آراء

آراء

غابت منهاره حالة التصدر الاتباعية الاسقاطية "النهريية" بتشبهاتها النمطية الغربية الاوربية عموما، وتفرعاتها وماكان يبدو مناقضا لها من زاوية ماعرف بالنزوع "التحرري" الاشتراكي والقومي، وهو ماقد وقع من دون ملاحظة او اشارة مصدرها الواقع، الى الفشل على ضخامته اذ كانت وظلت عملية الانهيار الصامت، هي الممكنه الغالبة بالدرجة الاولى لانها من دون مرتكزات ذاتيه او مبنبه على موضوعات نابعه من واقع متحرى عنه ومكتشف، ماقد كرسته الاحالة غير المعلنه الى المصدر البراني من النموذجية الاوربية الغربيه المرافقه للفترة المصنعية من الانتقال الالي، وماقد حل به من تراجع، هو اصلا غير معلن عنه مابين اوربا بغربها وشرقها الذاهب لانهيار بنيته التوهميه الراسمالية / الاشتراكية، والموضع القيادي الجديد الامريكي، فحيازه الموضع المفقس خارج رحم التاريخ الامريكي للغلبة، هو كحالة متصدرة لاحقا، دلاله كبرى على لاواقعية وتوهميه النموذجية الغربية بظل الانقلاب الالي بصيغته الابتدائية، وعلى تعدي الانقلاب الحاصل لممكنات الوعي والنموذجية الاوربية، ومع هذا وجدت امريكا في المنظور الغربي الاوربي ونموذجيته، مادة للاستعمال باعتبارها الحداثية الغربية بحيث ظل التراجع النموذجي الغربي خارج البحث ومايزال.

والذي يلفت النظر هنا، هو ظاهرة استثناء لم يجر التوقف عندها او ملاحظتها كما يجب، تلك هي ظاهرة " الدولة / البئر" التي من شانها ان تذكرنا بالخصوصية النهرية والنموذجية النهرية التاسيسية، ولم يسبق ان تساءل احد من فطاحل" مفكري" النهضة والحداثة الايديلوجية، لماذا وجد النفط في هذه المنطقة بالذات متخذا شكل الريعيه التي تقيم دولة غيرمحكومة للانتاجية المجتمعية، وكأنها شكل التجلي اللاحق على النهري الذي بدا ينتبه للغرب ونهضته مع القرن التاسع عشر، بما يضعنا امام متوالية تقابل، الدولة النهرية مقابل (الدولة الامه الاليه الاوربية) على الطرف الاخر من المتوسط، ودول ريعيه نفطية، مقابل الانتقالية الى المجتمعية المفقسه خارج الرحم التاريخي، وهو مايمكن ان ندلل عليه بالظواهرالتي تحتل موقع العنوان المرحلي، بوضع محمد علي مقابل محمد بن عبدالوهاب ومآلات كل منهما وتبدلاته لما يخالفه ومن غير جنسه، مع ذهاب مصر الى "اللانيلية" وذهاب السعودية من الاستعادة في غير اوانها للابراهيمة الختاميه في مجتمع لادولة محارب، الى دولة ريع نفطي بعدان جلب ال سعود المهزومين على يد محمد علي، والمنفيين اللاجئين في الكويت ليصبحوا حكاما نفطيين، يعيلون مجتمعهم ويستعملون العقيده كايديلوجيا.

لم تعد مصر كما قال عنها مصيبا هيرودوت "هبة النيل"، فالنيل راهنا راح يفقد دينامياته، الى ان وصل حدا لم يعد له معه اي فعالية، من جهة بسبب التزايد غير العادي في عدد السكان، ومن جهه بسبب الاليلات المستعملة تشبها بالغرب، ومن باب الرغبة في التطابق معه نموذجيا، الى ان وصل الامر مؤخرا وبعد انتفاضة من نوع تلك التي عرفها هذا الموضع عام 2011، الى انقلاب بنية الدولة التاريخيه باضطلاع" الجيش" المرتكز الاساس لبنيه الدولة التاريخي في هذا المكان لاكمحرك بناء بل كاداة حكم (2) بالمقابل اصيبت الفعالية النهرية الازدواجية في ارض مابين النهرين بانقلاب اختلالي فاصل، نقل الديناميات الفاعلة من حالة العيش على حافة الفناء نتاج المجافات البيئية ومخالفة النهرين للدورة الزراعية، عدا انفتاح الجهات الثلاث العيا للانصبابات السلالية، وللدول واشباهها، الى نوع اخر من العيش على حافة الفناء، نجم عن الافنائية الغربية الممارسة ضد هذا الموضع من المعمورة منذ الاحتلال الانكليزي، وصولا الى الامحاء العسكري الامريكي الاخير، بعد ما صار وجود هذا الكيان مستحيلا لمخالفته الاشتراطات المستجدة المرتكزة الى "دول الابار" كنوع كيانات متناغمه مع الديناميات المفروضة امريكا على المعمورة، فالموضع المعروف بالعراق هو بلد نفطي مضاد للاستراتيجيات الريعية الابارية كينونه، وبفعل كونه ازدواجا تاريخيا، فالريع النفطي فية يستعمل كاداة اصطراعية من قبل الجانب الارضوي من الازدواج المجتمعي، مايفرض عليه بفعل قوة الدفع المضاد من اسفل، الى تعزيز بنية الكيانيه من اعلى، الامر المخالف كليا للمطلوب من الريعية على مستوى المنطقة اليوم، وهو ماقد دفع بامريكا لمحوه من الوجود بانقاق مايزيد عل 2،4 تريليون دولار امريكي، الدول الريعيه الابارية اسهمت فيه كشرط لتسيدها كنموذج" حداثي" استمراري مابعد حداثي اوربي.

(تفيد بيانات البنك المركزي المصري حول تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر عام 2023/2024 إلى دخول 56.6 مليار دولار تدفقات داخلة و10.5 مليار دولار تدفقات مصرية خارجة ليصبح صافي تدفق الاستثمار الأجنبي لمصر 46 مليار جنيه منها 39.4 مليار دولار للدول العربية وبلغ صافي الاستثمار الأجنبي المباشر للإمارات 37.6 مليار دولار وهي تشكل 82% من إجمالي صافي تدفق الاستثمار الأجنبي الي مصر وتمثل 95% من الاستثمار الأجنبي للدول العربية في مصر.

تتعدد تقديرات قيمة الاستثمارات الإمارتية في مصر وعدد شركاتها العاملة في مصر والتي لا تقل عن 1250شركة وقد تصل الي 1941 شركة. كما بلغت الديون الإماراتية لمصر 22.2 مليار دولار حتى عام 2023. ذلك بخلاف مشروع رأس الحكمة والذي قدرت تكلفته الأولية ب 35 مليار دولار ومتوقع ان تصل الي 180 مليار دولار عند اكتمال المشروع)(3).

مصر بتاريخها وحجمها هي ملك جهة متشبهه بالدول، بئر افتراضي بلا وجود ولا اساس مجتمعي، فهي لم تتطلب 2،4 تريليون او اقل او اكثر كي تزول من المشهد وتغدو خاضعه لطور البئري من الزمن الالي وانعكاساته الحالة على المكان، مع كل توهمات حقبته الاولى الاوربية ومقابلها تهويمات محمد عبدة والافغاني التي لم يتوان احد المعدودين من اهم الدارسين ا لمايعرف بالنهضة الزائفة عن ان يعتبرها " نبوية" (4) بينما الانتقال من التخاريف المزرية النهضوية، الى الحقبة البئرية ماتزال مثل الحال الامريكي مع المنجز الاوربي، غير منظورة، وبلا ايه انتباهه من اي نوع كان، حتى ولو ان دول الآبار ارادت علنا وعلى رؤوس الاشهاد استبدال برج بابل ابو الابراج على مستوى المعمورة ببرج زايد الموضوع برانيا وبقاعدة وجهد المليارديرات البهودية، ولعلها تفكر مع الاستحالة العملية اقامه " اهرامات ريعية، وهذا كله بلا ادنى اعتبار من اي نوع كان للديناميات الشاملة، فضلا عن الذاتيه المتعلقة بالانتقال البشري المجتمعي من اليدوية الارضوية الى مافوق ارضوية، الغرض الذي يستمر النكوص دونه عقليا بالذات من قبل امريكا التي لاتملك الحد الادنى من القدرة على الاجابة عن السؤال الحاسم الانتقالي التحولي، وهي لاتجد امامها اخيرا، ومع اقصى حالات ترديها الانحطاطي الترامبي الراهن، غير "الابراهيمه" المنقضية الدور والفعالية التي قامت من حيث التاسيس ككيانيه مرتكزة اليها(5) اصلا، يوم كان اوائل المهاجرين على سواحل القارة الجديدة، (6). ومع التشابه الكينوني بين دول الابار والكيانيه المفقسه خارج الرحم التاريخي من حيث انعدام الاصول، والانقطاعية المجتمعية، تعود اللاارضوية الابراهيمه الزائفة بعد النهضوية الزائفة، بصيغتها التوهمية الاقصى، لتغدو الفكرة العائدة الى الطور اليدوي، المصدر الذي منه تستمد مبررات الوجود والكيانيه على مستوى المعمورة التي انتقلت الى الالة ومعها حتمية الانتقال الى المجتمعية التي من نوعها.

***

عبد الأمير الركابي

 

" خبزٌ مُغموسٌ بالدماء الساخنة".. أبشع مشهد قد تراه على مدار السنوات الأخيرة. هكذا تداول الاعلام صوراً لأرغفةٍ من الخبز ملطخة بدماء الفلسطينيين. هي دماء الأطفال والنساء تحت نيران الإبادة الجماعية في غزة. وقع حاملو الخبز البؤساء ضحايا لقنص صهيوني مباشر، حيث اختلطت الدماء بنسيج الخبز البادي للعيان. مشهد أثار لوناً من الاشمئزاز وضربة صادمة لوعي الأحرار في كل مكان. المشهد عملية تجويع وقتل بيد جنود الاحتلال المجرم. ولكن تمّ اخراجه صمتاً من العالم، وبلغ معناه لكل المتابعين بلا مونتاج. فمن حُسن الطالع أنَّه لا أحد يتحكم في دلالة الأحداث، ولا بإمكانه أنْ يحُول دون آثارها. تداعيات الأحداث تتسرب حيثما شاءَت إلى العقول والمشاعر.

الخبز كأنّه معجون بدماء أُناس من شحمٍ ولحم. صورة زاعقة الاجرام، وهي الأقوى سياسياً واخلاقياً إذا وُجدت ضمائر يقظة. لم تكن الصورة متخيلةً ولا متوقعةً في يومٍ من الأيام. خطت الدماءُ فوق الأرغفة (عبارة من الصراخ الأحمر) أمام العالم: أنَّ الاحتلال تجاوز درجة الوحشية المقيتة. الصورة تُعبر: كم باتت الإنسانية تُداس تحت الأقدام والنعال. ولا أمل في افلات ابناء غزة من الإبادة بعبارات الشجب والاستنكار. لقد امتد التواطؤ مع الاجرام الاسرائيلي إلى القريب والبعيد. ما ذنب أطفال ينتظرون بعض الخبز حتى يتم تفجير أدمغتهم؟! ما مصير أمهات يخطفن أرغفة سوداء ويكون الغموس دماءهن الحيّة؟

لكلِّ صورة عنوان إلاَّ هذه الصورة وحدها جاءت بلا عنوان. لأن التاريخ يوثق الصور ويضعها مباشرة في مقدمة المشاهد. فقط قال (خبز الدماء) تحت عيون كافة الشعوب: إنَّ أوقح وأقذر آلة حربية قاتلة اسمها اسرائيل. دولة أُسست من سراب وتجسدت في ظلام التاريخ الدامس، ولدت قزماً سياسياً تحت المجهر لتتضخم بين ليلة وضحاها إلى كائن عملاق. أرأيتم دولة من عدمٍ جاءت وستؤول إلى العدم كذلك؟! لكن متى..، وكيف..، وبأية وسيلة؟! لا أحد يعلم الإجابة. ثمة سرديات دينية وأخرى سياسية تنسج ( قصص النهاية). وترسم اسكاتولوجيا (أخرويات) السياسة الإجرامية لاسرائبل كذيل للقوى العظمى في المنطقة. ولكنها سرديات تتكيء على الخيال وتطلق أبخرة من محرقة البؤس الذي يعيشه العرب. فكانت سرديات معبرةً عن الفشل لا القوة، وأحدثت لدى الأجيال المتعاقبة ضبابية الرؤية لا وضوح الغاية.

لأول مرةٍ في التاريخ المعاصر أنْ يكون الخبز طُعماً لقتل البشر وإراقة دماء الأبرياء. وهو شطر المعادلة الأصعب في دولة الاحتلال المجرم. سأجوعك حتى النهاية، ولتذهب أنت للاتيان بالطعام حتى أقتلك، ولتكن دماؤك على الملأ نازفة من أحشائك.. ومع ذلك لن تجد من يأخذ بيدك أو من يداوي جراحك، وسنحقق نحن ما نريد من نثر اشلائك وتهجيرك إلى شتات الأرض.

تماماً السيناريو مرسُوم ومخطط له سلفاً ويعرف المجرمون في أورشليم وواشنطن وبعض عواصم العرب كيف تدار الأمور. مثل قتل الحيوانات التي يتم اصطيادها حين تخرج بحثاً عن الطعام هنا أو هناك. استعمال الفخ نفسه الذي تصطاد به الحيوانات المفترسة ضحاياها الجائعة في الغابات والسياسة جنباً إلى جنب. لا فرق كبير بين أحراش امريكا الهنود وأحراش غزة، الصيادون هم أنفسهم يركضون ليل نهار خلف الضحايا. أحياناً تحمل الصور دلالتها النوعية، ولكن بعض الأعمال الوحشية( مثل الإبادة الجماعية) تضم الممارسات المتماثلة إلى بعضها البعض، سواء أكانت الإبادة ضد الإنسان أم الحيوان!!

منذ يومها الأول، زُرعت اسرائيل كدولة شاذة جيوسياسياً في ضوء مصادرها الكولونيالية. دولة مؤلفة من كومة جرائم ضد الإنسانية، لكنها تصدرت- مع الوقت- المنصات والاجتماعات والمؤسسات ذات الصبغة العالمية. أوجدت لها موطىء قدم في حكومات الدول المؤثرة وأقامت لوبيات لدى الاحلاف وأصبحت رقماً بين صانعي القرارات الدولية. حقيقي لم تكن الدولة الصهيونية شيئاً ذا بال في تراث العالم الحضاري ولا السياسي، ولكنها أضحت متواطئةً مع كل القوى الكبرى. تاريخ اسرائيل مُشبع بدماء الشعب الفلسطيني النازف. يستحيل التأريخ لآثار الموت في منطقتنا العربية دون المرور بجرائم أبناء صهيون. يمر خط الموت والدماء المُراقة يومياً من هناك إلى أي مكان آخر مثل مرور أنابيب النفط إلى دول الغرب. اسرائيل أكبر سلة مهملات كولونيالية في خريطة الدول المعاصرة. ورثت كل أساليب الوحشية والتدمير من سابقاتها.

الذهنية الكولونيالية لم تمت بين ركام التغيرات والأحداث العالمية، لكنها تحولت في أشكال من التوحش السياسي المتأخر. ليس العنف الاسرائلي وليد الصدفة ولن يكون، ولكنه ميراث طويل الترويض عبر واقع الحال وعبر أحدث التقنيات والخطط البديلة. وها هي دولة الاحتلال تمارسه طوال الوقت دون رادع من قيم أو اخلاقيات. بل كيف نناشد أخلاقاً أو مواقف إنسانية وهي منعدمة في صلب الكيان الصهيوني؟!! يعرف القاصي والداني: كيف تشكلت عصابات الصهيونية في بداية غرس بذرة الوطن القومي لليهود. البذرة كانت هجينة ومهندسة كولونيالياً ورفضها كامل التراب الفلسطيني، لأنها غريبة عنه ومازالت، ولكن القوى الاستعمارية أصرت وقدمت كل الدعم حتى تضرب بجذورها عبر فلسطين التاريخية. المعادلة أنَّ اسرائيل التاريخية تقوم على انقاض فلسطين التاريخية بالتبعية. معادلة إزاحة واحلال السكان الأصليين لا شيء آخر. المعادلة التي تناهز قرابة المائة عام الماضية للاستيلاء على فلسطين.

من يخبر الاحتلال أن الخبز لدينا نحن البشر هو الحياة؟ يعادل كل العمل الذي يقوم به الإنسان. نقول إزاء بعض الأعمال: الأمر أكل عيش. ولكن من سخرية العيش بين الأوغاد: أنْ بات الخبز لأهل فلسطين الجريحة (ذروة الأمل وعمق الألم). الأمل في أنْ يأخذ بأيدهم أقرب الناس ( العرب ). أن يمدوا إليهم يد الحياة في شكل عبوات طحين و مواد غذائية و معلبات. ولكن كل ذلك لم يحدث على نحو متواصل، نظراً لجرائم الحصار والاحتلال وعدم شعور البعض بالمسألة من الأساس. لعل اهدافاً كبرى وسط الهزائم الحضارية تتقزم في شكل كسرة خبز لا أكثر ولا أقل. وأن يتسول ابناء العرب في أية دولة من دولهم بقايا الموائد وفائض المعونات التي لا تسمن ولا تغنى من جوع. ومع ذلك لم تستطع دولة عربية واحدة اختراق الحصار الجائر على أهل غزة!!

أيقظت أرغفة غزة عيون الجوع مترامي الأطراف في وطننا العربي وإنْ كان الفلسطينيون  يحتلون قلبه. ليست هناك اختلافات كبيرة بين عرب وعرب إلاَّ في درجات" الجوع والتُخمة". في مجتمعات العرب، يمرح الجوع ليلاً ونهاراً، ثم يبات على اسرة من تراب البشر داخل  فلسطين.  في مجتمعات العرب أناس يتسولون على نواصي الأزقة والشوارع والساحات والميادين، بينما آخرون يعانون من السمنة المفرطة والولائم الأسطورية التي تعلوها الجِمال والأبقار والثيران المشوية. وعلى الصعيد السياسي، تحولت خريطة العرب إلى مائدة شهية أمام القوى العظمى. أخذ ملك أخر الزمان ( ترامب أمريكا) يحرك الخطوط يميناً وشمالاً وقد اقتنص اموال الجباية السياسية أضعافاً مضاعفة. وأعلن أن النفظ والثروات لا يجب أن تخرج من بين أنيابه. وأخذ يبتز الجميع ويزاحم أهل المنطقة العربية على مقدرات وحقوق شعوبها.

المشهد يثير أفكاراً بقدر فظاعة الدماء التي أريقت وبقدر التخلف الحضاري الذي نعيشه. لماذا لم نستفق نحن العرب حتى اللحظة؟ هل دورنا فقط في انشاء تكايا وأفران لطهي الطعام في أرض فلسطين التاريخية. اللافت أن يأتي اسم التكية عنواناً للطعام في غزة. التكية اسم استعماري أيضاً مرتبط بحقب الظلام والغزو لوطننا العربي من دولة الباب العالي. لأن استعمال كلمة "تكية"  استعمال تركي الأصل. وتدل على مكان استراحة أو مكان يتم الاعتماد عليه طلباً للإعالة والرعاية. وقد اشتُقت من الفعل العربي" اتكأ " بمعنى استند إلى. وقد انتشرت الكلمة في العصر العثماني للإشارة إلى مراكز خيرية واجتماعية لرعاية الفقراء والمحتاجين وعابري السبيل والدراويش والبهاليل.

ما الذي يتكيء عليه الفلسطينيون مقدساً كان أم سياسياً؟ تعلن التكايا - من طرف خفي- أن الفلسطينيين لا حق لهم في الأرض. وأن الغذاء مرحلة مجانية لثمن باهظ فيما بعد. وفي السياسات الكولونيالية لا شيء مجاناً. الطعام يبدأ بالتكايا والهبات والاغاثة وينتهي بالتهجير على ما يبدو. التكايا تجمع في حزمة احدة تاريخ (الاستعمار والتهجير)، بجانب ما بينهما من أعمال قتل وتصفية للقضايا الإنسانية والقيم والقوانين والحقوق. لندقق في الأمر جيداً: أهل الأرض يصبحون ضيوفاً على نواصي التكايا وأفران المساعدات. ماذا ينتظرون سوى الخروج إلى أية دولة أخرى؟

إن العقدة التاريخية لبني اسرائيل نتيجة الخروج من مصر الفرعونية ( أرض الأجداد ) ترسبت في الخلفية السياسية لهذه الدولة. ترسبت لدى كل قيادات الجيش والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والمستوطنات والشعارات الصهيونية. بات الخروج من الأرض هو الهدف القاتل الذي يرونه مناسباً لأهل فلسطين كل فلسطين. ليست المسألة قضايا الضفة وقضايا القطاع، بل المسألة هي رسم سيناريو الخروج الجماعي للشعب الفلسطيني من أرضه أيا كانت. المقايضة أمست هي الرهان الخبز مقابل الحياة خارج الأرض أو الموت المباشر.

لو تمكنت اسرائل يوماً ما من خريطة اسرائيل الكبرى، فلن تفعل إزاء الشعوب العربية سوى آلية الخروج بالمثل. نقل تاريخ اليهود ذلك منذ نبوخذ نصّر في العراق حتى حروب اسرائيل الأخيرة مع مصر وفلسطين. كانت تأخذ الأرض ولا تقبل القسمة إلاَّ عليها منفردة. لم تعشْ اسرائيل بين جيرانها إلاّ مع تطبيق سياسات الخروج للشعوب الأخرى. إنَّ بني اسرائيل المعاصرين يعيدون كتابة التاريخ الذي سُلط عليهم كالسيف مع الدول التي حاربوها. التاريخ اليهودي يعود إلى الوراء، عوداً على بدءٍ. كلُّ آلة كولونيالية تعيد الماضي المتوّهم بصورةٍ من الصور التي تخدم أهداف أصحابها.

يسري في التكايا نفس صوفي قديم، أي نفس مقدس يحتمي به الإنسان من غوائل الحياة وشظف العيش. ولكن الفلسطينيين يذهبون إلى التكايا للاحتماء من جوع دموي قاتل. وكأنَّ المشهد يقول ليكن الطعام هو الطعام المقدس. ولكن استغلت اسرائيل الوضع لتقتل وتعبر بلغة الاجرام: أنه العشاء الأخير لكل فلسطيني يحاول الاتصال بأسباب الحياة في الأرض والسماء.  على طريقة الثقافة المسيحية استعارت النهاية الفاجعة لمسار الحياة. وهذا أمر فاق كل الحدود، لأنَّ القيم الدينية والإنسانية والقوانين الدولية تحمي الاغاثة وسط الحروب والصراعات المسلحة.

الذهنية الصهيونية كالفيرس الذي يضرب أي نظام يعمل بكل عدالة ونزاهة ويحقق الخير والرخاء لشعوب الأرض. ذهنية ضد العدالة أيا كانت العناوين التي تحملها، لا يعرف من يفكر بطريقة صهيونية عما يتكلم إزاء المعايير والحقوق. والموضوع عام لا يتجزأ أمام جميع الشعوب، سواء في فلسطين أم في غيرها من بقاع العالم. لأنَّ الإنسان واحد: لا يقبل أنْ تراق الدماء الحُرة إلاَّ على جثة الاحتلال، وأنّ كسرة الخبز المبللة بالدموع ستكون ناراً تحرق القاتل.

***

د. سامي عبد العال

مع النصف الثاني من الالفية الثانيه دخلت البشرية عصر التعبيرية "اللاارضوية الثانيه"  ـ العليّة ـ بعد الاولى الابراهيمه  الحدسية النبوية، الموافقه في حينه لاشتراطات تعذر التحقق اللاارضوي، والغلبة المجتمعية الارضوية الناجمة عن الطور اليدوي انتاجا، وبعد دورتين مرتا على موضع وبؤرة الاصطراعية المجتمعية الازدواجية ( الارضوية / اللاارضوية)، توفرت الاسباب الابتدائية، ماديا لانبثاق الانقلابية الاليه /التكنولوجيه على المنقلب الاخر من المتوسط،  بينما كانت الديناميات اللاارضوية سائرة الى الانبعاث، مجددا، ومرة اخرى ثالثه  اخيرة في ارض سومر "المنتفك"، مع القرن السادس عشر، من دون نطقية،  غدت اليوم بعكس الدورتين السالفتين السومرية البابلية الابراهيمه، والعباسية القرمطية الانتظارية، واجبه ومؤكدة، ولا مهرب منها اطلاقا، ما يعني  موافقتها، لاشتراطات التحولية الانتقالية الالية /التكنولوجية، من المجتمعية الارضوية، الى اللاارضوية العقلية فوق الجسدية، وهو ماتقع البشرية تحت طائلته اليوم مع انتهاء الانتاجية اليدوية.

هذا علما بان مسألة النمطية والنوع المجتمعي في منطقة الشرق المتوسطي، تلقي  وطاة ثقيله على الوعي واجمالي الادراكية، صارت  تتجلى بالذات منذ الانقلاب الالي على الضفة الاخرى الاوربية من المتوسط، ومانجم عنه من متغيرات وانعكاسات شامله على مستوى المعمورة، تجلت هنا مرفقة بوطاة غير عادية، فالموضع المنوه عنه هو موضع المجتمعية  البدئية، تتبلور بالذات نهريا، وليس هذا من قبيل الصدفة، او مجرد قضية عارضة تظل غائبة عن الانتباه  كمدخل يوجب القول "ان المجتمعات تبدا وتتبلور نهرية" في موضعين، ارض مابين النهرين، دجلة والفرات،  وارض النهر الواحد النيلية، وهنا عرفت كبداية، ابان المجتمعية اليدوية نتاج التفاعلية ( البشرية/  البيئية) بصيغتيها الابتدائيتين، التوافقية  البيئية ونتاجها مجتمع الدولة الاحادي  المصري، وحالة العيش على حافة الفناء مابين النهرينيه، التي تنتج مجتمعية اللادولة اللاارضوية السومرية، جنوب مابين النهرين، والتي تعود  وتنتج متشكلة في وقت لاحق، وبعد الانصبابات البشرية من الجهات المفتوحة شرقا وغربا وشمالا من الجبال الجرداء والصحارى، وما يطرا من الاصطراعها غير القابل للحسم مع المجتمعية الاولى اللاارضوية، حالة ازدواج كياني ارضوي لاارضوي عليا وسفلى، محكومة لقانون الدورات والانقطاعات، مقابل الاستمرارية الاجترارية، والدورة الواحده في وادي النيل.

ومما لاشك فيه ان ظاهرة المجتمعية وجدت منطوية على غرضية وهدف  موكول الى اجمالي كينونة بنيوية نمطية وآليات دينامية، وهو مالم يعد من قبيل الافتراض البحث فيه، خصوصا مع ما تمخض عنه العقل الاوربي ابان انبجاس الاله بين ظهرانيه كمبتدأ واشاره، مماصار معروفا من ديناميات الاصطراع الطبقي، وماقد تجسد حتى في "مادية تاريخيه" محتمه، سائرة نحو غاية بعينها، بغض النظر عن قصوريتها ومحدودية منطلقها كنمطية مجتمعية ونوع، هو بلا شك الاعلى ديناميات ضمن صنفه المجتمعي الارضوي، كان متوقعا مع الانقلابيه الاليه وفعلها التغييري  غير العادي، ان تذهب الى مقاربة الخروج من وطاة احدى اخطر واهم الخاصيات الملازمه للعقل ابان الطور اليدوي،  متمثلة في القصورية المانعة للعقل دون ادراك الحقيقة المجتمعية، نوعا واليات ومستهدفات. الامر الذي فتح الباب امام امكانيه تجاوز القصور الادراكي الاشمل، مابعد الطبقي المحدود نمطيا، الى الاعم الشامل الاعلى، المتوقف تحققه على اكتمال اسباب التحولية الالية/ التكنولوجيه، مع انتقالها من الاشتراطات "الطبقية" الابتدائية، الى "المجتمعية" واصطراعيتها التاريخيه.

فالانتقال من الطور الانتاجي اليدوي مجتمعيا، لايتحقق بكامل معطياته وعناصر تحققه فورا ومنذ البداية، بالاخص وهو يبدا في موضع ارضوي مجتمعيا، بغض النظر عن ازدواجيته الطبقية، مع ارتفاع مستوى دينامياته، مضافا اليها الدفق الذي يمنحها اياه حضور الالة المسرع بوتائر عالية  للغاية  للتفاعية المجتمعية، وماينجم عنها من حضور غالب تصورا افتكاريا ونموذجا كيانويا ومجتمعيا، مع الميل للتسيد والاستغلال، وتكريس المركزية بظل غياب الفعالية الفكرية والنموذجية على مستوى المعمورة التي ماتزال تحت طائلة وهيمنه اليدوية، بما يجعل من الميل للتماهي مع النموذج الغالب باعتباره الاعلى والمثال، خاصية عامه ماعدا حالات استثناء،  لم تخرج هي الاخرى عن اسس المروية البرجوازية الاليه الاوربية الغربية الاساس بل ارتكزت اليها من باب منح نموذجيتهاصفة الاصالة المضادة(1).

فاذا تعلق الامر بالمنطقة المقابلة لاوربا على الطرف الاخر من المتوسط، اي منطقة الانصباب الشرقي الغربي التاريخي، والاختراقية المضادة ومثالها الابراهيمي، فان الحاصل وقتها لايخرج عن الغالب لهذه الجهه عموما بما يتعلق بالرؤية والنظر، بالاخص بالنسبة لمنطقة تفتقد لرؤية الذات والاخر، تعيش حتى حينه طورا من الانحطاطية التاريخيه الدوراتية بمعناها وحضورها الاعم، ماقد جعل من غير المستبعد ان يسود الميل الى التماهي مع النموذج الغربي الاوربي باسقاطه على الواقع المتوقفة دينامياته، وبالذات في المواضع "النهرية" التاريخيه، وفي المقدمه منها ارض ال" الكيانيه/ الوطنيه"، و " الدولة/ الامه"  الاعرق، بلاديناميات، مصر التي وجدت نفسها الاقرب الى الالتحاق بالنموذجية الاوربية الاليه كما هي قائمه، معززة ذلك بنمطية تفكير التحاقي اسقاطي، لم يكن ثمة مايمنع من اعتباره دالة على "النهضة".

***

عبد الأمير الركابي

صَرف المؤرخ العراقيّ جواد عليّ (1907-1987) نصف عمره تماماً، ليثبتَ أنَّ العربَ قبل الإسلام ليسوا «جاهليَّةً» بمعنى «الجهل خلو النّفس مِن العِلم» (الزّبيدي، تاج العروس)، ومؤرخنا لم يفصح عن قصدهِ بالعبارة، لكنّ قارئ «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (عشرة مجلدات) سيستشفّها مِن المقدمة، مع العِلم أنَّ ما اصطلح عليه بالجاهليَّة يشمل أمماً وحضارات يُتغنى الآن بها مِن سومر وبابل وسواهما.

أشار الشّريف الجرجاني (ت: 816هج)، وأخذها مِمَن سبقه، إلى: الجهل البسيط: «عدم العِلم عمَّا شأنه أنْ يكون عالماً»، والمركب: «اعتقاد جازم غير مطابق للواقع»، والتّعريف العام عنده: «اعتقاد الشّيء على خلاف ما هو عليه» (التّعريفات).

هذا ما نفاه «مفصل» جواد عليّ، بما أظهره مِن آداب وفنون وصناعات مِن أقدم العصور وحتّى قُبيل ظهور الإسلام، لا ينطبق عليها قول: «خلو النّفس مِن العِلم»، وكان رداً قاطعاً على مَن فسر مصطلح «الجاهليَّة» القرآنيّ بـ«اعتقاد الشَّيء على خلاف ما هو عليه»، فأظهر واقعه، أما المصطلح فيعني شيئاً آخرَ يتعلق بالدّين وليس بالحياة.

فاستبدال كُنية عَمرو بن هاشم المخزوميّ (قُتل: 2هج) أبي جهل بأبي الحكم (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف)، لا تعني الجهل المقصود ضد العِلم على العموم، وإلا كان أحد دهاة زمانه، بينما نجله عكرمة قُتل محارباً مع المسلمين، وظل اسمه عكرمة بن أبي جهل (ابن سعد، الطّبقات الكبرى)!

ما تقدم كان تمهيداً، وعذراً لمقال أخصصه عن «الجهل»، وتشجعتُ أكثر عندما اطلعتُ على كتاب لبيتر بيرك بعنوان «الجهل تاريخ للظاهرة مِن منظور عالميّ»، نشرته دار «الرّافدين» العراقيَّة، وترجمه السُّعوديّ بدر الحربي. استخدم الجهل مادة للبحث بدلاً مِن المعرفة، مُعرفه: بـ«عالم عدم المعرفة»، المعنى نفسه في الأدب العربي القديم «خلو النّفس مِن العِلم»، مثلما تقدم. لستُ بصدد عرض الكتاب، إنَّما الإشارة إلى تلميحه لِما يجري اليوم، وهو توظيف «الجهل» ظاهرةً مقصودةً.

فما حصل هذا العام، على وجه الخصوص، مِن غرائب الطُّقوس، وبهذا الهبوط، وإشاعتها بمراكز العواصم الأوروبيّة، لا يخلو بمكان مِن القصد، نوعاً مِن الاستعراض السّياسيّ لرد اعتبار لفشل نظريةٍ أو سياسةٍ، ديمومتها مشروطة بالحِفاظ على جهل الجمهور. صحيح أنَّ الصّحوة الدّينيّة، بعمومها، أسست لجهلٍ قامع للتفكير العلميّ، وخصوصاً في التَّربيَّة والتَّعليم، لكنه برز متضخماً في الآونة الأخيرة، بلا استنكار، وكأنّ الحياة طبيعتها مناصفة بين الجهل والعقل، والجهل طاغٍ، حتَّى إنّ شعوباً أخذت تخوى خواءً أخيراً.

نعم كانت الظَّاهرة قديمة، وتناولها شعراء العصور كافة، لكنْ ليست مثلما يجري الآن، فكان عذر شيوع الجهل قديماً عدم شيوع المعرفة، وأبسطها القراءة والكتابة، فما العذر اليوم، والذَّكاء الاصطناعي، وهو آخر ما أبدعه العقل البشريّ، صار مقاسمة بين الجاهلين والعارفين أو العالِمين؟

 صحيح ليس في الشّعر العربيّ غرضٌ عنوانه «الجهل»، مثل: الحبِّ والهجاء والرِّثاء، غير أنّ ما قيل يُعدُّ دعوةً صريحةً للمعرفة. بهذا الغرض، يسترعى الانتباه بيتَ الشّريف الرّضي (ت: 406هج): «لما رأيتُ جنودَ الجهلِ غالبةً/ والنَّاسُ في مثل شدقِ الضَّيغمِ الضَّاري»، وما أجاد به أبو العلاء المعريّ (ت: 449هج): «لما رأيتُ الجهلَ في النَّاسِ فاشياً/ تجاهلتُ حتَّى ظُن أني جاهلُ»، وترى المعريّ منافحاً عن العقل، أو محفزاً لمن هو «بحاجة إلى لذة اليقين»: «أراك الجهلُ أنَّك في نعيمٍ/ وأنتَ إذا افتكرتَ بسوءٍ حالٍ»، وكيف يكون الأفوه الأوديّ (قبل الإسلام) جاهلاً وهو القائل: «لا يصلحُ النَّاس فوضى لا سُراةَ لهم/ ولا سُراةَ إذا جُهالهم سادوا/ والبيتُ لا يُبنى بأعمدةٍ/ ولا عِمادَ إذا لم تُرس أوتادُ» (الشَّيزريّ، المنهج المسلوك).

أعود إلى ما ابتدأتُ به، جواد عليّ ومفصله، فأصحاب الحاكميات والجاهليات، يعدونه مخطئاً، أنه كشف تلاعبهم بالمصطلحات، وهم يرون ثمار ثقافتهم قد أينعت هذا الجهلَ المريع، وقد أرادوها جاهليةً مقصودةً: «خلو النّفس مِن العِلم».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

منذ أواخر القرن التاسع عشر، سعت البعثات الأثرية اليهودية والغربية الموالية للمشروع الصهيوني للتنقيب في أرض فلسطين بهدف إثبات الروايات التوراتية التي تزعم ارتباط بني إسرائيل التاريخي والديني بالأرض المقدسة. لم تكن هذه التنقيبات مجرد عمل علمي محايد، بل جاءت تحت دافع أيديولوجي قوي لتثبيت ما سمي بـ"الحق التاريخي لليهود" في فلسطين، ليشكّل هذا الزعم لاحقاً ركيزة أساسية في تبرير المشروع الاستيطاني الصهيوني.

لكن بعد أكثر من قرن من الحفريات، لم تأت النتائج كما أُريد لها. فبدلاً من إثبات الروايات الدينية التوراتية، راحت نتائج التنقيبات تهز الثقة حتى لدى بعض علماء الآثار اليهود أنفسهم، بل ودفعت عدداً منهم لمراجعة شاملة للمقولات التي طالما بُنيت عليها الأسطورة الصهيونية.

فقاعات تاريخية

(سبعون عاماً من الحفر لم تكتشف مملكة، بل كشفت أكذوبة) بهذه الجملة يمكن تلخيص مأزق الرواية الصهيونية التي طالما ادعت أن فلسطين "أرض ميعاد"، وأن "المملكة العبرية الموحدة" لم تكن سوى فقاعة أسطورية انفجرت تحت ضوء العلم والمنطق؛ فمعاول الحفريات كانت أصدق من النصوص، وعندما حفرت في العمق دحضت الأكاذيب بدلا من إثباتها.

لقد أُجريت مئات التنقيبات في القدس، خصوصاً في منطقة "مدينة داود" المزعومة جنوب المسجد الأقصى، بحثاً عن آثار لهيكل سليمان أو قصر داود أو أسوار يهوذا. لكن تلك البعثات، ومنها بعثات إسرائيلية رسمية، لم تتمكن من العثور على أية أدلة قاطعة تثبت وجود "مملكة داود" بالضخامة التي تصورها الرواية التوراتية.

حتى عالمة الآثار الإسرائيلية "إيلات مزار"، التي روجت لاكتشافها "قصر داود"، تعرضت لانتقادات واسعة من زملائها الذين اعتبروا استنتاجاتها تفتقر إلى الحياد العلمي، وأنها اعتمدت التأويلات النصية أكثر من الأدلة المادية.

شكوك محلية وعالمية

لقد بدأت ثقة قطاع كبير من الأكاديميين الإسرائيليين أنفسهم تتزعزع. فمثلاً، "إسرائيل فنكلشتاين"، أحد أبرز علماء الآثار في جامعة تل أبيب، شارك في تأليف كتاب شهير بعنوان "التوراة المجردة من الأسطورة " (The Bible Unearthed)، خلص فيه إلى أن مملكتي داود وسليمان لم تكونا سوى كيانات محلية صغيرة، وأن الكثير من الروايات التوراتية كتبت بعد قرون من الأحداث التي تزعم توثيقها. فنكلشتاين قال بوضوح: " لا  توجد أدلة أثرية حاسمة على خروج جماعي لبني إسرائيل من مصر، ولا على احتلال عسكري كاسح لأرض كنعان، كما تصف التوراة!". لهذا السبب فإن المؤسسات الأكاديمية الغربية المعنية بالآثار القديمة، مثل المعاهد البريطانية والفرنسية والألمانية، باتت تتعامل مع الروايات التوراتية كمصادر أدبية لا تاريخية، مؤكدة على ضرورة التمييز بين النصوص المقدسة وبين الوقائع الأثرية، ويظهر هذا التحول في تغير لغة بعض المناهج الجامعية التي كانت تعتمد الرواية التوراتية كأساس للتاريخ القديم لفلسطين.

وعالم الآثار الإسرائيلي "زائيف هرتسوغ" لم يكن طامحاً للجدل أو للشهرة حين قال: "لا وجود لمملكة داود، ولا هجرة من مصر، ولا أثر للهيكل". لكنه كشف المستور: أن الأرض الفلسطينية لا تحتضن دليلاً واحداً يدعم الرواية التوراتية، وأن التاريخ المدون في الكتب المقدسة لا يجد صدى في الصخور أو تحت التراب الذي لا يعرف الكذب كمن يسيرون فوقه.

المزيج العقائدي السياسي

رغم هذا الانهيار في الثقة الأكاديمية محليا وعالميا، لا تزال المؤسسات الصهيونية والدينية المتشددة في إسرائيل تكرر الروايات التوراتية كأداة سياسية لتبرير السيطرة على الأرض، خصوصاً في القدس والضفة الغربية. ولذا، يتم تمويل بعثات أثرية بموازنات ضخمة ضمن ما يسمى "السياحة التوراتية"، رغم علم المسؤولين بأن نتائجها واهية أو مضللة.

يعترف عدد من علماء الآثار الآن في الداخل الإسرائيلي نفسه أن هناك توجهاً ممنهجاً لتسييس الآثار، ومحاولة "فرض الماضي" على الجغرافيا المعاصرة، حتى وإن لم تصمد الروايات أمام منهجية البحث العلم!  لسان حالهم يقول: "لو كانت مملكة داود حقيقية، كما تزعم الرواية، لكانت القدس القديمة تضج اليوم بشواهدها وأدلتها". لكن الصمت الأثري كان مدوياً: لم يتم العثور على نقوش، ولا قصور، ولا حتى قبور تشير إلى وجود إمبراطورية عظيمة.  بل جاءت المكتشفات لتعزز الحضور الكنعاني المتجذر، ولتكشف أن ما نسب لداود، لا يعدو أن يكون إعادة تأويل لآثار تعود لحضارات سابقة أو لاحقة.

الحفريات فضحت رواياتهم

الحفريات أثبتت ما هو ضد مزاعمهم المسيسة.. أن الأرض الفلسطينية عرفت حضارة متصلة، كنعانية الجذور، لم تعرف انقطاعات ولا غزواً عبرانياً شاملاً. لا انهيار مدن، ولا تغير في الطقوس، ولا تحول لغوي يدل على دخول ثقافة غريبة؛ فالحفريات في فلسطين أكدت استمرارية الحضارة الكنعانية، وعدم وجود أي قطيعة ثقافية أو ديموغرافية تشير إلى غزو عبري قديم: اللغة، العمارة، العادات الدينية – كلها كنعانية في جوهرها. حتى أن اسم "إسرائيل" نفسه ورد لأول مرة في نقش مصري (نقش مرنبتاح، 1208 ق.م) كاسم لقبيلة أو جماعة صغيرة، وليس لمملكة عظيمة!

تلك الحالة الجدلية أكدت الرواية الفلسطينية: أن الفلسطينيين هم أحفاد الكنعانيين وغيرهم من الشعوب القديمة التي سكنت الأرض، وهو ما أكدته الدراسات الجينية والثقافية. الأرض تتحدث باسمهم، حتى عندما يتم تزييف التاريخ!

إن الحفريات في فلسطين المحتلة لم تعثر على مملكة داود، لكنها كشفت شيئاً آخر: أن السياسة حين تتحالف مع الأسطورة، تنتج استعماراً. والعلم، رغم كل محاولات تزييفه، يبقى شاهداً على الحق. الأرض لا تكذب. والحجارة، إذا ما أتيح لها الكلام، تقول لفلسطين: أنت الجذور، وأنت المستقبل.

الأسطورة كذريعة للغزو

الرواية التوراتية لم تعد خطاباً دينياً، بل خارطة أيديولوجية؛ فكل حجر يزعم أنه من "الهيكل"، وكل موقع يعلن أنه مرقد نبي توراتي، يستخدم في خدمة التوسع وشرعنة السطو على الأرض. الدين يمسخ إلى مشروع جغرافي، والأسطورة تسخر لصياغة جغرافيا سياسية قسرية.

إسرائيل لا تمتلك شرعية ديموغرافية، فحين أُنشئت، كانت فلسطين مأهولة بسكانها العرب. لذلك لجأت إلى "الشرعية الرمزية"، المستمدة من أساطير دينية. لكنها شرعية قابلة للكسر. الدليل: التعليم الإسرائيلي يغذي الأطفال بأن الهيكل تحت المسجد الأقصى، رغم غياب أي دليل أثري يؤكد ذلك.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا تواصل إسرائيل التشبث برواية سقطت علمياً؟ لأن البديل مخيف. إن زوال "الوعد الإلهي" و"الهيكل المفقود" يسقطان عن الدولة الصهيونية ادعاء الشرعية التاريخية. فتغدو، كما هي فعلاً، مشروعاً استعمارياً حديثاً لا يختلف عن أي استعمار استيطاني عرفه التاريخ.

من زيف التاريخ إلى سؤال الوجود

لم يعد الانقسام داخل علم الآثار الإسرائيلي سراً. المعسكر التقليدي، المتمسك بالرواية التوراتية، بات معزولاً. أما المشككون، كـ"إسرائيل فنكلشتاين" و"زائيف هرتسوغ"، فقد قدموا تحليلات علمية تثبت أن "مملكة داود" لم تكن إلا مشيخة محلية، لا تشبه في شيء المملكة الموصوفة في سفر الملوك.

إن التوراتيين يقرؤون تلمودهم بوصفه لاهوتاً، لا كوثيقة تاريخية. كتبت في سياقات سياسية لاحقة للأحداث، وربما بعد قرون منها. لكنها، بعكس ملحمة جلجامش أو الأساطير الإغريقية، تحولت إلى أساس لدولة. هنا يكمن الخطر: حين يستبدل التاريخ بالأسطورة، وتصبح القصص المقدسة حجة للسلب والطرد. وحينما لم تأتِ الحفريات بما يرضي المشروع الصهيوني الاستعماري، انكشفت حقيقة أبعد أثراً: أن الحقيقة لا تدفن طويلاً، وأن الأرض أصدق من كل النصوص. كل نقش كنعاني، وكل قطعة فخار من العصر البرونزي، تصرخ في وجه الأسطورة: هنا لم تكن مملكة داود.

رغم كل هذا فإن تفنيد الأسطورة لا يعني زوال الدولة، وإن كان يزعزع سرديتها أمام ذاتها والعالم. فجيل جديد من الإسرائيليين بات يشكك في القصة الرسمية، بينما يتراجع الدعم الغربي المبني على "الرواية التوراتية"، وتتقدم الرواية الفلسطينية كصوت أصيل لحضارة حية لا تقبل الطمس.

***

د. عبد السلام فاروق

 

بعد تجارب مريرة عاشتها شعوبنا في استنساخ الديمقراطية الغربية على النمط الأمريكي والبريطاني، بات واضحًا أن تلك النماذج لم تنجح في بيئتنا الاجتماعية والسياسية، فهي أنظمة نشأت في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة، بينما واقعنا ما يزال محكومًا ببنية قبلية، وموروثات دينية، وأعراف اجتماعية تفرض منطقها على السلوك السياسي اليومي، والنتيجة أن الديمقراطية عندنا تحولت إلى صراع غوغائي، تُدار فيه السلطة على يد جهلة ونكرات، وجدوا في صناديق الاقتراع وسيلةً للهيمنة على القرار والحكم.

إن الحاجة اليوم ملحّة للبحث عن نموذج حكم يتناسب مع سايكولوجية مجتمعاتنا وتركيبتها، فبدل الانبهار الأعمى بديمقراطيات لا تصلح لواقعنا، علينا أن نفكر بنموذج يستند إلى عقلائنا وحكمائنا، حيث يكون مجلس الشورى هو الإطار الجامع الذي يمثل القوى الاجتماعية والمرجعيات الفكرية والرموز الوطنية. هذا المجلس لا يقوم على المحاصصة أو الغلبة العددية، بل على الكفاءة والخبرة والحكمة، ليكون بمثابة العقل الجماعي الذي يوجّه الدولة ويوازن بين المكونات.

غير أن هذا الخيار لا يُقصد به أن يكون نظامًا دائمًا، بل صيغة انتقالية تمتد لعقد من الزمن على الأقل، ففي هذه المرحلة، يُمنح الحكماء والنخب فرصة لإحداث تغيير جذري في مناهج التربية والتعليم، وإعادة صياغة وعي الأجيال القادمة على أسس أكثر عقلانية وانفتاحًا، بعيدًا عن العصبية القبلية والمناطقية والطائفية.

إنها فترة ضرورية لتحجيم نفوذ العقليات التقليدية التي ما تزال تحكم السلوك السياسي والاجتماعي، ولبناء مفهوم جامع للمواطنة الحقة التي تضع الولاء للوطن فوق كل اعتبار.

وفي قلب هذا النموذج يقف رئيس حكيم، واسع الصلاحيات، لكنه ملتزم بالقيم العليا للأمة، بعيدًا عن منطق الزعامة الفردية المستبدة أو الفوضى الانتخابية.، رئيس يمتلك الشرعية المستمدة من ثقة مجلس الشورى ومن الإجماع الشعبي، لا من صفقات انتخابية فاسدة أو تزوير صناديق، هكذا يتحقق التوازن بين القيادة الفردية القادرة على الحسم، والرقابة الجماعية التي تمثل ضمير الأمة، في انسجام مع أعرافنا الاجتماعية والدينية.

إن هذه المرحلة الانتقالية ليست رفضًا للديمقراطية أو إنكارًا لها، بل تمهيدًا لتطبيقها بشكل سليم، فالديمقراطية لا يمكن أن تُبنى فوق رمال رخوة أو مجتمعات لم تتحرر بعد من أثقال القبلية والجهوية، إنها ثمرة تحتاج تربة صالحة، والتربة عندنا لا بد أن تُهيأ عبر إصلاح التعليم، وترسيخ المواطنة، وإعلاء شأن القانون، وإشاعة ثقافة المشاركة بدل الإقصاء، بعد عقد أو أكثر من هذه الصياغة الجديدة، سيكون المجتمع قد بلغ درجة من النضج تسمح له بالدخول إلى حقبة ديمقراطية حقيقية، تقوم على التنافس الشريف لا على الفوضى، وعلى الحقوق والواجبات لا على المصالح الضيقة.

هذا الطرح، إذن، ليس قطيعة مع العالم ولا عودة إلى الوراء، بل محاولة واعية لصياغة عقد اجتماعي جديد، يمنح مجتمعاتنا فرصة للانتقال من الفوضى إلى الاستقرار، ومن الاستنساخ إلى الابتكار. فالتاريخ يعلمنا أن الأمم الناجحة هي التي بنت أنظمتها السياسية على أسس واقعية متجذرة في ثقافتها وظروفها، لا على تقليد أعمى لتجارب الآخرين.

***

كفاح محمود

مزّيف أيام التسعينات كان "يجرخ" العملة المعدنية (250) فلس ثمانية الشكل ليحولها الى عملة (100) فلس المدّورة...تلك طرفة انتشرت في حينه. اتذكرها مع كل اطلالة لمستشار او خبير او مسؤول للحديث عن إنجازات الوزارة في انشاء اقسام او كليات للطاقة المتجددة او المستدامة او النظيفة، والذكاء الصناعي والروبوت والطائرات المسيّرة...الخ، ومنذ سنوات كان ال"تريند" هو الاستدامة والتنمية البشرية. بلى لا ينكر عاقل أهمية تلك العناوين سواء بتفاصيلها او مجاراة لسياقات التطور عالميا، خاصة في حالات الرخاء او ما يمكن اطلاق مصطلح "الرفاهية والترف الفكري والتقني" عليه.

للانصاف وبغرض تسلسل الأفكار والطرح المنطقي، أقول، ان الهدف الأساس للمؤسسات الاكاديمية بجامعاتها ومراكزها البحثية والتخصصية هو مواكبة الحاجات المجتمعية والبنائية للبلد من خلال تهيئة الملاكات والكفاءات المناسبة لها بالتوازي مع الموارد المتوفرة او المنتظرة، بل والعمل على إيجاد موارد إضافية داخلية وخارجية (أساس فكرة الجامعات المنتجة). بمعنى آخر هو الاستجابة للمتطلبات المرحلية وبرؤية مستقبلية مبنية على أسس علمية في الاستقراء والتنبؤ، بما يضمن عدم هدر الموارد من خلال تحديد الأولويات. ذلك لا ينفي ولا يمنع البتّة من التطرق لمواضيع او تحديات عالمية قد لا تتعلق بالواقع المحلي بشكل مباشر، وذلك بغرض استمرارية التفاعل مع المجتمعات العالمية. كل ما هو عكس ذلك، لا يمكن تسميته بغير فقدان البوصلة او اختلالها ومن شاء الصرامة سيقول هو عبث ونزق فكري... هو يقول ولست انا (انا لست صارما...!!!).

لنعكس ما سبق على حال بلد كالعراق. العراق بلد يعتمد بشكل يكاد يكون 100% على النفط، بعد ان كادت تختفي الزراعة وهي التي كان يمكن ان تكون المصدر الثاني للدخل القومي في بلد الرافدين وسهل الوادي الذي كان خصيبا، فما الذي فعلته الجامعات العراقية؟. منذ عقود تم شبه اغلاق للأقسام الهندسية ومتعلقاتها في تخصص النفط او اهمال ما تبقى منها بشكل رهيب، ولم تعد الأقسام ذات العلاقة كالكيمياء والميكانيك والمدني (مثلا) تضع متعلقات الصناعات النفطية ضمن أولوياتها في المناهج الدراسية (ان وجدت أصلا)، حتى باتت التقنيات والمصطلحات الحديثة في هذا المجال بعيدة جدا عن خريجي تلك الأقسام والكليات سواء من الدراسة الأولية او العليا...كما صرّح بذلك العديد من الخبراء. من الناحية الأخرى تم اغلاق اقسام الموارد المائية (دراسة أولية) في معظم كليات الهندسة باعتباره تخصصٌ مهملٌ ووصل الامر لتجنب طلبة الدراسات العليا في اقسام الهندسة المدنية للخوض في هذا التخصص باعتباره (دون مستقبل=ما يسوه)، وباتت الدراسات المتعلقة بالموارد المائية محصورة في قياس نسب التلوثفي الأنهار والبحيرات، او بقاياها، بشكل ممل ومكرر سنة بعد سنة بعد سنة بعد سنة....الخ، بحيث انها تكاد تكون مجرد تغيير صفحة العنوان الأولى، دون ان يعير لها احد اهتماما. توازيا مع ذلك، كان الإنجاز الأكبر لكليات الزراعة هو تغيير اسمها كي يحمل خرّيجوها لقب "مهندس" بدلا عن "زراعي".. واين هذه من تلك!!!، ضمن حملة تغيير أسماء الكليات لاقحام القاب دونما استحقاق وليست  لها سوابق ولا مثيلات في الجامعات العالمية الرصينة، وتلك في رأيي كارثة ليس هذا محلّها.

لو سأل سائلٌ أبسط بائعة للخضروات في سوق شلال (سوق شهير في بغداد) عن اهم مشاكل العراق منذ عقود، لن تحيد الإجابة عن انها الهدر العظيم لموارد العراق النفطية سواء للشركات الأجنبية المستخرجة او لشراء المشتقات النفطية وأولها الغاز وأنواع الوقود والزيوت، ذلك إضافة لشحّة الموارد المائية التي قد تصل لمياه الشرب (العراقيون يشربون مياها مستوردة من دول الجوار)، بعد ان اندثرت الزراعة تقريبا وباتت لا تشكل النسبة الكبيرة للاستهلاك المحلي ناهيكم عن التصدير. وبالنتيجة ينعكس العجز النفطي والمائي على حال انتاج الطاقة الكهربائية ومنظومتها المتهرئة أصلا. أليست تلك حاجات مجتمعية تستوجب الانتباه من قبل المؤسسات الاكاديمية؟

كمهندس وباحث قضى نصف عمره على الأقل في تلك المجالات داخليا وخارجيا أقول، ان مشاكل الصناعات النفطية والموارد المائية والزراعية والكهرباء نوعان. الأول اداري و(ارادي...مشتقة من كلمة إرادة، وهذه تحتها عدّة خطوط حمراء)، وهذه لن ادخل فيها لاسباب عدّة، اما الثاني فهو فنّي. لله وللشرفاء اجزم ان الناحية الفنّية لحل كل مشاكل العراق يسيرة بدرجة معقولة بالامكانات المتوفرة حاليا لوقف التدهور، وبإنتاج وتأهيل الملاكات البشرية من خلال منح المؤسسات الاكاديمية استحقاقا وأولوية لتلك التخصصات بدلا عن تشتيت المتوفر حاليا من الملاكات المتقدمة (معظمها على وشك الإحالة على التقاعد او الوفاة) في الولوج في تخصصات فرعية لا يمكن عدّها ضمن أولويات بلد لا يكاد يسد حاجته المالية بسبب سوء استخدام الموارد النفطية وتعطش أراضيه واهله ويستورد معظم احتياجاته الغذائية بسبب التخلف في إدارة الموارد المائية واساسيات الزراعة. ما أهمية الذكاء الصناعي في حل مشاكل البلد حين لا توجد الملاكات البشرية المؤهلة في اساسيات ومتطلبات تلك المشاكل؟ ما الذي يمكن للروبوت ان يصنعه حين لا تتوفر الطاقة التشغيلية بل واين سيعمل الروبوت أصلا؟ هل من الحكمة بيع النفط الوطني بأوطأ الأسعار مقابل استيراد متطلبات الطاقة الشمسية (مثلا) من الخارج باغلى الأسعار ناهيكم عن الصيانة الدورية؟

اين الحل يا فهيم؟ هل يكفي التباكي على وجود أخطاء في صناعة القرار دون وضع ولو تصور للحلول؟ لا سيدي لا ادّعي علوية الفهم فما صاحبك سوى انسان بسيط. الحل يا سادة يا كرام، اطال الله تعالى اعماركم وبقاءكم في مناصبكم، يكمن في وضع تخصصات النفط والصناعات النفطية على رأس أولويات الدراسات الاكاديمية وتهيئة المختبرات والمعدات الحديثة، بغرض انتاج ملاكات بشرية مؤهلة بأحدث المهارات والمعارف في تلك المجالات لاستلام زمام أمور تلك الصناعة ومضاعفة الناتج المالي الإجمالي منها وصنع سياسات كفوءة للتعامل مع الشركات العالمية. ذات الحال مع تخصص الموارد المائية التي يكاد يندثر المختصون (فعلا) فيها وتعشيقها مع تخصص الزراعة بما يجعل الخريج يفخر بلقب "زراعي" دون ان يتمسح زورا وبهتانا بلقب "مهندس". وكي لا تكون خارج السياقات العالمية، يجب ادخال الذكاء الصناعي والروبوت والطائرات المسيّرة كمناهج ضمنية في تلك التخصصات وغيرها مثل الهندسة الميكانيكية والكهربائية والمدنية...الخ، لانها أصلا يا سادة يا كرام ليست تخصصات مستقلة بل هي مهارات وأدوات مساعدة في كل التخصصات تقريبا حتى الإنسانية منها..لو كنتم تعلمون!! اكشحوا جانبا عمّن يريد ان "يتمشغل" ويجعل لنفسه موقعا بدعوى خبرات شخصية في الذكاء الصناعي وما يحاولون بثّه من مخاريق وكأنهم سيخرقون الأرض ويبلغون الجبال طولا من خلاله...و حقكم لا يمكن للذكاء الصناعي تطوير البلد قيد انملة ما لم تتوفر فيه الموارد البشرية المؤهلة عاليا في مجالات الاحتياجات الحقيقية بما يمّكنها من استغلاله استغلالا صحيحا واعيا...بالوضع الحالي سيكون تخصص الذكاء الصناعي والروبوت (مثلا) كحال من اشترى تلفزيون 3D ويعتمد على مولدة الشارع في تشغيله بما نعرفه جميعا من تذبذب الفولتية والتردد.

أقول قولي هذا غير آمل لوجود سمّاع لانها قد وضعت أقلام القرارات وجفّت صحف الأوامر...لكنما هي ابراء للذمّة امام الله تعالى وأبناء البلد والله تعالى لاجيالنا القادمة.

***

أ.د. سلام جمعه باش المالكي

عرفت ظاهرة الصراع الطبقي قبل ماركس، الا انه هو من حولها الى محور واساس لنظرية في التحول الاجتماعي، وبقوانين وحتميات ناظمه للعملية التاريخيه، مسقطا الماضي على المستقبل بناء على اجمالي الممكن من النظر المتاح للغرب بعمومه ازاء الانقلابيه الالية ومترتباتها، وماقد تسببت به من تسارعية غير عادية في الديناميات المجتمعية، في حين لم يكن النظر قادرا على  الذهاب الى ابعد من التغير في وسيلة الانتاج وعلاقتها بالمجتمعية ونمطيتها، الامر الموروث من الطور المنقضي اليدوي، وقت لم يكن واردا الربط بين وسيلة الانتاج والنوع المجتمعي اي الارضوية كوليدة لليدوية، مايعني لابل يحتم  انتظار الانقلاب في النوع المجتمعي بناء على الانقلاب النوعي الحاصل في وسيلة الانتاج.

فاذا كان النوع او النمط "الطبقي" وليد اليدوية، فمن غير المعقول انتظار استمراره مع حضور الاله ونوع فعاليتها، ناهيك عن القوانين التي  يمكن  تصورها عنها، وصولا لما هي مهياة افتراضا للذهاب اليه، في حين اصبحنا عمليا وواقعا، بصدد مجتمعية اخرى عناصر التفاعلية المحدده لنوعها ليس البيئة واليد البشرية، بل البيئة ومتبقيات فعلها، بالاضافة الى  العنصر البشري  مع الاله العنصر المختلف طبيعة ونوعا، مع شدة فعاليته الاستثنائية، الامر الذي لايعود واردا معه الحديث عن "الطبقات" وقد غدت ظاهرة ايله للزوال حكما،  و" بالحتم".

يوم انبثقت الاله في الموضع الاوربي الطبقي كينونة، والاعلى ديناميات ضمن صنفه الارضوي  الموافق للانتاجية اليدوية باكثر ممكناتها فعالية، حدث ذلك "طبقيا" كنهاية طور وفعالية ماعادت  قابلة للاستمرار، ومع الاحتدام الاقصى الواقع بسبب عنصر اخر تجاري جاء من خارج المكان،  محفزا، وبلوغ المكونات المجتمعية اعلى درجات التصادمية بظل الانسداد الطبقي، لعبت الاسباب التاريخيه وتراكماتها دور ايجاد المنفذ، او المسرب مابعد الطبقي، وهو مااضطلع به المجتمع وليس الطبقة نيابه عن المجتمع، فالطبقة مكون ضمن بنية مجتمعية اوجدت الاله من باب  فتح مسرب للاصطراعيه المتعسرة غير القابلة للحل، بين البرجوازية والاقطاع، فكان ان وجد ساعتها عنصر ثالث من خارج الاصطراعية المقفله المسدودة النهايات، والتي كان لابد من ايجاد السبيل لانهاء فعلها وحضورها تحقيقا لمابعدها عن طريق تبدل عنصر الفعالية البنيوية الاساس.

هذا يعني ان ماركس وهو يتحدث عن  الطبقات و "اصطراعها"، كان في الحقيقة يعيش لحظة  بدايات زوالها وخروجها من الفعالية المجتمعية التاريخيه، حتى وان قال بان "تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقات"، محاولا اسقاط الماضي المنتهي والمنقلب على الحاضر، وتحديدا على المستقبل، فهو في الحالة المشار اليها، واقع تحت وطاة ماقد سبق، او تحت قوة فعالية واثر الماضي الذي لم يبرح  الهيمنه على العقل بعد، فاليدوية تبقى مهيمنه ومسيطرة على العقل ابان الطور الاول، وبالاخص المصنعي من الانقلابيه الالية / التكنولوجية، الامر الذي يستمر شاملا المعمورة، ودالا على قصوريتها ادراكا للحاصل الراهن، في اوربا غربا ومنها  ماركس، وعلى مستوى ابعد واشمل، فالانقلابيه الاليه لم تحدث مرهونه للبرجوازية فحسب، وهي اتخذت اشكالا اشد توهميه مثلما حدث لروسيا التي انتقلت الى الاله من دون برجوازية، وتبعتها الصين وبلدان اوربيه اخرى، مدعية التحول المسمى ب "الاشتراكي" بالفذلكة اللينينيه والماوية المغالية في تكريس المنظور اليدوي واسقاطة على مابعده.

الاهم والذي لم يدخل على الاطلاق ميدان المراجعه، هو الحضور الامريكي المفقس خارج رحم التاريخ، وتصدره العملية الالية والانتقال بها من خارج التاريح المجتمعي، وبلا تاريخ يدوي، فالكيانيه الامريكية هي كيانيه آليه صرفة، نتاج وحصيلة ومنتج الاله لوحدها بلا برجوازية ولاصراع طبقي، ليس له اي اساس في هذا الموضع من الكرة الارضية، قام بحكم كينونته الابتدائية بالقفز بالالة من المصنعية الى التكنولوجيا الانتاجية، مع الابقاء على المروية والسردية الاوربية "الطبقية" من قبل كيانيه قامت على امحاء مجتمعية لادولة، من اكثر من ستين مليون كائن بشري، مع ادعائها بانها موضع رسالي، وجد لكي يغير العالم، اي يمحو ماقبله من مجتمعية تاريخيه، فقلب الانتاجية البرجوازية والكيانوية الوطنيه، بالانتاج المعولم واختراق السيادات بما فيها، بل في مقدمها الاوربية.

هذا كله ومايزال ثمه من يمكن ان يتحدث عن الطبقات و ( الدول الامم)، والبرجوازية والبروليتاريا التي لم تعد حاضرة ولاوجود لها،  الا بالعودة الى القرن التاسع عشر، والاحتداميه المصنعية التي منحت ماركس يومها، ماقد جعله يتوهم مالا اساس له خارج اللحظة الانتقالية الآنيه.

لم يكن يخطر على بال ماركس ان الالة المصنعية هي صيغة اولية ابتدائية ضمن مسار العنصر الثالث النوعي المباين المختلف، بما هو عامل وعنصر تفاعلية وتحولية انقلابيه مجتمعية كنوع، مابعد يدوية، وبناء عليه لم يكن ليتصور، او كان بامكانه وضمن نطاق مامتاح له من ممكنات ادراكية، احتمالية الانتقال المجتمعي نوعا مابين الارضوية الجسدية الحاجاتيه التي ركز عليها، وبين المجتمعية العقلية باعتبارها غرضية المجتمعية الاساس والاصل،  وليس الشيوعيه التي اعتمدها بحكم حدود ادراكه، كهدف محكوم لقانون، وهنا نقع امام قضية جوهرية تخص العقل ومستوى ادراكيته، ومامتاح له من قدرة على الاحاطة ابان الطور اليدوي الاول من التاريخ المجتمعي، وهو ماليس لماركس يد فيه، بما هو شرط موضوعي خارج عن ارادته وارادة الكائن البشري.

اين يحدث وكيف، الانقلاب التحولي المنتظر اللاحق على الانبجاس الالي الاوربي؟ وهل الازدواج المجتمعي "طبقي" حكما وفقط، ام انه منطو على صيغة اخرى اعلى، موافقة لقانون التحولية المجتمعية، تظل غير منظورة وغير مدركة تحت طائلة القصورية العقلية، بانتظار الاحتدامية الاصطراعية المتولدة عن الانقلاب الالي بصيعته الابتدائية، ومايترتب عليه من توهمية عظمى، واهوال تناقضية وحياتيه رهيبه، بحيت تاتي لحظة نقف فيها على عتبه المنظور التحولي اللاارضوي، العائد للكينونه الازدواجية المجتمعية ( ارضوية/ لاارضوية)، ومسارها الاصطراعي التاريخي المديد الى الساعة، وحلول ساعة انبثاقها وانتقال العقل خارج القصورية الكبرى، لتصبح الانقلابيه الالية/ التكنولوجية، انقلابيه مجتمعية تحولية لاارضوية، عقلية متحررة من الجسدية الحاجاتيه.

***

عبد الامير الركابي

كثيرًا ما نردد كلمات من غير أن ننتبه إلى ما تحمله في طياتها من معان مسبقة، وكيف تشكل وعينا دون أن ندري. ومن أخطر هذه الكلمات كلمة "الاستعمار"، التي صارت تطلق على الفترة التي هيمن فيها الغرب على كثير من بلدان العالم، ومنها بلادنا العربية.

ولكن، هل سألنا أنفسنا يومًا ما الذي تعنيه هذه الكلمة حقًا؟ ومن الذي صاغها، ولماذا؟

إذا عدنا إلى الجذر اللغوي للكلمة، نجد أنها مشتقة من "عَمَر" أي أصلح وأقام وأعطى الحياة. فكأن من يستعمر يأتي إلى أرض خراب ليعمرها، ويبني فيها حضارة من العدم. وهنا تكمن المشكلة. فهل كانت أراضينا قبل مجيء المحتل أرضًا بلا تاريخ، بلا حضارة، بلا شعب؟ بالطبع لا.

بلادنا، من المحيط إلى الخليج، كانت عامرة بحضارات عريقة، بأنظمة حكم، باقتصادات مزدهرة، بثقافات غنية، وبمجتمعات متطورة. لم تكن "أرضًا بلا شعب" كما ادعت بعض الروايات الاستعمارية، ولم تكن صحراء قاحلة تنتظر من يأتي ليزرع فيها بذور المدنية. ما حدث كان شيئًا مختلفًا تمامًا: كان احتلالًا، استيطانًا، نهبًا للموارد، وتدميرًا ممنهجًا للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة. كان استبدالاً لحضارة بحضارة، وليس "تعميرًا" لفراغ.

لماذا، إذن، نستخدم نحن أنفسنا مصطلحًا يصور المحتل كمصلح ومنقذ؟ لأن اللغة، في كثير من الأحيان، تكون أداة هيمنة. فالذي يسيطر على الأرض، يسيطر على السردية، ويكتب التاريخ من وجهة نظره. وهكذا، تتحول عملية السلب والنهب إلى "رسالة تحضر"، ويصبح القهر والاستغلال "مهمة تنوير". ونحن، حين نكرر هذه المصطلحات من غير وعي، نكون قد قبلنا – دون أن ندري – بالرواية التي كتبها المنتصر.

هذه الظاهرة ليست جديدة. فالمؤرخ الإنجليزي الشهير "إريك هوبسباوم" قال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. ولكن الخطر الأكبر هو عندما يبدأ المهزومون أنفسهم بترديد رواية المنتصر، فيصبحون شركاء في تشويه تاريخهم الخاص. إنها حالة من "الاستعمار الفكري" الذي يظل مُستمرًا حتى بعد رحيل آخر جندي محتل.

ولعل في تجربتنا العربية أمثلة صارخة على ذلك. ففي الجزائر، مثلاً، لم يكن الاحتلال الفرنسي "استعمارًا" بالمعنى التعميري، بل كان محاولة لطمس الهوية الوطنية، وتحويل البلاد إلى جزء من فرنسا، مع نهب ثرواتها وتهميش لغتها ودينها. وفي مصر، جاء نابليون تحت شعار "التنوير" ومعه المطبعة وعلماء الآثار، لكنه جاء أيضًا بالمدافع والبارود، وكان مشروعه في الأساس مشروعًا استغلاليًا استعماريًا بامتياز.

والأمر نفسه ينطبق على فلسطين. فما يسمى بـ "استعمار" فلسطين هو في حقيقته عملية استيطان استبدالية، تهدف إلى إحلال شعب مكان شعب، وثقافة مكان ثقافة، وتاريخ مكان تاريخ. ووراء استخدام كلمة "استعمار" في هذا السياق تبرير ضمني بأن الأرض كانت "بلا شعب"، أو أنها كانت بحاجة إلى من "يعمرها"!

إن التحرر الحقيقي يبدأ بتحرير العقل واللغة

إذا اتفقنا على أن "الاستعمار" تسمية مغلوطة، فإن السؤال الجوهري الذي يلي هو: ما الذي كان يدفع هذه الآلة الضخمة للتحرك عبر المحيطات والصحاري؟ وما هي الآليات التي اتبعتها لترسيخ وجودها وتحقيق أهدافها؟ هنا، ننتقل من نقد المصطلح إلى تشريح البنية الاقتصادية والسياسية للمشروع الاستعماري، التي جعلت من "التعمير" اللفظي غطاء لنهب منهجي.

أولاً: الاقتصاد.. محرك الآلة الاستعمارية الأول

لم تكن الدوافع الاستعمارية، في جوهرها، "رومانسية" أو "تنويرية" كما أُريد لها أن تظهر. لقد كانت، بكل وضوح، اقتصادية بالأساس. يمكن تلخيص هذه الدوافع في معادلة بسيطة:

1.  المواد الخام: كانت الدول الصناعية الناشئة في أوروبا بحاجة ماسة إلى موارد رخيصة وغير محدودة تقريبًا: القطن من مصر، الفوسفات من المغرب والجزائر، المطاط من الكونغو، النفط لاحقًا من الخليج. كانت بلادنا مخزنًا للمواد الأولية ينهب بشكل ممنهج ليمد آلات الثورة الصناعية في الغرب.

2.  السوق الاستهلاكية: بعد أن أنتجت المصانع الأوروبية سلعًا بكثرة، احتاجت إلى أسواق جديدة لتصريفها. فكانت البلاد المستعمرة سوقًا احتكارية تجبر على شراء البضائع الأوروبية، مما أدى إلى الإجهاز علي الصناعات المحلية الناشئة لأنها لم تستطع المنافسة. لقد حولنا من منتجين إلى مستهلكين دائمين.

3.  رأس المال الفائض: كان لدى الطبقات الرأسمالية في أوروبا فائض من رؤوس الأموال تبحث عن مجالات استثمارية ذات ربح أعلى. فكان إنشاء المشاريع في المستعمرات (سكك حديدية، موانئ، مطارات) استثمارًا مربحًا ومحميًا بجيوش الاحتلال.

هكذا، تحولت الاقتصادات المحلية المترابطة والمكتفية ذاتيًا إلى حد كبير، إلى اقتصادات مشوهة تابعة تمامًا للمركز الأوروبي. اقتصاد يقوم على تصدير مادة خام واحدة (اقتصاد أحادي الجانب) واستيراد كل شيء آخر. هذا التشوه هو أحد أعقد إرت الاستعمار وأصعبها معالجة، وهو ما يفسر جزءًا كبيرًا من تبعيتنا الاقتصادية الحالية.

ثانيًا: الاستعمار الاستيطاني.. أبعد من مجرد نهب

ليست كل أشكال الهيمنة متشابهة. فبينما كان الهدف في بعض المستعمرات هو الاستغلال الاقتصادي، ظهر شكل أكثر شراسة ووحشية هو الاستعمار الاستيطاني، كما في حالات الجزائر وفلسطين. هنا، لم يكن الهدف مجرد استغلال الأرض والثروة واليد العاملة، بل استبدال السكان الأصليين تمامًا بمستوطنين جدد. كانت العملية عبارة عن: تطهير عرقي ممنهج، سواء بالطرد أو الإبادة. ومصادرة الأراضي على نطاق واسع ومنظم. ثم بناء مجتمع مواز منغلق على نفسه، له مؤسساته وقوانينه واقتصاده، يقوم على أنقاض المجتمع الأصلي.

والأخطر تدمير الذاكرة الثقافية والتاريخية للمكان واختراع سردية جديدة تبرر الوجود الجديد.

في هذه الحالة، تتجاوز الآلة الاقتصادية هدف الربح إلى هدف الاستيلاء على الوجود نفسه. والخطاب "التعميري" هنا يصبح أكثر ضراوة: "جئنا إلى أرض بلا شعب لنعمرها".

ثالثًا: الإرث السياسي.. صناعة الدويلات الهشة

لم يكتف المحتل بترك اقتصاد مشوه، بل ترك وراءه هياكل سياسية مصممة للفشل. عند ترسيم الحدود (كما في اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة)، لم يراع أي اعتبارات تاريخية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية للشعوب. كل ما كان يهم هو:

 تقطيع أوصال المنطقة إلى دويلات صغيرة يسهل السيطرة عليها.

  خلق صراعات حدودية وداخلية مستدامة (كمشكلة المياه، المناطق المتنازع عليها) لضمان انشغال هذه الدول ببعضها وبمشاكلها الداخلية، وبالتالي بقائها ضعيفة ومحتاجة دائمًا إلى دعم خارجي.

تركيب أنظمة حكم طائفية أو عرقية (كما في العديد من الدول الأفريقية) أو دعم نخب محلية موالية تخدم مصالحه حتى بعد الرحيل. هكذا، تحولت "الدولة الوطنية" في كثير من الأحيان من إطار للتحرر والاستقلال إلى سجن للهويات وإطار لاستمرار التبعية.

التحرر من التبعية يحتاج إلى وعي جديد

ما حدث بعد رحيل الجيوش الاستعمارية كان في كثير من الأحيان استبدال الاستعمار العسكري المباشر بـ استعمار غير مباشر، عبر التبعية الاقتصادية، والهيمنة السياسية، والاختراق الثقافي.

لذلك، فإن التحرر الحقيقي لا يعني فقط تصحيح المصطلحات، بل يعني تفكيك هذه البنى الاقتصادية والسياسية المشوهة التي خلفها الاستعمار. يعني بناء اقتصاد منتج ومتنوع وقائم على الذات، لا اقتصاد ريعي تابع. يعني بناء أنظمة سياسية تقوم على المواطنة الحقة، لا على الولاءات الطائفية أو القبلية التي ورثناها. يعني، في النهاية، امتلاك إرادتنا وسرديتنا ومشروعنا الحضاري الخاص.

هذه هي المهمة الصعبة التي تواجهنا اليوم: كيف نستعيد وعينا، واقتصادنا، وسيادتنا، من بين براثن إرث استعماري طويل، تمت تسميته، بخبث شديد، "تعميرًا".. يجب أن نعيد النظر في المصطلحات التي نستخدمها، وأن نعيد تعريف تجربتنا بكلماتنا نحن، لا بكلمات من هيمن علينا. لم يكن ما حدث "استعمارًا"، بل كان احتلالاً. لم يكن "تعميرًا"، بل كان تخريبًا ممنهجًا في كثير من الأحيان. لم يكن "تنويرًا"، بل كان استغلالاً ونهبًا للثروات.

إن مهمة المثقف اليوم هي أن يكون حارسًا للذاكرة واللغة. أن يفتح أعيننا على هذه المفاهيم، وأن يقاوم محاولات تزييف الوعي عبر تزييف الكلمات. فلا يكفي أن نطرد المحتل من أرضنا، بل يجب أن نطرده أولاً من عقولنا وكلماتنا.

***

د. عبد السلام فاروق

شاهدتُ السياسي العراقي عزّت الشابندر في لقاء تلفزيوني "مع حميد عبد الله" على قناة دجلة العراقية يتحدث عن تجربة الإسلام السياسي في العراق، وكيف أنّ صلابة الإيمان قد حصّنت جماعات من الأفراد ضد بطش السجون وجلَد المعتقلات وسطوة الموت ذاته، فلم يتزحزحوا في ساعة القهر القصوى. إلَّا أنّ الامتحان الأعمق والأعقد لم يكن هناك، وإنَّما حين انفتحت أمامهم أبواب الدنيا بزخارفها، وامتدّت إليهم يد السلطة ببريقها، فإذا بتلك الصلابة تنكسر، وإذا بالثابتين في وجه العذاب يسقطون عند عتبة الحكم وسطوته. إذ يُفضَح جوهريًا ضعف الإنسان أمام فتنة الامتلاك لا أمام رهبة الفقد. ولم يقارب هذه المفارقة الشابندر، ولم يُلمّح إلى أسبابها، وإنما ذكرها في مورد التعجّب.

المفارقة قد تبدو سهلة في تحليلها والإجابة عليها ولكنها مهمة وضرورية: فالإنسان وفق مؤشرات الدراسات الحديثة، يقوى حين يواجه التهديد المباشر، فيستنفر إرادته ليبقى ويصمد. لكنه يضعف حين تُفتح أمامه أبواب اللذّة ويُترك له خيار التملّك بلا رقيب داخلي راسخ. ففي العذاب يولد التضامن، وتشتدّ الروابط، ويغدو الثبات شهادة جماعية، بينما في السلطة ينفكّ هذا الرابط، ويتحوّل الإغراء إلى عزلة خادعة تكشف الفرد على حقيقته. وما يبدو بطولة في وجه السوط والموت، قد يتلاشى عند أول بريق للمال والنفوذ، لأنّ جوهر الامتحان لا يكمن في تحمّل القهر، بل في مقاومة الغواية. عندها يتبيّن أنّ الإنسان لا يسقط أمام شدّة العذاب، بل أمام لذّة الامتياز، وأنّ الثبات في الفقد أهون من الثبات في الامتلاك.

هذا الانهيار أمام السلطة لم يكن استثناءً إنسانيًا، فقد كررته وألمحت إليه التجربة التاريخية والفلسفية: فهذا الإمام علي يقول: "الشجاع من غلب هواه." فنيكولو مكيافيلي في الأمير يشير إلى أنّ الحفاظ على الحكم غالبًا ما يفرض الانحناء أمام الغوايات والوسائل غير الأخلاقية، حتى على الأكثر صلابة في المبادئ. وتوماس هوبز في الليفياثان يرى أنّ الإنسان، رغم سعيه للبقاء أمام الخطر المباشر، لا يقاوم السعي وراء النفوذ والامتياز حين تتاح له الفرصة، مما يفسّر سقوط القيم أمام بريق السلطة.

إضافة إلى ذلك، تظهر التجارب التاريخية الحديثة لمختلف الأحزاب السياسية والتوجهات- الدينية وغير الدينية- التي قاومت الاستبداد، وأفرزت شهداء ومقاومين أبطال في المعتقلات، شهدت تراجعًا لمبادئها الأخلاقية حين تمكنت من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة، وأصبح الإغراء بالامتياز الشخصي أكبر من الرهبة من الموت. وهنا يتجلى أن الامتحان الأخلاقي الحقيقي لا يُقاس بالمقاومة المباشرة للخطر، بل بقدرة الإنسان على الثبات أمام الترف والسلطة.

من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن تفسير هذا الانهيار عبر فكرة "العزلة النفسية والامتياز الفردي". حين يعيش الفرد في سياق جماعي تحت الضغط، تتولد شبكة من الالتزامات الأخلاقية المشتركة، ويصبح التضامن وسيلة للحماية والبقاء. لكن عند انفتاح السياق وإتاحة القوة للفرد منفردًا، تتفكك هذه الشبكة، ويبرز الصراع الداخلي بين الرغبة الشخصية والقيم المشتركة، فتتكشف هشاشة المبادئ أمام الإغراءات.

هكذا يمكن القول إنّ الإنسان لا يُختبر حقًا في ظل القهر وحده، بل حين تُفتح أمامه أبواب الامتلاك والسلطة. ما يبدو صلابة بطولية في وجه السوط، قد ينهار أمام بريق الكرسي. والمفارقة العميقة تكمن في أنّ امتحان القوة الحقيقية هو مقاومة الغواية وقوتها، لا مجرد تحمّل العذاب، وأن صمود الفرد أمام الفقد أهون من مقاومته أمام امتياز السلطة.

***

د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.

لا ينكر إلا جاهل أو متجاهل أننا نعيش أزمة وعي وجودية، تشبه انكسار البوصلة في بحر من الاضطرابات الحضارية. فالعقل الجمعي العربي، بكل طبقاته، ما يزال يرزح تحت وطأة المعطى الجاهز والمفكر فيه مسبقًا، سواء كانت مرجعيته قبلية عصبية أو دينية تقليدية.

المعضلة هنا ليست في التقليد ذاته، فكل حاضرة لها ماضيها، ولكن في تحول هذا التراث من وقود للإبداع إلى قيد على العقل. لقد أصبحنا نعيش على ريع الأفكار لا على إنتاجها؛ نستهلك المعرفة كما استهلكها أسلافنا، دون مساءلة أو نقد أو تمحيص.

الوعي المأزوم

الأمر الأكثر ألماً أن النخب المفترضة – سياسية كانت أم فكرية أم دينية - قد تحولت من قوى دافعة للتغيير إلى قوى كابحة له. فبدلاً من أن تكون منارات تستشرف المستقبل، أصبحت حراساً أمنين على مقابر الماضي؛ ترفع شعار "هكذا فكر الأسلاف"، وكأن العقل البشري توقف عن الإنتاج منذ ألف عام!

هذه النخب ترفض التغير المعرفي لأنه يهدد امتيازاتها، ويقوض شرعيتها القائمة على الوصاية الفكرية. فهي تعيد إنتاج الخطاب ذاته، بلغة جديدة أحياناً، ولكنها تبقى في الدائرة نفسها: دائرة الاجترار والتبعية الفكرية.

المجتمع المغلق

لم يعد الوعي التقليدي حصناً منيعاً يحمي الهوية، بل تحول إلى سجن كبير يقيد العقل، ويعطل طاقته على الإبداع والابتكار. فأصبحنا نرى العالم من خلال شبكة مفاهيم موروثة، لا نستطيع تجاوزها أو مساءلتها. كل فكرة جديدة تقابل بالرفض والاتهام بالخروج عن الثوابت، وكأن الثوابت هي أوامر نهائية لا تقبل المراجعة أو التطوير.

هذا النمط من التفكير ينتج عقلاً مغلقاً يرفض الحوار مع الآخر، ويخاف من المختلف، ويعتبر أي اجتهاد جديد خروجا عن الإجماع المزعوم. وهو بذلك يغلق على نفسه أبواب المستقبل، ويبقيه في دائرة التبعية والحضور الغائب.

تطوير الوعي: المعركة المصيرية التي لا بد منها

إثراء الوعي وتطويره ليس ترفاً فكرياً، بل هو معركة مصيرية تحدد مكانتنا في عالم يتغير بسرعة مذهلة. وهي مهمة شاقة؛ لأنها تتطلب كسر أصنام العقل التي عبدناها لقرون، والخروج من المنطقة الآمنة التي اعتدنا عليها.

هذه المهمة لا تقع على عاتق النخب وحدها، بل هي مسئولية مشتركة بين المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية والدينية. فالمدرسة يجب أن تتحول من مكان للتلقين إلى فضاء للتساؤل والنقد، والجامعة يجب أن تكون ورشة لإنتاج المعرفة لا مجرد ناقلة لها، والإعلام يجب أن يكون منصة للحوار الحر لا لترديد الشعارات الجاهزة.

نحو وعي جديد أو لا وعي

نحن أمام خيار وحيد: إما أن نعيد تشكيل وعينا الجمعي بما يتناسب مع تحديات العصر، وإما أن نبقى على هامش التاريخ؛ نعيش على ذكريات الماضي وأوهام الأمجاد الغابرة.

الطريق الوحيد المفتوح على المستقبل هو طريق الثورة المعرفية، التي تطلق العقل من قيوده، وتحرره من سلطة الجاهز والمسلم به. طريق لا بد أن نبدأ به الآن، قبل أن يغلق علينا المستقبل أبوابه إلى الأبد.

فإما أن نكون أو لا نكون.

لا تكمن الكارثة في انسداد أفق الوعي الجمعي، بل في انعدام الإحساس بالكارثة. فالمجتمع الذي يفقد القدرة على نقد ذاته، ويحول تراثه إلى تابوهات مقدسة، هو مجتمع يغلق باب المستقبل بيديه، ويوقع على شهادة وفاته الحضارية بإرادته.

الوعي المعلب

لم نعد أمام تراث حي يحاور وينمو، بل أمام منتجات فكرية مغلفة جاهزة للاستهلاك. لقد قُتلت الأفكار وتحولت إلى أشباح نقدسها دون أن نفهمها؛ نرددها دون أن نعيها. حتى الخطاب النقدي نفسه أصبح نسخة مكررة من خطابات الماضي؛ يدافع عن نفسه بنفس أدواته، وكأنه يدور في حلقة مفرغة.

هذه التعبئة الجاهزة للوعي تنتج عقلاً استهلاكياً غير قادر على الإنتاج، يعتقد أن الحقيقة ملك له وحده، فيرفض أي حوار مع المختلف، ويختزل العالم إلى أبيض وأسود، صديق وعدو، مؤمن وكافر.

النخب والانقلاب على الدور

الأخطر من تحول النخب إلى حراس للتقليد هو تحولها إلى سماسرة تابوهات. فهي لا تكتفي بالدفاع عن القديم، بل تستثمر فيه رمزياً ومادياً؛ فتصبح مصلحتها في بقاء الأزمة لا في حلها. هذه النخب ترفع شعارات الأصالة والهوية لتبرير جمودها، وتحول النقد إلى خيانة والاجتهاد إلى خروج.

هنا يصبح الوعي المزيف وسيلة للهيمنة والسيطرة؛ حيث تستخدم التابوهات لإسكات أي صوت مختلف، وإلغاء أي عقل يسائل أو يشك أو يجتهد.

الهروب إلى الماضي

نحن لا نعيش أزمة ماض، بل أزمة حاضر يهرب إلى الماضي. فالعقل الجمعي الذي يعجز عن فهم واقعه والتعامل مع تحدياته، يلجأ إلى الماضي كملاذ نفسي وأيديولوجي. يصبح الماضي هو الجنة المفقودة التي نعيش على ذكرياتها، بينما يتحول المستقبل إلى كابوس نخشى مواجهته.

هذا الهروب إلى الماضي ليس حلاً، بل هو جزء من المشكلة؛ لأنه يعمق أزمة الحاضر ويغلق أبواب المستقبل.

هل هناك مخرج من المتاهة؟

المخرج يبدأ بالاعتراف بأننا أمام أزمة وجودية تهدد مستقبل الأمة. لا بد من ثورة وعي تعيد بناء العقل العربي من جديد؛ ثورة تبدأ بتحرير العقل من سلطة المسلمات والتابوهات، وتعيد وصله بأسئلة العصر وتحدياته.

هذه الثورة تتطلب:

1.  تفكيك خطاب التقديس: بمراجعة التراث نقدياً، والتمييز بين المقدس والدنيوي، وبين الثابت والمتغير.

2.  تحرير العقل من الأيديولوجيا: فالعقل المسيَّب أيديولوجياً هو عقل مغلق غير قادر على الرؤية الموضوعية.

3.  بناء ثقافة السؤال بدل ثقافة الجواب: فالجواب الجاهز يقتل التفكير، بينما السؤال يفتح أبواب المعرفة.

4.  اعتماد العقلانية والنقد كمنهج حياة: في التعليم والإعلام والفن والسياسة.

إما أن نولد من جديد أو نغرق في بحر الماضي

نحن أمام خيار وحيد: إما أن نجري عملية ولادة جديدة للوعي؛ نتحرر فيها من قيود الماضي وأوهام اليقين، ونفتح عقولنا على آفاق المعرفة والعصر، وإما أن نستسلم للجمود ونغرق في بحر الماضي، فتصبح مجرد ذاكرة منسية في تاريخ الأمم.

فهل نغير وعينا، أم يغير الوعي قدرنا؟

***

د. عبد السلام فاروق

يبقى ماركس على تميز منجزه في حينه، ممثلا للانقلابيه المتاحه على مستوى النظر باعتبار الحاصل انتقالا في وسيلة الانتاج، من اليدوية الى الاليه، من دون احتمالية لابل ضرورة الانقلاب المجتمعي نوعا، مابين مجتمعية ارضوية ظل ماركس يكرر القول بانها في الجوهر حاجاتيه تحركها الدوافع الغريزية المعاشية، الى مابعدها، وماهي موجوده لكي تبلغه باعتبارها محطة انتقال بين الحيوانيه والعقلية، فاذا نظرنا لموقع ومكان المنجز المشار اليه وماترتب عليه، فان حصوله مع اجمالي حالة النهوض الاستثنائي الذي عرفه الغرب تحت طائلة الاله وفعلها مجتمعيا وعقليا، يعد من قبيل القمة الانقلابيه، الدالة على منتهيات المجتمعية الممكنه بناء للوضع الالي الناشيء، محسوبة وفقا لنمطية مجتمعية بذاتها، هي "الطبقية" الاوربية، لا المجتمعية على مستوى الكوكب على تنوعها، وبالاخص ازدواجها المجتمعي.

ومن الواضح الذي كان الغرب يصر على نفيه لصالح تكريس المركزية الاوربية، ان الانقلابيه الاليه ليست ولايمكن ان تكون من حيث الرؤية والمترتبات العملية، محصورة في الموضع الذي انبثقت فيه الاله، من دون اي احتمالية يمكن توقعها، او انتظارها بناء على ماهو متوقع من انتشار الاله على مستوى المعمورة، ماكان ومازال من شانه ادخالنا ضمن عملية تاريخيه لاحقة على انبثقاق الاله اوربيا، والى اللحظة الراهنه، وهو مسار عائد الى فعالية الاله مجتمعيا، وتفاعلها على هذا المستوى، وماينجم عنه من متغيرات تطرأ عليها تحورا، من المصنعية الى التكنولوجية، مع الخروج عن نطاق وفعالية "المجتمعية التاريخيه" الى " المجتمعية المفقسة خارج رحم التاريخ"، وانتقال الزعامه الانتقالية اليها، مع المصادرة التي تمارسها مفهوميا كما تفعل امريكا مع الارث الاوربي الالي، مع انها مجتمعية خارج المجتمعية، وبلاطبقات، قلبت بوجودها العملية الانتاجية الكيانيه الطبقية، فعولمتها خارج مفاهيم الوطنيه والسيادة، ماقد فتح الباب مطردا نحو عالم مختلف لامكان فيه لماركس الابتدائي الاوربي الطبقي، الجزئي، المرهون للطور الابتدائي من الانتقالية التحولية الاليه.

وهذا ماصار واجبا وملحا الى اقصى الحدود ادراكه ذهابا الى قلب اجمالي موضوعات الغرب الالية الاستهلالية، وفي مقدمها قمة الانقلابيه التحولية الطبقية، فلا المجتمعات "طبقية" تاريخها كما راى ماركس "ماهو الاصراع طبقات"، ولا الاله وسيله انتاج انبثقت لتحل محل وسيلة الانتاج اليدوية فحسب. وهنا تتمثل اليوم الحاجة الى " الثورة العقلية التحولية العظمى المنتظرة" كحصيلة للاصطراعية الغربية الاستعمارية الافنائية للموضع الاصل اللاارضوي الازدواجي، بعدما اقدمت الكيانيه المفقسه خارج التاريخ، على عملية افنائه ووضع اشتراطات وموجبات منعه من الحضور كذاتيه، بما فيها الكيانيه البرانيه المتشبهه بالغرب.

بعد الشيوعيه اللاارضوية الايديلوجيه المستبدله من لدن البنية والكينونه اللاارضوية، واندحارها في غمرة وتداعيات ثورة تموز 1958، حلت اشتراطات التحولية العظمى، واقترب كشف النقاب عن الحقيقة المجتمعية المضمرة المغيبه، والخارجه حتى الان عن طاقة العقل البشري، والعقل الراهن الغربي على الاحاطة، الامر الذي تتفاعل موجباته والاشارة اليه، بدلالة الثورة اللاارضوية الثالثة العراقية التشرينيه عام 2019، وجوهرها الكوني التحولي، وماهي موكله به، بعد الثورتين اللاارضويتين غير الناطقتين، في حزيران عام عشرين من القرن الماضي، وتموز 1958 . مامن شانه اظهار الحقيقة المطموسة عن التحول المجتمعي على مستوى المعمورة، وماسيكون حاضرا باعتباره ضرورة قصوى قد لاتستمر الحياة من دونه، الامر الذي يشجع على لفت انتباه القوى الطامحه على مستوى العالم للتغير، لان تبادر للالتحاق بالتحولية المجتمعية بدل الانقلابيه الطبقية التي انتهى زمنها ودورها، وبهذا تكتسب اليسارية السابقه وتحظى بفرصة الفعالية من جديد، معززة بحضورها وجهة الانتقالية التحولية، لتغدو كما تطمح قوة تحول حية، بدل الاحتمالية الاخرى الناجمه عن الاصرار العقائدي المفضي الى اللاجدوى والانقراض.

***

عبد الأمير الركابي

......................

(1) (ولاتوقف في التراث التاسيسي الامريكي للمضاهاة المرضية وعصاب استحضار مالا يستحضرولقد" تزاحم على المدح والتقريض الكتاب ورجال الكنيسه والمثقفين والمترسلون والاخباريون. مثال ذلك ان وليام مستوغتون( 1531/ 1701) مواطن من ماشوستسن كان يرى ان امريكا امة جرى اختيار مواطنيها بعناية، وان الله تصرف كما تغربل الحبوب في الغربال لفصل الحبوب الصالحة عن الزوان: على هذا المنوال، ستنمو البذرة الطيبه وسط الصحراء، وراى صموئيل سوال (1652/ 1730) وهو كاتب يوميات ورئيس المحكمه التي ستحاكم السحرة في "سالم" ان انكلترا الجديده هي المكان الذي سترتفع فيه " اورشليم الجديده" وثمة امثله عديده على مانقصده، للاطلاع عليها يقرا " كتاب العراق: الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة الاف عام"/ عبدالامير الركابي /دار الانتشار العربي ـ بيروت/ فصل" هندي بلا لون .. لاكيانيه ولا طبقات".

(2) يقول اورسيوس" لهذا قدر الله الملك في هذه المواضع وهذه الامم في الدنيا ارباعا: البابلي في الشرق، والقرطاجني في القبل، والمجدوني في الجوف" الشمال"، والروماني في الغرب، وكان بين السلطان الاول بابيل، والسلطان الاخر وهو سلطان رومه، فشبه السلطان الاول ـ وهو السرياني ـ بالوالد الموروث. وشبه السلطان الاخر ـ وهو الروماني ـ بالولد الوارث. واما الافريقي والمجدوني فانهما شبها بالوكيلين على الملك حتى كبر الولد الواجب له الميراث"/ تاريخ العالم/ الترجمه العربيه القديمه، حققها وقدم لها د عبد الرحمن بدوي/ المؤسسه العربية للدراسات والنشر/ ص 167/.

( 3) يراجع " حدث ويحدث في العراق والمنطقه.. امركة ام صهينه ؟"/ دار رؤى اشكالية/ فتحي رشيد/ وتقول الاحصاءات ان امريكا انفقت في حربيها على العراق 2،4 تريليون دولار امريكي.

(4) (ففي تصريح صادر عن اللجنة المركزية المجتمعة على عجل في 13 اب 1959، جرى التاكيد بان "المجازر والتعذيب ناجمه عن نقص في تربيه الجماهير وعن عدم فهم كاف للوضع السياسي في البلاد" وقد نادى الحزب الشيوعي ( المقصود الحزب الشيوعي الارضوي حزب الافندية) في الايام اللاحقة بالحاح اكبر بالالتفاف حول قاسم وبتكتيل" البرجوازية الصغيرة والوسطى الوطنيه والعمال والفلاحين)/ الاتحاد السوفياتي والصين ازاء الثورات ماقبل الصناعية/ هـ كارير دانكوسو س.و. شرام/ دار الحقيقة بيروت / ص69 .

(5) اكثر اشكال الحقد الذي يمارسه شيوعيو الارضوية الافندية على الشيوعيه اللاارضوية، الاصرار على الالتصاق بتاريخها 1943/1964 وادعاء الانتساب اليها وهو مالاحياة ولاوجود لهم من دونه.

(6) كراس "فهد" الشهير "حزب شيوعي لا اشتراكيه ديمقراطيه".

 

لاحظتُ صبياناً وشباناً يضعون في أعناقهم «خنجرَ أبي لؤلؤة» ذا الرَّأسين أو الشَّفرتين(الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك)؛ عوذهم به آباؤهم وأمهاتم؛ وهي واحدة مِن الأكاذيب والجهالات المقصودة؛ على أنه «سيفُ ذي الفقار»؛ فمِن المغرضات أنّ يصبح خنجرُ قاتل عمر بن الخطاب سيفاً بيد علىِّ بن طالب؛ في مصورات أحفاد الغلاة؛ كي يظهر أنَّ علياً قد قتل عُمرَ. أقول: إلى أين تذهبون برقاب وعقول صبيانكم وشبابكم، وأنتم تعوذونهم بطائفية متوحشة، ألا شاهت الوجوه والعقول.

جاء ذِكر «سَيْف ذي الفَقار»، في كتب التَّاريخ كافة، أنه غنيمة مِن معركة «بدر» (2هـ)، صار للنبي، ثم أهدي لعليٍّ، وظل يتداول بين أجيال العلويين، فصار لحفيد الحسن بن عليٍّ، محمَّد النَّفس الزَّكية (قُتل: 145هـ)، ثم استأثر به العباسيون، وآخر أخباره كان عند هارون الرَّشيد (تـ:193هـ) (الطَّبري، نفسه)، وضاع ليظهر مركباً عليه خنجر أبي لؤلؤة «ذور الرَّأسين».

إنَّ صورةَ سَيف ذي الفَقَار، المنتشرة في تماثيل ومصورات ومداليات، تُخالف الوصف الذي اِتَّفق عليه المؤرخون الأوائل. كان محلى بثماني عشرة فقرة، ولم يتحدث أحدٌ عن شفرتين في طرفه، ومعلوم أنَّ الفترة الصَّفوية رتبت وقائع وأحداث فيها الغلو والتَّطرف، فغُلَّف سَيف ذي الفَقار بخنجر أبي لؤلؤة (قُتل 23هـ) قاتل عمر بن الخطاب(23هـ).

هُدم المقام الذي كان يسمَّى بقبر أبي لؤلؤة، أو «بابا شجاع» تمجيداً له، عام 2007، والذي شُيد بمدينة كاشان الإيرانية، مِن قِبل أسرة عظيمي، التي أدعت الانتماء له (جميل، مقال قبر أبي لؤلؤة في المدينة أم كاشان؟!). فأبو لؤلؤة قُتل بالمدينة، بعد ساعة مِن طعنه لعمرَ، فكيف يظهر قبره بكاشان؟!

لقد كثر التَّهادي بسيف ذي الفَقار، وأُقيم له نصب تذكاريَّة، وصار مداليات في الأعناق، ولا بد مِن التَّصحيح للخيال المشوه، فهذا ليس سيف الرَّسول الذي أهداه لعليٍّ، وربَّما لم يعرف المتهادون، والدَّاعون إلى قيام النُّصب التذكارية لذلك السَّيْف هذه الحقيقة. لكنَّ القضيةَ أخذت تُعلن، والمجتمعات المختلطة لم ينقصها مثل هذا الخراب، وقد دخل مجال الفن.

إنه تحوير غير محايد، فهناك تحوير قصص لأغراض شتى لا تكون مؤذية، لكنَّ مثل هذا التحوير مقصود بلؤم، حفر شكله في العقول، والمزَوّرون يعرفون أنه إهانة لعلي بن أبي طالب أنّ يظهر متوشحاً خنجر أبي لؤلؤة. أقول: رفقاُ بصبيانكم وأنتم تقلدونهم وتعوذونهم بكذبةٍ؛ مفطرة في الإيذاء.

عندما يزوُّر التّاريخ يتحول إلى قناعات راسخة؛ مع أنه مِن خَيال المزوُّرين، تزور الأضرحة، وتُعطى أسماء غير أسمائها، فالدَّفين قد يكون عدو مَن عُرف به الضّريح، وتزور الحيطان والوقائع، وكلّ شيء قابل للتزوير، لكنْ حذاري مِن المؤذيات منها، فلكثرة تعبئتها في العقول تصبح حقائقَ، تظهر في المواسم.

 فلتكرارها مثلاً رسخت قولة «يا أهل العراق يا أهل الشّقائق والنّفاق»، لعليّ بن أبي طالب(اغتيل: 40هـ)، وهي قولة عبد الله بن الزّبير(قُتل: 73هـ)، فهناك مَن رماها تشفياً بالعراق وأهله، لتبقى طعنةً مدى التّاريخ، فنسبتها لقائلها ابن الزُّبير لا تبدو مؤثرة طاعنة؛ لذا نُسبت لإمامٍ وخليفة وهو عليّ بن أبي طالب، فأهل العِراق كافة كانوا علويين، وأهل الشّام كافة كانوا أمويين في الاِنتماء.

جاء نص العبارة على لسان ابن الزّبير، عندما ورده خبر مقتل أخيه مصعب بالعِراق: «وَأما الَّذِي أفرحنا فَعلمنَا أَنَّ قَتله شَهَادَة، وَأَن ذَلِك لنا وَله فِيهِ الْخيرَة، أَلا وَإِن أهل الْعرَاق أهل الشِّقاق والنِّفاق؛ باعوه بِأَقَلّ ثمن كَانُوا يأخذونه مِنْهُ، إِنَّا وَالله مَا نموت إِلَّا قصعاً بِالرِّمَاحِ وَتَحْت ظلال السُّيوف» (ابن قُتيبة، عيون الأخبار، القلعي، تهذيب الرِّياسة وترتيب السّياسة).

ربّما عبر معروف الرُّصافي(تـ: 1945) عمَّا قصدنا، مع اختلاف الغرض: «لُقنْتُ في عصر الشَّبابِ حقائقاً/ في الدِّين تقصرُ دونها الأفهامُ/ ثم انقضى عصر الشَّباب وطيشه/ فإذا الحقائقُ كلُّها أوهامُ»(الدِّيوان 1959). إذا أدرك ذلك الرُّصافيّ الفرد، فمِن العادة تثبت المزورات في المجتمعات ثبوت أنياب الوحش في الفريسة؛ وكم يبدو الأطفال والصّبيان، وهم يعلقون خنجر أبي لؤلؤة تعويذةً في رقابهم، فرائس لمَن زوَّر واستبدل خنجر أبي لؤلؤة بسّيف عليٍّ؛ وهذا على ما يبدو يتم تعليمه داخل مدارس أحزاب دينية موغلة بطائفيتها.

***

د. رشيد الخيُّون

ان كان لبلد او لامّة ان يأخذان موقعا محترما ضمن بقية الأمم فليس سوى التعليم على رأس أولويات ذلك الهدف. التعليم الاولي بداية من المراحل الابتدائية تنشيء الأجيال القادرة على انتاج مجتمع صحّي أساسه الاخلاق والوعي، ثم تكمّله الدراسات المتقدمة وصولا للدراسات العليا. ولست أجد في اساسيات انشاء نظم التعليم تلك من حجر اصلب ولا اضمن من وجود عقل او عقول قادرة على وضع ستراتيجيات بمختلف المديات ورؤى واهداف واضحة المعالم مع سياسات عمل قابلة للتطبيق ميزتها المرونة وإرادة التطور لكن...و اخ من لكن، حيث تسكب هنا أطنان من العبرات...لكن مع ضرورة بل وحساسية الثبات الحكيم الذي هو عكس التقلبات كيفما مالت ريح الصرعات والاجتهادات والشطحات الفكرية. ان ضمان الاستيعاب وتراكم الخبرات وتعديل الهنّات والأخطاء خلال مختلف مراحل التطبيق، وهو امر طبيعي بل وصحّي في غالب الأحوال، لا يمكن الحصول عليه مع التغيرات او التعديلات الكثيرة ضمن مرحلة زمنية قصيرة، حيث تكون التعديلات والتعديلات على التعديلات ثم العودة عن تلك الأخيرة لغيرها ضمن مدد قصيرة مصدر هدم وتخريب مهما كانت النوايا خيّرة او صادقة...و هذه من اساسيات علوم الإدارة ويعرفها كل من درس او مارس الإدارة.

نظام الامتحانات التقويمية للتخصصات المتماثلة في الجامعات، والذي يتلخص باختيار عدد من المواد الدراسية للمراحل الدراسية المختلفة، ثم وضع أسئلة امتحانية موّحدة في كل الجامعات الوطنية بقصد قياس مستوى التحصيل الدراسي لطلبة الجامعات او لنقل مستوى التدريس ونتاجه في الجامعات. بمعنى ان طلبة قسم الهندسة المدنية (مثلا) في جامعات بغداد والمستنصرية وووو الموصل والبصرة وواسط وووووو يمتحنون بمادة الأسس (مثلا) بأسئلة موحدة تختارها لجنة وزارية. هذا النظام ابتدأ العمل به في العراق حسبما أتذكر سنة 1995/1996 او بعدها بسنة، وقد كانت أوامر ال"قيادة" حينها رعبا بكل ما تحمله الكلمة حيث كانت تقضي بمعاقبة الأستاذ التدريسي الذي تكون نسبة نجاح طلبته اقل من 30%، وبالفعل فقد كانت العقوبة تحويل التدريسي الى ما يسمى معسكر ضبط (الرضوانية) مدة شهر يذوق فيها مختلف أنواع الإهانة والتنكيل، وهذا ما حصل حسب ما أتذكر لأستاذٍ فاضلٍ بدرجة بروفيسور  كان قد تجاوز الخمسين من العمر، وقد ترك البلد بعدها ليعاني ذل الغربة في ليبيا القذافي بدلا عن الهوان امام أولاده وعائلته وزملاءه.

لا ازعم انني اعلم من الخبراء والعلماء الذين أشاروا او قرروا إعادة نظام الامتحانات التقويمية، حيث لابد ان لهم وجهة نظر وحجج وفي كل الأحوال فما انا الا شخص بسيط لا وزن لما أقول. لكن حسب معايشة طويلة في ومع الجامعات العالمية الرصينة لم اجد مثل تلك الامتحانات لا قبلا ولا حاليا. بلى توجد اختبارات صلاحية ممارسة المهنة (بعد انتهاء الدراسة الجامعية) في تخصصات مثل الهندسة والطب والقانون والمحاسبة...الخ، تقوم بها مؤسسات مستقلة عن المؤسسات الجامعية والفشل فيها لا يلغي شهادة التخرج للطالب كما انه لا ينعكس على الأستاذ ولا على الكلية بشكل مباشر لأنه في كل الأحوال اختبار للجهد الشخصي للطالب. وحتى في حال وجود تجارب قريبة منها فانها تكون على مستوى الكلية او الجامعة ذاتها لضمان رصانة المخرجات وتعدّ من مكملات الحصول على الشهادة.

بسرد مختصر لاهم مواطن الضعف في نظام الامتحانات التقويمية أثناء الدراسة الجامعية يمكن القول:.

1. تؤدي بالضرورة لتُحجِّم الإبداع والخصوصية وذلك من حيث:

أ‌. فقدان المرونة الأكاديمية:

- كل كلية (خصوصًا الرصينة منها) تصمم مناهجها بما يتناسب مع رؤيتها ورسالتها البحثية والتربوية وخصوصيتها المناطقية والموارد المتوفرة.

- فرض امتحان موحّد يعني إلزام جميع الكليات بنفس المخرجات والطريقة وربما نوع الأمثلة والكتب المنهجية، مما يحد من التنوع والابتكار.

ب‌. تشجيع الحفظ والتلقين:

- الطالب يركز على اجتياز الامتحان الموحد أكثر من تنمية التفكير النقدي أو الإبداعي.

- وهذا يتعارض مع فلسفة الجامعات المرموقة التي تُعطي أولوية للتفكير الحر، البحث المستقل، والمشاريع التطبيقية.

ت‌. إضعاف الهوية الأكاديمية للكلية:

- بعض الكليات تتميز بتخصصات فرعية أو توجهات بحثية خاصة (مثلاً كلية طب تركز على البحث السريري، وأخرى على الصحة العامة كما ان بعض الكليات الهندسية تكون موجهة اكثر للنواحي التطبيقية وأخرى للتصاميم والابداعات النظرية).

- الامتحان الموحد قد يُجبر الجميع على منهج وسطي يذيب هذه الخصوصية.

ث‌. إضعاف الابتكار في التدريس:

- عند وجود امتحان مركزي، يُصبح هم الأساتذة "تدريب الطلبة على شكل الامتحان" بدل تطوير طرق تدريس جديدة أو مشاريع بحثية مبتكرة. وقد يكون الخوف والتوجس من الانعكاسات السلبية المحتملة عامل تثبيط للحماس والانفتاح الفكري للتدريسي.

2. مقارنة مع الجامعات العالمية:

- الجامعات العالمية الرصينة تُفضل التقييم المتنوع: أبحاث، مشاريع، امتحانات داخلية، تقييم عملي، عروض شفوية… إلخ.

- الجودة تُقاس عبر اعتماد خارجي (Accreditation) يضمن أن الكلية تحقق المعايير، لكن يترك لها الحرية في كيفية بلوغ هذه المعايير.

- في التخصصات التي فيها امتحانات موحدة (كالطب)، غالبًا الامتحان يكون في نهاية البرنامج أو في شكل "اختبارات تقدمية" تساعد الطالب ولا تُلغِي خصوصية الكلية.

ذلك إضافة للأعباء الإدارية والمالية واللوجستية الكبيرة على الكليات قبل واثناء توقيتات تلك الامتحانات التقويمية التي تأكل الكثير من جرف التقويم الدراسي، تسبقها العديد من محاضرات التهيئة والتدريب على أداء تلك الامتحانات والذي يختلف اجرائيا عن المتعارف عليه من الامتحانات التقليدية، حيث يكون الهاجس الأول والأهم للقيادات الجامعية الخروج من ربقة تلك الامتحانات دون التعرض للعواقب المحتملة لحصول طلبتهم على نتائج ضعيفة.

نعم، خلاصة القول هنا، ان الامتحانات الموحدة أثناء الدراسة الجامعية تُضعِف الإبداع والخصوصية الأكاديمية لكل كلية، وتخلق جوا من التوتر لدى الملاكات التدريسية والأهم من ذلك كله انها لا تؤدي لوضع صورة حقيقية عن مستوى المخرجات التعليمية لان أساسها خلط غير مفهوم بين فلسفة التعليم العالي الذي سمّي عاليا كونه انطلاق في فضاء الابداع المتحرك المتغير مع المعطيات الجديدة كل يوم وبين فلسفة المحفوظات والنمط الواحد الذي قد ينفع في المراحل الابتدائية الأولية التي يتوجب فيها على كل الطلبة معرفة حروف الهجاء وجدول الضرب (مثلا)... وحتى في هذه قول كثير لولا ضيق المجال، ولهذا السبب فالجامعات العالمية المرموقة لا تعتمدها وتفضّل ضمان الجودة عبر الاعتماد الأكاديمي والاختبارات المتنوعة داخل كل جامعة.

أقول قولي هذا واعيا وواثقا انها مجرد كلمات شخص بسيط لا وزن له في منظومات القرار، لكنها ابراء للذمة وليعتبرها من لا يتفق تخاريف عجائز وليمض فيما يشاء ويشتهي والله تعالى المستعان لاجيالنا الحالية والمستقبلية.

***

أ.د. سلام جمعه باش المالكي

ليس الانقلاب من اليدوية الى الاليه هو انقلاب في وسيلة الانتاج جوهرا، بقدر ماهو انقلاب في النوع المجتمعي، ولحظة تحول من الارضوية الجسدية، الى اللاارضوية / العقلية، يبدا حيث تنبجس الاله في الموضع غير القادر على ادراك وتبين ابعاده، فيحصره في الانتقالية على مستوى وسيلة الانتاج لتصبح تلك عتبه بداية، ومحطة انتقال مجتمعي توهمي، تؤدي حدة دينامياتها التحولية غير المنظورة الى جعل المجتمعية الارضوية الطبقية منها بالذات، تذهب الى مقاربة التحولية بما تتيحه كينونتها الاصطراعية، متخيلة ماممكن من تحول "طبقي" ناف كحصيلة للطبقية، من دون الانتقال على مستوى النمطية الاخرى، والنوع المجتمعي المغاير، لتبقى مثلما هي عليه، وكما كانت، ارضوية وان تكن بلاطبقات، ولا ملكية خاصة، ولا دولة، الامر المتوفرة اشكال منه راهنا واصلا في البنى المجتمعية، ومثالها مجتمعات اللادولة، امريكا الهندي الاحمر،الامريكيه اللاتينيه، الاسترالية، غيراجزاء من افريقيا وبعض من آسيا.

ويلعب السبق الالي دورا حاسما في منح النمطية المجتمعية التي تنبثق في رحابها الالة، قدرات وامكانات على مستوى تسارع الديناميات والطاقة، تيسر لها الغلبة النموذجية والتفكرية على مستوى المعمورة، بغض النظر عما يرافق الفترة المشار اليها من اهوال واضطراب، وعنف واجحاف هائل، يقف في مركزه الميل للغلبة والمركزية والانتاجية الاستغلالية الجشعه المتعدية على غيرها، والاستعمارية التسلطية باسم "التقدم"، ماتظل تلعب دورا اساسا في استمراره القصورية وعيا، وبالذات وتعيينا، بما يتعلق بموضوعه وسيلة الانتاج ودورها في صياغة النوع المجتمعي، والاختلافات المرحلية والتاريخيه المحالة لقوانين الوجود، من المجتمعية الارضوية الجسدية الحاجاتية اليدوية الاولى، الى الغاية الوجودية والهدف التحولي الاعظم اللاارضوي مجتمعيا، حيث التحول العقلي مابعد الجسدي المقرر ابتداء.

وتلعب دورا حاسما في تكريس التوهمية الاليه وقتها ناحيتان، في مقدمتها ارضوية الموضع المنبثقة فيه الاله، والاهم هو استمرار القصورية العقلية التاريخيه بازاء الظاهرة المجتمعية في ارضها كما عالميا، والعجز ادراكا دون الوقوع على الازدواج المجتمعي والاصطراعية المواكبه له مع اجمالي الاليات المتصلة به، مع استهدافاته، الامر الحال على الموقع الاساس المؤهل كينونة لبلوغ مثل هذه الادراكية افتراضا، بحكم الكينونة والمسار التاريخي وتفاعله، فارض الرافدين حيث اللاارضوية والازدواج الاصطراعي، هو محرك التاريخ، لاتكون الانتقالة الفاصلة العظمى نحو وعي الذات قد تحققت وقتها، ومع ان بدء انبعاث هذا الموضع الخاضع لقانون الدورات والانقطاعات منذ القرن السادس عشر، وهو تاريخ انتقال العالم الى المجتمعية العقلية، غير ان النطقية الاساس والضرورة الفاصلة، ظلت من حينه وحتى مابعد الانتقال الاوربي الى الطور المصنعي الابتدائي من تاريخ التحولية وتوهميته غائبه، ماقد منح الغرب ووجهته التغلبيه على مستوى المعمورة، فرصة التفرد التوهمي كتصور ونموذج شمل حتى موضع التحولية نفسه، والقى عليه بوطاة المنظور والتصور الالي.

هذا علما بان الموضع المذكور كان قد بدا عملية تشكله الراهنه الثالثة صدوعا لالياته التاريخيه، قبل انبثاق الاله في اوربا في القرن السابع عشر، ومرت عليه تشكليا فترتان، اولى قبلية مثلها "اتحاد قبائل المنتفك"، وثانيه انتظارية نجفية انبعاثية، من دون نطقية لاارضوية ازدواجية كانت بانتظار التفاعليه الكبرى، مع الدخول تحت طائلة الانتقالية الاليه وغلبتها الكوكبيه، وتكريسها منظورها ل"العراق الحديث" المتخيل والخاضع لاليات الافتراضية الاليه وتوهميتها ككيانيه مفتعله، من خارج الموضع الازدواجي التاريخي، الصاعد تشكلا بلا نطقية مايزال.

ضمن هذا السياق نشات الاصطراعية البنيوية التحولية المجتمعية اللاارضوية الازدواجية اليوم، مع الانتقالية المؤقته الاليه، احد طرفيها مايزال بلا نطقية، والاخر بنطقية متضخمه توهميه، ظل التصور الغالب بشأنها يكرسها بما هي عليه، غير منتبه فضلا عن الاعتراف، الى احتمالية الاصطراعية البنيوية من دون نطقية، وهو ماتلجأ اليه وظلت تلجا اليه على مر تاريخها الطويل، ومنه مامر عليها من دورات سومرية بابلية ابراهيمه، وعباسية قرمطية انتظارية، مؤدية الى النطقية الاولى والابراهيمه الكوراجينيه، والثانيه القرمطية الاعتزالية والاخوان صفائية الخوارجيه، الاسماعيلية التشيعية الانتظارية، غير القابلة للتحقق، في حين تمثلت اليوم في الانتقال من نطاق القبيلة والانتظارية النجفيه في قفزة مقاربة للانتقالية الكبرى المستهدفة في استخدام التحولية الارضوية الدنيا بصيغتها الاعلى الطبقية"الماركسية"، فاذا بالموضع الاكثر "تخلفا" جنوبا يتحول الى بؤرة انقلاب تحولي مافوق ارضي.

هنا ومن دون دراية من احد او جهه، وجدت الصيغة الشيوعية الماركسية الثالثة، الاولى " الماركسية الاوربية"، والثانيه "التطبيقية الماركسية اللينينه"، والثالثة غير المكشوف عنها النقاب "الشيوعية السومرية اللاارضوية" التي تذهب بالتحولية الدنيا الارضوية الى التحولية المجتمعية العليا، وهو مالم يكن ليدرك في حينه، مع ان بعض الاشارات دلت عليه، مثل ماذهب اليه " فهد" يوسف سلمان يوسف، حين فرق بين "شيوعيه الافندية" البغدادية، وشيوعية الناصرية، معتمدا على تجربة لنين وروسيا، حيث وجدت البلشفية وقتها مقابل المنشفية (6) وهو ابعد ماكان ممكنا ان ينطق به مع نوع وحدود ادراكية، مؤسس الشيوعيه التي تتعداه وقتها نوعا.

انتهت الماركسية بصيغتيها الاوربية المنطلق، والروسية التطبيقية الاليه الاستبدادية، الامر المتوقع والبديهي مع تقدم السيرورة التحولية، وانتقالها من الفترة الاولى الاليه الاوربية ومنظوراتها التوهمية الاستباقية، الى مابعدها، وماهي موجوده بالاصل كي تذهب اليه، مع مايرافق المسار المشار له من انقلاب في الوضع الاجمالي على المستويات المختلفة، وصولا الى التازم الاكبر الانتقالي الضرورة الفعلي، الكامن بين تضاعيف العملية الانتقالية المجتمعية، مع عملية التحول في وسيلة الانتاج، من المصنعية الاولى ومارافقها من نموذجية مجتمعية وتصورية، الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، والى التكنولوجيا العليا العقلية ومايترتب عليها من تفارق بين وسيله الانتاج وطبيعة وموضوع الانتاج، مع مقتضيات الانقلابيه الفاصلة العقلية والكبرى الحاسمه المنتظرة منذ بدايه التبلور المجتمعي، مايمكن تصور امكان واحتمالية، ان لم يكن ضرورة ارتفاع العقل التحولي الادنى والابتدائي باعلى صيغه كما تجلت في شيوعية ماركس، كي يتحرر من وطاة ومتبقيات المنظورالارضوي، مغادرا عن طريق الالتحاق بالمنظور اللاارضوي، حالته التردوية الراهنه المؤشرة عمليا للانقراض، او التحول الى" طائفة" معزولة خارج الزمن والواقع.

ـ يتبع ـ حلقة أخيرة

***

عبد الأمير الركابي

كان مقتل رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين (1995) نذيراً بشل ما أتُفق عليه بأوسلو (1993)، ومن نتائجه ظهرت السُّلطة الفلسطينيّة، وظهر أفق لحلِّ القضية الفلسطينية، حسب قرار الأمم المتحدة (242) بعد حرب (1967). وكان مقتل رابين مِن نتائج التعصب والتَّشدد الممزوج بين السّياسة والدِّين، بعدم الاعتراف بحلِّ الدّولتين.

أشار الكاتب والإعلامي سليمان الهتلان في مقال نشرته «الاتحاد» (17 أغسطس 2025): «نتنياهو وإسرائيل الكبرى قراءة في دلالات التحول الصّهيوني»، قائلاً عما صرح به نتنياهو «ليس فقط بسبب طابعه الاستفزازيّ، بل لأنه يعكس توجهاً أعمق في الفكر السّياسي الإسرائيليّ نحو ترسيخ رؤية توراتيَّة، تضع اليهود في موقع شعب الله المختار (إلى قوله): محاولة لإعادة صياغة الرواية الصّهيونيّة».

أقول: كان الأخطر في الشّعار (إسرائيل الكبرى) اليوم، أنه يأتي على لسان رئيس وزراء، ولو كان على لسان داعية ديني أو منظمة لهان الأمر، ففي حال طرحه مِن قِبل رئيس حكومة، فإنه لا يُفهم منه غير التنكر لوجود فلسطيني، وكأن فلسطين لا وجود لها في التاريخ والجغرافيا، مع أنَّ الاسم: فلسطين، وبحر فلسطين، وسُكان فلسطين، والفلسطينيّ، والفلسطينيين، وردت في الكتاب المقدس، العهد القديم، في مئتين وأربعة وخمسين نصاً منه.

أما في التّاريخ العربي الإسلاميّ، قبل أنّ تكون فلسطين ضمن الدّولة العثمانيَّة، وقبل الانتداب البريطانيّ بقرون، كانت كياناً سياسيّاً يُعرف بـ«جند فلسطين»، والجند يعني «البلد»، وله أمراء معروفون. قال هَمَّام بن غالب الفَرزدق (ت: 101هج): «سما بالمهاري مِن فلسطين بعد ما/ دنا الفيء مِن شمس النَّهار فولت» (البَلاذُري، جمل مِن أنساب الأشراف).

هذا، وعندما دخل المسلمون بيت المقدس أو إيليا، وجدوا المسيحيين الفلسطينيين، وجرى التفاوض معهم، وتُركت لهم كنيسة القيامة (البَلاذُّريّ، كتاب الفتوح)، مع وجود اليهود كسكان قدماء، كان عددهم حسب «معجم الكتاب المقدس» الصّادر سنة (1894) مادة «فلسطين»: ستمائة ألف أو ستمائة أسرة، وفي العام (1940) كان عدد السّكان جميعاً مليون وأربعمئة وستة وستين ألفاً وخمسمئة وست وثلاثين نسمة، على مساحة قدرها عشرة آلاف وأربعة وعشرون ميلاً.

هذا، كان عدد اليهود داخل فلسطين قبل خروج بريطانيا (1948)، يوم إعلان دولة إسرائيل، ستمئة وتسعة وعشرين ألف يهودي، وعدد الفلسطينيين مليون وثلثمئة وتسعة عشر ألف نسمة، على المساحة نفسها التي ذكرها «قاموس الكتاب المقدس»، بالكيلومترات، سبعة وعشرون ألفاً وأربعة وعشرون كيلومتراً مربعاً (أكرم زُعيتر، المعارف المصريَّة 1955).

ليست المشكلة مع اليهود الأُصلاء بفلسطين، ولكن مع الهجرة بكثافة إليها، على حِساب الفلسطينيين، فيرى الفلسطينيّ ما علاقة اليهودي الرُّوسي والأميركي والأوكراني والإثيوبي وغيرهم مِن مختلف الشّعوب والأمم بفلسطين، وهذا ما تنبّه له وجهاء الطَّائفة اليهوديّة العراقيَّة، عندما عرض عليهم البريطانيون ما جاء في وعد بلفور، فكان جوابهم: «إنَّ فلسطين مركز روحي لنا، ونحن نساعد المعابد ورجال الدِّين فيها مالياً. لكنّ وطننا هذه البلاد، (العِراق) التي عشنا في ربوعها آلاف السِّنين، وعملنا بها، وتمتعنا بخيراتها. فإذا رأيتم أنْ تساعدوا هذه البلاد وتحيوا اقتصادياتها، وتسندوا تجارتها وماليتها، فإننا نشارك في الرَّخاء العام» (مير بصريّ، تاريخ يهود العِراق في القرن العشرين).

فما هو المسوغ لإلغاء هذا الوجود، فمثل تصريح رئيس الوزراء «إسرائيل الكبرى» سيقابل بشعار «فلسطين الكبرى»، وهذا مطروح ممَن لا يرون وجوداً لإسرائيل مِن الأساس، فما هي مصلحة الشَّعب الإسرائيليّ بمثل هذا الشّعار، أليس توطين وجودها إلى جانب دولة فلسطينية يُنهي هذا الصّراع، الذي بُنيت وتراكمت عليه صراعات، والحقّ الذي ينكره عتاة التّشدد بوجود دولة فلسطينية، ومحاصرة السُّلطة الفلسطينَّية بالمستوطنات، لا يعني أنّ الوضع سيستقر بإسرائيل، والحقّ لا يسقط بالتّقادم، فما زال هناك شعار «إسرائيل كبرى» سيوَّرث شعار «فلسطين كبرى»، وماذا بعد؟ أما المختارون مِن الشُّعوب فكلُّ أتباع ديانة يطرحون أنفسهم كأنهم أهل الله وشعبه المختار.

***

رشيد الخيّون كاتب عراقي

 

كما بقية العالم، كان لابد للعراق ان يمر بالمرحله الافتتاحية الارضوية من الانقلاب الالي مع مترتباتها ومايواكب صعودها من انقلابيه شامله على المستويات المختلفة عمليا حياتيا نموذجيا، وتفكريا، ووقتها يكون هذا الموضع من المعمورة على استثنائية نمطيته وفعاليته التاريخيه، واقعا تحت حكم حقبة من تاريخه الانقطاعي بين الدورتين، الثانيه المنقضية والتي انجزت المحركات الاقتصادية الضرورية للانتقال الالي البرجوازي اوربيا، والحالية المنبعثة مع القرن السادس عشر، ضمن اشتراطات الخضوع للبرانيه اليدوية الشرقيه الحالة عليه منذ القرن الثالث عشر، مع سقوط عاصمته الامبراطورية، وتحولها الى قاعدة تتعاقب عليها منذ هولاكو في 1258، الدول ومشابهات الامبراطوريات، خلال الفترة بين الثالث عشر والسادس عشر اولا، بظل غياب العراق الكلي، ثم من السادس عشر، الى نهاية الطور العثماني المقترن بالاصطراعية التي ولدت من حينه، مع بدء التشكلية الحديثة، بما منع  الى ابعد الحدود النفوذ التعاقبي البراني الشكلي المنحصر في بغداد اصلا، من ان يبسط سلطته على البلاد، وبالذات على الجزء المنبعث اللاارضوي منها في ارض السواد، جنوب العاصمة الامبراطورية المنهارة وصولا الى الفاو.

وتعرف التشكلية مابين النهرينيه الحديثة محطتين تاريخيتين سابقتين على الحضور الغربي في مع القرن العشرين، اولى قبلية قاعدتها " المنتفك"، وثانيه انتظارية استعادية نجفية،  تبدا مع القرن الثامن عشر بعد الثورة الثلاثية 1787 ،القبلية التي حررت العراق الاسفل من بغداد الى جنوب البصرة، مع الاختلاف الهائل في طبيعتهما ودلالاتهما، مع استمرار "اللانطقية" مهيمنه على الطرف الصاعد تشكلا، فالحضور الغربي  من حيث الدلالة يتفوق على انهيارية الدورة الثانيه ومااعقبها من البرانيه الهولاكوية، من حيث كون البرانيه الاولى يدوية بخلاف الاحتلال الانكليزي الالي الانقلابي، وتمايزهما عن بعضهما جوهرا وفي الممارسة ونوع الحضور، فالبرانيه المستمرة الاولى الى نهياية الفترة العثمانيه، لم تكن تملك تصورا نموذجيا كيانويا كما الحال اليوم مع شيوع مفاهيم الكيانات والدول، واسقاط المروية الويرلندية الاكراهية البرانيه المتهافته والقصورية، الجاهلة بابسط اسس المطلوب المطابق للحالة، مشفوعه بالجانب العملي التطبيقي الشامل على مستوى المعمورة وفي المنطقة، حين كان هم الاستعمار الغربي وقتها "صناعة الامم" كتدبير يجده متلائما مع اغراضه.

ووقتها ستعاني التشكلية الرافدينيه الحديثة من قوة فعل جانب آخر يخص الكينونة التاريخيه، تمثل اليوم بالذات في القصورية الذاتيه المتجدده، فالعراق على مدى تاريخه الطويل خلال دوراته، كان بلا رؤية ذاتيه او متفق عليها، لتعدي نوعه المجتمعي، ونمطيته الموضوعية طبيعة، للقدرات العقلية على الاحاطة، وقد تمثلت اليوم في تاخر النطقية الذاتيه، بمقابل الغلبة الكاسحه النموذجية الغربية المرافقة لبدايات الانقلاب الالي، ماقد حول حدة واشتداد الحاجة الاستثنائي للنطق، الى  زخم استعارة لمامعدود في حينه وساعته كمبتغى وغاية من لدن ماهو اعلى منه طبيعة ونمطية تاريخيه، لندخل طورا من تاريخ التشكلية، غاية في الاستثنائية غير المالوفة، ولا المتعارف عليها في اي مكان، هي بالاحرى وجهة مسار التشكلية الانقلابيه الكونية المضمرة في الصيغة الانقلابيه الالية الاوربية  والمتجاوزة لها الى غير نمطيتها كنتيجة منتظرة.

ومع سيادة الويرلندية قصورا وعجزا ذاتيا، لم تتوقف الاليات الذاتيه عن الفعل بالاخص كما قد حصل مع صيغ التحولية الطبقية الاوربية "الشيوعيه"، فكان ان وجدت هنا بحكم دفع الاليات الذاتيه "شيوعية لاارضوية"  واخرى "شيوعيه ارضوية"، الاولى قامت جنوبا في مدينه الناصرية عاصمه المنتفك موضع الانبعاث السومري اللاارضوي الحديث، والثانيه سبقتها في العاصمة المنهارة من دون اي اثر و افعاليه تذكر، ولم يقف هذا الاستبدال عند الشيوعية فقط، فلقد حصل مع الفكرة القومية ممثلة بالبعث الشيءذاته، وبعد محاولات تاسيس بغدادية فاشلة، عادالبعث  وتاسس في الناصرية، ليحضر من حينه ذات "الازدواج" التاريخي، دولة لادولة غير معلنه في الاسفل، مقابل دولة الاحتلال البرانيه المؤسسة في العاصمه المنهارة، ولينتهي مع "الجبهة الوطنيه" وثورة 14 تموز1958 الى اقتلاع واكل الصيغة الاحتلالية في الشوارع، في غمرةالثورة اللاارضوية الثانيه غير الناطقة.

ليس حزب " فهد/ غالي الزويد" حزبا شيوعيا من نوع مامتعارف عليه من احزاب شيوعيه منها حزب حسين الرحال البغدادي ابتداء، وعزيزمحمد/ الكردي منذ عام 1964 الى الوقت الحاضر، فالعراق هو البلد الوحيد الذي عرف  بفعل ازدواجيته التكوينيه التاريخيه نوعين من الاحزاب المستعارة، لاارضوية وارضوية معادية للاولى،  وهو مايشمل الشيوعي والبعث المتحول والمحور لاحقا هو الاخر الى حزب سلطة ريعي عائلي، متحالف مع الحزب الشيوعي الارضوي  الحالي، المتماثل مع اشتراطات الاحتلال الافنائي الامريكية والمتفاعل مع المخطط الافنائي الامريكي .

بين 1934/ حتى 1964 قام في العراق نمط حركة تتبنى المنظور التحولي الطبقي الماركسي بصيغته الابتدائية،  انما وفق اشتراطات وجود وفعالية وكينونه لاارضوية متعدية لنظرية ماركس ولنين، تنتمي الى كوراجينا وحمدان قرمط، والنمط الاعلى والامثل مجتمعيا،  تشاركيا سماويا، المتعدي لتمايزات  الملكية والسلطوية الكيانيه، والذاهب كونيا الى مابعد مجتمعية، وان هو وجد محكوما لشروط اللانطقية الباقية الى مابعد الثورة اللاارضوية الثانيه عام 1958، المتعدية  استهدافا والخارجه عن نطاق ومهمات مايعرف بالثورة"البرجوازية" (4) ماافضى  الى الاجهازعليها، وذبح اداتها المحركة عام 1963، وهوماقد استغله حزب الشيوعية الشكلي الارضوي، مع سطو عزيز محمد ممثل الدينامية القومية الكردية على قيادة الحزب، وبدء غلبة  نوع آخر من الشيوعيه المتعارف عليها، المصادرة والمعادية للشيوعية اللاارضوية، وبالذات وخصوصا، عن طريق الاصرار على الانتساب الكاذب المعيب المخزي لها، وتعمد تلطيخها بالعفن عن طريق سرقة ارثها التاريخي. (5)

ضمن هذا الصنف الفريد من التفاعلية مع الطرف الافنائي الغربي ابتداء من صيغته الاولى الكيانوية الاحتلاليه المباشرة، ومن ثم تعبيرية العجز النطقي،  وفي السياق انتهاء مفعول الغرب بصيغته الانقلابيه النموذجية الاولى كيانيه ( الدولة / الامه)، لصالح تزعم الكيانيه المفقسة خارج رحم التاريخ الامريكيه، والعولمه  المتداخله مع الانقلابيه في الوسيله الانتاجية من المصنعية الى الانتاجية التكنولوجيه، و جهدها لانهاء اخر وكل متبقيات"الكيانيه" والسيادات الوطنيه بلا افق ولامشروع بديل، بينما تتنامى بين تضاعيف المجتمعات والعملية الانتاجية، اسباب الانتقال الى الطور التكنولوجي الثاني "العقلي"، ولايعود للمجتمعية اليدوية اي حضور او متبقيات ممكنه، مع حلول نذر التازم الاعظم على المعمورة، بينما تتجلى باطراد،ملامح الاختلال الشامل الافنائي، ويصير من غير الممكن ولا القابل للاستمرار تحت طائله وثقل التاريخ والمصير، غياب النطقية العظمى اللاارضوية، ذهابا للعتبه الاخيرة المؤجلة من الانقلاب الالي الفعلي،  وهو مايقع على عاتق الموضع الجدير به، ارض اللاارضوية الاولى المغيبه، ارض مابين النهرين.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

في مطلع القرن العشرين، وفي سياق الصراعات الطبقية العنيفة التي ولّدتها أزمة الرأسمالية وحروبها الهمجية، برزت فكرة عالم جديد داخل حركات المساواة. وفي مواجهة فكرة القطيعة الثورية هذه، برز تياران سياسيان جديدان أيضاً: الفاشية والاشتراكية الوطنية. وقد أفسح سحق الثورة الاجتماعية في إيطاليا وهزيمة الثورة الألمانية المجال لهذه التنظيمات الشمولية.

تتميز الفترة الحالية باختلال التوازن الاقتصادي، وتنامي التفاوت الطبقي، وانهيار فكرة المصلحة الاجتماعية، وانهيار جماعات المستغَلين أيضاً. ومرة أخرى، يظل أفق الرأسمالية غامضاً. الأيديولوجيات القديمة مُهتزة، ويسود انعدام الأمن والخوف، وقانون الأقوى يَعِدُ بالسلامة، حتى مع تقليص متطلبات الربح للمساحة السياسية "للإصلاحات". أمام اتساع نطاق القضايا المطروحة، تفقد معالم الماضي وضوحها مع نسيان التاريخ، ويتسع مجال الالتباس. تكتسب التحالفات والتقاربات السياسية قوةً من خلال استحضار قيمة مبدأ السلطة القديم. يبدو أن الانفصال الواعي عن نظام الربح وحده كفيلٌ بتوضيح الأفكار وفتح آفاق جديدة. في غضون ذلك، يبدو أن توضيح جوانب الحاضر المظلمة من خلال فهم أفضل للماضي أمرٌ حيوي.

الاشتراكية الاستبدادية

الاشتراكية الاستبدادية، أو الاشتراكية من الأعلى، هي نظام اقتصادي وسياسي يدعم شكلاً من أشكال الاقتصاد الاشتراكي، ويرفض التعددية السياسية. يُمثل مصطلحها مجموعة من الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي تصف نفسها بأنها "اشتراكية" وترفض المفاهيم الليبرالية الديمقراطية للتعددية الحزبية، وحرية التجمع، وحق المثول أمام القضاء، وحرية التعبير، إما خوفاً من الثورة المضادة أو كوسيلة لتحقيق غايات اشتراكية. وقد وصف الكتّاب والباحثون العديد من الدول، أبرزها الاتحاد السوفيتي والصين وكوبا وحلفاؤها، بأنها دول اشتراكية استبدادية.

على النقيض من أشكال الاشتراكية الديمقراطية، والمناهضة للدولة، والليبرالية، تشمل الاشتراكية الاستبدادية بعض أشكال الاشتراكية الأفريقية، والعربية، وأمريكا اللاتينية. على الرغم من اعتبارها شكلاً استبدادياً أو غير ليبرالي من أشكال اشتراكية الدولة، والتي غالباً ما يُشار إليها ويُخلط بينها وبين الاشتراكية من قِبل النقاد، ويُجادل النقاد اليساريون بأنها شكل من أشكال رأسمالية الدولة، إلا أن تلك الدول كانت ماركسية لينينية أيديولوجياً وأعلنت نفسها ديمقراطيات عمال وفلاحين أو ديمقراطيات شعبية. يميل الأكاديميون والمعلقون السياسيون وغيرهم من العلماء إلى التمييز بين الدول الاشتراكية الاستبدادية والدول الاشتراكية الديمقراطية، حيث كانت تُمثل الأولى في الكتلة السوفيتية، وتُمثل الثانية دول الكتلة الغربية التي حُكمت ديمقراطياً من قِبل أحزاب اشتراكية - مثل بريطانيا، وفرنسا، والسويد، والديمقراطيات الاجتماعية الغربية بشكل عام، من بين دول أخرى. يُعرف أولئك الذين يدعمون الأنظمة الاشتراكية السلطوية باسم "التانكي" tankies ازدرائياً. على الرغم من أن الاشتراكية الاستبدادية نشأت من الاشتراكية الطوباوية التي دعا إليها الكاتب السياسي الأمريكي "إدوارد بيلامي" Edward Bellamy (1850-1898) والتي وصفها الباحث الاشتراكي الأمريكي "هال درابر" Hal Draper (1914-1990) بأنها "اشتراكية من أعلى"، إلا أنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالنموذج السوفيتي، وتمت مقارنتها بالرأسمالية الاستبدادية. وقد تعرضت الاشتراكية الاستبدادية لانتقادات من اليسار واليمين، نظرياً وعملياً.

الجذور السياسية

تنبع الاشتراكية الاستبدادية من مفهوم الاشتراكية من أعلى. عرّف "هال درابر" الاشتراكية من أعلى بأنها الفلسفة التي تستخدم إدارة نخبوية لإدارة الدولة الاشتراكية. أما الجانب الآخر من الاشتراكية فهو اشتراكية أكثر ديمقراطية من أسفل. وتُناقش فكرة الاشتراكية من أعلى في دوائر النخبة أكثر من الاشتراكية من أسفل - حتى لو كانت هذه هي الفكرة المثالية الماركسية - لأنها أكثر عملية. اعتبر درابر الاشتراكية من الأسفل النسخة الأنقى والأكثر ماركسية منها. ووفقاً له كان "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز" معارضين بشدة لأي مؤسسة اشتراكية "تؤدي إلى استبداد خرافي". ويجادل درابر بأن هذا التقسيم يعكس الانقسام بين الإصلاحي والثوري، السلمي والعنيف، الديمقراطي والسلطوي، إلخ، ويحدد النخبوية كأحد الأنواع الستة الرئيسية للاشتراكية من الأعلى، من بينها "العمل الخيري"، و"النخبوية"، و"البانيّة"، و"الشيوعية"، و"النفاذية"، و"الاشتراكية من الخارج".

ووفقًا للمؤرخ الاشتراكي الأمريكي "آرثر ليبو" Arthur Lipow كان ماركس وإنجلز "مؤسسي الاشتراكية الديمقراطية الثورية الحديثة"، التي وُصفت بأنها شكل من أشكال "الاشتراكية من الأسفل" القائمة على حركة جماهيرية للطبقة العاملة، تُناضل من الأسفل من أجل توسيع نطاق الديمقراطية وحرية الإنسان. يُناقض هذا النوع من الاشتراكية العقيدة الاستبدادية المناهضة للديمقراطية" و"الأيديولوجيات الجماعية الشمولية المختلفة التي تدّعي الاشتراكية"، بالإضافة إلى الأنواع العديدة من "الاشتراكية من الأعلى" التي أدت في القرن العشرين إلى حركات وأشكال دولة تحكم فيها طبقة جديدة استبدادية اقتصاداً خاضعاً للدولة باسم الاشتراكية، وهو انقسام يمتد عبر تاريخ الحركة الاشتراكية. يُحدد ليبو "البيلاامية" Bellamyism نسبة إلى إدوارد بيلامي و"الستالينية" Stalinism نسبة إلى جوزف ستالين كتيارين اشتراكيين استبداديين بارزين داخل الحركة الاشتراكية.

تاريخ الحركة الاشتراكية

تعود الصراعات والنزاعات السلطوية-الليبرالية داخل الحركة الاشتراكية إلى الأممية الأولى وطرد الفوضويين عام 1872، الذين قادوا الأممية المناهضة للسلطوية، ثم أسسوا أمميتهم التحررية الخاصة، الأممية االفوضوية "سانت إيميير" St. Imier. في عام 1888، أدرج المحرر اليساري الأمريكي "بنيامين تاكر" Benjamin Tucker الذي أعلن نفسه اشتراكياً فوضوياً واشتراكياً ليبرالياً معارضاً لاشتراكية الدولة السلطوية والشيوعية الإجبارية. ووفقاً للكاتب المؤرخ الفرنسي "إرنست ليسين" هناك نوعان من الاشتراكية: "أحدهما ديكتاتوري، والآخر ليبرالي". كانت اشتراكيتا تاكر هما: اشتراكية الدولة الاستبدادية التي ربطها بالمدرسة الماركسية، والاشتراكية الفوضوية الليبرالية، أو الأتاركية التي دعا إليها. وأشار تاكر إلى أن "طغيان اشتراكية الدولة الاستبدادية على أشكال أخرى من الاشتراكية لا يمنحها الحق في احتكار فكرةالاشتراكية". ووفقًا لتاكر، فإن ما يجمع بين هاتين المدرستين الاشتراكيتين هو نظرية العمل في القيمة والغايات، التي سعت الفوضوية من خلالها إلى وسائل مختلفة.

ووفقاً للكاتب السياسي الأتاركي اللاسلطوي الكندي "جورج وودكوك" George Woodcock تحولت الأممية الثانية إلى ساحة صراع حول مسألة الاشتراكية الليبرالية مقابل الاشتراكية الاستبدادية. لم يقتصر الأمر على تقديم أنفسهم بفعالية كمدافعين عن حقوق الأقليات، بل استفزوا أيضاً الماركسيين الألمان لإظهار تعصب ديكتاتوري كان عاملاً في منع الحركة العمالية البريطانية من اتباع التوجه الماركسي الذي أشار إليه قادة مثل الكاتب والسياسي الاشتراكي الإنجليزي "هنري هيندمان" Henry Hyndman. وفقًا للفوضويين، مثل مؤلفي كتاب "الأسئلة الشائعة للفوضويين"، فإن أشكال الاشتراكية من الأعلى، مثل الاشتراكية الاستبدادية أو اشتراكية الدولة، هي التناقضات الحقيقية، بينما تُمثل الاشتراكية الليبرالية من الأسفل الاشتراكية الحقيقية. بالنسبة للفوضويين وغيرهم من الاشتراكيين المناهضين للسلطوية، فإن الاشتراكية "لا تعني سوى مجتمع بلا طبقات ومعادٍ للسلطوية (أي ليبرالي) يدير فيه الناس شؤونهم بأنفسهم، سواءً كأفراد أو كجزء من مجموعة (حسب الوضع). بعبارة أخرى، تعني الاشتراكية الإدارة الذاتية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك في مكان العمل. وصف المؤرخ الأمريكي "هربرت أوسجود" Herbert Osgood الفوضوية بأنها "النقيض المتطرف" للشيوعية الاستبدادية واشتراكية الدولة.

الاشتراكية الطوباوية

وُصف اقتصاد إمبراطورية "موريا" Mauryan الهندية في القرن الثالث قبل الميلاد بأنه "ملكية اشتراكية" و"نوع من اشتراكية الدولة". وقد برزت عناصر من الفكر الاشتراكي الاستبدادي في سياسات فلاسفة يونانيين قدماء مثل "أرسطو" و"أفلاطون". وقد فضّل أوائل دعاة الاشتراكية الحديثة المساواة الاجتماعية من أجل إنشاء مجتمع قائم على الجدارة أو التكنوقراطية، قائم على المواهب الفردية. ويُعتبر "هنري دي سان سيمون" Henri de Saint-Simon أول من صاغ مصطلح الاشتراكية. كان سان سيمون مفتوناً بالإمكانيات الهائلة للعلم والتكنولوجيا، ودعا إلى مجتمع اشتراكي يقضي على الجوانب الفوضوية للرأسمالية، ويقوم على تكافؤ الفرص. ودعا إلى إنشاء مجتمع يُصنّف فيه كل فرد وفقاً لقدراته، ويُكافأ وفقاً لعمله. ركّزت اشتراكية سان سيمون بشكل أساسي على الكفاءة الإدارية والصناعة، وعلى الاعتقاد بأن العلم هو مفتاح التقدم. ورافق ذلك رغبة في تطبيق اقتصاد منظم بعقلانية، قائم على التخطيط، ومُوجّه نحو التقدم العلمي واسع النطاق والتقدم المادي.

كانت أول رواية روائية رئيسية اقترحت دولة اشتراكية استبدادية هي رواية "إدوارد بيلامي" Edward Bellamy بعنوان "النظر إلى الوراء" Looking Backward، التي صوّرت يوتوبيا اشتراكية بيروقراطية. نأى بيلامي بنفسه عن القيم الاشتراكية الراديكالية، وفي نواحٍ عديدة، لا يزال مجتمعه المثالي يُقلّد العديد من الأنظمة في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر. ومع ذلك، ألهم كتابه حركة سياسية جماهيرية تُعرف بالقومية داخل الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر. كانت هذه الأندية القومية، التي سُميت بهذا الاسم لرغبتها في تأميم الصناعة، داعمةً قويةً للشعبويين الذين سعوا إلى تأميم أنظمة السكك الحديدية والتلغراف. ورغم دعايتها وانخراطها في السياسة، لم تُحقق هذه الأندية أي نجاح يُذكر.

بدأت الحركة القومية في التراجع عام 1893 بسبب الصعوبات المالية التي واجهتها منشوراتها الرئيسية وتدهور صحة بيلامي، والتي اختفت بشكل أساسي بحلول مطلع القرن. في المجتمع الذي تصوره الرواية، تم إلغاء الملكية الخاصة لصالح ملكية الدولة، وتم القضاء على الطبقات الاجتماعية، وتم القيام بجميع الأعمال البسيطة والسهلة نسبياً طواعية من قبل جميع المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و45 عاماً. تمت مكافأة العمال وتقديرهم من خلال نظام تصنيف يعتمد على الجيش. الحكومة هي المؤسسة الأقوى والأكثر احتراماً، وهي ضرورية لتوفير هذه اليوتوبيا والحفاظ عليها. يحدد "آرثر ليبو" Arthur Lipow الحكم البيروقراطي لهذا المجتمع المثالي كمنظمة شبه عسكرية للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية. رفع بيلامي من شأن الجيش الحديث كمحفز للمصلحة الوطنية.

أكبر انتقاد لمجتمع بيلامي هو أنه يقوم على فكرة الاشتراكية من الأعلى. يُفرض النظام على الشعب من قِبل نخبة من الخبراء، ولا توجد سيطرة ديمقراطية أو حرية فردية. ويجادل ليبو بأن هذا يؤدي بطبيعته إلى الاستبداد، إذ كتب: "لو كان العمال والأغلبية العظمى كتلةً وحشية، لما كان هناك مجالٌ لتشكيل حركة سياسية منهم ولا لتكليفهم بمهمة بناء مجتمع اشتراكي. لن تُنشأ المؤسسات الجديدة وتُشكل من الأسفل، بل ستتوافق بالضرورة مع الخطة التي وضعها مُسبقاً المُخطط الطوباوي".

في مُقدمته لكتاب "بيتر كروبوتكين" Peter Kropotkin's بعنوان "غزو الخبز" The Conquest of Bread، اعتبر "كينت بروملي" Kent Bromleyأن أفكار الاشتراكيين الطوباويين، مثل الفرنسي "فرانسوا نويل بابوف" François-Noël Babeuf والإيطالي "فيليب بوناروتي" Philippe Buonarroti، تُمثل الاشتراكية السلطوية، على عكس الاشتراكي الفرنسي "شارل فورييه" Charles Fourier، الذي يُوصف بأنه مؤسس الاشتراكية التحررية.

المدرستان النمساوية والشيكاغوية في الاقتصاد

مع التمييز بين "المسارين الطوعيين والقسريين"، إلا أن فهمهما وتوصيفهما للاشتراكية يقومان على الاستبداد والدولانية. ويستند أحد التعريفات النمساوية للاشتراكية إلى مفهوم اشتراكية الدولة المتمثل في "ملكية الدولة للسلع الرأسمالية". وينص تعريف آخر على أن الاشتراكية "يجب أن تُفهم على أنها تدخل أو اعتداء مؤسسي على الملكية الخاصة ومطالباتها. أما الرأسمالية، فهي نظام اجتماعي قائم على الاعتراف الصريح بالملكية الخاصة والتبادلات التعاقدية غير العدوانية بين مالكي الممتلكات الخاصة".

كان "فريدريش هايك" Friedrich Hayek، اقتصادي المدرسة النمساوية، أحد أبرز النقاد الأكاديميين للجماعية في القرن العشرين. وقد أدرك اتجاهات الاشتراكية من الأعلى في الجماعية، بما في ذلك النظريات القائمة على التعاون الطوعي، وانتقدها بشدة. بخلاف "بيلامي"، الذي أشاد بفكرة النخب التي تُطبّق السياسات، جادل "هايك" بأن الاشتراكية تؤدي بطبيعتها إلى الاستبداد، مدعيًا أنه "لتحقيق غاياتهم، يجب على المخططين خلق سلطة - سلطة على رجال يمارسها رجال آخرون - بحجم لم يُعهد من قبل. الديمقراطية عقبة أمام هذا القمع للحرية الذي يتطلبه التوجيه المركزي للنشاط الاقتصادي. ومن هنا ينشأ الصدام بين التخطيط والديمقراطية.".[43] جادل "هايك" أيضاً بأن كلاً من الفاشية والاشتراكية يستندان إلى التخطيط الاقتصادي المركزي، ويُقدّران الدولة على الفرد. ووفقاً لهووفقًا لهايك، بهذه الطريقة يُصبح من الممكن للزعماء الشموليين الوصول إلى السلطة كما حدث في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى..[43] كما استخدم اقتصاديو المدرسة النمساوية، مثل "هايك" ومعلمه "لودفيج فون ميزس" Ludwig von Mises، كلمة الاشتراكية كمرادف للاشتراكية الاستبدادية والتخطيط المركزي والاشتراكية الحكومية، وربطوها زوراًزورًا بالفاشية،،[44][45][46] حيث كتب "هايك" أنه "على الرغم من أن وعد اشتراكيينا المعاصرين بمزيد من الحرية حقيقي وصادق، إلا أنه في السنوات الأخيرة انبهر المراقب تلو الآخر بالعواقب غير المتوقعة للاشتراكية، والتشابه الاستثنائي في كثير من النواحي بين الظروف في ظل "الشيوعية" و"الفاشية".".[47] كما ساوى اقتصاديو مدرسة شيكاغو، مثل "ميلتون فريدمان" Milton Friedman، بين الاشتراكية والتخطيط الاقتصادي المركزي، بالإضافة إلى الدول الاشتراكية الاستبدادية والاقتصادات الموجهة من قبل الدولة، مشيرين إلى الرأسمالية باعتبارها السوق الحرة..[48] ومع ذلك، يعتبر الباحثون الفاشية ومشتقاتها، مثل "الفالانجية" Falangism و"النازية" Nazism والنازية، إلى جانب أنظمة عسكرية أخرى مستوحاة من الفاشية، أيديولوجيات يمينية متطرفة معادية للاشتراكية، تبنت إلى حد كبير سياسات اقتصادية سوقية ليبرالية، مع حصر التخطيط الاقتصادي في جهود الحرب..[49]

انتقد "ميزس" السياسات الليبرالية الاجتماعية ذات الميول اليسارية، مثل الضرائب التصاعدية، ووصفها بالاشتراكية، ووقف خلال اجتماع لجمعية "مونت بيليرين" Mont Pelerin واصفاً، واصفًا أولئك الذين "يعبرون عن وجهة نظر مفادها أنه قد يكون هناك مبرر" لهم بأنهم "حفنة من الاشتراكيين".".[50] من ناحية أخرى، جادل "هايك" بأن الدولة يمكن أن تلعب دوراً دورًا

في الاقتصاد، وتحديداً في إنشاء شبكة أمان اجتماعي، منتقداً اليمين والمحافظة، بل ومدافعاً عن بعض أشكال اشتراكية السوق أو اشتراكية هايك. دعا "هايك" إلى توفير بعض الدعم لمن يُهددهم الفقر المدقع أو المجاعة بسبب ظروف خارجة عن إرادتهم. وجادل بأن ضرورة مثل هذا الترتيب في المجتمع الصناعي لا شك فيها، سواء كان فقط لمصلحة من يحتاجون إلى الحماية، أم الرعاية الصحية الشاملة الإلزامية والتأمين ضد البطالة، على أن تُنفذ الدولة ذلك، إن لم تُقدمه مباشرةً. وكان "هايك" مُصراً على ذلك. كما ساوى "ميزس" بين المصارف المركزية والاشتراكية والتخطيط المركزي. ووفقاً له تُمكّن البنوك المركزية البنوك التجارية من تمويل القروض بأسعار فائدة منخفضة بشكل مصطنع، مما يؤدي إلى توسع غير مستدام للائتمان المصرفي وإعاقة أي انكماش لاحق. ومع ذلك، اختلف "هايك" مع هذا الرأي، وصرح بأن الحاجة إلى سيطرة البنوك المركزية أمر لا مفر منه. وبالمثل، خلص "فريدمان" إلى أن للحكومة دوراً في النظام النقدي، واعتقد أنه يجب استبدال نظام الاحتياطي الفيدرالي في النهاية ببرنامج كمبيوتر. بينما انتقد "فريدمان" الرعاية الاجتماعية، وخاصة الضمان الاجتماعي، بحجة أنه خلق حالة من الاعتماد على الرعاية الاجتماعية، كان مؤيداً لتوفير الدولة لبعض السلع العامة التي لا تُعتبر الشركات الخاصة قادرة على توفيرها، ودعا إلى فرض ضريبة دخل سلبية بدلاً من معظم الرعاية الاجتماعية واستندت آراؤه إلى اعتقاد مفاده أنه بينما تُنجز قوى السوق أمورًا رائعة، إلا أنها لا تستطيع ضمان توزيع الدخل بما يُمكّن جميع المواطنين من تلبية الاحتياجات الاقتصادية الأساسية. يتبع بعض اقتصاديي المدرسة النمساوية "ميزس" في القول بأن السياسات التي يدعمها "هايك" و"فريدمان" تُشكل شكلاً من أشكال الاشتراكية.

المدرستان النمساوية والماركسية في الاقتصاد

تتفق المدرستان النمساوية والماركسية في الاقتصاد في انتقادهما للاقتصاد المختلط، لكنهما تتوصلان إلى استنتاجات مختلفة بشأن الدول الاشتراكية الاستبدادية. في كتابه "العمل البشري"Human Labor  جادل "ميزس" بأنه لا يمكن أن يكون هناك مزيج من الرأسمالية والاشتراكية - يجب أن يهيمن إما منطق السوق أو التخطيط الاقتصادي على الاقتصاد. وشرح "ميزس" هذه النقطة بالتفصيل مجادلاً بأنه حتى لو احتوى اقتصاد السوق على العديد من المؤسسات التي تديرها الدولة أو الشركات المؤممة، لن يجعل هذا الاقتصاد مختلطاً لأن هذه المؤسسات لا تُغير الخصائص الأساسية لاقتصاد السوق. ستظل هذه الشركات المملوكة للقطاع العام خاضعة لسيادة السوق، إذ سيتعين عليها الحصول على السلع الرأسمالية من خلال الأسواق، والسعي لتعظيم الأرباح، أو على الأقل محاولة تقليل التكاليف واستخدام المحاسبة النقدية في الحسابات الاقتصادية.

وبالمثل، يُجادل المنظرون الماركسيون الكلاسيكيون والأرثوذكسيون في جدوى الاقتصاد المختلط كحل وسط بين الاشتراكية والرأسمالية. وبغض النظر عن ملكية الشركات، إما أن يكون قانون القيمة وتراكم رأس المال الرأسمالي هو الذي يُحرك الاقتصاد، أو أن التخطيط الواعي وأشكال التقييم غير النقدية، مثل الحساب العيني، هي التي تُحرك الاقتصاد في نهاية المطاف. منذ الكساد الكبير فصاعداً، لا تزال الاقتصادات المختلطة القائمة في العالم الغربي رأسمالية وظيفياً لأنها تعمل على أساس تراكم رأس المال. وعلى هذا الأساس، يُجادل بعض الماركسيين وغير الماركسيين على حد سواء، بمن فيهم الأكاديميون والاقتصاديون والمثقفون، بأن الاتحاد السوفيتي السابق ودولاً أخرى كانت دولاً رأسمالية دولة، وأنه بدلاً من أن تكون اقتصادات اشتراكية مُخططة، كانت تُمثل نظاماً إدارياً قيادياً. في عام 1985، جادل السياسي الأسترالي "جون هوارد" John Howard  بأن الوصف الشائع للتخطيط الاقتصادي على النمط السوفيتي بأنه اقتصاد مُخطط هو وصف مُضلّل، فبينما لعب التخطيط المركزي دوراً هاماً، كان الاقتصاد السوفيتي يتميز بحكم الواقع بأولوية الإدارة شديدة المركزية على التخطيط. لذلك، فإن المصطلح الصحيح هو اقتصاد يُدار مركزياً بدلاً من التخطيط المركزي. وقد نُسب هذا إلى اقتصاد الاتحاد السوفيتي واقتصاد حلفائه الذين اتبعوا النموذج السوفيتي عن كثب. من ناحية أخرى، بينما يصف اقتصاديو المدرسة النمساوية الاقتصادات المختلطة الغنية بأنها لا تزال "رأسمالية"، فإنهم يصفون سياسات الاقتصاد المختلط بشكل روتيني بأنها "اشتراكية". وبالمثل، يصفون الأنظمة الفاشية مثل إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية بأنها "اشتراكية"، مع أن الباحثين يصفونها بأنها أنظمة رأسمالية.

نظام الحزب الواحد

غالباً ما تُعارض الدول الاشتراكية الاستبدادية نظام التعددية الحزبية بهدف ترسيخ سلطة الحكومة في حزب واحد يمكن أن يقوده رئيس دولة واحد. ويكمن المنطق وراء ذلك في أن النخب لديها الوقت والموارد اللازمة لتطبيق النظرية الاشتراكية، لأن مصالح الشعب في هذه الدولة الاشتراكية تُمثل من قِبل الحزب أو رئيس الحزب. وقد أشار الباحث الاشتراكي الأمريكي "هال درابر" Hal Draper إلى هذا باسم "الاشتراكية من الأعلى" socialism from above. ووفقًا لـ "درابر" تأتي الاشتراكية من الأعلى في ستة أشكال تُبرر وتتطلب وجود نخبة في قمة النظام الاشتراكي. ويختلف هذا عن المنظور الماركسي الذي يدعو إلى الاشتراكية من الأسفل، وهي شكل من أشكال الاشتراكية أكثر نقاءً وديمقراطية.

تُعتبر إريتريا، وموزمبيق، وفيتنام أمثلة خارج أوروبا على دول كانت اشتراكية يحكمها حزب واحد في مرحلة ما من القرن العشرين. في إريتريا، برز الحزب الحاكم عام 1970 وهو جبهة تحرير شعب إريتريا (EPLF)، ومع سيطرتها على الدولة، بدأت الجبهة العمل على مبادئ اشتراكية مثل توسيع نطاق حقوق المرأة وتوسيع نطاق التعليم. في موزمبيق، نشأ حكم الدولة الواحدة لجبهة تحرير موزمبيق (FRELIMO) بينما كانت الدولة لا تزال اشتراكية أيديولوجياً بعد انتهاء الحكم البرتغالي عام 1975. في فيتنام، يعتبر الحزب الشيوعي الفيتنامي نفسه في مرحلة انتقالية نحو الاشتراكية، كما يعتبر نفسه طليعة الشعب العامل والأمة بأسرها.

الاقتصاد

هناك العديد من الخصائص الأساسية للنظام الاقتصادي الاشتراكي الاستبدادي التي تميزه عن اقتصاد السوق الرأسمالي، وهي أن الحزب الشيوعي لديه تركيز للسلطة في تمثيل الطبقة العاملة وقرارات الحزب هي مُدمجة في الحياة العامة لدرجة أن قراراتها الاقتصادية وغير الاقتصادية تُصبح جزءًا لا يتجزأ من أفعالها العامة؛ ملكية الدولة لوسائل الإنتاج التي تُصبح فيها الموارد الطبيعية ورأس المال ملكاً للمجتمع؛ التخطيط الاقتصادي المركزي، وهو السمة الرئيسية للاقتصاد الاشتراكي ذي الدولة الاستبدادية؛ تُخطط السوق من قِبل وكالة حكومية مركزية، عادةً ما تكون لجنة تخطيط حكومية؛ وتوزيع عادل اجتماعياً للدخل القومي حيث تُقدم الدولة السلع والخدمات مجاناً وتُكمل الاستهلاك الخاص. يتميز هذا النموذج الاقتصادي بشكل كبير بالتخطيط المركزي الحكومي. من الناحية المثالية، يكون المجتمع هو المالك كما هو الحال في الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، ولكن في الممارسة العملية، تكون الدولة هي مالكة وسائل الإنتاج. إذا كانت الدولة هي المالكة، فإن الفكرة هي أنها ستعمل لصالح الطبقة العاملة والمجتمع ككل. عملياً، يكون المجتمع هو المالك نظرياً فقط، والمؤسسات السياسية التي تحكم المجتمع مُنشأة بالكامل من قِبل الدولة. بينما يؤكد الماركسيون اللينينيون أن العمال في الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية الأخرى كانوا يتمتعون بسيطرة حقيقية على وسائل الإنتاج من خلال مؤسسات مثل النقابات العمالية، يجادل الاشتراكيون الديمقراطيون والليبراليون بأن هذه الدول لم تمتلك سوى عدد محدود من الخصائص الاشتراكية، وأنها عملياً كانت رأسمالية دولة تتبع نمط الإنتاج الرأسمالي. جادل "فريدريك إنجلز" Friedrich Engels في كتاب "الاشتراكية: الطوباوية والعلمية" Socialism: Utopian and Scientific، بأن ملكية الدولة لا تلغي الرأسمالية في حد ذاتها، بل ستكون المرحلة النهائية للرأسمالية، والتي تتكون من ملكية وإدارة الإنتاج واسع النطاق والاتصالات من قبل الدولة البرجوازية. في كتابي "الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية" Imperialism, the Highest Stage of Capitalism و"الإمبريالية والاقتصاد العالمي" mperialism and the World Economy ، عرّف كل من "فلاديمير لينين" Vladimir Lenin و"نيكولاي بوخارين" Nikolai Bukharin على التوالي، "نمو رأسمالية الدولة كواحدة من السمات الرئيسية للرأسمالية في عصرها الإمبريالي. في كتابه "الدولة والثورة State and Revolution "، كتب لينين أن الادعاء الإصلاحي البرجوازي الخاطئ بأن الرأسمالية الاحتكارية أو رأسمالية الدولة الاحتكارية لم تعد رأسمالية، بل يمكن تسميتها الآن "اشتراكية الدولة" وما إلى ذلك، شائع جداً.

هل يُمكن لدولة ديمقراطية أن تكون اشتراكية؟

خلال الحرب الباردة، غالباً ما كان العديد من المراقبين العاديين يجمعون بين الأنظمة السياسية والاقتصادية في فكرة عامة واحدة هي "الرأسمالية" أو "الشيوعية". ومع ذلك، فإن النظامين منفصلان. في الواقع، كانت هناك أنظمة استبدادية رأسمالية. ومن الأمثلة على ذلك كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة. كانت لهذه الدول أنظمة سياسية استبدادية، لكنها سمحت بالملكية الخاصة لرأس المال (المصانع) والاستثمار الأجنبي. وبالتالي، لا ترتبط الرأسمالية دائماً بالديمقراطية.

ولا يزال الجدل قائماً حول ما إذا كانت الديمقراطيات الحقيقية، كتلك الموجودة في غرب وشمال أوروبا، اشتراكية بالفعل، مع وجود العديد منها. حيث يُطلق على الدول الإسكندنافية اسم "الديمقراطيات الاجتماعية" بدلاً من الاشتراكية الديمقراطية. تتمتع هذه الدول بحكومات ديمقراطية، لكنها تُنفق مبالغ طائلة على الرعاية الاجتماعية. ومع ذلك، يُزعم أن "العصر الذهبي" للاشتراكية الديمقراطية قد انتهى بحلول أوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأت التكاليف المرتفعة لبرامج الرعاية الاجتماعية تُبطئ النمو الاقتصادي. وبغض النظر عن الجدل الدائر حول مدى اشتراكية الدول الإسكندنافية، يُظهر التاريخ أن الدول يُمكن أن تمتلك حكومات ديمقراطية وأنظمة اقتصادية اشتراكية.

توجد كل من الاشتراكية الاستبدادية والاشتراكية الديمقراطية، ولكن على نطاق واسع، وليس على مستويات نهائية يسهل فصلها. لا تزال كوريا الشمالية قائمة كأثر من آثار التخطيط المركزي على النمط السوفيتي، بحكومة استبدادية تماماً واقتصاد تسيطر عليه الدولة بشكل شبه كامل. تقدم الدول الأوروبية، مثل بريطانيا، والدول الاسكندنافية، رعاية صحية بنظام الدفع الفردي، والعديد من برامج الرعاية الاجتماعية السخية الأخرى لسكانها. تتمتع هذه الدول بحكومات ديمقراطية، لكن سيطرة حكومية كبيرة على خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم.

كما تُعدّ الصين أبرز مثال حديث على اقتصاد سوقي قائم إلى حد كبير على حكومة استبدادية. في الواقع، يُعزي البعض النمو الاقتصادي السريع للصين منذ تسعينيات القرن الماضي إلى حكومتها الشيوعية الصارمة. ومثل الاتحاد السوفيتي من قبله، لا يسمح الحزب الشيوعي الحاكم في الصين للأحزاب السياسية الأخرى بالتنافس على السلطة. ومع ذلك، وعلى عكس الاتحاد السوفيتي، شجعت الحكومة الصينية بنشاط الاستثمار الأجنبي. لذلك، على الرغم من أن تدفق العلامات التجارية الأجنبية والشركات الخاصة قد يجعل الصين تبدو كديمقراطية غربية على مستوى الشارع، إلا أن حكومتها لا تزال استبدادية بحتة.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

بين علي علاوي وعبد الخالق حسين

يعزز حياد الباحث في الشأن التاريخي من لحمة الأمة، ويرسخ احترام معنى الدولة في أذهان الأجيال الجديدة، تلك التي ولِدت ونشأت في عهد تراجع الانتماء لهوية وطنية جامعة، بمقابل صعود الطوائف والعِرقيّات. إن قراءة التاريخ ما دامت تحت سقف الموضوعية، واحترام الآليات العلمية قادرة على استكشاف أعمق لا لطبقات المعنى الكامن خلف السرديات المتناقضة فحسب، بل لتعقيدات الحياة الراهنة، وتناقضاتها، فلا وجود للتاريخ أصلاً إلا في الحاضر.

هذه هي المرة الثانية التي أقرأ فيها شيئاً مما يكتبه الدكتور عبد الخالق حسين عن رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم، وعهده الجمهوري. وهو في المرتين يحيل على مصادر، لتأكيد رأي يؤمن به، أو لتفنيد رأي آخر يجده غير صائب. لكنه يتصرف بالكلام المنقول لتصبح له دلالة جديدة، أو يحذف  جزءاً من حديث صاحب المصدر، فيقوِّله ما لم يقله، ويحجب جزءاً أساسياً لا غنى عنه من أفكاره المركزية.

كنت قد نشرت في صحيفة المثقف مقالاً قبل عامين بعنوان "ماذا أراد عبد الكريم قاسم من نوري السعيد؟ عن إشكالية قراءة التاريخ"، ناقشت فيه تعليقاً للدكتور عبد الخالق حسين، عقب فيه على حديث لأحد قرائه، على هامش مقال له بعنوان "في الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز العراقية"، نشره في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 17/ 7/ 2023. كان في تعليقه بعض الأخطاء التاريخية، وترويج لرأي غريب، عن وجود رغبة لدى الزعيم قاسم للحفاظ على حياة نوري السعيد رئيس الوزراء الأكثر شهرة في العهد الملكي، ومعاملته باحترام، للإفادة من خبراته، وكيف "أرسل مرافقه وصفي طاهر لجلبه سالماً ومحترماً، ولكن لما وصل.... وجد الجماهير هناك تسحل بجثة السعيد". أحال الكاتب لتوثيق هذه الرواية على مذكرات إسماعيل العارف الوزير في عهد قاسم. وبرغم تأكدي من أن الأمر ليس أكثر من توهم محض، لكنني فضلت العودة لمذكرات العارف، ولم أجد فيهاً شيئاً مما نُسب إليه، بل شيئاً آخر مختلفاً تماماً!

وقبل يومين، وقفت على مقال آخر للدكتور عبد الخالق حسين، نُشر هنا في صحيفة المثقف بتاريخ 18/ 7/ 2025 عنوانه "لماذا ألغت قيادة ثورة 14 تموز مجلس الإعمار؟"، تناول فيه، مثلما قال، وسأنقل هنا نص كلامه: "مقابلة تلفزيونية مع الدكتور علي علاوي، وزير المالية الأسبق في حكومة السيد مصطفى الكاظمي ... وموقفه السلبي من ثورة 14 تموز، وخاصة عن قيام قيادة الثورة بحل مجلس الإعمار، ومنجزات الثورة الكثيرة في عمرها القصير... وجواباً على سؤال مقدم البرنامج ... حول أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية، ركز الضيف على السنوات الأخيرة من العهد الملكي، وأشاد بدور مجلس الإعمار، الذي تم حله في عهد ثورة 14 تموز 1958 دون أن يوضح مبررات هذا الحل. كذلك لتبخيس دور قائد المثورة (كذا) في إنجاز الكثير من المشاريع، قال إن أغلب المشاريع التي انجزها عبدالكريم قاسم، كانت مخططة من قبل مجلس الإعمار إبان العهد الملكي مثل مدينة الثورة (الصدر حالياً) وغيرها، وإن قاسم أخذ الفخر الـ(credit) له، أي نسب الفضل لنفسه في تنفيذ هذه المشاريع".

لكن من يشاهد فيديو المقابلة سيجد أن آراء الدكتور علي علاوي لم تُعرض بشكل كامل، وأنه كان بعيداً عن إصدار أحكام القيمة تجاه شخص، أو مرحلة، أو نظام. لقد قدم الدكتور علاوي عرضاً موضوعياً وافياً لأبرز المراحل التي مرَّ بها الاقتصاد العراقي المعاصر، منذ نشأة الدولة في العام 1921 حتى مرحلة ما بعد 2003. نعم، قد نختلف معه في هذه الجزئية أو تلك، غير أن قراءته كانت علمية، وجديرة بالاحترام.

 من أجل إيضاح الحقيقة، ولأن الدكتور عبد الخالق حسين وزَّع مآخذه على أربع فقرات، فسأعتمد هذا التقسيم لأبين من آراء الدكتور علي علاوي، ما له صلة بتلك المآخذ، وذلك بنقل الفكرة التي يتبناها بتمامها، وإثبات زمن ورودها في فيديو المقابلة. وسأستخدم اللغة العربية الفصحى، لأن طبيعة اللقاء التلفزيوني فرضت على الضيف والمحاور اللجوء لبعض المفردات العامية أحياناً. وسأثبت فيديو المقابلة التلفزيونية في آخر المقال، ليكون الوصول إلى الحقيقة سهلاً لمن يريد.

أولاً – المرحلة الاقتصادية الأفضل في تاريخ العراق

لم يكن هناك سؤال مباشر عن "أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية"، أما الأسئلة ذات الصلة، مما وجهه المحاور في المقابلة التلفزيونية، فقد كان على الدكتور علي علاوي، وهو الخبير المتخصص بالاقتصاد أن يعيد صياغة السؤال الأول منها: (أفضل فترة مالية مرَّ بها العراق؟)، ليوجهه وجهة صحيحة، مميزاً "الكمَّ عن النوع"، أي مستوى دخل الفرد، والوفرة المالية المجردة عن المفهوم الكلي للاقتصاد، وآفاق تطوره وانتعاشه.

يجد الدكتور علاوي أن الحالة الأولى تنطبق على أواخر سبعينيات القرن الماضي - بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم آنذاك–  فقد كان مستوى المعيشة يُقارن بالبرتغال وإسبانيا، وذلك لارتفاع أسعار النفط، وزيادة صادراته، والنسبة السكانية غير الكبيرة، وتوفر رصيد احتياطي من العملة الصعبة يزيد على أربعين مليار دولار، أي ما يساوي اليوم مئتين وخمسين مليار دولار تقريباً. وقتها، كان النظام الاستبدادي قد أفاد من هذا الرصيد المالي الكبير لتثبيت سلطته، قبل أن يحرقه لاحقاً في حروبه العبثية. أما عن المرحلة التي شهدت آفاق انتعاش وتنوع وتطور حقيقي للاقتصاد العراقي في مفهومه الكلي تخطيطاً وتنفيذاً فهي تنطبق برأي السيد علاوي على "أواخر سني العهد الملكي، بين عامي 1955 – 1958، ثم عبرت إلى الفترة الأولى من حكم عبد الكريم قاسم، أي وصلت إلى أوائل الستينات. وأستطيع القول (الكلام للسيد علاوي) إن هناك مرحلة ثالثة واعدة.... كانت أيام حكومة عبد الرحمن البزاز، لأنه أعاد النظر بالسياسة الاشتراكية لعبد السلام عارف، وبموضوع التأميم ذي الاهداف الإيديولوجية لا الاقتصادية....وكان أمام حكومته آفاق جيدة، لكنها، للأسف، لم تستمر" (د: 1، ث: 20 - د: 3، ث 22).

وحين أعاد المحاور بعد مضي وقت طويل من اللقاء توجيه السؤال ذاته بشيء من التفصيل: (ما أفضل فترة مالية وتنموية مر بها العراق، هل كانت في العهد الملكي، أم العهد الجمهوري، أم القومي؟)، عاد السيد علاوي بدوره  ليقرن من جديد سنوات الخمسينات أيام الحكم الملكي مع أوائل عهد عبد الكريم قاسم، فقال:

 "إذا أخذنا النمو المتراكم..... فالعراق في العهد الملكي أيام الخمسينات كان يعتبر من الدول النمور، إذ كان نموه الاقتصادي يتراوح بين سبعة، وثمانية في السنة، وهذه مؤشرات قريبة من مؤشرات الصين، فكان من أكثر الدول في سرعة النمو الاقتصادي... تستطيع القول إن سنوات العصر الذهبي كانت في الخمسينات، وتعبر أيضاً إلى أولى سني حكم عبد الكريم قاسم، إذ كان ينتهج السياسية (الكلية) نفسها تقريباً" (د: 49، ث 19 – د: 51، ث: 18).

لأي سبب حذف الدكتور عبد الخالق حسين جزءاً أساسياً من رأي الدكتور علي علاوي، وصوَّر للقراء أنه منحاز، ويريد "تبخيس دور قائد الثورة"؟ في حين إن الدكتور علاوي كان يؤشر السنوات النموذجية للاقتصاد العراقي بموضوعية وحياد، بدليل أنه لم يحصرها بعهد واحد، بل وزعها على ثلاثة عهود متباينة في المشارب والتوجهات، ثم ذهب به الحرص العلمي إلى تحديد سنوات بذاتها من تلك العهود، استناداً لمعطيات واقعية، مع أخذه للنسبية في الحسبان. أما الدكتور عبد الخالق حسين فهو يختزل الفترة الذهبية للاقتصاد العراقي بمرحلة واحدة، ويقصي بحكم مطلق جميع ما سواها. إنه يمنح الـ(credit) للزعيم قاسم فقط، شاملاً سنوات حكمه كلها، حين يقول: "يشهد التاريخ أن أهم مرحلة تحقق فيها ازدهار اقتصادي هي مرحلة ثورة 14 تموز(1958-1963) بلا أي شك"!

ثانياً: مشاريع مجلس الإعمار بين التخطيط والتنفيذ

تأسس مجلس الإعمار في العام 1950، لينهض بمهام التخطيط لمشاريع البنية التحتية، والإنتاج، والخدمات، بالتعاقد مع كبريات الشركات العالمية المتخصصة بالبناء والإعمار. وقد تمتع المجلس الذي ضم نخبة من الخبراء بصلاحيات كبيرة، واستقلال عن وزارات الحكومة، ورُصدت له ميزانية كبيرة مستقلة بلغت 70 % من عوائد بيع النفط، وهو ما مكنه من التخطيط والإعداد لمشاريع كبيرة توزعت على جميع محافظات العراق، وشملت بناء السدود، وشبكات الري، واستصلاح الأراضي، والموانئ، ومشاريع الإسكان لذوي الدخل المحدود، ومشاريع انتاج الطاقة الكهربائية، والطرق المعبدة، والجسور، والمدارس والمعاهد العلمية، والمستشفيات، والمصانع.

تعرض مجلس الإعمار لحملة تسقيط غير مبررة، أشاعها كبار رجال العهد الجمهوري الأول، وتم الاستغناء عن خبرائه، ليعاد تشكيله بهيأة جديدة ترأسها الزعيم قاسم، لكن سرعان ما تم حلُّه في العام 1959. ولعهود لاحقة استمر التعتيم على منجزات مجلس الإعمار، إلى أن  راحت الحقائق تتكشف تباعاً. غير أن الدكتور عبد الخالق الحسين له رأي آخر، فهو يقول:"ولو افترضنا جدلاً أن جميع هذه المشاريع والقوانين قد خطط لها في العهد الملكي، فما قيمة هذه المخططات التي كانت حبراً على ورق....إلى أن جاء عبدالكريم قاسم، وحولها إلى مشاريع حقيقية... فالعبرة ليست بالتخطيط، ومن الذي خطط فحسب، بل بالتنفيذ ومن نفذ".

 لنلاحظ هنا كيف أن لغة الدكتورعبد الخالق حسين تقلل من قيمة منجزات مجلس الإعمار، ولا تريد الإقرار بالفضل إلا للزعيم قاسم: "لو افترضنا جدلاً... ما قيمة هذه المخططات... حبراً على ورق... العبرة ليست بالتخطيط". فأولاً، لا مبرر هنا ل"الافتراض جدلاً"، فالكتب العلمية، والأطاريح الجامعية، والوثائق، والأفلام المصورة في اليوتيوب تحدد بدقة مشاريع مجلس الإعمار. وتشهد أيضاً، أن نسبة كبيرة من البنية التحتية في العراق، والتي لا يزال قسم كبير منها يعمل بكفاءة حتى الآن هي ثمرة من ثماره. وليس من الصعب على من يريد قطع الشك باليقين أن يرجع لبعض المصادر المتخصصة بالموضوع، ومنها، مثلاً، الكتب والنشرات التي أصدرتها الحكومة العراقية عن قوانين، ومنهاج مجلس الإعمار، و"تجربة العراق الملكي في الإعمار 1950 – 1958: دراسة في التاريخ الاقتصادي" للدكتور عبد الله شاتي عبهول.

 وثانياً، إن مشاريع مجلس الإعمار لم تكن مجرد "حبر على ورق"، بل أن نسبة طيبة منها أنجزت بالفعل أيام العهد الملكي، فبحسب شهادة أكاديمي متخصص"أنجز مجلس الإعمار حتى انفجار ثورة 14 تموز 1958عدداً من المشروعات المهمة في قطاع الري واستصلاح الأراضي، مثلاً، أكمل المجلس مشاريع الثرثار وبمرحلتيه، فضلاً عن مشاريع سدة الرمادي والمسيب ومنشآت الضبط في الناصرية. أنجز المجلس كذلك بناء عدد من الجسور المهمة مثل جسور الباب الشرقي والأعظمية والكوفة وطويريج والخازر والسماوة وبعقوبة للقطارات والعمارة والموصل، كما أكمل تعبيد طرق بغداد – حلة، حلة – ديوانية، حلة – نجف، وبغداد – الفلوجة، وطاسلوجة – دوكان، وعمارة – بصرة، وكركوك – طقطق، أما في الصناعة فإن المجلس أنجز بناء معملي السمنت في حمام العليل قرب الموصل، وسرنجار (كذا) في السليمانية، ومعامل الغزل والنسيج والسكر من (كذا) الموصل، ومصفى القير في منطقة القيارة، ومعمل الغزل والنسيج في معسكر الرشيد....... فضلاً عن مشاريع إسكان العمال في كل من دبس وسرجنار والموصل" (د. عبد الله شاتي عبهول: تجربة عبد الكريم قاسم في التخطيط الاقتصادي، 23- 24(. هذا فضلاً عن نسبة أخرى من المشاريع كانت في طور الاكتمال، لاسيما تلك المشاريع الكبرى التي تحتاج بطبيعتها لسنوات من العمل، مثل سدَّي دوكان ودربندخان، وكان قد بدأ العمل ببنائهما في منتصف الخمسينات، واكتملا في عهد الزعيم قاسم، وسوى ذلك الكثير.

ثالثاً: حل مجلس الإعمار

لا يبدو كلام الدكتور عبد الخالق حسين دقيقاً حين يذهب إلى أن حل مجلس الإعمار كان سبباً خاصاً لاتخاذ الدكتورعلي علاوي موقفاً سلبياً تجاه العهد الجمهوري الأول، وأنه لم يوضح مبررات حل مجلس الإعمار. فعن هذا الجانب الأخير قال الدكتور علاوي إن من الممكن فهم وجهة النظر التي حُلَّ على أساسها مجلس الإعمار "لأن الوزارات من حقها تقديم وتصميم المشاريع.... فالمفروض - في الظروف الاعتيادية – أن الوزارات بالتنسيق مع وزارة المالية هي التي تنظم..." وتنفذ المشاريع (س :1، د: 10، ث: 50 – س: 1، د: 11، ث: 7).

ومهما يكن من أمر، فإن عمل مجلس الإعمار كان يتطور على نحو إيجابي عاماً بعد عام، وفقاً لخطط وبرامج مدروسة بعناية. ولأن فكرة إنشائه كانت صحيحة، فقد أخذت تجربته تؤتي ثماراً طيبة. أما مبررات حلِّه، كما يقدمها الدكتور عبد الخالق حسين فلا تبدو مقنعة، لاسيما تلك التي لها صلة باستحداث وزارة للتخطيط، يقول: "فوزارة التخطيط يا سادة يا كرام، لا تقل أهمية عن مجلس الإعمار، إن لا تفوقه (كذا)، كما هو السائد في معظم دول العالم المتقدم والمتخلف!". إن حديثاً مثل هذا يغفل عن جوهر الفكرة التي انبثق عنها مجلس الإعمار، أي ذلك التخطيط الحريص على أن يشمل بعنايته لا المشاريع الخدمية فحسب، بل بنية الدولة بأكملها، فالمجلس بأعضائه وخبرائه المستقلين سيحمي من جهة ثلاثة أرباع عوائد النفط من أن تتبدد، أو تصبح رهينة بميول هذا المسؤول السياسي أو ذاك، فيتأخر توظيفها، ومن جهة ثانية لن تعترض طريقه مشاكل الروتين الإداري. أما الوزير في ظل نظام حكم يهيمن عليه العسكر، فلن يتمكن من العمل بأريحية، وسيبقى مكبلاً بقيود كثيرة، مهما بلغ من الكفاءة والشجاعة والنزاهة.

رابعاً: الهجرة من الريف وقانون الإصلاح الزراعي

 يقول الدكتور عبد الخالق حسين: "وعن هجرة الناس من الريف إلى المدن وخاصة بغداد... حاول السيد الوزير أن يلقي اللوم على قانون الإصلاح الزراعي، ولكن بعد قليل تراجع واعترف أن الهجرات بدأت في أوائل الخمسينات، أي في العهد الملكي، وقبل الثورة بسنوات".

إن الدكتور عبد الخاق حسين يحمل هنا كلام الدكتور علاوي ما لا يحتمله: "حاول، تراجع، اعترفَ"، إذ أن سياق حديث الدكتور علاوي لم يكن عن بدء هجرة الفلاحين نحو العاصمة بغداد، بل عن هجرة أخرى أعقبت قانون الإصلاح الزراعي، كما أن طبيعة اللقاء التلفزيوني تختلف عن تأليف نص مكتوب، إذ هي لا تتيح للمتحدث إكمال الفكرة التي يروم إيصالها أحياناً، بسبب ما يستدعيه المقام من أجوبة فورية سريعة، ووجود محاور قد يقطع بأسئلته سلسلة الأفكار، لكن الدكتور علاوي أتم حديثه عند أول فرصة (د: 53، ث 50 – د: 55 – ث 43).

في الموضوع ذاته، يؤكد الدكتور عبد الخالق حسين إن "سبب الهجرة ليس قانون الإصلاح الزراعي، بل ظلم الإقطاعيين، وقانون حكم العشائر (نظام دعاوى العشائر) الذي سنه الإنكليز بعد احتلالهم العراق"، وكلامه هذا يصح على هجرة الفلاحين نحو العاصمة بغداد أيام العهد الملكي، لكنه لا يفسر لنا أسباب استمرار هجرتهم حتى في عهد عبد الكريم قاسم، وتركهم للأراضي التي مُنحت لهم بلا زراعة. وتلك إحدى النتائج السلبية المترتبة على قانون الإصلاح الزراعي. يقول الدكتور علاوي: "الفكرة صحيحة، أنك إذا منحت الفلاح الأرض فستصبح ملكاً له، وسيستطيع التصرف بها بطريقة أفضل. لكن العمل الزراعي له سياق كامل، فمن الذي سيوفر لك البذور؟ ومن سيسوق لك الإنتاج؟ جميع هذه المهام كان يقوم بها مالك الأرض.... لماذا يتوجه الفلاح إلى الزراعة حين تتوفر فرص جيدة للعمل في الحكومة، ووظائف في المدن؟" (د: 54، ث: 44 – د: 55، ث: 9).

 لقد كان القطاع الزراعي أيام العهد الملكي يُشكل ركنا أساسيا يُعوَّل عليه في تنويع مصادر الدخل، وكان العراق بلداً زراعياُ، يعتمد على نفسه في زراعة ما يحتاج إليه من المحاصيل، ويصدر الفائض منها إلى دول الخارج. لكن الدوافع السياسية فعلت فعلها في سن قانون الإصلاح الزراعي على عجل، فأصبح العراق مستورداً، وأخذ المستوى المعيشي للفلاحين يتراجع إلى مستويات سيئة للغاية، وصفها حنا بطاطو بقوله: "كان الفلاحون الذين أصبحوا يُخَصَّون الآن وبموجب القانون بحصة تتراوح بين ٤٠ و ٥٠ بالمئة من المحصول ناقص ما يساوي البذار إذا قدمه صاحب الأرض، وعلى الرغم من ذلك واجهوا في السنوات الأولى من عهد قاسم وضعاً أسوء مما سبقه نتيجة لتراجع الإنتاج الزراعي" (حنا بطاطو، العراق: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار، الكتاب الثالث، 152).

ختاماً، ما أكثر وأسهل الحديث عن ضرورة التعلم من دروس التاريخ، حتى لا نكرر أخطاء الماضي. لكننا حين نشطر عمر الدولة العراقية، وننحاز لعهد، على حساب آخر فلن يكون في مقدورنا سوى توظيف أدلة بشكل انتقائي، لتبرير ما ترسخ في أذهاننا من مواقف قبلية، ونتائج حتمية تأبى التزحزح، وتنفي تماماً أي نطاق لاحتمالات أخرى. إننا بذلك نقفز فوق حقائق الطبيعة البشرية، غافلين عن بديهيات المقارنة بين رجال سياسة رحلوا قبل أكثر من ستة عقود، بخيرهم وشرهم، أناس مثلنا، لهم نصيبهم من لحظات الشجاعة والتردد، والسلام والخصام، والمحافظة والثورية، وتوهج الذكاء وخذلان الخبرة. بَعُد العهد بهم، وبمشاريعهم العمرانية، وبقينا نحن، نلوك سيرهم، بينما يحلم الأنسان العراقي بتعبيد شارع، وتشييد جسر بسيط، وتأمين الطاقة الكهربائية ولو لبضع ساعات في اليوم. وفي أثناء ذلك نواصل حديثنا الماضوي، مدفوعين بعاطفة تغفل لفرط حرارتها الوهاجة عن أغلى ثمار التاريخ: أن نحرص على تجنيب أجيالنا الجديدة شر تلك الهوة التي علقنا فيها لعقود طويلة، ونحثهم على امتلاك ذاكرة ثقافية غير مأزومة، أملاً بأن يتصالحوا مع تاريخهم برمته، وأن يتيقنوا من أن تعمير الأوطان، وبناء الاقتصاد الناجح إنما ينبعان من قلب الإنسان متى تشبث بالأمل، ومن إرادته ووعيه، لا من بركات ملك، أو زعيم، أياً كان.

***

د. عباس عبيد - أكاديمي وباحث من العراق

....................................

* رابط فيديو المقابلة التلفزيونية مع الدكتور علي علاوي:

https://www.youtube.com/watch?v=McTBsH8HfY4

لم يعد ممكنا التغاضي عما يحل على "اليسار" على المستوى العالمي، من حال غير مالوف ولامشخص من التداعي، صار يولد شعورا يزداد ترسخا بتجاوز ماهو واقع لمايمكن اجماله حتى ضمن مفاهيم التازم بصيغها المتعارف عليها، فالحاصل لهذه الجهه يغدو اكثر فاكثر محكوما لمايمكن نسبته الى مترتبات من نوع تعدي الطور او المرحلة التاريخيه، بمعنى مؤقتية وابتدائية الخلفية الموضوعية التي اليها يرتكز مفهوم اليسار المعاصرنشأة وضرورة.

 ومع مايمكن ان يلاحظ على هذا الصعيد من تناولات من غير المتوقع خروجها عن نطاق "الايمانيه" المبهمه، حتى وان على قاعده نبذ التعصب، او التمسك المعتاد بالهيكليات، الا ان مايشار له مايزال هو وموجباته خاضعا للمنظور الاصل، ذلك الذي منه وفي غمرته ولدت الظاهرة المعروفة باليسارية، وعلى راسها الماركسية والشيوعية، فلم تدخل لعدم اكتمال موضوعاتها بعد، في هذا المجال بالذات، منطلقات وتاسيسات مابعد طبقية، ومابعد منظور اوربي حداثي مواكب للالة وانبثاقها، مع كل ماولد في غمرته من توهمية تضليليه، هي اليوم في لحظة الانحدار، في وقت يلح فيه الخروج من دائرة الوعي المشار اليه، تحت طائلة الضرورة القصوى، وماقد بلغته من تراكم مقارب لاحتمالية الانقلابيه النوعية على مستوى المعموره، واقعا وتفكرا.

 ويعنى هذا في التطبيق ان مسالة اليسار بالذات، ناهيك عن مفاهيم متغلبه اخرى ونوعية لامجال على مستوى "تازمها" تحديدا، للتوصل بخصوصه الى اي تصور او قاعدة حكم فاصلة من دون اعتماد" المنظور الاخر"، المنتظر حلوله محل منظومة التصورات الاوربيه الحداثية الالية، وهو مايمكن ملامسه احتمالية الانقراض اليساري من دونه، فالمنظور الغربي الحديث اجمالا، واليساري ضمنه، هو عتبه اولى مؤقته وابتدائية ضمن عملية اشمل، هي المقصود والمبتغى الذي تنطوي عليه العميلة التحولية الكبرى، من اليدوية الى الالية بتدرجاتها، من المصنعية الاولى الاوربية، الى التكنولوجية الانتاجية اللامجتمعية (المفقسه خارج رحم التاريخ المجتمعي الامريكيه)، الى الطور التكنولوجي الاعلى المنتظر من هنا فصاعدا، ولان الانبجاس الاول الالي قد حدث في الموضع المجتمعي الارضوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه، ولانه حالة "ازدواج" طبقي، فلقد كان متوقعا ان يتسم مارافقه من انقلابيه تفكرية بالدرجة الاولى، وبحضور متقدم ومدو،"الاكتشاف المتاخر" الدال على قصورية العقل اليدوي التاريخي بازاء المسالة المجتمعية، مع رفع النقاب عن "الصراع الطبقي"، وجعله منطلقا لتعيين قانون وحتمية ناظمه للعملية التاريخيه على يد ماركس و "ماديته التاريخيه"، الامر العائد زمنيا الى القرن التاسع عشر تحديدا، قبل ان تنتقل الفعالية الالية الى الكيانيه الجديدة المركبه أنيا، على انقاض مجتمعية هي بالاصل نمطية اخرى، من صنف مجتمعات "اللادولة"، تمت ابادتها بقوة مفعول الالة الحاسم.

 هذا من دون ان يعرف العالم تعديلا، او ابتداعا كليا لمنظور آلي جديد، موافق للحاله التصدرية القيادية المجتمعية بلا تاريخ مجتمعي، ولا طبقات، ومع القرن العشرين عندما انتهى دور اوربا الافتاحي بتوهماته، استمر التوهم باعتباره حاجة وضرورة، وصودر ليصير حضور امريكا صدارة "غربيه"، وانتساب استمراي لمامعتبر قمة وذروة واجبه، لتغطية حقيقة كون المسار الالي ليس محطة واحدة، وانه يمكن ان يصير فعل نقيضه طبقيا وبنية عاجزة عن توصيف ذاتها، ولاتملك من المقومات مايمكن ان يضعها في صف المجتمعات وبناها نتاج تاريخها البنيوي الممتمد الى عشرة الاف عام، كما كان ممكنا لاوربا ان تدعي، لدرجة تكريس غلبتها النموذجية لابل ومركزيتها التاريخيه.

 هذا في حين صار صعود النموذج الابادي الامريكي ابن ساعته، مرهونا بمصادرة النموذجية الغربيه، وادعاء الانتساب لها كخطاب تعريفي معلن، يقابله في العمق خطاب اخر مستتر، هو خطاب ابادة ماسبق، باسم " الرسالية"، وكون امريكا هي المصطفى الرباني الالهي الرسالي(1)، ماهو بالاحرى اضمار تكريسي لمبدا الاباده الممارس بالاصل لاجل اقامه الكيانيه مع ازاله الهندي الاحمر من الوجود، والاهم في كل هذا ليس التداخل المشار اليه بين حقيقة وجودية محورة ومقلوبه، وبين اصرار على الانتماء لمنظور غالب سابق، حرصا على استمرارية المنظور الابادي نفسه، معمما على المجتمعات التاريخيه برمتها، بل الاهم هو قصورية العالم، واستمرار خضوعه للرؤية الابتدائية الغربيه وتوهميتها، والعجز دون الكشف عن الحقيقة الانحدارية الحالة على العالم مفهوميا وانتاجيا ونمطيا.

 لا اساس يمكن ان يمنح الرؤى اليسارية والطبقية الاصطراعية الثبات والديمومة النهائية، وان كان ذلك قد وجد ضمن ظروف القرن التاسع عشر، وحتى القرن العشرين، مع التوهمية الروسية"الاشتراكية" الايديلوجية، الممتزجه بالاستبدادية الروسية "اللينينيه"، وصدارة الانتلجنسيا المستندة للاله وفعلها، مع منظومة" مالعمل" وتوهميتها المنهارة اخيرا امام العولمه الانتاجية ومرونه التكنولوجيا الانتاجية على يد المجتمعية بلا تاريخ، ماكان من شانه الذهاب بالمسار العام الالي وتواليات فتراته وتراكمها، الى المازق الشامل لاجمالي الرؤية التوهمية الغربية المصنعية الباقية كلزوم لتبرير مايناقضها.

 ليس الانقلاب الالي التا ريخي "طبقي"، الامن ناحية المنطلق الذي انتهى وقته، وكل التزام به، فضلا عن الاصرار عليه هوقصور و "رجعية" بحسب المصطلحات اليسارية، فالمجتمعات ليست "ازدواجا طبقيا" سوى في اوربا، بل هي من حيث الحقيقة والقانون الناظم للظاهرة المجتمعية "ازدواج مجتمعي"، والتحول او المنقلب الالي بعد اليدوي، هو لحظة انحسار النمط المجتمعي الارضوي، وعلى راسه الطبقي اعلى اشكاله ديناميات، والمستند الى قوة مفعول وحضور اليدوية الانتاجية الجسدوية الحاجاتيه، في الوقت الذي لم تكن فيه الصيغة اللاارضوية متوفرة على اسباب التحقق، وظلت في حال اصطراع وتفاعلية وصولا الى الانقلاب الالي الراهن، والذي مايزال لم تكتمل ملامحه بعد، مع مروره بالحقب والفترات الاوربية التوهمية الاولى، والعولمية المفقسه خارج رحم التاريخ، مايجعل من "اليسار" المفترض والمطلوب اتفاقا مع الجوهر التحولي الانقلابي الالي، انتقالا فاصلا وحاسما من القانون الالي الطبقي، الى القانون الاصطراعي المجتمعي، مع تباين الاهداف والحصيلة والنتائج المقصودة والمنتظرة كليا.    

***

عبد الأمير الركابي

الصين والدول العربية تتكاتفان للدفاع عن العدالة والإنصاف الدوليين وبناء مستقبل سلمي

في عام 2025، سيحتفل العالم بالذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء على الفاشية، بينما تكون الأمم المتحدة قد صمدت أمام عواصف ثمانين عاماً. أعادت هذه الحرب تشكيل المشهد السياسي للقرن العشرين بالكامل، وأرسيت أسس النظام الدولي الحديث. ومع ذلك، وبعد مرور ثمانية عقود، لا تزال ظلال السياسات الهيمنية والأحادية والصراعات الجيوسياسية تلوح في الأفق، مهددة السلام والاستقرار الذي تحقق بصعوبة. تواجه الصين والدول العربية، باعتبارهما لاعبين رئيسيين في الحرب العالمية الثانية وحارسين ثابتين للنظام الدولي ما بعد الحرب، تحديات متشابهة وتتحملان مسؤولية مشتركة في نهر التاريخ الطويل.

أولا. الذاكرة التاريخية: المساهمة المشتركة للصين والدول العربية في الحرب ضد الفاشية

كانت الصين من أوائل الدول التي وقفت وقاومت العدوان الفاشي خلال الحرب العالمية الثانية. من "حادثة 18 سبتمبر" عام 1931 حتى استسلام اليابان عام 1945، حرب الصين الشاقة التي استمرت 14 عامًا ربطت أكثر من %60 من إجمالي القوات البرية اليابانية. وفقًا للإحصاءات، قُتل أو أُصيب أكثر من 35 مليون عسكري ومدني صيني، مع خسائر اقتصادية مباشرة تجاوزت 600 مليار دولار أمريكي (محسوبة بناءً على قيم العملة لعام 1945). شكلت مقاومة الصين الطويلة حاجزًا منيعًا، حطم تمامًا استراتيجية اليابان الوهمية لـ"النصر السريع"، ووفر لقوات الحلفاء وقتًا لا يقدر بثمن لشن هجوم مضاد على جبهة المحيط الهادئ. تكمن أهمية مقاومة الصين ليس فقط في الدفاع عن أراضيها وكرامتها، ولكن أيضًا في تقديم دعم استراتيجي حاسم للنضال العالمي ضد الفاشية.

لعبت الدول العربية أيضًا دورًا حاسمًا خلال الحرب العالمية الثانية. كانت معركة العلمين في عام 1942 نقطة تحول حاسمة في مسرح العمليات بشمال إفريقيا، حيث قاتل الجيش البريطاني الثامن بشجاعة في مصر وهزم القوات الألمانية الإيطالية، مما أوقف بشكل فعال توسع دول المحور الجنوني في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، كان النضال القومي العربي ضد الاستعمار متشابكًا بشكل وثيق ويعزز بشكل متبادل الحرب العالمية المناهضة للفاشية. على سبيل المثال، ناضلت سوريا ولبنان بنشاط وحسم من أجل الاستقلال الوطني خلال الحرب. وفي عام 1945، نجحا في أن يصبحا عضوين مؤسسين في الأمم المتحدة، وهو حدث بارز يمثل ظهور العالم العربي على الساحة الدولية. وقدمت حركات المقاومة في المنطقة العربية نقاط ارتكاز استراتيجية حاسمة لقوات الحلفاء، حيث قامت بربط جزء من قوات المحور، وشكلت مع دول مثل الصين شبكة عالمية لمكافحة الفاشية.

على الرغم من الفصل الذي فرضته المحيطات الشاسعة خلال الحرب، تنسقت الصين والدول العربية جهودهما الاستراتيجية ودعمتا بعضهما البعض في نضالاتهما الخاصة، وساهمتا معًا في قضية مكافحة الفاشية. أصبحت روح التعاون عبر المناطق هذه ممارسة مبكرة وأساسًا تاريخيًا عميقًا لبناء مجتمع ذي مصير مشترك بين الصين والدول العربية.

ثانياً. النظام ما بعد الحرب: سعي الصين والدول العربية نحو العدالة والإنصاف الدوليين

خلال الحرب الباردة، وقفت الصين والدول العربية جنباً إلى جنب وعملتا معاً بشكل وثيق في النضال ضد الهيمنة. يمثل مؤتمر باندونغ الذي عُقد عام 1955 نموذجاً مشرقاً للتعاون الصيني-العربي. حيث تعاونت الصين مع دول عربية مثل مصر وسوريا للدفاع المشترك عن "المبادئ الخمسة للتعايش السلمي"، والتي رسمت مساراً للوحدة والتعاون بين دول آسيا وأفريقيا ومعارضة الهيمنة. خلال حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962)، لم تقدم الصين الدعم السياسي القوي للجزائر فحسب، بل قدمت أيضاً مساعدات مادية كبيرة. في المقابل، ناصرت الدول العربية الجزائر بقوة على الساحة الدولية. تعاونت الصين والدول العربية معاً لمواجهة القوى الاستعمارية الخارجية والتدخلات الهيمنية، مما شكل نموذجاً حياً لتضامن الدول النامية ضد الهيمنة.

الأمم المتحدة، التي تأسست عام 1945، وفرت منصة حيوية للتعاون بين الصين والدول العربية. وفي إطار الأمم المتحدة، تشكل تدريجياً تعاون وثيق وتفاهم متبادل بين الصين والدول العربية. في عام 1971، خلال التصويت الحاسم حول استعادة الصين لمقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، لم تصوت الدول العربية لصالح الصين فحسب، بل قامت جامعة الدول العربية بتنسيق فعال للمواقف الداخلية، مما وفر دعماً قوياً للصين من خلال الجهود الجماعية. كما دعمت الصين باستمرار المطالب المشروعة للدول العربية في الشؤون الدولية. على سبيل المثال، خلال أزمة قناة السويس عام 1956، وفي مواجهة الإجراءات العسكرية من قبل المملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل، أعلنت الصين موقفها بوضوح ودعمت بحزم الجهود العادلة لمصر للحفاظ على سيادتها الوطنية. وقد عزز هذا البيان معنويات الدول العربية في نضالها ضد التدخل الهيمني الخارجي، وأصبح دعامة دعم مهمة للدول العربية في سعيها للدفاع عن السيادة. كما أظهرت الترجمة الصلابة الراسخة لكل من الصين والدول العربية في دعم بعضهما البعض والدفاع المشترك عن العدالة والإنصاف الدوليين في إطار الأمم المتحدة.

ثالثاً. التحديات الراهنة: العالم تحت ظل الهيمنة واستجابة الصين والدول العربية

في السنوات الأخيرة، تجاوزت بعض الدول القانون الدولي بشكل صارخ، وأساءت استخدام العقوبات، ومارست الولاية القضائية خارج الحدود، مما عرقل بشدة النظام القانوني الدولي. في مواجهة مثل هذه الإجراءات الهيمنية، حافظت الصين والدول العربية دائماً على درجة عالية من الاتساق. في العديد من منتديات الأمم المتحدة، صوتت الصين والدول العربية معاً مراراً ضد العقوبات الأحادية. في 16 يونيو 2025، اعتمدت الدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة القرار بشأن "اليوم الدولي لمناهضة الإجراءات القسرية الأحادية الجانب"، الذي قدمته "مجموعة أصدقاء ميثاق الأمم المتحدة" بقيادة الصين، والذي يحدد الرابع من ديسمبر من كل عام يوماً عالمياً للعمل ضد العقوبات الأحادية. إن اعتماد هذا القرار يشهد بقوة على تعاون الصين والدول العربية معاً في إطار الأمم المتحدة لبناء جبهة موحدة ضد الهيمنة. تعمل الدول العربية، في إطار جامعة الدول العربية، على تنسيق مواقفها الداخلية بشكل فعال وحث المجتمع الدولي باستمرار على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة لدفع نضال الشعب الفلسطيني من أجل دولة مستقلة. وفي هذه القضية الأساسية المتعلقة بالسلام والعدالة الإقليمية، تتشارك الصين والدول العربية الموقف نفسه وتعمل بتناغم، سعياً مشتركاً من أجل قضية التحرر الوطني للشعب الفلسطيني.

في رحلة مواجهة التحديات الهيمنية، قدمت الصين سلسلة من المبادرات العالمية التي تتجذر تدريجياً. حققت مبادرة التنمية العالمية (GDI) نتائج كبيرة في الدول العربية، حيث تم تنفيذ أكثر من 50 مشروع تعاون بنجاح حتى الآن. في عام 2024، تم إطلاق "قاعدة ريادة الأعمال للشباب العربي" رسمياً تحت إطار منتدى التعاون الصيني العربي، مما وفر للشباب العربي منصة واسعة لفرص ريادة الأعمال والتنمية؛ كما تم تأسيس "مركز التعاون التكنولوجي الزراعي في شمال إفريقيا" بنجاح، مما ساعد على تعزيز مستويات تقنيات الإنتاج الزراعي في منطقة شمال إفريقيا وتعزيز التنمية الزراعية المستدامة. بتوجيه من مبادرة الأمن العالمية (GSI)، تدعو الصين إلى رؤية أمنية مشتركة وشاملة ومستدامة، مساهمة بالحكمة الصينية في حل النزاعات الإقليمية والحفاظ على السلام العالمي. وفي الوقت نفسه، سعت الدول العربية بنشاط إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي. في عام 2023، حققت المملكة العربية السعودية وإيران مصالحة تاريخية، مما يمثل علامة فارقة كنجاح نموذجي لدول المنطقة في حل النزاعات بشكل مستقل، ويظهر العزم الراسخ والقدرة القوية للدول العربية في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، نفذت الدول العربية بنشاط سياسة "التوجه شرقًا"، معززة باستمرار التعاون مع دول مثل الصين وروسيا، وجعلت صوتها مسموعًا بقوة أكبر على الساحة الدولية.

رابعاً: بناء مستقبل مشترك: التعاون الصيني العربي يعزز بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية

منذ إنشائه قبل 20 عاماً، حقق منتدى التعاون الصيني العربي نتائج مثمرة، حيث وقع الجانبان أكثر من 100 اتفاقية تعاون شملت مجالات متعددة مثل السياسة والاقتصاد والثقافة. وفي إطار آلية بريكس، أدى انضمام دول عربية مثل مصر والإمارات العربية المتحدة إلى تعزيز تمثيل دول الجنوب على الساحة الاقتصادية والسياسية الدولية بشكل كبير. وفي عام 2025، اعتمدت الأطراف المشاركة في اجتماع التشاور بين وزراء الخارجية ونوابهم/المبعوثين الخاصين لدول بريكس بشأن شؤون الشرق الأوسط بياناً مشتركاً، حيث تم التوصل إلى إجماع واسع حول القضايا الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وسوريا واليمن. وأصبح التعاون بين الصين والدول العربية على المنصات المتعددة الأطراف أكثر تقارباً، مما أسهم بشكل كبير في جهود إصلاح نظام الحكم العالمي.

يشهد التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين والدول العربية ازدهارًا ويظهر اتجاهًا واعدًا. من 36.7 مليار دولار أمريكي في عام 2004 إلى 430 مليار دولار أمريكي في عام 2023، حقق حجم التجارة بين الصين والدول العربية نموًا قفزيًا. إن التنفيذ المتعمق لمبادرة الحزام والطريق قد حقق زخمًا قويًا للتعاون الاقتصادي بين الصين والدول العربية. وتتقدم مشاريع مثل منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري الصينية المصرية في السويس ومنطقة التجمع الصناعي الصينية السعودية في جيزان بثبات، مما يوفر دعمًا قويًا لعملية التصنيع في الدول العربية. وهذا لا يظهر فقط بشكل حيوي الصداقة بين الصين والدول العربية، بل يلعب أيضًا دورًا إيجابيًا في ضمان الأمن الغذائي المحلي وتحسين هيكل الإنتاج والتوزيع الزراعي.

في عام 2024، عُقد "عام الحوار الحضاري بين الصين والدول العربية" بنجاح، حيث شهد سلسلة من الأنشطة النابضة بالحياة التي عززت بشكل كبير التبادل الثقافي والتعلّم المتبادل بين الحضارتين الصينية والعربية. وقد عرض "معرض تبادل حضارات طريق الحرير" الذي نُظم بشكل مشترك قطعًا أثرية تاريخية ثمينة وعروضًا ثقافية متنوعة، مما أعاد تصوير التاريخ المجيد لطريق الحرير القديم الذي ربط بين الحضارتين الصينية والعربية. أما "المجموعة المشتركة لمقالات علماء صينيين وعرب حول مواجهة الهيمنة"، فقد جمعت حكمة علماء من الجانبين، حيث قدمت تحليلًا أكاديميًا متعمقًا لأضرار الهيمنة ووفرت دعمًا نظريًا لتعزيز العدالة والإنصاف العالميين.

في موجة إصلاح الحوكمة العالمية، تعمل الصين والدول العربية معًا. ويسعى الجانبان بنشاط إلى تعزيز إصلاح نظام الحصص في صندوق النقد الدولي، والسعي لزيادة صوت البلدان النامية في النظام المالي الدولي وجعل الحوكمة الاقتصادية العالمية أكثر عدلاً ومعقولية. وفي مواجهة التحدي العالمي المتمثل في تغير المناخ، تدعم الصين بقوة الدول العربية في تطوير صناعات الطاقة الجديدة. ومن خلال الإجراءات الملموسة، تساهم الصين والدول العربية في تحسين نظام الحوكمة العالمية والاستجابة للتحديات العالمية، والعمل معًا لدفع المجتمع البشري نحو مستقبل أكثر استدامة وشمولاً.

قبل ثمانين عامًا، قاتلت الصين والدول العربية جنبًا إلى جنب، مساهمةً بإسهام لا يُنسى في انتصار الحرب العالمية المناهضة للفاشية. وبعد ثمانين عامًا، وفي مواجهة التحديات الجديدة التي يفرضها الهيمنة، يظل الجانبان متحدين وثابتين في الدفاع عن مقاصد ميثاق الأمم المتحدة والعدالة الدولية. بالاستفادة من حكمة التاريخ وصياغة المستقبل عبر التعاون، فإن مجتمع المصير المشترك بين الصين والعرب يزداد حيويةً ونشاطًا. وفي الرحلة العظيمة نحو بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، ستعزز الصين والدول العربية تعاونهما وتتخذ خطوات أكثر حزمًا للمساهمة بجهود أكبر في السلام والتنمية العالميين، معًا في كتابة فصل جديد من المستقبل المشرق للبشرية.

***

تشانغ شين (يسرى)

باحثة مساعدة في قسم دراسات الشرق الأوسط لمعهد الدراسات الإقليمية والدولية بجامعة صن يات سان

شُيد المقال على شخصيتين، مرجع النَّجف الأكبر، في وقته، أبي الحَسن الأَصفهانيّ (توفي 1946)، وخطيب المنبر الحُسينيّ صالح الحليّ (توفي 1940). لفت نظر المرجع أنَّ الخطيب يتلاعب بالعقول، في حكايات تُكرس الجهل، وهم لا يميزون بين صدقها وكذبها.

أما الخطيب فكان يهمه تزاحم الجمهور، وهو المتفوق بالخِطابة، لكنّ بمحتوى هابطٍ، ناهيك عن أنَّه شاعرٌ، وذو صوتٍ شجي، فأخذ بهجاء مَن أصدر فتوى تحريم التّطبير، والجلد بالسّلاسل، ولطم الصّدور، في مواسم عاشوراء. كان أبو الحسن أبرز أصحاب الفتاوى التي مالت للتعقل في المناسبات الدِّينيَّة، بتنزيهها عن دق الطّبول والصّنوج، والخرافات والشّعوذات (الخليليّ، هكذا عرفتهم)، لذا أخذ الحليّ يتناول الفقهاءَ بالهجاء، فاضطر المرجع إلى إِصدار فتوى تُحرم خطابته.

كان الحليّ مِن الشّعبيّة، وأغلب الفقهاء يخشون لسانه، والأصفهاني يَعلم أن هذا قد يؤثر على منزلته، وهو المتصدي للمرجعيّة العليا بالنَّجف، ويحتاج لكثرة المُقلِّدين، لكنه نظر في المصلحة، وفتواه أنهت الحليّ، وتلاعبه بالعقول، ولم يقبل بالوساطات لإلغاء الفتوى بحقِّهِ، بل ظل مصراً عليها، ولم يتراجع عن تحريم التّطبير والجلد بالسّلاسل ولطم الصّدور، وكل ما لا يليق بالمناسبة. ومما يُنسب للحليّ بيتُ هجاءٍ قيل في مرجع الشّام محسن الأمين (توفي 1952)، بسبب توجيه مراسم عاشوراء إلى العقلانيّة، والاكتفاء بالأدب والشّعر: «يا راكباً إما مررتَ بجلقِ/فابصق بوجه أمينها المتزندقِ» (الخليلي، نفسه، أمالي السّيد طالب الرّفاعيّ)، وهو بيت مشهور داخل النَّجف.

وعن مداراة الفقهاء لمزاج العوام، يمتنع البعض عن «المجاهرة بالحقِّ»، بذريعة دع النّاس في غفلاتهم. وفي هذا الجانب الذي تخطاه الأصفهانيّ بجرأة غير مسبوقةٍ وغير متبوعةٍ، مما نراه اليوم مِن تمادٍ وطغيان للخرافة والشّعوذة، في أداء الطُّقوس، يقول العلامة هبة الدّين الشّهرستاني (منشئ مجلة «العلم» النَّجفيَّة 1910 - 1912)، وهو أحد الفقهاء الجريئين: «أما في القرون الأخيرة، فالسَّيطرة أصحبت للرأي العام على رأي الأعلام.. فصار العالم والفقيه يتكلم مِن خوفهِ بين الطلاب، غير ما يتلطف به بين العوام» («العِلم» 23/11/1911). وما فعله هبة الدّين (توفي 1967)، أنْ حول مجلسَهُ في ذكرى عاشوراء إلى الأدب والخطابة، بعيداً عن الغلو والتَّظاهر في الطُّرقات، مِن قِبل المنتفعين، مِن أصحاب المواكب (الخاقاني، شعراء الغري). غير أنَّ موقف أبي الحسن الصّلب، في مواجهة الخرافة، تدعمه سلسلة مِن المواقف، فقد امتنع عن تكفير معروف الرُّصافيّ (توفي 1945)، عندما أفتى بتكفيره آخرون، وقد طُلب منه ذلك، لأنْه قال بـ «وحدة الوجود»، فكان جوابه: «هذا قيل مِن قبل، ولم يُكَفر عليه». وله القول بطهارة الإنسان بغض النّظر عن دينه، بينما رسائل فقهية ملأى بتنجيس الإنسان لدينه. كما أفتى باعتبار رؤية هلال رمضان وشوال لكلّ بلد، لا تؤخذ على وحدة مذهب أو لاعتبارات السياسة، إلا هلال ذي الحجَّة فالمعتمد إعلان مكَّةَ. كذلك عمل أبو الحسن، وهو المرجع الأعلى، على إيقاف انتقال الفلاحين مِن العشائر الشِّيعية إلى سامراء، بعد شراء الأراضي الزّراعيّة هناك، مراعاةً للأمر الواقع، فهي مدينة سُنيَّة، وسدانة مرقدها سُنيَّة منذ مئات السِّنين، وهناك مَن اعتبر ذلك مؤامرة (الطَّريحيّ، أبو الحسن الأصفهاني، مجلة «الموسم»)، ولا أراه كذلك، بل كان مِن أجل السّلم المجتمعي. نعود إلى بيت القصيد، إذا حاول أبو الحسن وقف التَّلاعب بعقول النّاس، كم يكون الموقف اليوم ضروريَّاً، حيث تزايد المتلاعبون، وهم يدفعون المجتمع إلى القاع، ولم يُتصدَ لهم بفتوى واضحة، مثل الحَزم الذي تصدى به الأصفهاني، والشهرستاني، والأمين، مع أنَّ وقتنا هو الأحوج. فإذا كانت المغالاة تذاع في مجلس محدد، فاليوم يسمعها ويستنشق زفيرها الملايين، فعلام الخشية مِن هذه الأصوات، وآخر الأداء شتم مدن بتاريخها وحاضرها مثل الكوفة. لذا لا بد مِن موقفٍ واضحٍ يحد مِن تلاعب ذرية الحليّ وأمثاله مِن المتلاعبين بالعقول، لوقف خطابهم الطائفي الذي ينخر البلاد ويؤذي العباد.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

لا يزال الفكر العربي الإسلامي، في كثير من تجلياته، يراوح بين سطوة الماضي وضرورات الحاضر، بين سلطان الغيب وإلحاح العقل، بين الأسطورة التي تريح الضمير والواقع الذي يفترض اليقظة. وهو في هذا التردد يخسر نفسه قبل أن يخسر قضيته، ويهزم روحيًّا قبل أن يهزم ماديًّا. فما بالنا نرى هذا الفكر، كلما اشتدت به الأزمات، التفت إلى الغيبيات يستمد منها العزاء، بينما خصومه يلتفتون إلى العلم ليستمدوا منه القوة؟

لقد صدق من قال إن التاريخ لا يرحم، فهو لا يحابي من ينام على أحلام اليقظة، ولا يكرم من يرفع راية الغيب في معركة تحتاج إلى سلاح العقل. أترى الإمام المنتظر (ع ج) سيخرج لنا من تحت هذه القبة الحمراء، أو من وراء تلك الصخرة المقدسة، ليحارب عنا بدلًا من أن نحارب بأنفسنا؟ وهل يعقل أن نترك مصائرنا لأساطير نؤمن بها، بينما خصومنا يبنون مصائرهم بمختبرات الذرة وخوارزميات الذكاء الاصطناعي؟

إن الفكر الصهيوني، بكل تشعباته الدينية والسياسية، يقدم لنا درسًا مريرًا في كيف تُحوَّل الأساطير إلى قوة مادية. فهم يرفعون شعارات توراتية مثل "أرض الميعاد" و"الشعب المختار"، لكنهم لا يتركونها حبيسة الكتب المقدسة، بل يطوعونها بمطرقة العلم وسندان التكنولوجيا. فها هم يحولون الصحراء إلى جنات خضراء، والخرافة إلى سياسة دولية، والكلمات القديمة إلى صواريخ عابرة للقارات.

أما نحن، فما زلنا نردد: "سيفعل الإمام كذا"، "سيأتي المهدي حين يشاء"، "إن الله سينصرنا"، وكأن النصر سينزل علينا من السماء بغير جهد منا، أو كأن الغيب سيحارب عنا بدلًا من أن نحارب بالعلم والمنطق. أليس من العار أن نرى أعداءنا يستثمرون كل لحظة في بناء المستقبل، بينما نحن نستثمر أوقاتنا في انتظار المعجزات؟

لست هنا أدعو إلى القطيعة مع التراث أو التخلي عن الإيمان، ولكنني أدعو إلى أن نضع كل شيء في موضعه. فالإيمان روح تبعث فينا القوة، لكنه لا يغني عن العقل الذي يخطط، ولا عن العلم الذي يبني. والغيب قد يكون ملاذًا للقلوب المضطربة، لكنه لا يكون خطةً للعقول الحائرة.

إن الأمم التي تريد الحياة لا تعيش على هامش التاريخ، منتظرة من يكتب لها نصرًا لم تسع إليه. والأفكار التي تريد البقاء لا تتوارى خلف الغيبيات كلما هبت رياح التحدي. فليكن إيماننا حافزًا لا عائقًا، وليكن تراثنا إرثًا نبنى عليه لا سجنًا نحبس أنفسنا فيه. فهل نفيق من سباتنا قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه الصحوة؟

ما أقسى أن تكون الهزيمة مرة في مذاقها، ولكن الأقسى منها أن تحلى بشراب الوهم، فيصبح الهروب إلى الخيالِ بديلًا عن المواجهة، والاستسلام للخرافة عوضًا عن التحرير. فالفكر العربي الإسلامي، في كثير من تجلياته، يعلن هزيمته يوم يلجأ إلى الغيبيات لتعويض عجزه عن الفعل، ويوم يختزل التاريخ في انتظار منقذ أسطوري، بينما يصنع الآخرون تاريخهم بأنفسهم.

لقد صدق الشاعر حين قال: "وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا". فها هي إسرائيل، بكل ما تحمله من أساطير توراتية، لا تكتفي بتلاوة نصوصها المقدسة، بل تحولها إلى وقائع ملموسة: فـ"أرض الميعاد" تستخرج من الصحراء بالري الذكي، و"الشعب المختار" يثبت تفوقه بالعلوم لا بالادعاءات. أما نحن، فما زلنا نردد كالمسحورين: "الغرباء سينتصرون"، "الظهور قريب"، وكأننا نستعير نصرًا لم نُعدّ له عدته!

لأنهم يفصلون بين "الإيمان" و"العمل"، بين "الروحي" و"المادي". فهم يؤمنون بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أما نحن فنتصور أن التغيير يأتي بالدعاء وحده! لقد حوّل الصهاينة أساطيرهم إلى مشاريعَ سياسية وعسكرية واقتصادية، بينما حولنا نحن حقائقنا إلى أوهام. هم يقرأون التوراة ثم يخترعون طائرات "الستيلث"، ونحن نقرأ القرآن ثم ننتظر المهدي ليُصلح لنا أمرنا!

أليس من التناقض العجيب أن نرفض "الخرافة الصهيونية" بحق، ثم نعتنق خرافاتنا بحماسٍ أعمى؟ أليس من العار أن ندرك زيف "شعب الله المختار"، ثم نعتقد أننا "خير أمة أخرجت للناس" دون جهد يثبت هذه الخيرية؟

الغيب: ملاذ أم مأزق؟

لا غنى للإنسان عن الغيب، فهو يعطي الحياة معنى، ويضفي على الوجود روحًا. لكن الغيب يصبح نقمة حين يتحول إلى عكاز نعجز عن المشي بدونه، أو إلى سجن لفكرنا. فما الفرق بين من يقول: "سيدمر الله إسرائيل بصاعقة"، وبين من يقول: "سيأتي المسيح ليقضي على الأشرار"؟ كلاهما يبرر الكسل، وكلاهما يُؤجل المواجهة.

لقد حول الغرب المسيحية – ذات الخلفية الغيبية العميقة – إلى قيم إنسانية وعلمانية تخدم الحياة، بينما ما زلنا نحن نتعامل مع الإسلام كأسطورة مقدسة لا كمنهج حياة. حتى العلم عندنا يصبح "فرض كفاية"، بينما الجدل حول "حلق اللحية" يصبح "فرض عين"!

كيف نحرر الفكر من سطوة الوهم؟

1. بفصل الدين عن السياسة: ليس بمعنى إقصاء الدين، بل بمنع توظيفه لخدمة الهزيمة. فالدين يجب أن يكون مصدر إلهام لا بديلًا عن العقل.

2. بتبني العقلانية النقدية: فليس كل قديم مقدسًا، وليس كل حديثٍ مُنكرًا.

3. باستعادة الثقة بالعلم: فالأمة التي لا تنتج علمًا، تستهلك حتى دينها بجهل.

4. بمواجهة الذات قبل الآخر: فعدونا الحقيقي ليس الصهيونية وحدها، بل ثقافة الهروب من المسئولية.

انتظار المعجزة هو بداية النهاية

إن الأمم التي تنتظر منقذًا من السماء، تعلن – دون أن تدرك – أنها قد استسلمت للأرض. فالمهدي لن يأتي لشعبٍ لا يستحق النصر، والله لا ينصر أمة لا تنصر نفسها. فهل نستفيق قبل أن يصبح انتظارنا ضربًا من العبث، وقبل أن تتحول غيبياتنا إلى نكتة يرويها الأعداء؟

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"  لكننا للأسف نريد أن يغير الله ما بنا، دون أن نغير ما بأنفسنا!

***

د. عبد السلام فاروق

اتسم العصر الإمبريالي في الشرق الأوسط بمجموعة من الملامح الرئيسية التي أثرت بشكل عميق على المنطقة، التجزئة السياسية والحدود المصطنعة كانت من أبرز ملامح هذا العصر، ان انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاه من تقسيم للمنطقة بموجب اتفاقيات سرية مثل اتفاقية (سايكس-بيكو) أدت إلى رسم حدود جديدة لا تعكس الواقع التاريخي أو الديموغرافي للمنطقة، مما أدى إلى ظهور دول جديدة. خلقت هذه الحدود المصطنعة توترات وصراعات إقليمية ودولية مستمرة حتى اليوم، بسبب تجاهلها للروابط العرقية والدينية والمجتمعية. شكل اكتشاف النفط في المنطقة حافزاً رئيسياً للأطماع الإمبريالية. كما سعت القوى الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة، إلى للسيطرة على موارد النفط والغاز لضمان مصالحها الاقتصادية السعي وتحويل الاقتصادات المحلية إلى مجرد مصدر للمواد الخام وسوق للمنتجات المصنعة، مما أدى إلى إضعاف الصناعات المحلية وخلق حالة من التبعية.

الخطوة الاستعمارية التالية

عملت القوى الاستعمارية على دعم وتثبيت أنظمة حكم محلية تكون موالية لها تخدم مصالحها، مما أدى إلى إضعاف الحركات الوطنية التحررية، كما قامت القوى الاستعمارية بتعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية لتسهيل السيطرة على المجتمعات المحلية، وخلق حالة من عدم الاستقرار. على سبيل المثال تم بناء النظام السياسي في لبنان على أساس طائفي من قبل الاستعمار الفرنسي، كما قامت القوى الإمبريالية بتعميق وجودها من خلال وفرض لغاتها وثقافاتها وأنظمتها التعليمية تغيير المناهج التعليمية الاستعمارية، وتكوين طبقة من النخب المحلية الموالية للقوى الاستعمارية. رغم ذلك ظهرت حركات مقاومة للاستعمار متنوعة، سواء كانت مسلحة أو سياسية أو ثقافية، سعت إلى التخلص من الاستعمار، بالتالي يمكن القول إن العصر الإمبريالي في الشرق الأوسط تميز بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم المنطقة، والسيطرة على مواردها، وتثبيت أنظمة موالية، وإضعاف الهوية المحلية، مما أدى إلى خلق صراعات مستمرة وصعوبات طويلة الأمد تواجهها المنطقة حتى يومنا هذا.

استراتيجيات العمل الاستعماري

الاستعماراستند إلى استراتيجيات وتخطيطات اقتصادية طويلة الأمد من قبل القوى الأوروبية، ثم الولايات المتحدة، لتحقيق أهداف محددة، بدأت جهود الاستعمار في المنطقة قبل انهيار الدولة العثمانية بوقت طويل، من خلال إضعافها اقتصادياً عبر اتفاقيات تجارية مجحفة مثل "الاتفاقية التجارية الأنجلو-تركية" عام 1838، التي فرضت على الدولة العثمانية إلغاء التعريفات الجمركية، مما أدى إلى انهيار صناعاتها المحلية وجعلها تعتمد على البضائع الأوروبية، تُعد اتفاقية سايكس-بيكو (1916) خير دليل على التخطيط الممنهج. فقد كانت اتفاقية سرية بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم مناطق النفوذ العثمانية قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى خلق حدود مصطنعة تخدم المصالح الاستعمارية وتمنع قيام كيانات عربية موحدة قوية، تمحورت الأهداف الاستعمارية حول السيطرة على النفط، حيث كان يُنظر إليه كأهم عامل استراتيجي. كانت سياسات الدول الغربية تهدف إلى تأمين وصولها إلى منابع النفط في المنطقة، وهو ما يتضح من دعمها لأنظمة حكم موالية لها، وتدخلاتها العسكرية. الطائفية لم تكن مجرد نتيجة عرضية للاستعمار، بل كانت أداة ممنهجة استخدمتها القوى الاستعمارية لتحقيق أهدافها في الهيمنة والسيطرة على المنطقة، تؤكد المصادر التاريخية أن الطائفية، التي كانت أداة استعمارية، امتدت بالفعل لتشمل الأيديولوجيات التي تدعي الثورية.  في بعض الصراعات الإقليمية، استغلت قوى إقليمية ودولية الصراعات الطائفية لتوسيع نفوذها. فمثلاً، استخدمت بعض القوى الطائفية خطاب المقاومة ضد الإمبريالية الغربية، بينما كانت في الواقع تسعى لتأكيد هيمنتها الإقليمية وتغيير ميزان القوى لصالحها، أدت السياسات الاستعمارية إلى إضعاف الدولة الوطنية وتفكيك النسيج الاجتماعي، مما مهد الطريق لبروز الهويات الطائفية كبديل عن الهوية الوطنية. هذا الأمر استغلته بعض الحركات الثورية التي فشلت في تقديم رؤية وطنية جامعة، فلجأت إلى الخطاب الطائفي كوسيلة لكسب التأييد بعد هزيمة الأيديولوجيات الكبرى، في منتصف القرن العشرين، وبرزت الأيديولوجيات الطائفية كبديل لتعبئة الجماهير. هذا الفشل سمح لبعض الحركات الدينية والسياسية بتبني خطاب طائفي حاد، مما أدى إلى تصعيد الصراعات الداخلية.

مظاهر الخنوع واللامبالاة المعاصرة

يمكن القول إن هناك علاقة مباشرة وقوية بين سياسات الإمبريالية الاقتصادية ومظاهر الخنوع واللامبالاة التي يمكن رصدها في الشرق الأوسط، حاليا اذ عملت القوى الإمبريالية على إعادة هيكلة اقتصادات المنطقة لتخدم مصالحها. لم يتم تشجيع الصناعات الإنتاجية المحلية، بل تم التركيز على استخراج وتصدير المواد الخام (النفط، الغاز، المعادن، الزراعة) إلى الأسواق الغربية. هذا الأمر أدى إلى نشوء "الاقتصاد الريعي" حيث تعتمد الدولة على إيرادات هذه الموارد بدلاً من الإنتاج الحقيقي، مما يقلل من حاجة الحكومات إلى مواطنيها كمنتجين ويجعلها أقل عرضة للمساءلة، في سياق الاقتصاد الريعي، نشأت طبقات سياسية واقتصادية مرتبطة بالأنظمة الحاكمة والقوى الأجنبية. هذه الطبقات "الكمبرادورية" تستفيد من الوضع الراهن وتعمل على إدامته، مما يعمق الفجوة بينها وبين عموم الشعب ويساهم في قمع أي حراك أو مطالبة بالتغيير، أدت السياسات الاستعمارية إلى إضعاف أو تدمير المؤسسات الاقتصادية والسياسية المحلية، مما ترك فراغًا ملأته أنظمة حكم مركزية وقمعية، مدعومة غالبًا من الخارج. هذه الأنظمة لا تعتمد على شرعية شعبية، بل على السيطرة الاقتصادية والأمنية، مما يقوض أي حس بالمواطنة الفاعلة أو المشاركة السياسية، لم يقتصر التأثير على الاقتصاد فقط، بل امتد إلى الجانب الثقافي. فُرضت أنماط استهلاكية غريبة عن المنطقة، مما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي وتشكيل هوية اجتماعية متجهة نحو الاستهلاك بدلاً من الإنتاج، استمرت هذه التبعية من خلال سياسات نيوليبرالية التي فرضتها مؤسسات مالية دولية. هذه السياسات أدت إلى خصخصة القطاعات العامة، وتهميش الطبقات الفقيرة، وتعميق التفاوت الاجتماعي، مما أدى إلى حالة من اليأس واللامبالاة بين فئات واسعة من الشباب. يمكن القول إن مظاهر الخنوع واللامبالاة هي نتيجة مباشرة لتراكمات تاريخية واقتصادية وسياسية، حيث أدت السياسات الإمبريالية إلى خلق بنى اقتصادية وسياسية هشة، تركت المواطن في حالة من العجز وشعور بعدم القدرة على إحداث تغيير حقيقي ما دامت المنطقة تعتمد على اقتصاد النفط والغاز، فإن القوى التي تسيطر على هذه الموارد أو تتحكم في مساراتها ستبقى هي اللاعب الرئيسي. هذا يكرس حالة من التبعية حيث لا تستطيع الدول اتخاذ قرارات مستقلة قد تتعارض مع مصالح تلك القوى.

دور الإرادة الشعبية في التغيير

الإرادة الشعبية باتت ورقة على طاولة المفاوضات بين القوى العالمية أصبح المشهد مجرد سيناريو قصير على طاولة المفاوضات بين القوى الكبرى، هذه الحالة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية وسياسية، اذ أن المؤسسات الوطنية التي كان من المفترض أن تكون صوت الشعب في المحافل الدولية، تم إضعافها على مر العقود، إما بفعل الاستبداد الداخلي أو نتيجة للتدخلات الخارجية. هذا الأمر جعل الدول عاجزة عن تمثيل الإرادة الشعبية بشكل حقيقي، وأصبحت مجرد أداة لتنفيذ برامج خارجية، كما أدت الصراعات والحروب بالوكالة إلى انعدام ثقة الشعب في أي مبادرات سياسية، سواء كانت داخلية أو خارجية. عندما يرى المواطن ان الاقتصادات الإقليمية مرهونة بالتبعية للقوى الكبرى، فإن القرارات السيادية للدول ستبقى مقيدة، القوة الاقتصادية هي التي تمنح الدول القدرة على التحرك بمرونة في الساحة الدولية، وغيابها يضعف الإرادة الشعبية ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن الإرادة الشعبية قد ماتت تماماً. إنها قد لا تكون حاضرة بشكل مباشر، لكنها تظهر بطرق أخرى، في كثير من الأحيان، تتجلى الإرادة الشعبية في المقاومة السلبية، مثل رفض المشاركة السياسية أو السخرية من الأوضاع الراهنة، وهي علامات على عدم القبول بالواقع، قد لا يظهر التغيير في قاعات المؤتمرات، لكنه ينمو في المجتمع من خلال حركات مدنية، ونشطاء، ومثقفين يعملون على تغيير الوعي وتشكيل رؤية بديلة للمستقبل. فهل يمكن للإرادة الشعبية أن تستعيد زمام المبادرة وتتحول من مجرد ورقة تفاوض إلى فاعل حقيقي على الساحة السياسية؟ وما هي الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها لاستعادة هذه الإرادة؟.

***

غالب المسعودي

في الساعة الثامنة وخمسة عشر دقيقة صباحًا، وعلى نحو خاطف، توقّف الزمن فعليًا، وليس بالمعنى المجازي، فقد تجاوزت الحرارة أربعة آلاف درجة مئوية، والضغط حطّم كلّ شيء في محيط أكثر من كيلومترين من مركز الانفجار. ساعةٌ يتيمةٌ وُجدت على معصم أحد الضحايا، وقد توقّفت عقاربها عند لحظة الانفجار، وهو ما لفت انتباهي عند زيارتي لمدينة هيروشيما في العام 2014 ضمن وفد أكاديمي تابع للجامعة اليسوعية في لبنان.

توقفت طويلًا متسائلًا مع نفسي، كيف تمكّن اليابانيون من تحويل هذه المدينة المنكوبة إلى قصة نجاح؟ وتُعرف هيروشيما اليوم بأنها مدينة المياه والأشجار، حيث تحتضنها الجبال في لقاء مع البحر وتنتشر حولها جزر وأرخبيلات وتتداخل فيها البحيرات. وقد شهدت إزدهارًا ملحوظًا وعمرانًا متميزًا وحياةً ثقافيةً زاخرةً بالأدب والفنون بجميع أنواعها وتلك هي ميزات هيروشيما. حقًا إنها مدينة الجمال بقدر ما هي مدينة الألم.

بعد استسلام ألمانيا النازية وإعلان الحلفاء انتصارهم في 9 أيار / مايو 1945، وجّه الرئيس الأمريكي هاري ترومان إنذارًا عُرف باسم "إعلان بوتسدام" في 26 تموز / يوليو 1945، دعا فيه اليابان للاستسلام اللّامشروط، وحين تجاهلته اليابان جاءت الفرصة للمتعطشين للدم ليجربوا قنبلتهم الذريّة في هيروشيما في 6 آب (أغسطس) 1945.

كان "الطفل الصغير" الاسم السريّ للعملية، وبعد تنفيذها أعلن الرئيس ترومان إن لم يقبل اليابانيون بشروطنا، فعليهم أن يتوقعوا أمطارًا من الخراب تأتيهم من الهواء، لم يرها أحد من قبل على وجه الأرض. وفعلًا نفّذ إنذاره بأن أمطر ناكازاكي (يوم 9 آب / أغسطس 1945) بقنبلة أخرى، وأطلق عليها اسم "الرجل البدين". لكن الإمبراطور هيروهيتو أخطر الحلفاء بأن اليابان ستقبل جميع شروطهم مع بقاء صلاحياته حاكمًا سياديًا.

ثمانون عامًا تفصلنا عن ذلك الحدث المأساوي الرهيب، وما زالت الحروب تسيطر على العقول، وإذا كانت الحروب تولد في العقول، فلا بدّ من تشييد حصون السلام في العقول أيضًا حسب دستور اليونيسكو، فكيف يمكن تجنّب كارثة نووية جديدة قد لا تبقي ولا تذر؟

وإذا لم يكن بوسع البشر وضع حدّ للحروب، فإنهم عملوا على "تلطيفها" بوضع قوانين تطوّرت مع الزمن، وبشكل خاص منذ القرن التاسع عشر، واتّخذت بعدًا أخلاقيًا إزاء استخدام بعض الأسلحة، وتطوّرت هذه في القرن العشرين. ففي العام 1925 حظر بروتوكول جنيف استخدام الغازات الخانقة في ميدان القتال، لكن ما حصل في الحرب العالمية الثانية تجاوز البُعد الأخلاقي، ولاسيّما باستخدام السلاح النووي في هيروشيما وناكازاكي، بعيدًا عن أي اعتبار قانوني أو أخلاقي أو إنساني، وهي الاعتبارات التي كانت وراء انعقاد مؤتمر بطرسبورغ في العام 1868، الذي حرّم استخدام القذائف التي تنفجر عند اصطدامها بجسم الإنسان وتحدث جروحًا بليغة وتؤدي إلى موت مؤلم.

وبعد الحرب العالمية الثانية تمّ إبرام اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها في العام 1977 لتنظيم إدارة الحروب، وبدأت بعض الأصوات ترتفع لتحريم استخدام الأسلحة النووية والتوقيع على معاهدات لمنع انتشارها، وخصوصًا خلال فترة الحرب الباردة (1946 – 1989)، وكان آخرها توقيع 122 دولة على معاهدة حظر الأسلحة النووية ومنع تطويرها أو تجريبها أو حيازتها أو استخدامها في العام 2017، علمًا بأن بعض البلدان ما تزال ترفض إخضاع منشآتها لمنظمة الطاقة الذرية، ومنها إسرائيل، التي بنت أول مفاعل نووي في العام 1955، وتتصرّف بكلّ عنجهية خارج نطاق القانون الدولي، بما فيها حرب الإبادة التي تمارسها في غزة منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

إن اعتماد الأسلحة النووية بوصفها ضمانة لحماية الدول يمثّل خطاً قاتلًا، لأن أي استخدام لها بعد التطوّر العلمي والتكنولوجي الهائل سيكون انتحارًا جماعيًا لا يسلم منه أحد. وستكون مسؤولية الدول التي تمتلك السلاح النووي دقيقة وخطيرة تجاه مصير البشرية، فأي خطأ قد يؤدي إلى ردود أفعال لا تُحمد عقباها.

كل شيء في هيروشيما يروي ما حصل، المتحف الذي زرته والكتب والوثائق والأفلام والصور والروايات تدوّن أحداثًا وتفاصيلًا ووقائعًا غير قابلة للنسيان، إنها في دائرة الضوء، وتلك هي كذلك ساحة السلام التي صممها أحد المعماريين المشهورين ويرد ذكرها في فيلمMother player، فهي لا تنظر إلى الماضي فحسب، بل تتطلّع إلى المستقبل، فتشاهد صورة المدينة الحداثية حيث الأشجار مضيئة والزهور مبتسمة والجمال أقرب إلى السحر، خصوصاً حين يتصالح الفرد مع المجتمع والدولة في الآن بالانضباط العالي والشعور بالمسؤولية.

حين صعدنا إلى جبل "فوجي" العظيم، الذي كان آخر انفجار لبركانه العام 1707، ضربتنا عاصفة ثلجية، لكن مرافقتنا ماساكو (ساكورا) اختلطت ابتسامتها الرقيقة مع حشرجة بكائية باستذكار هيروشيما، وهي تردّد "أوهايو كوزايمس" أي "صباح الخير"، ونقول على هيروشيما المدينة المحفورة في ذاكرة البشر إلى ما لا نهاية "أوهايو كوزايمس".

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

تُقدَّم الانتخابات النيابية في الفلسفة السياسية الحديثة باعتبارها آلية ديمقراطية لتحقيق الإرادة الشعبية وتداول السلطة بشكل سلمي. غير أن التجربة التاريخية والواقع المعاصر يكشفان أن الانتخابات ليست دائماً أداة لتعزيز السلم المجتمعي، بل قد تتحول، في ظروف معينة، إلى شرارة لتمزق النسيج الاجتماعي وإثارة النزاعات. هنا يثور السؤال الفلسفي: كيف يمكن لآلية يفترض أنها أداة للتوافق أن تصبح مصدراً للتفرقة؟

فمن منظور الفلسفة السياسية، يرى جان جاك روسو في العقد الاجتماعي أن الإرادة العامة هي جوهر الديمقراطية، وأن أي عملية انتخابية تنحرف عن تمثيل هذه الإرادة تتحول إلى صراع مصالح خاصة، الأمر الذي يقوّض السلم الاجتماعي¹. وعليه، فإن الانتخابات التي تُبنى على الولاءات الطائفية أو العرقية لا تؤدي إلى وحدة الإرادة العامة، بل إلى تفتيتها.

أما توماس هوبز فقد حذّر من أن المجتمع إذا غابت فيه سلطة حاكمة قادرة على ضبط التنافس السياسي، فإن هذا التنافس سيتحوّل إلى حالة "حرب الجميع ضد الجميع"². وهذا ينطبق على الانتخابات التي تجري في بيئات هشة مؤسساتياً، حيث تتحول الحملات الانتخابية إلى ساحات استقطاب حاد، يهدد السلم الأهلي.

بينما ترى حنة أرندت أن الخطر ليس في الاختلاف السياسي بحد ذاته، بل في تحويل هذا الاختلاف إلى "عداوة سياسية" تؤدي إلى نزع الشرعية عن الآخر. فالانتخابات، حين تُختزل في خطاب الكراهية والتحريض، تعيد إنتاج حدود الانقسام بدلاً من تجاوزها، مما يجعل المجتمع يعيش حالة "استقطاب دائم".

وأما في الفكر العربي المعاصر فقد أشار محمد عابد الجابري إلى أن الديمقراطية في المجتمعات العربية قد تتحول إلى "ديمقراطية عددية" لا تحترم قواعد التعددية السياسية، حيث تتحكم الهويات الأولية في التصويت، ما يجعل نتائج الانتخابات انعكاساً للخريطة الانقسامية، وليس تجاوزاً لها.

وأما من منظور الفلسفة الأخلاقية، نجد إن إيمانويل كانط يلفت إلى أن الفعل السياسي يجب أن يُحكم بمبدأ الكونية؛ أي أن يكون صالحاً لو طُبّق على الجميع⁵. فإذا كان السلوك الانتخابي قائماً على التضليل أو شراء الولاءات أو بث الخوف، فهو فعل لا يمكن تعميمه أخلاقياً، وبالتالي يفتقد المشروعية الأخلاقية، ويهدد استقرار المجتمع على المدى الطويل.

وبالمثل، يرى جون رولز في نظرية العدالة أن الانتخابات لا تحقق العدالة السياسية إلا إذا جرت في ظل شروط الإنصاف فإذا انعدمت هذه الشروط، أصبحت الانتخابات وسيلة لإعادة إنتاج السلطة والهيمنة، بدلاً من تعزيز الاستقرار.

وهنا يتضح إذن أن الانتخابات، وفي غياب مؤسسات قوية وثقافة ديمقراطية راسخة، قد تتحول من أداة للتداول السلمي للسلطة إلى مسرح لتأجيج الانقسامات، وهو ما قد يقود إلى اضطرابات، أو حتى إلى انهيار السلم المجتمعي. فالمسألة ليست في وجود الانتخابات بحد ذاتها، بل في الإطار القيمي والمؤسساتي الذي تُجرى فيه. أي إن أي إنتخابات نيابية، حين تُمارَس في ظل بيئة سياسية وأخلاقية سليمة، يمكن أن تكون أداة لتعزيز السلم المجتمعي. لكنها في بيئات الانقسام الحاد وضعف المؤسسات، تصبح عاملاً مهدداً لهذا السلم. وهذا ما أدركه الفلاسفة من هوبز إلى رولز، حين شددوا على أن السياسة ليست مجرد آلية إجرائية، بل منظومة قيمية وأخلاقية متكاملة.

***

الدكتور ابراهيم احمد شعير الجميلي/ العراق - كركوك

....................

المراجع

1. روسو، جان جاك. العقد الاجتماعي. ترجمة عادل زعيتر. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954.

2. هوبز، توماس. الليفياثان. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991.

3. أرندت، حنة. في السياسة. ترجمة عبد الغفار مكاوي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2012.

4. الجابري، محمد عابد. الديمقراطية وحقوق الإنسان. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.

5. كانط، إيمانويل. أسس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة جلال الدين سعيد. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008.

6. رولز، جون. نظرية العدالة. ترجمة ليلى الطويل. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.

 

قراءة تاريخية في ذاكرة الآشوريين

شهد العراق في 11 آب 1933 واحدة من أكثر الحوادث دموية في تاريخه المعاصر، حيث ارتكبت القوات العراقية مجزرة بحق الأقلية الآشورية في قرية سُمَيَّل والمناطق المجاورة لها. لم تكن المجزرة مجرد حدث عابر، بل كانت نموذجاً لممارسات قمعية تكررت في تاريخ العراق المعاصر، من جراء التنظير الايديولوجي العقائدي المغلق. المجزرة تعتبر الحدث المأساوي الأخطر، الذي رسّخ مبدأ استخدام العنف كأداة سياسية، وأسس لسابقة تاريخية في كيفية تعامل الدولة مع الأقليات، مما انعكس لاحقاً بمختلف المراحل الزمنية في العهدين الملكي والجمهوري في ممارسات مشابهة ضد المجموعات المتعايشة في مجتمعنا العراقي.

لم تأخذ مجزرة سُمَيَّل حقها من الدراسة والتقييم لاعراقياً ولاعالمياً، ويمكن اختصار أبعادها بالحديث عن طعنتين عميقتين لهذه المذبحة؛ الأولى سياسية، كانت أول إبادة جماعية حظيت بتأييد رسمي وشعبي، وعُدّ مرتكبوها أبطالاً، حيث تم إدارة السياسة على حساب القيم الإنسانية. والثانية كانت طعنة قوية في ظهر الآشوريين، لما فيها من أبعاد اجتماعية ونفسية مؤلمة ما زالت آثارها عميقة. ولهذا فإن استذكارها وتوثيق أحداثها من قِبل الجهات الرسمية والشعبية ومن النخب الواعية هو بمثابة رسالة اعتراف بأن هذه المجزرة جريمة ضد الإنسانية، ودعوة بعدم تكرارها مستقبلاً من خلال تبني قيم التعايش السلمي وحماية حقوق الجميع في إطار المواطنة المتساوية. 

الآشوريون جزء من مسيحيي العراق، يمتد وجودهم إلى ما قبل انهيار الدولة العثمانية، وأكثر الآراء المحايدة تؤكد بأن الآشوريين اليوم في العراق هم الأحفاد الناجين من الحضارة الآشورية القديمة، وهناك الكثير من الدلائل الأثرية التي تدل على وجودهم في شمال العراق.

يرى الباحث سليم مطر في كتابه "الذات الجريحة" بأن قضية السريان مرتبطة إلى حدّ كبير بالقضية الكردية بسبب التداخل الجغرافي والتاريخي بين مناطق تواجد السريان وتواجد الأكراد. وبعد الفتح الإسلامي أخذ بعض السريان يتخلون بالتدريج عن مسيحيتهم ويعتنقون الإسلام، كانت عملية الأسلمة والتعريب تحدث أولاً في المدن والحواضر بينما بقيت الكثير من الأرياف على مسيحيتها، لا سيما المناطق المرتفعة وشبه الجبلية التي تحولت إلى ملجأ للسريان وغيرهم حتى العصر العثماني. وإن بقاء السريان على مسيحيتهم جعلهم عرضة سهلة لاكتساحات القبائل التركية والكردية المنحدرة من آسيا والجبال المجاورة.

الأحداث التي حصلت قبل الحرب العالمية الأولى مهدت لحصول المجزرة، بعد أن كون السلطان عبد الحميد في أواخر القرن التاسع عشر فرقاً حربية من الأكراد سميت بالفرق "الحميدية"، قامت هذه الفرق ومعها الأغوات بدور كبير في طرد السريان من مناطقهم في الجزيرة (كذلك الأرمن في ارمينيا) وارتكاب مذابح كثيرة ضدهم وإجبارهم على الرحيل  أو التحول إلى مسلمين أكراد. وفي سنة 1895م، بدأ الاستهداف العثماني للآشوريين فيما عُرف باسم "المجازر الحميدية" نسبة إلى السلطان عبدالحميد الثاني، تعرض المسيحيون في ديار بكر وحكاري وغيرها من المناطق إلى مجازر دموية في فترات مختلفة بتحريض من بعض رجالات الإمبراطورية العثمانية.

وخلال الحرب العالمية الأولى، تحالف الآشوريون مع القوات الروسية ضد الدولة العثمانية، وتعرضوا إلى مذابح شبيهة بما عرف بـ"الإبادة الأرمنية" التي طالت أكثر من مليون أرمني وعشرات الآلاف من الآشوريين. ولما سيطرت بريطانيا خلال فترة الاحتلال على العراق، أدركت معاناة الآشوريين، طلبوا منهم التعاون معهم، وعرضوا عليهم مغريات كثيرة ووعود بأن يكون لهم كياناً مستقلاً.

وجد الآشوريون الفرصة متاحة أمامهم للتحالف مع السلطة البريطانية، اسست بريطانيا قوات "الليفي" عام 1919، من الآشوريين وبعض العرب والأكراد والتركمان، ولكن بعد تأسيس الجيش العراقي تم ضم العرب والأكراد فيه وأبقوا على الآشوريين في قوات "الليفي". هذا التصرف كان مقصوداً من السلطة البريطانية التي أرادت خلق حالة من التباعد يصب في خدمة مصالحها.

كانت أول صدمة للآشوريين في عام 1923 عندما تم عقد اتفاقية "لوزان" التي رسمت الحدود بين تركيا والعراق، حيث تبدد الحلم الآشوري بضم اقليم "حيكاري" إلى العراق، حيث بقي الاقليم ضمن الحدود التركية. ومع المعاهدة الإنكليزية- العراقية الثانية عام 1930، التي منحت العراق الاستقلال في 1932، باتت المجموعات الآشورية تشعر بأن الخطر قد بلغ الذروة، وأعلنت صراحة أن الإنكليز خالفوا الاتفاق بينهم بحماية الأقليات المسيحية أو على الأقل منحهم حقوق الإدارة الذاتية.

وبعد انتهاء عهد الانتداب البريطاني على العراق عام 1932، أصبح العراق مكبلاً ببنود اتفاقية 1930 لمدة (25) سنة، وحصلت بريطانيا في اطار المعاهدة على موقعين جويين هما الحبانية والشعيبة. كان رشيد عالي الكيلاني وحكومته تعاني من مواجهة شديدة مع المعارضة الشعبية الواسعة، فأراد تغطية مشاكله مع المعارضة بايجاد موضوع لتوجيه الرأي العام نحوه، فاستغل الاعلام العراقي الرسمي في التمهيد لتنفيذ أبشع مذبحة وإبادة جماعية. فبدلاً من أن تحترم حكومته حقوق الآشوريين العراقيين في (المواطنة الكاملة)، أوهمت العراقيين بأن الآشوريين، أعداء العراق والعراقيين ويجب إبادتهم والتخلص منهم، صورتهم على إنهم (أقلية وافدة وانفصالية) تعمل لصالح (الإنكليز).

أدرك الآشوريون بأن وضعهم بائس ومهمش وبريطانيا قد تخلت عنهم كلياً، وإن حلم الوطن قد تبدد، والتوترات مع الكرد ومع الحكومة العراقية في تصاعد، وإن الحكومة الملكية تنتهز الفرصة للإنقضاض عليهم. لذلك قرروا في اجتماع لهم في 16/06/1932، التخلي عن مطالبهم بالوطن المستقل والانخراط مع الحكومة العراقية في برنامج حكم ذاتي، وأصدروا "الميثاق القومي الآشوري" المتكون من تسعة مطالب التي تم تقديمها للحكومة العراقية.

المفاجأة جاءت برفض تلك المطالب من قبل الحكومة العراقية وبريطانيا، لوأد "القضية الآشورية" التي برزت بقوة على المشهد السياسي العراقي وطُرحت على طاولة "عصبة الأمم" بين عامي1931 و1932. ولنجاح مخطط ضرب الآشوريين، استدعت الحكومة البطريرك (مار شمعون) الى بغداد بحجة التفاوض معه بشان حقوق ومطالب الآشوريين، لكن التفاوض كان مجرد خدعة لاعتقاله ووضعه تحت الاقامة الجبرية، بهدف إثارة غضب الآشوريين ودفعهم للعصيان والتمرد، لتبرير الحملة العسكرية عليهم وسحقهم.

تناول الباحث كاظم حبيب في كتابه "مسيحيو العراق" أحداث مجزرة سُمَيَّل بحيادية مؤكداً بأن ما حصل في قرية سُمَيَّل كان مجزرة مدبرة ومعدة سلفاً من جانب الحكومة الملكية ممثلة برئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني، ووزير الداخلية حكمت سليمان، ووزير الدفاع جلال بابان، ووزير الخارجية نوري السعيد ورئيس أركان الجيش العراقي ياسين الهاشمي، ومدير عام الشرطة صبيح نجيب العزي ومتصرف الموصل تحسين علي ونائبه خليل عزمي، وقائد الحملة العسكرية ضد الآشوريين الفريق بكر صدقي. وقد تم تنفيذ الجريمة على مرحلتين، الأولى على نزع سلاح الرجال الآشوريين وتسليمه لمركز الشرطة بحجة حمايتهم من أي اعتداء، بواسطة قائمقام قضاء زاخو، والثانية تنفيذ العملية باستخدام العشائر العربية والجيش والشرطة الملكية بقيادة الضابط إسماعيل عباوي.

لقد فضلت بريطانيا الحفاظ على علاقاتها مع الحكومة العراقية على حساب التزاماتها الأخلاقية تجاه حلفائها السابقين، هذا الموقف المتخاذل زعزع ثقة الآشوريين ببريطانيا، التي كانوا يعتبرونها حامية لهم، وأدى إلى كارثة إنسانية. وكان بامكان السلطة الملكية إيقاف المجزرة ولكن وسائل العنف والتطرف بالاجرام كانت هي السائدة.

ستبقى هذه المجزرة راسخة في ضمير الانسانية كذاكرة مؤلمة والتوثيق التاريخي سيساعد في حفظ الذاكرة الجماعية لشعب عانى من الإبادة والتهجير، ويضمن للأجيال القادمة معرفة ما حدث. وهذا التوثيق يعزز من المطالبة بالاعتراف الرسمي بالمجزرة وتسليط الضوء على ضرورة حماية حقوق كل الأقليات من كل أشكال العنف المتطرف والتمييز، ويأخذ القانون الدولي المتعلق بالجرائم ضد الإنسانية في انصاف حق الآشوريين في وطنهم العراق.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

ولدت اشتراطات الانتقال من السيطرة العثمانيه الى الغربية الاوربية الاليه، حالا من التغير في مواقع القوى والمجموعات الاكثر قدرة على الفعل، دافعها الاساس شخصي، وعائد الى المكانه والموقع الممكن احرازه ضمن الشروط المستجده، من دون متغير واقعي ذاتي، خصوصا من قبل اعيان المدن ومحيطهم، استجابة نقلية بحته لما واكب ذلك من انقلابية اوربية غدت معممه على مستوى المعمورة نموذجا وتفكرا، بينما المنطقة خالية تماما مما يمكن ان يحد من الانعكاس البراني، فلا وجود في هنا لاي شكل من اشكال الاقتراب من الذاتيه، او التعرف على الخاصيات التاريخيه المجتمعية المرتكزه لقراءة التاريخ الخاص بالمنطقة وسماته المميزه، مايسمح بالقول بان منطقتنا كانت على هذا الصعيد في حال من "الامية التاريخيه" المجتمعية، حتى بما خص الديانات الكبرى الاساس التي لم تعرف اي تفسير او بحث في الخلفيات والمحركات المجتمعية الواقعية، بغض النظر عن كونها ظاهرة خاصة حصريا بهذا الموضع من العالم.

هذا يعني بان اولئك الذين تصدوا لمسالة الوعي تحت وطاة نهوض الغرب ونموذجه، ليسوا ابناء الموضع الذي يدعون التعبير عنه، ولايمتون له بصلة اذا قصدنا الانتماء اصالة وواقعية التفكير والرؤية الحية المطابقة، وليس السكن والولاده. وقد وضعوا امام اخطر لحظات الاختبار الانتمائي، مع حضور العامل الرئيسي المستحدث، وماكان يقتضيه من وثبة كبرى اعقالية، استعيض عنها بحماسة تكريس الاتباعية النقليه البحته، بعيدا عن اي اثر للابداعية التفكرية، أومجرد ملاحظة فعل الذاتيه ودينامياتها الامتناعية، بينما تحول الواقع والتاريخ الى مادة مجبرة على التماهي مع مثال جاهز خارجها، لنغدو كحصيلة امام منتج لاشي يربطه بالفكر، او المنجز التفكري العقلي، حتى على مستوى الاضافه للاصل والمصدر المستعار.

والناحية الاخيرة المشار لها هامة وفاصلة للغاية اذا ماتطلعنا الى مسار ومسلكية هذا النمط من التشبه بالفكر، على وجه التعيين حين بتعلق الامر بادراك النتائج والمحصلات، فالذين يعرفون بالحداثيين او النهضويين من الشرق متوسطيين العرب، لايملكون بالاصل وبداهة بحسب الحالة ومانتج عنها،ايه رؤية للظاهرة الغربيه ولمساراتها، ولماقد تنطوي عليه من حقائق او مثالب، لابل وحتى احتمالية الانطواء على نواقص او امراض خطرة، الامر الذي لابد من توفره بالحدود الدنيا، قبل افتراض الانتباه الى النتائج واستخلاصات التجربة التاريخيه وماقد وصلت اليه راهنا، فالعقل الذي ننوه به، غير مؤهل لانتاج ماكان بالاصل قد قفز عليه لاجئا لحمى المصدر والنموذج الاعلى، فاذا ماتردت التجربة الغربية والاوربية منها لصالح النموذجية الامريكيه المفقسة خارج الرحم المجتمعي التاريخي، وذهب العالم الى الطور المتاخر من الراسمالية المعولمه، وسقوط نموذج ( الدولة الامة) الابتدائي الاوربي، مع تجاوز وسيلة الانتاج للنمطية المجتمعية الباقية من زمن الانتاجية اليدوية، فان مايمكن للمتبقيات الحداثوية هو التكرار الايحائي الصامت للمنطلقات الاساس المعتمدة عمليا "وتنظيميا" من دون اعلان، ولا اي قدر من الادعائية التفكرية، فالاحزاب والمجاميع الحداثوية لم تعد تتعاطى الشؤون المعدوده فكرية، وماقد يمت بصله للتفكرية التي اختفت عالميا من جهة، ولم تعد تحظى بما كانت قد تمتعت به بعد القرن التاسع عشر من فعالية، فاذا بنا اليوم امام دكاكين خالية من اية بضاعه، حتى المستورد منها، لنغدو بازاء ظاهرة لها سمات "الطوائفية" الموروثة والباقيه من الماضي، بلا فعالية حيوية موصوله بالمعاش والراهن.

فالايديلوجيون الاتباعيون مازالوا موجودين من دون فعل من اي نوع، الا السلبي والمخالف لابسط ماتدعية وقامت عليه من شعارات، نقطة حساسيتهم وخوفهم تتاتى من المراجعه، او الاضطرار الى مناقشة الاسس التي بنيت عليها اسقاطيتهم المتماهية مع غيرهم، فعند هذه العتبة سوف ينتهى اجل تاريخ من الممارسة الزائفة، هي المدخل الفاصل الذي عنده تنتهي مرحله بذاتها عمليا بعد ان انتهت واقعا، مما يضيف للدور السلبي العاجز، والذاتوي المنفصل عن التاريخ والتجربة الحية للمنطقة المتميزة حضورا على مدى الطور التاريخي اليدوي من الممكنات المجتمعية.

ولنتصور لو ان نداء قد اطلق يدعو الى مؤتمر عام شامل، بهدف "المراجعه"، واعلان هزيمه الطور الزائف الحداثوث النهضوي من تاريخ الشرق المتوسطي العربي، الامر الذي من غير الممكن التفكير به، فضلا عن الاقدام عليه من توفر القاعدة او الاساس الضروري النظري الرؤيوي المضاد، الامر الذي ماعاد يحتسب اليوم وراهنا بخانة الرغبه او الميل الذاتي باي شكل كان، وقد غدت الاسباب الملحة ظاهرة وعامه عالميا، مع مسار الانحطاطية التردوية الشاملة للمعمورة، فضلا عن المنطقة الشرق متوسطية العربية، على المستويات كافة بما ينطوي عليه ماهو حاصل من دالة على مؤقتية وعرضية الظاهرة الغربية ضمن السياق التحولي المعرف من قبل الغر ب ب" الآلي" توهما ونكوصا ادراكيا، بازاء حالة تحول انقلابي تاريخي على مستوى النوع المجتمعي، مابين يدوي "ارضوي" و "تكنولوجي " عقلي تتحقق معه الغاية المضمرة في الظاهرة المجتمعية، وماهي مهيأة لبلوغه بالانتقال من الجسدية الى العقلية، اتفاقا مع قانون التحولية الكوني.

ان ماحصل مع القرن السابع عشر في الغرب مع انبجاس الالة، هو افتتاح مسار تحولي انقلابي لاارضوي، يظل تحت طائلة المعتقد الارضوي الاوربي الطبقيي ابتداء، مع العجز الموروث من تاريخ علاقة العقل البشري بالظاهرة المجتمعية، والقصور دون التعرف على الازدواجية المجتمعية، مثلما ظل ولامد طويل من غير الممكن مقاربة الازدواجية الطبقية ومايمكن ان يواكبها من قانون ارضوي، هو الاعلى بين المجتمعية الارضوية كمستوى ديناميات، مع انه ادنى بالمقابل بالازدواجية المجتمعية الاصطراعية ،الارضوية اللاارضوية ومترتباتها، وقوانين حركتها واصطراعيتها السومرية البابلية الاصل والمنطلق.

الانقلاب الالي هو انتهاء لدور وحضور الظاهرة المجتمعية الارضوية اليدوية، لصالح المجتمعية اللاارضوية العقلية التكنولوجية، العراق وارض الرافدين بؤرتها التاريخية، بؤرة الدورات والانقطاعات الكبرى الابراهيمة الكوراجينيه، القرمطية، الانتظارية، وقد دخلت اليوم زمن التحقق، بعد توفر اسبابه المادية، مع دورتها الراهنه الانبعاثية الثالثة التي تبدا في ارض سومر الحديثة ارض "المنتفك" في القرن السادس عشر، قبل انبثاق الاله في اوربا، لنتعرف من ساعتها على سياق التحولية العظمى وتتابعاته، وقد تجاوز اوربا، وهو بصدد تجاوز الوريث المفقس خارج رحم التاريخ، وعلى جثة مايزيد على ستين مليون امريكي هم اهل البلاد.

***

عبد الأمير الركاني

جدلية القمع والوعي في مصائر الشعوب

الملخص: يناقش هذا البحث الفارق الجوهري بين نمطين من الأنظمة الاستبدادية: "الديكتاتورية المظلمة" و"الديكتاتورية الوطنية"، من حيث البنية والغايات والآثار في الوعي الجمعي والفردي. يُظهر التحليل أن كلا النموذجين، وإن اختلفا في التبريرات الأيديولوجية، يشتركان في تفكيك الفرد واستلاب الوعي، لكنهما يختلفان في الرمزية والمشروع السياسي المعلن. ويعتمد البحث على تحليل مفاهيمي مدعوم بمراجع فكرية (فوكو، أورويل، فروم، الجابري، المسيري)، لتفكيك علاقة السلطة بالحرية، وإبراز أثر الاستبداد في صياغة مصير الشعوب وهويتها القومية. يخلص البحث إلى أن الوعي الفردي هو الركيزة الأساسية لمواجهة كافة أشكال القمع، وأن الاستبداد، مهما تنكّر بشعارات وطنية، يظل نقيضًا للحرية والكرامة الإنسانية.

الكلمات المفتاحية: ديكتاتورية، وعي، حرية، استبداد، قضايا قومية، قمع، خطاب سياسي.

مقدمة: في التمييز بين ظلال الطغيان

على مدار التاريخ السياسي، لم تكن الأنظمة الاستبدادية متجانسة في ممارساتها أو أهدافها، وإن اتفقت غالبًا في اعتمادها أدوات القمع والسيطرة. ينبثق من هذا الواقع سؤال فلسفي وسياسي: هل يمكن التمييز بين "الديكتاتورية المظلمة" التي تنكر الوطن والإنسان، و"الديكتاتورية الوطنية" التي تدّعي حمايتهما؟ وهل يغير الخطاب القومي طبيعة الاستبداد؟ أم أنه مجرد غطاء يُجمّل القمع؟

هذا البحث لا يسعى لتبرير أي شكل من أشكال الطغيان، بل لفهم آلياته ومآلاته، وتأثيره على البنية الوجدانية والسياسية للفرد والجماعة، عبر تحليل جدلي يتناول أربعة محاور: تعريف النمطين، موقع الحرية في كل نموذج، أثر الطغيان على القضايا القومية، وأخيرًا علاقة الاستبداد بتفكيك الوعي وقطع الذاكرة.

الفصل الأول: أنماط الاستبداد وتمثلاته

1- الديكتاتورية المظلمة: استعباد الوعي ونفي الوطن

تمثل هذا النمط أنظمة تقوم على نفي الجماعة السياسية لحساب مركز سلطوي مغلق، وتُعيد تعريف الوطن كغنيمة للسلطة. تستعمل هذه الأنظمة أجهزة الدولة لتدجين الفرد، وتجعل من الطاعة محور العلاقة السياسية. من سماتها:

تجريم الحرية وتحويلها إلى تهديد وجودي.

استبدال الهوية الوطنية بولاءات خارجية أو طبقية طفيلية.

تدمير القدرة على التفكير النقدي والإبداعي.

2 - الديكتاتورية الوطنية: القومية كسردية احتكار

رغم اشتراك هذا النموذج في الأدوات السلطوية، إلا أنه يستند إلى خطاب تعبوي قومي. تبرر هذه الأنظمة قمعها بشعارات التحرر ومقاومة الاستعمار. من أبرز سماتها:

تمجيد الوطن واختزال تجسيده في الزعيم.

بناء مشاريع اقتصادية موجهة باسم الشعب.

توجيه الوعي الفردي نحو غاية "وطنية" شمولية، تمنع النقد الذاتي.

الفصل الثاني: الحرية بوصفها وظيفة مستحيلة

1- الحرية في الديكتاتورية المظلمة: جرم الوجود الحر

تنظر الأنظمة المظلمة إلى الحرية كجريمة، لا بوصفها خطرًا سياسيًا فقط، بل كفكرة تنفي شرط الطاعة. كما يشير ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تكتفي بقمع الجسد بل تعمل على "تأديبه"، ليصبح الفرد مجرد ترس بلا صوت في آلة السلطة.

2 - الحرية في الديكتاتورية الوطنية: التأجيل الأبدي

يُؤجل هذا النموذج الديمقراطية لصالح "المعركة الكبرى"، ويُقزّم الحريات تحت شعار "الأمن القومي". يحاكي هذا المنطق ما صاغه جورج أورويل في رواية 1984، حيث تُصبح الحرب ذريعة دائمة لطمس الذاكرة وتزييف الحقيقة.

الفصل الثالث: مصير القضايا القومية بين الخطاب والواقع

1- في الديكتاتورية المظلمة: تفكيك الانتماء وتذويب الوطن

تُفرغ الأنظمة المظلمة القضايا القومية من محتواها، فتصبح الوطنية مرادفًا للولاء للسلطة. ويتم إعادة تشكيل الخطاب السياسي ليتماهى الوطن بالحاكم، مما يؤدي إلى الارتهان لقوى خارجية.

2 - في الديكتاتورية الوطنية: المشروع القومي كأداة هيمنة

رغم تبنيها خطابًا وطنيًا مقاومًا، إلا أن هذه الأنظمة تُحول المشروع القومي إلى سردية مغلقة تمنع النقد. وكما لاحظ عبد الوهاب المسيري، فإن الاستبداد الوطني قادر على تحويل مفاهيم التحرر إلى أدوات طغيان جديدة إذا غابت المشاركة الشعبية.

الفصل الرابع: الوعي والذاكرة تحت نير السلطة

1- تفكيك الوعي الفردي

في كلا النموذجين، يُمنع الفرد من التفكير خارج الإطار المرسوم. تستخدم السلطة التجهيل، الإعلام الموجّه، أو التذويب في خطاب جمعي، كما يحذر إريك فروم في الخوف من الحرية: الطاعة العمياء تُبنى على خوف داخلي من الحرية ذاتها.

2- من الوعي الفردي إلى قَطع الذاكرة الجماعية

يهدف تفكيك الوعي إلى صناعة "وعي القطيع"، وهو ما يُفقد الشعوب قدرتها على إنتاج وعي ناقد. ويُحذر محمد عابد الجابري من أن العقل العربي حين يُستلب ضمن طغيان التقليد، يعيد إنتاج الطاعة بدل المسؤولية، مما يُكرّس الاستبداد في كل تحول سياسي.

الخاتمة: من وهم القائد إلى ضرورة الوعي

إن التمييز بين الديكتاتوريتين لا يعني تبرئة أحدهما، بل يكشف كيف أن القمع، سواء بوجهه الفج أو المتوشح بالوطنية، ينتهي دوماً إلى سحق الإنسان. إن الوعي الفردي – لا الزعيم ولا الخطاب – هو أساس الحرية، وهو الضمانة الوحيدة لعدم تكرار المأساة تحت أقنعة مختلفة.

إن لم تسترد الشعوب ذاكرتها، وتحرر وعيها من وهم الطغاة، فإن الاستبداد سيعود دائمًا، بزيّ جديد، وبخطاب أكثر إقناعًا.

***

مجيدة محمدي – تونس

......................

المراجع

ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: منى أبو سنة، المركز القومي للترجمة.

جورج أورويل، 1984، ترجمة: الحارث النبهان، دار التنوير.

إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة: فؤاد كامل، دار الثقافة.

محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية.

عبد الوهاب المسيري، الاستعمار الصهيوني والتفكيك، ضمن الأعمال الكاملة، دار الشروق.

 

  نموذج المملكة السويدية

Har du ett skelett i din garderob?

مملكة السويد تاريخيا عرف بانتشار الأفكار الداعية إلى السلم الاجتماعي وتعايش الشعوب وحقوق الإنسان والتمتع بحرية الرأي والمبدأ والدين. لذا نرى ان المجتمع السويدي مجتمع مفتوح يحترم كل الاراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. القوانين السويدية سنت جميعا ابان سواد السلم في المجتمع خاصة إذا عرفنا ان السويد لم يدخل اي حرب خلال قرنين ونيف.

موجات الهجرة للأيدي العاملة بدات ما بعد الحرب العالمية الثانية من اوربا اولا وخاصة من اليونان ويوغسلافيا السابقة ولكنها دخلت إلى مرحلة من الهجرات الجماعية مع اندلاع الحروب في الشرق الأوسط مع بداية ١٩٨٠ اي قبل ٤٥ عاما خلت. معظم المهاجرين اليوم هم من حملة الجنسية السويدية ويزاولون أعمالهم الطبيعية مع أبنائهم وأحفادهم وهم موطنين امام القانون دون اي تمييز ولكن حدث في السنوات الأخيرة موجة من التذمر في اوربا قادها الأحزاب من حملة الفكر الناري الجديد تطالب بحماية ثقافة المجتمعات الاوربية والحفاظ على قيمها التاريخية والدينية. المهاجرين القادمين من دول الشرق يحملون معهم ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم بالإضافة آلى عقائدهم الدينية ومن الطبيعي كنا نرى بان جميع دول اوربا تحترم العقيدة الدينية وحرية العبادة وتنص على حرية العقيدة في فقرات دساتيرها الوطنية رغم عدم اعترافها رسميا ببعض الديانات. لهذا ليس من الغريب ان نجد معابد جميع العقائد الدينية منتشرة في معظم مدن اوربا.

ارتفاع وتيرة التأيد للأفكار العنصرية في المجتمعات الاوربية جاءت مسايرة لارتفاع وتيرة وسطوة الجماعات الاسلامية بكافة اتجاهاتها خاصة في افغانستان وايران ومصر وظهور حركات دينية متطرفة في معظم الدول الاسلامية مع ما سمي بالربيع العربي وحتى وصولها ديمقراطيا إلى حكم تلك الدول وهذا طبيعي لثقافة تلك الدول ولكن تصدير تلك الأفكار ادى الى دق ناقوس الخطر في المجتمعات الاوربية التي كانت قد غادرت تلك الأفكار ومنذ قرون خلت واختارت العلمانية باعتبار العبادة هي فقط يخص الأشخاص وعلاقتهم بالخالق وترك أمور الحكم والسلطة للعلم وبناء المجتمعات المدنية المفتوحة. هذا لا يعني بعدم وجود تيارات سياسية رسمية تحمل افكار دينية في التركيب الفكري للعديد من تلك الأحزاب السياسية في دول الغرب. التركيبة الدينية المسيحية الكاثوليكية انحصرت فقط في دولة الفاتكان كمقر للبابا.

أعود إلى مملكة السويد الذي شاهدت عن قرب تغير تركيبة المجتمع فيها خلال ما يقارب الأربع عقود. التغير الجذري الذي حصل كان نتيجة مباشرة لتدفق المهاجرين من مناطق الصراعات في دول الشرق. لكن وصل حدتها مع تاسيس الأحزاب القومية بدأ من الديمقراطية الجديدة ومن ثم ديمقراطي السويد والتي تحولت إلى الحزب الثاني في المملكة بعد ضعف حزب المحافظين وكذلك الأحزاب اليمين المؤتلفة جميعاً (الديمقراطي المسيحي، المركز، الحزب اليبرالي) ورغم ان معظم الأحزاب تركوا السياسات القديمة فيما تخص اللجوء في مسايرة واضحة لسياسة حزب ديمقراطي السويد.

هذا واضح في جميع القوانين التي أصدرت خلال السنوات الأخيرة من قبل البرلمان السويدي وجميعا سلبية بالنسبة للمهاجرين وحول المجتمع السويدي إلى طبقتين من المواطنين والغريب ان جميعهم يحملون نفس الجنسية ولكن هناك درجة أولى وأخرى درجة ثانية يمكن سحبها في حالات معينة ويعتبر الأجنبي مجرما إلا إذا اثبت عكس ذلك بينما مواطني الدرجة الاولى هم من الملائكة.

كيف تحول المهاجرون إلى مشكلة اوربية بعد ان كانوا جزء من حل مشكلة سوق العمل وشاركوا خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية في اعادة بناء اوربا والمشاركة في الثورة الصناعية والرخاء الاجتماعي الذي واكب ازدهار تلك البلدان وزيادة الثروة الوطنية للدولة وللأشخاص. فبعد ان كان الاوربين بأنفسهم يبحثون عن قوى أيادي العمل في الدول الاخرى يستقدمونهمً للعمل في دولهم اصبحوا اليوم يطردونهم ويسنون القوانين للحد من الهجرة ونما في تلك الدول قوى السلبية في السياسة حيث يزدهر اليوم الأفكار القومية المتطرفة المنادية إلى طرد اللاجئين وإظهار الأخبار السلبية التي يقوم بها هم وأبنائهم في جميع قنوات الإعلامية والذي أدى إلى ظهور رأي عام معاد الأجانب في جميع الدول الأوربية وحتى دول كانت معروفة باعتدال كالدول الإسكندنافية أصبحت مجتمعات تعادي الإسلام واللاجئين القادمين من الشرق لعدم تمكنهم من التكامل في المجتمعات الغربية.

هنا تجدر الإشارة ان هناك العديد من اللاجئين السياسيين واخرون لجأوا أثناء الحرب إلى الدول الغربية. الجدير بالذكر كذلك ان موازيا لانتشار تلك الاخبار السلبية نرى بانً جميع سياسات والحكومية فشلت في الاندماج وتامين عمل او الاعتراف بشهاداتهم الدراسية العالية لأكثرية من المهاجرين وهذا الفشل ادى كذلك للعودة العكسية لهم لاوطانهم الأصلية او البحث عن وطنً جديد. هذه الأخبار السيئة التي تنشر في الإعلام يعتبرها المجتمعات الغربية جحود ونكران الجميل من قبل اللاجئين للدول والشعوب التي استضافتهم ورد الإحسان لا يكون بنشر الجريمة في تلك المجتمعات، حسب رأيهم . هذا ليس فقط خبر يتداول في الإعلام بل حقيقة وواقع في الأحياء التي يسكنها اكثرية من اللاجئين وخاصة على أطراف المدن الكبيرة في معظم العواصم والمدن الاوربية. تجربتي تعود إلى اكثر من نصف قرن في دول اوربا وملاحظتي للتغيرات في تلك المجتمعات تاتي من تجاربي فبعد ان كان الأجنبي عملة نادرة في السويد ويحصل على امتيازات كثيرة في بداية الستينيات اصبح اليوم مكروها ويتم معاملته بالنظر إلى هيئته وشكله وصولا إلى تميزه حتى في حالة سفره في المطارات. وقد تمً فعلا اتخاذ هذه الإجراءات مثلا في السويد حيث سن قانون "قانون المصادرة للأموال والمقتنيات للأجانب " الذي يمنح الشرطة السويدية صلاحيات غير مسبوقة لمصادرة الممتلكات الثمينة من أشخاص لا يمتلكون مصادر دخل واضحة، حتى وإن لم يكونوا مشتبهين بشكل مباشر بارتكاب جريمة. الجدير بالذكر ان ذلك يشمل مصادرة الأموال والمقتنيات كالسيارات والمصوغات والساعات الغالية حتى في الشارع أو اي مكان اخر . وفقاً للحكومة السويدية فإن هناك كذلك مقترح قانوني ينص على أن "السلوك السيئ " وليس الجريمة .. ستكون سببا كافيا لسحب إقامتك المؤقتة أو الدائمة... وطبعا ليس هناك تعريف للسلوك السئ من ناحية ومن ناحية اخرى من منا لم يخطئ وهل نحن ملائكة على الأرض.

خذ فقط مثلا وبعد دخول قانون الإهانة الشرطة الجديد وبعد ان دخل حيّز التنفيذ في السويد تقدم الشرطة أكثر من 170 بلاغًا ضد مواطنين السويديين ممن أهانوا أفراد الشرطة وذلك فقط خلال أول شهر والقانون يعاقب كل من اهان الشرطة حتى بالسباب او الشتم. أصبحت كذلك المدارس، دوائر الخدمات الاجتماعية، والرعاية الصحية، والبلديات، والمناطق، والجهات الحكومية ملزمة بتسليم المعلومات (إخبارية)– حتى تلك المعلومات التي تقع تحت بند "المحمية بالسرية "– إلى الشرطة والادعاء العام وجهاز الأمن الوطني (سپو) إذا رأت الجهات المعنية أن المصلحة العامة تفوق سرية المعلومات. كذلك تشديد لم الشمل حيث تنتظر الأوساط السياسية والاجتماعية السويدية تقريرًا مهمًا يُفترض صدوره في 25 أغسطس، ويتعلق بإعادة تقييم قواعد لم الشمل الأسري (familjeåterförening). التوقعات تشير إلى مقترحات تتضمن تقليص عدد أفراد العائلة المسموح بضمهم. هذا بالمقابل على ان يكون الشخص يعمل وله سكن وراتب يتعدى كثيرا مقداد التقاعد الشعبي العام بكثير الذي وضع كأساس لحياة محترمة لجميع مواطني السويد . علينا عدم نسيان حجم نسبةً العاطلين عن العمل في المملكة وكل هذا بالطبع سيجعل من المستحيل لم شمل الأسر وهذا ما نراه في الواقع اليوم.

كيف يمكن سن قوانين يقسم مواطني المجتمع إلى قسمين يتم التعامل معهم عن طريق انتمائهم الطبقي؟ او رؤية هولاء مجرمين حتىً دون ان يرتكبوا اي جريمة ؟ كيف يمكن لقوى الشرطة تطبيق القانون وتميز الجاني من هيئته وشكله؟ كيف تمكن الأحزاب من سن تلك القوانين التي قسمت المجتمع إلى مواطنين من طبقة "نحن " ومواطنيها من طبقة "أنتم"؟ وهل هناك تعريف شامل وقانوني للسلوك السيء أو العشائري ؟ كي تسحب جنسيات مواطنين وفقط تشمل هؤلاء ذو الأصول المهاجرة اللذين تركوا بلادهم الأصلية منذ نصف قرن؟ وتبقى التساؤلات حول كون هذه القوانين كلها من روح دستور المملكة واساس دولة القانون؟

***

 د. توفيق رفيق آلتونچي -  السويد

 

تضامن يتخطى حدود الجغرافيا والمعتقد

اليوم، السبت 9 غشت 2025، وجدت نفسي وسط سوق واسع للسلع المستعملة في مدينة خينت البلجيكية، سوق يمتد بين أكثر من عشرة أزقة وشوارع. لم تكن غايتي سوى التجوال، لكن المشهد الذي استوقفني كان أكبر من مجرد متعة النظر في البضائع القديمة. فقد حضرت فلسطين هناك، من خلال الأعلام والكوفية وغيرها من الشعارات التي ترمز إليها. هناك من يضعها على رأسه أو رقبته، وهناك من يلفها على كتفه، وهناك من يضعها على طاولات السلع المعروضة. وقد كان هذا السوق الموسمي واسعًا وممتد الأطراف، فكانت فرصة سانحة لأن أعاين هذا الحضور الرمزي للقضية الفلسطينية عن قرب، وباهتمام بالغ لا يخلو من التفكير في هذه الظاهرة اللافتة، التي ما انفكت تحضر في الآونة الأخيرة في أغلب المدن البلجيكية والأوروبية.

وقد خرجت من هذه التجربة بثلاث ملاحظات جوهرية، تتعلق بالصورة الإيجابية التي آلت إليها القضية الفلسطينية بعد العدوان الصهيوني الأخير، في المخيال الشعبي الغربي بوجه عام.

الملاحظة الأولى هي أن جل، إن لم أقل كل، الذين يلتحفون بالكوفية الفلسطينية ويضعون شعاراتها على طاولات المعروضات وفي أكشاكهم، هم من البلجيكيين/ الفلامنكيين الأصليين، أي غير مسلمين. وهذا ما يظهر من ملامحهم الخارجية ولباسهم الأوروبي، وعيونهم الزرقاء، وشعورهم الشقراء. بل إن بعضهم يتناول كأس بيرة وهو يضع على كتفه أو عنقه الكوفية الفلسطينية. وقد شدني هذا المشهد كثيرًا، وجعلني أستحضر – ربما كأي مسلم آخر – سؤال الحلال والحرام في هذه المسألة، وموقف الفقه الإسلامي من هذا الفعل العجيب الصادر من إنسان غير مسلم؛ يضع الكوفية الفلسطينية على كتفه نصرةً للقضية الفلسطينية، وفي يده كأس خمر! بينما أبناء جلدتنا من المسلمين؛ منهم من هو غارق في البحث عما يحتاجه من سلع وأوانٍ، ومنهم من يساوم حول الأسعار حتى يفوز بصفقة مربحة، وقليل منهم من يهمه حال أشقائه، سواء في فلسطين أو في غيرها من البلدان المنكوبة.

الأمر الثاني هو أن معظم من يساند القضية الفلسطينية في هذا السوق، هنّ من النساء الفلامنكيات والبلجيكيات دون الرجال. وهذه مسألة تحتاج إلى تأمل عميق، وربما إلى دراسة سوسيولوجية. ويبدو للرائي أنهن يتبنين الهم الفلسطيني دون خوف من الأجهزة الأمنية والاستخبارية، ودون اكتراث باللوبي الصهيوني المتغلغل في المجتمع البلجيكي والأوروبي. ويمارسن هذا الحق النضالي عن طيب خاطر واقتناع تام وهمة عالية، حيث يلتحفن بالكوفية بفخر واعتزاز، رغم أنهن غير مسلمات، ولا عربيات، ولا يجمعهن بفلسطين؛ لا الأرض، ولا التاريخ، ولا الثقافة، ولا المعتقد.

أما الملاحظة الثالثة، فيمكن اعتبارها نوعًا من إعادة اكتشاف للحضور الرمزي للقضية الفلسطينية، ليس في هذا السوق فقط، وإنما في مختلف الشوارع والأزقة التي وطأتها قدماي وأنا أتجول اليوم في ذلك الفضاء الشعبي المفتوح، حيث تتعانق الثقافات، وتتقاطع التطلعات، وتتقارب القلوب. وقد سبق لي في مناسبات أخرى أن لاحظت مدى الحضور الرمزي لما هو فلسطيني في مختلف الأماكن والأحياء في المدن البلجيكية والهولندية والفرنسية التي زرتها في السنوات الأخيرة. ويتنوع هذا الحضور بين تعليق راية فلسطين في النوافذ والشرفات، وارتداء الكوفية الفلسطينية، ورسم الجداريات التي تحمل خارطة فلسطين وقبة الصخرة وحنظلة وغيرها.

كنت أظن أن هذا العمل كله من صنع العرب والمسلمين المقيمين في هذه المدن والأحياء، لكنني أدركت اليوم أن جزءًا كبيرًا منه هو من فعل السكان البلجيكيين الأصليين. إنها لغة تضامن صامتة، لكنها عميقة، تعبّر عن وقوفهم مع شعب لا يعرفونه شخصيًا، ولكنهم يرونه مظلومًا، ويستحق أن يعيش في كرامة.

في الختام، إن التجربة التي عشتها اليوم تذكرني بأن القضية الفلسطينية باتت تحظى بمكانة متزايدة في الوجدان الشعبي الأوروبي، حتى بين من لا تربطهم بها صلة مباشرة. فالرموز، مهما بدت صغيرة وبسيطة، قادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتصبح لغة تضامن عالمية. وربما في زمن يتسابق فيه الإعلام والسياسة على تشويه الحقائق، تظل هذه الإشارات الرمزية في الفضاء العام بمثابة شهادة صامتة على عدالة القضية الفلسطينية وامتدادها الإنساني.

***

بقلم: التجاني بولعوالي

صباح يوم 6 آب/ اغسطس تمر ذكرى الجريمة الامريكية ضد الانسانية متمثلة بقصف مدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة النووية، وبعد ثلاثة ايام، مدينة ناجازاكي اليابانية ايضا، والتي تحاول جهات كثيرة، وظيفتها التقليل من الجريمة او التغاضي عنها، بتقسيمها. لا .. الجريمة واحدة والمجزرة واحدة، ولم يتعظ المجرمون بعد منها.

مرت ذكرى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقنبلتين نوويتين ضد مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، دون اهتمام كبير، حيث أجريت طقوس يابانية محدودة، أصبحت مشهدا سنويا مألوفا لدى الدولة اليابانية المتحالفة مع الدولة المرتكبة للجريمة الشنعاء. استعادة للذكرى وتعاز للضحايا وخطب بعدم تكرارها ووضع الزهور على أشباح مدينتيهم. ومثلها أصداء باهتة في بلدان لم تزل تحترق من اضطهاد وظلم الحرب والعدوان والغزو والاستيطان.

كان هذا اليوم من عام 1945 موعد الجريمة الأولى، ألقت الطائرة الحربية الأميركية أول قنبلة ذرية تستخدم في تاريخ البشرية، بعد ثلاثة أسابيع فقط من امتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لهذا السلاح وتجريبه في صحراء نيومكسيكو. وبعد ثلاثة أيام فقط ألقيت القنبلة الثانية فوق مدينة ناجازاكي. وتركت القنبلتان دمارا كبيرا وقتلى وصل عددهم إلى حوالي مائتين وخمسين ألفا من السكان المدنيين (عام 1945). وبعدها أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان في الرابع عشر من آب/ أغسطس استسلام اليابان بدون شروط، وفي الثاني من أيلول/ سبتمبر انتهت الحرب العالمية الثانية، وأعلنت الإدارة الأمريكية انتصارها، محتفلة باستخدام السلاح النووي ضد سكان المدينتين، وإلحاق الدمار والموت والخراب العام في اليابان والعالم.

فهل يكفي الاحتفال والتذكير بالمناسبة، أم يجب رفع شعار دائم كجرس إنذار: تذكروا دائما المأساة الرهيبة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية ضد البشرية، ولا تنسوا جريمة الحرب هذه والإبادة الجماعية التي تمت فيها، والتي لا يمكن أن تمر ذكراها بيومها فقط ويصمت العالم عليها ليفاجأ كل مرة بأمثالها وبأشكال أخرى؟!. إن ما حصل في اليابان ماضيا يتكرر بصور وبوسائل أخرى، من قبل الدولة المرتكبة، ولم تتوقف الحرب العدوانية، والمصطلحات التي أستخدمها المعتدون على الشعوب التي تحاربهم أو تدافع عن أراضيها أمام غزوهم وهيمنتهم وأفكارهم الشريرة. فكل من يقاومهم عدو عندهم ويشيعونه في إعلامهم الناطق بمختلف الألسن بما فيها لغة الضحايا، وكل من يدافع عن حقه ويقاتلهم إرهابي ومخرب ومسلح ضدهم يتوجب القضاء عليه، فردا أو شعبا، بلدا أو عالما بشريا. وما زالت هذه الدولة هي الدولة الأكثر مبيعا للأسلحة المحرمة في العالم والتي فرضت استفرادها على السياسة العالمية وتقود المذابح البشرية بنفسها أو بالريموت كونترول، في كل أرجاء المعمورة، وتضع خططها الوحشية في مسميات تعبر عن عدوانها وجرائمها المرفوضة قانونا وأخلاقا وعرفا دوليا وإنسانيا.

حين ظهر في المدينتين المنكوبتين دخان الموت والدمار والرعب وحدث ما حصل خلفه، كان المؤمل أن تتوقف تلك الشهية الدموية وتتعلم من دروس تلك الكارثة البشرية، ولكنها عمليا تزداد شراسة وجشعا ونهبا ورغبة مريضة في إشاعة ذلك الدخان القاتل بأشكال متعددة ونشر رائحة الموت والخراب بالخديعة والغش والكذب والاحتيال وكل الوسائل المدانة. وللمفارقة يعلن أمين عام الأمم المتحدة، أهمية التصدي لانتشار الأسلحة النووية ويشدد باسم منظمته الأسيرة عدم التسامح مع صنع الأسلحة النووية، اكثر من مرة. ولكن ظلت الدعوة لفظية ما دامت الولايات المتحدة هي التي تسيّر شؤون المنظمة وما يسمونه شرعية دولية حاليا، بينما يتطلب لمثل هذه الدعوة العمل العاجل على تحقيقها لحماية ملايين من البشر معرضين للإبادة بأشكال مختلفة من تلك الأنواع من الأسلحة التي تنتجها أو تخطط لها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها. وللمفارقة المضحكة الان انتقد دونالد ترامب منذ كان المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية انتقد اليابان لعدم تسديدها ما يتوافق مع حمايتها الامريكية والقواعد والجنود الامريكيين في اراضيها!. واليوم يطالب اليابان دعوة الكيان الصهيوني للحضور في الاجتماع المقرر للذكرى، ويرفض الحضور مع حكومات غربية اخرى احتجاجاً على الموقف الإنساني الياباني.

في ذكرى المجزرة البشعة تظل صور الضحايا التي صورت وانتشرت الآن عبر وسائل الإعلام والتقنية الإلكترونية شاهدة على تلك الجريمة ومنددة بمن يواصل مسعاه لتكرارها بأساليب أصبحت واضحة لكل مبصر حقيقي. وهذه الصور المتبقية والأشخاص الأحياء منها دليل إثبات وحكم مسبق على ارتكاب جريمة الحرب والإبادة الجماعية والقتل العمد للسكان المدنيين الآمنين، كما يحصل اليوم في اكثر من منطقة من الكرة الأرضية، خاصة في غزة العزة.

كما صدرت كتب ومذكرات ومشاهدات عن المدينتين الضحيتين، وأنتجت أفلام وعروض ومشاهد سينمائية ومسرحية وتلفزيونية، ولكنها مرة أخرى ظلت محصورة في أماكنها ومناخاتها، وظلت أيدي الإدارة والمسؤولين عن الجرائم طليقة دون محاكمات وعقوبات رادعة، وما زالت كذلك رغم كل الدروس والعبر والتجارب، ورغم الحراك الشعبي والتضامن العالمي ونضالات القوى السياسية المناهضة للحروب والغزو والاحتلال. بل واصلت ادارات تلك الدول برامجها، وحتى في زياراتها لليابان او لنُصب المدن المنكوبة، لم تعتذر عن جرائمها ولم تعد بتغيير مناهجها العدوانية وحروبها المستمرة.

قالت شيغيكو ساساموري، إحدى ضحايا هيروشيما في مقابلة تلفزيونية لها في الذكرى الستين للجريمة، وهي ترى ما يحصل من جديد: "مرت كل هذه السنين على سقوط القنبلة، ستون سنة انقضت، ولم يتعلم الناس بعد من هذا الحدث لاسيما الأميركيين الذين واصلوا إلى يومنا هذا صنع القنابل النووية، (...) ما قامت به أميركا كان جرما لا يغتفر لذلك أشعر بقوة وأدعو الناس بشدة أن يفتحوا قلوبهم وأعينهم ليطلعوا على ما يجرى من حولهم اليوم، الحرب شيء مريع وعلينا أن نتعلم من الماضي بل أكثر من ذلك علينا أن نحمد الرب لأجل معارضة الكثير من الأميركيين والناس الطيبين للحرب والأسلحة النووية، لقد التقيت بنشطاء السلام وآخرين كلهم ناهضوا هذه الأمور وكل هذا يفعمني بالأمل فتراني أتوسل للناس أينما التقيتهم بأن يحاولوا جهدهم وأن يعملوا سوية لوضع حد للحرب النووية".

لم يتوقف السباق النووي وما زالت الدول "الكبرى" تنتج وتبيع أنواعا من الأسلحة النووية والفتاكة، وتجرب وتطور أسلحة جديدة ضد البشرية. ولهذا لابد من تذكر دائم لهيروشيما وناجازاكي، والاعتبار منهما وأن تمنع الضمائر الحية في هذا العالم سوية تكرارها، وتنتصر لحركات تحرر الشعوب الرازحة اليوم ضحايا لأشكال أخرى من تلك الجرائم ضد الإنسانية.

***

كاظم الموسوي

"الحداثويون" المتحدرون من تيار "النهضة الزائفة" النقلية، وبالذات منهم "الايديلوجيون" القوميون، والليبراليون، والماركسيون، لايزالون موجودين كاحزاب وتجمعات بغض النظر عن ترديها ولافعاليتها، وفي بعض الاحيان اندماجها بالمشهد الحاصل الحثالي الطائفي والقبلي الريعي كما حال مايطلق عليه اسم الحزب الشيوعي العراقي، من دون اية بادرة او اشاره الى السياقات التي افضت الى ماهو حاصل وحال على الواقع العربي عموما، وبالاساس النظر الى التاريخ الحداثوي العربي، ذلك الذي يؤرخ مع النهضة الالية الاوربيه، وبداياتها بعد القرن السابع عشر،  وماولدته من انعكاسات ببغاوية، اعتاشت على اشتراطات الانحطاطية الحالة على المنطقة ومتبقياتها منذ القرن الثالث عشر، مع سقوط عاصمة الدورة الثانية  الامبراطورية الكبرى بغداد عام 1258.

والغريب ان مايعرف بالنهضة الكاذبة المتماهية  مع الاخر، ظلت ترفع عنوانا عريضا يقول " لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟"، من دون اية نيه او بادرة تدل على رغبة لتجشم مغبة الاجابه، الامر الذي يثير الاستغراب، لابل التعجب مما كان غالبا وسائدا في حينه من نوع تفاعل مع التغيرات العالمية الطارئة وانعكاساتها، ما يفرض حكما التساؤل: كيف يجوز طرح سؤال كالذي ذكرناه من دون ان يجاب عنه في حينه،  بينما تغلبت الميول للا تباع ولاعتماد المتاح والمتوفر من نموذجية وتفكر غربي جاهز، وصولا الى الصيغ النقلية الحرفيه الايديلوجية، وهو ماقد شمل الدول، ومفهوم "الوطنيه" بصيغتها الزائفة التي عمت المنطقة خلال القرن المنصرم وماتزال معتمده مفهوما، بغض النظر عن مخالفة المترتب عليها للكينونه البنيوية للمنطقة واليات تاريخها، ونوع تعبيريتها.

لم يحدث على الاطلاق ان تمخضت "الحداثوية" المستعارة عن اية محاولة للتعرف "الحداثي" على الذات التاريخيه، في حين عمت الافتراضية التاريخيه والطبقية المنقولة بحسب النموذجية الغربية الاوربية، مع الحرص على اسقاط كل "خصوصية"، وقد غدت من قبيل الجريمه علما بان الحديث يجري هنا عن موضع هو مركز البدئية المجتمعية والتبلور التاريخي المجتمعي النهري النيلي الرافديني على مستوى المعمورة، وهو المعترف به من قبل الغرب نفسه بغض النظر عن طريقتة في تشويهه من منطلق الابقاء عليه منطويا تحت وطاة المركزية الاوربية  المفتعلة،  والتي صارت مبررة  اليوم بقوة مفعول الاله قبل وصولها الى بقية انحاء العالم وللمنطقة بالذات. فكان مايقرأ لهذه الجهه تحيزا لصالح طرف دخلته الاله مقابل اخر مايزال محكوما لماقبل، الى الطور اليدوي المنقضي، وهو ماقد ظل الغرب يكرسه من دون ان نسمع كمثال، عن رغبة من اي نوع لدى الاوربيين او بعضهم، تقول بان بداية الاله ومفعولها ليس نهاية، وان بقية اجزاء المعمورة مهيأة هي الاخرى لدخول هذا الطور من تاريخ المجتمعات، مع ما يمكن ان يرافق ذلك من متغيرات منتظرة حتما، ولابد من ان تحصل ضمن اجمالي عملية الانتقال  الالي التاريخي، وان بديناميات مختلفه، تلك التي لم تكن قد اكتملت اسباب تحققها وقتها، بل بدات الخطوة الاولى من ولادتها في جزء بعينه من العالم قبل غيره، له مواصفاته وتكوينه البنيوي، وما يتوقع منهما من طريقة تفاعل مع الانقلابيه الحاصلة، بما في ذلك النزوع الى المصادرة الاقرب للتملكية الخاصة،  باعتباران الاله وجدت اوربيه من قبيل الخصوصية، والاستثناء الذي لاتاريخ بعده او يترتب عليه.

فالغرب لم ينظر للحاصل في رحابه عالميا، سوى بمنطق الهيمنه والغلبة، مع التميز الموكول الى القوة والقدرة وماقد صار متاحا منها، ومثل هذا المنطلق لاشي يوصله بادعاء "العلموية" و "التقدميه" في حال اخذها بمنطق المستجد الحاصل، من منطلق المتغير الشامل على مستوى المعمورة، بوسائل مختلفة عن تلك التي اعتمدها الغرب بالهيمنه والقوة والاستعمار، تحت ذريعة مامعدود على انه " تقدم" ونموذجية من نوع " الديمقراطية التي تسمح لراسماليتها ودولتها باحتلال غيرها واستغلاله ونهبه"، والاهم الاخطر في التوهميه التي اعتمدها الغرب ابان بدايات الانقلاب الالي، هو الاحتمالية المجتمعية من زاوية مفعول وسيلة الانتاج، اليدوية الاولى، والمتوقع المفترض حلوله من هنا فصاعدا، وباي وجهة هو سائر بما يخص الحقيقة المجتمعية واحتمالات تبدلها  نوعا.

وهنا يظهر مدى جهل الغرب الذي نعرفه  بالحقيقة الالية وابعادها، وعجزه عن مواكبة ابعادها، وهو قصور اساس رافق الظاهرة الانقلابيه،  ولم يكن هنالك فيما يمكن تحرية او الاستناد اليه وقتها، مامن شانه جعل العقل الغربي يتعدى نطاق " الالة المصنعية" ومامتولد عنها في حينه على اعتباره حقبة لاحقة على اليدوية، بلا احتمالية تشكلية تتغير بموجبها الاله وماينجم عنها، من نوع التكنولوجيا الانتاجية الحالة اليوم، او مايمكن ان يتبعها من طور تكنولوجي اعلى، مايجعل من النظر الى الانقلابيه الحاصلة مختلفة كليا، وفي حال تصير على مستوى الادراكية اللازمه، قد لايكون الغرب نفسه مهيئا تكوينيا للتعامل معه  بمقتضاه، من دون استبعاد احتمالية ان يكون مثل هذا التفاعل الحي مضمرا، ومن الممكن ظهوره في مكان اخر، وفي مرحله اخرى من مراحل التشكلية الاليه، بما يجعل من الحدث مدار البحث  غير مقصور على اوربا، لابل وبعيد عنها اذا اخذنا الامر من ناحية الاكتمال وتكشف الحقيقة التاريخيه المجتمعية التحولية الحالة على البشرية كافتتاح وقتها.

من ابسط مقتضيات النظر للانقلابيه الحاصلة مع الالة، اعتماد مبدا التحولية الانقلابيه المجتمعية لا الانتاجية الصرفة، فالطور اليدوي من تاريخ المجتمعيات لم يكن طورا دخلته وسيلته الانتاجية من خارجه، او وهو كامل التشكل، بل هو قد تشكل بها واستنادا لممكناتها كتجمع بشري ارضي  وسيلته الانتاجية تحدد نوعه وطبيعته الحاجاتيه الجسدية المادية، فاذا غابت الوسيله  فان البنيه المجتمعية لاتظل هي ذاتها نوعا، خصوصا مع الانتقال من حالة المجتمعية (الكائن البشري + البيئة)، الى (الكائن البشري + البيئة + الالة)، والاخيرة عنصر مختلف من نوع وطبيعة مغايرة للاولى، معها يستحيل تصور بقاء المجتمعية او استمرارها كما كانت بنيويا، وبصورة خاصة، ارضويا.

فالى اين تسير الظاهرة المجتمعية مع الاله؟ هنا نقع تحت طائلة احدى اخطر النقائص، واكبرها قصورا عقليا ابتدائيا، لايشمل الحداثيين الشرق متوسطيين العرب  لوحدهم، فالقصور العقلي ازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، وحركتها التفاعلية ومنتهياتها، نقيصة شامله، واقعه على العقل البشري في طوره الاول "الانسايواني" الانتقالي، مع ان مسؤولية وشكل تجلي هذا النقص في اصل ومنطلق البدئية المجتمعية في هذا الجزء من المعمورة، اشد وطاة، ويتعلق بالذاتيه الباقية بلا  مقاربة، ومن دون كشف للنقاب، يتكرر الوقوع تحت ثقله الخطير اليوم متحولا الى مناسبة للتماهي مع الاخر قصورا وعجزا، باسم "النهضوية" الزائفة.

***

عبد الأمير الركابي

مع الكاتب والمحلل السياسي عبد اللطيف سيفاوي

أوراق فكرية مهربة بطابع ثوري في زمن الحصار، هي رحلة إبداعية جديدة في الوضع الاحترافي، وعندما يصل الكاتب إلى هذا الوضع فقد دق باب الخطر، هي مغامرة قلم أبي ألا يصمت، ليواصل نضاله من أجل قضية مؤمن بها، يدافع عنها مهما كانت مخاطرها أو نتائجها، تلك هي الرحلة التي خاضها رجال المواقف خاضوا معركة حاربوا فيها الغطرسة التي تمارسها أنظمة القمع الفكري والسياسي، يقول المفكر عبد اللطيف سيفاوي إنّ من أكبر تحدياتنا اليوم أن نعيد ربط النفوس بقضايا مشروعة وأهداف تتجاوز الأنا، يمكن القول ان عبد اللطيف سيفاوي مناضل ذو وزن ثقيل، له مقالات عديدة عالج فيها العديد من القضايا نشرت في مواقع إلكترونية وجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يعتبر من أبرز أعضائها

في أوراق الكاتب والمحلل عبد اللطيف سيفاوي نقف على مجموعة من المفاهيم وظفها الكاتب كمفهوم (الثقافة، المثقف، النخبة، الصفوة، الجماهير، التوتر الخلاق، الحداثة، النهضة، التقدمية، المشروعية، الإلتزام، التأثير، التغيير، التجديد، الفاعلية، الوعي)، وغيرها من المفاهيم التي ينبغي تحليلها وربطها بالواقع المعاش، ثم غرسها في الضمير العربي، في ظل الصراع الدولي وسباق التسلح بين الدول وما يحدث في الساحة الدولية، وتناقض الافكار والتوجهات ففي منشور له بعنوان: "حين يغيب التوتّر الخلاق" يطرح فيه سؤال: لماذا نعجز عن تجاوز أنفسنا؟، يقول أنه ثمة توتّر داخلي ضروري لكل نهضة: انشداد نفسي يولد الفعل ويشحذ الإرادة لتجاوز الذات وخدمة أهداف عليا، اليوم، يغيب هذا التوتّر في بيئتنا الاجتماعية والثقافية، فتتراجع روح الالتزام وتذوي دوافع التضحية، لم تعد البيئة الرمزية التي فشلت في أن تكون القدوة وهي تواجه رياح التغيير والحداثة وأضحت غير قادرة على بعثّ المعنى أو إلهام النفوس كما يقول هو، حيث اكتفى كثيرون بالسعي الفردي نحو مصالحهم الخاصة، ومع مشروعية هذا السعي.

لقد ظل هؤلاء عاجزون عن خلق حركة جماعية تدفع المجتمع للأفضل، ولذلك فإنّ من أكبر تحدياتنا اليوم أن نعيد ربط النفوس بقضايا مشروعة وأهداف تتجاوز الأنا، وأن ننعش ذلك التوتّر الخلاق الذي يصنع الالتزام ويؤسس لأيّ نهضة حقيقية، عن مفهوم النخبة ودورها في عملية التأثير وهو ربطٌ أثار كثير من التفاعلات لدى القراء، رغم وجهاته فهو يطرح إشكالات عديدة واضحة، حيث يُعَرِّفُ الأستاذ سيفاوي مفهوم التأثير على أنه المعيار الوحيد، يصبح العالمُ قليلُ التأثير خارج تعريف النخبة، ويصبح الجاهلُ المؤثر أو الشعبوي داخلها!، الإشكال حسبه ربما يكون ناتجا عن تصور واسع بأن "النخبة" مرادفة لـ"الصفوة" ذات الحمولة الإيجابية، بينما الواقع أكثر تعقيد، بحيث يمكن أن تكون النخبة صالحة مصلحة، كما يمكن أن تكون فاسدة مفسدة، من هنا، يصبح من الضروري ألا نكتفي بتعريف واحد للنخبة، بل ننفتح على تصنيفات ضرورية: (نخبة فاعلة وأخرى مغيبة، نخبة ملتزمة وأخرى انتفاعية، نخبة شعبوية وأخرى واعية..الخ) ونضيف نحن نخبة ثورية (ثائرة) وأخرى ذيلية (سلبية وتابعة)، وهكذا يصبح التأثير عنصرا مهما، نعم، لكنه ليس المعيار الوحيد في فهم من يكون من النخبة فعلا، يطرح عبد اللطيف سيفاوي تساؤلاته ويبقيها مفتوحة: أين نخبتنا؟ ولماذا ابتعدت عن الفعل والتأثير؟ وهل تغيّبت، أم غُيّبت، أم اختارت الانعزال؟، في الحقيقة لم يحدد عبد اللطيف سيفاوي عن أيّ نخبة يتحدث، هل عن النخبة المثقفة التي يطلقون عليها اسم " الإنتلجنسيا"؟ أم النخبة الدينية ممثلة في رجال الدين؟ أم النخبة العسكرية (الجيش)، أم الطبقة السياسية؟ أم هناك نخبٌ أخرى، التي نجدها في المنظومة القضائية وهذه الفئة لها سلطة القرار وصناعته، من خلال سَنِّهَا النصوص التشريعية (القوانين) وما إلى ذلك، هذا التنوع قد يقود إلى خلق نوع من التوتر، لدى الفرد أو المجموعة وعلى كل الأصعدة والمستويات، خاصة المستوى السياسي، باعتبار أن هذا الأخير هو حالة من عدم الاستقرار والترقب في العلاقات بين القوى السياسية المختلفة، سواء كانت داخل الدولة أو بين الدول.

نُخبٌ غائبة أم نخبة مغيَّبة؟

يجيب عبد اللطيف سيفاوي، وربما يكون ردا على تساؤلات من سبقوه من الذين يحملون في قلوبهم الألم والوجع لتراجع الأمّة، بل سقوطها في فخ القابلية للإستعمار على حد قول مالك بن نبي، بعد أن استمع إلى محاضرة مهمة حول "النخبة وضرورة التجديد"، وبالنظر لما تتميز به هذه الفئة (النخبة) من فعالية، من منطلق الأدوار التي تمارسها في المجتمع، فقد أثارت لديه ملاحظتين جوهريتين: الأولى تتعلق بمصطلح النخبة في مفهومها العملي، وإن كانت قائمة على معيار التأثير أم لا، وهل من يؤثر في مجتمعه يعدُّ من النخبة؟ ومن لا يُؤثّر هو ليس منها ولا ينتمي إليها، مهما بلغت معرفته أو شهاداته، ونحن نتابع منشوراته، نلاحظ أن عبد اللطيف سيفاوي يرفع كل التحفظات في التعريف بمفهوم النخبة، إذ يراه كاشفا عن عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية، فبناءً عليه، تقصى شريحة واسعة من المتعلمين وأصحاب الكفاءات من دائرة "النخبة"، فقط لأن تأثيرها في المجتمع محدود أو غائب، وهذا لا يُدين هذه الفئة بقدر ما يطرح سؤالًا أخر وأكثر إلحاحا: لماذا فقدت النخبة قدرتها على التأثير؟ وما الذي عزلها عن الناس والواقع؟ ويصل الكاتب إلى مَخْرَجٍ وهو أنه إلى جانب التجديد، يفرض الواقع علينا أن نبحث عن أليات نعيد بها القيم التي تراجعت أو التي فقدناها بل ضيعناها: (قيم التضحية، الإخلاص، المسؤولية، خدمة الناس..الخ)، فنجده يضع عنوانا إشكاليا مناسبا لتحريك الضمير العربي وإيقاظه من سباته وهو: " دعوة النخبة إلى التجديد"، في حين أن السؤال الأوْلى هو: هل النخبة حاضرة أصلا؟، أي إثبات وجودها وإن كاان تفاعلها مع المجتمع يسمح لها بأن تؤثر وتُجدّد؟

ثقافة الحد الأدنى: كيف نخذل مشاريعنا بأيدينا؟

في هذه الورقة يطرح عبد اللطيف سيفاوي أزمة المثقف، وهو يغرق في التناقضات والضدّيّة إن صح التعبير، يقول عبد اللطيف سيفاوي: " في مشهد متكرّر على امتداد المجتمعات المتعطشة للتغيير، يبرز نمط سلوكي غريب: حماس في الخطاب، وفتور في الفعل، نعلن عن نوايانا الإصلاحية، نرسم الأهداف الكبرى، نملأ الفضاء العام بالشعارات، لكن حين يأتي وقت الفعل، نلجأ إلى الخدمة في حدها الأدنى، ذلك الحد الأدنى من الجهد الذي لا يُغير شيئا، لكنه يُسكن الضمير مؤقتا، هذه الظاهرة، التي نعيشها ونشارك فيها بوعي أو بغير وعي، تفرغ الفعل الإصلاحي من محتواه الحقيقي، فنحن لا نعمل بما يتناسب مع حجم الأهداف التي نرفعها، بل نكتفي بحركة رمزية، بادرة سطحية، أو مشاركة شكلية، وكأننا نحاول إقناع أنفسنا أننا "قمنا بالواجب"… في حين أن الواقع يبقى على حاله، أو يزداد سوءا"، ربما نقف معه في هذا الرأي، لأن المبادرات في الفضاء المدني رغم أنها تنطلق بنية حسنة، لكنها سرعان ما تُختزل إلى مظاهر أو مناسبات هي في الواقع شكلية وموسمية، تُحدَّد الأهداف لا لتتحقّق أو تكون مشروع مجتمع يتُجسَّدُ في الميدان بل لتعطينا وهم الوعي والجدية، وكما يقول هو، فقد يكون لنا إدراك بما نريد، أو نُقنع أنفسنا بذلك، لكن بعدنا عن "عالم الأشياء" يجعلنا لا نتجند فعليا لما نريد، وهنا تتكرّر المفارقة: كيف نطمح للتغيير دون أن نُغيّر ذواتنا ونطور أدواتنا؟ كيف نحلم بواقع جديد ونحن نكرر السلوك القديم؟ يشير عبد اللطيف سيفاوي إلى دور " الفاعلية"، في أبسط صورها، وهذه الفاعلية استمدها من الفكر البنّابي، لكنه أعطاها بعدا جديدا، فهي في نظره تعني أن يُبذل الجهد المناسب لتحقيق الهدف المنشود، وأن أيُّ إصلاح لا يبنى على هذا التناسب هو مجرد خداع للذات، لأننا لا نريد أن ندفع الثمن الحقيقي للإصلاح، ونحن نقود الحراك المدني، ويبقي السؤال الجوهري هو: هل نحن مستعدون لبذل الجهد الذي يتناسب مع هذا الذي نريده؟

ما هو معلوم أن الكاتب والمحلل عبد اللطيف سيفاوي من المتأثرين بفكر مالك بني، فهو عضو في الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية، وعضو بارز في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكاتب مقالات تناول فيها القضايا العربية المطروحة برؤية واقعية واستشرافية للمستقبل، وقد لقيت جدلا واسعا، لاسيما القضايا المتعلقة بالهوية والعرقية، نقرأ على سبيل المثال لا الحصر المقالة الموسومة: "الاستعمار الفرنسي والقضية البربرية"، وفي منشوراته نجده يتكلم بلغة الوجع وهو يقف على وقت مضى (ولا يزال) كانت فيه مؤلفات مالك بن نبي مُحَاصَرَة، لا تجد طريقها إلى القارئ إلا سرًّا أو بجهد مضنٍ، كانت الأسماء المروّجة حينها تُمنح أولوية العرض والانتشار، لا لقيمة ما تكتبه، ولكن لتوجهاتها الأيديولوجية المتناغمة مع السياق الثقافي الرسمي أو مع أهواء "النخبة" المتغربة، من بين هؤلاء، من رأى في إلحادِه وتنكره للإسلام ورسوله عليه الصلاة والسلام عنوانًا للتقدمية، ومن موقع هذا الادعاء حكم على مالك بن نبي بالرجعية، دون أن يكلّف نفسه عناء قراءة كتبه أو فهم مشروعه، كم هو جميل أن نعتز بفكر مالك بن نبي ونسترجع مأثره وهو ما قام بها هذا الكاتب وهذا يكفيه أن ابن نبي يرى أن نهضة الأمة لا تُستورد، بل تُبعث من داخلها، من قيمها الحضارية وروحها الدينية، ليحكم عليه بالإقصاء، إن مأساتنا يقول عبد اللطيف سيفاوي مزدوجة : مثقف صامتٌ، وجمهورٌ منصرفٌ، فحين تفقد الأمة حاجتها إلى الكلمة الهادية، وتزداد شهية الجماهير للسطحي والمثير، تصبح الكارثة ثقافية جماعية، لأن الثقافة ليست عزلة فكرية، بل مسؤولية اجتماعية، كما هي ليست انسحاب إلى الفكر، بل نزول إلى الميدان وانخراط في الواقع، وارتباط حيٌّ بقضايا الناس وهمومهم، ولو يحدث العكس حينها تصبح القرارات أدوات استفزاز، وإن ذلك يكشف أن صانعي القرار قد فقدوا الإحساس بنبض مجتمعهم.

***

علجية عيش الجزائر

يبدو أن الخوض في موضوع العلمانية من طرف بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء قد قاد البعض الى خلط كبير زاد المفهوم ضبابية وعاد بنا الى الدرجة الصفر من الدّراسة والتحليل ومحاولة الكشف. إذ ان كثيرا من المقالات التي تناولت الموضوع خلطت بين العلمانية واللائكية واعتبرتهما، اصطلاحا على الأقل، الشيء نفسه. وفي اعتقادي أنهما مختلفتان تماما سواء في المفهوم او حتى في زمن الظهور فالعلمانية ظهرت عند الفلاسفة اليونانيين قبل الميلاد داعية الى إعطاء الانسان حقّه في وضع نظم وقوانين وتشريعات تمكّنه من تصريف أعماله وتحديد قيم الخير والشر والمصالح والمضارّ، دون اعلان حرب مقدّسة على المقدّسات ودون صراع ضدّ الدّين الذي لا يتعارض، حسب رأيهم مع هذه الدعوة.

في اعتقادي ان الإسلام دين علماني، يتجلى ذلك من حديث  الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان من أوائل العلمانيين وسأبين ذلك بعد أن أذكّر بأن العلمانية (بكسر العين أو بفتحها) هي عقليّة (état d’esprit)  ومبدأ أو نظام سياسي أو طريقة تسيير وتسييس وليست منهجا أو دينا يدين به أتباع  وهي تعني أيضا الدنيويّة أو الدّهرية وتتلخّص في كونها طريقة تمكّن الانسان من استثمار معارفه التي جمعها وحفظها عن طريق المعرفة والعادات والتقاليد والعائلة والمجتمع والتربية المدنية والتربية الدينية واستعمالها  قصد القيام بشأن دنيوي يعني تسيير شؤون الحياة بما في ذلك أداء الشعائر الدينية. بلغة أكثر بساطة وأكثر وضوحا يحتاج المسلم الى العلمانية كما يحتاج الى المعرفة للقيام بواجباته الدينية. قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ولعلّ هذا الحديث النبوي الشريف خير دليل على اللقاء الثلاثي: العلم، الدين، الشأن الدنيوي.  لهذا سمى بعضهم العلمانية بالدنيوية (secularism).

أما اللائكية (laicus) فقد ظهرت في أوائل عصور النهضة في أوروبا احتجاجا على الكنيسة التي كانت تحتكر السلطة. فجاءت لتمنع الحاكم من استخدام الدين لفرض سيطرته على الشعب شعارها: لا تحكمني باسم الدّين. وكما نرى ونفهم أن منع استخدام الدين في سياسة الشعب لا يعني انكاره أو محاربته وانما عدم العمل به في سن القوانين المنظمة للدولة ولا تعني أيضا اقصاءه من حياة الناس فالفرد حرّ في اعتناق الدين الذي يريد وفي ممارسة طقوسه وعبادة ربّه. ولعلّ في دعوة الإسلام الى العلم والعمل دعوة الى اعمال العقل والتفكير" ورد في القرآن: "اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم". و"انما يخشى الله من عباده العلماء". و"يرفع الله الذين امنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" و" قل ربي زدني علما" ونجد في الحديث: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. و" من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع". و" من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا الى الجنة".

لا يشك أحد في ان الإسلام دين علم وعمل ولا يتأتى العمل الا بالمعرفة وان الفعل في الأرض والمجتمع هو الذي ينفع الانسان وان العلم يقربه من الله وان إدارة الشأن العام بالعقل لا يتناقض مع الايمان بالله بل يزيد الامة قوة.

ألم تشكّل الصحيفة التي صاغها الرسول في المدينة اول دستور مدني وعلماني عالج من خلاله قضايا تنظيمية إدارية دون مساس بالعقيدة وأنشأ بها مفهوم الأمة والدولة المدنية وأعطى الأولوية في تسييرها الى العقل والحكمة فتعامل مع اليهود في المدينة كما يفعل رجل الدولة المتبصّر الحكيم.

أردنا في هذه السّطور دعوة الباحثين الى مزيد من الغوص في المفهومين وعدم الخاط بين اللائكية والعلمانية.

***

د. المولدي فرّوج

فتح تأسيس الصحافة الماركسية، آفاقا جديدة ادت إلى تطوير دور الإعلام، فأصبح يعبر عن مصالح المواطنين وهمومهم الحياتية وحاجاتهم الاجتماعية والثقافية وطموحاتهم السياسية، بعد أن كانت الصحف الوطنية منشغلة بالتعبير عن مصالح النخب المتنفذة والعوائل السياسية وصراعاتها من أجل السلطة، وقليلة الاهتمام بالجماهير ونضالها المطلبي. وبغية تحقيق ذلك، اعتمدت الصحافة الماركسية منذ تأسيسها أسلوب النقد والمعارضة الدائمة لسياسة السلطات المعادية لمصالح أغلبية المواطنين. وقد انتهجت لهذا الغرض أساليب متنوعة منها: ـ

1. توعية المواطنين من مختلف الفئات الاجتماعية بحقوقها وأهمية النشاط من اجل تحقيقها.

2. التعريف بالنشاطات الاحتجاجية التي يقوم بها المواطنون للضغط على السلطات الحاكمة لتلبية حقوقهم، وخاصة تغطية نشاطات منظمات المجتمع المدني، كالنقابات والمنظمات المهنية.

3. دعوة المواطنين لتنظيم أنفسهم في نقابات وجمعيات للدفاع عن حقوقهم، ومطالبة السلطات الحاكمة بتلبية مطالب الشعب في حرية التعبير والرأي والعقيدة وتكوين الأحزاب الوطنية.

4. نشرت الوعي الديمقراطي الثوري وفضحت عيوب الديمقراطية الليبرالية وكيف أن ممارستها تقتصر على النخب الحاكمة وأعوانها وتحرم عامة المواطنين من ممارسة حقهم في الوصول إلى البرلمان الذي نص عليه القانون الأساسي/ الدستور الصادر عام 1925.

5. التأكيد على وحدة قوميات الشعب العراقي والدفاع الجريء عن الحقوق المشروعة للقومية الكردية والدعوة لتعزيز النضال المشترك للقوى الوطنية.

6. التحريض ضد التدخل البريطاني في شؤون العراق الداخلية الذي اتخذ شكلاً جديداً، بعد إعلان الاستقلال الشكلي للعراق عام 1932.

7. النضال من أجل وحدة الشعوب العربية من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، والتحذير من مخاطر الصهيونية على حقوق الشعب الفلسطيني، وقد برزت بهذا المجال، جريدة "العصبة"، لسان حال "عصبة مكافحة الصهيونية " التي اسسها عدد من الماركسيين العراقيين في عام 1946.

8. الكتابة بأسلوب ولغة مفهومة عن هموم المواطنين ورؤية الحزب الشيوعي لتحقيقها.

وقد مثلت كتابات قادة الحزب في تلك الفترة، يوسف سلمان يوسف، فهد، و حسين محمد الشبيبي، نموذجاً جديدا في الكتابة الصحفية، التي تمزج بين الفكر والرؤية الصحفية واللغة السلسة في تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد كان الرفيق فهد، مدرسة في العمل الصحفي الوطني بأسلوبه البسيط ولغته التي كانت تتضمن الكثير من الأمثلة الشعبية، القريبة من وعي الناس وهمومهم،  والتي غالباً ما تكون خالية من العبارات والمفاهيم النظرية المجردة، وتميزت بقوة الحجة والاقناع، لذلك تركت كتاباته أثرا تحريضياً وتنويراً، ليس في أوساط أعضاء الحزب وأصدقائه، بل بين عموم المواطنين، خاصة الكادحين منهم. وهنا أشير إلى نموذج من كتاباته عن العلاقة بين الصهيونية والفاشية حيث يقول: الفاشية بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفوضى في أنحاء المعمورة وورطت شعوبها وأولعت بهم نيران حرب عالمية لم تتخلص أمة من الأمم من شرورها. والصهيونية، بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفتن والإرهاب في البلاد العربية وغررت بمئات الألوف من أبناء قومها وجاءت تحرقهم على مذابح أطماعها.. وكان من نتائج أعمالها المجرمة أن حولت فلسطيننا العزيزة إلى جحيم لا ينطفئ سعيره ولا تجف فيه الدماء" (كتابات الرفيق فهد ص 1).

إجمالاً، كانت الصحافة الشيوعية، منبرا مهما، في التوعية الاجتماعية والعمل التنويري ضد الجهل والخرافة، ومعلماً بارزا في الدفاع عن مصالح المواطنين وخاصة العمال والفلاحين والفئات الفقيرة والمهمشة.

إن هذا النهج الذي اختطته الصحافة الماركسية، بعد ظهور صحيفة كفاح الشعب في تموز 1935، ليس جديدا في النشاط الصحفي العراقي، مارسته بشكل خاص صحيفة الاهالي، التي صدرت عن جماعة الأهالي، والذي لم تكن بعيدة عن تأثيرات العناصر الماركسية الذين عملوا فيها مثل، عبد القادر إسماعيل البستاني وعبد الفتاح إبراهيم، لكنه أصبح أكثر جذرية ووضوحاً، بعد ظهور كفاح الشعب وما تلاها من الصحف الماركسية السرية. لقد ترك نهج الصحافة الماركسية في معالجة قضايا المواطنين، تأثيراً كبيراً بالغ الأهمية، على الصحافة الوطنية العراقية، التي كثيراً ما كان يجري تعطيلها، ليس بسبب نهجها المعارض فقط، بل لاتهامها بكونها صحافة يسارية شيوعية، بمجرد توجيهها النقد لسياسة السلطات الحاكمة. (مظفر عبد الله الأمين، جماعة الأهالي: منشؤها، عقيدتها ودورها في السياسة العراقية 1932ـ 1944، ص 160)

دور الصحافة الشيوعية خلال فترات النشاط العلني

بعد ثورة 14 تموز 1958 تمتعت الصحافة العراقية بحريات واسعة، ولعبت أدواراً متباينة عندما احتدم وخلال العام الأول، الصراع بين قوى الثورة، العسكرية والمدنية، حول المهام التي تواجه السلطة الجديدة، حيث ظهر اتجاهان، الأول، يريد حصر الثورة في الإطار البرجوازي الضيق، والثاني، يدفع باتجاه تطوير الثورة إلى ثورة وطنية ديمقراطية تستجيب إلى مصالح العمال والفلاحين والكادحين والفئات المثقفة والبرجوازية الوطنية. ويطالب هذا الاتجاه، بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية والسيطرة على الثروة النفطية، لتوفير الأسس المادية للعدالة الاجتماعية، وتحقيق الاستقلال الوطني والخروج من حلف بغداد، وتوسيع الحريات الديمقراطية وما تتضمنه من حرية تشكيل الاحزاب والمنظمات الاجتماعية والمهنية وضمان حرية التعبير والنشر والتظاهر وحرية الصحافة الوطنية، وتحقيق الوحدة العربية على أسس ديمقراطية، تعزز التضامن والعمل المشترك بين الشعوب العربية وليس اتحاداً بين الحكومات، والاستجابة للحقوق المشروعة للقومية الكردية.

 لقد انعكس الصراع بين الاتجاهين السابقين على الصحافة الوطنية، فوقفت الصحافة اليسارية كاتحاد الشعب وغيرها، مع تطوير سلطة الثورة إلى سلطة وطنية ديمقراطية، أما الصحافة القومية واليمينية، فوقفت موقفاً مضاداً. وساهم الصراع السياسي والتعصب الفكري حول القضايا القومية (الوحدة العربية والقومية الكردية) في القطيعة بين التيارين الماركسي والقومي، الأمر الذي أدى إلى إعاقة التطور الديمقراطي وانفراد كبار العسكريين بالسلطة.

وبالعودة إلى الصدور العلني للصحافة الشيوعية، اتحاد الشعب، والفكر الجديد وطريق الشعب خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، نلاحظ ظهور أشكال جديدة من النشاط الصحفي، أدى إلى الارتقاء بطبيعة العمل الصحفي، وشكل اضافة نوعية للصحافة الوطنية العراقية، أشير إلى أبرز معالمها بالنقاط التالية: ـ

1. من أجل تطوير عملها الصحفي، في التوعية والتحريض، أضافت الصحافة الماركسية، تقليدا جديدا في العمل الصحفي، تمثل بظهور صفحات تخصصية أسبوعية، تتناول شؤون العمال والفلاحين، والمرأة والطلبة والشباب والتربية والتعليم وغيرها من أبواب المتابعة الصحفية.

2. اهتمت بمواهب الصحفيين الشباب من خلال نشر كتاباتهم، واشراكهم في دورات التدريب الصحفي لتعزيز مهاراتهم المهنية. وقد أدت هذه التجربة إلى رفد الصحافة العراقية بصحفيين شباب بمختلف الاختصاصات.

3. من الظواهر الجديدة التي ميزت الصحافة الماركسية كتابات، السخرية السياسية، ذات الطابع التحريضي ضد سياسة السلطات الحاكمة، ونال هذا الفن الصحفي شهرة واسعة بين القراء حيث تناول معاناة المواطنين وهمومهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بأسلوب نقدي تهكمي ساخر. وبرز بهذا النوع من الكتابة الصحفية، شهيد الصحافة الوطنية أبو سعيد ـ عبد الجبار وهبي، بعموده اليومي" كلمة اليوم" في صحيفة اتحاد الشعب العلنية، الذي يعتبر من أحسن النماذج الصحفية في تاريخ الصحافة العراقية المتخصصة بفن المقال القصير المكثف، حسب تقييم عميد الصحافة العراقية فائق بطي (الموسوعة الصحفية العراقية ص 321).  وكذلك الراحل شمران الياسري - أبو كاطع ـ الذي لم تحتمل سلطات البعث الحاكمة عموده الشهير " بصراحة أبو كاطع" والذي كان ينشره في صحيفة طريق الشعب، فهددت بإغلاقها في حالة عدم توقفه عن النشر.

4. نجحت في تجربة المكاتب الصحفية المتخصصة، التي تقوم بإعداد المقالات الصحفية لأبواب الصحيفة الأسبوعية المتخصصة.

5. ظهور شكل جديد من الفن الصحفي يتعلق بالروبورتاج الصحفي والمقابلات الصحفية المفتوحة مع عامة المواطنين، اضافة إلى الاستفتاءات الصحفية.     

6. استقطبت الصحافة الماركسية العلنية، أعدادا كبيرة من المبدعين العراقيين في مجالات الثقافة والأدب والفنون والسياسة والعلوم المختلفة، الذين أغنوا العمل الصحفي وساهمت مقالاتهم في تقريب الصحافة من المواطنين.

خلاصة

أولاً، إن الصحافة الوطنية المستقلة، رغم دعوتها للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والاستقلال والسيادة الوطنية، إلا أنها لم تتبن قضايا العمال والفلاحين والفئات الكادحة والفقيرة، لأنها تعبر عن وجهات نظر البرجوازية الوطنية الاصلاحية التي تحافظ على مصالح الفئات الغنية المالكة لوسائل الانتاج، كبار الرأسماليين والتجار ومالكي الأراضي، بينما كان هدف الصحافة الماركسية، التغيير الجذري، الذي يؤدي إلى العدالة الاجتماعية والمساواة وتلبية مصالح أغلبية المواطنين.

ثانياً، إن الآراء التي كانت تطرحها الصحافة الماركسية السرية والعلنية، كثيراً ما ينسحب على الصحف الوطنية المستقلة غير المرتبطة بالسلطات الحاكمة، والتي غالباً ما كانت تتعرض للتعطيل بسبب مواقفها السياسية المعارضة لنهج السلطات الحاكمة.

ثالثا، رفعت الصحافة الماركسية، لواء حرية التعبير والنشر وحق المواطنين في حرية تأسيس الأحزاب والمنظمات المهنية والاجتماعية. كما أعطت أهمية للدفاع عن حرية الصحافة واحترام حقوق الصحفيين وفضح ممارسات السلطات ضدهم والدفاع عنهم عند تعرضهم لاضطهاد وإرهاب السلطات.

رابعاً، لعبت الصحافة الماركسية السرية للحزب الشيوعي العراقي، خاصة خلال العهد الملكي، دورا مهما في التوعية والتحريض ضد ممارسات السلطات المعادية لمصالح الشعب، وكذلك الدعوة للاستقلال والسيادة الوطنية والتضامن المشترك بين الشعوب العربية ونصرة القضية الفلسطينية.

خامساً، من سمات الصحافة الماركسية، التمسك بأخلاقيات العمل الصحفي واحترام الأعراف الاجتماعية والتقاليد الوطنية وخصوصية المواطنين والابتعاد عن الاشاعات المضللة.

 واخيراً، ورغم ان صحيفة "كفاح الشعب" وغيرها من الصحف الماركسية، كانت في أغلب الأوقات سرية، إلا انها كانت تشكل حالة خوف وقلق دائم للسلطات الحاكمة، لما تنشره من موضوعات تحريضية ضد سياساتها المعادية لمصالح الشعب.

في الختام، شارك في تحرير الصحافة الماركسية الآلاف من الصحفيين الوطنيين، واستشهد المئات منهم وتعرض كثيرون للاضطهاد والاعتقال والسجن والنفي. وبمناسبة الذكرى التسعينية للصحافة الماركسية نوجه تحية وتقدير لجهود الأحياء منهم والذكر العطر للراحلين، والمجد والخلود للشهداء.

***

د. فاخر جاسم

جريمة ضد الإنسانية

لن أبدأ مقالي بالعبارات التقليدية عن "عراقة الحضارة العراقية"، فما عادت هذه العبارات تحمل معنى بعد أن شاهدنا العالم يقف متفرجًا أمام أكبر عملية إبادة ثقافية يشهدها القرن الحادي والعشرين. ما حدث لمكتبات العراق والمخطوطات النفيسة ليس مجرد "خسارة" كما يسميها البعض بل هو جريمة حضارية منظمة، تكررت عبر التاريخ كلما أراد الغزاة محو هوية شعب وإلغاء ذاكرته الجماعية.

لن أتحدث عن "همجية المغول" كما يفعل المؤرخون التقليديون، بل عن العقلية الإجرامية ذاتها التي تتكرر عبر التاريخ. عندما دخل هولاكو بغداد سنة 1258م، لم يكتفِ بذبح السكان، بل أحرق مكتبة بغداد العباسية التي كانت تحتوي على عصارة فكر المسلمين في أكثر من 600 عام، من علوم شرعية وطبية وفلكية وفلسفية. الفرق بين هولاكو وداعش؟ فقط في أسلحة الدمار! أما النتيجة فهي واحدة: تحويل مراكز المعرفة إلى كومة رماد.

حرق المغول المكتبات لأنهم أدركوا -بغريزتهم الهمجية- أن المعرفة هي سلاح المقاومة الأقوى. وكرر تنظيم داعش نفس الجريمة في القرن الحادي والعشرين، عندما دمر المكتبة المركزية في الموصل عام 2014، وأحرق آلاف المخطوطات النادرة بحجة أنها "تناقض تعاليم الإسلام". أي إسلام هذا الذي يحرق العلم؟ إنه إسلام المغول الجدد الذين لم يتعلموا من التاريخ إلا فنون الدمار.

بينما كان العالم منشغلاً بخطابات "تحرير العراق"، كانت القوات الأمريكية تقف متفرجة -بل وتشارك أحيانًا- في أكبر عملية نهب منظم للمؤسسات الثقافية في التاريخ الحديث. كيف يمكن لنا أن نفسر أن المكتبة الوطنية العراقية فقدت 60% من مجموعاتها، و90% من كتبها النادرة، وكل خرائطها وصورها تحت "حماية" القوات الأمريكية؟

كان نهب المتحف العراقي ومكتبة الأوقاف ودار الوثائق القومية عملية ممنهجة لسرقة ذاكرة العراق. أليست مصادفة أن نكتشف لاحقًا أن بعض الجنود الأمريكيين كانوا على اتصال بتجار الآثار قبل الغزو؟ وأليست مصادفة أن تكون أهم الوثائق التاريخية اليوم محفوظة في المكتبات الأمريكية والبريطانية؟

شارع المتنبي..

شارع المتنبي في بغداد ليس مجرد مكان لبيع الكتب، بل هو رمز حي لاستمرار المعرفة رغم كل محاولات القتل. لكن حتى هذا الشارع لم يسلم من القتل البطيء. لقد تحول من ملتقى للمثقفين إلى ساحة رعب بعد التفجيرات المتكررة التي طالت مكتباته العريقة مثل المكتبة العصرية (تأسست 1908) ومقهى الشابندر التراثي.

ما حدث لشارع المتنبي هو استعارة مصغرة لما حدث للعراق كله: تحويل أماكن الثقافة إلى ساحات للموت، وتحويل المثقفين إلى أهداف متنقلة. عندما يموت شارع الثقافة، تموت الأمة ويبقى الجسد فقط.

لماذا تحرق المكتبات؟

السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس "كيف تم تدمير المكتبات؟" بل "لماذا يتم تدميرها دائمًا؟". الإجابة بسيطة ومروعة في نفس الوقت: لأن من يحرق الكتاب يعرف أن الأفكار لا تموت بسهولة، ولأن من ينهب المخطوطات يدرك أن الهوية لا تُباد إلا بمسح الذاكرة.

لقد حاول المغول محو الحضارة الإسلامية ففشلوا، وحاول داعش محو التنوع العراقي ففشل، وحاول الغزاة الجدد سرقة التاريخ فسيفشلون. لكن الثمن دائما ما يكون دماء وأحلام أجيال بكاملها.

رغم كل هذا الدمار، تبقى هناك بصيص أمل. مبادرة دار المخطوطات العراقية الأخيرة لرقمنة وحفظ ما تبقى من 47 ألف مخطوطة تثبت أن العراق ما زال يقاوم بطريقته. لكن هذه الجهود تبقى غير كافية أمام حجم الكارثة.

اليوم، ونحن نستمع إلى محاضرات مثل التي قدمها الدكتور غازي حميد في مركز الملك فيصل مؤخرا ، يجب أن نتحول من مرحلة البكاء على الأطلال إلى مرحلة المطالبة الدولية باستعادة المسروقات، وتوثيق ما تم تدميره، وإعادة بناء ما يمكن إعادة بنائه.

العراق ليس مجرد أرض للنفط والدم، إنه أرض لأول كتابة في التاريخ، وأول مكتبة عرفها البشر. محو هذه الذاكرة ليس جريمة ضد العراقيين فقط، بل ضد الإنسانية جمعاء. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: متى سيعتبر العالم هذه الجرائم "إبادة ثقافية" تستوجب محاكمة دولية؟

هذا ليس مقالًا، بل هو صرخة غضب في وجه صمت العالم!

***

عبد السلام فاروق

أطرف رد تلقيته هذا الأسبوع، سؤال استنكاري يقول صاحبه: «... وهل المركز الصحي أو سفلتة الشارع في تلك القرية، أهم من الوحدة العربية...؟».

يتعلق هذا السؤال بكلام ورد في مقال الأسبوع الماضي، يندد بتسييس الخدمات العامة، مثل صيانة الطرق وتشغيل شبكات الكهرباء والماء... إلخ. ويزعم المقال أن تسييس الحياة وقضاياها، جعل الإصلاح مستحيلاً.

وكنت على وشك الرد بأن المركز الصحي أهم من الوحدة العربية. لكنني خشيت أن تُفهم العبارة على غير ما أردته. فاستبدلت سؤالاً معاكساً وجهته للسائل بالجواب: وهل تعتقد أن الذي لا يكترث لوضع قريته، سيهتم كثيراً بمشروع عظيم كالوحدة العربية، اهتماماً جاداً ومقترناً بوعي واستعداد للمساهمة، وليس مجرد كلام في الهواء أو تكرار لما يقال في التلفزيون؟

ويبدو أن ترددي في الجواب كان في محلّه. لأنني سألت نفسي بعد قليل: وما المانع أن يكون الشخص قليل الاكتراث بأمور قريته، لكنه عظيم الاهتمام بأمور بلاد بعيدة جداً. وقد رأينا في الواقع وقرأنا أيضاً، عن علماء لم يكتبوا حرفاً واحداً عن قراهم، ولم يعرضوا علومهم على أهلها، لكن بحوثهم أثارت اهتمام العالم شرقاً وغرباً. أردت القول إنه ليس من المستبعد أن يهتم شخص بالوحدة العربية، مع أنه لا يكترث لوحدة أهل قريته أو طريقها أو مستوصفها. ليس مستبعداً ولا معيباً أيضاً، فهموم الناس وانشغالاتهم مختلفة، كما تختلف أذواقهم وذكرياتهم.

هذه الفكرة جعلتني أتردد في الجواب. لكنها ذكَّرتني أيضاً بأن الدكتور محمد جابر الأنصاري، المفكر البحريني المعروف، عرض وجهاً آخر لهذه القصة، وأظنه جديراً بأن نستمع إليه. يقول الأنصاري إنك قد تجد شاباً في مقتبل العمر، مستعداً لهجران أهله سعياً وراء الاستشهاد في حرب حقيقية أو متوهمة. لكن هذا الشخص عينه ليس مستعداً للخروج من بيته لتنظيف الشارع أمام بابه.

- ما القاسم المشترك بين هذه القصة وتلك؟

القاسم المشترك هو الثقافة السياسية، بمعنى تصور الإنسان للشأن العام، ودوره هو بوصفه فاعلاً في المجال العام، أي إدارة البلد. الاهتمام بالطرق والكهرباء والمستوصف في مقال الأسبوع الماضي، يعادل تنظيف الشارع في المثال أعلاه، والتشنيع على رجال السياسة والدولة في المثال الأول يعادل المشاركة في الحرب، في المثال الثاني.

تحدث الأنصاري عن «النكاية» باعتبارها مضموناً لنوع من الثقافة السياسية، قائمة على أرضية الكراهية، تؤثر في السياق ذاته، على موقف الفرد أو الجماعة من القضايا العامة، ومن الفاعلين في المجال العام.

ينصرف مفهوم «النكاية» إلى تطبيق محدد، يتجلى في تركيز الفرد على المواقف التي تجسد التضاد والمعارضة والقطيعة، وإهمال المواقف التي تفسَّر بأنها لينة، أو جيدة، أو قبول بتعددية الموقف، أو وقوف عند منتصف الطريق.

رأي الأنصاري هذا، يفسر مثلاً موقف شريحة واسعة جداً من الذين تحدثوا في الشأن السوري، وكانت تعبيراتهم - وفق ما شرحت في الأسبوع الماضي - متشددة وقاسية، ضد من صنَّفوهم أعداءً، رغم أنهم مواطنون سوريون مثل الذين يناصرونهم ويدافعون عنهم.

سلوك «النكاية» يعني أن تنظر إلى الآخر المختلف، باعتباره سيئاً في الغالب، وأن تتمنى أن يكون في حال سيئ، دائماً، وأن تفسر كل أفعاله وكلامه وتصرفاته تفسيراً يسيء إلى صورته في عيون الناس.

أنت تسمع متحدثين في المجالس العامة، وكتاباً على منصات التواصل الاجتماعي، يحشدون كل مثلبة تنقل إليهم، فيلقونها على من يكرهونهم، مع أن بعضها غير معقول أو متناقض.

الكراهية - أياً كان سببها - تحجب الحقيقة عن عقل الناظر، فلا يرى الوقائع ولا يلتزم بالتسلسل المنطقي للأفكار. وهذا مسيء له أولاً، قبل أن يسيء لسامعيه. بدل النكاية في الغير، ادعُ الله لهم بالهداية، فلعل دعاءك يرتد إليك.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

حَكمَ الخليفة النَّاصر لدين الله أطول فترات بني العباس (575-622 هج)، في عهده عادت الخلافة إلى قوتها، وأمنَ النَّاسُ مِن عصابات اللُّصوص المتحكمين في الطّرقات والتّجارات، كما أنهى ازدواجيّة الخلافة والسّلطنة، مِن البويهيين الفرس إلى السّلجوقيين الأتراك، وكانت ميليشيات طائفيَّة، استغلت ضعف الخلافة فتحكمت بها لثلاثة قرون.

 قضى على السّلجوقيين، بعد انتهاء البويهيين، كما في عهده حُرر «بيت المقدس» بفلسطين مِن الإفرنج، بجهود صلاح الدّين الأيوبيّ (ت: 589 هج)، وقتها وصل مِن بغداد لوحٌ نُقش فيه بيان باسم النَّاصر، علّقه صلاح الدّين «على باب بيت المقدس» (ابن الكازروني، مختصر التَّاريخ مِن أول الزَّمان إلى منتهى دولة بني العبَّاس)، بعد أنْ عادت مصر إلى الخلافة (567 هج) ببغداد.

ربَّما لم تشتهر وقفة النَّاصر لدين الله العباسيّ بوجه التشدد والتّزمت الدّينيّ، الذي حرض على تطبيقه فقهاء عصره ضد غير المسلمين، مِن سكان بغداد وتوابعها، مثالهم كان القاضي والمحتسب ووالي الجوالي (أهل الذِّمة) محمّد بن يحيى بن فضلان (ت: 631 هـ)- غير صاحب الرّحلة أحمد بن فضلان (309 هج)-.

 كتب ابن فضلان «رقعةً» (رسالةً) إلى الخليفة النّاصر لدين الله، مطالباً بتطبيق معاملةٍ شديدةٍ على غير المسلمين، مستعرضاً ما طُبق ضدهم في عهود سابقة، كفتوى المحتسب أبي سعيد الاصطخريّ (ت: 329 هج) بقتل الصّابئة المندائيين كافة، والتّضييق على اليهود والنّصارى، لكنّ الفتوى لم تُنفذ، مذكراً بالعهود التي فرضت ما عُرف بأحكام أهل الذِّمة عليهم، كعدم بدئهم بالسّلام، ولا يرتفع بناؤهم، وغيار ملابسهم، وإهانتهم عند تسلم الجزية منهم، وهي واحد وعشرون شرطاً (الصّفدي، الوافي بالوفيات).

زاد عليها ابن فضلان إبعادهم عن الطّب والصَّيرفة والكتابة، والدَّواوين عموماً، مع وجود أطباء وكحالين (أطباء عيون) أكفاء منهم، دبروا أبدان الخلفاء، وأشرفوا على صحة النَّاس (ابن أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن جُلجل، طبقات الأطباء والحكماء، ابن حُنين، تاريخ الأطباء والفلاسفة)، إلا أنَّ ابن فضلان اعتبر ذلك حيَّلاً وأكاذيبَ، يتخذونها لدخول مجالس الخلفاء، وكنز الأموال، فأوصى باستخدامهم في أرذل المهن، وعلى أحبارهم وقساوستهم الحضور بأنفسهم لدفع الجزية بمشهد مذل، لا يُسمح لهم إرسالها بيد نوابٍ عنهم (نص رقعة ابن فضلان في كتاب الحوادث الجامعة والتَّجارب النَّافعة في المئة السّابعة).

ورد في الرّسالة، أو الرّقعة مثلما جاء اسمها، التي ملأت ست صفحات، أمور كثيرة، يُظهر فيها كاتبها ذروةَ التّعصب الفقهيّ، غير أنّ الخليفة النَّاصر أهملها تماماً. جاء في الخبر: «فلما وقف الخليفة على رقعته لم يعدّْ عنها جواباً» (المصدر نفسه).

 اتخذت الدَّولة العباسيَّة المذهب الحنفيّ في التَّطبيقات الفقهيّة، منذ عهد الخليفة المهديّ ابن أبي جعفر المنصور (158-169 هج)، وحتّى آخر الخلفاء المستعصم بالله (قُتل: 656 هج)، وفي ظل تلك المُعاملة ساهم الذين أراد ابن فضلان حجرهم عن الحياة العامة، بالترجمة التي هي أساس التَّقدم الثّقافيّ، وبالطّب، والهندسة، والفلسفة، فكان المشرف على العمران بسامراء، في زمن جعفر المتوكل بالله (ت: 247 هج)، دُليل بن يعقوب النَّصرانيّ، بما فيها «ملوية سامراء» والمكان الذي أقيم عليه المرقد العسكريَّ بسامراء، وكان أرضاً اشتراها الإمام عليّ الهاديّ (ت: 354 هج) مِن دُليَل (الطّبريّ، تاريح الرُّسل والملوك).

يتبين مِن سلوك النّاصر، مع أهل الذِّمة، أنه لا علاقة بين تدين الحاكم وشدته على غير المسلمين، وإلا فالنّاصر كان متديناً: جمع الحديث النّبويّ، وجدد المشاهد، وبنى الأربطة للصوفيّة والزُّهاد، بينما أحد أسلافه، المتوكل بالله لم يكن متديناً، بل صاحب مجالس أنس، ومشغول بالوَرْد، فهو القائل: «أنا ملك السَّلاطين والوَرْد ملك الرَّياحين فكلٌّ أولى بصاحبه» (الثَّعالبيّ، خاص الخاص)، ويلبس الملابس الموردة، وسك نقوداً موردة، ومع هذا، طبق في غير المسلمين «الشّروط العمريّة» (230 هج)، بشدةٍ (الطَّبريّ، نفسه).

فقد النّاصر بصره، لذا ترجم له صلاح الدِّين الصّفدي (ت: 768 هج) في «نَكت الهِميان في نُكت العميان»، ولرِّبنا تُعدّ تجربته في إعادة الاستقرار والتَّسامح درساً مفيداً.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

المنظر يعكس التوتر بين الحياة والموت، ويشير إلى كيف يمكن أن تؤثر الظروف الاجتماعية والاقتصادية على الأفراد والمجتمعات، يمكن اعتبار المجاعة أزمة حقيقية، حيث تؤدي إلى فقدان الحياة وإضعاف المجتمعات. تعكس المجاعات الفشل في توفير الاحتياجات الأساسية للعيش، مما يؤدي إلى معاناة كبيرة. تستخدم لهذه الغاية افكار وايديولوجيات مختلفة لتدجين الشعوب والسيطرة، حيث يتم تقديمها على أن هذه الأفكار والايديولوجيات ضرورية للحفاظ على الاستقرار. ان (تدجين) الإنسان كآلية للسيطرة على المجتمعات هو مفهوم مثير للجدل يركز على كيفية استخدامه من قبل الأنظمة لتشكيل سلوك الأفراد والمجموعات ويؤدي بالتالي إلى تكييف البشر مع الظروف القاسية، بما في ذلك المجاعة، كما يمكن أن يؤدي التدجين إلى القبول بالواقع المرير، مما يقلل من ردود الفعل ضد الظلم، يعتمد ذلك على السياق والظروف التاريخية والاجتماعية. في اغلب الاحيان تكون المجاعة نتيجة لسياسات فاشلة، صراعات، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية في مواجهة التحديات ويبقى التدجين استجابة للبقاء على قيد الحياة.  في حالات الأزمات، يتكيف الأفراد والمجتمعات مع الظروف القاسية عبر قبول الواقع والبحث عن طرق جديدة للبقاء، وهنا يؤدي التدجين دوره حيث يتعلم الأفراد كيفية التأقلم مع الألم والفقد، مما يساعد على استمرار الحياة رغم الظروف الصعبة، في أكثر الأحيان يؤدي التدجين إلى شعور بالاستسلام، مما يمنع الأفراد من السعي للتغيير أو التمرد على الظروف القاسية، رغم أن التدجين آلية للبقاء، لكنه أيضاً يحد من القدرة على التغيير والنمو.

الاحياء يتأملون الموتى

تأمل (الأحياء...؟) للموتى نتيجة المجاعة يمكن أن يُعتبر أزمة في السياق الإنساني العام، ويمكن ملاحظة تأثير التدجين في كيفية استجابة المجتمعات للأزمات، المجاعة تمثل أزمة حقيقية تؤدي إلى فقدان الأرواح وتدمير المجتمعات. هذه الأزمات عادة ما تكشف عن ضعف الأنظمة الاجتماعية، الاخلاقية والسياسية، الأحياء يتأملون في الموتى يعكس عمق مشاعر الحزن. ان الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه الأحداث والأزمات تضع الأحياء في مواقف صعبة وتتطلب اتخاذ قرارات مهمة للبقاء على قيد الانسانية تصل إلى تغير سلوكيات وقيم مجتمعات، في هذه المساحة الضيقة يلعب التدجين الأيديولوجي لعبته المفضلة ويؤدي إلى تقبل حالة المعناة كجزء من القدر أو الحظ، مما يعزز الاستسلام بدلاً من البحث عن حلول. لذا، من الضروري التفكير في كيفية التوازن بين الوعي بالأزمة وفهم تأثير التدجين على سلوك الأفراد والمجتمعات.

التدجين واصطياد الجوعى

تعتبر فكرة (التدجين واصطياد الجوعى) موضوعًا معقدًا يمكن تحليله من جوانب اجتماعية واقتصادية وثقافية. يمكن أن تُفهم هذه الفكرة على أنها تعكس بعض الخصائص التي تتعلق بالبرجوازية، يتم استخدام حالة الجوع والفقر كوسيلة للهيمنة، حيث تستفيد الفئات الأكثر ثراءً من معاناة الجوعى كوسيلة لتعزيز مكانتها الاقتصادية والاجتماعية ويمكن أن يؤدي التدجين إلى تقبل الأفراد لأوضاعهم، مما يسهل استغلالهم من قبل البرجوازية، تُعتبر حالات الجوع وسيلة للتسلية لبعض الفئات البرجوازية، حيث ترى معاناة الفقراء كعرض فني يُستخدم لزيادة الترفيه أو الاستهلاك في بعض السياقات. يمكن أن تُستخدم المجاعات كموضوعات للأعمال الخيرية ذات الطابع البرجوازي، مما يعكس نظرة سطحية تجاه معاناة الآخرين، يمكن أن يؤثر التدجين على قدرة الأفراد في الطبقات العليا على التعاطف مع الجوعى، مما يؤدي إلى فصل أكبر بين الطبقات الاجتماعية، بعض الشركات تستغل قضايا الفقر والجوع في حملاتها الدعائية، مما يعكس استغلالًا للمأساة لتحقيق الربح ،رغم ذلك هناك تحركات اجتماعية ترفض استخدام معاناة الجوعى كوسيلة للتسلية، وتدعو إلى وعي أكبر حول قضايا الفقر والجوع والظلم الاجتماعي، بعض الأفراد والجماعات يسعون لتحويل المعاناة إلى حافز للعمل الإنساني، بدلاً من التسلية بينما يمكن أن تُعتبر فكرة (التدجين واصطياد الجوعى) تعبيرًا عن بعض السمات البرجوازية، فإنها أيضًا تثير قضايا أعمق حول الأخلاق الاجتماعية ،يتطلب الأمر وعيًا نقديًا لفهم هذه الديناميكيات وكيفية تأثيرها على الأفراد والمجتمعات.

دور الاعلام الأخلاقي

تؤثر وسائل الإعلام على كيفية إدراك الناس للأزمات، حيث تقلل الرسائل الثقافية من أهمية المجاعة وتعزز التسليم بالأقدار، وتؤدي إلى فقدان الهوية، بينما تمثل المجاعة أزمة حقيقية تتطلب استجابة فورية، فإن تأثير التدجين يمكن أن يعوق الاستجابة الفعالة ويؤدي إلى استسلام الأفراد والمجتمعات. يلعب الإعلام الأخلاقي دورًا حيويًا في مواجهة ظاهرة (اصطياد الجوعى) كوسيلة للتسلية البرجوازية. كما يساهم الإعلام الأخلاقي في نشر الوعي حول قضايا الفقر والجوع، مما يساعد الجمهور على فهم الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه القضايا، يقدم قصصًا إنسانية تركز على الأبعاد الشخصية للمعاناة بدلاً من تقديمها كمواضيع للتسلية، يلتزم الإعلام الأخلاقي بتجنب تصوير المعاناة بطريقة تفتقر إلى الإنسانية، بدلاً من ذلك يسعى لتقديمها بطريقة تحترم كرامة الأفراد كما يركز على تسليط الضوء على المبادرات والمشاريع التي تعمل على تحسين الظروف، مما يعزز الوعي بالعمل الإنساني، يقوم الإعلام الأخلاقي بانتقاد المؤسسات والشركات التي تسوّق للمعاناة، مما يساهم في محاسبتها على استغلال الظروف الصعبة ،ويحقق في الانتهاكات التي تحدث بسبب الاستغلال، مما يزيد من الضغط على الجهات المسؤولة للعمل بشكل أخلاقي، كما يتيح للأشخاص المتأثرين من الجوع والفقر التحدث عن تجاربهم، مما يعزز من قدرتهم على التعبير عن أنفسهم ومطالبهم ويعمل على تغيير السرد العام حول الفقر والجوع، بدلا من تقديمه كموضوع للتسلية ،يمثل الإعلام الأخلاقي خط الدفاع الأول ضد ظاهرة (اصطياد الجوعى) كوسيلة للتسلية البرجوازية، من خلال التوعية، نشر المحتوى الأخلاقي، تعزيز المساءلة، وتمكين المجتمعات. يتطلب الأمر التزامًا قويًا من الإعلاميين لضمان تقديم قضايا الفقر والجوع بطريقة إنسانية ومسؤولة من خلال التركيز على التنوع، تجنب الصور النمطية، وفهم السياقات، يمكن للإعلام الأخلاقي أن يتجنب الوقوع في فخ التنميط السلبي الذي يتطلب التزامًا قويًا بالمعايير الأخلاقية والابتعاد عن التبسيط المفرط للقضايا المعقدة.

تأمل الجوعى وهم يموتون في غزة تسلية استعمارية

هذه العبارة تعكس قسوة الاستعمار وتأثيره المدمر على المجتمعات. الجوع والفقر الناتجان عن السياسات الاستعمارية يمكن أن يسببوا معاناة هائلة. تأمل (الأحياء...؟) الذين يشهدون هذه المعاناة يمكن أن يُفهم كنوع من التسلية أو الترفيه عن الألم، مما يعكس اللامبالاة تجاه معاناة الآخرين، تأمل الأحياء للجوعى في غزة وهم يموتون يعكس عمق المعاناة الإنسانية نتيجة السياسات الاستعمارية.  يُظهر العالم مشاهد الجوع والمرض، لكن اللامبالاة تتجلى في عدم اتخاذ خطوات فعالة لإنهاء المعاناة، تُختزل معاناة الناس إلى صور وصوت، مما يُفقدهم إنسانيتهم ويجعل ألمهم مجرد "تسلية" للمتفرجين، تستخدم بعض وسائل الإعلام معاناة سكان غزة كوسيلة لجذب الانتباه دون تقديم حلول حقيقية، مما يجعل معاناتهم عرضة للاستهلاك الإعلامي، يُغفل الكثيرون الأسباب الجذرية للصراع، مما يعزز من الشعور بالتسليم. واقعيا تعاني المجتمعات من صدمات متكررة، مما يؤدي إلى تآكل الأمل والرغبة في التغيير، يواجه الأفراد تحديات يومية للبقاء على قيد الحياة، مما يجعل التفكير في المستقبل أمرًا شبه مستحيل، تأمل (الأحياء ...؟) للجوعى في غزة يُظهر كيف يمكن أن تصبح المعاناة الإنسانية مصدر تسلية في غياب التعاطف الفعلي والعمل الجاد، من الضروري أن نعيد النظر في مسؤوليتنا الإنسانية تجاه تلك المعاناة وأن نسعى جاهدين لتحقيق التغيير.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

في المثقف اليوم