحمر جنه(كأنه) وجه خروشوف»! كان نيكيتا خورشوف حينها زعيم الاتحاد السُّوفييتي(1953-1964).

هكذا، لعبت، وما زالت تلعب، بنا الأهواء الحزبيَّة، صناعة هواة السّياسة، فكان يُحبس أو يُعدم مَن ينال صدام بكلمة، واليوم يُسجن مَن يطري اسمه، وكلتا الحالتين وفق المعاملة بشرع «الألوان والألقاب».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في اَذار الماضي زار العراق المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية ( IAEA) رافائيل غروسي، وإلتقى برئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني،وكان من بين برنامجه: تفقد موقع التويثة الملوث بالإشعاع، وزيارة مستشفى متخصص بأمراض السرطان، والوقوف على إحتياجاته ذات العلاقة بالوكالة الدولية. وهي زيارة تفقدية عادية. وقد غطى الزيارة وما دار أثناءها المكتب الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء.

أبرز ما نشر عنها ان الحكومة العراقية تسعى للحصول على موافقة الوكالة الدولية بالسماح لها بإنشاء مفاعل نووي للطاقة السلمية. وان رئيس مجلس الوزراء قد أعلن خلال استقباله للسيد غروسي: "عزم العراق على مزاولة نشاطه النووي للأغراض السلمية". ولهذا الغرض " أودع في نهاية العام الماضي لدى الوكالة الدولية متطلبات انضمامه إلى اتفاقيات الأمان النووي. وهو يتطلع للدخول مجدداً في مضمار التطبيقات السلمية للطاقة النووية ". وعبّر السوداني عن رغبة العراق أن يزاول نشاطه السلمي في مجال الطاقة الذرية. وهو يتطلع لمساعدة الوكالة الدولية في وضع البرامج والمشاريع ذات العلاقة بالتطوير في مجال التطبيقات النووية للأغراض السلمية ".

من جهته، أكد السيد غروسي اًنه " سيتم طي صفحة الماضي بشأن رغبة العراق بالاتجاه نحو الطاقة النووية السلمية، وان هذا من أولويات العمل مع العراق، والبدء بوضع خطة لتطبيق الاستخدام السلمي للطاقة في مجال الصحة المستدامة والأورام والطاقة النظيفة في العراق.."

الى هنا والحديث الرسمي العراقي دار حول رغبة العراق وتطلعه بشأن الطاقة النووية السلمية. بيد ان الغريب ان يبالغ مسؤولون عراقيون ويختلقوا أموراً لم تحصل لحد الآن.وتحدثوا وكأن المشروع قريب الإنجاز، ناسين أو متناسين المتطلبات والضمانات الأساسية التي تطلبها الوكالة الدولية لإنشاء مفاعل للطاقة النووية السلمية، والتي لن تمنح رخصة الإنشاء والتشغيل، قبل التأكد من تنفيذها.

والوكالة الدولية تؤكد ان إنشاء المفاعل وحده يستلزم 10 أعوام على الأقل.وتنبه الى إنشاء المنشأة/ المفاعل/ المحطة، ووسائل السلامة والأمان النووي لعملها وإنتاجها، وتوفير المعدات والتكنولوجيا، الى جانب الكوادر العلمية والفنية،الخ، تتطلب أموالآ طائلة لابد من أخذها بالحسبان..

في هذا الشأن نسأل: من أين ستؤمن الحكومة العراقية المبالغ المطلوبة وقد نهبت الطغمة الحاكمة ومافياتها أموال الدولة حتى وصل الحال بمؤسسات رسمية،كوزارة البيئة، إستجداء مبالغ تافهة - مليونين و 4 ملايين دولار لتمشية أعمالها  من حكومات ومؤسسات أوربية..

خلال مؤتمر صحفي مع السيد غروسي في بغداد أعلن رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية نعيم العبودي، أن العراق لا يريد الطاقة النووية لأغراض الحرب والسلاح، وإنما للقضايا السلمية فقط،وهذا من حقه. وذلكم يعتبر ان العراق يلتزم ببنود الاتفاقية الدولية لحظر انتشار الأسلحة النووية ،كأحد متطلبت المشروع.

وقبل هذا، تم في 22/11/2023 إنضمام العراق لـ " إتفاقية الأمان النووي"، و" الاتفاقية المشتركة بشأن أمان التصرف في الوقود المستهلك، وأمان التصرف في النفايات المشعة "، استجابة لأحد شروط موافقة الوكالة الدولية على المشروع المطروح.

المفارقة، أنه قبل إنجاز هذه الخطوة الإلزامية (إيداع صك الأنضمام) بـ 6 أسابيع، أعلن السيد العبودي: "إستحصال الموافقة الأصولية على إنشاء مفاعل نووي صفري"، ولم يوضح متى إستُحصِلت هذه الموافقة، التي لم يأت على ذكرها - حسب متابعتنا- أحد غيره ، لا قبل زيارة مدير عام الوكالة الدولية لبغداد، ولا أثناءها، ولا بعدها..

وكذا بالنسبة لتصريحه بـ " البدء بإنشاء " مفاعل ومحطات نووية صغيرة للأغراض السلمية . فهذا الكلام ليس صحيحاً، لأنه لم يبدء في العراق بعد إنشاء ما ذكره. وكلامه هذا يتعارض كلياً مع تقديم العراق للوكالة الدولية للطاقة الذرية خطته للفترة من 2023 إلى 2030، والتي تضمنت نيته إنشاء مفاعلات نووية، ومنظومات تحت الحرجة، ومحطات كهرونووية، تسمى دورة الوقود النووي.

وعدا هذا، للعبودي تصريح خطير يقر فيه بأن موقع المفاعل المرتقب ملوث بالاشعاع، وسيتم تنظيفه..سنتناوله لاحقاً..

كما ولا يستند لواقع ما ذكره بشأن المفاعل النووي الصفري أو الصغير، الذي " سيوفر مساحة علمية للتدريب وإنجاز الأبحاث التعليمية التخصصية في الجامعات العراقية، مما يسهم في تطوير قطاع البحث العلمي في البلاد"..

ويبدو ان وزير التعليم العالي والبحث العلمي والعلوم والتكنولوجيا،ورئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية، الذي هو مهنياً لا علاقة له بعلوم الطاقة والفيزياء النووية والبحث العلمي، وان السياسة، وليست الكفاءة العلمية، جعلته يتبوء كل هذه المهمات (وهذه مفارقة أخرى)، أراد ان يوحي بان المنظومة السلطوية لطبقته السياسية المهيمنة على مقدرات العراق "مهتمة" بالتعليم والبحث العلمي والباحثين، وان عراق اليوم تحت إدارتها "مواكب" لمثل هذه التوجهات، معتقداً بأن مثل هذا الادعاء  ينطلي على المتلقين الواعين، ساعياً للتغطية على الواقع التعليمي الكارثي، وما أحدثته منظومته السياسية الفاشلة، المهيمنة على الجامعات وكلياتها، من تدمير ممنهج للتعليم ،حتى أوصلته للحضيض، ومن مسخ للعلوم والمعرفة العلمية والبحث العلمي، ومن تشويه للوسط الأكاديمي الوطني الحريص، من خلال إغراقه بـ " المجاهدين" من تجار الدين والفاسدين والفاشلين والجهلة والمتخلفين والظلاميين، وشرعنة شهاداتهم "الأكاديمية" المزورة، والمشتراة من سوق مريدي، ومن الحوزات في إيران ولبنان، وإحلال أصحابها من المحسوبين والمنسوبين محل العمداء والأساتذة والخبراء في الجامعات والكليات من ذوي الكفاءات والمعرفة والخبرة الطويلة.

هذا الواقع المخجل لن يستطيع أحد إخفاءه. مثلما لن يستطيع التغطية على غياب مناهج العراق التعليمية الحالية،على مستوى التعليم العالي والبحث العلمي، لمواكبة التوجهات الحقيقية، العلمية والتكنولوجية، المخصصة للبحوث العلمية والتعليم لصالح الطلبة والباحثين في الجامعات. وقد قضت الإدارة المتسلطة منذ عقدين على الأمكانات الفعلية التي أسهمت في تطوير قطاع البحث العلمي في البلاد.

علماً بان هذه المسألة الخطيرة ستؤثر على المشروع العراقي المطروح، إذ ان أحد المتطلبات الأساسية لمنحه الموافقة هو توفيره للقوى البشرية المالكة للإمكانات المطلوبة، مثل أن تكون مدربة جيدا ومؤهلة علمياً وتكنولوجياً وفنياً، لعمليات إنشاء وتشغيل المفاعل النووي، ولتطبيق معايير الأمان النووي، والسلامة الإشعاعية، وفق إشتراطات الوكالة الدولية. ويشمل ذلك التأهب والإستعداد للطوارئ، وإجادة الممارسة العملية للإجراءت والمعالجات الفورية المطلوبة .

وإرتباطاً بذلك، ولضمان تحقيقة، يفترض وجود جهة وطنية معتمدة، تأخذ على عاتقها مسؤولية إدارة المشروع، والسعي توفير متطلباته، ومنها القوى البشرية المطلوبة، وضمانات الأمان النووي والسلامة الإشعاعية والإستعداد للطوارئ..

في هذا الشأن، توجد في  كل بلدان العالم التي تمتلك الطاقة النووية للأغراض السلمية، وبضمنها مصر والسعودية والأردن والأمارات، وغيرها، هيئة وطنية واحدة، معتمدة رسمياً، وهي متخصصة مهنياً، وكفوءة لمسؤولية إدارة المشروع، والنهوض بمهماته المرسومة.وتكون كمؤسسة حكومية تابعة لمجلس الوزراء، أو للبرلمان. ولعل الأهم هو إلتزام الدولة وسلطاتها بتوفير كافة المستلزمات المطلوبة لنجاح الهيئة، من تشريع قانوني خاص بها، ونظام داخلي لعملها، وادارة مهنية كفوءة علمياً وإدارياً، ومديريات متخصصة تابعة لأنشطتها، وكوادر وكفاءات علمية وفنية، ومعدات وتكنولوجيا حديثة، الى جانب الميزانية المطلوبة. وهي كمؤسسة وطنية مهمة لها دورها الكبير في المجتمع، وتحضى بإحترامه، وتتمتع بالدعم والإسناد الحكومي والشعبي ..على ان كل هذا لا يمنع من خضوع هذه الهيئة ، كأي مؤسسة أو جهة أخرى، للمراقبة، والمتابعة، والتقييم، والمحاسبة...

فهل ستتأسس للمشروع العراقي المطروح هيئة وطنية معتمدة واحدة، كفوءة ومؤهلة وحريصة، وتكون بعيدة عن هيمنة الأحزاب المتنفذة، وعن المحسوبية والمنسوبية؟

نطرح هذه التساؤلات المشروعة، وفي العراق حالياً توجد العديد من الهيئات الرسمية ذات العلاقة، كهيئة الوقاية من الاشعاع ، ومركز الوقاية من الاشعاع ، والهيئة الوطنية للسيطرة على المصادر المشعة، ومديرية السلامة الاشعاعية والنووية، وهيئة الطاقة الذرية العراقية، والهيئة الوطنية للرقابة النووية والإشعاعية والكيميائية والبايولوجية، ودائرة الإتلاف والمعالجة، ومديرية التطبيقات النوويـــة، ومديرية النفايات المشعة.، ومركز تصفية المنشات والمواقع النووية، ومديرية السلامة الإشعاعية والنووية، الخ. ولكل واحدة منها العديد من المديريات والأقسام، ولديها مئات الموظفين، وتكلف الدولة أموال طائلة..

بالمناسبة، أغلب هذه الهيئات تعمل منذ سنوات، وليس واضحاً ما الذي جناه العراق من وجودها ومن تعددها وكثرتها.

***

د. كاظم المقدادي

"شيء من وقاحات المدنيّة وبذاءاتها"

 قد يتذكر البعض من القرّاء ممن يتابع ما جرى في القرن التاسع والقرن العشرين عند تمدد الهجرات الاستعمارية في الامريكتين  إذ ما زالت في ذاكرتي تلك الصورة لرجل وامرأة وطفلهما، من هنود السيلنام الأصليين في أمريكا اللاتينية، أثناء نقلهم عن طريق البحر للعَرض فى أوروبا فى حدائق حيوان بشرية " أؤكد بشرية " فى نهاية القرن التاسع عشر شأنهم شأن الحيوانات المتوحشة

حيث التقطت هذه الصورة سنة 1899، لكن نقل مجموعات من هنود السيلنام بدأ في سنة 1889، بإذن من الحكومة التشيلية وقتذاك لنقل أحد عشرَ شخصاً للعرض فى أوروبا

كان شعب السيلنام  المسالم، يعيش فى منطقة بتاغونيا المعزولة، بين الأرجنتين وشيلي، واكتشف الأوروبيون شعب السيلنام، من خلال نار مخيماتهم، التي كانت تظهر من بعيد .

كان عددهم صغيرا لا يزيد عن ثلاثة آلاف نسمة، حسب إحصائيات سنة 1896، وكانوا يتكلمون لغة تسمى «تشون» ويعملون بالصيد، وجمع المحاصيل، ويتمتعون بطول القامة، والقوة البدنية، والقدرة على التكيّف، وتجنبوا الاتصال أو التعامل مع المستعمرين الأسبان الذين استولوا على الكثير من مواردهم الغذائية وقتلوا الكثير من الحيوانات التي كان يتغذى عليها السيلنام، كما أقاموا مزارع خراف واسعة لأنفسهم على أراضي السيلنام .

ولم يستطع هنود السيلنام، فهمَ مسألة الملكية الخاصة التي فرضها الأسبان على مزارعهم، فكانوا يصطادون الخراف من أجل الغذاء ومواصلة العيش  ليس إلاّ، وهو الأمر الذي رآه الأسبان قطعا للطريق، فبدأوا يهاجمونهم ويرسلون إليهم العصابات المسلحة لتقتلهم، وتأتي بآذانهم ويقطعونها كدليل على القتل .3871 حديقة حيانات بشرية

وفى الربع الأخير من القرن الـتاسع عشر  تم إرسال ثلاث مجموعات من هنود منطقة بتاغونيا إلى أوروبا، حيث تم عرضهم فى حدائق الحيوان البشرية حالهم حال الحيوانات البرية والمتوحشة حينما تُعرض امام الاطفال والزائرين  في الحدائق بعد وزنهم وقياسهم وتصويرهم ؛ وكان يتم عرضهم على الجمهور من 6 إلى 8 مرات يوميًا، وكانت الرعاية الصحية سيئة، ولهذا لم يستطع بعضهم التحمّل فماتوا قبل الوصول إلى أوروبا

في العام 1919 كان عدد هنود سيلنام 297 شخصًا وبسبب التنكيل والتحقير والقتل والاستهانة وبذاءات المستعمر الاسباني  انخفض العدد إلى 25 فرداً فقط بحلول سنة  / 1945

وفي العام 1974 توفيت "أنجيلا لويج" آخر هندية من هنود سيلنام، وانقرضت لغة تشون تماما وأعدادهم كلهم ولم يبق ايّ أثر لديهم على كوكبنا .

شكرا للديمقراطية وسعة الصدر التي تملكها .

تلويحة محبة واعتزاز الى المدنية الغازية لأنها أفنت شعبا صغيرا مسالما لا عدوانيا  .

هكذا جعلناكم شعوبا وقبائل ليتمّ تصفيتهم  لا ليتعارفوا بل لينقرضوا تماما من وجه أديم الأرض .

فما حلّ ببقية الهنود الحمر في أرض اليانكي وقتذاك أهون بكثير مما حلّ بشعب سيلنام بأعداده القليلة وتمّ فناؤه وإبادته تماما على يد الرجل الأبيض حينما تتوحش.

***

جواد غلوم

 

لا شك أن هناك علاقة بين العنف والسياسة، فالعنف يعني استخدام القوة بغض النظر عن شرعية استخدامها، والسياسة هي علاقة بين حاكم ومحكوم وهي السلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية وتحظى هذه السلطة بالشرعية حيث السلطة السياسية تعني القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل أشياء سواء أراد أو لم يرد.

 تعتبر السياسة إحدى أهم ادوات إدارة الازمات وحل المشاكل سواء على المستوى الوطني او العالمي هذا وتعتبر السياسة إحدى ادوات الوصول الى السلطة وبأي ثمن من خلال حملات التضليل والترويج لسياسة معينة او استعمال اسلوب التخويف من سياسة الخصم او العدو.

في أستراليا وقعت هذا العام عدة حوادث عنف وهناك ظاهرة العنف المنزلي او الأسري والتي ذهب ضحيتها قرابة 30 امرأة منذ بداية العام اي بمعدل امرأة كل 4 ايام وهذه الظاهرة ليست جديدة وإن ازدادت حدة هذا العام.

 الحكومة الفيدرالية الحالية ومنذ عامين كانت  قد رصدت مبلغ أكثر من 2 مليار دولار بقليل للحد من هذه الظاهرة وزادت عليهم قرابة المليار مؤخراً بعد اجتماع المجلس الوزاري الوطني الذي يضم حكومات الولايات والمقاطعات الى جانب الحكومة الفيدرالية، ولن ادخل في تفاصيل كيف صرفت او ستصرف هذه الأموال ولكن مقاربتي للمشكلة هي من الجوانب السياسية للعنف سواء الذي يصنف جرائم إرهابية او جنائية او عنف اسري.

بالنسبة للعنف الأسري كثرت الدعوات لتشكيل لجنة تحقيق ملكية عارضتها الحكومة الفيدرالية وايدتها المعارضة، وبنت الحكومة موقفها على ان  تحقيقات اللجنة تحتاج لسنوات لإعطاء توصياتها، والملفت ان المعارضة والتي حكمت البلاد منذ  عام 2013 حتى العام 2022 لم تحرك ساكناً لوضع حل جذري لهذه المشكلة الإجتماعية المزمنة.

وكانت المفاجأة التي فجرتها اليوم 5/5/2024 الوزيرة كاتي غالاغر وزيرة شؤون المرأة وزيرة المالية وزيرة الخدمات العامة على تلفزيون أي بي سي برنامج "انسايدر" عندما قالت أنه من أصل 500 وظفية خصصت لمكافحة العنف الأسري فان الحكومة لم توظف الا 30 موظفاً.

بالإضافة الى جرائم العنف الأسري وقعت في سدني في نيسان الماضي جريمتين الاولى كانت الاعتداء على المتسوقين في مجمع بونداي جانكشن التجاري والذي ذهب ضحيته 6 أشخاص معظمهم من النساء ونفذها نويل كوتشي الذي قتلته الشرطة ولم تصنف الشرطة العملية بالإرهابية وقالت ان المنفذ  كان يعاني من مشاكل نفسية.

بعد 3 أيام على جريمة بونداي وقع حادث إعتداء على رجل الدين القس مار عامانوئيل وبعض المصلين في كنيسة الراعي الصالح في منطقة ويكلي وقد اصيب بعضهم بجراح ولم يقتل أحد في هذه العملية التي صنفتها الشرطة بالإرهابية لان دوافع المهاجم عقائدية حسبما قالت الشرطة.

سببت هذه المعاملة التفضيلية قلقاً من ازدواجية المعايير لدى مجموعتين هما الناشطون في مجال العنف المنزلي وبعض مجموعات المجتمع الإسلامي، فأعرب الناشطون في مجال العنف المنزلي عن غضبهم أن الهجوم الوحشي الذي وقع في بوندي، والذي تعترف الشرطة أنه كان يستهدف النساء على وجه التحديد، لا يعتبر عملا إرهابيا. وثانيًا، بين بعض مجموعات المجتمع الإسلامي التي تشك في أن مرتكب الجريمة المسلم سيُعتبر إرهابيًا، ولن يعتبر غيرالمسلم إرهابيًا حتى لو فعل الشيء نفسه.

بالعودة الى السياسة والسياسيين والاعلام والتصدي لمشاكل العنف ففي الوقت الذي فتحت الحكومة معركة مع صاحب منصة أكس ايلون ماسك على خلفية الطلب الذي تقدمت به الحكومة من أكس بعدم بث صور الهجوم في الكنيسة والتي رفضها ماسك مع انه وافق على وقف بثها في أستراليا فقط.

فعلى الرغم من ذلك  نجد ان السياسيين الاستراليين ولأسباب سياسية يتغاضون عن دور الإعلام التقليدي في أستراليا والذي يحرض بشكل أو بآخر ضد فئات معينة، مثل طالبي اللجوء على سبيل المثال حيث يتم إلغاء الصفة الإنسانية عنهم، وكأنهم يشكلون خطراً على الأمن القومي ولأسباب سياسية بحث، وهذا التخويف والإستغلال تتشارك فيه كل من الحكومة والمعارضة وبأساليب مختلفة خدمة لاجنداتهم السياسية وهذا ما حصل بعدما اتخذت المحكمة العليا في تشرين ثاني 2023 قرارها باطلاق سراح بعض طالبي اللجوء الذين كانوا محتجزين بدون سقف زمني، ومع ان القرار صدر عن أعلى هيئة قضائية في البلاد فقد تم تقاذفه ككرة سياسية بين المعارضة والحكومة فاتهمت المعارضة الحكومة بعدم الاستعداد لاطلاق هؤلاء المحتجزين المدان بعضهم بجرائم سابقة.

وأفضل من يصف هذه الحقيقة هو سكوت موريسن رئيس الوزراء الفيدرالي السابق (أحرار) الذي يصف نفسه بالمؤمن ولم يستطع ان يتبع توصيات السيد المسيح حيث يقول: "ان العالم الذي خدمت فيه كسياسي لم يكن يفكر إلا في السلطة، كيفية اكتسابها، وكيفية التعبير عنها، وكيفية استخدامها (غالبًا ضد الآخرين)، وكيفية التمسك بها. لم يكن أمراً سهلاً أن يكون لديك نفس موقف السيد المسيح، وأعترف أنني فشلت في بعض الأحيان"

وعن جذور العنف يقول الكاتب وليد علي في مقالة له في الهيرالد 3/5/2024  بعنوان :إن تحميل جميع الرجال المسؤولية عن أقلية عنيفة فشل في الحفاظ على سلامة النساء.

يقول علي: لأن عملي الأكاديمي كان يدرس جذور العنف، حيث تحدد الأبحاث بأغلبية ساحقة عوامل مثل الإذلال والعار والشعور بالذنب كدوافع محفزة، وليس قلة الاحترام. عندما تذكر أدبيات الاحترام ، فإن الأمر لا يتعلق بعدم احترام مرتكب الجريمة للضحية: بل يتعلق الأمر أكثر بشعور مرتكب الجريمة بأن شخصًا ما لم يحترمه.

ويقارن علي بين تحميل كل الرجال المسؤولية عن العنف بين النساء وتحميل كل المسلمين المسؤولية عن الارهاب،  ويقول:"فكلما سمعت هذا الخطاب أكثر، كلما ذكّرني بان الأمر متروك للمسلمين لتحمل مشكلة الإرهاب والتعامل بجدية مع حلها. وأن على المسلمين الطيبين أن يضعوا حداً للمسلمين السيئين ، وأن المسلمين بحاجة إلى البدء في تحدي الإسلام المتطرف؛ وأن الإرهاب كان نهاية سلسلة متصلة بدأت بالخطاب المناهض لأميركا، أو بالنساء اللواتي يرتدين الحجاب. ويضيف الكاتب بأن هذه المقاربة كان لها مردود سلبي لانه أشعر المسلمين يالغربة وفي كثير من الحالات أصبحوا دفاعيين".

إن أولويات الشعب الأسترالي هي وضع حد لغلاء المعيشة وتوفير المساكن وحل مشكلة الإسكان والعنف واتخاذ المواقف المحايدة في ما يتعلق بالقضايا الخارجية وخصوصا القضية الفلسطينية.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو  ما هي خطة الحكومة وخطة المعارضة لحل هذه القضايا التي تشكل هاجس لكل مواطن أسترالي؟

 وقد يكون أفضل جواب على هذا السؤال العنوان الذي عنونت به الكاتبة نيكي سافا مقالتها في صحيفة الهيرالد 2/5/2024: إن السردية السائدة عن البانيزي "الضعيف" وداتون "السيء" أصبحت راسخة .

وتعتقد سافا انه إذا استمرت الأمور على ما هي عليه فإن الأحزاب الكبرى ستتراجع شعبيتها ووتتدنى نسبة التأييد لها وتعرض الكاتبة في مقالاتها لاسباب ذلك التراجع سواء كانت الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإداء كل من رئيس الوزراء وزعيم المعارضة.

أخيراً، برز عنصر جديد في الأشتباك بين الحكومة والمعارضة على خلفية تعديل قوانين الكفالة حيث بدأت الاتهامات تتطاير بينهما على خلفية أخر جريمتين وقعتا ضد النساء لان المنفذين خرجوا من السجن بكفالة، ولا يقتصر الامر هنا على الحكومة والمعارضة الفيدرالية  بل يتعداها الى دور حكومات الولايات والمقاطعات وما هو المطلوب منها في هذا الخصوص.

***

عباس علي مراد - سدني

 

في المثقف اليوم