آراء

آراء

سَنة التأسيس: من الاسئلة التي أثارت جدلاً واسعاً بين من أرخ لتاريخ حزب الدعوة الاسلامية وطُرحت فيها اجابات مختلفة هي:
ـ من هو صاحب فكرة تأسيس هذا التنظيم؟
ـ وفي أي سَنة تأسس؟
ـ ومن هم مؤسسوه الأوائل؟
سنحاول في هذا المقال الاجابة عن هذه الاسئلة الجدلية على شكل حلقات من خلال حشد مجموعة من الأدلة والمؤيدات لأثبات أن صاحب فكرة تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وان أهم مؤسس وقائد ومنظر له هو المفكر الشهيد المهندس محمد هادي السبيتي، وان زمان تأسيس التنظيم كان بعد ثورة ـ انقلاب ١٤ تموز عام ١٩٥٨م.
حول تحديد سَنة التأسيس:
لقد اثبتنا في حلقة سابقة بالأدلة والمؤيدات ان صاحب فكرة تأسيس حزب الدعوة الاسلامية هو المفكر الشهيد محمد هادي السبيتي.
والآن في هذه الحلقة سنتطرق الى سَنة التأسيس وسنثبت ان زمان التأسيس كان بعد ثورة ـ انقلاب 14 تموز 1958م.
ويمكن اثبات ذلك من خلال الأدلة التالية:
أولاً: رواية المؤسسين:
وهي كالتالي:
1. الرواية الرسمية: رواية الاستاذ محمد هادي السبيتي:
ما ذكرته الرواية الرسمية لحزب الدعوة الاسلامية والتي تعتبر اقدم واهم وادق نص أرخ لتاريخ تنظيم الدعوة الاسلامية بقلم صاحب فكرة التأسيس وأهم مؤسس ومنظر وقائد للدعوة وهو المفكر الشهيد محمد هادي السُبيتي، اذ تتميز هذه الرواية بالتالي:
ـ انها الرواية الرسمية التي نُشرت في نشرة الحزب السرية والرسمية، ولا يوجد قبالها اي رواية رسمية أخرى وان ادعى بعض الباحثين وجودها.
ـ انها اقدم نص وثق حدث التأسيس وخلفياته وتطوراته.
ـ انها اقرب وثيقة الى زمن التأسيس.
ـ انها ادق نص وثق حيثيات التأسيس من حيث الفكرة والتطور الفكري والانتشار البشري وغيرها من التفصيلات.
ـ انها صادرة عن صاحب فكرة التأسيس وواحد من اهم مؤسسي ومنظري وقادة التنظيم وشهد أهم مراحل مسيرته.
ـ انها صادرة عن رجل مشهود له بالعلم والعدالة والصدق والاستقامة والدقة بالنقل.
يقول الاستاذ السبيتي حول سَنة التأسيس ما نصه: (اهتز العراق من أقصاه الى أقصاه بالانقلاب العسكري على الحكم الملكي الذي قادة عبد الكريم قاسم.. وانقسم العراق الى قسمين رئيسيين: قسم يؤيد الزعيم وآخر يؤيد العقيد.. وامتلأ الشارع في مدن العراق وقصباتها بالصراع العسكري، وحركت الأحداث جميع الناس، وخُلقت أجواء جديدة للتفكير بالسياسة والأعمال الحزبية، وتأثرت الحوزة العلمية في النجف الأشرف بهذه الأحداث، وتحسس عددٌ كبيرٌ من خيرة أفراد الحوزة الأوضاع وغياب الإسلام عن الساحة السياسية، وبإمكانية العمل من أجل الإسلام، وكان هذا التحسس بدايةً لكسر الجمود السياسي الذي أصاب الحوزة بعد فشل استثمار ثورة العشرين ضد الاستعمار الانجليزي. في هذا الجو الملائم للعمل تلاقى مجموعة من المؤمنين الواعين للإسلام والممارسين للعمل الحزبي، ومجموعة من الحوزة أرهفت الأحداث نفوسهم، وتهيأت عقولهم لخوض العمل العام، وأفراد من العلماء والمؤمنين المتمرسين بالأعمال الاصلاحية من ذوي الخبرات الجيدة في التعامل مع الناس. التقى هؤلاء الأفراد والمجموعات بواسطة أفراد منهم ذوي علاقات متعددة الجوانب، وأنشئت تعارفات، ودارت نقاشات، وحدثت مباحثات متعددة في أماكن مختلفة، وفي اجتماعات كانت تتسع وتضيق وتتكرر حسب وسطاء الخير الذين عملوا لإيجادها، أو بفعل أفرادٍ من هؤلاء الأفراد والمجموعات، وكانت الأفكار تتلاقى في بعض الأحيان وتتباعد في أحيانٍ أخرى، وانسحب جماعةٌ، وبقي على اتصال دائم كوكبةً منسجمةً أخذت أفكارها تتلاقى وتتوحد.. توحدت الأهداف، وتقاربت المفاهيم، واتجهت العواطف والمشاعر نحو الألفة والتجانس، وشاء الله رب العالمين سبحانه، فكانت النواة الأولى للدعوة...)(1).
هذا النص لا يحتاج الى تعليق وواضح جداً من تفصيلاته ان زمان تأسيس حزب الدعوة الاسلامية كان بعد ثورة ـ انقلاب عبد الكريم قاسم في 14 تموز 1958م.
2. رواية السيد طالب الرفاعي:
يرى السيد طالب الرفاعي ان (تأسيس حزب الدعوة ونشأته الأولى [كان في] تموز (يوليو) 1959م)(2).
3. رواية الدكتور جابر العطا:
يقول الدكتور العطا (وقد أبلغني بنبأ التأسيس السيد طالب الرفاعي.. وحينها كنتُ طبيباً مقيماً في الناصرية [عام 1958م](3)، وقد سعدت كثيراً لهذا الخبر وبدأت بالعمل الدعوتي من ذلك الوقت)(4).
4. رواية السيد مرتضى العسكري:
العلامة العسكري لا يتذكر بالضبط تاريخ تأسيس حزب الدعوة هل (كان قبل أو بعد 14 تموز 1958م، واذا كان قبلها فإن الأمر لا يتجاوز شهوراً قليلة...)(5).
5. رواية السيد الشهيد مهدي الحكيم:
يقول السيد الشهيد مهدي الحكيم ما نصه: (فبعد 14 تموز كانت الاتصالات والجلسات تجري مع السيد الشهيد الصدر و(....) حول تأسيس حزب، وبُعيد 14 تموز كانت الاطروحة في احتواء الثورة، لان الثورة استوزرت (4) من الوطني الديمقراطي، و (4) من القوميين، و (4) من الشيوعيين، ولو كنا موجودين في الساحة لما اغفلنا، ولكن التسمية (لحزب الدعوة الاسلامية) جاءت بُعيد 14 تموز، وهنا نستطيع القول ان حزب الدعوة تأسس قبيل أو بُعيد 14 تموز)(6).
6. رواية السيد الشهيد محمد باقر الحكيم:
يقول السيد الشهيد محمد باقر الحكيم: ([ان] الشهيد الصدر [كتب].. الأسس في بداية تأسيس حزب الدعوة الاسلامية في أوائل سنة 1378هـ، أواخر سنة 1958م، ثم شرحها وأصبحت مادة أساسية تُدرس في حلقات الحزب...)(7).
7. رواية الأستاذ محمد صالح الأديب:
يقول الأستاذ الأديب: (عندما تخرجت من الكلية في سنة 1957م ابلغني السيد مهدي الحكيم (رحمه الله عليه).. ان نعقد اجتماعاً تأسيسياً للحزب، وهذا ما حدث فكان محل الاجتماع في دار السيد محسن الحكيم (رض) في كربلاء...)(8).
8. رواية السيد حسن شبر:
يقول السيد حسن شبر: (..حزب الدعوة الاسلامية.. تأسس يوم السبت 17 ربيع الأول 1377هـ المصادف 12/10/1957م)(9).
ثانياً: رواية غير المؤسسين:
وهم كالتالي:
1. رواية الشيخ علي الكَوراني:
يرى الشيخ علي الكَوراني ان من (شارك في مداولات تأسيس الدعوة بضعة عشرة نفراً، وكانت جلساتهم متباعدة، وبدأت سنة (1379هـ ـ 1960م) واستمرت نحو سنة حتى تم اتفاق من بقي منهم في الجلسات...)(10).
2. رواية السيد عبد الأمير علي خان:
يرى السيد عبد الأمير علي خان ان تأسيس الحزب كان بين عامي 1957 و 1958م(11).
3. رواية الحاج كاظم يوسف التميمي:
يقول الحاج كاظم يوسف التميمي "ابو صاحب": (..تشكلت الدعوة حسب علمي بدايات 1959 أو نهاية 1958، وكان مؤسسوها [التسعة] الأوائل هم الدكتور جابر عطا، والسيد محمد باقر الصدر، وطالب الهندسة محمد هادي السبيتي، ورجل الدين السيد مرتضى العسكري، ورجل الدين السيد محمد مهدي الحكيم نجل المرجع آية الله السيد محسن الحكيم، ومحمد صالح الاديب، والسيد طالب الرفاعي، والسيد محمد باقر الحكيم،[وعبد الصاحب دخيّل]. وبهذا تكون فرضية الباحث رشيد الخيون حول تأسيس حزب الدعوة هي الأقرب والصواب من التاريخ الشائع الذي يعود لعام 1957م(12).
4. رواية الشيخ الشهيد حسين معن:
يقول الشيخ الشهيد حسين معن ما نصه: (..تأسس حزب الدعوة بعد تصاعد المد الشيوعي في العراق على أثر انقلاب 1958م.. وذلك بالتفاعل بين مجاهدين إسلاميين من صفوف الأمة، وبين الحوزة العلمية في النجف الأشرف.. مما عزز من أصالته، ومكنه من الجمع في قيادته بين الفقهاء والسياسيين، والمنظمين الممارسين للعمل الحزبي...)(13).
5. رواية الاستاذ الشهيد عزالدين سليم:
يرى الأستاذ الشهيد عبد الزهراء عثمان (عزالدين سليم): (..ان نشوء "الدعوة الاسلامية" في النجف الأشرف عام 1957م، ثم انطلاقها عام 1958م بعد نجاح ثورة 14 تموز عام 1958م بقيادة عبد الكريم قاسم..)(14).
6. رواية السيد هاشم الموسوي:
يقول السيد هاشم الموسوي: (اجتمعت النواة التأسيسية الأولى يوم 17 ربيع الأول سنة 1376هـ ـ 1957م، وعقد هذا الاجتماع في كربلاء المقدسة، في دار اقامة المرجع الديني الراحل آية الله العظمى السيد محسن الحكيم ـ أعلى الله مقامه ـ التي كان يقيم فيها عند زيارته لمدينة كربلاء(15).
7. رواية بعض ممثلي حزب الدعوة الاسلامية:
جاء في مجلة الجهاد الشهرية الناطقة باسم الدعوة الاسلامية العدد الثالث عشر الصادر بطهران في جمادى الثانية 1401هـ ـ آذار 1981م، ص 46 موضوع بعنوان "لقاء مع ممثلين لحزب الدعوة الاسلامية في العراق" جاء فيه: (.. وخلال اللقاءات نوقشت أساليب للعمل وجرت مباحثات مختلفة حتى توفرت قناعة لدى اولئك الطيبين المخلصين ان ينشئوا حركة اسلامية اطلق عليها "حزب الدعوة الاسلامية" كان ذلك في نهاية عام 1958م...).
ملاحظات وتعليقات:
نسجل هنا بعض الملاحظات والتعليقات على الآراء المطروحة:
1. النص الرسمي الذي كتبه الاستاذ السبيتي صدر في نشرة الحزب الرسمية عام 1977م واكيد ان السيدين حسن شبر ومحمد صالح الاديب قد اطلعا عليه فلماذا لم يسجلا عليه اعتراضهما في حينها؟ لأن مثل هكذا قضايا تاريخية لا تتحمل المجاملة، خصوصاً اذا عرفنا انهما جمعتهم لقاءات كثيرة واتصالات أكثر مع الشهيد السبيتي في سوريا بداية عام 1980م الى يوم اعتقاله في 9/5/1981م كما يذكر السيد حسن شبر (رحمه الله)(16).
الشيء الغريب في راوية الاستاذ السبيتي، رغم كونها الراوية الرسمية التي نَشرت في أدبيات الحزب السرية الرسمية، إلاّ انها لم تطرح في أجواء حزب الدعوة عندما اراد تحديد تاريخ تأسيس الحزب؟!!
كما اني لم أرَ باحثاً ـ إلاّ القليل جداً ـ في تاريخ حزب الدعوة الاسلامية ممن ناقشوا تاريخ التأسيس قد تعرض لرأي الدعوة الرسمي الذي كتبه الاستاذ السبيتي في نشرة الحزب الرسمية "صوت الدعوة"؟!!
وهذ أمر غريب يجعلنا نضع علامة استفهام كبيرة حول سبب استبعاد رواية الاستاذ السبيتي الرسمية من قبل الحزب نفسه، ومن قبل الباحثين في تاريخ وفكر حزب الدعوة الاسلامية.
2. العلامة العسكري يذكر في شهادته ان التأسيس كان بعد أو قبل انقلاب 14 تموز 1958م بأشهر قليلة، وبطبيعة الحال إن جملة (بعد أو قبل) تشير الى أن التأسيس وقع في عام 1958م وليس في عام 1957م.
3. الغريب في شهادة الاستاذ الاديب انها اعتمدت كتاريخ رسمي من قبل حزب الدعوة الاسلامية(17) دون غيرها من الشهادات التي تعارضها كثرةً وشهرةً!!
والسؤال هنا: من اتخذ هذا القرار؟ وعلى أي أساس استند؟ ولماذا أهمل الروايات الأخرى وخصوصاً الرواية الرسمية المثبتة في أدبيات الحزب السرية والرسمية؟ وهل دخل تاريخ تأسيس الحزب ضمن معادلة الصراع بين العمامة والأفندي الذي أحتدم في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات داخل الحزب؟
يجب ان نضع عشرات علامات الاستفهام على قرار اعتماد رواية الاستاذ الاديب تاريخاً رسمياً لتأسيس حزب الدعوة الاسلامية، خصوصاً اذا دققنا في كلام الاستاذ الاديب وهو يقول: (فأنا شخصياً لم أحفظ اسماء جميع من حضر الاجتماع التأسيسي، ولكن عندما أجلس مع بعض أخواني مثل السيد محمد باقر الحكيم، أو السيد مرتضى العسكري، وأقول لهم تعالوا نتذكر من حضر الاجتماع التأسيسي فقد يتذكر أحدنا أثنين وينسى البقية، وعندما نصل الى العدد الكامل نقول فعلاً هؤلاء هم من حضروا الاجتماع التأسيسي...)(18)، فإذا كان الاستاذ الاديب (رحمه الله) لا يتذكر الاشخاص الذين حضروا في ذلك الاجتماع وهم لا يتجاوزون أصابع اليدين، فهل جلس مع بقية اخوانه المؤسسين واستذكروا تاريخ تأسيس الحزب بدقة أم لا؟
4. (إن السيد حسن شبر كان قد ذكر أن التأسيس عام 1958م، في كتابه "صفحات سوداء من بعث العراق" الطبعة الأولى، والذي صدر عام 1984م، ولا نعلم لماذا غير رأيه بعد حين، عندما ذكر انه في عام 1957م، وحدد ذلك في 17 ربيع الأول 1377هـ، وهذا رأي متأخر وهو لا يستند على مصدر ما خلا ذكرياته عن بدايات التأسيس...)(19).
5. (ان خروج السبيتي من حزب التحرير كان نهاية الخمسينيات وبالتحديد عام 1958م، وهو من طرح على السيد طالب الرفاعي مفاتحة الصدر بعمل اسلامي.. وهنا نتسأل هل أغفل السيدان الرفاعي والسبيتي وجود حركة اسلامية؟ أم أغفلا وجود اجتماع كربلاء الذي يقال انه عُقد في شهر تشرين الأول من عام 1957م)(20).
6. يقول السيد الشهيد محمد باقر الحكيم في شهادته ان السيد الشهيد محمد باقر الصدر كتب الأسس في بداية تأسيس الحزب أواخر عام 1958م، إضافة الى ان الشهيد الصدر كتب (رسالة برهن فيها على جواز بل وجوب قيام الحكومة الاسلامية زمن الغيبة، وذلك من خلال آية الشورى.. وقيل ان ذلك كان بالضبط سنة 1959م)(21).
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يعقل ان حزب الدعوة الاسلامية بقى متوقفاً عن العمل والنشاط والكتابة ولم يتحرك إلاّ بعد حوالي سنة كاملة من تأسيسه اذا أخذنا بالاعتبار الفترة من تاريخ التأسيس حسب راوية الأستاذ الأديب (12/10/1957م)، الى زمن رواية السيد محمد باقر الحكيم أواخر صيف عام 1958م؟!!
7. لعل من المفارقات الغريبة ما ينقله الحاج محمد صالح الأديب (..أن مفاتحة وكلاء السيد محسن الحكيم [للانضمام الى الحزب] حدث بعد انقلاب 14 تموز 1958م)(22)، ولا يعقل ان الحزب بقى حوالي سنة كاملة دون كسب ولا مفاتحات؟!!!، خصوصاً وان الأستاذ الأديب يذكر انه (..في ذلك الاجتماع [اجتماع كربلاء عام 1957م] تقرر أن ينطلق كلٌ منا إلى منطقته ويعمل لكسب الأنصار ومفاتحتهم بالانضمام للحركة الاسلامية)(23).
8. يقول السيد الشهيد مهدي الحكيم لقد (أقمنا ـ بعد تأسيس الحزب ـ في مسجد الهندي في أول سنة لثورة 14 تموز، في شهر رمضان مجلساً، وصعدتُ المنبر، وهذه ظاهرة جديدة كما قلت، وكان السيد الشهيد الصدر (رض) يحضر المجلس من أجل تأييد هذا الاتجاه، وليس من أجل الاستفادة...)(24).
وعندما ندقق نجد ان تاريخ أول رمضان في أول سنة لثورة 14 تموز يصادف بالتاريخ الميلادي 11/3/1959م، ومنطقياً ان هذا النشاط كان قريباً من تاريخ التأسيس وليس بعيداً عنه بمدة طويلة جداً تصل الى حوالي سنة وأربعة أشهر!!!
9. يذهب السيد الشهيد محمد باقر الحكيم ان تأسيس "جماعة العلماء" كان قبل تأسيس حزب الدعوة الاسلامية، والتي تأسست بعد حوالي شهرين من انقلاب عبد الكريم قاسم وبالتحديد في 17/صفر/1378هـ (2/9/1958م)(25)، وبغض النظر عند دقة رأي السيد الشهيد محمد باقر الحكيم وقبوله أو رفضه من قبل الباحثين إلاّ ان نشاط جماعة العلماء بعد ثورة ـ انقلاب عبد الكريم قاسم في 14 تموز عام 1958م يشير بوضوح الى ان هذا الحدث الكبير (حرك .. جميع الناس، وخَلق أجواء جديدة للتفكير بالسياسة والأعمال الحزبية، وتأثرت الحوزة العلمية في النجف الأشرف بهذه الأحداث، وتحسس عددٌ كبيرٌ من خيرة أفراد الحوزة الأوضاع وغياب الإسلام عن الساحة السياسية، وبإمكانية العمل من أجل الإسلام)(26) كما يقول الشهيد السبيتي (رحمه الله) وفي ذلك دلالة كبيرة على ان تأسيس الحزب ـ وانطلاقه كان بعد هذا الحدث الكبير وليس قبله.
10. من المفارقات الغريبة في هذا المسألة اعتماد حزب الدعوة الاسلامية على راوية الاقلية دون الأكثرية، بعد ان عرفنا ان ستة من المؤسسين يذهبون الى ان زمان التأسيس كان بعد ثورة ـ انقلاب 14 تموز 1958م، وان أثنان منهم فقط من خالف ذلك!!
11. ان مسألة فصل تاريخ التأسيس عن تاريخ الانطلاق، أو فرض تاريخين واحد خاص بالتأسيس، وآخر خاص بالانطلاق، أمر غير وارد في تاريخ الاحزاب السياسية حسب علمنا، لأنه لا يوجد حزب تأسس في لحظته دون المرور بمقدمات وحوارات وجلسات ومباحثات سابقة على اعلان التأسيس، وكلها لا تحسب ضمن التاريخ الرسمي للتأسيس، بل من الطبيعي والمعتاد وجود اعلان واحد يكون هو التاريخ الرسمي لتأسيس وانطلاق أي حزب.
خلاصة:
هذه بعض الادلة والمؤيدات والملاحظات والتعليقات حول سَنة تأسيس حزب الدعوة الاسلامية، وربما في المستقبل ستخرج أدلة ومؤيدات أخرى تثبت ذلك بشكل أكبر.
سنبحث في الحلقة القادمة مسألة المؤسسين وكيف أخرج حزب الدعوة الاسلامية ومؤرخوه الاستاذ الشهيد محمد هادي السبيتي صاحب الفكرة والمؤسس والقائد والمنظر الأبرز للحزب من دائرة المؤسسين.
***
أزهر السهر
......................
الهوامش:
(1) ينظر، الشهيد القائد محمد هادي السبيتي والشهيد المفكر عبد الزهرة عثمان (عزالدين سليم)، ثقافة الدعوة الاسلامية: النشرات السرية لحزب الدعوة الاسلامية (1957ـ1982م)، نشر وتقديم: حسين جلوب الساعدي، مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، كانون الثاني 2017م ـ ربيع الثاني 1438هـ، ج3، ص270 وما بعدها بتصرف قليل.
(2) ينظر، رشيد الخيون، أمالي السيد طالب الرفاعي، دار مدارك للنشر، الطبعة الأولى، مارس (آذار) 2012، ص153.
(3) ينظر، فرات عبد الحسن كاظم الحجاج، عزالدين سليم وفكره السياسي، المركز الوطني للدراسات الاجتماعية والتاريخية في البصرة، طبع وتوزيع شركة العارف للأعمال ش.م.م، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، حزيران ـ يونيو 2011م، ص75.
(4) ينظر د. شلتاغ عبود المياح، موسوعة الدعاة: سيّر أبطال كتبوا بدمائهم وأفكارهم مسيرة الدعوة الإسلامية في العراق والمنطقة الإسلامية، ج1، الطبعة الاولى 2019م، نشر وتوزيع شركة العارف للأعمال ش.م.م بيروت ـ لبنان، ص200.
(5) ينظر، محمد الحسيني، محمد باقر الصدر: حياة حافلة.. فكر خلاق، دار المحجة البيضاء، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى 1426هـ ـ 2005م، ص69.
(6) ينظر، من مذكرات العلامة الشهيد محمد مهدي الحكيم (رض) حول التحرك الاسلامي في العراق، اعداد: مركز شهداء آل الحكيم للدراسات التاريخية والسياسية، بدون مكان ولا سنة الطبع، ص39.
(7) ينظر، صلاح الخرسان، الإمام السيد محمد باقر الصدر في ذاكرة العراق: أضواء على تحرك المرجعية الدينية والحوزة العلمية في النجف الأشرف (1958ـ1992م)،الطبعة الأولى 1425هـ ـ 2004م، مطبعة الوسام، بغداد، ص 101، نقلاً عن السيد محمد باقر الحكيم، النظرية السياسية عند الشهيد الصدر، (نسخة محدودة التداول) 8 نيسان 1988م، ص5.
(8) ينظر، الصادق العهد: صفحات من حياة الداعية المؤسس الاستاذ الحاج محمد صالح الاديب، الطبعة الأولى 1999م،ص45 وما بعدها، بدون مكان الطبع واسم المطبعة.
(9) ينظر، حسن شبر، حزب الدعوة الاسلامية: تاريخ مشرق وتيار في الأمة، الكتاب الأول 12/10/1957ـ 17/7/1968م، العارف للمطبوعات، الطبعة الثانية، تشرين ثاني ـ نوفمبر 2009م ـ ذو القعدة 1430هـ، ص12.
(10) ينظر، الشيخ علي الكَوراني، الى طالب العلم، الطبعة الثانية 1439هـ ـ 2018م، بدون مكان الطبع واسم المطبعة، ص240.
(11) محاضرة صوتية مسجلة للمرحوم السيد عبد الأمير علي خان محفوظة في ارشيف الشهيد عزالدين سليم.
(12) توفيق التميمي، شهادات عراقية: حوارات في ذاكرة عراقية، تموز، طباعة، نشر، توزيع، الطبعة الأولى، دمشق 2012م، ج2، ص175 وما بعدها.
(13) ينظر، الشهيد حسين معن، الوضع السياسي في العراق، ملحق التقرير السياسي الاسلامي العدد رقم (20)، المركز الاسلامي للدراسات السياسية، طهران، صفر 1403هـ، ص35.
(14) ينظر، عبد الزهرة عثمان محمد (عزالدين سليم)، صفحات من أيامي، منشور في كتاب د. جودت القزويني، تاريخ القزويني في تراجم المنسيين والمعروفين من أعلام العراق وغيرهم (1900ـ 2000م)، الطبعة الأولى، الخزائن لأحياء التراث، بيروت ـ لبنان 2012م، المجلد الرابع عشر، ص 41.
(15) ينظر، هاشم الموسوي، حزب الدعوة الاسلامية المنطلق والمسار، من اصدارات الدائرة الاعلامية، حزب الدعوة الاسلامية، بدون سنة ومكان الطبع، ص16.
(16) ينظر، السيد حسن شُبّر، حزب الدعوة الإسلامية في معترك الأحداث، الكتاب الثالث من بعد شهادة الإمام السيد محمد باقر الصدر 8/ 4 /1980م، الى انتفاضة شعبان 1991م، العارف للمطبوعات، الطبعة الأولى تشرين ثاني ـ نوفمبر 2009م ـ ذو القعدة 1430 هـ، ملحق رقم (3) محمد هادي السبيتي قائداً وشهيداً، ص 452 وما بعدها.
(17) يقول الاستاذ صلاح الخرسان: (اعتمد حزب الدعوة الاسلامية يوم 17/ربيع الأول/ 1377هـ كتاريخ رسمي لتأسيسه وهو يصادف ذكرى ولادة الرسول الأعظم محمد (ص) وولادة حفيدة الإمام جعفر الصادق (ع) ويستند الحزب في ذلك الى راوية الحاج محمد صالح الأديب، والذي أكد من جانبه لكاتب السطور في مقابلة أجراها معه في دمشق في 15/7/1994م، انه غير متأكد بالمرة من تاريخ اليوم الذي عُقد فيه الاجتماع المذكور، ولكنه متيقن من تاريخ الشهر وهو ربيع الأول/1377هـ. واستناداً الى ذلك يمكن توثيق الحدث من الناحية التاريخية من جهة وقوعه في ربيع الأول والذي يصادف بالتاريخ الميلادي شهر تشرين الأول 1957م)[ينظر، صلاح الخرسان، حزب الدعوة الاسلامية حقائق ووثائق: فصول من تجربة الحركة الاسلامية في العراق خلال 40 عاماً، المؤسسة العربية للدراسات والبحوث الاستراتيجية، سورية ـ دمشق، الطبعة الأولى 1419هـ ـ 1999م، ص59.
(18) ينظر، الصادق العهد: صفحات من حياة الداعية المؤسس الاستاذ الحاج محمد صالح الاديب، الطبعة الأولى 1999م،ص48، بدون مكان الطبع واسم المطبعة.
(19) ينظر، عامر حميد سلطان العابدي، محمد هادي السبيتي ودوره السياسي حتى عام 1981م، رسالة ماجستير غير مطبوعة، نوقشت في جامعة المستنصرية ـ كلية العلوم السياسية عام 2017م، ص80.
(20) ينظر، المصدر نفسه، ص81،[بتصرف قليل].
(21) ينظر، احمد ابو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، الطبعة الثالثة 2008م، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ج1، ص259.
(22) ينظر، الصادق العهد: صفحات من حياة الداعية المؤسس الاستاذ الحاج محمد صالح الاديب، الطبعة الأولى 1999م،ص52، بدون مكان الطبع واسم المطبعة.
(23) ينظر، المصدر نفسه، ص47.
(24) ينظر، من مذكرات العلامة الشهيد محمد مهدي الحكيم (رض) حول التحرك الاسلامي في العراق، اعداد: مركز شهداء آل الحكيم للدراسات التاريخية والسياسية، بدون مكان ولا سنة الطبع، ص42.
(25) ينظر، احمد ابو زيد العاملي، محمد باقر الصدر السيرة والمسيرة في حقائق ووثائق، الطبعة الثالثة 2008م، مؤسسة العارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ج1، ص302 وما بعدها.
(26) ينظر، الشهيد القائد محمد هادي السبيتي والشهيد المفكر عبد الزهرة عثمان (عزالدين سليم)، ثقافة الدعوة الاسلامية: النشرات السرية لحزب الدعوة الاسلامية (1957ـ1982م)، نشر وتقديم: حسين جلوب الساعدي، مؤسسة الهدى للدراسات الاستراتيجية، دار الهدى للطباعة والنشر والتوزيع، كانون الثاني 2017م ـ ربيع الثاني 1438هـ، ج3، ص270، [بتصرف قليل].

 

ها هي نتائج الانتخابات الأمريكية شبه محسومة لصالح ترامب، فيما خالَف آخر استطلاعات للرأي قبيل الاقتراع.
كان هناك استقطاب حاد، وكان هناك تحفز. والجيش نشر قواته حول بعض المؤسسات لحمايتها، وكانت هناك تهديدات مزيفة بتفجير بعض مراكز الاقتراع. إلا أن كل هذا هدأ وانتهي بمجرد ظهور النتائج بفوز ترامب.
ثمة حالة ارتياح عامة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد حالة من التحفز والقلق جراء تهديد أنصار ترامب باستخدام العنف لو حدث تزوير. ثم جاءت النتائج على هوي هؤلاء، فلا داعي للعنف إذن..
تلك الانتخابات شهدت أكبر حجم إقبال في تاريخ أمريكا كله. وهو إقبال جاء لصالح الجمهوريين الذين بدا أنهم أنفقوا أفضل على حملتهم الانتخابية، وأتقنوا فن الدعاية، واستطاعوا بالفعل كسب تأييد قطاعات كبيرة ممن تم استقطابهم لصالح هذا الحزب أو ذاك.
ها هو ترامب يعود. فكيف فاز؟ وماذا سيفعل؟ وهل يكون ترامب اليوم مثل ترامب الأمس؟!
كيف فاز؟
كما فعلها أمام "هيلاري كلينتون سابقاً، ربح الآن بخلاف التوقعات، وبنتيجة مريحة للغاية!
والحقيقة أن النتائج بالفعل عجيبة: أولاً: لأن يهود نيويورك لم يصوتوا لصالحه، وبعض يهود الولايات الأخرى صوتوا ضده. في الوقت الذي بدا أن الأصوات التي رجحت كفته في الولايات المتأرجحة كانت أصوات العرب والمسلمين. فكيف حدث هذا؟
لقد كان أداء إدارة بايدن المنحاز تماماً لإسرائيل في حربها على غزة عاملاً رئيسياً في بغض هذه الإدارة، حتى لو كانت كامالا هاريس هي المعبرة عن هذه الإدارة. وحتى لو أنها جاءت في أواخر حملتها الانتخابية لتعد ناخبيها أنها ستوقف الحرب في غزة، فلماذا لم توقفها خلال الـ 13 شهراً الماضية؟!
والحق أن اختيار الحزب الديمقراطي لهاريس كان خاطئاً من البداية لسببين: أولهما أنها تمثل إدارة بايدن الذي انسحب من السباق الرئاسي بسبب انخفاض شعبيته، والثاني: أنها بلا شعبية حقيقية امام غول السياسة والاقتصاد ترامب. بينما لو كان الحزب الديمقراطي اختار "هيلاري كلينتون مثلاً لتمثيله، فكان سيستفيد بأنها لا تمثل إدارة بايدن، وأنها بيضاء البشرة، والأهم أنها بالفعل استطاعت خلال انتخابات 2016 أن تتفوق على ترامب في التصويت الشعبي، وإن خسرت أصوات المجمع الانتخابي، فكانت فرصها أقوي كثيراً من هاريس. ولهذا فإن ترامب أعلن مبكراً أنه سيفوز في الانتخابات بمجرد علمه أن هاريس هي المرشحة ضده. لأنه يعلم مدي قوته ومدي ضعفها.
أكثر من هذا أنه استطاع استمالة العرب والمسلمين لصفه في خطاباته، وأكثر باستغلال سوء إدارة البيت الأبيض لحرب غزة في ظل بايدن وهاريس.
ثانياً: استطاع ترامب أن يستميل الأقليات، وبخاصة المهاجرين من الدول اللاتينية. حدث هذا بالرغم من أنه سبَّ هذه الدول، فقال عنها أنها تصدِّر لهم نفايتها! ورغم هذا فإن الكثير من المهاجرين اللاتينيين منحوه أصواتهم. فكيف حدث هذا؟ هل بفعل المال السياسي، هل بفعل وعود وتطمينات أعطاها لهم في خطاباته الأخيرة؟ أم بفعل كاريزما خاصة يتمتع بها ترامب؟!
لا يمكن إنكار ما يتمتع به ترامب من كاريزما وإن كان يتمتع في الوقت نفسه بكراهية عظيمة من خصومه. وهي كاريزما تشبه ما يتمتع به مقاتلو المصارعة الحرة الذين اعتادوا السباب والتهديد. هكذا كان ترامب بطلاً في أنظار بعض الأمريكيين ممن ينتصرون للأقوي وإن كان فاسداً أو مغروراً أو سيئ الأخلاق. فكل هذا لا يهم في نظرهم، المهم أنه يكسب دائماً.
ها هو قد فاز بالرئاسة من جديد، وسيعود للبيت الأبيض. وقد عرفناه وعرفنا طريقته في إدارة الأمور. هذا الرئيس "البزنس مان". كيف سيتصرف؟ وماذا ستكون أول قراراته؟
ماذا سيفعل؟
أيام تفصلنا عن تنصيب ترامب رئيساً لأمريكا. ولا أتوقع أن تكون هناك محاولة ثالثة لاغتياله، لأنه سوف يتمتع بحماية مكثفة منذ لحظة إعلان النتيجة.
وطبقاً لتصريحات ترامب نفسه فإن أول ما سيفعله فور تسلم الحكم، أنه سيحاكم بايدن بتهم مختلفة تخصه وتخص ابنه! ثم إنه سيبرئ نفسه من كل القضايا التي سبق واتهمه بها الديمقراطيون. وربما تسقط عنه كل الأحكام السابقة، فيقوم بإسقاطها بنفسه.
وأما الاقتصاد فلعبته وسوف يتمكن من جلب الأموال من كل طريق، خاصة لو استطاع تنفيذ وعوده بإيقاف الحرب الأوكرانية التي تستنزف خزائن أمريكا. وربما كان السبب الأول أن بوصلة الانتخابات اتجهت نحو ترامب هو العامل الاقتصادي في الأساس؛ لأن ترامب استطاع بالفعل تحسين معيشة الأمريكيين أثناء حكمه.
وأما موقفه من الهجرة غير الشرعية فهو موقف مُعلن ومعروف، وسوف يعود لغلق الحدود في وجه أي مهاجر وبكل السبل الممكنة. وأما موقفه من الشرق الأوسط فإنه معروف أيضاً، لأنه منحاز تماماً لإسرائيل، وقد وعدها بتوسعة خريطتها بضم الضفة الغربية وتأمين بناء مستوطنات جديدة في مناطق مختلفة.
خلال ولايته الثانية تلك. لن يكون ترامب مضطراً لمجاملة أحد، لا اليهود ولا غيرهم. لأنه لن يكون حريصاً على ولاية ثالثة لا تجوز له. لهذا سوف تكون لديه حرية مطلقة أن يفعل ما يشاء؛ وبخاصة أن المجالس النيابية والتشريعية ستكون في الغالب جمهورية تماماً، ما سوف يجعله قادراً على تمرير أي قرار مهما كان صادماً أو غريباً.
هناك دول وأفراد سعيدة بعودة ترامب، ودول أكثر تكرهه أو تخشاه. فكيف سيكون المشهد العالمي أمام عودة ترامب. وهل ستختلف الأوضاع عما سبق؟
المشهد الإقليمي والعالمي
أما في فلسطين المحتلة. فقد استبق نتنياهو الأحداث وسارع بإقالة وزير الدفاع يوآف جالانت، وقام بتعيين وزير خارجيته المحسوب على تيار اليمين المتطرف. فيما يبدو أنها حركة هجومية يستبق بها نتنياهو محاولات لإزاحته. وفى الوقت نفسه يستطيع تمرير قرار استمرار الحرب رغم الضغط العالمي والمحلي لإيقافها.
لقد كان نتنياهو ينتظر لحظة وصول ترامب، لأنه الأكثر تفهماً لسياساته الدموية. ولا شك أن الفترة القادمة سيستغلها نتنياهو للتصعيد، خاصة بعد استهداف تل أبيب ومطار بن جورين تزامناً مع الانتخابات الأمريكية. فمتي سيضرب نتنياهو إيران؟ وهل تنجر المنطقة لحرب إقليمية؟ هذا ما يبدو في الأفق.
أمرٌ ثانٍ من المتوقع أن يحدث، وهو انسحاب أمريكا من جبهة أوكرانيا. وهو ما سيضع أوروبا والناتو فى. مأزق. وسوف يعطي روسيا الفرصة لإنهاء اللعبة لصالحها وابتلاع أوكرانيا وربما ما هو أبعد. ولهذا فإن الرئيس الأوكراني زيلينسكي ظهر في الصورة يتملق ترامب ويمتدحه، محاولاً إثنائه عن نيته المعلنة بالانسحاب من أوكرانيا، وإنهاء الحرب على الحدود الأوروبية.
الصين أيضاً تعيد الآن حساباتها طبقاً لعودة ترامب. وفى الغالب لن تُقدم على مهاجمة تايوان، كما لن تُقدم كوريا الشمالية على مهاجمة جارتها الجنوبية. بل سوف يظلون في وضع المناورة والتهديد دون اتخاذ أي خطوة هجومية إلا في حالة شعورهم بالتهديد المباشر، وهو ما لن يحدث في ظل إدارة ترامب الاقتصادية. ربما تنشأ حروب اقتصادية بين الصين وأمريكا، لكنها لن ترقَي لمستوي الحرب المباشرة كما أتوقع.
معني هذا أن البؤرة المشتعلة الوحيدة ستكون في فلسطين المحتلة. وقد تمتد ألسنة اللهب إلى حدود إيران. وهو ما سيؤدي لاشتعال الأوضاع أكثر في عدة محاور ومضايق بحرية، بما قد يهدد خطوط الملاحة البحرية، وحركة التجارة وسلاسل الإمداد. وبما قد يؤدي لارتفاع أسعار المحروقات. الجميع الآن يعيد حساباته طبقاً لما أفرزته نتائج الانتخابات الأمريكية فجاءت بترامب رئيساً للمرة الثانية. هذا مشهد جديد قديم. وإنَّ غداً لناظره قريب.
***
عبد السلام فاروق

حول المبالغات في تأثير الصوت العربي والمسلم في الانتخابات الأميركية وكيف كافأ الناخبون النائبتين المسلمة إلهان عمر والفلسطينية رشيدة طويلب بإعادة انتخابهما وإسقاط منافسَيهما الصهيونيين:
إن نتائج الانتخابات المسجلة حتى الآن والتي تعطي لترامب 295 صوتا في المجمع الانتخابي مقابل 226 صوتا لكمالا هاريس، تجعل تأثير الصوت العربي المسلم خصوصا في ميشيغان مبالغا في حسمه لنتيجة الانتخابات. فحتى لو كانت هاريس قد فازت بهذه الولاية لما تغيرت النتيجة كثيرا خصوصا وأن النتائج أكدت أن نسبة مرتفعة من الأصوات السوداء واللاتينية قد ذهبت ولأول مرة إلى ترامب. والمسؤول عن ذلك أساسا إدارة بايدن الديموقراطية التي لم تقدم حلولا للشباب الأميركيين وأصبحت شريكا للكيان في حرب الإبادة الجماعية التي يشنها. غير أن هذه النتائج لا تعني فقدان الصوت العربي والمسلم لوزنه أو تأثيره مستقبلا ولكن تأطيره وتنظيمه أمران مهمان لا يمكن تثمير هذا الصوت من دونهما.
وفي ميشيغان ذاتها التي يقدر عدد الأميركيين من أصول عربية فيها بنحو 392 ألفا، وفق بيانات المعهد العربي الأميركي، لم يخسر الديموقراطيون أصوات العرب والمسلمين فقط بل خسروا أصوات الشباب بين 18 و29 حيث انخفض تصويتهم لمصلحة المرشحة الديموقراطية من 61 بالمئة سنة 2020 إلى 46 بالمئة. وانخفض الصوت العربي والمسلم من 70 بالمئة صوتوا لمصلحة بايدن وأنقذوه من الهزيمة سنة 2020 أمام ترامب إلى 9 بالمئة لمصلحة هاريس ولكن أصواتهم انقسمت بين مرشحة حزب الخضر والمرشح الجمهوري.
نعم، الصوت العربي والمسلم عاقب الديموقراطيين جزئيا ولكنه لم يتسبب بهزيمتهم الساحقة والتي كانت ستحصل حتى لو فازت هاريس بميشيغان. ففي هذه الولاية فاز ترامب على هاريس بفارق أصوات تجاوز 81 ألف صوت. أما أصوات 40 بالمئة من العرب والمسلمين فلم تعطي لجيل شتاين أكثر من 8 بالعشرة بالمئة أي أقل من 1% وثل هذه النسبة ذهبت الى ترامب.
ورغم هزيمة الديموقراطية هاريس ولكن مما له دلالته "نجاح النائبة الديموقراطية المسلمة إلهان عمر في الدفاع عن مقعدها ضد مرشح جمهوري مؤيد لإسرائيل، رغم الدعم المالي الكبير لمنافسها من جماعات داعمة لإسرائيل، يشير بشكل واضح إلى وجود دعم متزايد داخل القاعدة الديموقراطية لسياسات تتحدى الوضع القائم بشأن إسرائيل وفلسطين". كما كافأ الناخبون النائبة الديموقراطية من أصل فلسطيني رشيدة طليب التي حققت فوزاً ساحقاً على منافسها الجمهوري جيمس هوبر في الانتخابات عن الدائرة الثانية عشرة في ميشيغان، لتؤمن بذلك فترة رابعة كأول امرأة فلسطينية أميركية في الكونغرس الأميركي. وجاء هذا الانتصار بعدما كانت طليب صوتاً بارزاً في انتقادها لهذه الحرب، داعيةً الولايات المتحدة إلى وقف إمداد إسرائيل بالأسلحة كما عبّرت عن دعمها للاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية، ما جلب لها انتقادات شديدة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. ويأتي فوزها بعد امتناعها عن تأييد كمالا هاريس في الانتخابات الرئاسية لعام 2024" ما يعني أنهما ستظلان شوكة في خاصرة ترامب والديمقراطيين المتصهينين.
وعن أجواء العداء للقضية الفلسطينية التي سادت في الانتخابات يمكن الإشارة الى رسالة الرئيس الأسبق بيل كلينتون إلى الناخبين العرب والمسلمين في ميشيغان والتي فهمها الناس كتبرير لحرب الإبادة الصهيونية وكأنه قال لهم "إن العرب يستحقون الموت" كما كتب علي عواد/ رابط 1. ويضيف عواد: "وإرسال ليز تشيني، التي قاد والدها مجزرة بحق مليون ونصف مليون عربي في العراق إلى ميشيغان أيضاً، هو تصرف ساذج وغير مفهوم. أما كمالا هاريس، فقد واجهت أسئلة متكررة خلال حملاتها الانتخابية عن غزة، وردودها التي كررت حقّ إسرائيل في «الدفاع عن نفسها». وقد فسّر كثيرون تصريحاتها حول «أحداث العنف» في السابع من أكتوبر، وذكرها للاعتداءات العنيفة، بصفتها تبريراً ضمنياً للقصف على غزة.
آخذين بنظر الاعتبار ما تقدم من وقائع وأرقام يمكن الاتفاق مع ما قاله السيناتور الديمقراطي من أصل عربي كما يبدو من اسمه جورج حلمي عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي "إن الحرب في غزة ساهمت في خسارة كمالا هاريس ولاية ميشيغان. وإنَّ على الولايات المتحدة أن تحاسب حلفاءها عندما يخالفون القانون الدولي". وأضيف إنما من دون مبالغات ومع ضرورة تأطير وتنظيم الصوت العربي في لوبي مؤثر وديموقراطي داخليا.
ترامب ليس جديدا على شعوبنا فهي تعرفه منذ أن زار العراق متسللا بطائرة مطفأة الأضواء ليلا لـ 45 دقيقة! رغم الهزيمة الساحقة التي حلت بمرشحة حزبهم الديموقراطي تواصل قيادة وإعلام هذا الحزب التمسك بلغة نفاقية مرائية باتت جزءا عضويا منهم فكريا ومعنويا "أخلاقيا" وتنظيميا. لقد أعلنوا اليوم أن السبب الوحيد وراء هذه الهزيمة هو بايدن الذي تأخر في سحب ترشحه للرئاسيات ولم يترك لكمالا هاريس وقتا كافيا لتخوض حملتها! حتى لو افترضنا أن هناك شيئا من الصحة الإجرائية في هذا السبب فهو ليس السبب الوحيد ولا الأهم. السبب الأهم نجده في الدعم اللامحدود الذي قدمه بايدن وإدارته لمجرمي الحرب الصهاينة في حرب الإبادة التي يواصلون شنها على الشعب الفلسطيني الجريح والمخذول من جميع العرب والمسلمين حكاما وشعوبا إلا ما ومن ندر في جبهات الإسناد. السبب الاخر نجده في فشل إدارة بايدن الديموقراطية في حل أية مشكلة داخلية وألقت بملايين الشباب الأميركيين الفاقدين للأمل بحياة ذات معنى إلى أحضان اليمين المتطرف ومرشحه ترامب. سبب آخر نجده في اصطفاف إدارة بايدن مع الفاشيين في أوكرانيا وتغذيتهم بعشرات المليارات من الدولات وأحدث الأسلحة ومحاولتهم محاصرة وإضعاف روسيا تحت حكم القوميين الأرثوذوكس وهناك أسباب وأسباب!
وحين يُهزَم الحزب الديموقراطي على يد بلطجي فاسد وومدان محكوم قضائياً ويميني متطرف وعنصري ورجل أعمال فاشل وشبه أمي مثل دونالد ترامب فهذا يعني أن الطرف المهزوم بلا حول ولا قوة ولا ذرة عقل وهو ليس أفضل من الطرف الآخر!
حسنٌ، البعض يريد إرعاب شعوبنا وحركات المقاومة فيها وكأننا أمام غزو فضائي لا سابق له وليس أمام العجوز السمج والجاهل ترامب الذي جربته شعوب المنطقة في فترة حكمه الأولى ولم يُسْكِت أو يُخْضِع هذه الشعوب رغم كل عمليات الاغتيال والقتل والإرهاب ضدها وضد قياداتها؟
أليس هو ترامب المذعور الذي زار مستعمرته العراقية خلال فترة حكمه السابقة متسللا بطائرة مطفأة الأضواء في ساعة متأخرة من الليل ولم يبق بين جنوده سوى 45 دقيقة خوفاً من استهدافه هو والطائرة؟
العراقيون وشعوب المنطقة معهم يعرفون من هو ترامب أما حكام العراق الذين سارعوا وأبرقوا له مهنئين بالانتصار ومتناسين مذكرة الاعتقال التي أصدرها القضاء العراقي بحقة كقاتل لمسؤول عراقي كبير وضيفه الإيراني واعترف بجريمته علنا، أما هؤلاء الحكام فهم ليسوا أكثر من جوقة من التابعين الفاسدين المستمدين حولهم وقوتهم من طيران ودبابات ترامب!
***
علاء اللامي
....................
رابط1: الإبادة «لايف» لعنة حلّت على «الديموقراطيين» بقلم علي عواد
https://al-akhbar.com/Palestine/387311

 

تصدر الكُتب والبحوث والمقالات بكثرة، ما يلامس السّطح مِن تاريخ السّياسة، اعتماداً على المرئي والمسموع، وثبت الحوادث الظّاهرة، لكنّ النَّادر ما وصل إلى جواهر الوقائع، التي تمارس بنوايا لا صِلة لها بالمشهور، فشكلت تاريخاً موازياً للتاريخ الرَّسميّ.
أجد في كتاب الباحث الإيراني آراش رايزنجاد «شيعة إيران وأكراد العراق وشيعة لبنان»، الصَّادر (2018-2019) عن «بالجريف ماكميلان»، مِن النَّوادر التي كشفت الوقائع، فالباحث لم يكثر مِن التّنظير، إلا ما وجب، إنما اِعتمد المظان الأُصول، مِن أفواه وأقلام صُناعها، درس السياسة الإيرانيَّة في عهد الشّاه محمد رضا بلهويّ(1941-1979)، متناولاً منها موضوع السّياسة الخارجية الإيرانية غير الرّسميَّة بالعِراق ولبنان.
اعتمد رايزنجاد، وثائق الأرشيف الإيرانيّ، والأميركي، وأرشيف «السَّافاك» جهاز المخابرات الإيراني آنذاك، عندما جعل الشَّاه إدارة السِّياسة الخارجية غير الرّسميَّة بيد السَّفاك، بما هو أقوى مِن وزارة الخارجية نفسها.
بحث في أرشيف العلاقات الإيرانيّة العراقيّة، ما يخص الأحزاب الكردية العراقية، وما وثقته جامعة هارفارد، ومذكرات قادة الدبلوماسية الإيرانية ببيروت وبغداد، وضباط «السَّافاك»، الذين كانوا يديرون السياسة غير الرسمية؛ ناهيك عن التاريخ الشفاهِيِّ، بمقابلات الفاعلين في تلك الفترة.
كان الكتاب بمجمله، قصة تلك السِّياسة حتَّى الثورة الإيرانيَّة (1979)؛ كيف أصبح مؤسس جهاز السَّافاك ثائراً ضد الشّاه، ويتحرك بين العواصم للثورة داخل إيران ضد مليكه، حتَّى مصرعه على يد الجهاز الذي أنشأه.
تظهر عادةً سياسة الدوُّل الرّسميَّة مِن بياناتها ومواقفها؛ ويمكن القول إنَّها سياسة مرئية، إلا أنَّ السِّياسة غير رسميَّة، بالضّرورة تكون مخفية، وتمارس بالعكس تماماً مِن الرّسميَّة، تعتمد، حسب ما قدمه مؤلف الكتاب، بأسلوب رائع، على جماعات خارجيَّة، لا تبدو الحكومة تخصهم باهتمام في سياساتها الرّسميَّة، والمقصود أكراد العِراق، وشيعة لبنان. تُظهر الأكراد والشِّيعة أنَّ ما يُقدم إليهما مِن دعم بلا مقابل؛ فلا يبدوان أنهما مُستَغَلان لأجندة من أستغلهما، بينما الحقيقة مخالفة لِما تدعيه تلك السّياسة، فالأكراد والشّيعة مجرد لعبتين.
كان شاه إيران مأخوذاً بما يسميه بالخطر الأحمر، خشية مِن تحرك يساري مسنوداً مِن موسكو، وقد تصاعد هذا الشعور بعد تسلم اليسار السلطة بإفغانستان(1978)، ومع أنه لم يكن على عرشه، عندما دخل الاتحاد السُّوفييتي أفغانستان(1979)، إلا أن ما حصل كان هاجسه الأول، فربَما تكون إيران بعد أفغانستان، حتَّى دفعه هاجسه إلى اعتبار رجال الدّين الثوريين شيوعيين أيضاً.
كان الشاه يرى في التفوق العسكري وحده؛ حماية لسلامة عرشه وبلاده، فلم يعر للثقافة والتطور الاجتماعي اهتماماً، وقد أسكت الملكة فرح عندما طرحت فكرة الاهتمام بالثَّقافة، قال: «هذا ليس من شأنكِ، في حين كنا فخورين بحقّ ثقافة إيران، كانت أراضي إيران مُحتلة مِن قِبل الحلفاء». كان يعتبر الثَّقافة طريقَ الشيوعيين إلى السلطة، مؤكداً: «سوف ينتصر المثقفون على العالم، دون خلق عالم أفضل، لأنّه عندما يدمرونه، يستولي الشّيوعيون عليه». فالتحديث الذي كان يفهمه شاه إيران هو «التنمية العسكرية».
عانى العِراق، ولبنان أيضاً، مِن السياسة الخارجية غير الرَّسمية الإيرانيَّة، في ذلك العهد، فإذا اُستخدم أكراد العراق ضد بغداد، فلم يفلحوا إلا بالمصائب عندما صارت كردستان ساحة لتضارب المصالح بين الدّول، وإذا كان مجيء موسى الصّدر(اختفى: 1978) إلى لبنان، هدفه «تقدم الشّيعة»، كانت السَّافاك تحاول جعل الشَّيعة جزءاً مِن إيران، والشّاه هو حامي الشِّيعة بالعالم، انطلاقاً مِن لبنان، والصَّدر يمتنع.
تجد في قصة السِّياسة الخارجية الإيرانيّة غير الرسميَّة التوأمين: «عاشوراء والنَّيرُوز»، يربط بهذين الهلالين، والتسمية لآراش، الشّيعة والأكراد، ولا نظن أنَّ الأمرَ قد تغير، ففي سياسات الدول الرّسميّة الوضوح، وفي غير الرّسميّة المخفي، وهو الأخطر، فلا قيود ولا التزامات.
***
د. رشيد الخيون

 

قيل المنتصرون هم من يكتبون التاريخ، ربما يصح ذلك نسبيا، عندما تكون حكاية التاريخ قد انتهت، وان مصادر كتابة التاريخ واحدة، وان المنكسرون لا يتكلمون ولا يسمعون ولا يبصرون، وكأنهم اموت، وهذا ما يجافي منطق التاريخ ذاته، فالمنتصر القابض على السلطة والثروة، وكل ادوات القمع، والبطش، والقهر والعسف، المادية والمعنوية، قادر على إشاعة ما يريد من سرديات، بما فيها الملفقة والمشوهة والمختلقة والإقصائية، لكنه غير قادر على جعل كل الناس مؤمنين بها كمسلمات، وإلا لدامت دول وإمبراطوريات وعقائد الانظمة التي إنتصرت يوما ما اثناء سجال التاريخ، وقد تعلمنا من التاريخ ان جوهر الصراع المجتمعي متغير بإستمرار، وان ارادة الشعوب المقاومة لابد ان تنتصر في المحصلة، برغم الهزائم والانكسارات، فالايام تدور، وبدورانها تتفاعل عوامل القوة والضعف، وبالتراكم ينبثق كيف جديد، ومن معجلاته، إشتعالات ارواح الطلائع المقدامة التي تبث طاقة في الصفوف، تحفز على المطاولة المنتصرة، بالنقاط لا الضربات القاضية !
هيرودوتس رأى وكتب!
يكاد يتوسل مبعوث، خاشايارشا احشيورش الاول، قائد جحافل الأخمينيين وملكهم، الذي قرر إخضاع ممالك اليونان لنفوذه، بليونيداس ملك سبارطة، لإقناعه بعدم الوقوف بطريقه لأن ذلك يعني الانتحار، فالجحافل مليونية، ومقاومة الإسبارطيين لا جدوى منها، ورفض القائد الإسبارطي العرض رغم ضمانته لإستمرار حكم الاسبارطيين تحت جناح الأخمينيين سادة الدنيا حينها، وبعد اخذ ورد، استطاع اعوان الملك الأخميني إخافة المتحالفين مع سبارطة وانسحبوا من المواجهة، ولم يتبقى مع ليونيداس سوى خاصته من المحاربين الاحرار الذين يؤمنون بأن الجبن امام الجبابرة يجعلهم اكثر غرورا وعجرفة، اما صدهم وجرحهم فسيجعلهم اكثر تواضعا، وعليه قرر ليونيداس المقاومة حتى النفس الأخير مع أنفاس المحاربين الإسبارطيين ال 300، ويروي ابو التاريخ هيرودوتس نقلا عن الناجي الوحيد من المحاربين الإسبارطيين، الذي ارسله ليونيداس ليقول لسبارطة واليونان كلها تذكرونا، أن يتذكروا، كيف عرقل 300 محارب حر مسيرة الجحفل المليوني، وكيف ان القوى الغاشمة، لا تحترم الجبناء، وبحسب هيرودوتس، هبت ممالك اليونان موحدة، لمقاومة الغزوالأخميني !
الفداء: ذروة في الإقدام إلانساني !
الموت بالنيابة، الموت الطارق الضاغط على زناد الانعتاق، إشتعال الروح لإضاءة طريق العتمة، حل للغز المتاهة، هكذا كانت فدائية السيد المسيح ، طريقا للخلاص الارضي والسماوي، ومن قبله سبارتكوس قائد ثورة العبيد الذي صرع روما المتجبرة بصرع الهزيمة الكلية، وثورة الحسين التي أصلت ثقافة إنتصار الدم على السيف، وتشي جيفارا الانسان الحالم بعالم خالي من القبح بكل اشكاله، عالم فاضل بعدله وحريته، عالم لا تباد فيه الشعوب، ولا تقهر، ليتخم تجار البشر وقتلة الحالمين !
الفلسطيني من هذا الطراز:
على الطريق ذاتها، يطلع من ابواب وشبابيك زنازين العبودية الخانقة، متمردا، كالمارد في عنفوان وقفته، يجود بروحه إعلانا لرفض الخنوع، ينتصر لذاته الحرة، وبها لحرية الكل، والسنوار ليس خاتمتهم مع تفرده بالسخرية من الموت، حيث حاوره ووبخه ، ففي لقاء مسجل له يقول : ربما اموت بحادث تافه او الكرونا او المرض، الموت لا يخيفني، الذي يخيفني التقصير في إعلاء شأن قضيتنا العادلة !
كان السنوار من النوع الذي سقي الفولاذ، كأبطال رواية نيكولاي أوستروفسكي، كيف سقينا الفولاذ، فهو لا يسلم الروح حتى النفس الاخير دون محاولة للنيل من النازيين الجدد !
22 عاما في السجن المؤبد كان كالمغزل اليدوي، يدور في زنزانته وهو يغزل مقاومته المعلنة مع المحققين والسجانين، تعلم العبرية واتقنها، ليدرس عدوه ويعرف مكامن ضعفه لينقض عليها، وقد طبق منهج غسان كنفاني، وكأنه تشرب به، القائل : اعرف نفسك، وعرف عدوك، وعندما اطلق سراحه بصفقة تبادل 2011، خرج ليلبس إسرائيل ما غزله لها حتى الرمق الاخير !
وصف ابو تمام لبأس وجود صاحبه هو من بعض ماعند صاحبنا من شيم:


فتى دهره شطران فيما ينوبه
ففي بأسه شطر وفي جوده شطر
*
فتى مات بين الضرب والطعن ميتة
تقوم مقام النصر إن فاته النصر .


ممات يغيظ العدا:
هي ليست كلمات لتعويذة رددها دراويش، او قوالون، كضرب من ضروب التبجح، او الرجز، هي تعبير عن حالة انسانية سوية، تصل لذروتها، في مقاومة القهر بكل اشكاله والاغتراب المفروض فرضا، ومقاومة للخنوع ايا كان مصدره، داخلي او خارجي، فالانسان بفطرته حر، اما وقد تطبع على الذل فسيكون قد هشم إنسانيته وجعلها ناقصة ودونية، وهكذا عندما يصبح السجن في النفوس سجية، وفي عالم الواقع كله تسري ثنائيات العبد والسيد، والقوي والضعيف، والغاصب والمغتصب، والضحية والجلاد، والمتخم والمُجوع، المواجهة حتمية مادام هناك ادراك بأن لهذه الثنائيات اسباب وعلل، وبتغيير موجباتها يتغير الحال، ومن المحال دوامه، والضحايا اول المستفيدين من المتصدين والمتقدمين في مسارات المواجهة، وإستيعاب دروسها لتقليص الكلفة، فن من فنون الثورة المطلوبة والتغيير المنشود !
في قصيدة "الشهيد" للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود التي كتبها قبل إستشهاده بنحو 10 سنوات أثناء معارك نكبة 1948، صاغ الشاعر الثائر بيته المجيد ليكون لازمة لكل فداء:
فأما حياة تسر الصديق    وإما ممات يغيض العدا
لم يستكين هذا الشاعر الفلسطيني المتوهج شبابا ووعيا وإقدام، بعد مطارته من جلاوزة الانتداب البريطاني إثر نشاطه الثوري أثناء ثورة 36، فر للعراق 1938 وهناك تعرف على عبد القادر الحسيني وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني، ثم رجع لفلسطين ليشارك في مقاومة المشروع الصهيوني حتى إستشهاده، وصفه جبرا ابراهيم جبرا، الشاعر الشهيد هو الفارس الاول في شعرنا المعاصر، حيث ربط القول بالفعل .
وهو القائل أمام الامير سعود بن عبد العزيز اثناء زيارته للقدس عام 1935 :
المسجد الاقصى أجئت تزوره؟ أم جئت من قبل الضياع تودعه؟
ما اشبه اليوم بالبارحة، قبل قيام إسرائيل كان حكام العرب على علم بما يريده البريطانيون والصهاينة، وكانوا يساومون، ومازالوا !
اما عبد الكريم الكرمي "ابو سلمى" زيتونة فلسطين، الذي اعتبره محمود درويش الجذع الذي نبتت عليه قصائد شعراء ارضها، فقد كتب في قصيدة " الى ملوك العرب" 1936 متهكما على بيان الملوك والامراء العرب الذي اصدروه في اكتوبر 1936، الذي طالب الفلسطينيين لوقف إضرابهم العام ضد السياسة البريطانية المؤيدة للصهاينة:

"انشر على لهب القصيد
شكوى العبيد الى لعبيد
شكوى يرددها الزمان غدا
الى الابد الابيد
قوموا اسمعوا
في كل ناحية يصيح دم الشهيد " .
***


جمال محمد تقي

قد يتسائل البعض عن معنى الحقيقة، ماهيتها وغائيتها، وكما نرى تفسيرها الموضوعي، أن لها وجهان اساسيان وربما أكثر من وجه يتلبسها .
المقارنات أحيانا قد تضفي طابعاً مجتزءا لا يفي بالغرض وقد يعطي انطباعاً مجرداً لا ينفع معه التلازم في المعنى والمرمى .. وهذا، لا يعني إلقاء الدروس أبداً، إنما تفسير المقصود من الكلمات والجمل، فليس مهماً تسويق المفاهيم من زاوية الحقيقة النسبية وتسويغ شموليتها وإسقاط بعض أسسها وهي الصورة الجمالية والايقاع والمدلول .. لأن الغاية كما نراها إيجابية في خوض غمارها والعمل في وضع الأطر المفيدة لإخراجها.
الحقيقة تنظر الى الاشياء من كل زواياها لا من زاوية واحدة ابدا .. ليس من زاوية سلبية ولا من زاوية ايجابية فحسب، انما من الزاويتين معا وتسمى الحقيقة الموضوعية عند التقييم الموضوعي في زمن ليس بإستطاعة احد امتلاك الحقيقة الموضوعية، لأن أوجه الحقيقة نسبية قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية وقد تجمع بين الأثنين في اطار منهج الشك الذي اعتمده ديكارت.
وتنسحب هذه الحقيقة على جماليات الشعر وإيقاعاته وغائياته .. الجدلية في مضمار جمال الشعر جدلية لا تنفع إلا بالتخصيص والتحديد حيث إطار البحث العلمي الموثق، وإلا باتت الاحاديث عن جماليات الشعر القديم وغائياته في الحب العذري قد فقدت معانيها وبهتت وتلاشت وطواها النسيان في العصر الحديث .. فالشعر النثري ليس جديداً، له رواده القدامى والمعاصرين، فهو لم يكن بديلاً للشعر العمودي او نقيضا له، إنما أن يتخلى عن أسر القافية الرتيبة الواحدة ويكتفي بالموسيقى الإيقاعية وجمال الصورة وبالغائية المتنوعة، لأن الشعراء محكومون بالحقيقة النسبية في الزمان والمكان.
فالصورة الجمالية والايقاعية لم تستنفد مفعولها ودورها فهي متلازمة مع الشعر والادب والثقافة. فإذا كان الشعر بلا صورة شعرية ولا ايقاع فما الذي يتبقى في الشعر سوى الغرض او الهدف فهل يمكن تصور الشعر بدون صور جمالية ولا إيقاع ولا مفعول ولا دور؟
الصورة الجميلة ضرورية ومطلوبة والايقاع ضروري والدور ضرورة شعرية .. وكل ذلك ليس على حساب الغاية وأولوياتها من اجل انقاذ الوعي الجمعي من التفسخ والتحلل، وهذا صحيح في مرماه ولكن لا أن نجعل من الاغراض او الغائية ظاهرة مجردة من الصورة الجميلة والايقاع الجميل .. فاذا فقد الشعر جماله وايقاعه فما الذي سيتبقى له، وهل يبقى شعراً؟
الحديث عن أولويات اهداف الشعر في مرحلة الرخاء ومرحلة العناء ومرحلة التحرير تختلف جذرياً عن بعضها .. ففي مرحلة الاحتلال التي يعاني منها العراق مثلاً فإن اولوية الشعر هو هدف التحرير، ولكن هذا لا يلغي جمالية الصورة الشعرية في هذا الهدف أو غيره، لأن الحياة ليست كلها حرب - في زمن حرب التحرير التي خاضها مثلاً في كولومبيا وفينزويلا وافريقيا (تشي جيفارا)، كان وجماعته يركنون بنادقهم جانباُ ويتحلقون للغناء والرقص والترفيه عن النفس - الحياة ليست كلها رفاهية، ففيها (ضنك) وعذابات وجوع وسجون وموت، وفيها فسحة من نسيم هواء طلق يجدد المحارب قدرته على التحمل .
فالحقيقة مرة في أعين البعض وحلوة في اعين البعض الاخر .. وهي كلية في اعين القلة وجزئية في اعين الكثرة .. ووهمية لدى البعض وشاخصة لدى البعض الاخر .. ولا وجود لها لدى البعض، لأنها مجرد فكرة ذهنية، ولدى البعض الآخر لها وجود مادي على ارض الواقع .. والجميع يغرق بين الكلي والجزئي، فالكل ، كما يراه هو الحقيقة .. حتى الاحتلال يراه البعض تحريراً وهذه الرؤية صفيقة وتافهة ومغايرة للواقع وللحقيقة. لأن الحقيقة لها مقاساتها الخاصة .
فالإحتلال حقيقة مطلقة تستوجب التحرير، والتحرير حقيقة مطلقة تستوجب حشد الطاقة المادية والاعتبارية، وحشد الطاقات حقيقة مطلقة تستوجب الاعتماد على الأساسيات وتأجيل صراع الثانويات .. ألم تكن هذه كلها حقائق علوم الصراع التي تستوجب الكشف عن مسببات الصمت ومسببات الصراخ الاجوف والسكوت على الهم والغم والضيم ألم تكن هذه جميعها حقائق مؤلمة؟
***
د. جودت صالح
4/11/2024

 

ساعات تفصلنا عن الانتخابات الأمريكية الأخطر والأهم في تاريخ أمريكا..
العالَم بأسره يراقب تلك الانتخابات وعيونهم على الخصمين يتبارزان بكل أسلحة المال والنفوذ والعلاقات. والعالَم، لا أقول الشعب الأمريكي، منشطر إلى نصفين: نصف يبغض ترامب ويريد هاريس. وشطر متعاطف مع ترامب لأسباب سياسية متباينة..
المعضلة التي تواجه انتخابات هذا العام: أن أنصار ترامب يقفون في تحفز وفي يدهم سلاح وفي قلوبهم غيظ، وربما انفجر المشهد بأيديهم وبأسلحتهم المعبأة. ثم إن جيوش العالَم متحفزة هي الأخرى: فها هي قوات كوريا الشمالية تتدرب بين صفوف الجيش الروسي تنتظر إشارة استخدامهم في الحرب ضد الناتو. وها هي القوات الصينية متحفزة حول تايوان، وها هو نتنياهو يهدد بضربة جديدة حال انتهاء انتخابات أمريكا والتيقن من أمر الساكن الجديد للبيت الأبيض.
هاريس تتقدم
آخر استطلاعات للرأي جاءت في صحيفة الفايننشال تايمز البريطانية تؤكد تقدم كامالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي عن المشرح الجمهوري بأكثر من نقطة واحدة. وكانت الاستطلاعات السابقة تؤكد تعادلهما التام، وأن فرصهما لنيل المنصب متساوية.
هذا الأمر له معني واحد: أن الولايات المتأرجحة هي العامل الحاسم في تحديد الفائز هذا العام. وأن الفارق بين المرشحين في الحصول على أصوات سوف يكون قليلاً جداً، يُقدّر ببضعة آلاف من الأصوات، وأن نسبة النجاح ستكون نسبة ضئيلة ترجح مرشحاً على الآخر. وهذا الأمر تتمثل خطورته في إتاحة الفرصة لترامب وأنصاره في التشكيك بنتائج الانتخابات كما حدث منذ أربعة أعوام مضت؛ عندما خرج ترامب على أنصاره بخطاب تحريضي مدعياً تزوير النتائج، وعلى إثر ذلك الخطاب قام أنصاره باقتحام الكونجرس بالأسلحة، وكادوا يقلبون الطاولة على الجميع.
هذا العام هناك عدة عوامل تقول إن الخطورة التي تنتظر الشارع الأمريكي أكبر بكثير في حالة هزيمة ترامب في الانتخابات: أولاً أن ترامب وحملته على أتم استعداد لمواجهة القادم، بينما كان أمر الهزيمة مفاجئاً له منذ أربع سنوات، ثم إن ترامب يعتبر هذه الانتخابات حياة أو موت بالنسبة له؛ لأنها آخر فرصة له للسيطرة على الأمور من جديد والتخلص من القضايا التي تواجهه في المحاكم بإيعاز من خصومه. أكثر من هذا أن الأموال التي حصل عليها من مليارديرات أمريكا هي الأضخم، وهي موجهة في الأساس لشراء الذمم وتعبئة الحشود وكسب التأييد. أي أن أنصار ترامب المتطرفين من أصحاب السلاح على استعداد أكبر هذا العام، ولديهم خطط واضحة لقلب الطاولة حال الهزيمة. وقد حدث أن إحدى قنوات التلفزيون الأمريكية الكبرى قامت باستطلاع رأي سألت فيه الناس إن كانوا يرون أن الوقوف بالسلاح لحماية نتائج الانتخابات ضروري، وأجاب نحو 30% بالإيجاب. ما يشير لارتفاع نسبة التحفز أكثر هذا العام!
الذين يريدون ترامب
رغم حرفية ترامب وخبراته السابقة، إلا أن هاريس تسبقه بجولاتها المكوكية المكثفة خلال الساعات الأخيرة قبيل الانتخابات، طافت خلالها بجميع الولايات المتأرجحة الحاسمة في السباق. وكان خطابها التفاؤلي الهادئ جذاباً لعدد إضافي من الناخبين. وهي لا تكتفي بالخطاب الدفاعي بل تهاجم ترامب بأسلوب ذكي، فقالت أمام حشد ضخم من أنصار الحزب الديمقراطي: (لدينا فرصة هذا العام أن نغلق صفحة ترامب السوداء لتي استغرقت عِقداً من الزمان يحاول فيها إبقاءنا منقسمين وخائفين من بعضنا البعض).
ثمة أمور جديدة طرأت على المشهد الانتخابي هذا العام وقد يكون لها دور في حسم النتائج: أولها بلا شك الحرب الصهيونية الدموية على غزة ولبنان. وأداء بايدن السيئ خلال تلك الحرب استغله ترامب في دعايته لحملته الانتخابية. وجعلته قادراً على استمالة جزء كبير من الشعب قوامه: العرب والمهاجرين. رغم أنه كان ضد الهجرة وما زال. إلا أنه استطاع بطريقة ذكية استغلال عاطفة الناس ضد الأداء الكارثي للبيت الأبيض خلال حرب غزة لاستمالتهم.
معني هذا أن العرب أصبحوا رقماً في المعادلة الانتخابية. والغريب أن ترامب الذي كان وما زال معتمداً على اليهود، يخاطبهم الآن بخطاب تهديدي؛ مصرحاً بأن الفرصة الوحيدة لدولة إسرائيل هي فوزه في الانتخابات، وأن زوالهم سيأتي حتماً خلال عام أو عامين إذا انهزم فيها! وعلى الناحية الأخرى رأيناه في جولاته الانتخابية الأخيرة يستصحب عدداً من رموز العمل السياسي من العرب والمسلمين يريد استمالة الجالية العربية والإسلامية في صفه. فهل تنحاز تلك الجالية له بالفعل؟ وهل تكون تلك الجالية عامل حسم هذا العام؟
أمر آخر بات مختلفاً هذا العام هو وجود مرشحة ثالثة لحزب الخِضر هي "جيل ستاين"، وهي مرشحة ذات فرص معدومة أمام الحزبين الكبيرين. لكن رغم هذا قد يؤثر وجودها على المشهد الانتخابي إيجاباً أو سلباً؛ إذ أن بإمكانها جذب الأصوات المترددة من كارهي الحزبين الكبيرين، وبخاصة أن ترامب وهاريس كليهما منحازين لليهود، ووجود أحدهما يعني استمرار الحرب الضروس ضد غزة ولبنان، برغم تصريحات ترامب العنترية بإنهاء الحروب.
أكثر من هذا أن جمعها لأصوات إضافية قد يساعد في فوز ترامب بطريقة سلبية؛ إذ أنها إذا نجحت في جمع أصوات الولايات المتأرجحة أو بعضها لصالحها، فسوف تُخصم تلك الأرقام من الأصوات الذاهبة للحزب الديمقراطي، وبالتالي يفوز الحزب الجمهوري تلقائياً.
إن "حزب الخضر" ما زال حزباً غير رسمي. لكن إذا استطاعت جيل ستاين من جمع أصوات تزيد على نسبة 5% من أصوات الناخبين، سوف يصبح حزبها رسمياً يتمتع بفرص أفضل خلال الانتخابات القادمة أمام الحزبين الرئيسيين في البلاد. هذا الأمر دفع بعض الأقليات واللوبيات في التفكير للانحياز لهذا التيار الثالث؛ خاصةً وأن جيل ستاين ذات الأصول اليهودية أبدت تعاطفاً ضد الحرب في غزة لصالح القضية الفلسطينية، وهو ما دفع الجالية العربية للتفكير في منحها أصواتهم بشكل جماعي. وهو أمر لا يستطيعون التأكد من تحقيقه؛ لأن العرب ليست لديهم مؤسسات ولوبيات وكيانات سياسية قوية في أمريكا، وأصواتهم مشتتة لا يمكن حسابها أو تقييمها بشكل واضح وقياسي.
هكذا تشير كل الظروف المحيطة بانتخابات هذا العام أنها الانتخابات الأخطر والأصعب والأكثر حماسية وتنافسية في تاريخ أمريكا كله.
موقف القوى العالمية
عندما فاز ترامب بانتخابات 2016 قيل إن روسيا تدخلت في نتائج الانتخابات من خلال عملاءها في أمريكا، وهو اتهام قد يكون صحيحاً؛ إذ أن له شواهد وأدلة ترجحه. الأخطر هذا العام أن الصين قد يكون لها يد في ترجيح كفة عن كفة، من خلال قدراتها السيبرانية التي تطورت كثيراً، وأصبح بإمكان الصين التأثير على النتائج بشكل أو بآخر.
فأما الصين وروسيا وإيران فموقفهم ليس واحداً؛ ففي حين تفضل روسيا قدوم ترامب، يفضل الصينيون والإيرانيون فوز هاريس. لأن ترامب قد توعدهما بالويل والثبور وعظائم الأمور. وأما أوروبا فهي تفضل هاريس على ترامب، لكن تأثيرها على المشهد الانتخابي ليس كبيراً كالقوي واللوبيات الأخرى.
وأما منطقتنا العربية فهي في حيرة من أمرها: كثير من العرب منحازون لترامب لا لشيء إلا لأنهم تعاملوا معه ويعرفون طريقته السياسية ويألفونها، وأن الحكمة تؤكد: "أن ما نعرفه أفضل مما لا نعرفه". بينما المنحازون لهاريس يأملون أن يكون أداءها مختلفاً عن ترامب وعن بايدن وإن كانت ديمقراطية مثل بايدن، لكنها امرأة، وهي تتمتع بمرونة أكثر من كلا الرجلين.
المشهد الانتخابي الأمريكي هذا العام ملتبس ومحير. وأكثر من هذا أنه خطير ومؤثر. وقد تترتب عليه أموراً كثيرة تشتعل على إثرها حروب أو ربما تنطفئ. وما بين هاريس وترامب يقف العالم على أطراف أصابعه.
***
د. عبد السلام فاروق

 

قبل بدء حرب الإبادة ضدّ لبنان كنت قد عثرت على ورقة بين أوراقي المبعثرة وراء صفّ من الكتب العتيقة في مكتبتي غير المتناسقة، وأنا أعيد بعض ما استعرته منها لأغراض المراجعة والتدقيق. ابتسمت وأنا أقرأ بعض تدويناتي عن تشي جيفارا، وكأنه نور سحيق أفلت من قبضة زمن مختلف.
رحت أفكّر، لبضعة دقائق في حنين غريب، بتلك المرحلة فندّ من تلك الأوراق الطريّة النديّة على الرغم من جفافها صوت أغنية قديمة "جيفارا مات" وهي قصيدة الشاعر أحمد فؤاد نجم، ومع أنه نسيم عذب وريح خفيفة تسبق المطر، لكنه لحن حزين وقاس: جيفارا مات، جيفارا مات، آخر خبر بالراديوهات وفي الكنايس والجوامع... مات المناضل المثال، ياميت خسارة عالرجال...
وبدلًا من إعادة أوراقي العتيقة إلى مكانها نفّضت عنها الغبار ووضعتها على طاولتي ولا أدري لماذا دسستها بعد ذلك في حقيبتي، ربما خوفًا عليها من الضياع في زحمة الأوراق والقصاصات والصحف والمجلات، ولعلّ تلك العادة كنت التمست جدواها لفترة زادت عن خمسة عقود من الزمن، حيث كنت أخبئ تلك الأوراق لأعود إليها أحيانًا، وكم تكون مفاجأتي كبيرة حين أجدها راهنية، بل وآنية، وهكذا كنت أحتفظ ببعض القصاصات والأوراق والرسائل في حقيبة اليد، حتى وإن كنت لا أستعملها.
عادت بي الذاكرة الملعونة إلى 57 عامًا إلى الوراء يوم وصلنا خبر اغتيال جيفارا في بوليفيا إثر وشاية واندساس، كيف ظلّ الرجل متماسكًا وثابتًا وواجه مصيره بكلّ جرأة وشجاعة، وهو القائل "كن هادئًا وصوّب جيدًا، أنت تقتل رجلًا".
يومها بعد 7 أكتوبر / تشرين الأول 1967، وكنت حينها في الصف المنتهي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، نظمنا اجتماعًا مهيبًا في كلية التربية، وتبادلنا التعازي، بل أن الكثير من أصدقائنا كلانوا يخصوننا بذلك، وقد رويت ذلك في كتابي الموسوم "كوبا الحلم الغامض" (دار الفارابي، بيروت، 2011).
وعلى الرغم من أننا حينها لم نكن من التيار الذي اقتفى أثر الجيفارية، بل اعتبرناها تجربة غير قابلة للاستنساخ، فضلًا عن أن الدعوة إلى تشكيل البؤر الثورية على حساب العمل المنظم ليست السبيل إلى تغيير الأوضاع، لاسيّما بالزحف من الريف إلى المدينة، لكن ذلك لم يمنعنا من إظهار أنواع التضامن مع أحد أبرز ثوريي عصره، بل أحد أكبر الثوريين في العالم الذين وضعوا أحلامهم قيد التنفيذ، واسترخصوا حياتهم في سبيل تلك الأحلام التي بدت لهم الحقيقة الوحيدة على حد تعبير المخرج الإيطالي فيليني.
وبغض النظر إن كان الثوري الحقيقي أخطأ الحساب أو لم يقدّر ظروف المواجهة ويحسب ميزان القوى بدقة، سواءً بالتقليل من قوّة العدو أو بتضخيم قواه الذاتية، لكنه لمجرد اختياره لحظة المجابهة "هذه اللحظة الثورية"، فإن واجب التضامن معه يصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، وقد هلّل ماركس إلى السماء لكمونة باريس يوم اندلعت بقوله "هبوا لاقتحام السماء"، على الرغم من ملاحظاته عليها وشعوره بأنها يمكن أن تذبح، فلم يعد الوقت مناسبًا للنقد أو إبداء الملاحظات طالما أن المعركة بدأت، ولا مجال للتفرّج عليها.
من المعروف أن ماركس قد حذر عمال باريس في خريف سنة 1870 قبل الكومونة بعدة أشهر، من أن أي محاولة لإسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع إليها اليأس ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في آذار / مارس 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدت الانتفاضة أمرًا واقعًا، حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذر السوء. لم يصر ماركس اتخاذ موقف متحذلق وإدانة الحركة "باعتبارها جاءت في غير أوانها".
ومثل هذا الأمر يتكرر عادة في التاريخ، منها مواجهة الزعيم العربي جمال عبد الناصر للمخطط الإسرائيلي العدواني في العام 1967، على الرغم من الملاحظات حول الأعداد للمعركة عسكريًا، وحريّة الجماهير للمشاركة فيها، ولعلّ أية معركة حقيقية تحتاج إلى حشد أوسع الطاقات وإطلاقها في مواجهة العدو.
لم يكن أدنى شك من أن المواجهة تتطلّب مستلزمات أخرى، لكن الوقت ليس وقت شماتة أو تشفّي أو استقالة عن المشاركة أو تسقّط الأخطاء طالما أن المعركة بدأت، وإلّا سيصبّ مثل هذا الأمر في طاحونة العدو، أمّا النقد والتقييم، وحتى المساءلة بإعادة قراءة التجربة، فيأتي لاحقًا، ولطالما بدأت حرب المواجهة في غزّة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023، فلا مجال إلّا بالانحياز لفلسطين وللمقاومة ولمجابهة العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة الشاملة، والاساس في ذلك أن هذه الحرب هي حرب عقول وإرادات، وحرب علوم وتكنولوجيا.
وهي حرب وطنية وتحرّرية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، استهدف منها العدو الصهيوني، ولاسيّما بوحشيته ولا إنسانيته الخارقة فرض الإذعان، بل وجعله ثقافة وتيئيس الأمل في التحرير، ومحاولته شن حرب نفسية ناعمة موازية للحرب الهمجية العسكرية العنيفة المنفلتة من عقالها، وربما هذه الحرب أكثر خطورة وإيلامًا وخبثًا ودناءة من الحرب العسكرية ومن العدوان الإجرامي.
وهكذا أخذت بعض الأصوات ترتفع بحجة "العقلانية" و"الموضوعية" و"تجنب الصراع" لضخ شتّى الاتهامات للسيّد حسن نصرالله، الذي أعاد صورة جيفارا بكلّ رمزيته وكارزميته وجلاله إلى ساحتنا مجددًا، بعد أن نسي أو تناسى كثيرون هذه الأمثلة الرائدة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها في اختيار وتوقيت لحظة المجابهة والإعداد الكافي لها وتحمّل نتائجها، لكننا لا ينبغي أن ننسى أن العدو ووجوده في قلب الوطن العربي هو مشروع "حرب مستمرّة" و"بؤرة توتّر دائمة"، بل و"قنبلة غير موقوتة" لا يمكن التكهّن بأية لحظة ممكن أن تنفجر، وتلك هي حقيقة الصراع التي لا ينبغي أن تغييب عن البال.
الثوريون الحقيقيون بلا أحلام يصدأون، فالحلم هو جزء من شخصية الثوري الحقيقي، وطالما ظلّ الثوري ثوريًا فالحلم يبقى طازجًا ولا يتحوّل إلى حلم معلّب،
وعلى طريق الحالم الكبير والثوري الكبير والشهيد الكبير نصرالله، سقط حالم آخر هو يحيى السنوار وفي الميدان أيضًا، لكن أرواح الثوريين مثل أفكارهم تتناسل، بل إنها لها أجنحة، هكذا ستطير على حد تعبير ابن رشد، نعم للأفكار أجنحة مثلما للبطولة أجنحة، وأجنحة الثوريين الحالمين لا ترفعهم إلى السماء فحسب، بل تنثر أرواحهم في ربوع تربة الوطن لتنبت ثمّ تزهر وبعدها تثمر ثم تنضج، وهذه الأرض المروية بالدم والشمس والأحلام والمتطلّعة إلى الحريّة والحياة، لا يمكنها إلّا أن تكون كذلك، فليس هناك شعب تحتلّ أراضيه ولا يقاوم إلّا إذا كان شعبًا من العبيد، وأظنّ أن الشعب العربي الفلسطيني هو شعب حرّ توّاق إلى الحريّة والحياة، مثله مثل الشعب اللبناني وشعوب الأمة العربية كافّة.
كنت وأنا أقابل آخر الثوريين الحالمين بعد تحرير الجنوب اللبناني، وانسحاب العدو الإسرائيلي "خانعًا" قلت له "أرى القمر هذه الأيام أكثر إشعاعًا، وكأنني أراه لأول مرّة، ربما هو قمر بني هاشم الذي زاده ضياءً"، فبادرني "إنه منكم..." إنه "نور النجف"، واستوقفني حيث كان قد درس في مدرستها التي مضى عليها ألف عام، ومرة أخرى في اجتماع لدعم المقاومة، كنت أتأمله بابتسامته الخجولة ونظرته الحالمة، يوم اجتمعت جميع فصائلها الفلسطينية واللبنانية وشخصيات فكرية وثقافية حين كانت روحه هناك، إلى حيث الحلم الليموني، إلى التحرير.
وفي كلّ مرّة كنت أتطلّع إليه أو أشاهده في التلفزيون تقصر المسافة عندي بين الحلم والواقع، بل يتداخل الحلم مع الواقع في قصيدة أو لوحة أو سمفونية هي التي تجمع الحياة بالحريّة والإنسان بالقيم والثوري بالأمل.
***
د. عبد الحسين شعبان

من البديهي ان ينظر للتحول الالي في بداياته وقد تحقق في الموقع الارضوي الازدواجي الطبقي الاعلى ديناميات ضمن صنفه،بحدود مايمكن ان يتيحه العقل الارضوي كمروية تعتبر ذاتها هي العالم، باعتبار ماقد حدث بين ظهرانيها وكانه حدث نهائي مكتمل، خصوصا وان هذا المجال لايجد امامه ولايعرف من صيغ المجتمعية غيرماهو عليه، هذا بينما الموضع اللاارضوي ومجتمعيته التاريخيه الازدواجية الاصطراعية، كان وقتها مازال يعيش اشتراطات اليدوية، لابل وهو في حال من الانحدار الانقطاعي من بين ثنائية دورات تاريخه المتراوح بين الانقطاع والصعود الدوراتي.
وضع من هذاالقبيل كان من المحتم ان يترك الانقلاب التحولي المستجد خارج الادراك والوعي الضروري المشتمل على حقيقة الحاصل اليوم وابعاده ومايترتب عليه، بما قد وضعنا بعكس ماهو شائع امام سياق تاريخي انتقالي يبدا بمحطة الانتقالية الالية الارضوية، ولا ينتهي او يكتمل الا مع انبثاق التحولية اللاارضوية، بما يجعل من غير الصائب ولا الدقيق باية درجة كانت، القول الذي ظل ماخوذا على انه الفصل الاجمالي الذي يجعل من ابتداء الانتقال الالي بصيغته الابتدائية الافتتاحية وكانه هو المطلوب والكمال، علما بانه مجرد خطوة اولى ناقصة تظل تنتظر التفاعلية والاصطراع على المستوى الكوكبي، قبل ان تكتمل وتصير معلومه الملامح والابعاد والمتطلبات.
ومع اشتراطات الارضوية المجتمعية ومستوى ادراكيتها وحدودها بمقابل مايتولد عن الانقلاب الالي مجتمعيا، وماتعرفه الحياة وقتها من انقلابيه تشمل الاليات المجتمعية، وبالذات منها الطبقية حيث انبجست الاله، فانه لايمكن تحاشي غلبة الاعتقاد الابتدائي بدرجه التحول الحاصل، ونوع الانقلابيه الواقعه بفعل الاله، خصوصا حين تقارن بتلك التي ماتزال يدوية في الغالب، اي من طور مجتمعي منته، ومن هنا تولد وتتراكم الاسباب الموجبه والضرورية لاعتبار والاقرار بخصوصية ورفعة الحال الحاصل الانقلابي الاولى الاوربي بفعل الاله ومايتولد عنها من تسارع في الديناميات، الامر الذي يمنحها الافضلية والتميز كوكبيا بلا منازع. ماقد كرس بناء عليه حالة التوهمية الابتدائية الالية، حتى وضع العالم بناء عليه ضمن سياقات افتراضية متفارقة مع الحقيقة الاليه نفسها، ومع المنطويات الحقيقية للحاصل التاريخي الانقلابي.
هذا وبقية العالم وبلدانه لايمكن ان تكون لها رؤية مقابلة لما لم تختبره ولاعرفته، وهو ماينطبق على الموضع الشرق متوسطي المقابل والمضاهي تاريخيا، مقابل ماقد توفر من اسباب الارجحية للموضع الالي الابتدائي، فوفر الاسباب واتاح ظهور نزعات تشبه وتماه مع التوهمية الغربية الاوربيه، الامر الذي شمل التصورات حول الدول، و انتهى الى الايديلوجيات وعلى راسها وبمقدمها "القومية" المفترضة بالتماهي بناء على غلبتها ونموذجيتها الغربية، مع مايلزم من تبريرات واهية لااساس لها، مثل العروبة وخروج العرب من الجزيرة العربية الى العالم، واستقرارهم خارج شبه الجزيرة العربيه، بالذات في الموضع الكوني الاستهلالي حيث ظهرت المسيحيه واليهودية والاسلام الذاهب الى حدود الصين شرقيا، في حين لم يكن لدى العرب حاملي الرسالة الابراهيمه الختامية اية دعوة قومية/ عروبيه/ في حينه، ولا كان من الممكن للعرب وهم في الجزيرة العربية معزولين يعيشون تحت فعالية اقتصاد الغزو الصحراوي، لولا الابراهيميه، خاصية المنطقة وتعبيريتها عن ذاتها، التي حملها العرب للعالم، مالايتلاقى مع مفهوم "القومية" الحداثي الاوربي، بما هو حالة ونوع تعبيرية دنيا مقارنة بالمدى والافق الابراهيمي المبكر الكوني، المخترق للبنى المجتمعية الاولى الامبراطورية الشرقية والغربية الصابه في هذا الموضع الفعال (روما وفارس)، والاعلى ديناميات على مستوى المعمورة.
ولاشك ان المشار اليه من التحاق بالنموذجية الحداثية الغربية شرق متوسطيا، هو بالاحرى الفصل الشرق متوسطي من التوهمية الاليه الغربية وانعكاساتها واثارها ضمن شروط الغلبة المبكرة الاستثنائية المؤقته، وقت حلت على اوربا وميزتها، مع مايقابلها من انتفاء الاليات المجتمعية و"التاريخانيه" في العالم الابراهيمي، وخاصيات تحقق وانبثاق الديناميات النهوضية وموضعها، ماقد ولد في حينه ازدواجية تعبيرية غير ملحوظة، طرفها الاول انبعاثي غير ناطق يبدا مع القرن السادس عشر في جنوب ارض الرافدين في ارض سومر، مع بدء الانبعاث الحديث الثالث بعد الدورتين الاولى والثانيه، يقابله ظهور مركز استعاري متماه مع اوربا تركز في مصر وساحل الشام، لاسباب تكوينه وبنيوية خاصة بالمنطقة الجاري الحديث عنها حيث الانماط الثلاث والمجال الوسط، العراق كازدواج مجتمعي ارضوي لاارضوي/ ومصر ككيانيه دولة احادية المجتمع فيها يتشكل في الدولة والكيانيه "الوطنيه"، وشبه الجزيرة العربية حيث اللاادولة الاحادية، وساحل الشام الموقع الذي لاتتوفر له اسباب التشكل الكياني. مع ما يحكم هذه اللوحه من ديناميات متعدية للقدرة العقلية المتاحة على الا دراكية البشرية واستمرار فعل "اللانطقية" الذاتيه، بالذات في الموضع الاعلى دينامية، الازدواجي، عدا عن خصوصيته التشكلية الصاعدة كقانون من الجنوب الى اعلى، والى الامبراطورية الازدواجية، وقد بدات اليوم بالفترةالاولى "القبلية" مع تشكل "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر التاريخيه، اعقبتها فترة "الانتظارية النجفية" الحديثة. قبل الفترة الثالثة الاخيرة الايديلوجية الحزبية المقترنه بالفبركة الكيانيه بعد الاحتلال الانكليزي.
هذا يعني ان منطقة شرق المتوسط كان عليها الانتقال من غلبة البرانيه الشرقية، الى البرانيه الغربيه بعد الاله ومايعرف بالحداثة الاوربية على الطرف الغربي من المتوسط، علما بانها تكون بالاحرى في حال انبعاث مغفلة بلا ذاتيه/ نطقية بمقابل ضخامة النطقية التوهميه الغربية، مايحجب بدايات حضور الذاتيه ومسارها الحديث غير المعبر عنه لصالح ماقد اعتبر من قبيل "النهضة الزائفة"، حيث التشكلات الثلاثة المصرية والشامية والجزيريه الارضوية كينونة بنيويه وديناميات، هي الحاضرة آنيا تحت طائلة دفع وبالتماهي مع الظاهرة الغربية المستجده، وبالتحديد ارتكازا الى الكيانيه "الوطنية" الاحادية المصرية التقليديه، المماثلة نمطيا للاوربيه من دون ديناميات اصطراعية ذاتيه، مع محمد علي، والطهطاوي، وعبده، والافغاني، ومايلحق بهم من نزوع قوموي علماني شامي، او نزوعات استعادية نبوية جزيرية خارج اشتراطاتها التاريخيه، لن تلبث ان تندحر بحكم تبدل وانقلاب الظروف، متحولة الى صيغه الريعيه القبلية المطابقة لمقتضيات الغلبة الغربيه.
هذا بينما العالم محكوم لاستبدادية وتوهميه المفهوم والرؤية الغربية للتحول الالي الحاصل اليوم، وتحديدا لتكريس الوحدانية التحولية، برهنها للنمطية ونوع المجتمعية الاوربية الاحادية الارضوية، من دون اي تنبه الى احتمالية ان يكون الحاصل في الغرب وقتها هو مقدمه وابتداء تحولي ناقص، لن يكتمل الا بعد ان يحضر المنظور اللاارضوي الشرق متوسطي، مع انتهاء امد "اللانطقية التاريخيه" تحت طائلة الاصطراعية المستجده نوعا، كصيغه تعبير حتمي آلي مابعد يدوي، اي التعبيرية اللاارضوية الثانية المطابقة للحظة الانقلابيه مابعد الابراهيمة الحدسية النبوية الاولى، اليدوية.
ـ يتبع ـ
***
عبدالامير الركابي

أوراق من كتاب تحت الطبع

تنويه:

1.الكتاب يمثل رصدًا لسلوك الطبقة السياسية، وشؤون الحكم في ميزوبوتاميا المعاصرة خلال مدة 14 سنة "2010-2024".

2.نشر صفحات منه مسبقًا لم يكن لأغراض الترويج له، وإنما لأني لم أسعَ لاحتكاره ليكون نسخة ورقيّة فقط؛ لذلك فور الانتهاء من طبعه سيكون متاحًا إلكترونيًّا لمن أحب.

كرسي وسبع مؤخرات...!

قرأت أمس عن جدل دائر بين برلمانيين عراقيين من قائمة رئيس الحكومة السيّد نوري المالكي وبين برلمانيين من قائمة السيد إياد علاوي.. (وفقًا للسومرية نيوز)، سبب الجدل هو أنَّ بعضًا من نواب العراقية (علاوي)، يطالبون بأنْ يكون رئيس وفد العراق في مؤتمر القمة المتوقع انعقاده في بغداد أواخر شهر آذار الجاري أسامة النجيفي - رئيس مجلس النوّاب، في حين يرد عليهم نوّاب من قائمة رئيس الحكومة نوري المالكي بأنَّ رئاسة الوفد العراقي في مؤتمر القمة ستكون لرئيس الحكومة نوري المالكي.

الحجة التي يستند إليها نوّاب قائمة علاوي تقول بأنَّ: نظام الحكم في العراق نظام برلماني، وبالتالي فإنَّ مجلس النوّاب هو أعلى سلطة في العراق، بينما ما يستند إليه نوّاب المالكي من حجة تقول بأنَّ: نوّاب علاوي لا يفهمون الأصول الدبلوماسيّة، وأنهم جهلة، ويسعون إلى إفشال انعقاد القمة في بغداد..!

وبعد قدح الحجة بالحجة حتى تطاير الشرر منهما، وجدت الآتي:

أولاً: في النّظام الرئاسي يكون رئيس الجمهورية هو مَن يمثل الدّولة في حضور المؤتمرات الدّوليّة التي تنعقد على مستوى رؤساء الدول، فمثلًا: يحضر الرئيس الأمريكي والرئيس السوري والرئيس الصومالي، ولكن يرأس الوفد رئيس الحكومة في الدول التي تعتمد النظام البرلماني، فتحضر ميركل عن ألمانيا، ورئيس وزراء لبنان، ورئيس وزراء الدومنيكان، ورئيس وزراء استراليا، ورئيس وزراء بريطانيا، وهكذا.. إذن؛ من هذه الناحية فإنَّ حجة نوّاب قائمة علاوي ساقطة، ولا أساس لها من الصحة وفقًا للعرف الدّبلوماسي الدّولي.

ثانيًا: وفقًا للقوانين المرعية، فإنَّ حجة النوّاب عن قائمة علاوي ساقطة أيضًا، ومثل هذا التصرف يطلق عليه في المحاكم العراقية تصرف فضولي؛ لأنهم ليسوا من أطراف الخصومة وفقًا لقانون أصول المحاكمات، إذ إنَّ طرفي الخصومة في مثل هذه القضايا هما رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ولا يغير من ذلك مخاطبة امرأة الحلبوسي زوجها بالسيد الرئيس أو مخاطبته لها بالسيدة الأولى، فتلك شؤون محض عائلية لا أهمية لها.

ثالثًا: هذا الموضوع وأمثاله هو ما يشغل أذهان الأطراف الحاكمة من الطبقة السياسية العراقية عمّا سواه، في وقتٍ تمر المنطقة والعراق فيه بالذات بأمور جلل، وهو لم يكن الأول، فقد حصل تراشق بالنيران المتوسطة والخفيفة بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية في العراق الديمقراطي الاتحادي قبل سنوات عدة حول مَن يرأس الوفد العراقي لاجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكاد الأمر أنْ يصل إلى ذهاب الاثنين وحضور الاثنين معًا بوفدين منفصلين: العراق (أ)، والعراق (ب)، على غرار مشاركة الفِرق الرياضية: شباب وأشبال..، ولا أتذكر كيف حُلّت المعضلة، لكن الذي ذهب هو المام العتيد ربما لموعد يجمعه مع سيدة الدبلوماسية الأمريكية كَونداليزيا رايز لينحني أمامها رغم بدانته، ويقبل وجنتيها تحديًا للسيدة الأولى، ولكن عن بُعد كما جرت العادة.

رابعًا: في مؤتمر رؤساء البرلمانيين الذي انعقد في أربيل، ترأس الوفد العراقي، وتبعًا لذلك المؤتمر (كونه منعقد في العراق)؛ السيّد محمود المشهداني - رئيس مجلس النواب في حينه، ولم يترأسه رئيس الحكومة أو رئيس الجمهورية، وطيلة فترة انعقاد المؤتمر كنا نحبس أنفاسنا خشية فلتة لسان من المشهداني على غرار إحدى فلتاته يوم خاطب إحدى عضوات مجلس النواب العراقي قائلًا: "إي مو على أساس أنتِ مشرّمته ...!"، فينفرط عقد المؤتمر لدواعي الشرف وبسبب المحتوى الهابط.

خامسًا: من جرّاء الفوضى السياسية والعبث، واحتدام حالة السعي المستميت لخمط السلطة بين تلك الأطراف، فإنَّ المواطن العراقي بات "ما يعرف رجلها من حماها ..!"، وأقرب مثال لهذه الحالة هو ما اطلعت عليه في تسجيل مصور لكلمة ألقاها السيّد مقتدى الصدر في تجمع لأنصاره في إحدى خطب الجمعة، وهم يهتفون بشكل متكرر ولا يتيحون له الاسترسال بالكلام، فصاح عليهم: جهلة !.. جهلة !.. جهلة ..!، مع أنَّ الحالة التي وصف بها السيّد مقتدى أولئك الناس مبررة؛ كونهم من الأوساط الشعبية الفقيرة، والكثير منهم غير متعلمين.. ولكن ما قولكم بطبقة سياسية تحكم العراق، وتتأبط الشهادات المزورة، وتنعم بالمصفحات والدولار، والتومان، والليرة، والحلي والحلل، لكن لا واحد منهم مشرّمها إنْ لم يكن معظمهم مشرومون بالولادة...؟

سادسًا: عندما قرأت عن مجريات المعركة المحتدمة بين الطبقة السياسية العراقية في هذا المجال بالذات، تمثّل في ذهني أمران:

الأول: إنَّ الأنظمة العربية التي توصف بأنها أنظمة ممانعة لتطبيع علاقاتها مع نظام الحكم في العراق، قد تجد في هذا الجدل مبررًا يتيح لها التملص من حضور المؤتمر، وتذهب المليارات المخصصة له سدى.

الثاني: تذكرت تصرف عبد السّلام عارف - رئيس جمهورية العراق-، بعد انقلاب 8 شباط 1963 الخادش للذوق والحياء، يوم خطب في حشد من الجنود، أعتقد في النشوة من أعمال البصرة، وكان أحد الجنود يقف ليس بعيدًا عنه، وتراوده نفسه الأمّارة بالترفيع للحصول على خيط من الرئيس..!، فكان كلما بدأ الرئيس بجملة ليبدأ بها خطابه قاطعه الجندي بهتاف بحياته من قبيل: يعيش الرئيس المؤمن يا يعيش، يا يعيش... فـ (زهك) الرئيس، وترك الميكرفون وانحنى يبحث عن (حجارة)، قذف بها على الجندي، وهو يصيح عليه مهتاجًا: كلب ابن الكلب دخلينا ناكل (...).

سابعًا: شارفت الدورة البرلمانية لمجلس النواب العراقي على انقضائها والطبقة السياسية في العراق في حالة عرّ وجرّ مستدامة .. مَن يكون رئيس الحكومة، وما صلاحيات رئيس مجلس السياسات الذي لن يرى النور ما دام علاوي على قيد الحياة "حتى يبقى حسرة بنفسه وربما يحين وقت تأسيسه مع خليفته على عرش أبيها مدام سارة علاوي.."، ومَن هو نائب رئيس الوزراء، ومَن هو وزير الدفاع..؟ ومَن هو الذي يرأس وفد العراق في مؤتمر القمة العربية ..؟، وهل يشتري النواب لأنفسهم مصفحات أم مدرعات ..؟، وهل بقي زاغور لم يتم تجريبه لزيادة الملايين لجيوب جيوش الطبقة السياسيّة في العراق..؟

الوضع العالمي المتأزم لا يشغل فخامات العراق، والوضع الإقليمي الذي يوشك على الانفجار لا يشغل فخامات العراق، والوضع الداخلي الأمني والمعاشي والاقتصادي والخدمي الخرب لا يشغل ساسة العراق، المهم.. مَن منهم يكون رئيسًا لمؤتمر القمة، وهي ليست أكثر من واحدة من تلك القمم التي أبدع النوّاب في وصفها أيّما إبداع..!

لو سألوني حلًا لمعضلة مَن يمثل العراق لرئاسة القمة لاقترحت عليهم واحدًا من حلّين:

-إما أنْ يستعيروا عبد السّلام عارف لفترة انعقاد المؤتمر ليرأس هيئة الفخامات، وتناط به مهام رئيس مؤتمر القمة، على أنْ يضعوا قرب قدميه تنكة جلمود لمن يفتح منهم فاه.

-أو أنْ يبعثوا بطائرة خاصّة إلى إيطاليا على جناح السرعة ليصنع لهم الطليان كرسيًا يكفي لسبع مؤخرات، وينصبونه على منصّة رئاسة المؤتمر، ويعلقون فوقه قطعة مكتوبًا عليها "وأمرهم شورى بينهم"، ويكلف أثخنهم مؤخرة بمهمة تنظيم الدور بالكلام "مو يحچون سوا"، والمخالف يقول له: انضبط فخامتك.

أما عن الجانب الأخلاقي لنظام الحكم فقد لخصه السيد محمود المشهداني الرئيس السابق لمجلس النواب والمرشح لرئاسته حاليا من قبل كتلة عزم عن "السنّه"، بدقة ووضوح يحسد عليهما عندما قال حرفيا في لقاء متلفز على إحدى الفضائيات حول مواصفات رئيس الوزراء الذي يمكن قبوله والتصويت لصالحه من قبلهم فقال: "يمعود أحنا اشعلينا نزيه، فاسد، كفوء، فاشل، تكنوقراط، معمم، وسخ، نظيف مالنا شغل... احنا ينطونا مالاتنا وهاي هيه، ومالاتنا مبينات: 6 مناصب وزارية، و9 مناصب هيئات، و60 درجة مدير عام..، واللي ينطينا 61 نكَله هلا بيك...!" ، فإذن المعيار الوحيد هو "المالات" التي يتم تصريفها في بورصة الفساد إلى كومشنات وعقود ورواتب فضائيين، وتقاسم الاغتيالات والتغييب ضد المواطنين، واجتراح كل الموبقات، وصولًا لتقاسم النفوذ على الملاهي وصالات القمار..، هذا هو هاجس ساسة العراق لا بناء ولا مظلومية ولا تهميش، والاختيار لا يكون على اساس الجدارة والنزاهة بل لمن يدفع اكثر لشراء المنصب أو الأكثر قدرة على ملئ خروج المتنفذين ممن رشحوه ..

في هذه الحالة لا تقل لي الدستور أو القانون أو المحكمة الاتحادية؛ بل انظر إلى سلوك الحاكمين والطبقة السياسيّة، ومن خلاله قل لي: هل أنَّ نظام الحكم في ميزوبوتاميا المعاصرة محدد المعالم.. أم مختلف عليه ويلزمه شهادة إثبات نسب..؟

احفظوها عني...

سمعت أنَّ نائب رئيس الجمهورية قدّم طلبًا مرتين لمقابلة رئيس الوزراء، ولحد الآن ما طالع الجواب.. هو لو مقدم على إجازة سوق چان طلعت..

***

د. موسى فرج

 

مع اختتام مجموعة البريكس بلس الاقتصادية قمتها التي استمرت ثلاثة أيام في مدينة قازان الروسية يوم الخميس الماضي، من الصعب المبالغة في تقدير الإمكانات المتنامية للمجموعة لتغيير الحوار العالمي حول الحوكمة الجيوسياسية والتنمية الاقتصادية، وحتى إعادة توزيع السلطة.

لقد تضاعف عدد أعضاء مجموعة البريكس تقريبًا في العام الماضي، حيث اصطفت عشرات الدول من الجنوب العالمي للانضمام. أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، الرئيس الحالي للمجموعة، يوم الخميس أن نظامًا عالميًا متعدد الأقطاب جديد يتشكل أمام أعيننا.

بالنسبة لروسيا على وجه الخصوص، يمثل هذا الاجتماع وسيلة بديلة للتأثير الدبلوماسي ومن الصمود الاقتصادي بعد تجميد علاقاتها مع الغرب تحت وابل مكثف من العقوبات. والواقع أن الاجتماع في قازان جعل عناصر رئيسية من أجندة روسيا الخارجية تبدو وكأنها طبيعية تقريبا.

ولكن هذا يوضح أيضاً محدودية قدرة موسكو في التأثير على توجهات المجموعة. فقد رفضت أغلب دول مجموعة البريكس بهدوء الانضمام إلى أي إدانة حادة للغرب، أو دعم أي جهد شامل لبناء بديل كامل النطاق للنظام العالمي القائم.

وتضم مجموعة البريكس حاليا تسعة أعضاء - البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، بالإضافة إلى أعضاء جدد هم مصر وإثيوبيا وإيران والإمارات العربية المتحدة. وحضر قمة قازان ستة وثلاثون زعيما عالميا، بمن فيهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وأجرى معظمهم محادثات جانبية حميمة مع السيد بوتن وغيره من المشاركين.

وأصدرت الكتلة بيانا توافقيا من 43 صفحة، أطلق عليه اسم إعلان قازان، والذي حدد مطالب لإصلاح المؤسسات العالمية الرئيسية، بما في ذلك مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة العشرين التي تتألف من الدول الغنية والنامية الرائدة.

ولكن ما يثير قلق أنصار النظام الحالي الذي يقوده الغرب هو أن هذا القرار يندد بشدة بـ"التأثيرات التخريبية" التي تخلفها "العقوبات غير القانونية" على الاقتصاد العالمي. كما يضع القرار ما قد يُنظَر إليه على الأقل باعتباره بداية لهيكل بديل للتمويل والتجارة بين أعضاء المجموعة والشركاء من شأنه أن يتجنب استخدام الدولار الأميركي. كما ينص القرار على إنشاء بنك للتنمية لتوفير التمويل للتنمية الاقتصادية على أسس أكثر عدالة مما هو متاح في النظام المالي الحالي.

يقول دميتري سوسلوف، الخبير في العلاقات الدولية في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو: "إن ما يدفع نمو مجموعة البريكس هو أولاً، عدم رضا العديد من البلدان عن النظام العالمي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. لقد سئم الناس من عملية تسيس الدولار الأميركي، وهناك شعور عام بأن النظام الأميركي مصمم خصيصا لخدمة المصالح الغربية في المقام الأول".

ويضيف أن مجموعة البريكس تُعَد أداة لتمكين التغيير نحو نظام يجسد "التعددية القطبية دون هيمنة". ورغم أن الدول العشرين أو أكثر التي تسعى إلى الانضمام إلى المجموعة متنوعة للغاية ــ وفي بعض الحالات هم أعداء بالمعنى الحرفي  للكلمة ــ فيما يتصل بقضايا الحوكمة العالمية، إلا أنه يصر على أنها متفقة في الرأي.

بالنسبة للسيد بوتن، فإن الفائدة المباشرة والأكثر وضوحا من قمة قازان هي أنها قدمت دليلا مقنعا على أنه على الرغم من الجهود المتضافرة من الغرب، فإن روسيا ليست معزولة - وهي رسالة لم تغب عن وسائل الإعلام الغربية. توفر دول مجموعة البريكس والجنوب العالمي بالفعل شريان حياة اقتصادي لروسيا المتضررة من العقوبات، من خلال شراء الطاقة وتزويدها بمجموعة من السلع التي لم يعد من الممكن الحصول عليها مباشرة من الغرب.

ولكن ما ترغب روسيا وإيران التي تعاني من العقوبات، وبدرجة أقل الصين، في رؤيته هو التحرك السريع نحو أنظمة دفع وشبكات مصرفية بديلة محصنة تماماً ضد العقوبات. ومن الممكن أن تتوج مثل هذه الخطة بتطوير عملة مجموعة البريكس القادرة على المنافسة الكاملة مع الدولار الأميركي واليورو كوسيلة للدفع وتراكم المدخرات. وهي مهمة شاقة، ولا تهم كثيراً الأعضاء الكبار في المجموعة مثل الهند والبرازيل.

ومع ذلك، يبدو أن أغلب بلدان الجنوب والشرق مستعدة لاستخدام العملات الوطنية وغيرها من وسائل الدفع التي تتجنب الدولار، كما تقول إيرينا ياريجينا، الخبيرة المصرفية في معهد موسكو الحكومي الدولي للأبحاث الاستراتيجية، وهي جامعة مرتبطة بوزارة الخارجية الروسية. وتقول إن المعاملات بالدولار بين البلدان المرتبطة بمجموعة البريكس انخفضت إلى 38% فقط من الإجمالي في السنوات الأخيرة.

قبل الاجتماعات الرئيسية، تم توزيع بطاقات "بريكس للدفع" محملة بمبلغ 500 روبل (5.20 دولار) على الزوار في منتدى أعمال البريكس في موسكو. تصف وسائل الإعلام المصرية والجنوب أفريقية البطاقات كإيماءة ترويجية رمزية بدلاً من الإشارة إلى وجود نظام حي. ومع ذلك، فإن ذلك يذكر بمبادرة أخرى - لربط أنظمة الدفع المحلية - والتي لم تحقق الزخم المطلوب، وفقاً لتقرير حديث لمجلة فوربس روسيا.

كما تلاشت المناقشات حول سلة العملات المشتركة لمجموعة البريكس، ويرجع ذلك في الأساس إلى اعتبار ذلك أمرا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، أشار بيان مجموعة البريكس + إلى استكشاف "أدوات ومنصات للدفع"، والتي قد تشمل إما سلة أو على الأرجح عملات رقمية للبنوك المركزية بالعملات المحلية.

في الآونة الأخيرة، كان التركيز الرئيسي على "البريكس للتجسير" القائم على تقنية السجل الموزع كوسيلة لتمكين معاملات العملة المحلية، وربما مع العملات الرقمية للبنوك المركزية. إن استخدام كلمة تجسير هو إشارة إلى تجسير العملات الرقمية وهو نظام الدفع عبر الحدود الذي طورته بعض دول مجموعة البريكس، والذي وصل إلى مرحلة المنتج النهائي القابل للتطبيق. والجدير بالذكر أن المجموعة في طور إتاحة كود تجسير العملات، مما قد يسهل على أعضاء مجموعة البريكس تبنيه. وعلى عكس البريكس للدفع، فإن تجسير العملات الرقمية عبارة عن بنية أساسية للدفع في الخلفية ترتبط بأنظمة مصرفية قائمة.

ولكن في الأمد القريب، يتلخص الهدف في استخدام تسوية العملة المحلية كجزء من شبكة البنوك المراسلة القائمة. وقد أكد على ذلك البيان المشترك الرسمي لمجموعة البريكس بلس.

كما تضمن البيان فقرة حول دراسة "البنية الأساسية لإيداع وتسوية الأوراق المالية في دول البريكس" والتي من شأنها أن تكون بديلاً للبنى الأساسية الغربية مثل مركز دبي للسلع المتعددة، ويوروكلير، وكليرستريم. وقد تم طرح هذه الفكرة في السابق في ورقة روسية تم تداولها قبل الاجتماعات. وذكرت بلومبرج أن البعض ينظر إلى هذه الفكرة باعتبارها مبادرة من روسيا وإيران، في حين أن أعضاء آخرين في مجموعة البريكس قد يكون لديهم رغبة أقل في ذلك.

على كل يذكر المراقبون بان البريكس لاتزال بعيدة من تهديد النظام المالي السائد، وأنظمة الدفع المهيمن عليها من أمريكا والغرب حتى الآن، ولكن في غضون الخمس -العشر سنوات القادمة فان هذا التحدي سيكون جديا.

***

علي حمدان

عقد منتدى «أصيلة» بالمغرب (من 20 إلى 21 أكتوبر 2024)، ندوته «الحركات الدِّينيّة والحقل السّياسيّ: أيُّ مصير»؟ وهي واحدة مِن ثلاث ندوات، في موسمه الخامس والأربعين. تُقام النَّدوات عادة في جامعة «المعتمد بن عباد المفتوحة» بأصيلة. شارك فيها سياسيون، ومهتمون بتاريخ الإسلام السّياسيّ، مِن بلدان شتى، وفي الغالب كلٌّ قدم تجربة بلاده.

فقد اختلفت تحولات الجماعات الإسلاميّة مِن بلاد إلى أخرى، منها سُلمت لها الإدارة وفشلت، فتراجعت عن شعارها «الإسلام هو الحلّ»، وما عادت تنادي به حتّى همساً، ومنها مكنتها الظّروف، ولو أحسنت الأداء، لرفعتها النَّاس، كما رفعت جنوب أفريقيا مانديلا (ت: 2018)، لكنَّ «فاقد الشَّيء لا يعطيه»، فصارت مهيمنة بأجنحتها المسلحة، ولو قطع حبلها السّري بالخارج، لانتهت بطرفة عين، لأنّها لم تُقدم شيئاً، بل صار وجودها كارثةً على النَّاس.

نشأ الإسلام السّياسيّ مخالفاً للزمن، فالحرب العالمية الأولى (1914-1918)، أنهت عصر الإمبراطوريات، المعتمدة كونيّة الدّين، وبدأ عصر الدّولة الوطنية، فلإحياء الخلافة ظهر الحزب الدِّينيّ عابراً الدَّولة، والمخالفة الثّانيّة للزمن، أنَّ هذا الحِزب الدِّيني ليس لديه جديدٌ، القديم هو جديده، وما «الحاكميّة»، بعنوانها السّنيّ، و«ولاية الفقيه» بعنوانها الشّيعيّ، إلا لاستقدام الماضيّ تعسفاً، فالقوانين المعاصرة تُعد وضعية، وبالتالي كافرة، وعليه اعتبروا «العلمانيَّة» كافرة، يشمل ذلك رجال دين ومؤمنين، ممَن لا يرى شرعية الدَّولة الدِّينية.

طرحت النّدوة تداعيات «الرّبيع العربيّ»، وتلقفه مِن قِبل الجماعات الدِّينيَّة، فشكلت أحزابها بألفاظ لا تقر بمعانيها، وقد أجاد معروف الرُّصافي (ت: 1945) القول مبكراً: «لا يخدعنك هِتاف القوم بالوطنِ/ فالقومُ بالسرِّ غيرَ القومِ بالعلن/إحبولة الدِّين ركَّت مِن تقادِمها/ فاعتاض عنها الوراء أُحبولة الوطنِ» (الدِّيوان، الدِّين والوطن). بعد أن جُربت الجماعات السّلطة، صارت وجهاً لوجه مع المعضلات الاقتصادية والسّياسيّة، فمنيت بالانتكاس، ومَن حصل على أغلب المقاعد، صار يتمنى الأربعة، ومنها ما إن استلم السُّلطة، أسرع إلى الأسلمة بتطبيقاته.

لا تستطيع الجماعات الدينيّة الاستمرار دون الأسلمة، هذا ما طُرح في النَّدوة أيضاً، لافتاً الأنظار إلى التَّعبير السّياسي المغلف بالشّعور الدّينيّ، فبعد فقدان التّمكن، صاروا إلى كتابة الحيطان، واستخدام الأجهزة لإثارة المشاعر، على سبيل الدَّعوة، في المحلات العامة، ووسائط النَّقل، وكلُّها وسائل للأسلمة.

لم يكن هذا النّشاط بريئاً مِن محاولة إثبات الوجود، والعودة إلى تجديد الصّحوة الدّينية، التي انحسرت عن مدن اعتبرتها عَقْر دارها، مثلما الحال في الثَّمانينيات. أخذت تنفذ هذه المظاهر بإدارة حزبيّة، فمَن يعترض يُشار إليه بعداوة الدّين، على أنّ الإسلام لا وجود له إلا عبر خطابهم.

لا أحد يستطيع الدّفاع عن جماعات الإسلام السياسيّ الأولى، فالتنظيمات الإرهابيَّة اليوم أفرعها، وتجهيل المجتمع غايتها، فقد حرصت، منذ نشأتها، على إدارة التّعليم بكوادرها، وضخه بالتكفير والكراهية، وربط العِلم بالدّين، كربط الدّين بالسّياسة، فأظهروا «الاعجاز العلمي»، وهو في حقيقة الأمر أسلمة للعلم، وعلمنة للدين، بينما للدين مجاله وللعلم مجال، والخلط بينهما يُعد ضرراً على الاثنين، كلّ هذه الأفكار وغيرها طُرحت في ندوة أصيلة.

كان راعي «أصيلة»، الوزير محمد بن عيسى، يحثُ على الحديث عن المستقبل، فالغالب مِن المداخلات كان ماضوياً، وقد نعطي الحقّ للمتحدثين، لأن الزمن عند الأحزاب الدينية بعد ألف عام، هو قبل ألف عام نفسه، كذلك الحقّ لراعي المنتدى، إذا كان ما نبه إليه كعب بن زُهير (ت: 26هج) واقعاً في المجالات كافة: «ما أرانا نقول إلا مُعاراً/ أو مُعاداً مِن قولنِا مكرورا»(ابن عبد ربّه، العقد الفريد)، لكنَّ بما يخص تطبيقات الإسلام السّياسيّ، وحاكميته المعلنة عند جماعة، والمخفية لدى أخرى، نجد كعباً قد أصاب في ما ذهب إليه، عطفاً على معاكسة الأحزاب الدينية لاتجاه الزمن، في تأسيسها ودعوتها وتطبيقاتها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تقتضي تطورات الأحداث التي تطرأ على العلاقات بين الدول وقت اشتداد الأزمات، أن يلجأ أحد أطراف النزاع إلى تصعيد موقفه من أجل فرض فرض حلول أفضل في  رأيه. وبديهي أن يسعى هذا الطرف أو ذاك ممن يبصر في نفسه موقف القوة والتفوق أن تكون هذه الحلول بمثابة المرآة الصادقة للحفاظ على مصالحه، والضامن الأكيد للبقاء في موقف القوة، بل وأن تكون صمام الأمن المستقبلي لتجنب عودة نشأة مسببات الأزمة وتفادي تكرارها، وعلى رأس مظاهر هذا التصعيد،إعلان الحرب.

يحدثنا التاريخ أن قرار إعلان الحرب بين الأمم لم يكن يستغرق زمنا، فلا يتجاوز مثلا مدته حدود بحث كيفية تنفيذه في الميدان، كما لم يكن اتخاذ مثل هذا القرار الخطير بحاجة كبيرة لتوفير أسبابه المقنعة سواء كانت حقيقية أو واهية،وسواء كانت مؤكدة أو محل شك فيها، كما لم يكن اتخاذ القرار يتوخى تلمس حساسية الأوضاع السياسية المحيطة بقدر ما كان الأهم أن يكون العمل العسكري في حد ذاته موفيا لدواعيه كاملة ملحقا أشد الأضرار التي تحقق أهدافه سواء العقابية أو الانتقامية أو الردعية .. أو الاستعمارية، إنه منطق القوة الذي سادت همجيته زمنا وقضى على ملايين البشر.

أبت كل المواثيق الدولية التي صدرت على أنقاض ما قاسته البشرية من ويلات الحرب العالمية الثانية إلا أن تواكب تطور الفكر الإنساني وأن تكون عاكسة لتطلع شعوب العالم  نحو بناء حضارة تعترف بحق الأمم في التحرر وتؤكد حق الشعوب في العيش الكريم، وأن توثق هذه الحقوق فتفرض على كافة الأنظمة السياسية احترامها وتجبر كل الحكومات على التمسك بها سلوكا وفكرا وعقيدة .

اتجهت جهود كل الدول في عصرنا الحديث إلى تطوير قدراتها العسكرية وتجديده وتحديث أسلحتها حتى أصبحت الصناعة العسكرية نشاطا رئيسيا حيويا في منظومة النشاط الاقتصادي للكثيرمن الدول الصناعية الكبرى، وأصبحت العودة للسباق نحو التسلح ظاهرة مقلقة تهدد السلام العالمي وتناقض مبدأ نبذ العنف المسلح، والسؤال الحائر هنا، لماذا تجددت النزعة لامتلاك الدول المزيد من عناصر القوة المسلحة ؟ ولماذا ازدهرت تجارة السلاح عبر العالم ؟ ولماذا تسعى كل الدول إلى امتلاك أسلحة التفوق الاستراتيجية المدمرة ؟ الواقع لا يحمل دلائل النية الحسنة، ولا يشير الى المساعي الحميدة، حيث بات الميل إلى التهديد باستعمال القوة أعلى صوتا بل ويسبق الدعوات لترجيح الجهود السلمية واستغلال فضائل الحوار السياسي في تسوية الأزمات .

لا تولد الأزمات الدولية من فراغ،وهي قد تنشب نتيجة مشاكل مستجدة أو بسبب خلافات تاريخية بقيت عالقة زمنا كقنابل موقوتة، والسائد في العلاقات الدولية أن تجنح الدولة التي تستشعر أن حيفا قد أحاط بها أو ظلما قد أصابها إلى إفادة المجتمع الدولي كما هو مفترض بملابسات ما تعرضت له لحشد الرأي العام الدولي إلى جانبها ودعمه لها ضد خصومها وإنصافها لاسترجاع حقها ورفع الظلم عنها، وكثيرا ما تعلن هذه الدولة أنها تحتفظ بحقها " المشروع " للحفاظ على حرمة ترابها وسيادتها وكرامة شعبها بالوسائل الممكنة وفي الوقت الذي تراه مناسبا، إنه تلويح صريح باحتمال استعمال القوة المسلحة وفق مقولة " وقد أعذر من أنذر.."  والحاصل أنه على قدر ما يمكن أن تسوقه أي دولة من أسباب أو تقدم ما أمكنها أن تسوغه من مبررات لاستعمال القوة المسلحة فهو لا يكفي لحصولها على تأييد دولي بإعطائها كل الحق في إعلان الحرب لأن الأمر مهما كان يتعلق في النهاية بإراقة الدماء، وعليه فإذا كان المجتمع الدولي من جهة ينبذ العنف ويندد بسفك الدماء، فإنه من جهة أخرى لم يملك إزاء الكثير من القضايا الدولية أدوات الضغط الكافية من خلال الهيئات والمنظمات الدولية التي تمثل إرادته للامتثال لقراراته، بل أن صمت المجتمع الدولي كان دافعا لمضي بعض الأطراف في غيها مستفيدة من صعوبة تحقيق إجماع على إدانتها، وأصبح على عاتق الدولة المطالبة بحق لها أن تزود خطابها السياسي بالمنطق الذي يبررلجوءها للعمل العسكري ويعززه وذلك حتى لا تقع تحت طائلة الاستنكار والتجريم أو أن تكون عرضة لعقوبات دولية قد لا تطيق تحمل تبعاتها وهي في أدني مستوى لها، فالمنطق يقتضي أن تفيد الدولة المجتمع الدولي بكل الخطوات التي اتخذتها لحصر الخلاف في أضيق الحدود، وأن تستعرض على المستوى الدولي كل الجهودها التي بذلتها من أجل احتوائه وأن تنشر بيانات بتحركاتها الايجابية في اتجاه الحل السلمي له، وأن تؤكد صحة مواقفها على مستوى علاقاتها الدولية في شكلها الثنائي والمتعدد الأطراف وجعلها رسائل غير مباشرة للخصوم فيكون من المنطقي والمفهوم أنه الأمر نفسه بالنسبة للشركاء السياسيين يضخم بكل منطقية حجم الحلفاء من الدول .

يستمد المنطق السياسي أهميته في الجدل السياسي، كما يستمد قوته من مقدار الواقعية والموضوعية في التناول ومن مدى الحيادية في الموقف والنزاهة في التقدير،وكلها اعتبارات تفترض أن يكون من يحرص على اتباعها أن يكون على علم مسبق ومعرفة واسعة وإلمام كبير بكل جوانب المسألة، وهي إذا اجتمعت فإنها تكسب صاحبها مهارة استغلال المناسبة بجعلها فرصة لاستحضار القيم التي تنفض الغبار عن الحقائق التاريخية التي ربما لا يصمد أمامها كل استنتاج متعجل، فتكون بذلك محل إعجاب بالمسعى وتشجيع للمبادرة ودعوة للاقتداء، إنها ميزة السداد في الرأي وفي إدارة الأزمات بالمنطق الذي يعزز الخيارات بما فيها الخيار العسكري الصعب الذي يناظر في صعوبته مفهوم الرباط الشرطي الخاص باعتماد ثقافة الخوف مثلا بزعم وجود خطر على البلد ومصلحة الوطن تعطي للأمن حق التدخل في السياسة الحكومية، فثمة مواقف هي التاريخ، وثمة مواقف في وجه التاريخ حاضرة، وسياسات تنتج المزيد من المنطق الحضاري وتراعي خصوصيات الأمم وتتحاشى منطق التسوية الحضارية للأزمات، وهناك سياسات تأخذ صفة الشاهد في المأساة، ومن المنطق السياسي الاعتراف بأنه حيث لا توجد إيديولوجيا مسبقة على الواقع، فإنه لا واقع بلا إيديولوجيا، وعليه يمكن أن يخفي الصراع العسكري الظاهر خلافا إيديولوجيا عميقا يحتاج فيه كل طرف إلى ما يعزز مرئيته بمنطق يجعل موقفه أوضح في الحجة وأبين في المنع، إذ يعتبر الموقف بصفة عامة علامة فارقة في الزمن من المفروض بداهة أنها لا تحتكم إلا للمبادئ، ويبدو أن بين شكل الموقف وطبيعة المبدأ علاقة جدلية واضحة، فعلى قدر سمو ورفعة المبدأ يكون نبل الموقف والعكس صحيح فحقارة الموقف من دناءة المبدأ.. وبين الاعتماد على المبدأ الذي يعبر في حقيقته عن نوع العقيدة من جهة، وبين تجسيد الموقف عمليا بشكل كلي أو جزئي من جهة أخرى تكمن أهمية تحديد لغة الخطاب الذي من المفروض أن يتضمن ما يؤكد أو ينفي أمرا محددا بشأن موقف سابق أو لاحق حول قضية معينة، ويحتاج العمل العسكري إلى تأييد سياسي يكسبه الشرعية ويحشد الدعم الشعبي الضروري حوله، ويأتي مثل هذا الدور في صلب منطق يبرره ويتم التسويق له في الخطاب السياسي على النحو الذي يعززه، وهنا يثور التساؤل مجددا عن ما مقدار الصحة التي يمكن أن تصيب كبد الحقيقة عندما يتعلق الأمر بالحديث الحائر بين العسكريين عن العلاقة الموجودة بين صرامة لغة المواقف ومناورات لغة السياسة؟.

قد تدفع الظروف المحلية أو الدولية إلى انحراف الخطاب السياسي غصبا أو طوعا عن مقصده النبيل بأن يبتعد عن غايته السامية وذلك إما بالتمويه على الصحيح من الرأي، أو بالتعتيم على عمليات تصفية الحسابات، أو أن يزيغ مضمونه البصر بالأوهام وتضيع معانيه البصيرة بالآمال الزائفة والوعود الكاذبة من أجل تحقيق أغراض خاصة أو لمراعاة مصالح ضيقة، وحينها نكون في مواجهة معالم نموذج التيه السياسي الذي لا يسمح باختصار لأي كان اقتحام مناطقه المظلمة، وهو نموذج يؤدي حتما إلى وقوع الخطأ في العمل السياسي ويؤدي تبعا لذلك إلى تناسل الأخطاء وإلى الوقوع في دائرة الشك حيث الممكن يصبح فنا يبرر النفاق في الخطاب تماما كما يبرر الإيمان بالموقف فتضيع بذلك بوصلة المنطق السياسي فيحرم العمل العسكري من فضائل تعزيزه .

***

صبحة بغورة

ـ الختام اللاارضوي وزوال الغرب:

 هذا ماكان مقدرا للسياقات التفاعلية التاريخانيه المجتمعية وهي سائرة نحو اللاارضوية ان تعرفه مع بدء العملية التحولية الانتقالية الكبرى،لا من الارضوية مع انتهاء امدها وصلاحيتها منذ انبثاق الالة، حيث من الحاسم التفريق بين رؤية التوهم بخصوص المجتمعات ونمطيتها الازدواجية، والمراحل الكبرى "اليدوية" الاولى الارضوية، و "الالية " اللاارضوية المتاخرة غير المدركة، بانتظار اسقاط استمرارالهيمنه الايهامية الارضوية التي تجمل المرحلتين تحت مسمى ونوعية واحده احادية، فينظر الى التحول الالي، ويتم التعامل معه باعتباره ماقبلة وصنوه ومن نوعه في الجوهر، الى ان تتحقق الانتقالة العقلية المتعدية للقصورية التكوينيه العقلية، وتحل السردية والمروية اللاارضوية المطابقة للانتقالية الالية، مكان التوهمية الكبرى كما تتمثل في الرواية الارضوية الموروثة عما مضى وما قد صار موضوعيا خارج الحياة والتاريخ.

 وليس مايشار له كما واضح من طبيعته بالامر المتاح بسهولة ويسر كما يمكن ان نتوقع، فالمطلوب اليوم مجتمعيا رؤيويا يقارب، او هو من نوع الانتقال من منظور ومفهوم " الارض المسطحه" الى "الارض الكروية التي تدور حول الشمس وحول نفسها"، ولنتخيل ساعتها وبناء عليه مانحن بصدده، او نتصور الانتقال من طور"الصيد واللقاط"، الى " التجمع + انتاج الغذاء" قبل تبلور الاخير، ومايفصل بينهما من تفاعلية غير محدده ولامكتملة، يمكن نسبتها لنمطية بعينها، سوى كونها انتقال غير متبلور بين محطتين، ولنتخيل للتقريب لو ان الوعي البشري قد ظل "صيديا لقاطيا" بعد تبلور المجتمعية في ارض سومر جنوب ارض الرافدين، وهو الحاصل اليوم وبعد انبجاس الاله اوربيا، حيث عمت الرؤية اليدوية بمحركات واليات العنصر الالي المستجد والمضاعف للاليات المجتمعية. موجدا حالة من التناقضية الكبرى، بين المجتمعية بصيغتها الغالبة المطموسة تاريخيا يدويا ونوع التفاعل واجمالي التعامل معها لحين اقتراب لحظة التفارق الاقصى بين وسيلة الانتاج وصيرورتها الاعلى، ومايطابق طبيعتها وفعلها مابين الجسد والعقل.

 مع اللحظة المشار اليها، وساعة بلوغها، لابد من توقع تحشد كل ممكنات التوهمية الكبرى عند لحظة تازمها الاقصى، وذهابها الانتحاري لتكريس ماقد فاته الواقع والزمن نهائيا، وهاهو الشرق الاوسط موقع اللاارضوية والمجتمعية البدئية، ومنبت رؤيتها الكونية النبوية يتحول مجددا لساحة الاختبار الاخير الدرامي الدموي، الاكثر انطواء على حزمة موضوعات الانقلابيه الكبرى التحوليةالمجتمعية، قبل انهيار الغرب، وفي المقدمه امريكا، وتحول اسرائيل الى ماساة كبرى، وشرذمه بلا اي اساس، فعلهاالوحيد القتل وازالة الاخر، والمساعدة على سحق قيم الغرب المدعاة بلا اساس، في وقت اللاكيانيه، وبحثها المستحيل عنها في غير زمنها، وسط انتفاء اي صنف من اصناف الدول غير الكونية التوحيدية البشرية، بمعنى اننا اليوم على اعتاب لحظة انهيارالتوهميه الغربيه تحت طائلة محاولة ابقائها فاعلة بلا اساس، بقوة الابادة للاخر، الامر الذي لن يلبث ان تنتفي ممكنات استمراره، مع انقلاب وسائل الارجحية الطارئة التكنولوجية الحالية، بينما تلوح في الافق اشارات الذهاب الاولى الى اللااارضوية الثانيه "العلّية"، فلا يعود الصراع احاديا يخوضه طرف واحد ضد الاخرين وضد ذاته المنتهية الصلاحية.

 ليس صدفة ولا من باب الخرافه الاسطورية مرة اخرى، ان جريمه امريكا / اسرائيل الزائلة قريبا، ومعها الغرب تتواقت بذات العام مع صدور الكلمه الاولى الدالة على حضور اللاارضوية (كتاب العراق)، ايذانا بتحول المعركة للمرة الاولى الى اصطراع عالمين وجبهتين، احداهما مهووسه بما يمكن تسميته جنون اكراه التاريخ والسير عكسه، واخرى بدات تنبثق اليوم بعد الاف السنين من انتظار حضورها على مر التاريخ ... اسرائيل انتهت كطليعه انصبابية، في ارض الابراهيمه، مفبركة مرهونة لغرب صار هو بذاته منتهيا، ومايحدث هو مقدمات ماساوية كبرى انقلابيه، موافقه للحقيقة والقانون المغفل الحاكم للتطور التاريخي المجتمعي، حيث الانتقال الانقلابي الاعظم في نهاية المطاف، من المجتمعية الحاجاتيه الجسدية الارضوية الى اللاارضوية العقليه.

***

عبد الامير الركابي

.......................

 (1) " هنالك احساس قوي بفرادة امريكا ونموذجيتها تعززه المشاعر الدينيه التي تثيرها عبارة " مدينة على جبل" في نفوس من يحسبون ان النص يخاطبهم كمسيحيين وكامريكيين في ان واحد. ويرى غير مؤرخ ان فكرة الوحدانية الامريكيه، التي لها تعبير علماني معاصرهو " الاستثناء الامريكي" او "الاختبار الامريكي"، ظهرت للمرة الاولى في خطاب القاه الطهراني جون وينثروب وذكر فيه عبارة "مدينة على جبل" مستنهضا الذين ابحروا معه من انكلتر نحو الارض الجديده" طارق متري/ مدينة على جيل؟ عن الدين والسياسة في امريكا/ دار النهار ـ بيروت/ صص 13 ـ 14

(2) يراجع/ اسياد العالم الجدد/ جون بلجر/ دار الكتاب العربي/ بيروت ـ لبنان

(3) (كتاب العراق) عبدالامير الركابي / دارالانتشار العربي / بيروت/ اصدار عام 2024 .

(4) الفكرة في الوجود الامريكي سابقة على التشكل والوجود المادي وهي وهي مايجعلها قائمه، مجسدة بحالة التدين الاوسع بين الامريكيين مقارنه باي شعب في العالم اليوم "وعلى امتداد الثمانينات من القرن العشرين سعى معهد دراسة الدين الامريكي لاحصائها (الديانات المبتكرة والتقليدية)، وفي تقرير له نشر عام 1988 في موسوعة الاديان الامريكيه اشار الى وجود1586 جماعه دينيه في الولايات المتحدة 700 منها "غير تقليديه"، بمعنى انه يتعذر تصنيفها مذاهب داخل الاديان العالمية التاريخيه المعروفه." طارق متر ي/ مصدر مذكور سابقا ص32.

(5)  من "مابعد الامبراطورية: دراسة في تفكك النظام الامريكي" لامانويل تود: دار الساقي/ ترجمة محمد زكريا اسماعيل/ الى/ " امريكا التوتاليتاريه: الولايات المتحدة والعالم: الى اين؟" / ايضا دار الساقي ـ ترجمة خليل احمد خليل/ يتوالى البحث في منتهيات التوهمية الرساليه الامريكيه، دلالة على انقضاء ممكنات استمراريتها.

(6)  الفيلسوف إيمانويل تود يتنبأ بهزيمة الغرب كما تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي: يراجع الرابط:

https://www.aljazeera.net/culture/2024/10/21/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%8A%D9%84%D8%B3%D9%88%D9%81-%D8%A5%D9%8A%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%8A-%D9%8A%D8%AA%D9%86%D8%A8%D8%A3

بقلم: عائشة زاراكول

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

قبل وجود أوروبا الحديثة، كان هناك عالم سياسي كبير ومترابط وثري بالتبادل العلمي والفني

***

إن العملية التي أدت إلى ظهور المركزية الأوروبية في العلوم الاجتماعية والتاريخ يمكن مقارنتها إلى حد ما بحماقات الشباب. يجد الأطفال الصغار صعوبة في تصديق أن والديهم كانوا موجودين قبل ولادتهم. غالبًا ما يعتقد المراهقون أنهم أول من يخوض التجارب التي يمرون بها وهم في طريقهم إلى مرحلة البلوغ. عادة ما يفكر الشباب في الأجيال السابقة على أنها مملة وقديمة الطراز، ويعتبرون أنفسهم مميزين ومبتكرين بشكل فريد. ويتخيلون أنهم سيبقون كذلك إلى الأبد، وكأن الزمن سيتوقف عن الحركة من بعدهم.

ومع ذلك، فإن جزءًا من النضوج هو الخروج تدريجيًا من هذه السذاجة النرجسية. مع تقدمنا في السن، نبدأ في إدراك أن الآخرين الذين سبقونا مروا بتجارب كثيرة تشبه تجاربنا، حتى لو كانوا يتمتعون بأزياء مختلفة ويفتقرون إلى تقنيات معينة. ثم تتكرر الدورة مع الجيل القادم. ولعله ليس من المستغرب بشكل خاص أن علومنا الاجتماعية، التي بلغت ذروتها في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ــ أي "شباب" الهيمنة الأوروبية/الغربية ــ كانت لديها أيضاً سذاجة مماثلة بشأن تاريخ العالم. كانت أوروبا/الغرب هي الأكثر أهمية في تلك اللحظة، لذا لا بد أن الأمر كان كذلك دائماً. ولعلها علامة على أننا نقترب الآن من سنوات شفق هذه الهيمنة، حيث أصبحت الانتقادات (والانتقادات الذاتية) للمركزية الأوروبية شائعة جدًا في معظم العلوم الاجتماعية لدرجة أنها أصبحت مبتذلة.

ولكن على الرغم من أنه كان من السهل توجيه انتقادات للمركزية الأوروبية ضد العلوم الاجتماعية ــ وهي ثمرة سهلة المنال إن وجدت ــ فقد ثبت أن إيجاد حلول لها أمر أكثر صعوبة. هناك دائما الخطر المتمثل في أننا، في محاولاتنا للهروب من المركزية الأوروبية، نستبدل نوعا من التاريخ الأناني بنوع آخر. ومن السذاجة أيضًا الاعتقاد بأن الأوروبيين وحدهم هم من ينتجون أو أنتجوا روايات تاريخية متمحورة حول الذات. إن تاريخ العالم الذي يتمركز حول الصين أو مركزية روسيا ليس حلاً، فهو لن يؤدي إلا إلى تكرار الدورة.أو الشىء نفسه.

كيف نفعل ذلك؟

وفي العلاقات الدولية أيضاً، حتى وقت قريب، كان الطلاب يتعلمون أنه لا يوجد نظام دولي (وبالتالي لا توجد علاقات دولية). حتى القرن السابع عشر، إلى أن أنشأ الأوروبيون نظامًا إقليميًا عبر اتفاق صلح وستفاليا *عام 1648 ثم قاموا بتوسيع ذلك حول العالم. وكان من المفترض أن تكون بقية دول العالم منعزلة، عالقة في صوامعها الإقليمية، وغير مهتمة بالعالم الأوسع، إلى أن ربطتها الجهات الفاعلة الأوروبية بأوروبا أولاً، ثم ببعضها البعض.

في مثل هذه الروايات، يتم تعريف "النظام الدولي" عادة على أنه يشير إلى نظام القواعد والمعايير والمؤسسات التي تحكم العلاقات بين الدول والجهات الفاعلة الدولية الأخرى. وتشمل المبادئ والقواعد التي يقوم عليها النظام الدولي الحديث السيادة والسلامة الإقليمية وحقوق الإنسان وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتسوية السلمية للنزاعات والتعددية وسيادة القانون. تعتبر اتفاقية وستفاليا نقطة الأصل بسبب طرحها المفترض لمبدأ عدم التدخل.

هناك الكثير من مواد العلاقات الدولية في التاريخ خارج أوروبا وقبل الحداثة

لقد تعرضت "الأسطورة الويستفالية" في العلاقات الدولية لانتقادات كبيرة في السنوات الأخيرة، ولكن بالنظر إلى الطريقة التقليدية التي يتم بها تعريف النظام الدولي، فليس من المستغرب بشكل خاص أن يؤكد الخبراء أنه لم تكن هناك أنظمة دولية مماثلة قبل نظامنا الحديث (على الرغم من أنه ومن المشكوك فيه أيضًا مدة وجود مثل هذا النظام حتى في الحداثة). تنبع المشكلة من حقيقة أن مصطلحاتنا تستحوذ على بعض سمات السياسة العالمية التي لم تكن موجودة إلا في الحداثة (على سبيل المثال، مفهوم حقوق الإنسان، أو المنظمات الدولية، أو حتى السلامة الإقليمية) وتدمجها في التعريف مع سمات أخرى يمكن القول إنها كانت موجودة لفترة أطول (على سبيل المثال، السيادة أو آليات التسوية السلمية للنزاعات). وحتى مصطلح النظام الدولي مضلل لأنه يفترض الدول القومية، وهي سمة متأخرة نسبيا في السياسة الإنسانية.

ولكن إذا خففنا من الافتراض القائل بأن الأنظمة التي أنشأتها الدول القومية هي وحدها التي تستحق الدراسة، فسنجد أن هناك الكثير من مواد العلاقات الدولية في التاريخ خارج أوروبا وقبل الحداثة التي يمكننا البححث والتدقيق  فيها. ولهذا السبب أفضّل الحديث عن "الأنظمة العالمية" بدلاً من "الأنظمة الدولية"، التي تُعرف بأنها القواعد والتفاهمات والمؤسسات (التي صنعها الإنسان) والتي تحكم (وترسم) العلاقات بين الجهات الفاعلة الأساسية في السياسة العالمية (ولكن تلك الجهات الفاعلة يمكن أن تتغير بمرور الوقت: الدول القومية، والبيوت الأرستقراطية، ودول المدن، وما إلى ذلك). يتمتع "النظام العالمي" أيضًا بطموح عالمي في جوهره وهو موسع في رؤيته.

عندما نفكر في الأمر بهذه الطريقة، ليس من الصعب أن نرى أنه كانت هناك بالتأكيد أنظمة عالمية قبل وستفاليا والقرن السابع عشر: كان «الشرق» أيضًا موطنًا للنظام العالمي (والأنظمة العالمي). ومن خلال النظر إلى الأنظمة العالمية الآسيوية التي جاءت قبل الهيمنة الأوروبية، يمكننا أن نتعلم الكثير.

كان هناك نظام عالمي "جنكيزى" أنشأه جنكيز (جنكيز) خان وأعضاء بيته (القرنين الثالث عشر والرابع عشر)، يليه النظام العالمي "ما بعد الجنكيز" للتيموريين والمينغ الأوائل(القرنين الرابع عشر والخامس عشر) ) وأخيرًا، عالم العولمة الذي تحتل موقعه الأساسي ثلاث إمبراطوريات ما بعد التيمورية (وبالتالي الجنكيزية) (القرنين الخامس عشر والسابع عشر): العثمانيون، والصفويون، والمغول (جنبًا إلى جنب مع آل هابسبورغ). وكانت هذه الأنظمة أيضًا مرتبطة ببعضها البعض، تمامًا كما يرتبط نظامنا المعاصر بالنظام الدولي في القرن التاسع عشر، حيث كانت هناك استمرارية في معاييرها المشتركة. في كل فترة من هذه الفترات، كان العالم يحكم وينظم من قبل بيوت عظيمة بررت سيادتها على غرار الجنكيزيين.

تعني السيادة "الجنكيزية" ما يلي: في القرن الثالث عشر، أعاد جنكيز خان تقديم نوع من الملكية المقدسة القوية إلى أوراسيا، والتي نربطها أكثر بالعصور القديمة، ولكنها اختفت من جزء كبير من هذا الفضاء بعد ظهور الديانات التوحيدية والمعتقدات المتعالية. الأنظمة التي تكبح القوة الأرضية للحكام السياسيين من خلال الإشارة إلى قانون أخلاقي قوي ينطبق على جميع البشر. وبما أن هذه الديانات اكتسبت المزيد من القوة منذ العصور القديمة المتأخرة فصاعدًا، فقد تضاءلت قوة الملكية بشكل كبير في جميع أنحاء أوراسيا. لم يعد بإمكان الملوك سن القوانين حيث كان عليهم تقاسم سلطتهم مع الشريعة الدينية المكتوبة ومفسريها. كسر جنكيز خان والمغول هذا النمط من الملكية المقيدة (وقد حاول آخرون القيام بذلك من قبل أيضًا، ولكن لم ينجحوا أبدًا). إن صفة جنكيز أكثر ملاءمة من المغول لوصف العوالم التي تم إنشاؤها على هذا النحو لأن هذه الأنظمة كانت أوامر من بيوت عظيمة (سلالات) وليس من الأمم.

مثل هؤلاء الحكام المطلقين طاردوا دائمًا الإمبراطورية العالمية وانتهى بهم الأمر إلى تنظيم العالم

ادعى جنكيز خان سلطة تشريعية تتجاوز سلطة الجهات الدينية (وغيرها). لقد جعل من نفسه مُشرعًا، لكنه لم يدّعي أنه نبي. كما أنه لم يدعي أنه ينطق فقط بالقوانين الإلهية. لقد وضع القانون وما زال يتوقع من الناس أن يطيعوه، حتى لو كان لديهم بالفعل قواعدهم وقوانينهم الدينية الخاصة. وتتطلب مثل هذه المركزية للسلطة العليا في شخص واحد شرعية قوية. إن الادعاء بامتلاك مثل هذه السلطة الهائلة لا يمكن تبريره إلا من خلال تفويض بالسيادة العالمية على العالم، وهو ما يؤكده ويتجلى في الغزو العالمي والإمبراطورية العالمية. ولأن جنكيز خان نجح في إنشاء إمبراطورية عالمية تقريبًا، فقد نشر أيضًا هذا الفهم الخاص للسيادة عبر أوراسيا.

قصة جنكيز خان باعتباره فاتحًا للعالم ومشرعًا، استمرت لعدة قرون (كما يتضح من مثال تيمور/تيمورلنك لاحقًا)، مما أضفى الشرعية على نوع معين من الحكم السياسي في جميع أنحاء هذا الفضاء وعزز أيدي الحكام الذين يطمحون إلى مركزية السلطة السياسة حتى في الأماكن التي تشكل فيها السلطة الدينية (مثل الفقهاء الإسلاميين) تحديًا للملكية المطلقة. وكان هؤلاء الحكام يطاردون دائمًا الإمبراطورية العالمية وينتهي بهم الأمر إلى تنظيم العالم (في كثير من الأحيان بعنف ووحشية ولكن أيضًا بشكل منتج في بعض الأحيان) في منافستهم على هذه العباءة. تشكل الأنظمة العالمية الآسيوية بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر تاريخاً مهماً من الأنظمة العالمية القوية والمؤثرة خارج الهيمنة الأوروبية. وبقدر ما تشكل المركزية السياسية عنصرا أساسيا في السيادة الحديثة، فقد يقال إن الفهم والممارسات الآسيوية المماثلة للسيادة تسبق المسار الأوروبي وربما أثرت عليه.

الأول كان "النظام العالمي" الأصلي الذي أنشأه جنكيز خان (وبيته) في القرن الثالث عشر. إذا كان هناك بالفعل "شرق" متميز عن "الغرب"، فيمكن وضع إحدى نقاط الانفصال هنا. بعد كل شيء، كانت إمبراطورية جنكيز خان في المقام الأول إمبراطورية «آسيوية»، تمتد من المحيط الهادئ في الشرق إلى البحر الأبيض المتوسط في الغرب. تفاعلت الجهات الفاعلة في هذا النظام (وداخله) مع شبه القارة الهندية في جنوبها والأنظمة الإقليمية الأوروبية/البحر الأبيض المتوسط في غربها (وأثرت على التطورات فيها والعكس صحيح). ولكن، في أغلب الأحيان، لم يتم دمج الأنظمة السياسية في تلك المناطق في هذا النظام واحتفظت بمنطقها الخاص في السلطة، والشرعية، والحرب، وما إلى ذلك.

في هذا النظام "الآسيوي"، تقاسم الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الجغرافية التي نسميها الآن "روسيا" و"الصين" و"إيران" و"آسيا الوسطى" - وهي في الأساس معظم قارة آسيا - نفس السيادة لأول مرة ثم بعد ذلك. كانت تحكمها/تهيمن عليها سلالات (القبيلة الذهبية/جوشيد، ويوان، والإيلخانات، والجاغاتاي) التي ورثت بشكل مباشر القواعد الجنكيزية، أي طموحات السيادة العالمية وشرعية الأسرة الحاكمة على أساس الغزو العالمي، ودرجات عالية من المركزية السياسية حول السلطة العليا. سلطة الخان الأعظم. كما كانت مرتبطة ببعضها البعض بشكل كبير من خلال الطرق البرية والبحرية التي امتدت عبر القارة بأكملها، وكذلك المحيط الهندي.

إن وجود مثل هذه الطرق التجارية – “طرق الحرير” – سبق وجود الإمبراطورية الجنكيزية. ومع ذلك، بعد فتوحاتهم، عزز المغول هذه الروابط من خلال النظام البريدي (يام) وقاموا بتجانس نقاط الاتصال في جميع أنحاء وجودهم في مناطق النفوذ الرئيسية داخل القارة. وهكذا، كانت أوراسيا في أواخر القرن الثالث عشر متصلة كما كانت في أي وقت مضى (وأكثر من بعض الفترات اللاحقة). وبالتالي، كان باستطاعة المستكشفين المشهورين في القرن الرابع عشر - على سبيل المثال، ماركو بولو أو ابن بطوطة - أن يشقوا طريقهم من أوروبا أو شمال أفريقيا إلى الصين بسهولة نسبية، لا يكاد يسبب أي ضجة أكثر من بعض الفضول بين المضيفين (الذين اعتادوا على المسافرين على طول هذه الطرق) ولا يواجهون سوى طلب معين للحصول على معلومات محدثة حول المدن والقادة الذين يواجهونهم على طول الطريق.

كان انتشار الموت الأسود من الشرق في منتصف القرن الرابع عشر بمثابة نهاية لهذا الوضع الراهن.

ومع ذلك، سافر آخرون في الاتجاه المعاكس من الصين إلى غرب آسيا، وبدأوا حياة جديدة  في أوروبا أو ما يسمى الآن إيران، في ظل حكام جدد.أحد الجوانب المنسية في هذا النظام هو تسهيل التبادل المعرفي بجميع أنواعه، وعلى الأخص بين "إيران" و"الصين": في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، كان من الممكن أن يولد البيروقراطيون والعلماء والفنانون والحرفيون والمهندسون على جانب من آسيا وينهون حياتهم المهنية على الجانب الآخر، مع ما يترتب على ذلك من آثار عميقة على المعايير الفنية والثقافية والعلمية لكلا المجتمعين. وأفضل مثال (ولكن ليس هذا المثال فقط) لهذا التبادل الثقافي هو التحول الأساسي للفن الإسلامي منذ القرن الثالث عشر فصاعداً تحت التأثيرات الصينية، مما أدى إلى إنتاج الخزف الأزرق والأبيض، من بين أشياء أخرى، الذي يرتبط الآن بشكل وثيق بالشرق الأوسط. يُطلق على هذه العملية أحيانًا اسم "التبادل الجنكيزي" من قبل مؤرخي الإمبراطورية المغولية، على غرار التبادل الكولومبي من حيث تأثيره التاريخي العالمي.

بعد السيطرة على معظم آسيا تحت نفس السيادة لأكثر من نصف قرن - وهو ما لن يكون بالأمر الهين حتى اليوم، ناهيك عن القرن الثالث عشر - انقسمت الإمبراطورية/الخانية العالمية التي يحكمها بيت جنكيز خان العظيم إلى أربع خانات أصغر. ، كل منها يقع في مناطق مُنحت في الأصل لفروع مختلفة من نسله ليحكمها. مرت الخانات المتنافسة ذات يوم بالاستقلال الذاتي، بفترة وجيزة من القتال العنيف لاستعادة عباءة السيادة العالمية، لكن لم يتمكن أي منها من السيطرة على الآخرين. وفي نهاية المطاف، استقروا في نوع من توازن "توازن القوى" في أوائل القرن الرابع عشر. كانت هذه الفترة جيدة بشكل خاص للتجارة البرية عبر أوراسيا، مما أدى إلى تمديد الفترة المعروفة باسم السلام المنغولي.

ومع ذلك، كان انتشار الموت الأسود من الشرق (أو آسيا الوسطى) إلى الغرب في منتصف القرن الرابع عشر بمثابة نهاية لهذا الوضع الراهن، حيث انهارت جميع الخانات باستثناء واحدة. استمرت القبيلة الذهبية في حكم السهوب في شمال غرب آسيا (روسيا الحالية)، لكن خانات جاغاتاي (آسيا الوسطى) وإلخانات (الشرق الأوسط) تفككت، وأفسحت المجال أخيرًا في نهاية القرن الرابع عشر لنشأة الإمبراطورية التيمورية. تم الإطاحة بسلالة مينغ من بلاد ما وراء النهر ويوان في عام 1366. وهكذا أنهى أول نظام عالمي محتمل نظمته السيادة الجنكيزية.

جلب النظام العالمي التالي الذي خلف نظام جنكيز خان والخانات التي خلفته المزيد من التنوع والتنافس بين قوتين عظميين. ومن الثلث الأخير من القرن الرابع عشر حتى منتصف القرن الخامس عشر، تنافست بيوت تيمورلنك الكبرى (تيمورلنك) وتشو يوانزانغ (هونغ وو)، أي أسرة مينغ، من الجانبين على خلافة البيت العظيم لجنكيز خان الآسيوي.

وطالما تنافس المينغ والتيموريون، فقد نظموا العالم بطريقة ما بعد الجنكيزية. لقد كانوا في مرحلة ما بعد الجنكيز، حيث لم يكن التيموريون ولا المينغ مرتبطين بشكل مباشر ببيت جنكيز خان، لكنهم ما زالوا متأثرين بشدة بترتيب أسلافهم. وكانت لديهم وجهات نظر مختلفة بشأن الجنكيزيين، ولكن كما هي الحال في عالمنا الحديث، لا يستطيع المرء الهروب من الإرث المؤسسي بمجرد رفض مبدعيه.

من السهل اكتشاف تأثير ما بعد الجنكيز في حالة التيموريين، حيث بذل تيمور، وهو نفسه حاكم تركي مغولي، قصارى جهده لإقامة أية روابط. تزوج من أميرة جنكيزية. لقد حكم من خلال خان دمية من السلالة الجنكية، دون أن يأخذ اللقب لنفسه (كان يُدعى أمير نفسه). ومع ذلك، فقد اتبع بوعي مثال جنكيز خان في كل شيء ومات وهو في طريقه لمحاولة غزو الصين ، تمامًا مثل جنكيز خان. لقد ركز السلطة في القالب الجنكيزى، ساعيًا إلى غزو العالم والاعتراف به. حتى أنه وجد طريقة جديدة للتوفيق بين التوفيق بين السيادة الجنكية والإسلام من خلال لقب / sahibkıran صاحب القرآن، حيث كان علم الفلك/علم التنجيم بمثابة جسر بين الطرق الجنكيزية والإسلامية لرؤية العالم.

على النقيض من ذلك، رفض المينغ، الذين كانوا من الهان، ظاهريًا أي تأثيرات جنكيزية بعد أن أطاحوا بسلالة يوان. ومع ذلك، فإن انشغال أباطرة مينغ الأوائل هونغ وو ويونغله بالاعتراف العالمي أيضًا مستمد بشكل واضح من المُثُل الجنكيزية، وبالتالي يمكن اعتباره ما بعد الجنكيزيين. في عام 1403، أمر إمبراطور مينغ ببناء 137 سفينة عابرة للمحيطات؛ وفي وقت لاحق أمر ببناء 1180 سفينة أخرى. وقد كلف تشنغ هي بالمسؤولية عن هذه الرحلات الاستكشافية التي وصلت إلى المحيط الهندي. لقد أدت طموحات الصين الحديثة في استعراض القوة إلى إعادة تقديم ما يسمى "رحلات كنز مينغ" إلى المخيلة الشعبية.

جلبت التجارة البرية سلع مينغ إلى غرب آسيا (التي باعتها بعد ذلك إلى الشرق الأوسط وأوروبا).

ومع ذلك، فإن ما يتم إغفاله غالبًا في المناقشات المعاصرة هو السياق الأكبر والسوابق التاريخية لهذه الرحلات. لم يكن المبعوثون البحريون سوى جزء من القصة - فقد أرسل يونغلي أيضًا مبعوثين بريين، بما في ذلك إلى هيرات، العاصمة التيمورية.  وحتى الخبراء في مجال العلاقات الدولية التاريخية المتنامية في الصين غالباً ما يتجاهلون الدرجة التي دفع بها هدف الاعتراف الخارجي أسرة مينغ المبكرة وكيف استمد هذا المثل الأعلى من أسلافهم اليوان (الجنكيزيين) وكيف تقاسمه المنافسون في آسيا الوسطى. إن قسماً كبيراً من الدراسات العلمية في مجال العلاقات الدولية، مع انحيازها لعالم القرن العشرين، ما زالت تتصور أن آسيا الداخلية كانت هامشية في السياسة العالمية في التاريخ. ولكن في القرن الخامس عشر، كانت مركزًا لعالم حكمه التيموريون من جهة والمينغ من جهة أخرى.

فشل تيمورلنك في غزو الصين واضطر في النهاية إلى القبول بشيء مثل الاعتراف المتبادل مع أسرة مينغ المبكرة. كانت هناك قارة من المنازل الصغيرة تربط بين المنازل الكبيرة لتيمور ويوان أو مينغ. وكان لدى البعض تطلعاتهم الخاصة في بناء الإمبراطورية العالمية على الطراز الجنكيزى، والبعض الآخر، مثل أسرة جوسون في كوريا، على سبيل المثال، عملت على الأقل مع فهم نفس التراث الجنكيزى. كانت الروابط المادية أيضًا جزءًا من تراث النظام العالمي الجنكيزي عبر آسيا. جلبت التجارة البرية سلع مينغ إلى غرب آسيا (التي باعتها بعد ذلك إلى الشرق الأوسط وأوروبا) والفضة إلى الشرق. كما قام كل من التيموريين والمينغ برعاية الأعمال الفنية والحرفية العظيمة في هذه الفترة.

قد يعترض البعض على أن الاتصال المباشر بين هذين البيتين العظيمين على جانبي آسيا كان نادرا، وبالتالي لم يكن كافيا لتشكيل نظام عالمي. لكن هناك تشابهًا بين نظام التيموريين والمينغ في أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، من ناحية، والنظام الذي خلقه التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، من ناحية أخرى. وفي كلا النظامين، قلل أحد القطبين من أهمية إرث النظام العالمي السابق، أو حتى رفضه ظاهرياً، في حين اعتنقه الطرف الآخر. لكن كلاهما كانا نتاجًا لتجربة تاريخية مشتركة، وفي الواقع كان لديهما الكثير من القواسم المشتركة في كيفية رؤيتهما للعالم. وحتى عندما لم تتفاعل سلالتا تيمور ومينغ بشكل مباشر، فقد تنافستا مع بعضهما البعض بشكل رمزي، وبذلك عززتا النسيج المعياري للنظام العالمي في آسيا من القرن الرابع عشر إلى القرن الخامس عشر.

مثل نظام الحرب الباردة، لم يستمر التنافس التيموري-مينغ لفترة طويلة. في منتصف القرن الخامس عشر، ضربت المجاعة ونقص الأموال أوراسيا وأثارت أزمة هيكلية مع انخفاض تجارة الأراضي. كانت السلالة التيمورية في غرب آسيا هي الأكثر تضرراً بشكل خاص. فقد التيموريون السيطرة على أراضيهم. في النصف الثاني من القرن الخامس عشر، تضاءل التأثير الجنكيزى على أسرة مينغ أيضًا وسيطرت الكونفوشيوسية الجديدة. قامت حركة الكونفوشيوسية الجديدة بتمكين البيروقراطيين والمسؤولين والحد من قوة وسلطة حكام مينغ وأوقفت المركزية. أصبح عالم مينغ أكثر انغلاقًا أو انعزالية. لقد تشرذم النظام العالمي "ثنائي القطب" الذي كانت تسوده السلالات التيمورية والمينغية قبل أن تتاح له فرصة الترسيخ والتحول إلى نظام أكثر مؤسسية.

الأرض الخصبة التالية لمشاريع النظام العالمي على أساس معايير السيادة الجنكيزية جاءت من الركن الجنوبي الغربي من آسيا. في القرن الخامس عشر، كانت المنطقة تحت سيطرة الإمبراطورية/الخانية التيمورية، واندمجت معايير السيادة الجنكيزية مع المفاهيم الفارسية الحالية للملكية، وتوقعات الألفية، وعلم التنجيم والعلوم الغامضة الأخرى، بالإضافة إلى الممارسات الشعبية للإسلام داخل هذه المنطقة. أدى هذا الاندماج بين الثقافات السياسية الجنكية والفارسية والإسلامية إلى ظهور ثلاثة منازل عظيمة على الأقل مع بعض مطالبات السيادة العالمية الأكثر طموحًا في التاريخ: العثمانيون، والصفويون، والمغول.

بحلول القرن السادس عشر، ادعت هذه البيوت الثلاثة الكبرى معًا السيادة على أكثر من ثلث سكان العالم. كما سيطروا على قلب الاقتصاد العالمي. على الرغم من تسميتها في كثير من الأحيان بالإمبراطوريات الإسلامية، إلا أن العثمانيين والصفويين والمغول كانوا يشتركون في أنهم أكثر من الإسلام (وفي بعض الأحيان يتعارضون مع الممارسات الإسلامية السابقة).  بعد تيمور، استند ادعاء العثمانيين والصفويين والمغول بالعظمة إلى ادعاء حكام هذه البيوت بأنهم sahibkıran، وهم ملوك عالميون تتميز بعلامات من السماء، يعيشون في نهاية الأيام، يحققون توقعات الألفية. دعم علم الفلك وعلوم السحر والتنجيم الأخرى مشاريع السيادة العالمية لهذه الإمبراطوريات العالمية المحتملة. في القرن السادس عشر، كان "حكام الألفية" في جنوب غرب آسيا في مرحلة ما بعد الجنكيز والتيموريين هم في المقام الأول الذين أمروا بعالم شديد العولمة، وليس الأوروبيين بعد.

يميل علماء العلاقات الدولية إلى رؤية القرن السادس عشر باعتباره يحمل بذور نظام عالمي قائم على الهيمنة الأوروبية. لا يمكن إنكار أن القرن السادس عشر كان فترة نمو وتوسع بالنسبة لأوروبا (وخاصة بالنسبة لأسبانيا هابسبورغ)، ولكن أوروبا كانت تنمو من موقع يعاني من حرمان أكبر من آسيا. إذا لم نقرأ نهاية القصة مرة أخرى في السرد التاريخي،  فلم يكن من المتوقع بأي حال من الأحوال أن تهيمن الجهات الفاعلة الأوروبية على العالم في القرن السادس عشر. تعامل جميع تواريخ هذه الفترة تقريبًا في العلاقات الدولية العلاقات الشرقية لعائلة هابسبورغ على أنها غير ذات أهمية نسبيًا، ولكن هذا أيضًا يعد إسقاطًا لمعايير فترة لاحقة، حتى القرن السادس عشر. خاصة في الثلثين الأولين من القرن السادس عشر، كان المنافس الرئيسي لآل هابسبورغ هم العثمانيون، الذين كانوا هم أنفسهم منخرطين في منافسة متزامنة مع الصفويين، الذين كان المغول يحاولون الانفصال عن مدارهم. لا شك أن البيوت الأوروبية الأصغر حجماً كانت لديها تطلعات، ولكن وقتها لم يحن بعد، وكان عليها في البداية أن تعتمد على التحالفات الشرقية فضلاً عن التجارة مع آسيا حتى تتمكن من السير على مسار صاعد.

لا توجد منطقة "مقدر لها" أن تنظم العالم؛ ولا تعتمد النتائج على المسار فحسب، بل إنها مشروطة ومتغيرة أيضًا

كل هذا يعني أننا يجب أن نتخلص من السرد التقليدي الكامن في خلفية أسطورة الأصل الويستفالي للعلاقات الدولية، أي سرد النظام الأوروبي الصاعد في القرن السادس عشر مع المتطفلين غير الأوروبيين الذين ينظرون إليه، مثل العثمانيين على أطرافها (أو الروس). الصورة الحقيقية هي عكس ذلك تماما: كان لعالم القرن السادس عشر نواة من إمبراطوريات ما بعد التيمورية في (جنوب) غرب آسيا، تحركها منافسة شديدة تركز على السيادة العالمية، وكان اللاعبون الأوروبيون مثل آل هابسبورغ يحاولون تحدي هيمنة هذا المركز (في حين ارتبط به لاعبون أوروبيون آخرون من خلال الشبكات التجارية والتحالفات الأخرى). لا يزال يتعين على المينغ أن يتعاملوا مع المحاربين المغول على حدودهم بدافع من نفس الأفكار. وفي الشمال الغربي، تم إعادة تشكيل موسكو على غرار القبيلة الذهبية. لا تزال شعوب آسيا الداخلية المختلفة تعمل إلى حد كبير وفقًا لمعايير السيادة الجنكيزية، حتى لو ظلت توقعات المركزية والإمبراطورية طموحة فقط. كان عالم القرن السادس عشر لا يزال منظمًا بقوة من الشرق. ومن المهم أن ندرك هذا لأنه يعطل تفكيرنا المأمول حول حتمية الهيمنة الأوروبية. لا توجد منطقة "مُنظمة" لتنظيم العالم؛ النتائج لا تعتمد على المسار فحسب، بل إنها حساسة ومتغيرة أيضًا.

لم يتم إيقاف توسع هذا النظام العالمي الشرقي في مساراته، ليس بسبب القدر أو العظمة الأوروبية، بل بسبب التطورات غير المتوقعة في أواخر القرن السادس عشر إلى منتصف القرن السابع عشر، وهي فترة مضطربة سياسيًا في جميع أنحاء أوراسيا. يطلق بعض المؤرخين على هذه الفترة اسم "الأزمة العامة في القرن السابع عشر"، وهي فترة من التمردات الطويلة والحروب الأهلية والتدهور الديموغرافي في جميع أنحاء نصف الكرة الشمالي. قدم المؤرخون تفسيرات مختلفة للظروف الى أدت إلى هذه الاضطرابات: يقترح البعض أسبابًا مالية (على سبيل المثال، التداعيات العالمية لـ "ثورة الأسعار" الإسبانية - التضخم - بسبب تدفق فائض الفضة من العالم الجديد)، بينما يشير آخرون إلى الانكماش الديموغرافي. ويربط آخرون الآن فوضى هذه الفترة بالعصر الجليدي الصغير: لحظة الذروة لفترة شديدة البرودة في نصف الكرة الشمالي والتي امتدت من القرن الثالث عشر إلى القرن التاسع عشر. ربما كانت الفترات الطويلة من درجات الحرارة الباردة والعواصف مسؤولة بالفعل عن جميع العوامل الأخرى التي نربطها بهذه الفترة: فشل المحاصيل، وتعطيل التجارة البرية، والانهيار الديموغرافي في المناطق النائية، والتمردات، والحروب الأهلية.

وأياً كان السبب، فإن الفوضى المستمرة في القرن السابع عشر كانت سبباً في تفتت النظام العالمي في القرن السادس عشر على نحو لا رجعة فيه. كانت هذه نقطة تحول بالنسبة للشرق، لأنه في حين أن بعض معايير السيادة الجنكيزية ظلت قائمة في القرن السابع عشر وحفزت بعض الحكام (مثل نادر شاه من بلاد فارس)، إلا أنه لم يكن من الممكن إنشاء "أنظمة عالمية" جديدة بنجاح بعد القرن السابع عشر، والتي كان قد  تم تنظيمها حول هذه المعايير في القرن التاسع عشر. التصور العالمي الذي نشأ في القرن التاسع عشر بأن آسيا كانت في حالة تدهور لا رجعة فيه لعدة قرون، على الرغم من أن معظم الدول الآسيوية والأوراسية قد تعافت مادياً من أزمات القرن السابع عشر، بل إنها، في بعض الحالات، استمرت في التوسع الإقليمي في العالم. القرن الثامن عشر (مثل روسيا والصين). وهذان التطوران مرتبطان ببعضهما البعض ـ فقدان "الأنظمة العالمية" الناشئة في الشرق من ناحية، وتصور الانحدار على الرغم من استقرار الدول الشرقية المستمر من ناحية أخرى.

إن إحدى أعظم فوائد تجاوز المركزية الأوروبية وبالتالي الحصول على المزيد من الأمثلة خارج التاريخ الأوروبي للتفكير في تحدياتنا الحالية هي أن مثل هذه الأمثلة توسع خيالنا فيما يتعلق بما هو ممكن. حتى وقت قريب، كان علماء العلاقات الدولية يتصورون أن الأنظمة الدولية لا تتغير كثيرا من حيث لبنات بنائها ــ وكان من المفترض أن عدد أو هوية القوى العظمى فقط هو الذي تغير. وحتى وقت قريب، لم تسمح العلاقات الدولية أيضًا باحتمال تفكك النظام الدولي الليبرالي أو استبداله بنظام غريب تمامًا (على غرار أطروحة “نهاية التاريخ” في التسعينيات). مثل هذه الاستنتاجات لا مفر منها إلى حد ما إذا نظرنا إلى عالم ما بعد القرن السابع عشر فقط. لكن تاريخ العالم يعلمنا دروسا مختلفة.

عندما ندرس مسار أنظمة العالم الشرقي، نرى أن الأزمات البنيوية تتخلل نهاية كل نظام (على الرغم من صعوبة تحديد السلسلة السببية الدقيقة). يبدو أن تجزئة كل نظام عالمي شرقي يرتبط على الأقل بـ "أزمة عامة" أثرت على مناطق واسعة من نصف الكرة الشمالي. لقد انقسم النظام العالمي الجنكيزي الأصلي في وقت كان فيه الطاعون ينتشر عبر آسيا (ثم أوروبا) وانتهى خلال فترة يطلق عليها بعض المؤرخين «أزمة القرن الرابع عشر»؛ لقد انقسم النظام العالمي في مرحلة ما بعد الجنكيز خلال فترة يسميها بعض المؤرخين «أزمة القرن الخامس عشر»، والتي يبدو أن آثارها ظهرت بشكل خاص في غرب آسيا وأوروبا.

استمرت فترة أزمة التشرذم في القرن السابع عشر لفترة أطول وكانت بمثابة نهاية لأنظمة العالم الشرقي

يتيح لنا الإدراك المتأخر لفترة طويلة أن نرى أن الاضطرابات السياسية خلال هذه الأزمات (وأثناء التفتت الذي أعقب ذلك للنظام القائم) لم تكن ناجمة في الواقع عن منافسات داخلية كبيرة محددة أو "انتقال السلطة". (أي الأشياء التي تثير قلق العلاقات الدولية أكثر من غيرها باعتبارها تآكلًا للنظام) ، بل الديناميكيات الهيكلية مثل تغير المناخ والأوبئة والتدهور الديموغرافي والمشاكل النقدية وما إلى ذلك: أي الأشياء التي لم تقلقها العلاقات الدولية على الإطلاق حتى وقت قريب. وخلافًا لافتراضات أدبيات العلاقات الدولية حول القوى العظمى، يشير هذا التاريخ إلى أن المنافسات بين البيوت الكبرى التي تشترك في نفس الفهم لـ "العظمة" عززت في الواقع النظام العالمي القائم (حتى عندما تحولت تلك المنافسات إلى العنف).

ويمكن تقديم ملاحظة مماثلة حول المنافسة بين القوى العظمى في القرن التاسع عشر أو الحرب الباردة. فالتنافس يشكل عنصراً أساسياً في النظام (مثله مثل التجارة والتعاون تقريباً)؛ غالبًا ما ينشأ تراجع النظام تقريبًا من مكان آخر. الملاحظة الأخيرة هي أن الأنظمة العالمية لم يتم استبدالها على الفور بعد التفتت؛ كانت هناك أوقات لم يكن فيها أنصار "النظام العالمي" (أو حتى لو كانوا حاضرين، لم يكن وجودهم محسوسا من قبل الجهات الفاعلة الأخرى). استمرت فترة أزمة التشرذم في القرن السابع عشر لفترة أطول، وربما كانت بالتالي بمثابة نهاية أنظمة العالم الشرقي.

ولكن من المؤسف أن هناك أسباباً كافية للشك في أننا قد نشهد فترة مماثلة من الاضطراب والفوضى في القرن الحادي والعشرين. إن جميع العوامل التي كانت مؤثرة في القرن السابع عشر ــ تغير المناخ، وعدم القدرة على التنبؤ الديموغرافي، والتقلبات الاقتصادية، والفوضى الداخلية ــ والتي صرفت انتباه منظمي العالم تن الحفاظ على النظام العالمي، أصبحت حاضرة أيضا اليوم.

يستند هذا المقال إلى فصل "ما هو الشرق؟" من كتاب المؤلف "قبل الغرب" (2022) الذي نشرته مطبعة جامعة كامبريدج.

(تمت)

***

..................

الكاتبة:عائشة زاراكول/: Ayşe Zarakol أستاذة العلاقات الدولية في جامعة كامبريدج، حيث تم تعيينها أيضًا كزميلة سياسية في كلية إيمانويل.  نشأت في إسطنبول بتركيا وانتقلت إلى الولايات المتحدة للالتحاق بكلية ميدلبري بولاية فيرمونت (بكالوريوس في العلوم السياسية والدراسات الكلاسيكية) حصلت على  شهاداتي  الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ويسكونسن - ماديسون. بعد التخرج، عملت كأستاذ مساعد في السياسة في جامعة واشنطن آند لي، فيرجينيا، حتى انتقلت إلى جامعة كامبريدج في عام 2013. تشمل كتبها "بعد الهزيمة: كيف تعلم الشرق التعايش مع الغرب" (2011)، و"قبل الغرب: صعود وسقوط الأنظمة العالمية الشرقية" (2022).

* صلحُ وستڤاليا أو سلامُ وستڤاليا ‏ هو اسمٌ عامٌّ يُطلقُ على معاهدتيْ السلامِ اللتيْنِ دارتِ المفاوضاتُ بشأنِهِما في كلٍّ منْ مدينتيْ أوسنابروكَ ومونسترَ في وستڤاليا، وتمَّ التوقيعُ عليهِما في 15 مايو/أيارَ لعامِ 1648م و24 أكتوبر/تشرينَ الأولِ 1648م وحُرّرّتا باللغةِ الفرنسيةِ. ويكيبيديا

رابط المقال على أيون:

https://aeon.co/essays/the-first-world-orders-were-not-european-they-came-from-asia

تاتي موجه الابادة للاخر الاسرائيلية/ الامريكيه الحالة ضمن سياقات تحولية انتقالية انقلابيه تاريخيه، لايمكن التعامل معها او تعريفها، فضلا عن التفاعل معها بما يجب راهنا لاسباب موضوعيه متاتية من ثقل وطاة التراكمات التاريخيه الراسخه من جهه، وفعالية القصورية العقلية ومتبقايتها التي تستمر الى اليوم فاعلة لمصلحة الماضي، ومامعتبر من قبيل قوانينه المفترضة على توهميتها الكبرى، بمعنى ان مانشهده هو حدث فاصل  انتقالي ضمن لحظة هي من دون شك  مع مترتباتها وماينجم عنها،  ضرورة لاكتمال اسباب تبلور عناصرها المستجده الانقلابيه النوعية على مستوى الحياة البشرية، والوجود كما  كان بالامكان وعيه والتعامل معه الى اليوم ابتداء منذ التبلور المجتمعي.

فاسرائل ومعها امريكا يجاهدان باقصى الممكن التدميري للاخر، من منطلق الاصرار على الابقاء على ماقد انتهى دوره وصلاحيته، وبمقدمته الكيانوية وماعرف ب "الدولة الوطنيه" التي لم تعد قابلة للعيش والاستمرار، فاذا كان مايشار اليه مايزال  بالامكان اعتماده ارادويا توهميا مع الايهام بامكانيه استمراره، لابل والايحاء بوجاهته واتفاقه مع المنطق، فلان نقيضه ومامفترض انه  بديله الطبيعي الذي حلت ساعته وصار هو الواقع المجتمعي الموافق للطور والزمن كما قد آل وانتهى بعد "اليدوية"، ومع تدرجات الالية الذاهبة من هنا فصاعدا الى الانتاجية العقلية، ممثلة بوسيلة الانتاج "التكنولوجيه العليا" المفارقة للجسدية /مجتمعية الحاجاتيه لم يحضر ولا لاحت في الافق بعد ملامحه واشكال واليات تجسده .

وليس انتقال العقل الى المنظور العقلي المجتمعي المتنامي بالامر المتاح والمتوفر بداهة، او الذي يتوقع  المبادرة للتعرف عليه وادراكه حتى لو ظهرت اشارات  واقعية اولية دالة عليه، هي بالاحرى  وتظل لثقل المخزون المكرس عقلا، منظورا لها  بحكم الاعتياد الطويل جدا، وكانها من خارج العالم، ما يجعل محاولة ايصال المقاربة المستجده بحد ذاته من قبيل المهمه التاريخيه المديده، والاصطراعية  غير المعروف مايشابهها سياقا وتحققا  الا لمرة واحدة في التاريخ البشري ضمن شروط غلبة الارضوية، لخصوصية تحققيتها، كما يمكن على سبيل المثال العودة الى السردية اللاارضوية"الابراهيمه" المقابلة للفلسفية الارضوية الاغريقية، مع ابراهيم  وعزلته الدعوية الطويلة، ومساراتها على مدى قرون،  وما قبلها من تاسيسات  تبعت الانتقال من " الصيد واللقاط" الى " التجمع + انتاج الغذاء"قبل التحققية   الكونية مابين الصين واوربا الغربيه، وصولا لامريكا الراهنه، تلك العملية الحدسية، الاولى الموسوية، ثم المسيحية، وصولا الى المحمدية، هذا ونحن اليوم بصدد الرؤية التحققية اللاارضوية الثانيه،  وقد انتقلت الى "العلّية" وريثة وعلى انقاض الحدسية النبوية.

وقد يكون الاشكال الاعظم هنا متولدا عن كون الوضع المراد ايصاله اليوم، وكما هو بالاصل، وكما كان على مر التاريخ المجتمعي، هو "عالم آخر" غير مدرك، وجد وظل قائما كأهم دالات القصورية العقلية، بما يعني في الوقت ذاته "عقل اخر"، اي اننا امام انبثاق او اكتمال عناصر" العقل الاخر" البشري  غير المماط عنه اللثام، بما هو حالة نمو عقلي تشكلي، بما يجعلنا امام مروية تقول بان الكائن البشري يبدأ مع تبلور المجتمعية بنوع من العقل والوعي مؤقت وعارض، متناسب مع اشتراطات اليدوية، وصولا عند نهاية الطور الحالي وتفاعليته واختباراته الى العقل الانساني، على  انقاض "العقل الانسايواني" الاول بكل مايتميز به من الاحادية المكرسه لنوعه، مايفترض توقع الحضور القصوري واصراره على رفض ماعداه وعيا وادراكا، بالتحديد ابان بدايات ظهور الدالات الاولى على الخروج من القصورية العقلية طويلة الامد والحضور(6).

ينظر الامريكي والاسرائلي  ومعهما الغرب ككل، وهو يندفع نحو الابادية تكريسا للبقاء والاستمرارية في غير زمنها، وعند لحظة انقضاء صلاحيتها بتهويم  اعتيادي بلا تدقيق، مع اعتبار المتوفر نموذجا وادراكا حقيقة مطلقة غير قابلة للتدقيق، او حتى التوقف وقد صار تكريسها بحد ذاته مهمة و غرضية اساسية واجبه، مايضعنا امام حالة غريبه تليق بممارسات لايمكن التعرف عليها الا باحالتها الى اللا زمنيه واللاتاريخيه،  الخارجه عن اي معطى واقعي له ماض وحاضر ومستقبل، بما ان كل مايتصل بالاندفاع المشار اليه خارج زمنه،حال منته، ليس له مايجعله يقوم ويستمرالا ماقد تحقق من انتقالية (آلية / تكنولوجية) مطعمه باعلى مايمكن من التوهيمه الاعجازية، وما تولده من اغراء الانفصال عن الواقع والمعاش، الذاهب تكنولوجيا بالذات، الى مابعدها من نمطية مجتمعية نحو "الكونيه"، المضادة للوطنيه القوموية الكيانيه، ودولها كما كان ينبغي ان يكون عليه الحال ابتداء، مع انبجاس الالة  بصيغتها "المصنعية" اصلا.

يوم انبثقت الاله انتهى زمن الكيانية (الوطن/ قومية) وليدة زمن الانتكاسة الارضوية المرهونه لليدوية، بينما كانت اللاكيانيه المتعدية للمحلوية، ماتزال خارج الادراك او الحضور القريب من التجسيد، بانتظار تاريخ من التوهمية الكبرى الغربية التفكرية والنموذجية  التي  تعتمد متفاخرة تطوير ماهو وماكان قائما اتفاقا مع فعل الالة، ذهابا في نهاية المطاف الى  شبه المجتمعية المفقسه خارج التاريخ المجتمعي الامريكي الحالي، ونوع كيانيتها الامبراطورية مدعية الرسالية، الخارجة على الكيانوية الجغرافية المحلوية المنتهية الى التازمية القصوى المعولمة، حيث لاشكل كيانيه مطابق او يمكن ان يوجد كرؤية لااساس لها اصلا، مما يكرس حالة من الاصرار على الكيانيه خارج زمنها وشروطها، وقد تلبست سياقات الابادية المؤطرة بتوهميات قصوى، اقرب للخرافية الفكروية المستمدة من تعبيريات منتهية الصلاحية، في حين تتوالى اشكال الانهيار، ونذر نهاية الغرب بعد انتهاء القطبية وبدء انهيار الغرب  كما انهار نظام ادعاء الاشتراكية الايديلوجي  الشرقي (7).

وتبقى الخطورة الرهيبة الاكبر الشاخصة بوجه الكائن البشري عائدة بصيغتها الانتهائية  الى القصورية الملازمه للادراكية العقلية البشرية، مع توقف المقابل المضاد المتلائم مع اللحظة والجوهر التاريخي، بما هي لحظة محركها الازدواج المتقابل، الارضوي المنتهي الصلاحية، ومقابله اللاارضوي المستمر تعبيرا على ماقد مثله تاريخيا في الطور اليدوي الاول تحت شروط غلبة الارضوية واشتراطاتها، واذ تظل النبوية الحدسية سائدة حتى حينه كايمان بلا فعالية، فان درجة التازم التاريخي البشري تصل حدودا خارجه عن الوصف، بالاخص حين تذهب المجتمعية  الامريكيه الى الانصباب شرق متوسطيا، باحياء مالا لم يعد يتمتع بالصلاحية ككيانيه  كما كانت انشات خارج الممكنات الزمنيه مع قوة اثر الاله،  لتتحول اليوم الى قوة ازالة كلية للاخر من الوجود ضمانا لاستمرار ماقد انتهى زمنه واسباب وجوده،  بالارتكاز الى التوهمية المستجده  بفعل تقدم وسائل التدمير والقتل الجماعي تكنولوجيا، بظل انهيارية الغرب القيميه كمقدمه للانهيارية الكبرى الوشيكه والحتمية التي لامهرب منها.

ـ يتبع:   الختام  اللارضوي ونهاية الغرب مع الهوامش ـ

***

عبد الامير الركابي

لماذا تعتبر بعض الدول غنية وأخرى فقيرة؟ هذا السؤال، المليء بفضول الطفولة، هو الأكثر أهمية في الاقتصاد. هناك العديد من التفسيرات التي طرحت من البيولوجيا الى الوضع الجغرافي والظروف المناخية حتى الجينولوجيا. غير ان  مستوى معيشة الشخص يتحدد في الغالب ليس من خلال الموهبة أو العمل الجاد، بل من خلال متى وأين وُلد. تاريخيًا، كانت نماذج النمو الاقتصادي تركز على تراكم عوامل الإنتاج، مثل العمالة ورأس المال، ومؤخراً، التكنولوجيا أو الأفكار. كلما كان رأس المال المتوفر لكل عامل أكبر، واستخدامه أكثر إنتاجية، كانت الدولة أغنى.

ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة. لماذا نجحت بعض الدول في تراكم المزيد من هذه العوامل مقارنةً بأخرى؟ الحائزون بجائزة نوبل في الاقتصاد هذا العام يعزون ذلك على جودة الحكومة والمؤسسات القائمة. في عام 2001، نشر الثلاثة  - دارون اسيموغلو وسيمون جونسون، كلاهما من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجيمس روبنسون من جامعة شيكاغو - ما أصبح أحد أوراق البحث الأكثر اقتباسًا في الاقتصاد، بعنوان "الأصول الاستعمارية للتطور المقارن: دراسة تجريبية". في الورقة، طوروا مخططًا للمؤسسات، مقسمين إياها إلى "شاملة" (تلك التي تشارك الازدهار) و"استغلالية" (تلك التي استغل فيها مجموعة صغيرة بقية السكان). تشجع المؤسسات الشاملة الاستثمار في رأس المال البشري والفيزيائي، في حين أن المؤسسات الاستغلالية تعيقه.

لم تكن فكرة أن المؤسسات تشكل عنصراً أساسياً في النمو الاقتصادي جديدة. فقد كان هذا هو رأي دوغلاس نورث، الذي فاز بجائزة نوبل في عام 1993، إلى جانب روبرت فوجل، المؤرخ. وكانت المشكلة التي بحثها الحائزون على الجائزة هذا العام تتلخص في ما إذا كانت التنمية تشجع الليبرالية، وليس العكس. فالمجتمعات الأكثر ثراءً قد تؤدي، على سبيل المثال، إلى إصلاحات ديمقراطية.

ولكن كيف يمكننا أن نعرف أن السببية تنبع من وجود المؤسسات وتؤدي إلى الرخاء الاقتصادي وليس العكس؟ فضلاً عن ذلك، كيف يمكننا أن نتأكد من وجود سببية على الإطلاق؟ فضلاً عن ذلك فإن البلدان الغنية تختلف عن البلدان الفقيرة في كثير من النواحي ـ وليس فقط في نوع المؤسسات التي تمتلكها ـ ومن الممكن أن تؤثر هذه الاختلافات بدورها على مؤسساتها فضلاً عن نموها الاقتصادي.

لقد استخدم السادة أسيموجلو وجونسون وروبنسون "نهج المتغيرات الآلية" لحل اللغز. وقد استغل هذا النهج الاختلافات في معدل الوفيات بين المستوطنين لتحديد المستعمرات الأوروبية التي طورت مؤسسات شاملة وتلك التي طورت مؤسسات استخراجية. وفي المستعمرات التي كانت معدلات الوفيات فيها مرتفعة، بسبب الأمراض الاستوائية على سبيل المثال، استغلت القوى الاستعمارية العمالة المحلية. وقد يكون هذا في شكل نظام الإنكوميندا في أميركا الجنوبية، الذي استعبد السكان المحليين، أو مزارع المطاط في الكونغو البلجيكية. وفي الوقت نفسه، اجتذبت معدلات الوفيات المنخفضة في الفروع الناطقة باللغة الإنجليزية ــ أميركا وأستراليا وكندا ــ المستوطنين الأوروبيين من خلال منحهم فرصة المشاركة في الثروة التي أنتجوها من خلال الملكية الخاصة والأسواق الحرة.

وعلى هذا النحو، كان هناك "انعكاس في الحظوظ" بين المستعمرات. فالأثرياء في عام 1500، وفقًا لقياس التحضر، أصبحوا الأفقر في العصر الحديث. وافترض السادة أسيموجلو وجونسون وروبنسون أن هذا يرجع إلى أن الثروة الأكبر للمستعمرات الغنية ذات يوم شجعت على تطوير أساليب الاستخراج، في حين وفرت أعداد السكان الأعلى قوة عاملة يمكن إكراهها على العمل في المناجم والمزارع.

لقد افترض السيدان أسيموجلو وروبنسون أن الدول قد تتعثر في ظل مؤسسات فقيرة. ففي مجتمع شديد التفاوت قد يهدد الفقراء بالثورة. وأي التزام من جانب النخب بإعادة توزيع الثروة استجابة لذلك لم تكن لها أي مصداقية؛ فقد كان بوسعها دوماً أن تغير رأيها عندما يختفي التهديد. ونتيجة لهذا، كانت الدول غير المتساوية عُرضة لعدم الاستقرار. وكانت الضوابط والتوازنات تمثل استجابة لمشكلة الالتزام هذه: فإذا تم تقييد النخب فإن وعودها بإعادة التوزيع سوف تؤخذ على محمل الجد، وسوف يتم إحباط أي تهديد ثوري. وهذا هو السبب، كما اقترح المؤلفان، وراء قيام الدول الأوروبية بتوسيع حق الانتخاب الديمقراطي في أوائل القرن التاسع عشر.

ولقد شكك المؤرخون  في التقسيم الدقيق للمؤسسات الاستخراجية والمؤسسات الشاملة. فقد تطورت كوريا الجنوبية في ظل دكتاتورية عسكرية. وسمحت الثورة المجيدة في إنجلترا عام 1688، والتي حددها السيدان أكيموغلو وروبنسون باعتبارها النقطة التي بدأ عندها صعود البلاد، للبرلمان بطرد الفلاحين فضلاً عن تقييد الملك. أما تطور أميركا فقد جمع بين الحقوق الفردية والديمقراطية للرجال البيض والعبودية والحرمان من حق التصويت لأقرانهم السود.

كما شكك الكثير من الاقتصاديين عن مدى تطابق هذه الاستنتاجات مع التطور الذي حصل في البلدان الأكثر نموا مؤخرا، وهم الصين والهند، حيث ان الصين في الثلاثة عقود الماضية كانت الأكثر نموا مع غياب تام للمؤسسات ذات البعد الشمولي او الليبرالي حسب تعريفهم. كما ان الهند اخذت تنمو بوتيرة اسرع في ظل حكومة مودي المتشددة، ان ذلك ينطبق أيضا على كل من سنغافورة وفيتنام الى حد ما. كما ان السادة الفائزون بالجائزة تجاهلوا الهيمنة الامبريالية وبالذات دور الشركات المتعددة الجنسيات  ومؤسسات التمويل العالمية في عملية إعاقة نمو مستدام للدول النامية.

وعلى الرغم من كل المناقشات الدائرة حول الأساليب، فقد أثبتت أبحاث الفائزين بالجائزة بلا شك أهمية الخصوصية التاريخية، وإبعاد اقتصاديات التنمية عن نماذج النمو المجردة. وكان عملهم بمثابة انفصال عن النظريات التي تفترض مساراً حتمياً نحو التحديث استناداً إلى التجارب غير العادية التي شهدتها أوروبا الغربية. ورغم أن السادة أسيموجلو وجونسون وروبنسون ربما لم يتمكنوا من تقديم وصف كامل للأسباب التي تجعل بعض البلدان غنية وأخرى فقيرة، فإن الأجيال الجديدة من خبراء الاقتصاد لديها أساس متين يمكنهم البناء عليه.

***

علي حمدان

....................

* نشر بالتزامن مع جريدة الرؤية العمانية.

 

نقصد بساسة الشّيعة مَن تحزب باسم الطّائفة، أبناء الإسلام السّياسيّ، وهؤلاء قاعدتهم شيّعيَّة، تيمناً بـ«الإخوان المسلمين» قاعدتهم سُنيّة، فالمنهل واحد «الحاكميَّة»، وإن اختلفت التسمية، لا يعترفون بالأوطان، مَن تفرع إلى «قواعد» و«دواعش»، ومَن نَمى إلى عصائب وكتائب. قطعاً لا نقصد صاحب العِمامة السَّوداء رئيس الوزراء محمَّد الصَّدر (1882- 1956)، عضو مجلس الأعيان، من افتتاحه (1925) حتَّى وفاته، وصار رئيساً له، كان رجلُ حلِّ الأزمات لا خلقها، بنوازع حزبيَّة صبيانيَّة. قال رئيس الوزراء توفيق السُّويديّ (ت: 1968): «الصَّدر مِن العناصر الرَّزينة المعتدلة في التَّفكير والعمل، وقد قام في مختلف أدواره السّياسيَّة بما يؤكد هذه الصِّفات الممتازة فيه، فعرف بكونه رجلاً عطوفاً يحب الخير ويعمله، ويسعى إلى التّفاهم، حتى من العناصر المفرطة التّفكير السّياسيّ والاجتماعيّ...» (بصري، أعلام السّياسة).

لا نقصد جعفر أبوالتّمن (ت: 1945)، شريك مولود مخلص (ت: 1951) في الحزب الوطني، في زمن لم يعرف أبوالتمن مخلص بالنّاصبيّ، ولا وجيه تكريت أشار إليه بالرَّافضي، كان حزبهما عراقياً وكفى. لا نقصد ابن الكاظميَّة وزير المال عبد الكريم الأُزري (1908- 2010)، كانت وزارته تشغله عن منافع طائفية، لا مثلما يحدث اليوم، فهو يعلم أنَّ أي إنجاز للعراق إنجازٌ لطائفته، استفادوا مثل غيرهم مِن مُجز وزارته، قانون تقاعد المستخدمين، فأغناهم عن إنشاء معاهد لتغييب العقل. لا نقصد الوزير عبد الغني الدَّلي (1913-2010) ابن سوق الشّيوخ، ما كان يبرمجه في الرّي والزراعة، الآتي بالنَّفع على العراق، من أعلاه إلى أدناه، وطائفته أول المستفيدين، بلا عنوان يتحول إلى غليان في الصّدور، حدثني عن آخر أمانيه فتح مكتبة بمدينته، لا مجالس اجتاحتها المنابر المدمرة لشباب الطّائفة. لا نقصد وزير الدَّاخلية ورئيس الوزراء صالح جبر (ت: 1957)، ولا ابن الكاظمية رئيس الوزراء ووزير الخارجية فاضل الجماليّ (ت: 1997)، ولا سعد صالح (ت: 1949) ابن النّجف، وزير الدَّاخلية الذي ارتبط به قانون الحريات (1946).

لا نقصد آل مرجان، وآل الحبوبيّ، وغيرهم، كان الجميع شركاء في مجلس إعمار العراق (1951) لا خرابه. مَن ذكرنا، ولم نذكر، كانوا سياسيين شيعة، ذابوا في العِراق لا عنوان آخر، لهم أخطاؤهم، لكنَّ الأخطاء التي تُتدارك، لا كوارث اليوم، فقد سمعنا عن درجات الخطأ: ما يمكن تفاديه وما يستحيل، بالتشبيه: خطأ القائل: واحد زائد واحد يساوي أربعة، ليس كخطأ القائل يساوي تفاحة، فالأخير لا صلة له بالمعادلة مِن الأساس، والمثال مِن الواضحات. يتجه ساسة الشّيعة اليوم بالشّيعة إلى ما يتعاكس ومصالحهم في وطنهم، جعلتموهم يهرعون وراء بيرق تحطيم الدَّولة، فكلّ ميليشيا تهتف هتاف ولاتها مِن خارج الحدود، فلا أمر للدولة بحرب وسلم.

خطورة ما تقودون إليه الشّيعة إلى الضَّياع، وراء بيارق غاية أصحابها تحطيم الدّولة، حتَّى صارت «الطّقوس» المشوهة أعظم الأماني، وتقديمها بمشاهد لا يرتضيها العدو لعدوه، يكون ذلك عندما يتحول البرلمان إلى ساحة «ردح» بـ «منصورة يا شيعة حيدر»، عند التصويت على مناسبة تُشتت لا تجمع، وهذا ما احتج ضده شيعة، معممون وأفنديّة، مِن غير الأحزاب، لدرء فتنة لا تبقي ولا تذر.

على مَن انتصرتم، أعلى أبناء وطنكم؟! فهل عبّدتم الطّرقات بانتصاركم، ورفعتم مستوى التّعليم، وحسنتم الطِبابة؟ هل حُصرتم السّلاح العابث بيد الدّولة، هل دخل الفاسدون إلى أقفاص الاتهام، وأعيدت المليارات؟! عَبَّر محمَّد صالح بحر العلوم (ت: 1992) عن الحال (1934)، «أنا لا أُريد لأمتي حريَّةً/ في ما تُدين به وهي رعناءُ» (الخاقاني، شعراء الغري). أقول: رفقاً بوطن وقد سمنت النُّحور مِن خيره، وها أنتم تسحقونه سحقاً، والقول لصاحبه، رفعه قتلى ساحات «تشرين» (2019) بشعارهم وندائهم الهادِر: «نريد وطناً»: «وبأنْ يروحَ وراءَ ظهريَ موطنٌ/ أسمنتُ نحراً عندهَ وترائبا».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في العصر الحديث ثمة شاهد صارخ على تدني الادراكية العقلية البشرية بازاء الظاهرة المجتمعية، تضاف لتلك التاريخيه الكبرى  كما ظلت تتمثل في العجز القصوري عن اماطة اللثام عن الازدواجية المجتمعية البدئية، وبالذات عن "اللاارضوية"، وقد تكون للمسالتين صلة ببعضهما نوعا، لكن الفارق بينهما على مستوى الادراكية مختلف، فنحن اليوم في غمرة الادعائية " العلموية" العقلانيه الغربية، وفي ظل مايعتبر"علم الاجتماع" اخر العلوم، ومع هذا يعجز العقل عن ملاحظة بروز مجتمعية لاعلاقة لها بالمجتمعية بما هي تلك التي ظهرت متبلورة قبل حوالي العشرة الاف سنه، والتي  استمرت الى اليوم تتفاعل يدويا انتاجويا حاجاتيا، بينما شبه المجتمع القاري الجديد الامريكي، لم يعرف هذا التاريخ، ولاوجد ضمن آلياته وتفاعليته اطلاقا، بما يجعل هذا الموضع "المكتشف" اليوم، ابعد مايكون عن  الاكتشاف الجغرافي المتاخر كما هو شائع، لانه بالاحرى خاصية وجودية مجتمعية  غير مكتشفه قصوريا عقليا بعد، بما يضعنا امام حالة مستجده آلية حصرا، وخارج مفاعيل الرحم التاريخي كليا من جهه، مثلما يجعلنا بمواجهة ظاهرة اساسية مغفلة، خارج القدرة الادراكية ذاتيا في الموضع المقصود، كما على المستوى الادراكي البشري، مثلما ظلت المجتمعية الازدواجية الاولى الارضوية اللاارضوية مابين النهرينيه.

وليست القارة الامريكيه بلا تاريخ يدوي سابق كمجتمعية، فهي مجتمعية لادولة "الهندي الاحمر" الاحادية كما تشكلت عبر تاريخ المكان، الالة جائت  اليوم لتلغيه وتفني من يمثلونه من اهل المكان، مختارة الانتماء العمومي لمن انحدرت منهم "مهاجرة"،  لتظل من دون ادراكيه، لالما قد اجهزت عليه وسحقته من اهل المكان، ولا لما قد ترسمت خطاه كما تعتقد، مع انها وجدت وسط هذا  القطع مع الماضي واتباع الحاضر المستعار الجاهز،  مرتكزة لقوة مفعول الالة، الوسيلة الاساس للوجود، مقرونه بالمنظور الكوني اللاارضوي الابراهيمي(4)،  اي المنظور السماوي الرسالي كحالة مجتمعية هي الاكثر  انغماسا بما لايقاس في  التعبيرية  اللاارضوية ومنظورها الرسالي الايهامي، مايجعل منها كيانيه ( آلة + فكرة لاارضوية غير موعاة) والعنصران مستعاران بظل  الخرس الاعقالي الذاتي وتعذر الادراكية بما يخص الهوية.

وهنا في هذا الموضع شبه المجتمعي الالي تتجلى التدرجية الالية في خطةتها الاولى، فامريكا ليست اوربا، وهي لكي تصبح حاضرة وتكتمل وجودا فعالا،  لاتاخذ الالة او تخصع لها ولاحكامها كما هي وكما تمثلت ابتداء اوربيا كالة "مصنعية"، محكومة لفعل اشتراطات الموروث المجتمعي اليدوي الطبقي الاوربي،  بل تذهب الى تحوير العنصر الفعال المستجد والحديث، ناقلة اياه من "المصنعية" الى "التكنولوجيا الانتاجوية"، ذاهبة في الوقت ذاته بالانتاجية الالية من "الكيانيه المحلوية الوطنيه" الى الامبراطورية المعولمه، التي تحول فعل الالة الى نفي للدولة وسيادتها، الى ان تفقد اوربا المتباهية ب ( الدولة / الامه) والنظم الليبرالية الديمقراطية سيادتها،  متحولة لمجالات مستباحة للشركات متعددة الجنسية و"سادة العالم الجدد"، الامر الذي يلغي القاعدة الاساس، تلك التي اقيمت في غمرتها اسرائيل اوربيا ابان صعود النموذجية المصنعية التوهمية، في حين تتداخل ازمة الكيان الصهيوني الراهنه ملحقة بالتازم العولمي الامبراطوري الامريكي، مع بلوغ العتبة العولميه واحتداميتها لحظة التفارقية مع الاله،  وتدرجيتها المستمرة  وقد صار طورها النهائي  مابعد التكنولوجي الانتاجوي ضرورة متزايدة الحاحا، ماخوذة بتسارع غير مسبوق.

تتكاثر التوقعات بخصوص"الامبراطورية" الامريكية وقرب نهايتها(5) من قبيل التحسس وبلا ادراكية للاسس والمكونات المختلفة  كما مجسدة في مجتمعية اللامجتمعية النافية لماقبلها عمليا وقائعيا بالسحق والازالة، وبمصادرة الرؤية التوهمية، العنصران الغائيان المبيدان لماقبل اي لحصيلة وخلاصة المجتمعية التاريخيه، فامريكا اللاتاريخانيه، بنت الساعة، المفقسه خارج الرحم التاريخي، نموذج الولادة المجتمعية الثانيه الموافقة للانتقالية من الانتاجوية اليدوية الى الالية، هي حالة اجهاز على ماقبلها كمحرك اساس ضمن اليات تشكلها غير المتحققة بعد، اذا كانت قد بدات ب "سنبني مدينه على جبل" حيث الفكرة قبل المجتمعية، وصولا الى العولمه  وبشائر الانتقال لمابعد التكنولوجيا الانتاجيوية الحالية، حيث التناقضية بين وسيلة الانتاج وتدرجها ونوع المجتمعية واشكال تنظيمها، بما في ذلك الامبراطوري الرسالي بعد الوطني القومي الكياني الجغرافي الاوربي، وهو ماصار العالم يعيشه اليوم وقد صارت الكيانوية بكل صنوفها من الماضي مع استمرار القصورية العقلية التاريخيه، والعجز عن رؤية ماهو منطو في المجتمعية بالاصل من ممكنات واحتمالات متجاوزة لاشكال التنظيم الحالي الارضوي.

تندفع الكيانوية الرسالوية لشبه المجتمعية الالية تكرارا، وكما في البدء اليوم الى تسييد نوع من نمطية رؤية حاكمه للمجتمعات البشرية، هي ذات الاولى "سنبني مدينه على جبل" مطورة ومعدله بما يحولها الى اطار مافوق امبراطوري، اساسة "الانجيلية المسيحويهودية" وفي الواقع وتجسدا"الترامبو صهيونيه" التي تلحق الاسلام بالدينين المفبركين، الامريكي الانجيلي  والصهيوني الاسرائيلي، حيث يلعب "آل سعود" دور تحويل الاسلام، من القبلية السلفية الريعيه، الى  الاندراج تحت خيمة الابراهيمه المزورة " الترامبوصهيونيه"، نتاج التازم الاعظم الارضوي لشبه المجتمعية الالية.

تنتقل شبه المجتمعية الامبراطورية الى العجز التلفيقي عندما لايعود المستعار واخذ الجاهز ممكنا، وبالذات الغرب ومتبقياته الايهامية التي تلبستها شبه المجتمعية باعتبارها هي الغرب، ومع العولمه التي هي خارج ارادة من صنعوها محكومين لاليات وقوانين النفاعليه التاريخيه، ماعادت النموذجية الغربية ممكنه حتى بصيغتها التوهمية المصنعية، ذلك في حين ان الموضع الجاري الحديث عنه، بلا قدرة على انتاج منظوره الكيانوي المجتمعي المتلائم مع التدرجية الالية، خصوصا مع التكنولوجيا الانتاجوية الراهنه، حين تصير في اخر، وعند نهايات حضورها قبل الانتقال الى التشكلية الثالثة اللاارضوية، حيث "التكنولوجيا العليا العقلية" مع بدء التفارق بين وسيلة الانتاج وشروط الانتاج المجتمعية، النافية للمجتمعية بصيغتها الحاجاتيه الجسدوية، وقت يصير العقل بموقع الفعالية المستقلة، بعد ان يتحرر من سطوة وحكم اشتراطات الجسدوية الحاجاتيه الملازمه للطور اليدوي من تاريخ المجتمعات، الامر المنوط بالوثبه العقلية الثانيه الهدف الاساس.

وفي حين تاتي الفبركة الابراهيمه القاضية بمحو الاخر واجباره على الخضوع لمنطق الابراهيمه الانجيلية "اليهو/ مسيحيه" المنتهية الصلاحية هي وعموم الابراهيمه، بما هي صيغة التعبيرية اللاارضوية الاولى ضمن اشتراطات اليدوية والغلبة الارضوية الجسدية مجتمعيا، مع القصورية العقلية، لنقف اليوم على باب الزمن الاخرمابعد  النبوية الحدسية الابراهيمه الاولى،  بمتبقياتها الايمانيه بعد فقد الفعالية، زمن اللاارضوية "العلّية السببية"، التعبيرية الثانيه التحققية، الانتقالية  التحولية العظمى.

ـ يتبع ـ

***

عبد الامير الركابي

 

بداية اعرف الغرب بانه المنظومة الحضارية التي تتشارك الفكر والثقافة والقيم والمواقف والممارسات والاهداف والمصالح، اما ال (نحن)فاقصد بها المنظومة الاسلامية التي تتشارك العقيدة والتاريخ والاخلاق والقيم والاهداف والمسؤوليات والمصالح المشتركة .

بين العالم الاسلامي والغرب تاريخ معقد ومضطرب من العلاقات الملتبسة التي تخللتها الحروب والصدامات والاحتلالات والنظرات المشوهة والرؤى الناقصة .حروب بدوافع دينية مقدسة، وحروب الاستعمار والمصالح المادية،  وصدامات الثقافة والهوية والمعرفة، انتهت تلك الحقب ليصحو الجانبان بعد الحرب العالمية الثانية على محاولات لترسية العلاقات بعيدا عن التاريخ الدامي والفهم المشوه والاحكام المسبقة، أسهم  الاستشراق والاستشراق المعكوس في بناء الفهم الملتبس،  ولم يتحرر الغرب من مركزيته رغم دعوات كثيرة من داخل الغرب نفسه ومن خارجه للخروج من هذه المركزية التي عنت بناء نفسيا ومعرفيا وثقافيا يجعل الذات في مرتبة المصدر للتقدم والعلم والرؤية الانسانوية فهي المركز وماسواها هامش يدور في فلكها عليه ان يتعلم منها ويحذو حذوها ويترسم خطاها ويتمسك بمعاييرها واخلاقها .

بقدر مايبدو تعريف المركزيات اشكاليا وباعثا على الاختلاف، لكن الواقع والسلوك العملي يكشفان عن تمركز غربي حول الذات ينفي حق الاخر في الاختلاف ويرفض تعريفات  هذا الاخر لمفاهيم قدتبدو جدلية  كالحق والعدل والمساواة والارهاب وغيرها .

مانحن بصدده الان كمثال حي شاهد على الاختلاف في القضايا المثيرة للمشاعر والانفعالات مايجري في غزة ولبنان من عدوان اسرائيلي بلغ حد التوحش وتجاوز تعريفات الابادة البشرية التي انتجها الغرب نفسه، فمازالت اسرائيل تمارس جريمة الابادة الجماعية والتدمير الممنهج وسحق الوجود البشري بذريعة الدفاع عن نفسها، ولم يجد الغرب الرسمي والحزبي غضاضة من التعبير المتكرر عن تأييده لهذه الحرب بدعوى القضاء على الارهاب الذي مارسته حماس في 7 تشرين الاول /اكتوبر 2023.وبحسب ارقام حكومة نتنياهو فان هجوم حماس ادى الى مقتل 1200 شخص واسر 250 اخرين، لكن  الغرب  لايعتبر مقتل 43 الف فلسطيني و2500 لبناني وجرح قرابة المائة الف من الشعبين وتدمير قطاع غزة بالكامل واجزاء كبيرة من لبنان، كافيا للضغط على اسرائيل لوقف الحرب او على الاقل منه  ايقاف تزويدها بالسلاح الفتاك المستعمل في الابادة البشرية، الاكثر ايلاما ان تجد مثل مستشار المانيا اولاف شولتس الذي ينتمي الى الحزب الاشتراكي الديمقراطي ووزيرة خارجيته انالينا بيربوك المنتمية الى حزب الخضر اليساري وهما يتبجحان بتكرار عبارة  صادمة للضمير البشري (نحن لانخجل من تزويد اسرائيل بالسلاح وسنستمر في ذلك حتى لو ادى الى مقتل مدنيين، لان الارهابيين يستخدمون المدنيين دروعا بشرية)، هكذا وبقسمات وجه باردة خالية من الانفعال البشري يكرر الالمان مثلا سياسة تأييد الابادة البشرية التي يمارسها اليهود الصهاينة في منطقة الشرق الاوسط عبر القتل والتجويع ومنع وصول المساعدات، المانيا التي تنطق عن لسان يمينها ويسارها تجد تصامنا غربيا معها تعبر عنه احزاب يمينية ويسارية اوربية عدا استثناءات محدودة، وتتصدر شخصيات اليمين المتطرف في المجر (هنغاريا )والنمسا والتشيك وهولندا والدول الاسكندنافية وبريطانبا وفرنسا واستراليا وحتى الهند، المشهد الاعلامي والسياسي وهي تحذر من الخطر الاسلامي وضرورة دعم اسرائيل للقضاء على هذا التهديد، ومع ان مايجري في غزة ولبنان يصادم مقولات الغرب الحداثية، وايقوناته التي اراد لها ان تكون مرجعية عالمية، كالديمقراطية وحقوق الانسان وحق تقرير المصير وحرية الاعتقاد وو، لكن النخبة الثقافية والسياسية لاتشعر بالحرج من ازدواجية المعايير وخيانة المباديء الحداثوية، هذا الحرج تم ابتلاعه بتنظير فلسفي مصحوب بتحيز يعطي اليهود الصهاينة (حق!!) الاستمرار في القتل والابادة بذريعة تغيير الخريطة الامنية والسياسية ضمن مفهوم الدفاع عن النفس، لم يكن مستغربا ان يتبادل ساسة غربيون التهاني مع نتنياهو بمقتل قادة المقاومة ويشعرون بان اسرائيل تحقق اهدافهم وانها تخوض الحرب نيابة عنهم، وهنا نصل الى المعادلة التي يرسمها العقل الحداثي الغربي لسلوكه المتساوق مع سلوك اليمين الصهيوني المتطرف، عندما يضع معايير للحق والعدل والشرعية والسلام والامن لا تنسجم مع قيم الحداثة التي جعلت الانسان مركزها، الغرب يخون قيمه الانسانية، بتحيزه الفاضح الى الجهة التي تمارس القتل والابادة، دونما مسوغ اخلاقي مقبول سوى الادعاء بان الغرب يشعر بمسؤولية اخلاقية للدفاع عن اليهود وحماية كيانهم ووجودهم، تبدو القضية معقدة نوعا ما، كون الثقافة السياسية والقانونية في الغرب تمارس مركزيتها، فيغدو اليهودي ضمن نطاق تلك المركزية بناء على معايير، والعرب واالمسلمين خارجها بناء على معايير مختلفة، حرب غزة ولبنان اطاحت بجهود كبيرة لردم الحواجز النفسية والثقافية والتي سعت الى نوع من التفاهم والحوار البناء بين عالم المسلمين وعالم الغرب، لكن سياسة الغرب بزعامة امريكا في دعم سياسات الابادة والتدمير ستظل تذكر اجيال المسلمين بان العلاقة مع الغرب علاقة سجالية لم تتحرر من تراث وتاريخ من التحيزات وعدم الانصاف والتعالي والازدراء المتخفي ببلاغات السياسة والمصالح المادية .

***

ابراهيم العبادي

أن تعيش وفق منطق الأنا الفوقية في عقلك شيء، وأن تعيش وفق منطق أنا والاخرين واقعاً شيء اخر، المتتبع لسير العملية الانتخابية في اقليم كوردستان يجد أن التحزب قد بلغ ذروته في الصراع على الكراسي البرلمانية، وينطبق على الاحزاب الكوردية مبدأ -كل حزب بما لديه فَرِح -، ولكن في الوقت نفسه ينطبق على غالبية الاحزاب الكوردية مبدأ آخر؛ قد يزعج البعض ما اقوله لكن تلك هي وجهة نظري الشخصية التي استنبطها من وقائع ومن صيرورة العمل داخل المجتمع الكوردي في جنوب كوردستان، لاسيما من خلال تتبع اعلام الاحزاب، ومواقع التواصل الاجتماعي وقراءة شخصية قادة الاحزاب ومناظريهم، إذ يتضح بشكل جلي وواضع للعيان أن مراهقوا السياسية، وسياسي الاموال، وسياسي القنوات الاعلامية، وسياسي الروك، وسياسي الخطابات والصراخ والحماسة البلاغية، فضلاً عن سياسي الحقد، جميعهم يشكلون جبهة موحدة ضد سياسي المنطق الكوردستاني الساعي لحفظ الاقليم من جهة، والساعي للحفاظ على الشخصية السياسية الكوردستانية من جهة اخرى، على الرغم من كل الصعوبات التي تواجه الاقليم، سواء من الضغوطات الاقليمية المتمثلة بالاحتلال التركي للاقليم، أو التدخلات السافرة لايران في زعزعة أمن واستقرار الاقليم، ناهيك عن احقاد البعض في جبهة العراق الذي يفترض أن يؤمنوا بأن الدستور هو المحفل القانوني التشريعي الوحيد الذي يجب أن يكون الحكم والفيصل في القضايا والخلافات بين الاقليم وبغداد.

نحن هنا لانركز على حزب وشخصية واحدة، كما أننا لاننفي وجود الفساد المالي، والاداري والفساد بكل تصنيفاته، ولاننزه الحكومة التي تدير الاقليم التي لاتمتلك خطط بديلة للازمات، ولاتملك سلطة موحدة على جميع الاقليم،  كما أننا لانقوم بالدعاية الحزبية، فالانتماء الاكثر شيوعاً لدى الكثيرين من كورد الجنوب هو لكوردستان، لذلك النظر الى الوقائع لاتتم من خلال منظور حزبي دعائي، إنما من خلال الفوضى التي خلفتها الدعاية الانتخابية كواقع تاريخي ملموس ومنظور وواضح لدى غالبية الطبقة الواعية الكوردستانية سواء في جنوب كوردستان أو في باقي اجزاء كوردستان المحتلة، لأن الفوضى العقلية التي عاشها سياسيوا الجبهة المناهضة لوجود كيان كوردستاني قوي، أتت في الاصل من خلال العداء اللامنطقي للحزب المنافس أو للاحزاب المنافسة وللشخصيات المنافسة، وذلك ما اتضح بشكل كبير في خطاباتهم العدائية التنقيصية لتلك الشخصيات، ما يؤكد أن الفوضى العقلية قد تمكنت منهم، لاسيما إذا ادركنا أن الفوضى العقلية تعني: القلق المستمر ، فخاخ التفكير ، التحميل الزائد للمعلومات ، قوائم المهام التي لا تنتهي، فالقلق من فوز المنافس واكتساح الساحة السياسية، ولاجدوى صراخهم وسبهم وشتمهم ومحاولتهم لاثارة النعرات، فضلاً عن الفخاخ التي وقعوا بها جراء تتبعهم لاجندات خارجية اوهمتهم بالتدخل والمساعدة والعمل على فوزهم، ناهيك عن تلك المعلومات المضللة التي أثقلت حملهم وفاقت عقولهم الصغيرة على العملية السياسية الكوردستانية، حتى أنهم فشلوا في اتمام المهام التي كلفوا بها من قِبل اسيادهم، كل ذلك خلق فجوة كبيرة بين منطقهم اللامنطقي اللامعقول اللاكوردستاني، وبين القاعدة الواعية لاهمية وجود اسم كوردستان وكيان كوردستاني وحكم كوردستاني.

إن الفوضى القعلية التي عاشها هؤلاء الساسة اعطت رؤية واضحة حول الحالة التي يعيشها اغلبهم، وابتعادهم عن طريق خلق مجتمع مدني واعي بعيد عن قشور المفاهيم التحررية والحريات بصورة عامة، فتصادم الاراء وتضارب المصالح، أدت الى ارتباك وتوتر في عقولهم مما خلق فجوة بينهم وبين قواعدهم التي وعت كثيراً عدم وجود عقلية سياسية لدى قادتهم، ناهيك أن الجماعات الواعية خارج الاطار الانتخابي ايضاً أدركت بأن هؤلاء لايمكن أن يعول عليهم، فالتضليل الاعلامي الذي اعتمده تلك الفئات والمعلومات الخاطئة لاثارة الرأي العام لم تثمر شيئاً، فضلاً عن محاولتهم لشراء الذمم واستقطاب بعض الوجوه السياسية المنافسة لم تنجح بعكس الجبهة المنافسة، كما أن المصالح الشخصية والحزبية لبعض الاشخاص والاحزاب والتي عمدت الى تضخيم بعض الاحداث التي تتداخل وتتاشبك مع رؤى وايديولوجيات اقليمية خارجة عن الاقليم دون وعي نقدي وتفكير منطقي أدى الى تعرية عقولهم، فضلاً عن كون اسلوبهم الاستهزائي الانتقامي لاثارة العواطف لدى بعض الطوائف الدينية وبعض الاحزاب غير المرخصة داخل الاقليم، مع استخدام اسلوب التحفيز والتخويف في نفس الوقت، كل ذلك لم يجدي نفعاً بل العكس تماماً، أثر ذلك على قراراتهم الانتخابية، وعلى مكانتهم الحزبية، وعلى وجودهم الكوردستاني.

في المقابل عمدت الجبهة الاولى الى إعتماد شخصيات ذات وزن سياسي واجتماعي وعاطفي معاً، وسعت بثبات في حملتها الدعائية، دون الخروج على المنطق، والعقلانية، إذ كان خطابهم ثابتاً ومتحدياً لكنه غير مبتذل، وغير فوضوي، وغير معادي، فإثارة حماس الاتباع لم يكن من خلال سب وشتم المنافس، إنما من خلال منطق كوردستان واسم كوردستان والحفاظ على كوردستان على عَلَم كوردستان وبيشمركة كوردستان وقضايا كوردستان، حتى إن لم يكن الامر كذلك لكن كان ذلك الخطاب الواعي والاختيار الانسب لخلق قوة دعائية ورأي عام توحيدي الى حد ما ضد الجبهة التي ارتمت باحضان الساعين لانهاء الاقليم.

حقيقة إن فوضى العقول لسياسي الحالة، أو سياسي الظروف اعطت للجبهة المنافسة القيمة السياسية الواعية وخلقت فجوة كبيرة بين قواعد الجبهة الفوضوية وقادتهم، وذلك ما سمح للمنافس باستغلال تلك الفجوة وخلق علاقة تواصلية متينة بين قيادتها وقواعدهم الشعبية، حتى وإن كان الاعتماد جاء وفق منطق العشيرة والانتماء، لكن ذلك لم يمنع من بروز اشخاص مدركون لمهامهم التي تلقوها من قيادتهم، وساروا بثبات نحو هدفهم وهو الفوز بالانتخابات.

***

د.جوتيار تمر

20/10/2024

تعني النطقية ـ وان المتاخرة ـ اليوم، تجاوز القصورية العقلية البشرية المرافقه لحالة وحدود الادراكية المتاحة للعقل بعد وثبته الاولى الموصولة  مع الانتصاب على قائمتين، وبالتحديد بازاء المسالة المجتمعية ومنطوياتها، ومن ثم آليات ومستهدفات الوجود البشري. ولامن شك بان اخطر واهم  مظاهر القصورية المنوه عنها قد حصل ابان الانتقال الاوربي الحديث الى الالة، يوم كشف العقل الاوربي الاحادي الارضوي عن عجزه  وتدني حدود ادراكيته امام الانقلابية المستجده، فظل قاصرا، ولم  يتمكن من مجاراتها او التعرف على  آلياتها ومنطوى حضورها على مستوى الكينونه والبنيه المجتمعية.

ولكي نتوقف عند نموذج صارخ وجلي متداول على اوسع نطاق ممكن، نستعرض الماركسية بموقفها  من المسالة المجتمعية  في حينه، مع الانقلاب الالي المسمى بالبرجوازي، فماركس الذي تعرف على مفهوم "صراع الطبقات" كما جرى تاسيسة قبله بقليل، ذهب الى القول جازما بان " تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقات"، وهو هنا ارتكب من  حيث لايدري خطئا جوهريا، لانه اعتمد بسذاجة نوعا من المجتمعات بذاته ليعممه على غيره، فماكان  له ان ياخذ بالولادة والتشكل الحاصل في حينه،  بحيث ينتبه مثلا الى كون "المجتمعات" التي يتحدث عنها هي مجتمعات يدوية سابقة، وانها نتاج تفاعية ( الكائن البشري/ البيئة)، العنصران الاساسيان اللذان في غمرتهما تشكلت المجتمعية، ومنها الطبقية  ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي، الامر الذي ماعاد قائما بعد اليوم مع انبثاق الالة العنصر الثالث المختلف نوعا، والحال على الثنائية التشكلية البشرية البيئية الموروثة من خارجها،  بما يعني حتمية بدء الذهاب الى "مجتمعية اخرى".

من هنا كان ينبغي اولا وقبل كل شيء التوقف وقتها عند النظر للمجتمعات وعلاقتها بالاله بدل الطنطنه عن "صراع الطبقات"، و "المادية التاريخيه"، والمراحل الخمسة، التي هي مجرد تخيلات توهمية تخلط بين ماض لم يعد له وجود ماديا منذ الساعه، وحاضر اخذ بالتشكل والولادة من هنا فصاعدا،  حيث الطبقات وغيرها من اشكال ونمطيات المجتمعات اليدوية تصبح من الماضي، في الوقت الذي نكون فيه بحاجة الى تركيز النظر على عملية التشكل المجتمعي الثاني الالي، بعد ذلك الابتدائي اليدوي الاول  ومااستغرقه في حينه من عشرات القرون من التفاعلية، قبل ان يستقر على الصيغة التي استقر عليها ضمن اشتراطات (التجمع + انتاج الغذاء)، ولايمكن بالطبع اليوم  تجاهل ماتعنية الالة وحضورها بالنسبة للطبقات المتبقية من الطور الماضي بالغائها لها، وموقف كل طرف منها،  بالاخص وان الوسيلة الجديدة من نوع تغييري، ويمكن ان يؤثر في البنية المجتمعية ويحورها بعل الكائن البشري، وهذا ماقد حصل وصار اساسيا في فعل ومجهود الطبقات المختلفة بعد الالة وحضورها،  وعلى حسب مامتوفر للقوى المختلفة من قدرات اصلية او مكتسبة، او مايقع عليها من عبء وخسارة.

وبناء عليه فان شيئا اساسيا اخر سوف يطمس بالمناسبه التوهمية الارضوية الاوربية بمواجهة التبلورية المجتمعية الثانيه الالية، تلك هي المروية التشكلية المشار اليها بمراحلها وحقبها ومتغيراتها، الامر المتوقع، بما ان شخصا مثل "ماركس" يبني صرح نظريته الكبرى على موضوعة هي بالاحرى وساعة يفعل مايفعله تكون قد بدات بالزوال من الوجود، فلا صراع طبقات مع الالة، بل اصطراع بنيوي تشكلي بين العنصر الفاعل الجديد والبنى الموروثة المجتمعية اليدوية كما كانت قد تشكلت وغدت راسخة خلال الطور الزمني التاريخي اليدوي على طوله، مع ماينبغي توقعه من مقاومتها للطاريء الانقلابي، ومايتولد عنه والحالة هذه  من اشتراطات وديناميات شاملة تنال بالتغيير لا المجتمعات الموروثة وحدها،  بل مايقابلها ويتصارع معها لاجل تغيير ها بنيويا، اي الالة نفسها.

وهنا يمكن ان نعثر على شيء من العذر لماركس وغيره، بما انه كان منغمسا بالصيغة الاولى من صيغ "الاله" بحالتها "المصنعية" غير النهائية، لكن الاقرب لليدوية، والتي تؤجج احتدامية اصطراعية غامرة مع تجسيد مضطرب بين زمنين ونوعين للطبقات، وبالذات منها العاملة "البروليتاريا" وقتها، من بين اشكال وعوامل الاصطراعية الناشئة، يراها ماركس اخذه الى الاشتراكية و "الشيوعية"، بما انه لايستطيع رؤية  تبدل حوافزها الفعلية ووجهتها، وماينتج عنها،  متوقفا عند عتبة الماضي المجتمعي،  وقد ظن انه اكتشف اخطر دينامياته اليوم في الوقت الذي تكون فيه الاليات الفاعله والناظمه للعملية التاريخيه المجتنمعية قد تبدلت وانقلبت بما يلغي ماسبق وينهي الياته البدائية المقتصرة على البيئة ومفعولها، وماقد تولد عنها من نمطيات مجتمعية من بينها "الطبقية" التي هي من الماضي، ولم تعد فعاليتها قائمة بعد اليوم، ولا استمراها.

تتراجع حدة الاصطراعية الطبقية عند مفتتح ظهور الالة هي وكل اشكال التنظيم المجتمعي اليدوي  وموروثاته مع الانتقال الى شبه المجتمعية المفقسة خارج رحم التاريخ، مجتعية الفكرة والالة الامريكية الامبراطورية  الرسالية التوهيمه حكما، ومايلحق بها من اسقاطات ابراهيمة منقضية الضرورة، مختلطة بالتوهمية الغربية الحديثة، بينما الاصطراعية اليدوية تنتقل وفقا لاشتراطات التشكل القاري الامريكي خارج المصنعية الى الطور الالي الثاني، "التكنولوجي الانتاجي" والعولمة الاقتصادية القاصرة  العاجزة عن الانتقال الى مابعد كيانيوية دولتيه، بما هي الضرورة الحالة على المجتمعات البشرية مع الاله وتحوراتها الذاهبة من الارضوية الجسدية الحاجاتيه، الى المجتمعية العقلية المتعدية للجسدية مع توفر اسباب تحققها على مستوى وسيلة الانتاج.

ومن البديهي ازاء حال تحولي من هذا القبيل ان تظل التفارقية الادراكية المادية الواقعية سارية، مع انها تصل عند لحظة بعينها لما من شانه اجبار العقل على التخلص الضروري، وان الاولي من وطاة وهيمنه المنظور الارضوي الاحادي الراسخ،  بما في ذلك صيغته المتاخرة الحداثوية الاوربية، وتلعب هنا تراكمات التجربة التاريخيه وتفاعليتها دورا اساسا، مع اننا يجب من ناحية اخرى ان  نتحرى عما يمكن ان يكون كامنا بين تضاعيف العملية المجتمعية التاريخيه، اليدوية على وجه التحديد، واذا كانت منطوية على مايشير الى الحصيلة النهائية  التحولية العظمى نحوالوثبة العقلية الثانيه بعد تلك الاولى المنتهية الفعالية، مايتطلب اعادة نظر من نوع مختلف الى الظاهرة المجتمعية، كانت القصورية العقلية تمنع مقاربتها حاجبة اياهاعن الادراكية،  بما هي ازدواجية وثنائية النوع المجتمعي الابتدائي (الارضوية / اللاارضوية)، وحضورها  الكوني غير المعاين ولا المدرك على طول المسار التفاعلي التاريخ المجتمعي.

تتبلور الظاهرة المجتمعية مبتدأ في ارض سومر "لاارضوية" منطوية على  النزوع لمغادرة الكوكب الارضي سماويا عقليا، بالتحرر العقلي من الجسد ومقتضياته، واذ لاتتحقق في حينه لنقص في اسباب الانتقالية العظمى المادية "وسيلة الانتاج العقلي"، ومستوى الادراكية المتعدية للقصورية الارضوية "الانسايوانيه"، فانها توجد وتظل قائمة كتعبيرية لاارضوية  تكتمل بالنبوية الحدسية بصيغتها الابراهيمه التي تتوقف فعالية وضرورة عند الختام النبوي الجزيري المحمدي، لينفتح الافق من يومها للا ارضوية "العلّية السببية"، الموقوفة على الانقلاب الالي، المنطوي على "وسيلة الانتاج العقلية"، التكنولوجية الثالثة، مابعد الانتاجوية،  واحتدامية الاصطراعية الارضوية اللاارضوية، وصولا الى النطقية التاريخيه العظمى، حين ينقلب مسار التاريخ المجتمعي البشري تحوليا.

***

عبد الامير الركابي

 

اسفرت الانتخابات الرئأسية في تونس والتي جرت في شهر تشرين الأول من عام 2024م والتي صاحبتها أجواء سياسية عاصفه عن فوز الرئيس المنتهيه ولايته قيس سعيد بنسبه %90.69 من الأصوات أما منافسه العياش زمّال فقد حصل على المركز الثاني بنسبه7.35% وقد علل المراقبون فوز قيس سعيد الى أسباب ابرزها: مقاطعه الأحزاب التونسيه فهذه الانتخابات فقد قاطعت (5) احزاب يسارية الانتخابات ,وكذلك ازدياد شعبيه سعيد في الاونه الاخيره بالاضافه الى ان حزب النهضه الاسلاميه اوعز الى انصاره بالعزوف عن التصويت لصالح منافسي سعيد.

تونس: نبذة تاريخية

احتلت قوات الحلفاء تونس عام 1943 لكي تتخذها قاعدة انطلاق نحو الشمال الافريقي الأ ان الشعب التونسي لم يرتضى هذا الاحتلال فأعلن عن قيام المقاومة المسلحة في المدن والساحل وقد تهيأ لهذه المقاومة رجل قيادي قادها من مدينه الى أخرى وهو الحبيب بورقيبه الذي تزعم كذلك الحزب الدستوري التونسي ،وفي عام 1946 غادر بورقيبه بلاده الى مصر ليعرض قضيه بلاده على الجامعه العربية حيث اعلن ان هدف المقاومة هو تحرير تونس واستقلالها والانضمام الى جامعه الدول العربية.واستجدت المقاومة حتى اضطرت فرنسا الى الاعتراف بأستقلال تونس عام 1956 وفي عام 1957 انتخب الحبيب بورقيبه رئيسا للجمهورية وقد استمر في منصب الرئاسه اكثر من 30 عاما حقق خلالها الكثير من المنجزات التي شملت معظم نواحي الحياة في تونس واتخذ عدة قرارات ثورية.

قرارات الرئس بورقيبه

اصدر الرئيس بورقيبه عده قرارات ابرزها:

1- منع تعدد الزوجات ورفع سن الزواج الى 20 سنة للرجل و 17 سنة للمرأة وقرر مساواة المرأة بالرجل امام القانون

2- سمحت هذه القرارات بالتبني وسمحت للمرأة بالأجهاض

3- اصدر امراً بمنع ارتداء النساء للحجاب بأعتبارة مظهراً من مظاهر التخلف ويتنافى مع روح العصر وقد ظهر الرئيس بورقيبه في احتفال شعبي على التلفاز وهو ينزع الحجاب عن النساء وهو يقول ..(انظري الى الدنيا بغير حجاب ..)

4- حاول بورقيبه الغاء شهر الصيام (رمضان) كما انه جعل الغاء الصيام عن العمال لانه يقلل من الإنتاج ويؤثر على الاقتصاد في تونس الا ان محاولاته هذه فشلت بسبب موقف الأحزاب الدينية

5- حاول منع التونسيين من الذهاب الى مكه لأغراض الحج والعمرة لان هذه الأمور تسبب هدراً للعملات الصعبة

ان معظم هذه القرارات تتعلق بالاحوال الشخصية وقد وافق البرلمان التونسي عليها ورفضتها الأحزاب الإسلامية

وقد حاول بعض الزعماء العرب تقليد مسيرة بورقيبه فالرئيس المصري جمال عبد الناصر حاول الغاء شهر رمضان لكونه يؤثر سلباً على الاقتصاد المصري وحاول الرئيس الجزائري احمد بن بله  الغاء عيد الأضحى عام1964 الا ان محاولاتهم هذه باءت بالفشل لوقوف القوى الأسلامية ضدهم.

ان قرارات الرئيس بورقيبه اثارت موجه من الاعتراضات ضده الامر الذي مهد الطريق للإطاحة به في انقلاب عسكري قاده زين العابدين بن علي عام 1987 حيث نصب نفسه رئيساً للجمهوريه وفرض على بورقيبه الإقامة الجبرية حتى وفاته عام 2000م.

*** 

غريب دوحي

 

(من لم يسمع طبول الحرب تدق فهو بالتأكيد أصم)

هذا ما قاله هنري كيسنجر(1923-2023) وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في نهاية عام (2011)، مضيفا ً(إن ما يجري بالمنطقة هو تمهيد لحرب عالمية ثالثة، عندما صرح لجريدة (ديلي سكيب) الصادرة في نيويورك "بأن الحرب القادمة شديدة القسوة ولا يخرج منها سوى منتصر واحد هو الولايات المتحدة، وأن الخاسر الأبرز فيها هي روسيا والصين وإيران").

إن ارتدادات وتداعيات عشرات القضايا والملفات التي تزخر بها جغرافيا شاسعة عبر القارات المختلفة، قد تكون مدعاة لزيادة رقعة المعارك ودخول المنطقة والعالم في حرب كبرى تضع العالم على شفا حريق كبير، لا يمكن أطفاؤه بسهولة، فبين الحرب الروسية الأوكرانية، واستلام أوكرانيا عشر طائرات (أف 16) من حلف الناتو، الى عملية التصعيد بدخول أوكرانيا الأراضي الروسية في مدينة كورسك، والمعارك التي تجري بين الطرفين لفرض أمر واقع جديد، لإظهار قدرة الناتو وأمريكا وأوكرانيا على تهديد روسيا الاتحادية، ومحاولة اجبارها على تغيير مجرى المعارك التي تجري على الأرض، ودفعها لتقديم بعض التنازلات فيما يخص التفاوض بين الدولتين، فهل هي أداة حرب جديدة لتغيير المعادلة العسكرية؟، ام وصفة دواء سحري لموسكو لتسجيل نصر حاسم، ولهذا نرى بأن روسيا أظهرت بانها قد تلجأ لاستخدام الاسلحة النووية التكتيكية، لحسم المعارك مما يدفع ذلك لدخول الناتو بمعركة شاملة مع روسيا، وهذا ما تتجنبه كل الاطراف بمحاولة التعاطي مع الحرب بشكل تقليدي ومعارك كلاسكية، ومثال ذلك (تدمير 5 مقاتلات سو-27 أوكرانية بصواريخ إسكندر في مطار ميرغورود) ولكن العقال قد ينفلت، وهو ما يهدد كل الأمن القومي بالمنطقة والعالم.

فبعد أن خرقت أوكرانيا حدود روسيا باتجاه الشمال وهي آخر نقطة لتحويل الغاز الى أوروبا، والتي تعتبر رسالة تهديد بأن مناطق السيطرة على طريق الطاقة قد تخرج من سيطرة موسكو، ورغم انتهاء العملية وتمكن القوات الروسية، من صد هذا الهجوم، فالمعارك مازالت تجري رحاها بين الطرفين، كما أنه فتح الباب واسعا لعدة سيناريوهات ولا سيما بعد دخول طائرات اف 16 الميدان فهل سيتغير شكل الحرب؟ ام ستكون سببا بانتصار حاسم لروسيا؟

وفي الجانب الأخر حسب التقارير حول روسيا فإنها تستخدم بحدود 300 طائرة في الحرب، بينما أوكرانيا بعد تجاوز السنتين من المطالبات حصلت على 10 مقاتلات من أصل 79 طائرة وحسب، تليها 10 اخرى بحلول نهاية العام الجاري، والباقي منها سيصل على دفعات خلال عام 2025، وبالمقابل تحتاج طائرات اف 16 الى مدارج تتم صيانتها بعناية وبشكل دوري وطواقم أرضية مدربة تدريبا عاليا، وهذا ما يصعب عملية استدامة امداد تلك الطائرات وابقاء زخمها كبير في ساحة العمليات، في حين تمتلك أوكرانيا اسطولا قديما من الطائرات الحربية من الحقبة السوفيتية، والتي تستخدمها بحربها ضد روسيا التي تملك أسطولا يعد الأكثر تقدما وعددا، فاصرار أوكرانيا بالدفاع عن أراضيها والصبر لأكثر من 29 شهرا على حلفائها لتزويدها بالطائرات منذ بدء الحرب، وتحسين ترسانة البلاد بشكل كبير، وابقاء الجيش في وضع قتالي جيد يؤكد إن تراجعها أمر مستبعد الان، فهل ستغير الطائرات الحربية بشكل الحرب؟ ام إن الطريق السلمي وطاولة المفاوضات سيكون حاضرا في قادم الايام بين هذا وذاك تظل المخرجات تعتمد على متغيرات الاحداث.. ومنها ما تسعى له أوكرانيا بأن تفرض شروطها على روسيا قبل المفاوضات المستقبلية المحتملة على كل حال، فهل ستتغير شكل المعادلة العسكرية؟ هل هي قادرة على تغيير الموازين بساحة العمليات في أوكرانيا؟

وأمكانية الجيش الأوكراني بالحفاظ على مناطق كثيرة تم خسارتها سابقا، وعملية الدعم اللوجستي لتجهيز تلك الطائرات، وحسب تصريح زيلينسكي فإنه يحتاج الى 130 طائرة (أف 16)، والولاياات المتحدة وحلف الناتو تقول بأانها تحتاج الى عدة سنوات لتتمكن من تجهيز كامل حاجة أوكرانيا من الطائرات، أي هناك مبعث خطر أكبر من المعركة أو الفوز بها أو نهاية الحرب، وهي وجود نية مبيتة باستعداد الولايات المتحدة، وحلف الناتو الى استمرار حرب استنزاف طويلة الامد مع روسيا الاتحادية الى حين محاولة اخضاع روسيا اتجاه اشتراطات الغرب، وليست فقط محاولة إظهار امكانات وقدرات الغرب على المواجهة في ساحة المعركة مع أوكرانيا باستخدام هذه الطائرة، ولكنها نست بانها ستقع في جب الدفاعات الجوية الروسية، لا نتكلم عن صواريخ اس 300 وحسب، بل نتكلم عن اس 400 التي لديها امكانات فنية قادرة على اسقاط طائرة اف 16، حتى مع صواريخها بعيدة المدى جو ارض، وضرب بعض الاهداف في ساحة العمليات، لكن الناتو تغافل بأن هناك قدرات أكبر من صواريخ الاس 400، التي يصل مداها الى 400 كلم، وهي منظومة الدفاع الجوي اس 500، التي يصل مداها الى 600 كلم، ويمكنها أن تعالج أكثر من هدف في نفس العملية، وبالتالي لن تستطيع الطائرات العشر أن تقاوم حتى وإن كان لها اكثر من سربين أمام دفاعات جوية بهذه القدرات.

وما شهدناه مؤخرا من سقوط أحدى طائرات الـ(أف 16) ومقتل قائدها، قام على إثرها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بإقالة قائد القوات الجوية، الذي يجعل الغرب واوكرانيا بمواجهة حرجة.

وإذا أردنا الحديث عن الهجوم البري الذي قامت به أوكرانيا ما الهدف من هذه العملية؟

بالرغم من وجود تصريح من قبل الجانب الروسي يقلل من شان عملية الهجوم.

ونتيجة تحقق عنصر المباغتة بشن الهجوم أثر على عملية إدارة هذه المعركة بشكل واضح من قبل موسكو، والذي قد يراه البعض بأن الإخفاق، هو بسبب عدم توفر إحاطة استخباراتية بساحة العمليات، ولعله أخطر من ذلك أيضا، بسبب حالة الاطمئنان من قبل القوات الروسية، بأن أوكرانيا لن تستطع التجاوز على الحدود الروسية، أو إنها ستخشى عملية المجازفة بدخول هذه الحدود، فالأمر تعدى الاحاطة الاستخبارتية، لأن جمع المعلومات يبدأ من العنصر البشري على الأرض وينتهي بالاقمار الصناعية، والتي تمتلكها روسيا، وهذه الوسائل متوفرة لديها، لكن عملية الاستكانة هي من جعل عنصر المباغتة ممكنا بهذه العملية، واستطاعت أوكرانيا أن تقوم بهذه المناورة وتخرق العمق الروسي بمساعدة وإشراف الناتو، حتى وإن نفت الولايات المتحدة علمها بالأمر، وبالتالي هي تظهر بأن إمدادات الاسلحة التي ما زالت ترسلها الى أوكرانيا، يمكن أن تصل لأبعد من هذا، وبالنظر الى تصريح نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي دميتري ميدفيديف الذي قال عندما وصلت الدبابات الألمانية الى الجيش الأوكراني لساحة العمليات بأن "الدبابات الروسية قادرة على الوصول إلى ساحة مبنى الرايخستاغ في برلين"، ردا على ظهور مدرعات ألمانية ضمن الوحدات الأوكرانية في كورسك، وذلك عندما نشرت بعض الاشعارات الصحفية "بأن ألمانيا رجعت الى أرض روسيا بعد مرور80 عام".

لكن الولايات المتحدة إذا أردنا الحديث عن خطورة هذه العملية، نلاحظ أن هنالك تقليل من قبل الجانب الروسي لهذا التوغل، ولكن الى أي مدى احرجت هذه العملية الجانب الروسي؟ بالرغم من محاولة التقليل من شأنها، وبكل تأكيد لو استطاعت القوات الأوكرانية السيطرة على محطة كورسك النووية الروسية لسحبت جزء كبير من قواتها المتواجدة في المنطقة اليوم، وجعلها بموقف لا تحسد عليه، وهذا لم يحصل في ساحة العمليات.

الهدف الثاني لهذا الهجوم البري هو ربما يعني اجبار القوات والقيادة العسكرية الروسية  على سحب جزء كبير من قواتها المتواجدة في ساحات معارك أخرى في أوكرانيا من هذه المناطق، وأرسالها صوب كورسك، فهل تحاول أوكرانيا الضغط على روسيا من خلال هذه العملية في كورسك من أجل التفاوض؟

هل من دلالات أو أبعاد عسكرية ميدانية أخذين بعين الاعتبار بأن خطوط الدفاع الأوكرانية اساسا تعاني من صعوبات في خطوط المواجهة، والدخول الى الأراضي الروسية، والحفاظ على هذا النصر أمر صعب جداَ، وفي عملية الاستعداد الى التفاوض المستقبلي، هناك مؤتمر مرتقب يعقد في سويسرا لعملية التباحث مع اطراف فاعلة في الاتحاد الأوروبي والعالم حول موضوع الحرب الروسية الأوكرانية، وأين ستصل بنهاية المطاف؟، وقد أبدى الرئيس فلاديمير بوتين نوعا من المرونة بأنه سيقبل أي عملية تقارب إن كانت تحفظ حقوق روسيا الاتحادية في الأرض التي كانت ضمن جدول الخارطة الادارية لروسيا.

ونرى بأن هذه المعركة ستكون حاسمة إن استطاعت، وهذه النقطة هي أضعف عند أوكرانيا بالحفاظ على امداد عسكري ولوجستي وتسليحي وبشري أي عديد قوات يمكن أن يحافظ على هذه النقطة في مساحة الأرض الروسية، لكن ما يجري على أرض الواقع الآن من معارك ونتائج تظهر حجم الخسائر الكبيرة التي ترد بين الحين والاخر، إن كان بعديد القوات أو بالتجهيزات أو الطائرات المسيرة، والطائرات المقاتلة، وهكذا دواليك من باقي ما تدفع به الولايات المتحدة ودول حلف الناتو لتعزيز ساحة المعركة والعمليات لتحقيق هذا النصر من قبل أوكرانيا.

فأوكرانيا في حدها الأبعد مهما أرادت، لن تتخطى عملية الحفاظ على صمودها بالدفاع عن نفسها، لكن من الصعب أن تستطيع من تحقيق نصر كبير على روسيا الاتحادية، ومع زيادة التهديد والدعم الغربي، ُتظهر روسيا بأنها ستذهب الى استخدام الاسلحة النووية التكتيكية في ساحة العمليات، وهي تجري الان عدة تدريبات وصلت الى المرحلة الثالثة والامر نفسه في بيلاروسيا لاظهار امكانية قلب الطاولة بساحة المعركة، إن تطلب الأمر ذلك، بالمقابل ماذا تستطيع الولايات المتحدة أن تقعل إن ارادت روسيا الاتحادية الضغط على زر استخدام الاسلحة النووية التكتيكية في هذه المعركة؟، ولهذا ستكون المعادلة خاسرة، وهذا ما يدفع بحلف الناتو الان لعملية إطالة هذه الحرب واستنزاف القدرات الروسية بمعارك كلاسيكية بمحاولة جس نبض امكانات وقدرات الدفاعات الروسية هنا وهناك أو محاولة الذهاب الى استخدام طائرات اف 16 حتى تسقط بعض الدفاعات الجوية أو الأهداف المهمة أو الحيوية بساحة عمليات روسيا الاتحادية.

وإذا ما أردنا الحديث أيضا عن مبدأ الحوار والتفاوض الى أي مدى ممكن أن يكون هذا المبدأ حاضراً في قادم الأيام؟

كل الحروب والمعارك في بقاع الأرض، ودعنا نُذكر بشاهد الحرب العالمية الأولى والثانية الى ماذا وصلت بالنتيجة النهائية للحرب؟

الجواب هو الذهاب والجلوس الى طاولة التفاوض، ولهذا الحل الأسلم، هو التوجه الى التفاوض بين كل الاطراف المشتركة بهذا النزاع، انظر الى النصيحة التي قدمها الراحل هنري كيسنجر قبل وفاته بأكثر من عام، بأن الحل الاسلم الى أوكرانيا هو بتقديم التنازلات الى روسيا الاتحادية، وعلى الغرب ألا يدفع بها كبشاً للفداء، لأن هذا سيؤدي الى حلقة أكبر باستنزاف كل امكانات وقدرات أوكرانيا..

الحل المتاح أمام أمريكا وحلف الناتو هو الذهاب للتوافق مع روسيا الاتحادية بنوع من الحفاظ على إمكانات إبعاد تقرب الناتو من الأراضي الروسية، وتقديم بعض التنازلات بالحفاظ على الفضاء الحيوي الروسي ضمن هذه المنطقة والرقعة الجغرافية على أقل تقدير بقلب أوراسيا، وبالتالي نحتاج أن نُذكر أن روسيا الاتحادية ماضية في هذا الامر، لكن عملية تعجيل الخطوات في قادم الأيام تحتاج الى صبر أكبر.

وفي الجانب الاخر فإن التنين الصيني زاد من وتيرة بناء ترسانته العسكرية، ولوحود الخلاف مع أمريكا حول ضم تايوان الى الصين ملوحة باستخدام القوة إذا اضطرت لذلك، وبين تدخل الولايات المتحدة بهذا الامر معتبرة بأن تايوان حليف أمريكي ولا يمكن المساس بها، وهذا ما أظهرته عبر زيارات مسؤولين رفيعي المستوى أو تسليح تايوان بسلاح أمريكي مجددا، ولهذا تستمر الصين بمناورة الولايات المتحدة الأمريكية في عدة مستويات سياسية واقتصادية في أكثر من بقعة بالعالم، والتي قد تستغل فيه إنشغال أمريكا بأكثر من حرب في أوروبا وفي الشرق الأوسط، وقرب الانتخابات الأمريكية، ولهذا هناك سعي لتخفيف شدة التوتر بين أمريكا والصين بعد أن أجتمع مستشار الأمن القومي جايك سوليفان يومي (27 و28 اب) بعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي الصيني ومدير مكتب الشؤون الخارجية المركزية ووزير الخارجية في الصين الشعبية (وانغ يي) في العاصمة الصينية بكين. ويندرج هذا الاجتماع ضمن الجهود القائمة للمحافظة على قنوات التواصل وإدارة العلاقات بين الولايات المتحدة وجمهورية الصين بشكل مسؤول، على ضوء مناقشات الرئيسين بايدن وشي، في قمة وودسايد في نوفمبر 2023. ولكن الصين صعدت من لغة القوة مؤخرا بإقامة مناورات عسكرية متعددة حول جزيرة تايوان.

مازالت منطقة الشرق الأوسط تنتظر ارتدادت التصعيد ولاسيما بعد أن خرق الكيان الصهيوني القانون الدولي والسيادة الإيرانية باغتيال السيد اسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران، والذي ينذر برد انتقامي من قبل إيران، مازال ينتظر العالم طريقة وحجم هذا الرد، حتى مع كل محاولات أمريكا والاتحاد الاوروبي بمناورات عدة للتهدئة، بقيام إيران برد محدود، وعدم الذهاب لضربة شاملة قد تعجل الوقوع بفخ الحرب الكبرى بالمنطقة أمر وارد، ومن ضمنها هجوم المرحلة الأولى الذي شنه حزب الله في لبنان ردا على اغتيال أحد قادة الحزب المهمين (فؤاد شكر). وبالمقابل من المتوقع أن يكون هناك ردا من الفصائل العراقية، وكذا من أنصار الله الحوثيين، دعما الى غزة وردعا للعدوان على الفلسطينين.

وهنا في الشرق الأوسط الأكثر توترا والأصعب حلاً على طاولة القوى الكبرى حيث نشهد إعادة تحشدات عسكرية أمريكية، هناك من يراها ردعاً، ومنهم من يراها خيوطاً جديدة لاتفاقيات مستدامة.

ومع زيادة جرائم الاحتلال في غزة وسط متغيرات الشرق الأوسط، ولا سيما بجانبها العسكري، نجد حركة كبيرة بإعادة التموضع لحاملات الطائرات والبوارج والسسفن الحربية والطائرات ومعدات عسكرية متطورة، وهناك حركة دؤوبة بالمقابل تستثمر بالدبلوماسية، والمشكلة الاخرى هي بالدعم الأمريكي المطلق لهذا الاحتلال بشكل يخالف قواعد القانون الودلي ومقررات الأمم المتحدة، فالكيان الصهيوني مستمر بجرائمه المتكررة، لكن الملاحظ إنه مع كل حديث عن قرب مفاوضات لوقف إطلاق النار يقوم الكيان الصهيوني بمجزرة جديدة مثل ما حصل في مدرسة التابعين وهي تحت حماية الانروا، من الملاحظ بأن الولايات المتحدة الأمريكية غالبا ما تساند موضوعة الاستفراد بالقوة لدى دولة الاحتلال التي أظهرت اشارات سلبية بعد زيادة حجم العدوان الكبير على قطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين المحتلة عندما أرسلت حاملتين طائرات وعززتها بغواصات في البحر المتوسط، وكذا الامر مع بحر العرب والمحيط الهندي، وبالتالي الولايات المتحدة ما زالت هي الداعم والظهير لتجاوز الكيان الصهيوني لكل مقررات الأمم المتحدة وقرارات مجلس الامن التي أقرت بأن الكيان الاسرائيلي هو كيان محتل ومن حق الشعب الفلسطيني أن يدافع عن نفسه، ولهذا علينا ان نذهب على أقل تقدير الى ميثاق الأمم المتحدة بالمادة 51 التي تظهر بأن من حق الشعوب جماعات وافراد بالدفاع عن انفسهم إن وقعت تحت أي عدوان، ولهذا العدوان حاصل على تلك الأراضي، وما زالت لحد الان جرائم القتل العنصرية في الضفة الغربية وجرائم الابادة الجماعية في قطاع غزة التي تشهد سقوط عشرات الشهداء يوميا، بل هناك مجازر أخرى وهي المجاعة وأيضا نقص الأدوية، وحرمان ما يقارب 600 ألف طفل فلسطيني من التعليم، فما زال الشعب الفلسطيني يعاني الامرين، فلم يستطع المجتمع الدولي أن يستنهض همم القانون الدولي والقانون الدولي الانساني ومقررات الأمم المتحدة أو حتى الذهاب الى محكمة العدل الدولية التي لم تستطع حتى مع قراراتها الملزمة لبعض الاطراف، بعملية التفويض للذهاب الى مجلس الأمن حتى تأخذ قراراً ينهي عملية العدوان وإيقاف إطلاق النار بشكل فوري.

ولهذا يعمد نتنياهو (رئيس وزراء الكيان الصهيوني) اللعب على وتر الزمن بمحاولة تحقيق نصرا ما لانقاذه سياسيا لحين انتهاء انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية، وسيبقي على عملية التصعيد وعملية افشال كل المخططات الرامية للسلم، ما لم تستطع الولايات المتحدة  الأمريكية والمجتمع الدولي على أقل تقدير ألمانيا، فرنسا، بريطانيا بالذهاب الى إخضاع الكيان الصهيوني للقوانين المرعية وبأبسط صورة تذهب مع الجانب الإنساني أكثر مما تذهب الى الجانب السياسي، وبالتالي دعم الولايات المتحدة بشكل مفرط يتوازى مع حجم الاجرام الذي يقوم به نتنياهو، ستبقى دوامة العنف والقتل ما لم نستطع أن نلجم سياسة دولة الاحتلال، بقرارات عربية حازمة وصلبة، فعلى سبيل المثال، كان هناك اجتماع طارئ لمجلس الأمن بعد اغتيال السيد اسماعيل هنية في طهران، لكن لم نر هناك اجتماع طارئ للجامعة العربية في حينها، بعملية المؤازرة لردع دولة الاحتلال واخضاعها للقانون، للاسف هناك من يضغط على الاطراف المقاومة وعلى رأسها حماس والجهاد وباقي الفصائل التي تدعم الان الحراك العسكري في فلسطين المحتلة بعملية لتقديم بعض التنازلات متمثلة بالطرفين الوسيطين قطر ومصر لتهدئة الاوضاع والذهاب الى هدنة مستعجلة، ولكن هذا الضغط لم ينتج تنازلا حقيقيا من قبل دولة الاحتلال للوصول الى وقف القتل في غزة.

فرئيس وزراء دولة الاحتلال نتنياهو يبحث عن نصر عسكري وسياسي يمكن أن يحقق او يحسن صورته التي تشوهت عندما فشل في عملية التصدي بعلاقات تقدير الرد القانوني والحق الشرعي للفلسطينين يوم 7 اكتوبر، ولهذا نرى بأن هذا الخذلان ما زال لحد هذه الساعة يمضي بدوامة كبيرة، وهذه الدوامة تؤسس لها وتدفع بها الولايات المتحدة الأمريكية، فضغط نتنياهو بابقاء العمليات العسكرية قائمة اثناء التفاوض وعدم إيقاف اطلاق النار بشكل جزئي اثناء عمليات الاستلام والتسليم، وعدم الالتزام باتفاقية السلام بين مصر والكيان عام 1979 وإتفاقية أوسلو الثانية عام 1995 بالتراجع عن احتلال محور فلاديفيا وهو شريط حدودي إستراتيجي بين غزة ومصر، هو إفشال لأي عملية تهدئة، فإلى الان يعمدون الى قتل أهالي غزة، وما يحدث هناك هو جريمة بحق الإنسانية، حتى يغطي نتنياهو على جرائمه الحالية والسابقة، والمفارقة الأكبر التي تقوم بها الولايات المتحدة، هي دعوتها للحل الانساني والضغط باتجاه الوسطاء لايجاد هدنة بين جميع الاطراف، ولكنها بالمقابل تمضي بتقديم دفعات الدعم المالي والعسكري والتسليحي للكيان، وكان أخرها موافقة الإدارة الأمريكية على تسليم دولة الاحتلال عدة مئات من قنابل MK 83 وهي قنابل مدمرة تزن 500 كلغم، بل هي تدرس إرسال شحنة من قنابل MK 84 التي تزن 1000 كلغم.

فطائرات الولايات المنحدة وقوتها العسكرية تاتي لخرق كل المواثيق والمعهدات الدولية مثل ما حصل في العراق، وتحت ذريعة أمنها القومي تحتل أي بقعة ولا احد يستطيع ان يواجهها اليوم، وأن كان هناك ترقب كبير لما تخفيه عملة الرد الإيراني الذي يراه البعض بانه تأخروإن تأخر الرد الإيراني هو ليس تحضيرا للاستعدادات بالرد عل الكيان وحسب، ولكن قد يكون بانتظار نتائج المفاوضات أو عودة المفاوضات ما بين غزة والكيان الصهيوني وما ستؤول اليه هذه المفاوضات.

مازال الجمر تحت الرماد وقد تلتهب منطقة الشرق الأوسط مجددا إن كانت الضربة الأنتقامية الإيرانية تجاوزت حدود الحفاظ على هيبة سيادتها الى حد تدمير قدرات الكيان الصهيوني العسكرية والصناعية، وهو أمر تتفاده كل القوى الإقليمة والدولية منعا للتصعيد.

ولا يمكن إغفال بأن العراق يقع وسط هذه العاصفة أو ارتدادتها، وإن كان العراق يعمل جاهدا وبشكل مكوكي على زيادة الفعل الدبلوماسي بالتعاون مع الشركاء والاصدقاء للتهدئة السياسية وايجاد زخم للحل الإنساني وتفعيل جهود عقد الهدنة وكان أخرها خطاب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في أروقة الأمم المتحدة وقبلها زيارته الى كل من مصر وتونس.. ولهذا نرى بأن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف يقول "لقد أصبح الشرق الأوسط على شفا حرب إقليمية كبرى، وروسيا تعمل مع جميع الأطراف للحيلولة دون ذلك".

وهنا يبرز حدة الصراع الجيوسياسي بالمنطقة حول الاستحواذ على أهم الفضاءات الحيوية في أهم واخطر منطقة ملتهبة للطاقة، فبين الحرب الروسية الأوكرانية والتصعيد في منطقة الشرق الأوسط، والسعي الحثيث للتنين الصيني لتثبيت حدود فضاءه بالمنطقة عبر مخططات اقتصادية ببعد استراتيحي ينافس الولايات المتحدة بمشاريع تنموية تتضمن تطوير البنى التحتية والاستثمارات في 152 دولة ومنظمة دولية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا—وتسعى كل القوة للحفاظ على الفضاء الحيوي ومراكز قوة بالمنطقة، وللحفاظ على أمنها القومي ومصالحها الاستراتيجية في اهم مراكز الطاقة بالعالم، والمنافس الأكبر لمراكز الطاقة العالمية هي روسيا الاتحادية، والصين، فالحرب القائمة الان في أوكرانيا، واحدة من أهم اسبابها هو تعطيل الدور الروسي فيما يخص مشروع الطاقة وبالطريقة نفسها قد يدخل الطرفين بالصراع بمنطقة الشرق الأوسط.

وقد أنهى ثعلب السياسة الأمريكي الراحل هنري كيسنجر تصريحه عن الحرب القادمة (إن تلك الحرب ستمهد الطريق لإسرائيل) أي أن لديه تصور بقيام دولة "إسرائيل الكبرى"، فهل مازالنا نصم الاذان عن سماع كل تلك الرؤى الأستشرافية التي تعمل عليها السياسة الخارجية الأمريكية، والكيان الصهيوني، أو أننا وحدنا من لا يريد أن يسمع تلك الطبول؟

***

د. أمير الساعدي

كتبت في 28-8-2024

 

ليس " كتاب العراق" من المسيرات او الصواريخ القادرة على اختراق القبه الحديدية، هو اوراق وكلمات، لا اتوانى ضرورة ومن قبيل الواجب ان اضعها امام حزمة الاسباب والعوامل الخارجة عن الادراكية او النطقية، مع مجمل الاحداث المقابلة، ابتداء من ما قد اطلق عليه "الربيع العربي"، دالة انتهاء مفعول الطور الاسقاطي، الايديلوجي المتماهي مع التوهمية الكبرى الاوربية الحداثوية، بعد التحضيرات الابادية للكيانية العراقية الريعية 1990/ 2003، اثر حربين كونيتين وماتبعهما من مسارات احترابية داخلية بلا توقف، مع انتفاء ابسط ممكنات الكيانوية المستعارة، وحلول زمن تسيد الحثالات الريعيه، وصولا لهبة الاول من تشرين 2019 اللاارضوية، العتبة الاخيرة الغارقة بدمها، بعد ثورات اللاارضوية السابقة غير الناطقة، الاولى ثورة العشرين، والثانيه في 14 تموز 1958، في القرن الماضي، وصولا الى الحد الفاصل التاريخي الراهن المنتظر على مر التاريخ البشري، ساعة الاقتراب من النطقية العظمى.

على مشارف "طوفان الاقصى" كانت الضرورة الانقلابية الفاصلة تعمل، من جهه داخل الكيانيه المتحولة الى قاعدة فبركة كونيه ابراهيمية، تحت وقع المسارات الجاري توليفها اسرائليا/ ريعيا/ امريكيا، وقد بلغت لحظة التنفيذ القهري بالقوة الغاشمة الابادية التكنولوجية، عن طريق تغيير حال الشرق الاوسط بما يتناسب وغلبة النموذجية "الابراهيمة الترامبو صهيونيه "، حيث الالغاء الكلي لمتبقيات التاريخ النهري النيلي الرافديني التاريخي التاسيسي، وما قدبدا انه معتمل داخل الطرف الفسطيني الواقف على حافة الشطب الكلي، ماقد جعله يبادر استباقا الى اشعال الفتيل قبل الاوان، وقبل اكتمال التحضير الاسرائيلي الامريكي للهجوم المنتظر، والمحتم لاجل اعادة صياغة الشرق متوسطية ريعيا، بالفبركة، توهميا تزويريا "ابراهيميا".

بالمقابل وبالصدفة، ربما البحته، او صدوعا لحكم قانون غير مدرك بعد، مترابط حكما مع حركة اليات التاريخ اللاارضوي، صدر بعد اكثر من ست سنوات من الاعتكاف والعزلة، سبقها اكثر من نصف قرن من التامل و البحث، الى ان حلت ساعة التنفيذ العملي " كتاب العراق"(3) او بالاحرى الحرف الاول من حروف النطقية المؤجلة منذ بدايات التاريخ وتبلور الظاهرة المجتمعية في ارض سومر، مبتدء ومنتهى التاريخ البشري الانسايواني، المنطوي على الذهاب الى "الانسان" بعد "الانسايوان"، الطور الانتقالي بين الحيوان و"الانسان"، والذي يبدا مع الوثبة العقلية الاولى، بعد الغلبة الاحادية الحيوانيه الكاسحه الطويلة، الى حين الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، وتجلي الازدواج (عقل / جسد) حين ينفتح الافق على الذهاب نحو وثبة عقلية ثانيه كبرى ابعد ،اخر محطاتها المجتمعية، بعد عدة محطات آخرها "الصيد واللقاط"، قبل الانتقال الى "التجمع + انتاج الغذاء"، وغايته النهائية، الاستقلال والتحرر من وطاة الجسدية، ومتبقيات الحيوانيه المستمرة عالقة بالعقل، ومتحكمه بعمله كحصيلة لتاريخ المجتمعات ونهايته. الامر الغائب عن منظور الجسدية الاحادية التي ترى في العقل ضمن وثبته الحالية النوعية، منتهى وغاية، وكمال لازم للجسد، وملحق به خضوعا لمنطق الاحادية، بالضد من الحقيقة الازدواجية غير المدركة (العقل / جسدية).

تتوافق اليوم معطيات الانتقالية الكونية الكبرى واقعا معاشا، وازمة كبرى لاحل لها، تشمل الكيانوية والدولة، وعملية الانتاج اجمالا، بناء على المسار الذاهب بالاله من المصنعية الاوربية الاولى التي اندرست، الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه التي تاخذ هي الاخرى بالانتهاء كممكن واحتمالية فعالية، تغدو متصادمة مع اشتراطاتها النوعية مجتمعيا، مع استمرار تدني الوسائل المتاحة والمستعملة من قبل الكائن البشري اعتيادا وقصورا عقليا، بينما تفاقمت الى الحد الاقصى التناقضات مابين الوسائل البشرية المجتمعية الاحادية المتاخرة الماخوذه من الزمن اليدوي محسنة، واهمها الكيانيه والقومية، واشكال الادارة والتنظيم الحياتي كما ممثل في الدول، من دون اي تغيير متناسب مع طبيعة الانتقال النوعي الالي المستجد وحقيقته المتجاوزة للمجتمعية الاحادية الحاجاتيه الجسدية، اذ اكتفت توهمية الغرب الحداثوية بالليبراليات والديمقراطية التي لاتمنع دولها من منع غيرها من التحرر او الالتحاق بالعصر بلا هيمنه، هذا بينما الطاريء الجديد الالي، وان بصيغته وشكل فعاليته الاولى المصنعية، كان يقتضي الانتقال الفوري الى "الدولة الكونية ووحدة الجنس البشري"، المطلب وحقيقة العصر الاولى والاكبر، المضاعة على حساب انتقال المجتمعات ضرورة وذهابها الى الطور المنتظر وصار واقعا/ على المستوى المادي /من تاريخها.

الالة تتناقض كليا وتزيل من الوجود تباعا، كل اشكال المجتمعيات الجسدوية الارضوية الحاجاتية، وهو ماقد حل باوربا وماسوغ لاحقا الانتقال لقيادة امريكا شبه المجتمعية المفقسه خارج رحم التاريخ واستعارتها الرسالوية الكونية التاريخيه السومرية، بصيغ الجشع الانتاجوي الراسمالي وان بلا طبقية، وقد انتقلت بدون ارادة منها الى الانتاجية المتعدية للكيانيه بالعولمه، النافية للدول والوطنيات، لتتحول تحت وطاة التازم الوجودي والاقتصادي الى فرض النموذجية المنتهية الصلاحية، بالقوة وبالتكنولوجيا الموظفة بالدرجة الاولى عسكريا لتعزيز قدرات اخضاع الاخر، بالسحق مع مفاعيل الذكاء الاصطناعي، لاسباب تاخرية "رجعية" مكررة.

ان اوربا كما امريكا اليوم هما قوتان رجعيتان، توظفان الوسائل الالية المستجدة لتكريس اشكال من الحياة والنمطية المعاشية ولى زمنها، تعود الى الطور السابق المنقضي، والذي لم يعد صالحا اليوم بعد الانتقالة الآلية، وتلعب القصورية العقلية الموروثة والمستمر في هذا المجال دورا اساسا، فالعجز عن ادراك الحقيقة المجتمعية الاصل والابتدائية الازدواجية (ارضوية / لاارضوية)، والبقاء تحت وطاة المنظور الاحادي مع كل الادعائية الحداثية والعلموية، ادخلاالبشرية منذ انبجاس الالة الى اليوم، تحت وطاة الاحتدامية الاصطراعية الاحترابية بلا حل، تزايدت مع استمرارها، الافتراقية بين فعل وعمل وسيلة الانتاج المستجدة وتحولاتها، واشكال التفاعل البشري المجتمعي معها، فظلت هذه محكومة بالاحرى الى سطوة الاحالة الى ماسبق محسنا بالقوة والغلبة، بحيث صار هذا احد اهم جوانب محركات التاريخ الحاضر تحت فعل الايهامية الاساس الغربية القاصرة المعروفة بالحداثية، وقوة مفاعيل المصلحة الذاتيه / الوطنيه القومية والطبقية الجشعه.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

من أشهر عديدة ونجوم الإعلام ومُثيرو الرُّعب والجَهل والغَباء وتدمير نفسيّة الإنسان العربي وشخصيّته وشعوره بالأمان، من فاقدي الضمير والشعور بالوطنية والانتماء وحتى الإنسانيّة من منجمين دجّالين تُلاحقهم علامات سؤال، وصحفيين يفتقدون للمسؤوليّة ووسائل إعلام رخيصة يخصّونهم بالمقابلات الطويلة التي فيها ينشرون الفزَعَ بين الناس بتنبؤاتهم الغريبة الرّهيبة المُحذّرة بقرب يوم الدين ودَمار البلاد وموت الكثيرين. حتى بات الكثيرون يتمنّون الموتَ القريب على اليوم الرّهيب.

وكما البصّارات اللاتي عرفناهن في قرانا تَمسِكْن بفنجان القهوة تُدرنه وتَقلبْنَه بين أصابعهن وتُؤكدّن للمنتظرة كلامَها، بأّنّ سَفْرة طويلة تنتظرها، ومَبلغ مال سيكون من حظها وهناك مَنْ تتربَّص بها لتُؤذيها. فتفرح المسكينة بالسَّفْرة والمال وتبدأ بالتّفكير والبحث عن الحيّة التي تتربّص بها، فتشك بالقريبة أو الجارة أو التي لا تستلطفها، ويبدأ إطلاق التّهم والتّشويه، وقد تؤدي لخلافات ونزاعات. والبصّارة المسكينة تقول: وأنا مالي هذا ما رأيته في الفنجان.

ولا يختلف وضعنا اليوم مع ليلى عبد اللطيف وميشال حايك، النّجمين اللامعَين على محطات التّواصل، والرُّؤى النّبوئيّة التي يدّعيانها وأوحيَت لهما بالزلازل والكوارث والموت والتّدمير والتّهجير ومَحو بلدان ودول عن وجه الأرض، ونصيحة الناس بالهرب وترك البيوت والبلدان، حتى تتساقط، في بعض الحالات، الدموع من عينيهما أسَفا على ما سيُصيب الناس، وحتى يثبتا براءتهما يؤكدان أنَّ هذا ما أوحي لهما به وشاهداه في الحلم ولم يأتيا بشيء من عندهما. وقبل فترة انضم للمنجمَين الأشهر المُنجّم الجديد الأريب محمد علي الحسيني.

ومثل هؤلاء المُنجّمين الذين يُدْخِلون الناسَ في أنفاق مُظلمة لا خروج منها، ولا من مُنقذ، ولا من سامع لاستغاثاتهم. نلتقي ببعض شيوخ ينشرون الجَهل والغَباء بين المستمعين لهم في المقابلات الكثيرة التي يظهرون فيها.

فمثلا يقول أحدهم شارحا المُهمّة التي أوكلها الله بنا نحن العرب:

 "بعض الناس يريدون أنْ نصنعَ الطيارات والسيّارات والقطارات ثم نُنافس أوروبا وأميركا وما لهذا خُلقنا، إن الله لمّا خَلقَنا جعل منّا شعوبا وقبائل، جعل منّا أصحابَ فكر وهُداة وهُم العرب، وجعل من الآخرين تلاميذا يهتدون بهُدانا وعليهم العمل، فيحصل التّكامل ما بين فكرنا وعملهم فيَعْمُر الكَوْن بشكل عام"

وشيخ آخر يُعيّشُنا بنعيم الجنّة ويشدّنا إليها شدّا بقوله إنه زار الجنة واطّلع على كلّ ما فيها ممّا يرغب فيه الإنسان فيحدّثنا قائلا:

 " كل واحد له أربعة أنهار مُخصّصة له في الجنة، نهر من لبن ونهر من ماء ونهر من عسل ونهر من خمر، لن يتغيّروا ولا يتَلَوّثوا ابدا على مدى العصور والأزمان أبدا، ويجْروا في غير أخدود، ودي المعجزة، مش حُفْرة وهم مَلْيينها لَأْ، وهم على وِشّ الأرض، مَتِنْدَلقْش المَيّ كدَه ولّا كده ولا العَسَل ولا الخمر ولا أيّ حاجة.

 ويقول للدكتور عمر المُضيف له في اللقاء: مثلا أنا عايز أزور أخوي الدكتور عمر، وأنا قاعد مثلا في جنّات عدن والدكتور عمر في الفردوس الأعلى أعلى منّي، في بيني وبينك مليارات السنين، مجرّد فقط أنْ أنوي، فجأة المَلَك ياخُدْني وألاقي نفسي عند حضرتك في ثوان في غَمضة عين.  بس أنا اتعَوَدْت  بَغَيَّرْش المَيَّ بتاعتي، تْلاقي الأنهار بتاعتي  تمشي ورايا والغلمان ورايا يْشَرِّبوني، وحور العين مَعايا، وكل الخَدم وحَبايبي كلهم وراي، وأنا رايح أزور حضرتك، تخيَّل في مُلك وفي نعيم أكثر من كدَه؟

وهذه عيّنات قليلة ممّا تبثُّه وسائلُ التّواصل المُختلفة، ويُقدّمه لنا الصحفيّون الكبار؟.

وسؤالي هو:

أين السلطة المُراقبةُ في كلّ مؤسسة؟ وأين أجهزةُ الدولة المسؤولة عن حماية المواطنين من الدّجالين والعاملين على إفزاع الناس وتدمير نفسيّاتهم ووجودهم؟

وأين المثقفون والأدباءُ والشعراء والمفكرون؟ لماذا يصمتُ معظمُهم، ولا يتصدّون لمثل هؤلاء، ويثيرون الرأيَ العام وحتى المسؤولين ضدّهم؟

فمكانُ هؤلاء الدّجالين الطبيعي في البلد الطبيعي الذي عنده القوانين التي ترعى وتهتمُّ وتحمي رعاياها والحاكم الذي يسهرُ على أمْن ومصالح وتقدّم مواطنيه، مكان مثل هؤلاء الدّجالين وراء القضبان في السجون لسنوات طويلة كفعل السلطان العثماني محمد الرابع (1648-1687) بمُدّع أنّه المسيح المُنتَظر حيث سجنه وقال له إن كنتَ المسيح المُنتظر كما تدّعي أطلق نفسَك من السجن.

***

د. نبيه القاسم

اخطر مايواكب الفعل الابادي الاسرائيلي المستمر منذ عام، غياب السردية المقابلة لتلك المصاغة وفق التوهمية الغربية الحداثية، والتماهي الببغاوي الايديلوجي معها، فلا منطقة الشرق المتوسطي، ولا اوربا، متوفر النظر لهما بناء على الاليات الذاتيه الشرق متوسطية ومسارات عودة مفاعيل الانحطاطية منذ الستينات الى الوقت الحاضر، في الوقت الذي حلت فيه الاليات الذاتيه على انقاض التوهمية الغربية، يوم صار لازما مع انه غير متاح،  الانتفاض على المنظور المستعار الاوربي الحداثي وتوهميته الالية الابتدائية، بعد ان دخلت المنطقة طورا جديدا من تاريخها، يمكن نسبته الى نوع من "عودة مفاعيل  ديناميات الانحطاطية التاريخيه" وقد غدت غالبة من جديد بعد انهيار المشاريع الحداثوية الايديلوجية، وخروجها من دائرة الفعل، بما في ذلك الايهامي منه .

وليس مانشير اليه بالمظهر العارض او العادي، فالمنطقة الشرق متوسطية عاشت تاريخها الاطول بين التواريخ المجتمعية البشرية بلا وعي للذاتيه، ناهيك عن ادراكها، فاستمرت لالاف السنين تعبر عن ذاتها كديناميه غير ناطقه، الامر المناط الى حالة  ومستوى ادراكية العقل البشري بالعموم، وقصوريته الابتدائية المستمرة الى اليوم بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها الفعلية، وعلى وجه التحديد بما خص المجتمعية اللاارضوية، ومن ثم الازدواج النمطي النوعي المجتمعي، ماقد جعل العقل محكوما لممكنات الادراكية القاصرة الارضوية من الظاهرة الوجودية المجتمعية، وهو ماقد تجلى باعلى واكمل صيغه اليوم مع الانتقال الالي والنهوض الحداثي الاوربي، مع ماهو  محكوم به من قصورية اصلية ظلت مستمرة، اهم وجوهها ومناحي الدلالة عليها،  العجز عن ادراك الخاصيات المجتمعية ازدواجا اصطراعيا بما هي مجتمعات (ارضوية/ لاارضوية). ومايترتب على مثل هذا الانتقال الادراكي، من احتمالية  انقلابية آلية اخرى ضرورية على مستوى الوعي، غير تلك الجاري التعرف عليها  والمستمرة غالبه الى اليوم قصورا، بما يضع زمن الالة المستجد وعيا امام لحظة اولى توهمية غربية ارضوية، تكرر بوسائل اخرى ماقبلها، وصولا للحظة الادراكية  الاخرى اللاارضوية المنتظرة، والمختلفة جملة وتفصيلا.

ذلك يعني ان الالة حين  تظهر فان البشرية تقف  امام رؤيتين  وتفاعليتين، اولى جاهزة مع انها ليست منها ولا تتوافق مع منطوياتها التاريخيه، واخرى تصبح من يومها على مشارف الحضور  بانتظار حصيلة التفاعلية المستجده الاقرب للافنائية النوعية ونتائجها، ولهذا يحدث ان الانبعاثية السومرية الحديثة الثالثة، بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمة، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، تبدا اليوم في وقت مقارب ان لم يكن اسبق على بدء حضور الاله على الطرف المتوسطي الاخر، مع القرن السادس عشر في ارض سومر ذاتها، بظهور "اتحاد قبائل المنتفك"،  قبل الحقبة الانتظارية النجفية، ومايلحق بهما من طور اخير ايديلوجي ايهامي، ينتهي بالافنائية المباشرة الساحقة من قبل الكيانيه المفقسة خارج الرحم التاريخي، بينما حال اللانطقية مايزال غالبا، ووعي الذاتية غير مدرك مايزال، في حين تطغى، تراكمات وخردة الفترات المتعاقبة  القبلية، والانتظارية النجفية، والايديلوجية، ابان القرون الاربعه المنصرمه، والمنتهية بسحق الكيانوية الايديلوجية الريعيه المفبركة، لتصبح ارض الازدواج واللاارضوية على حافة الفناء او وعي الذاتيه ادراكا، بعد وعيها الحدسي الاول النبوي المنتهي الصلاحية والفعالية بحكم تبدل الطور التاريخي النوعي المجتمعي.

عاشت البشرية على مدى تاريخها المجتمعي اليدوي "احادية" الرؤية، ارضوية جسدوية حاجاتيه، ظلت تحول دون ارتقاء العقل الى مستوى الكينونه المجتمعية الازدواجية، وهو ماقد استمر بصيغ اخرى ابان الحقبة الاولى الافتتاحية من الانتقال البشري الى الالية، بانتظار التفاعلية الازدواجية المغفلة والمؤجلة وصولا الى النطقية "اللاارضوية"، حيث الانقلاب التفكري الوجودي الشامل، والارتقاء العقلي المنتظر بعد الوثبة الاولى المرافقة للانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، بما هي مرحلة وطور اول عقلي، ذاهب الى الاعقال الازدواجي الاعلى التحولي، ناف للبدائية  الخاضعة للترسبات اليدوية الارضوية كما تتجلى ابان  بداية التحول الالي اوربيا / حداثيا توهميا.

وعلية فان اي منظور مواكب للآلية والانتقال من اليدوية، لم تعرفه البشرية الى اللحظة الراهنه بما هو انقلاب تحولي بالطبيعة، يحاكي اشتراطات الانتقال من الجسدية الى العقلية بعد انتهاء صلاحية وضرورة الاولى، وهو مايوافق الانتقالية من المجتمعية الاحادية الطبقية الاوربية الى شبه المجتمعية الالية بلا  ماض ولا طبقات، تلك المولودة خارج رحم التاريخ ومفاعيله، لتصبح عند المنطلق، محكومة للرؤية اللاارضوية الاولى "سنبني مدينة على جبل"(1)* مع الرسالية المتوهمه، وصولا الى التازم الاقصى مع بلوغ الكيانوية الامبراطورية كما قبلها الوطنيه/ القومية الاوربية، لحظة اللافعالية، قبل الانتقال الى فوضى عارمة مسبوقة بالغلبة الفاشية الابادية للاخر، وهو ماقد بدا يخيم بظله على الكوكب الارضي.

تتغير هنا مكانة ودور اسرائيل، من كونها فبركة كيانوية مناقضة لجذرها الابراهيمي الكوني، الى  نموذجية ترقى لمستوى الكينونه في المجتمع المفقس خارج رحم التاريخ، ومن هنا تاتي عند نهاية المطاف "الابراهيمه الترامبوصهيونيه" مع اتفاقيات السلام الابراهيمي والحاق "دول الابار"  الطامحه للحلول محل الخاصية الشرق متوسطية التاريخيه لمواضع ودول الانهار، وماقد صار مشروعا توهميا"حداثيا" مع  "برج زايد" محل "برج بابل"، وقد  غدت الشرق متوسطية التاريخيه، مطمحا تشكليا  ريعيا، بعد سحق العراق وكيانيته، كاخر عقبه، كي نصبح امام ثلاثية جديده خارجة عن الكينونه الارضوية المعتادة، مابين كيانيه غربية ابراهيمية / ديمقراطية صهيونية، ومثلها شبه مجتمعية فكرة والة امريكية، وجزء مستجد من عالم شرق متوسطي عربي، اوجده الريع النفطي، مفبرك بلا تاريخ هو الاخر، مايلحق الجميع او الثلاثة شكلا بالكونية الابراهيمة التاريخيه الحدسية المنتهية،   مع حلول الغلبة اللاارضوية ماديا، واقتراب التحقق والغلبة النهائية بصيغتها التعبيرية التحولية الادراكية   العليّة بدل النبوية الحدسية في ارضها.

انقلب العالم وتغير كليا  وهو يذهب من الكيانوية الاوربية الاولى الالية (الدولة/ الامه)، الى امبراطورية  الفكرة الرسالية المفقسة خارج رحم التاريخ، الى "سادة العالم الجدد" (2) المتحررين من وطاة الوطنيه والقومية، والذين يحضرون كاحتمالية قابلة لالغاء كل اشكال القيادة او الزعامة الكوكبية الكيانيه،  القطبية منها او الافرادية، او التعددية،  وبالذات الامريكيه بحكم الواقع العالمي كما هوقائم، لنصبح امام واقعة اساس، مغفلة ومناقضة للانقلاب الالي باعتباره لحظة انتهاء صلاحية، وليس تكريس مفاهيم الكيانوية الوطنية، فالالة قوة وعنصر مضاد للكيانوية اليدوية التاريخيه، وللدولة بصيغها المتعارف عليها، وهي كونية تلغي المحلوية، كما تلغي الارضوية الحاجاتيه الموروثة من طور وزمن انتهى.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

........................

(*) الهوامش مع الحلقة الاخيرة.

 

يزداد مصير العالم قتامة، ويزداد معه الأمل انحسارا، وتزداد بإزاء كل ذلك إسرائيل طغيانا. كلها أمشاج تزعج البشرية اليوم على هذا الكوكب الأرضي المتفجر، وتدفعه إلى الاصطلاء بعذابات الحروب التي لا تنتهي، ومضايق الأوبئة والزلازل والفياضانات والكوارث الطبيعية الأخرى.

قبل أيام حلت ذكرى 7 أكتوبر التي تؤرخ لأخطر عملية للمقاومة الفلسطينية عبر تاريخها النضالي المستميت، من أجل التحرر والانعتاق من الاحتلال الكياني المغتصب، حيث بصمت عملية "طوفان الأقصى"، بأياديها العريضة والممتدة في العقل والوجدان العربيين، بأطراف خيوطها المتشابكة، ومجاهلها الداكنة المقترة، وجها مشرقا جديدا للرفض وإعادة القضية إلى الواجهة، وتصحيح مسار طويل مليء بالذل والجحود والخذلان والتكاسل.

إن وعي الشعوب العربية بهذا التاريخ المحفور، بمداد الدماء الزكية، التي سقطت خلال الغزو الصهيوأمريكي على غزة والضفة الغربية وبعدهما لبنان، يحايث في العمق، انكشاف نظريات المؤامرة وانجلاء أكاذيب الديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان والحداثة التنويرية، وما إليها من مصطلحات التلفيق والاستغفال.

ويصح بهذا الاعتبار، أن تكون ذكرى 7 أكتوبر المجيد، درسا بليغا في الجغرافيا السياسية وعلومها واستراتيجياتها، بقضها وقضيضها. فقد أعادت لحمة التضامن الجماهيري العربي والإسلامي والعالمي، جماهيريا وشعبيا، وأسرجت للضمائر الحرة الحية، مراكب الإنسانية والحرية والكرامة ومقاومة الظلم (الاحتلال)، بكل الوسائل المشروعة التي يكفلها القانون الدولي والعدالة الإنسانية.

إن صحوة الضمير العالمي، بعد حدث 7 أكتوبر، وما لحقه من مقتلة في غزة لا يجد المتتبع لسيرورتها المتلاحقة، وطيلة عام كامل ونيف سوى توصيفها بما لا يمكن لمدركاتنا الحسية والبصرية والنفسية، أن تستنبضه من قواميس "التقتيل" و"سفك الدماء" و"الإبادة" و"الحرق" و"التدمير" و"الفتك" .. وهي صحوة، عرت عن حقيقة إسرائيل والغرب، وما يخفيانه من قبح وشناعة وجنون غير مسبوقة في تاريخ الحروب البشرية على الإطلاق.

في ال(11) من شهر أكتوبر الجاري، تابعت وبإمعان، أطوار ندوة وطنية عقدت في مدينة مراكش، تحت عنوان “القضية الفلسطينية والقضاء الدولي”، والتي نظمها كل من التنسيقية المغربية أطباء من أجل فلسطين، وتنسيقية محاميات ومحامين لدعم فلسطين والجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع، شارك في مقاربة موضوعها المذكور، الأساتذة النقيب عبد الرحيم الجامعي والدكتور يوسف البحيري وأحمد ويحمان وعبد الصمد فتحي، أثاروا جميعهم، مشكلة عزلة الأنظمة العربية، بين شعوبها وأخلاق التاريخ. بل إن بعض المتدخلين، أسرف في تصريف لبوسات التدجين الإمبريالي المتحكم في سلطة العالم، ضمن هذه المشكلة، التي تتساوق وجذور النفاق النظامي العربي، عبر حقبات زمنية لم تنقطع فيها مضايق الخيانة والاصطفاف خلف الأعداء وتسليم مفاتيح العروش والسلطنات لأولياء النعم وقارونات السلب والنهب واتفاقيات الذل والهوان.

ولا أدل على هذه الصيرورات المتواصلة من الردة الأخلاقية، في النفوس العربية، من استحضار البدايات الأولى من أزمة الخلافة في دار السقيفة، إلى موقعة صفين الشهيرة، وبعدها انقلابات الخلافات الأموية والعباسية، إلى هجومات التثار الدموية، والخلافة بالاندلس، ومعارك الصليبيين ضد الثغور الإسلامية، وبعدها الاستعمارات الحديثة، والخريطة ممتدة لم تنته بعد؟.

فهل استرخصت الأنظمة الشمولية العربية، استحقاقات تاريخ بنائها القائم على تفتيت النسيج الاجتماعي والسياسي، انكماشها في الحدود الدنيا لتدبيرها المراحل السياسية التي كرست انحطاطا عقلانيا لا مثيل له في البشاعة والضعة وسوء الوبال؟.

يذهب الفيلسوف السياسي الفرنسي، ألكسيس دي توكفيل، إلى أن الديمقراطية تحقق ما لا تستطيع حتى أكثر الحكومات مهارة تحقيقه. فهي تنشر في جميع أنحاء المجتمع نشاطًا لا يعرف الكلل، وقوة وفيرة، وطاقة لا تنبعث إلا بها، ويمكن للديمقراطية تحقيق المعجزات إذا ما توافر لها الشيء اليسير من الظروف المواتية.

لكن، الديمقراطية كشفت عورات الأنظمة، وجعلتها مهزوزة أمام شعوبها التي تحكمها. على الرغم من تأخر التأثيرات الجانبية الأخرى، التي أهرقت ما تبقى من انفضاح الطغمة، وتبعيتها للنظام العولمي الآمر، مجردة من أي أدوات لتعزيز مكانتها الاعتبارية وشرعيتها في الاقتدار بمسؤولية السهر على كرامة شعوبها وأمنها وسلامة أراضيه.

وفي بؤرة هذه الوضعية الكارثية الضجرة، وعلى ضوء ما يمارس الآن في الشرق الأوسط، من التقتيل والإبادة والميز العنصري والتهجير القسري، في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان، تزداد وضعيات هذه الأنظمة قتامة وبؤسا، بعد أن استباحت الكلبية الصهيوأمريكية ما فاق كل تصور، مما تتمجنه الضمائر وترفضه النفوس وتنبذه الأعراف الإنسانية. فأضحت هذه الأنظمة، وبالا ثقيلا على شعوبها وتاريخه، ومغرما مفارقا لكوابيس استمراريتها ونفوقها في تآويل الفجاجة والركاكة الحضارية المزيفة.

فهل تعيد أسئلة الديمقراطية، ترتيب أوراقها المشتتة، بعد جنوحها عن طريق الربيع العربي غير المأسوف عليه؟ أم يعاد تدويرها بحسب الحاجيات الجديدة المستجدة، بعد نكسة ما بعد 7 أكتوبر، التي أفرغت السياسة العربية من كل قلق مفهومي أو انتقال عقلاني باتجاه فهم لعالم مليء بالقبح والشناعة والابتذال؟.

***

د مصطَفَى غَلْمَان

شهد الدينار العراقي أضطرابات في ديناميكية أستقرارهِ الوطني مع غريمه المستديم الدولار الأمريكي، ونحن في نهايات العام 2024 حيث وصل في السوق الموازي صعودا مقلقا غير مرحب به حيث تخطا حاجز ال150 ألف دينار مقابل 100 دولار أمريكي وحسب أعتقاد خبراء الأقتصاد أنهُ في تصاعد مستمر وربما يصل إلى الرقم المرعب والمخيف ألـ(200) ألف دينارعراقي وهو أحتمال وارد طالما هو ألعوبة بيد المضاربين وحيتان تجار العملة، وكان بيان الحكومة الأتحادية أيجابي بتبني رئيس الوزراء السوداني يوم أمس الأثنين 7-10- بضرورة معالجة ظاهرة هبوط الدينار العراقي ومحاسبة المضاربين وتجار العملة، وصرح للصحافة والأعلام: بأن موقف الحكومة أيجابي وجاد في المعالجة و(لكن) المشكلة في كمية ضخامة النقد لدى المضاربين؟.

العوامل الأقتصادية والسياسية المؤثرة على صرف الدينار العراقي!؟:

- تعويم العملة المحلية: وهي من الشروط التعسفية لصندوق النقد الدولي بدل أن ينصح في معالجة حدوث العجز في الميزانية فهو يلجأ إلى أخبث الطرق الذي هو تعويم العملة والذي يعني جعل سعر الصرف محرراً بالكامل عن سلطة الدولة والبنك المركزي، حينها يتحكم بهِ المضاربون وحيتان العملة الأجنبية مما يفرز أرتباكا وفوضى في السوق المحلية.

- ظاهرة غسيل الأموال Mony Laudering الشائعة اليومية في مزاد العملة للبنك المركزي، إن الأصطلاح عصري بديل للأقتصاد الخفي أو الأقتصاديات السوداء أو أقتصاديات الظل فهي الأموال المكتسبة الغير مشروعة، مصدرها الرشوة والأختلاس والغش التجاري وتزوير النقود وتهريب النفط وتهريب الآثار وتهريب البشر والأطفال والأتجار بالأعضاء البشرية وريعية نوادي القمار (الوار) والدعارة وتصنيع النباتات المخدرة وأختطاف وأحتجازالأشخاص (تخلط) بأموال مشروعة لأخفاء مصدرها الحرام والخروج من المساءلة القانونية بعد تظليل الجهات الأمنية.

- السياسات النقدية: إن قرارات البنك المركزي العراقي بشأن السياسات النقدية وأسعار الفائدة لها تأثير كبير على قيمة الدينار العراقي إن أي تغيير في هذه السياسات يمكن أن يؤثر إما بزيادة أو خفض قيمة الدينار.

- أسعار النفط: العراق يعتمد بشكل كبيرعلى صادرات النفط لتمويل أقتصاده، فأي تذبذب في أسعار النفط العالمية يؤثر بشكل مباشر على أستقرار السوق  العراقي.

- الوضع السياسي والأمني: الأستقرار السياسي والأمني يلعبُ دوراً كبيراً في تحديد الثقة في الأقتصاد العراقي وأي توترات وصراعات تؤثر سلباً على قيمة الدينار.

- التضخم: إذا كان هناك تضخم مرتفع في الأقتصاد العراقي فسيؤدي إلى تآكل القوة الشرائية للدينار مما قد يؤدي إلى أنخفاض قيمتهُ مقابل العملات الأخرى، وتكون فاتورتهُ ثقيلة على المواطن العراقي بأرتفاع فوضوي لأسعار السلع والخدمات.

- الطلب والعرض على العملة وخاصة الدول المرتبطة بالدولار مثل العراق، إذا كان هناك طلب كبير على الدولار الأمريكي فقد يؤدي ذلك إلى أنخفاض قيمة الدينار العراقي وبالعكس.

- نحن مثقلون بمسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مسؤولية وطنية لمواجهة البعد الأنساني المغيّبْ اليوم، بفضل تدني الوعي الطبقي وأشاعة الفئوية والهوياتية التي أرّقتْ تقاطعات وجودنا وتلك منسلخة من موجات الفوضى الغائصة في مستنقع نظريات التفكك والأنقسام والفوضى التدميرية بقيادة البعض من أعداء المسيرة الديمقراطية الجديدة من سماسرة حيتان العملات الأجنبية والمضاربين

- أن أعلان الحرب على الفساد المالي ولو جاء متأخرا ويبقى الحضورأفضل من الغياب، وأن الفساد المالي والأداري هو سبب كل الأشكالات المتفاقمة على المجتمع وسبب مباشر في فشل المشاريع التنموية وظهور تداعيات الفساد الأداري والمالي ومردوداتها السلبية والأستلابية على عموم المجتمع العراقي، وبالتأكيد أن هذه الظواهر الأقتصادية المعيبة تؤدي حتماً إلى الفوضى السياسية والتي سببها ذاتوية تدفع الفرد للتقمّص بالنرجسية، وربما عن حب الظهور وأسقاط الآخرين أو ربما وربما لدعوات أنتخابية فكلها تؤدي إلى غياب الموضوعية وبالتالي نواجه كارثة حالة تدهور قيمة الدينار العراقي الذي يستلب منا فاتورة غلا ء الأسعارفي السوق المحلية.

- ولآن الحكومات المتعاقبة على السلطة بعد 2004 ولحد اليوم (غير) جادة في مكافحة الفساد الأداري ونهب المال العام لذا أصبح ينخرعظم المجتمع العراقي وأنتشرت تلك الظاهرة الطفيلية لترقى أن تكون شبحاً مخيفاً بهيئة مؤسسات يديرها مافيات أحرقت الأخضر فالأخضر ثُمّ اليابس، وعجز في ميزانية الدولة بمقدار 37 ملياردولار ناهيك عن أرتهان البلد بديون خارجية بسبب الفساد الأداري ونهب المال العام، مما أضطرّ العراق – وهي الكارثة الكبرى – أن يلتجأ إلى (صندوق النقد الدولي) في الأستدانة لسد العجز ووقوع العراق ضمن هذا الأختبوط الرأسمالي بدفع الحكومة لنهج فوضوي أرتجالي غير مدروس من الناحية الأقتصادية، مما يؤدي إلى تغول الدولار الأمريكي.

- وأن الجميع متفق اليوم حول ضعف تدابير سير المالية العامة في بلادنا حيث التردي في الأداء وغياب الشفافية ومواكبة المعلوماتية الرقمية المعصرنة، وجمود وتخلف في سن القوانين الداعمة لثقافة النهوض والألتحاق بالدول المتقدمة بل تقادم في تطبيق قوانين قديمة ربما ترجع لعهد مجلس قيادة الثورة المنحل، ولكن مع هذا وهذه أني لستُ سوداوياً في مبادرة مكافحة الفساد صحيح أنها ليست سهلة بيد أنها ليست صعبة فيما أذا تجاوزنا الخطوط الهوياتية والفئوية ووحدنا الخطاب السياسي ووجهنا بوصلتنا حسب ثقافة المواطنة والولاء المطلق لتربة العراق وأستحضار أرواح شهداء أمتنا الذين ضحوا بالجود بالدم من أجل الكلمة الحرة ودفع الظلم والشر عن وطننا!؟

إذاً ما الحل؟! وكيف نقرأ مستقبل حضرة الدينارالعراقي (قُدس سرهُ)!؟

من الصعب التنبؤ بدقة أتجاه الدينار العراقي وهناك بعض الحلول المتاحة التي قد تشير إلى تحسن مستقبلي محتمل، وإذا تفهم الجميع ثقافة (المواطنة) بأن المواطن هو مصدر المال العام لكونه المشمول بألأقتطاع الضريبي فهو يعتبر محور التنمية ومحرك التأريخ فيجب الأرتباط بهِ وحمايته والعمل على خدمته لتوفير العيش الكريم لهُ، أنطلاقا من هذه الديباجة المتواضعة أطرح بعض هذه الآراء التي تعلمتها من أساتذتي الكبار في موضوع الأقتصاد السياسي:

- إذا تمكن العراق من تحقيق أستقرار سياسي وأمني أفضل، وتحقيق أصلاحات أقتصادية مستدامة فقد تؤدي ذلك إلى دعم الدينار.

- تحسين العلاقات الأقتصادية والتجارية مع الدول الأخرى وزيادة الأستثمارات الأجنبية قد تعزز قيمة الدينار العراقي.

- أستمرار أرتفاع أسعار النفط قد يعطي دفعة أيجابية للأقتصاد العراقي وبالتالي دعم العملة المحلية.

-أصلاح المالية العامة اليوم في وطننا العراق ننظر أليها ضمن سياقات تأريخية وسياسية وأجتماعية في عهدها الديمقراطي الجديد، فنكون ملزمين في أستثمار الجو الديمقرطي وحرياته في رسم هوية عراقية تشخصن تأريخها وقيمها السماوية والوضعية فتكون المحصّلة رسم هوية تحكمها فلسفة جديدة نسيجها العقلانية والتحديث الهادف والموضوعي، فالأنتفاضات والثورات غالباً ما كانت تحصل بسبب ضعف أو سوء تدبير مالية الدولة والجماعات في ظل أنعدام الشفافية في صرف النفقات، وضعف العدالة في فرض التكاليف وشيوع الفساد والفئوية والكتلوية ونظم الأمتيازات الغير مسبوقة في العراق.

- على مجلس النواب أن يكون لهُ دور ريادي في تشريع القوانين كقانون الكسب الغير مشروع، وقانون كشف الذمّة للمسؤولين أبتدءاً من السلطات الثلاثة وإلى جميع الوزارات والمؤسسات الحكومية ويكون القانون تأديبيا صارماً كالنموذج الأردني/للأطلاع فقط : يعاقب القانون بالأشغال الشاقة المؤقتة كل من حصل على ثراء غير مشروع لنفسهِ أو لغيره وبغرامة تعادل مقدار ذلك الأثراء، ورد مثلهِ إلى خزينة الدولة، ويعاقب القانون الأردني بالحبس أو بالغرامة أو بكلتا هاتين العقوبتين أي شخص شملتهُ أحكام القانون أذا تخلف دون عذر مشروع عن تقديم أقرارات (الذمّة) المالية رغم تكليفهِ لذلك، كما يعاقب بالحبس مدة ستة أشهر ألى ثلاث سنوات كل من قام بأي فعل من الأفعال التالية او قدم عمداً بيانات كاذبة عن الأثراء الغير مشروع.

- سماع رأي الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي بأحتجاجات مليونية بشعارات سلمية تدعو ألى أستمرار النضال ضد الفساد الأداري ونهب المال العام والأفلات من العقاب، وتفعيل المساءلة بحق المتورطين وفتح التحقيق الفوري ولا ضير أن تدوّلْ وتكون بأشراف الأمم المتحدة في العراق وفي كل وزارة على حده.

- محاربة الفساد تبدأ بأنهاء المحاصصة، أنشاء محكمة خاصة، بديلة عن الهيئات القضائية، وعدم ألغاء مكاتب المفتشين العموميين وتقديم ملفات الكسب الغير مشروع والكشف عن الفارين وأحالتهم ألى القضاء، ونشر ثقافة النزاهة والقيم الخلقية النبيلة بين أطياف الشعب، والتعاون مع الشرطة الدولية (الأنتربول) لتعريفه على المدانين في كشف ملفات الفساد، ضمان حيادية التحقيقات وعدم تأثرها بالصراع السياسي، والحذر من المطب الوبائي القاتل (المحاصصي والطائفي والقومي وحتى المناطقي) وأن الفساد والأرهاب وجهان لعملة واحدة (مقتبسات من جريدة الطريق / الشيوعي العراقي).

- التشديد على المتهم عند أدانته، ونتساءل: أية عدالة عندما نسمع عقوبة الجنايات العراقية تحكم  بسنة واحدة لسارق مليار دولار؟!! أو وقف التنفيذ لكبر سنه أو كونه موظف حكومي مستمر بالخدمة  وعدم مصادرة أمواله المنقولة والغير منقولة لرد أموال الدولة منهُ على الأقل، الأغلبية الساحقة من المجتمع العراقي يطلب الحل الجذري في مكافحة الفساد والجريمة الأقتصادية، من المفروض بحكومة السوداني أعتماد خطة عمل وخارطة طريق وحصرها (بخلية أزمة) متبع في مكافحة الأرهاب مستندة على ركائز قانونية ودستورية وبمشاركة لمنظمة حقوق الأنسان في العراق بالوقوف ضد الخونة والفاسدين وبائعي الوطن والضمير في تطبيق فقرة الدستور التي تخص أزدواجية الجنسية عند أصحاب القرار، وأصدار قائمة منع سفر بالمتهمين بسرقة المال العام أو هدره ومرتكبي الجرائم الأقتصادية المضرّة بالبلد والشعب.

- تشكيل لجان وهيئات قضائية لمتابعة الفساد في العراق بأمر وزاري، وتفعيل دور الهيئات المستقلة (لجان الرقابة المالية وهيئة النزاهة والمفتشين العموميين) وهم أمام أمتحان وطني مجتمعي في أذكاء الوعي الوطني في ثقافة النزاهة أضافة ألى عملها الرقابي الذي ليس من الضروري أن يكون بوليسياً بل تربوياً ووطنياً وذلك لمنع الفساد ومحاربته ولآذكاء وعي الناس فيما يتعلق بوجود الفساد وأسبابه وجسامته وما يمثل من خطر بالقيام بأنشطة أعلامية تسهم في عدم التسامح مع الفساد، وكذلك نشر وعي مدرسي لتشمل المناهج المدرسية والجامعية، وأخيراً أنها رسالة ألى رئيس مجلس الوزراء أنها فرصتك الذهبية أمامك في مكافحة الأرهاب لأن المرجعية الدينية معاك وحشود الحراك المدني مؤيد لأستئصال الفساد في العراق والصوت العالمي للمواثيق الأممية في تكريس السلام والأمان والعيش الرغيد لبني البشر ونبني عراقاً آمناً محايداً بعيدا عن ظهور بؤر المحاور.

***

عبد الجبار نوري - أبورفاه

كاتب وباحث في الأقتصاد - مغترب

في أكتوبر-تشرين أول 2024

 

اسباب غلبة اسرائيل كثيرة، ماتملكه من قدرات عسكرية وتكنولوجيه، وعقيدة ابادية تعبيرا عن حقيقة كون الكيان المقصود هو كيان لاقيام موضوعي له، وجد اصلا على شرط ابادة الاخر بتدرجات ومستويات، تصل الان درجة ونقطة الذروة حيث تفاقم حضور شرط الابادة المادية الوجودية، الا ان قيام كيان من هذا النوع مرتكز لمروية تاريخيه ونموذجية تنااقض احتمالية وجوده (النبوية الابراهيمة التاريخيه الكونية وجودا وكينونة، متلبسة بالفبركة ثوب الكيانيه الاوربية الحديثة الايهامية/ الوطنية القومية) هو من دون شك فرضية موكولة الى مايتعداها، وان هذا لوحده هو الذي يمكن ان يؤمن شكلا من اشكال وجودها ككيان مفتعل حيث وجب وجوده، بينما الصدام الفاصل معه هو بالاحرى صدام مؤجل في حينه ابان القرن الماضي، وقت الغلبة الكاسحة للنموذج الاوربي وتفكراته (بما يجعل من فيلسوف غربي مثل جان بول سارتر معني بمسالة الحرية، يرى في مثل هذا الكيان المفبرك بدون ركائز، لابل وبركائز مضادة، ولاغراض استعمارية غربية، بؤرة ديمقراطية وسط عالم معاد لها).

ووقتها ووفقا لمعطيات الظرف الذي نشات فيه اسرائيل، فان اسباب ومقومات تحقق الكيانيه المراد غربيا زرعها في الشرق الاوسط متوفرة وقتها وراجحه، في حين ان المنطقة بالعموم كانت خاضعه لذات الرؤية التي كانت تعمل كمطمح شرق متوسطي غالب، يوم كان الغرب نموذجا وهدفا اقرب للشامل منذ ابتداء زمن "اليقظة"، او "النهضة العربية" الكاذبة والمزورة كما بدات تكرس منذ القرن التاسع عشر، وهوماتزال اثاره ومتبقيات الايديلوجية المتصلة به مستمرة كصدى بلا حصيلة، وشكلا من اشكال مواصلة مشروع ولد ميتا، انتهت اليوم مبرراته واحتمالية تحققه، ان استمرت ذيوله باقية، فبسبب غياب البديل، والاعتياد غير المدقق فيه، ولا الجاري التوقف عنده وعند اسسه ومبرراته الواهية، والمتماهية بلا اساس واقعي اصلا مع الاخر.

ونعلم انه من غير المالوف اعتماد مروية تقول بان المنطقة الشرق متوسطية / العربية. مرت منذ 1258 تاريخ سقوط عاصمة الدورة النهوضية الثانيه، بطور من الانهيار الانقطاعي، انتهى مع القرن التاسع عشر وصعود مشروع الغرب الالي وحداثته، وماقابله من النهوض التوهمي الشرق متوسطي، تماهيا مع اوربا والغرب خارج الاشتراطات الذاتيه والبنيوية، وهو ماقد انتهى مفعوله واحتمالاته الايهاميه منذ وقت، بينما توقف كفعالية في الغرب نفسه ابتداء من القرن المنصرم، بغض النظر عن منظومة رؤيتة المعززة بجملة منجزه الشامل العائد لفعل الالة وانبجاسها في الموضع المذكور الاوربي، الطبقي التكوين، والمقابل للشرق الاوسط البدئي التاريخي المجتمعي، والنمطي اللاارضوي الكوني السماوي الابراهيمي النبوي، مقابل الاوربي الغربي الاغريقي الفلسفي، وعلاقة التفاعلية التاريخيه بين الموقعين، وانصبابات الغرب التاريخية باعتبارها جزءا من ديناميات تحقق المنطويات المجتمعية كونيا، باختراق اللاارضوية الشرق متوسطية السماوية كابتداء للمجتمعية الازدواجية الطبقية، وللامبراطوريات الشرقية المنصبه هي الاخرى في الموضع اللاارضوي لذات الحصيلة والمنتهى.

من اهم عناصر انكسار النهضوية المزيفة وماقد كشف واحضر الدالات عليها، وجود والصراع مع الكيانيه البرانيه الغربية المتلبسه بالابراهيمة المناقضة لها نوعا وكينونة، ومنذ حزيران 1967 كان المفترض ان تحضر في العقل والتفكير الشرق متوسطي العربي ضرورة العودة الى الذات بغية كشف النقاب عن جانب اساس، ظل على مر التاريخ ودوراته خارج الادراكية، وهو مالم يحدث، دلالة على استمرارية مفعول الانحطاطية الاصل، وبدء عودة تغلبها من جديد، بعد طور من التوهمية النهضوية المنتهية الى ايديلوجيا انتفى اساسها ومبرراتها الاولى الايهامية على الطرف الاصل المقابل، وقد ظلت تتجلى على مستوى الدولة والحزبية المعروفة بالقوموية، واليسارية، والليبرالية.

انقلب الغرب بين بدايات القرن الماضي، من التوهمية الالية "المصنعية" ونموذجها( الدولة الامه/ الليبرالية) الى صنف جديد من صنوف الفاشية بالقوة والاكراه التكنولوجي بعد الانتقال الالي، من "المصنعية" الى "التكنولوجيا الانتاجية"، ومن مركزية وقيادة المجتمعات الاوربية الطبقية الكيانوية التي انبجست فيها الالة عالميا، الى المجتمعية الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ، بلا طبقات، وليدة فعل الالة والتفاعل معها ضمن اشتراطات المكان ونموذجيته التي تم سحقها وامحاء اهلها "60 مليون"، هم نموذج مجتمعات اللادولة الاحادية، مع مصادرة المنجز والنموذجية المتحققه غربيا اوربيا حداثيا، علما بان الموضع الامريكي كنموذج لاعلاقة له ولاصلة تصله، لابالغرب ولا بالانقلاب الالي كما ولد، حين يتعلق الامر بالسياقات والديناميات التاريخيه، مثلما انه لاعلاقة له بالنموذجية الكيانوية الاوربية، فامريكا امبراطورية لاوطنيه كينونة بلا ماض، مرتهنه وجودا وفعلا باختلاق الرسالية العالمية غير المحدده المعالم، تتحول في الممارسة الشعبية الى "حلم امريكي"، رسالته الفعليه ازالة ماقبله من نموذجية مجتمعيه ـ كما اسرائيل مشروطة بازالة المجتمعات التاريخية السابقة عليها ـ كما ازيل الهندي الاحمر وتاريخه التشكلي والوجودي العريق، وكما ازيلت الكيانية العراقية عام 2003.

وبالانتقال من الالة المصنعية، ومن الانتاجية بالاشتراطات الكيانيه الوطنيه القومية، الى العولمه المتعدية للدول والكيانات، تنتفي موضوعيا وتاريخيا صلاحية النموذج الغربي، وهو ماكان تحقق عمليا منذ القرن المنصرم وبالذات مع الانهيار الاوربي بالحرب العالمية الثانيه والقطبية العالمية، نتاج التناقض بين الالة وطبيعتها، ونوع الكيانيه الملائم لها المتعدي للكيانيه بنيويا والذي يحول جزيرة معزوله مثل بريطانيا الى "امبراطورية لاتغيب عن ممالكها الشمس" خارج ارادتها او غرضيتها، فضلا عن فعل الالة في البنيه المجتمعية، بعد دخولها كعنصر ثالث جديد ومن نوع اخر على ثنائية (الكائن البشري/ البيئة) عنصري التشكلية المجتمعية البنيويين النمطيين ابان الطور اليدوي من تاريخ المجتمعات، بين مجتمعات كلاسيكية من ناحية حضور ومدى نضج برجوازيتها، او تلك التي تستعين بالاله والايديلوجيا لسد النقص في اليات الانتقال الى الطور الجديد الالي، وان يتصورات توهمية من نوع ماحصل في روسيا.

انقلب العالم وسياقات تفاعليته ونوع صراعيته، ولم تعد اسرائيل بنت الاشتراطات التي اتاحت وجودها لاغراض ودوافع عائدة لنوع العلاقة الاوربية الشرق متوسطية ابان بدايات ومفتتح لحظة استثناء وانقلاب تاريخي يلغي المجتمعية الارضوية طبقية كانت او مجتمعات دولة احادية او لادولة احادية واو مجتمعات مختلطة النمط، ويضع الشرق الاوسط العربي امام اشتراطات نوعية وتاريخيه انقلابيه عظمى مؤجله، وغير ناطقة، صارت غير قابله للانتظار،الحضور الاسرائيلي بطبعته الابادية، والمواكب لنوع النمطية الامريكية المازومه، عنصر تاجيج لاسباب ومواطن نطقيتها المؤجله منذ بدايات التبلور المجتمعي الى اليوم.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

غالبًا ما توقّف المختصون في السياسة الخارجية والديبلوماسية أمام سؤال معلن أحيانًا، وبعضهم في الكثير من الأحيان أمام سؤال ملغم، أي الحقول الأكثر تأثيرًا على كسب العقول واستمالة القلوب والتأثير في الرأي العام الخارجي؟ هل هو العلم والمؤسسات الأكاديمية  والجامعات والأبحاث أم الفنون بمختلف صنوفها، ولاسيّما السينما؟ والسؤال ذاته حسبما يبدو شغل كتّابًا ومفكّرين وناشطين وشعراء وفنانين، وفي الوقت نفسه انشغل به أكاديميون وباحثون وساسة وإعلاميون ودبلوماسيون وأجهزة مخابرات، وكان شاعر أمريكي، يُدعى كارل سادنبيرغ  قد طرح في ستينيات القرن العشرين السؤال الملتبس: أيهما أكثر تأثيرًا في سياسة الولايات المتحدة، هل هارفارد أم هوليوود؟

والمقصود بهارفارد هو جامعة هارفارد الشهيرة، والتي تعتبر أعرق الجامعات العالمية ، وقد تأسست في العام 1636، وسُميّت باسم المتبرّع الأول، رجل الدين البروتستانتي جون هارفارد، وهي أقدم مؤسسة للتعليم العالي في الولايات المتحدة، وتقع في مدينة كامبريج في ولاية ماساتشوستس. أما هوليوود فاشتهرت عالميًا بصناعة السينما وشركات الإنتاج والنجوم السينمائيين العالميين. وهي منطقة في مدينة لوس أنجلس في ولاية كاليفورنيا، وكان أول فيلم صوّرته (1908)، وجوابًا على السؤال الحائر أيهما أكثر تأثيرًا؟ قال سادنبيرغ على نحو مثير هارفرد أنظف من هوليوود، لكن هوليوود أكثر تأثيرًا من هارفارد في الوصول إلى أمد بعيد، والمقصود بذلك التأثير على الرأي العام العالمي.

ويبدو أن هذه الإجابة التي تعود إلى أيام الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين المتناحرين الرأسمالي والإشتراكي، والتي أصبحت أكثر وضوحًا بالتجربة العملية وليس من باب التكهّن  أو التقديرات، بل وفقًا لما أكّده الواقع، خصوصًا وقد صيغت بشأنه عددًا من النظريات التي كان يعمل على بلورتها "ترست الأدمغة" أو "مجمّع العقول"، الذي يعمل بمعيّة الرؤساء الأمريكان منذ عهد الرئيس جون كينيدي، من بينهم عدد من مستشاري الأمن القومي ووزراء الخارجية، أبرزهم كيسنجر وبريجينسكي الذين استخدموا وسائل القوّة الناعمة للتغلغل داخل الكتلة الاشتراكية والتاثير على الرأي العام فيها، ولاحقًا كانت مادلين أولبرايت وكونداليزا رايس وستانلي هادلي وغيرهم ممن ساهموا في تبني سياسة أبلسة الخصم وشيطنة العدو، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية.

وكان أبرز من صاغ مفهوم القوة الناعمة جوزيف ناي، وقد أظهرت الكاتبة اللبنانية حوراء حوماني كيف استخدمت واشنطن القوة الناعمة لصناعة الآخر لتحقيق أهدافها، فصورة إيران كانت حاضرة بقوّة في هوليوود. وحري بنا أن نعرف أن هوليوود تستولي على 80% من الأفلام التي تعرض في السينما العالمية، فأي تأثير لها على الرأي العام.

وهنا يمكن الاستدلال أن هارفرد، وإن كانت مؤثرة كجامعة أولى في العالم، لكن تأثيرها قياسًا لهوليوود يبقى محدودًا، التي لعبت دورًا بارزًا في الاضطلاع بالدور الإمبريالي وفي تشويه صورة الآخر، لاسيّما مع كل المعارضين لسياسة واشنطن، الذين تظهرهم دائمًا بالقبح والبشاعة، مما يثير اشمئزاز الرأي العام العالمي منهم، ويحدث ذلك بطريقة فنية محكمة وذكية وناعمة.

وتبقى هارفرد تحكمها قوانين وأنظمة ليس من السهولة التجاوز عليها، لما تتمتّع به من تاريخ ورصانة وأكاديمية وانضباط، وإن بإمكانها إمرار أهداف السياسة الخارجية والديبلوماسية الثقافية والأكاديمية والعلمية والترويج لنمط الحياة الأمريكي لدى النُخب، أما هوليوود فإن الجمهور هو من يهمها بالدرجة الأساسية حتى وإن كانت النخب هي التي تقوده.

السؤال الذي طرحناه في مقدمة هذه المقالة ليس ترفًا فكريًا أو حقلًا أكاديميًا نظريًا بقدر ما له علاقة بالواقع العملي، حيث يصبح  حاجة ماسّة، تقاس نجاحات الدولة وقوّتها اليوم بمدى قدراتها الثقافية على تكوين علاقات دولية وتبادل المعلومات والمعارف والفنون، بما يؤدي إلى خدمة سياستها الخارجية، فما بالك إذا كانت منسجمة مع احترام الإنسان وحقوقه الأساسية العامة والفردية، وتحقيق التنمية المستدامة بجميع حقولها.

ديبلوماسية القرن الحادي والعشرين

أصبحت القوّة الناعمة، ولاسيّما الثقافية والفنية اليوم ركنًا متينًا من أركان دبلوماسية القرن الحادي والعشرين، حتى أن بعض الدول النامية أخذت تحجز لنفسها مكانًا متقدمًا فيها، ليس بسبب قوتها العسكرية، بل بفعل إمكاناتها الاقتصادية التي توظفها في إطار دبلوماسية ثقافية تكون قادرة على الاستقطاب، لما تملكه من مقوّمات التأثير على الجماعات والشعوب والأمم الأخرى بالتجاوز على الوظيفة الديبلوماسية التقليدية، أي أنها تتضمّن الإبهار من جهة، واجتذاب الآخر بدلًا من ترويعه أو قهره بوسائل عسكرية أو عنفية من جهة أخرى، ربما تكون غير قادرة عليها، وإنما يمكنها التأثير الناعم عليه عبر الفنون والآداب والرياضة والسياحة والانفتاح الثقافي واللغة والعلاقات المباشرة.

وفي ذلك أكثر من مغزى وأكبر من دليل على قيمة الفن والأدب والثقافة وأدواتها المتنوعة في التغلغل الناعم والتأثير الهادئ على القلوب والعقول معًا، لاسيّما أنه يصل إلى غرف النوم حتى دون استئذان، في حين أن صرحًا علميًا كبيرًا مثل هارفرد، وهو وإن كان مؤثّرًا بلا أدنى شك، إلّا أنه أقل تأثيرًا من  هوليوود في نشر القيم الأمريكية.

ولعلّ ذلك يعود إلى أن ما تنتجه هوليوود يصل إلى جمهرة واسعة وعريضة من البشر، خصوصًا وأن ما يحدثه الفن السابع، يكاد أن يهيمن على القلوب والعقول معًا، في حين أن المنتوج الأكاديمي يبقى محصورًا بنخبة محدودة وخاصة. وتسعى الدول الكبرى لتأمين مصالحها الحيوية عبر التأثير على الآخر بضخّ أوسع قدر ممكن من وسائل التأثير، وهو ما تساهم به هوليوود على نطاق واسع.

الاستثمار في الديبلوماسية الثقافية

لقد استثمرت دولًا صغيرة ومحدودة الإمكانات في الديبلوماسية الثقافية، لاسيّما الانفتاح والسياحة والقوّة الناعمة والصداقة والتسامح والتبادل الثقافي، لتأكيد المشترك الإنساني. وأظن أن الانفتاح الذي حصل في المملكة العربية السعودية، ترافقًا مع مشروع نيوم، يمكن أن ينقلها إلى مصاف دولة متقدمة بمعايير الديبلوماسية الثقافية، بما لها من ترابط مع الديبلوماسية الاقتصادية، وذلك جزء من الاستثمار العقلاني البعيد المدى للثقافة والديبلوماسية الثقافية والاقتصادية، الذي يمكن أن تنتهجه دولًا نامية لتحقيق أهدافها ورفع مكانتها في العلاقات الدولية، وبالطبع أن ذلك يحتاج إلى وعي جديد ورؤية واضحة وإرادة صلبة وإدارة سليمة وتعاون عربي لا غنى عنه.

ويمكننا تصوّر لو اجتمعت طاقات وجهود بعض دول المنطقة وشعوبها، مثل العرب والكرد والفرس والترك في ديبلوماسية ثقافية موحّدة ومتنوعة بينها جوامع عديدة ومشتركات كثيرة على الصعيدين الرسمي والشعبي، كيف يمكن أن تؤثر على صعيد الأمن الإقليمي وحماية المصالح الحيوية العليا، بل على صعيد المشاركة في حماية السلم والأمن الدوليين، خصوصًا إذا تمّ تسوية مشكلاتها بطرق سلمية وعبر الحوار والتفاوض على أساس احترام الخصوصيات وحق تقرير المصير ومراعاة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وليس بالشعارات الأيديولوجية العاطفية، بل بالمكانة التي يمكن أن تحتلّها دول المنطقة وشعوبها في نظام العلاقات الدولية المستقبلي والمتعدّد الأقطاب، الذي بدأت بعض ملامحه تتكوّن، وقد تزداد وضوحًا بعد تبلور نتائج الحرب الروسية - الأوكرانية والعدوان على غزّة الذي امتدّ إلى الضفة الغربية وشمل لبنان أيضًا.

***

د. عبد الحسين شعبان

(هذه ليست دراسة أكاديمية منهجية إنما هي رد في ملاحظات تعتمد على ما في الذاكرة من معلومات تأريخية وبيانات حول وقائع معروفة كتب عنها الكثيرون قديماً وحديثاً).

أثار بعض الكتاب العراقيين في الآونة الأخيرة موضوع قتل الحسين بن علي في مذبحة الطف في كربلاء وأولاده وأبناء إخوته ورجال من النخبة التي التحقت به ولم تتخلَ عنه حتى إستشهادها معه في واقعة طفوف كربلاء المعروفة.

تبرئة يزيد بن معاوية من دم الحُسين: جاءت الخلافة ليزيد غدراً وخيانةً مارسهما أبوه معاوية حين خان وتنكّر للعهد الذي أبرمه مع الحسن بن علي والذي دُعي ب [صُلح الحسن] والذي نصّ (حسبما روى بعض المؤرخين) فيما نص من بنود أخرى على إقرار معاوية بخلافة الحسين بن علي على المسلمين من بعده مقابل تنازل الحسن عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان. هل في هذا شك أو ضبابية أو طعن؟

دعا زعماء قبائل الكوفة والعراق الحُسين بن علي لترك المدينة والتوجه إليهم للتحرك تحت قيادته ضد طغيان وعنت وشذوذ يزيد الخليفة المفروض على المسلمين في دمشق الشام. أرسلوا له مئات الرسائل أو أكثر يحثونه ويستدعونه للشخوص إلى الكوفة لإنقاذ الأمة من الغمّة المقيمة. أرسل لهم ابن عمه مسلم بن عقيل مستطلعاً ودارساً لمجمل الأوضاع وتحرّي صحة ولاء هؤلاء الزعماء العراقيين له. أعلنوا له الولاء أوائل أيام حضوره في الكوفة وصلّت الآلاف خلفه ولكن ! أخذ عدد المصلين خلفه بالتناقص يوماً بعد يوم مع تزايد حُمّى أمير العراق عُبيد الله بن زياد إبن أبيه الإعلامي المضاد للحسين ولدعوته ولجهود ابن عمه ورسوله مسلم بن عقيل والضغط على مناصريهما لترك الحسين ومن وراء الحسين والإلتحاق بركب يزيد وطغمته الحاكمة في العراق مُستخدماً السلاحين المعروفين جيداً: الإغراء بالمال ومنح الأراضي الشاسعة وإمتيازات منوّعة أخرى إدارية أو في قيادة الجيوش والسلاح الثاني: السجن والتعذيب والقتل. النزاع الذي كان بين الإمام علي والمنشق معاوية كان كما قال العارفون نزاعاً بين تيارين وفكرتين ونزعتين متناقضيتين هما بتركيز شديد: النزاع بين الدين (معسكر علي) والدنيا (مُعسّكر معاوية) حيث أنتصرت الدنيا الفانية بمعاوية على دين علي المؤمن بالخلود بعد الحياة.

وبعد عشرين عاماً (41 للهجرة ــ 61 للهجرة) عادت أجواء ذلك النزاع الذي ساد ايام الخلاف بين علي ومعاوية [ نزاع الدين والدنيا ] وسيطر على أجواء ما قبل واقعة الطف فانتصر فيه معسكر أصحاب الدنيا وهم خبراء فيه وبفنونه آل أُميّة ومن مثّلهم في تلك المرحلة ،يزيد وعُبيد الله بن زياد على معسكر الدين بقيادة الحسين فارتفعت الراية فوق دمشق وانتكست الرايات الأُخَر في العراق والحجاز. الآن:

يدّعي الكتّاب النابشون في بطون التأريخ وإثارة موضوعات عفى عليها الزمن هي مدعاة لإثارة المزيد من الفتن والمشاكل في عراق فيه ما يكفيه من مشاكل سياسية ودينية وقومية وعرقية وطائفية فما الذي يدعو هؤلاء الكُتّاب للخوض في مثل هذه المواضيع؟ ولكي لا أتشعب وأُطيل أدخل في صُلب الموضوع وأقول:  يدّعي هؤلاء أنَّ يزيد بن معاوية برئ من دم الحُسين ! مستندين على موضوعتين اثنتين لا غير ضعيفتين لا تصلحان أنْ تقوما كبشهادتين على تبرئة مجرم كبير قاتل أمر بقتل حفيد النبي محمد ومن كان معه أو إذلاله بالبيعة لخليفة فاسق مُنحرف سارق للخلافة !

أولاً: الصبي العليل الأسير والناجي الوحيد من مجزرة الطف وشاهد عيانها

يدّعي هؤلاء الأخوان المولعون بنبش المقابر والبحث في الرميم (وقد يكون ادعاؤهم صحيحاً حسب بعض الروايات التاريخية) أنَّ علاقة يزيد بعد الطف بهذا الصبي العليل الضعيف المأخوذ بما وقع لأبيه وأخوته وأقاربه ورجال أبيه المخلصين الشجعان كانت علاقة ود واستلطاف. أجل ، قد تكون العلاقة بين الإثنين كانت كذلك ولكن ... هل كان الجو الخاص والجو العام طبيعيين بحيث يسمحان لقيام علاقة طبيعية بين قاتل مُستبد غاشم وطفل أو صبي عليل أسير مغلوب على أمره لا من حولٍ له ولا من قوة هو في أمسّ الحاجة إلى شئ من العناية وتهوين وقع ما أصاب أهله عليه. وما كان في وسع الأسيرالعليل السجّاد علي بن الحُسين أنْ يفعل غير ذلك؟ هل يثور وهل يستطيع أنْ يثور وهل كانت في حوزته أدوات ورجال الثورة على الخليفة المنحرف والمغتصِب المقيم في دمشق؟ وهل في هذا كله ما يصلح للإستنتاج أنَّ صاحب الحق والوريث الوحيد للحسين أبيه وما ترك زين العابدين السجّاد كان قد برّأَ القاتل الأكبر من دم أبيه؟ هل كتب هو هذه البراءة وأين هي ولِمَ لمْ يبحث عنها ويُثبّتها مؤرّخو تلك الحقبة من الزمن؟ إذاً هذه الحُجّة باطلة ولا تصلحُ أنْ تكون شهادة بتبرئة يزيد من دم الحُسين وما وقع له ولمن معه في معركة  الطف في ضواحي كربلاء. كان يزيد من جهته وقد حصّل على ما يريد بقتل المنافس الأكبر له على خلافة المسلمين كان بحاجة ماسة لتهدئة الخواطر وتخفيف حِدّة اللوم المُسلّط عليه من بعض كبار القوم  سواء في دمشق أو مكة أو المدينة. وما يخسر يزيد إذا ما جامل صبياً عليلاً أسيراً يتيماً من أكثر من جهة وجانب؟ كان فيه بعض دهاء أبيه. لماذا التعكز على بعض مواقف صبي أسير عليل مغلوب على أمره وإهمال المواقف البطولية الشجاعة لعمّته السيدة زينب ومساجلتها المعروفة مع يزيد في قصره ومنع رجاله من الإجهاز على الصبي السجاد زين العابدين برمي نفسها عليه حماية له وقولها لهم أُقتلوني بدلاً منه؟ هل هادنت يزيد وهل برّأته من دم أخيها ومَن كان معه؟

شئ يستدعي ذِكرَ غيره: هل كان في مقدور عبيد الله بن زياد مخالفة سيده يزيد بن معاوية حتى يجرؤ بالأمر بمقاتلة الحسين ومن كان معه ثم إرسال رؤوس مّن كان قد قتلَ إلى يزيد في دمشق مرفوعةً على رؤوس الرماح كما قرأنا في كتب التأريخ؟ هذا السؤال موجّه لأولئك  القائلين أنَّ أمير الكوفة والبصرة عبيد الله بن زياد هو المسؤول الوحيد عن قتل الحسين وليس الخليفة يزيد.

قرأنا أنَّ الحُسين وضع أمام الحر الرياحي القائد الأموي الذي كان مأموراً بمحاصرة الحسين ومنع الماء عنه ثلاثة مقتحرات هي:

1ـ رجوعه ومن معه إلى من حيث أتى

2ـ ذهابه ومن معه للإقامة في اليمن

3ـ أو أخذه وحده دون من معه لمقابلة يزيد ....

رُفِضت هذه المقترحات جميعها فما دلالة ذلك غير النيّة وقرار قتل الحُسين بأي ثمن.

ثانياً: أخ الحسين غير الشقيق محمد إبن الحنفية

هذا رجل غريب غامض يُثير الحيرة في بعض تصرفاته حتى لكأنه ما كان أحد أبناء الإمام علي ولا كان أخاً للحسن والعباس والحسين. كان بعد استشهاد أبيه في الكوفة واستفراد معاوية بالسلطة كثير الزيارات للقاء معاوية في دمشق وأكيد ما كان هذا بخيلاً معه وما كان ليقصّر في المبالغة في إكرام هذا الزائر غير العادي. يزورغاصب سلطة أبيه وغادره في خدعة التحكيم ورفع المصاحف  أثناء حرب صفين بل وما كان مع باقي أهله في حين توجه الإمام علي إلى الكوفة في العراق. إذا كانت مصالح فأية مصالح وما طبيعتها تلك التي كانت تُزيّن لهذا الرجل صداقة معاوية وتمتينها وإدامتها؟ أرى أنَّ الفضل في ذلك لمعاوية نفسه الداهية البعيد النظر والمفكّر [الستراتيجي] الفذ. أقصد سعيه للتمهيد إلى تولية ابنه يزيد خليفةً على المسلمين من بعده وبعض هذا السعي هو كسب موالين له ولمشاريعه ولولده من بعده خاصة من بين بني هاشم والعباسيين والعلويين حتى يقول المؤرخون إنَّ إبن عباس كذلك كان كثير الزيارات لمعاوية. إبن الحنفية لم يغادر المدينة أو مكة مع أخيه الحسين حين غادرها وآل بيته ورجاله الموالون له. لم يرافق أخاه الحسين كما فعل أخوه العباس الذي قاتل حاملاً راية أخيه حتى استشهد وأولاده وقصّت كفّاه وحُزَّ رأسه. محمد ابن الحنفية هذا صديق معاوية كان كذلك موالياً لقاتل أخيه يزيد إبن معاوية فهل يصح الأخذ بشهادته وتبرئته يزيداً من دم الحسين ومن كان معه؟ شاهد مرتشٍ ضعيف الشخصية موضع جدل دجّنه معاوية بالمال والعطايا وأعده لهذا اليوم خصيصاً ليقول في يزيد ما يريد يزيدُ أنْ يُقالُ فيه: إنه برئ من دم الحسين إنما عبيد الله بن زياد هو المسؤول الأول والأخير!

ما قصد بعض الكتّاب العراقيين من نشر موضوعات ملتهبة حادة تفيدُ منها فئة طائفية معينة وتُثير غضب فئة طائفية أخرى والعراق يحترق بنيران الطائفية اليوم؟.

***

د. عدنان الظاهر

 10.10.2024

كيف تستغل الجائزة الأدبية الأكثر شهرة ضد الخطاب المؤيد للفلسطينيين؟

جائزة جيلر و"إنديجو 11"

بقلم: مايكل دي فورج

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

انضم الكتاب إلى الفنانين التشكيليين وصناع الأفلام والعاملين في المجال الثقافي تحت لواء "لا للأسلحة في الفنون"، وهي حملة تطالب جميع المؤسسات الثقافية التي تتلقى تمويلاً من سكوتيابنك، بما في ذلك جائزة جيلر، بالضغط عليه لسحب استثماراته من مصنعي الأسلحة الإسرائيليين وإنهاء تواطؤه في الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. تصوير: يولا بينيفولسكي.

منذ 7 أكتوبر 2023، قامت شرطة تورونتو باعتقال 92 شخصًا من المتظاهرين والمنظمين الذين يحتجون على الإبادة المستمرة التي تمارسها إسرائيل في غزة. تصرفت الشرطة ضد العديد من الاحتجاجات، والاعتصامات، والاحتلالات، والتدخلات البصرية، وخطوط الاعتصام، والمقاطعات التي حشدت نشطاء من مجموعة واسعة من القطاعات. ما يثير الانتباه، مع ذلك، هو أن 16 من هذه الاعتقالات (أكثر من 17 في المئة من العدد الإجمالي) كانت تركز على قطاع واحد بشكل خاص: العالم الأدبي الكندي.

في 13 نوفمبر 2023، قُطع بث حفل جائزة جيلر من قبل محتجين يلفتون الانتباه إلى استثمار الراعي الرئيسي، بنك سكوتيا، في شركة إلبيت سيستمز الإسرائيلية لصناعة الأسلحة. في ذلك الوقت، كان لدى بنك سكوتيا استثمار بقيمة 500 مليون دولار في إلبيت، مما جعله أكبر مساهم أجنبي في الشركة. تم اعتقال ثلاثة أشخاص بتهمة المشاركة في تعطيل الحفل تلك الليلة، وقد وجهت إليهم تهم جنائية. ثم تم إجراء اعتقال رابع بعد عدة أشهر، واعتقال خامس قبل أكثر من أسبوع.

في الأيام التي تلت حفل جيلر، كُتبت رسالة مفتوحة وقع عليها أكثر من 2100 شخص من المجتمع الأدبي في كندا تطالب بإسقاط التهم الموجهة إلى المحتجين. انطلقت حملة "لا للأسلحة في الفنون" في مارس/آذار التالي، في معارضة للروابط بين المؤسسات الثقافية مثل جيلر والشركات التي تغذي وتدعم الإبادة الجماعية، مع التركيز على سكوتيابنك. بعد أشهر من التعتيم من قبل مؤسسة جيلر، التي تمول وتقدم الجائزة السنوية، تعهد ما يقرب من 40 مؤلفًا بمقاطعة الجائزة تمامًا. سحب المؤلفون إصداراتهم الخيالية المؤهلة لجائزة جيلر لعام 2024 من الاعتبار، ورفض الفائزون والمرشحون السابقون المشاركة في أي دعاية حول الجائزة في المستقبل. وفقًا للحملة، ستنتهي المقاطعة عندما تتخلى المؤسسة عن جميع الرعاة الذين يدعمون ماديًا قمع الفلسطينيين. ويشمل ذلك بنك سكوتيا، ولكن أيضًا مؤسسة أزريلي، الجناح الخيري لإمبراطورية العقارات الإسرائيلية التي تربطها علاقات اقتصادية سابقة وحالية بالمستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، وشركة إنديجو للكتب.

"إنديجو 11" هو المصطلح الذي أُطلق على الأفراد الذين استيقظوا في الساعات الأولى من يوم 22 نوفمبر 2023 على مداهمة شرطة تورنتو العنيفة لمنازلهم. وقد ألقيت متعلقات بعضهم وخُلعت أبواب منازلهم. وقُيد الآباء بالأصفاد أمام أطفالهم. وكانت جريمتهم المزعومة هي وضع ملصقات على نوافذ أحد فروع إنديغو في وسط مدينة تورنتو. وقد صورت المنشورات وجه الرئيسة التنفيذية لشركة إنديجو هيذر رايزمان، واتهمتها بالتواطؤ في حصار غزة. ووصفت الشرطة التهم - التخريب والمضايقة الجنائية والمؤامرة - بأنها "بدافع الكراهية".

على الرغم من الجهود المبذولة لإخفاء العلاقة بين "إنديجو" واحتلال إسرائيل، فإن حقيقة أن هذر ريسمان، إلى جانب زوجها ومدير "إنديجو" جيرالد شوارتر، هما مؤسسا مؤسسة "هيزغ" (HESEG) معروفة جيداً. لقد كانت "هيزغ" مصدراً دائماً للجدل لسنوات بسبب دعمها المالي لـ "الجنود المنفردين" في الجيش الإسرائيلي، وهم مواطنون غير إسرائيليين يرغبون في التطوع للانضمام إلى قوات الدفاع الإسرائيلية (IDF). وهذا يعني أن رايزمان وشوارتز يدعمان الجولات العسكرية للجنود الذين ينفذون بنشاط نظام الفصل العنصري والاحتلال والإبادة الجماعية الإسرائيلي. وهما المانحان الوحيدان الكبيران لمؤسسة HESEG، وقد قدما لها أكثر من 185 مليون دولار على مر السنين. وهذه التبرعات مدعومة بدورها من أموال الضرائب الكندية، على الرغم من التباهي بقانون الجمعيات الخيرية الفيدرالي الذي من شأنه أن يستبعد المنظمات التي تقدم الدعم المالي لـ "الجيوش الأجنبية".

عندما نواجه أسئلة أخلاقية حول الروابط بين الشركات والفنون، نسمع عبارات مألوفة للغاية حول أزمة التمويل التي تواجهها صناعاتنا. يُقال لنا إن المال يجب أن يأتي من مكان ما، سواء شئنا أم أبينا. لا أقصد استحضار هذه الأزمة باستخفاف. فالفنانون يعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر بشكل متزايد، وهو وضع تفاقم بسبب قيام مؤسساتنا الفنية بالمخاطرة بوجودها بالكامل على حفنة من الرعايات من الشركات. عندما ننظر إلى ارتباطات مؤسسة جيلر مع سكوتيابنك وأزريلي وإنديجو، فقد تصفها وجهات النظر المتعاطفة والساخرة على حد سواء بأنها حيوان محاصر. يرسم أنصار مؤسسة جيلر صورة لمؤسسة مجبرة على الاختيار بين الحفاظ على الذات والأخلاق، وتعتمد على هذه الحقن الضخمة من الجوائز من أجل دعم نفسها - بغض النظر عن المكان الذي أتت منه. في حين قد يكون هذا صحيحًا كتفسير جزئي، إلا أنه لا يلتقط تمامًا الطريقة التي تتحد بها القوة والإيديولوجية في المجال الثقافي.

إن هذه الاعتقالات هي مظاهر مادية للسلطة والإيديولوجية. لقد شهد العام الماضي المزيد من الإجراءات المباشرة الواضحة والمؤثرة في تورنتو، لذا قد يبدو للوهلة الأولى أن الدولة قد اتخذت إجراءات صارمة ضد المحتجين على جيلر وإنديغو. لماذا أصبح المجتمع الأدبي الكندي مكانًا لمثل هذه المناورات السياسية؟ تكمن الإجابة في الطرق التي تحافظ بها هذه المؤسسات الثقافية على التزاماتها الإيديولوجية تجاه الصهيونية، وتمارس نفوذها الثقافي في خدمة هذه النظرة العالمية القومية العرقية.

وفي الحالتين، تم استخدام العنف بشكل مباشر للغاية.. كما ذكرت صحيفة The Walrus، شوهدت إيلانا رابينوفيتش، المديرة التنفيذية لجيلر، وهي "توبخ الشرطة لمهاجمتها المتظاهرين". تم تأكيد ذلك أيضًا في بيان في اليوم التالي عندما أخبروا صحيفة جلوب آند ميل أن "المنظمين كانوا يعملون بشكل وثيق مع مسؤولي إنفاذ القانون المحليين".

عندما كان من المقرر أن تقوم الفائزة بجائزة جيلر لعام 2024 سارة بيرنشتاين (التي انضمت لاحقًا إلى قائمة الموقعين على مقاطعة جيلر) مندى للكتاب عبر الإنترنت من أجل الجائزة، حذرها منظمو جيلر من أن أسئلة الجمهور حول غزة أو المحتجين سيتم حذفها. في أبريل، أرسل منظمو جيلر بريدًا إلكترونيًا يحمل تهديدًا مبهمًا إلى الناشرين يطلبون منهم أن يكون المؤلفون الذين يرشحونهم للحصول على الجوائز "مستعدين لتكريم الترشيح والالتزامات." كان ذلك تحذيرًا بـ"الالتزام بالخط" جاء بعد فترة قصيرة من الانسحابات الجماعية من حفل جالا PEN America (وبدوره، تم تبني أسلوب طلب من الناشرين تأديب مؤلفيهم قبل حفل توزيع الجوائز المحتمل أن يكون مثيرًا للجدل من قبل PEN نفسها الشهر الماضي). تحت تحذيرات غيلر، يكمن تهديد قائمة سوداء. هناك خوف مبرر بين المؤلفين من أن أي شخص غير راضٍ عن استخدام عمله لتلميع الشركات المتواطئة في الإبادة قد يواجه عواقب مهنية جراء قوله ذلك، ويفقد الوصول إلى الدعاية القيمة، والسمعة، ومبيعات كتب.

مثل العديد من المؤسسات الأدبية، كان على جائزة جيلر الاعتراف بواقع أن كل فن هو سياسي. بدأت مراسمها لعام 2023 بإقرار الأمر، وتضمنت العديد من الإشارات التقليدية إلى القوة السياسية التحويلية للقراءة، بالإضافة إلى الدور الذي لعبته الجائزة في تعزيز الأصوات المهمشة. ومع ذلك، كان الأمر محرجًا بشكل خاص عندما تمسكت بشراكتها مع سكوتيابانك، ، مما اضطرها إلى اتخاذ موقف غير رائج وهو اللامبالاة السياسية. في 11 يوليو، أصدرت المؤسسة بيانًا تؤكد فيه أنها احتفظت ببنك سكوتيا كراعي، وكتبت أن "المؤسسة ليست أداة سياسية." ومع ذلك، ها هي إيلانا رابينوفيتش، تستخدم ثروة وقوة أكثر جوائز الأدب الكندية شهرة ضد الخطاب المؤيد لفلسطين. قد يتوقع المرء أن تذهب استجابة مؤسسة غير حزبية حقًا في الطريق المجرب الذي يتمثل في تجاوز الجدل، بدلاً من أن تتورط بشكل أكبر مع رسائل تهديد وقمع للمؤلفين والناشرين. على مستوى خالص من الجبن، كان من الممكن بالتأكيد أن تكون هذه استراتيجية أكثر ذكاءً للعلاقات العامة. إن ما نشهده هو شيء أكثر قبحًا يكشف الألوان الحقيقية لفكر أيديولوجي.

بينما قد يضطر اللاعبون الآخرون في عالم النشر الكندي إلى تبني واجهات أكثر خجلًا، شعرت هيثير ريزمان وجيرالد شوارتز بالقوة للتعبير عن مواقفهما المناهضة للفلسطينيين بشكل علني ودون خجل. بخلاف جهودهما الخاصة التي تهدف إلى تشجيع الأجانب على الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي، تبرعت مؤسسة عائلتهما بعدد من المنظمات الصهيونية الأخرى التي لها روابط مع المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والجيش الإسرائيلي. وشملت هذه المنظمات صندوق إسرائيل الوطني ومؤسسة نعمان، التي تم سحب وضعها الخيري مؤخرًا من قبل وكالة إيرادات كندا بسبب تلك الروابط؛ ومؤسسة القدس ومزراحي كندا، التي تدعم أيضًا المستوطنات غير القانونية، بالإضافة إلى العديد من الجماعات اليمينية المتطرفة الإسرائيلية. كما كان رايزمان وشوارتز محوريين في إنشاء مركز إسرائيل والشؤون اليهودية (CIJA)، وهي مجموعة ضغط سيئة السمعة مؤيدة لإسرائيل تدفع بنقاط الحديث الصهيونية وتقمع وجهات النظر الفلسطينية في وسائل الإعلام والسياسة الكندية.

تتعارض العديد من هذه الجمعيات عادةً مع الحساسيات "التقدمية" في عالم الأدب. ومع ذلك، تمكنت ريزمان دائمًا من الحفاظ على دورها كراعية محبّة للفنون بسلطتها. تمثل شركة إنديجو (التي استحوذ عليها ريزمان وشوارتز في وقت سابق من هذا العام) احتكارًا تسبب في أضرار جسيمة لصناعة النشر، حيث أضعفت سوق بيع الكتب المستقل في كندا، ولا تزال سياساتها المتعلقة بإرجاع الكتب تشكل تحديًا كبيرًا لدور النشر الصغيرة. إن وجودها الرمزي والفعلي في المهرجانات وعروض الجوائز والحفلات ناتج عن كون بقية صناعة النشر تجد نفسها كجمهور متردد وأسير أمامها.

عندما تم اعتقال "إنديجو 11"، كان من المدهش أن نشهد كيف أن عملاً اعتياديًا من أعمال العصيان المدني، مثل توزيع المنشورات، يمكن أن يؤدي إلى انخفاض مستويات عنف الشرطة والاتهامات الجنائية التي ترتبط عادةً بجرائم أكثر خطورة. وكما يوضح تقرير موقع "ذا بريتش"، فإن السبب في ذلك يعود إلى تدخل ريزمان شخصيًا، حيث أجرت مكالمة هاتفية مباشرة مع رئيس شرطة تورنتو، وفقًا لمصدر في الشرطة. مثلما حدث في اعتقالات حفل غيلر، فإن هذه الاتهامات الجنائية والصعوبات الناتجة عنها تنبع أساسًا من ضغط فرد أو مؤسسة واحدة.

قبل أسابيع قليلة، شهدنا ريزمان تسيء استخدام النظام القضائي مرة أخرى، عندما قامت إنديجو بتقديم طلب للحصول على أمر قضائي طارئ ضد حملة "إنديجو تقتل الأطفال". وبموجب مزاعم انتهاك حقوق الطبع والنشر، تم إصدار أوامر لشركات الاتصالات بتعليق جميع حركة المرور مؤقتًا إلى IndigoKillsKids.com قبل الدعوة الوطنية للاحتجاج على ارتباط بائع الكتب بـ HESEG. وإذا أصبح الأمر القضائي مستمرا، فإنه سيمثل ذلك بمثابة ضربة قوية للخطاب السياسي وحرية التعبير في كندا.

إن القطاع الثقافي يلعب دوراً مهماً في إضفاء الشرعية على بعض أشكال الخطاب، ونزع الشرعية عن أشكال أخرى. وكثيراً ما اختار الصهاينة الفنون كساحة معركة أيديولوجية لشن هذه الحرب ضد اللغة. إنها حرب شهدناها على مدى عقود عديدة، بدءًا من قتل إسرائيل للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وصولاً إلى ممارساتها في تدمير المكتبات والجامعات والأرشيفات، فيما وُصف بأنه "إبادة ثقافية".

لا يمكننا أن نتجاهل الدور الذي تلعبه الفنون في "السياسة" كقضية مجردة أو وجودية. ففي تورنتو، اتخذ نزع الشرعية عن الخطاب الفلسطيني والمؤيد للفلسطينيين أشكالاً عديدة، بما في ذلك طرد شخصيات بارزة، وأعمال الرقابة، والإلغاء والاعتقالات. وكانت هجمات إنديغو وجيلر على اللغة ذات عواقب مادية، وربما لا رجعة فيها. وعلى الرغم من إسقاط التهم الموجهة إلى أربعة من المعتقلين في إنديجو بعد أن قررت المحكمة أنه "لا توجد احتمالات معقولة للإدانة"، فقد فقد اثنان منهم على الأقل وظائفهما نتيجة للتشهير العلني الذي شنته الشرطة ووسائل الإعلام ضدهما. ويتحمل رايزمان ورابينوفيتش والمؤسسات التي يمثلانها المسؤولية عن تعريض حياة المعتقلين وسبل عيشهم للخطر، وإحداث الأذى المهني والنفسي والجسدي لأولئك الذين يحاولون إسكاتهم.

لكن كما يتضح من انسحابات جائزة جيلر، فإن هذه المؤسسات بحاجة إلينا—الكتاب والقراء—أكثر مما نحن بحاجة إليهم. يعكس مقاطعة جائزة جيلر ممارسة الكتاب لصوتهم واستغلالهم لجهودهم في خدمة فلسطين الحرة. إن المقاطعة هي تأكيد لسلطتنا وقوتنا كعمال ثقافيين، وليس فقط كمنتجي ثقافة.

لقد أظهرت إعلانات سكوتيا بنك الفصلية لعام 2024 تقليص حصتها في إلبيت إلى خمس ما كانت عليه في بداية العام. ويمثل هذا سحب ما يقرب من 400 مليون دولار من الأسهم، وهو أحد أكبر عمليات سحب الاستثمارات الأخيرة من آلة الحرب الإسرائيلية. وفي حين كان هناك معارضة على مستوى البلاد لاستثمار سكوتيا بنك في إلبيت، فإن العديد من الجهود الأكثر شهرة كانت مرتبطة بحملة "لا للأسلحة في الفنون"، والتي استخدمت رعاية سكوتيا بنك للفنون كسلاح ضدها. وقد استشهد الرئيس التنفيذي لشركة إلبيت بنفسه بهذا القصف السلبي للصحافة باعتباره سبب سحب سكوتيا بنك لاستثماراته.

ولنتذكر هنا أن قوتنا كفنانين ليست رمزية بحتة، بل مادية. فقد جردت المقاطعة بالفعل مؤسسة جيلر من أي ادعاء بالشرعية، على الرغم من استعداد بعض المرشحين للانشقاق عن الصفوف لحضور الحفل هذا العام. دعونا نرى مدى القوة الثقافية التي يستطيع جيلر ومديرها ورعاتها استخدامها عندما يتحول حفلهم إلى قاعة فارغة. قد يكون لديهم القائمة السوداء، لكن لدينا خط الاعتصام.

(انتهت)

***

...........................

الكاتب: مايكل دي فورج / Michael DeForge  مؤلف ورسام مقيم في تورنتو. ومن بين أعماله المنشورة كتاب "طيور ماين" و"السماء لا الجحيم". وهو أيضًا منظِّم لحملة "لا للأسلحة في الفنون" و"الكتّاب ضد الحرب على غزة".

 

كي نميز ما يحدث ببلاد الرّافدين، مِن عجائبَ وغرائبَ، نؤكد أنْ ما جاء في أهلها: «أهل العقول الصّحيحة والشّهوات الممدوحة، والشّمائل الموزونة، والبراعة في كلِّ صناعة»(المسعودي، التنبيه والإشراف)، قصد نخبة الأمس؛ النُخبة التي طفت ورسبت في بحر الزّمن، وعلى قلتها- طبيعة النخب ضئيلة العدد فائقة العِدة- كانت عنوان البلاد الأبرز، واليوم مع وجود أماثل، مِمَن قصدهم المسعودي(تـ: 346هـ) وغيره، إلا أنَّ عنوانها صار الرَّثاثة، وكأنَّ العِراق عَقم عن ولادة نخبة، يُنتصر بها للعقل؛ كالتي ذَكرنا.

نقول ما تقدم قصد النّخبة، الغائبة المغيبة اليوم، وإلا نجد في خطبة عبد الملك بن مروان(حكم: 65-86هـ)، وهو يستعد لمنازلة الأزارقة (فرقة متطرفة أباحت قتل أطفال المخالفين)، ما يعكس الصُّورة، في أزمنة الثَّورات والاضطرابات: «أيها النَّاس! إنَّ العِراق، قد تكدر ماؤها(وهي أم الرَّافدين)، وظهر جدبها، ملح عذبها، وبدا وميضها، وأشتد ضرامها، وكثر لهبها، وثار قتامها (السواد الحالك)، وعظم شررها، وعلا أمرها، وأبرق رعودها، وكثر وقودها، بحطبٍ حيٍّ، وجمر ذكي، ودخان وهي، وهؤلاء الأزارقة، الطُّغاة المارقة، قد أشتدت شوكتهم، وتفرقت جرثومتهم(أصلهم)»(ابن أعثم، كتاب الفتوح).

هنا، لا يحسبني القارئ اللَّبيب، بأنني مع عبد الملك، وضد الأزارقة، فاعلمُ أنَّ كلاً منهما «يُغنَّي على ليلاه»، إنَّما تعاملتُ مع النَّص شاهداً، مثله مثل بيت الشّعر، بعد عزله عن مناسبته، ومع الحدث كونه منسجماً مع ما نعيشه؛ هذا، ولا أرى الأزارقة لو استولوا، سيصلحون فساداً، والمثال أزارقة اليوم بماذا هتفوا، وماذا صنعوا؟

ما يحصل مِن طائفيّة غريبة، على التّاريخ الطائفيّ نفسه، لم تكن مِن أفعال السّلطة، فرؤساء الوزراء، ورؤساء الجمهوريَّة كافة، مِن 2003 حتّى يومنا- إلا ما تورط به أمين الدَّعوة الإسلاميَّة- لم يمارسوا خِطاب الكهوف، لكنَّ قوى الأزارقة وهي المتنفذه بسلاحها، صَبت جهودها لهدم الدّولة، ومازال الخارج فراشها ودثارها، فكم مِن قائد أزرقيّ، هدد رئيس وزراء ورئيس جمهوريّة، بعزل واغتيال.

نُفذت أحكام إعدام، بقتلة الحُسين(61هـ)، ثم نبش العباسيون الهاشميون قبور الأمويين (المسعوديّ، مروج الذَّهب) ثأراً له، وجاء البويهيون، وحكم الفاطميون، والصَّفويون، فالقاجاريون، والخمينيون، لم يبدع هؤلاء نصب محاكمات بأثر تاريخيّ؛ فمَن يُحكم عليه، مِن التّاريخ، لديه أدلته لإقامة محاكمات مضادة، فالزَّمن مبارزة بين غالب ومغلوب، وشاهدنا المحاكمات الثّوريّة، التي ينصبها المنتصرون، وبعد إزاحتهم تُنصب لهم. لكنّ الأفظع جهلاً أنْ تكون واحدة مِن المحاكمات درساً تطبيقاً في كلية مِن كليات القانون؛ بينما كان العراق مِن أول بلدان المنطقة بتعليم الحقوق(1908)، ثم تجددت بمحاكمة يزيد بن معاوية(تـ: 64هـ).

إذا كان مصدر نص الاتهام التاريخ المدون، وليس سواه، فالتاريخ دَونَ أيضاً: ابن الحُسين اقتنع أنَّ يزيدَ لم يتخذ قرار القتل، كذلك اقتنع أخو الحُسين محمد بن الحنفية(تـ: 81هـ)، بما كان بينه وبين يزيدَ من مراسلات مدونة(كتاب الفتوح).

نعتمد في ما تقدم على مؤرخ يبغض الأمويين، أحمد بن أعثم الكوفيّ( تـ: نحو314 هـ)، وكتابه «الفتوح»، تحدث عن منزلة ابن الحُسين السّجاد(تـ: 95هـ) عند يزيد، ففي اجتياح المدينة، حيث وقعة «الحَرة»(63هـ)، صارت داره ملجأً للمطلوبين، وبينهم أمويون كبار، حتى ولنا تشبيهها بدار أبي سفيان عند فتح مكة، وكذلك الحال مع ابن الحنفيَّة.

يثور السُّؤال: لماذا يحدث هذا بالعِراق اليوم، والمحاكمات تقصد مَن، إذا لم تقصد حرق الجيل الحاضر؟ والفعل فعل أمثال الأزارقة، الذين يتعاظم نفوذهم كلما جفت العقول وتحنطت، فليس مِن مصلحتهم مغادرة الماضي، لأنَّ في حوادثه أسواقاً وأرزاقاً.

أقول: ليت السُّلطة تأخذ بحماسة شاعر بني تميم: «اذَا الجَهلُ أَمسَى قاعِدًا لَم نَقُم بهِ/ ونَضرِبُ رأسَ الجَهلِ حِينَ يقُومُ»(كتاب الفتوح، والدُّر الفريد)، لا تنسحب هذا الانسحاب المريب.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كيف اظهر لنا "تاثير دانينغ-كروجر" ان الجهلاء ليس لديهم ادنى فكرة عن مدى جهلهم.

يتساءل الفيلسوف الشعبي البارز ويليام باوندستون William Poundstone عما اذا كنا نبالغ في القلق بشان زيادة الجهل.

في هذا المقال، يجادل باوندستون باننا ربما لا نبالغ.374 William Poundstone

 في فيلم حديث مثلت فيه ميريل ستريب دور امراة ثرية تدعي فلورنس فوستر جنكينز تعتقد انها مغنية موهوبة. كان الفيلم مستندا الى قصة حقيقية. كانت فلورنس فوستر جنكينز (1868-1944) عازفة بيانو معجزة في طفولتها، لدرجة انها قدمت عرضا في البيت الابيض للرئيس رذرفورد هايز. عندما اصبحت بالغة، حولت جنكينز اهتمامها الى الغناء الاوبرالي. بدات في تقديم حفلات خاصة في عام 1912، وكان غناؤها سيئا للغاية لدرجة انها اصبحت مشهورة في سن 44. وكان نخبة اعيان نيويورك يحضرون حفلاتها لمجرد سماع مدى فظاعة غنائها. كان غناء جنكينز الاوبرالي سيئ وغير متناسق ويشوه الكلمات الايطالية والالمانية.

هل يمكن ان تكون جنكينز غير مدركة لمدى سوء غنائها، او هل كانت تُدرك ذلك؟ لا يزال هذا موضع نقاش. من الواضح انها سمعت بعض جمهورها يضحكون عليها. اطلقت عليهم لقب الاوغاد والمحت الى انهم تم توظيفهم من قبل منافسين غيورين.

بلغت ادنى منزلة في مسيرتها المهنية في سن 76، عندما استخدمت ثروتها الكبيرة لحجز قاعة كارنيجي لاقامة اول حفلة عامة لها. حضر الحفلة مشاهير مثل كول بورتر وجيان كارلو مينوتي، وكيتي كارلايل. وكذلك حضر نقاد الفن في نيويورك، بسكاكينهم المشحوذة. كانت التعليقات الصحفية قاسية جدا. بعد يومين، اصيبت جنكينز بنوبة قلبية اثناء تسوقها لشراء نوتات موسيقية.

اليوم لدينا مصطلح لوصف سوء تقدير جنكينز لقدرتها الاوبرالية: تاثير دانينغ-كروجر.

سمي هذا التاثير على اسم عالم النفس في جامعة كورنيل ديفيد دانينغ وطالبه في الدراسات العليا انذاك جاستن كروجر، وهو يوضح ان الاشخاص غير الموهوبين، غير المهرة، او الجهلة يميلون الى الاعتقاد بانهم اكثر كفاءة بكثير مما هم عليه في الواقع. وبالتالي، يعتقد السائقون السيئون انهم سائقون جيدون، ويعتقد عازفو الغيتار المحليين انهم يمكن ان يكونوا نجوم روك، ويعتقد المليارديرية الذين لم يشغلوا منصبا عاما ابدا انهم سيكونون رؤساء رائعين. كم يمكن ان يكون الامر صعبا؟

وصل دانينغ الى هذه النتيجة من خلال قصة غريبة مثل قصة جنكينز. في 19 ابريل 1995، سرق ماك ارثر ويلر مصرفين في بيتسبرغ في وضح النهار. لم يكن لص بنك نموذجي، بدءا من حقيقة انه كان طوله 167 سم  ووزنه 122 كيلوغراما. لم يرتد قناعا، والتقطت كاميرات الامان صورا جيدة لوجهه. اطلقت الشرطة اللقطات على الاخبار المحلية، وجاء تبليغ على الفور. بعد منتصف الليل بقليل، القت الشرطة القبض على ويلر في منزله في ضواحي المدينة.

"لكنني وضعت العصير على وجهي"، قال ويلر.

اوضح ويلر انه كان يعلم ان عصير الليمون يستخدم كحبر غير مرئي. لذلك، فان وضع عصير الليمون على وجهه سيجعله غير مرئي.

قال انه جربها! قبل السرقة، وضع ويلر عصير الليمون على وجهه والتقط صورة سيلفي بكاميرا بولارويد. لم يرى وجهه في الصورة، اصر على ذلك. يبدو ان ويلر لم يكن اكثر كفاءة في التصوير الفوتوغرافي من السرقة.

عيب اخر لعصير الليمون هو انه كان يلسع عيني ويلر. بالكاد كان يستطيع رؤية الصرافين في البنك، رغم انهم كانوا يرونه.

جعلت مغامرة ويلر كميزة لاغبى المجرمين في العالم. لفتت تلك المقالة انتباه عالم النفس دانينغ. راى شيئا عالميا فيها: "الشخص الغبي الواثق من نفسه هو شخص قابلناه جميعا". لذلك بدا هو وكروجر في محاولة توثيق هذا.

في احدى دراساتهم، ذهبوا الى مسابقة اطلاق النار على الاطباق الطائرة وطلبوا من عشاق الاسلحة اخذ اختبار سلامة الاسلحة النارية الذي اعدته الجمعية الوطنية للبنادق. بعد الاختبار، ولكن قبل معرفة نتيجتهم، طُلب من مالكي الاسلحة ايضا تقدير مدى ادائهم مقارنة بالاخرين.

من المدهش ان اولئك الذين حصلوا على اسوا الدرجات في الاختبار اعتقدوا انهم ادوا اداءا جيدا، افضل من حوالي ثلثي الذين تم اختبارهم. اما الذين حصلوا على اعلى الدرجات فكان لديهم فكرة اكثر واقعية عن مستواهم، رغم انهم كانوا يميلون الى التقليل من تقدير درجاتهم.

وفي دراسة اخرى اختبر علماء النفس طلاب جامعة كورنيل في مواضيع تتراوح من القواعد الى المنطق الى الفكاهة. طلب اختبار الفكاهة من المشاركين تقييم مدى طرافة النكتة من مثالين:

الاول: ما هو الشيء الذي بحجم رجل ولكنه لا يزن شيئا؟ الجواب ظله.

الثاني: سال طفل من اين ياتي المطر؟ الجواب هو ان “الله يبكي”. سال الطفل لماذا يبكي الله، والجواب  هو “ربما بسبب شيء سيئ فعلته”.

يتفق معظم الناس على ان المثال الاول ليس مضحكا، بينما الثاني (وهو مقتبس عن كاتب الكوميديا التلفزيونية جاك هاندي) يعتبر رائعا. ولكن هناك شريحة من السكان غير قادرة على التمييز بينهما. اعتقدت المجموعة التي تفتقر الى حس الفكاهة انها افضل من معظم الناس في الحكم على ما هو مضحك.

نشر دانينغ وكروجر نتائجهما في ورقة بحثية عام 1999 بعنوان لا يُنسى: "جاهل وغير مدرك لذلك: كيف تؤدي الصعوبات في التعرف على عدم كفاءة المرء الى تقييمات ذاتية مبالغ فيها". منذ ذلك الحين اصبح ذلك جزءا من لغة علم النفس بل ومن الانترنت. جون كليز (وهو كوميدي مشهور) يعرف دانينغ شخصيا، قام بعمل فيديو على يوتيوب يشرح التاثير في 60 ثانية. يوضح كليز: "اذا كنت غير جيد تماما في شيء ما، فانك تفتقر بالضبط الى المهارات التي تحتاجها لتعرف انك غير جيد تماما فيه. وهذا ينطبق ليس على هوليوود فقط ولكن تقريبا على كامل قناة فوكس نيوز".

كما ينطبق على فلورنس فوستر جنكينز، المغنية ذات الصوت النشاز لكونها غير قادرة بطبيعتها على ادراك لماذا يختلف غناؤها عن غناء المواهب التقليدية. في الواقع، اصرت جنكينز على انها تساوي اعظم نجوم يومها. كانت غالبا ما تؤدي اكثر الاغاني تطلبا وصعوبة. لو كانت لديها فهم افضل للتفاصيل التقنية، ربما كانت ستختار مجموعة اغاني اكثر ملاءمة لقدراتها، مهما كانت.

يرسم المنحنى البياني لدانينغ-كروجر الثقة مقابل الكفاءة.

يقدم درسا واضحا: القليل من المعرفة شيء خطير.

عندما لا يكون لديك اي معرفة او خبرة على الاطلاق في مجال معين، يكون من السهل عادةً التعرف على حدودك. لم المس كمانا في حياتي، لذا لا اتوقع ان التقط واحدا وابدا في العزف. ثقتي في قدرتي هي بشكل صحيح صفر. وبالمثل، كما ذكر دانينغ وكروجر في ورقتهم البحثية عام 1999، "معظم الناس ليس لديهم مشكلة في تحديد عدم قدرتهم على ترجمة الامثال من اللغة السلوفينية، او اعادة بناء محرك V-8 (نوع من محركات الاحتراق الداخلي) او تشخيص التهاب الدماغ الحاد".

لكن اولئك الذين لديهم القليل من المعرفة او الخبرة غالبا ما يعتقدون انهم يعرفون كل شيء. هذا يفسر الصعود الحاد في اقصى يسار الرسم البياني وبلوغ القمة العالية. ستكون فلورنس فوستر جنكينز وماك ارثر ويلر في مكان ما بالقرب من قمة المنحنى.

اولئك الذين لديهم الكثير من الموهبة او الخبرة يكونون اكثر قدرة على فهم حدودهم. يعرفون ما لا يعرفونه، يفهمون اين تفتقر مجموعة مهاراتهم. يقدرون كيف ان الاخرين افضل حقا في بعض الاشياء منهم. تصل مستويات الثقة الى الحد الادنى، في وسط الرسم البياني.

اخيرا، اولئك الذين هم خبراء حقيقيون يعرفون انهم جيدون. يميل المنحنى صعودا الى اليمين. اولئك الذين في مستوى ماريا كالاس (من اشهر مغنيات الاوبرا في القرن العشرين) يدركون خبرتهم - رغم انهم لا يمتلكون بالضرورة الثقة المطلقة التي يمتلكها الجاهل. العبقري يدرك عيوبه، حتى لو لم يلاحظها الجميع. قلة من المستمعين مؤهلون لادراك ان كانت ماريا كالاس قد اخطات قليلا في غنائها.

من السهل السخرية من الثقة الزائدة لدى غير الموهوبين. لكن القيام بذلك هو تفويت الرسالة المزعجة لابحاث دانينغ وكروجر. في عام 2003، كتبوا ان البحث "يثير التساؤل عما اذا كان الناس، او يمكن ان يكونوا، في وضع يمكنهم من تكوين انطباعات دقيقة عن انفسهم. اذا لم يكن لدى الافراد غير الاكفاء المهارات اللازمة لتحقيق البصيرة في محنتهم، فكيف يمكن توقع ان يحققوا رؤى ذاتية دقيقة؟ كيف يمكن لاي شخص ان يكون متاكدا من انه ليس في نفس الموقف؟"

لكي تحصل على الجواب الصحيح لابد ان يكون لديك شبكة اجتماعية مستعدة لقول الحقيقة. كانت فلورنس جنكينز معزولة عن واقع عدم كفاءتها بسبب محبة زوجها، ومدرب صوتها. ولم يطلب سارق المصارف ماك ويلر الراي بطريقته لاخفاء وجهه. العلاج، اذن، يجب ان يكون بسيطا: تجنب الممكّنين والموافقين (اللوكية)، اسال اصدقاء يمكنهم ان يكونوا صادقين بقسوة، اقرا التعليقات حولك، عبر الانترنت وغيرها.

هذه ليست وصفة سيئة، لكنها ايضا ليست علاجا شاملا. فمثلا، كره النقاد عرض الباليه لسترافينسكي "طقوس الربيع" في ادائه الاول. وشكك المجتمع العلمي في امكانية الطيران بجسم اثقل من الهواء. ولم يستطع اينشتاين الشاب الحصول على وظيفة تدريس، ولم يهتم احد كثيرا بما كان يفعله فان كوخ باستثناء شقيقه المحب. قد لا يتعرف الاصدقاء والنقاد على العبقرية الحقيقية، في حال امتلاكها.

قد لا تحمل اوهاما حول قدرتك على اداء متفوق. ومع ذلك، في السيرة الذاتية التراجيدية الكوميدية للحياة، نعاني جميعا من اوهام الكفاءة، بطرق صغيرة وكبيرة.

تاثير دانينغ-كروجر ليس حالة مرضية - انه الحالة الانسانية.

***

..........................

* مترجم عن الاندبندنت البريطانية

* اخيرا، سؤال يهمنا جميعا:

كم في مجتمعنا وخاصة بين صفوف القادة السياسيين والطبقة الحاكمة من تنطبق عليه صفات المغنية فلورنس جنكينز وسارق المصارف ماك ويلر؟

 

ترجمة: عزام محمد مكي

***

هذه ترجمة: لكلمة القاها شاب ايرلندي يعيش في مانشستر (يصف نفسه كجمهوري ايرلندي).  تعرفت على الشاب من خلال المشاركة في التظاهرات التضامنية مع الشعب الفلسطيني التي تنظم في مركز المدينة في يوم السبت من كل اسبوع منذ تشرين الاول 2023، بالاضافة الى التظاهرات المناطقية. من خلاله تعرفت على الخيط الذي يوثق تضامن جماهير نادي السلتيك في غلاسكو، كجزء من تضامن الجماهير الايرلندية مع نضال الشعب الفلسطيني.

بمناسبة بدء مباريات كرة القدم في غلاسكو لهذا الموسم، دعى هذا الشاب الى تجمع تضامني مع الشعب الفلسطيني. وقد حضرالى هذا التجمع عدد كبير من المتظامنين. واما هذا التجمع القى هذا الشاب كلمة القت الضوء على الرابطة النضالية للشعب الايرلندي مع الشعب الفلسطيني.

 ***

يمكنهم قمعكم، يمكنهم سجنكم. لكنهم لن يكسروا روحكم أبدًا.

غزة، طولكرم، نابلس ....لن تمشون وحدكم أبدًا

(ترجمة للشعارات التي ترفعها جماهير النادي)

نادي السلتيك لكرة القدم: لقد تم تأسيس نادي السلتيك في مدينة غلاسكو (سكوتلندا) من قبل المهاجرين من أجل المهاجرين. وهم الناجون من الإبادة الجماعية التي خطط لها البريطانيون... من عام 1845 إلى عام 1852، حيث قُتل ثلث سكان أيرلندا، ونُقل ثلث آخر إلى أستراليا الاستعمارية، أو على متن سفن نقل الجثث إلى أمريكا أو فروا على متن قوارب نقل الماشية إلى بريطانيا.

لم تكن هناك حاجة لذلك. فقد تم شحن آلاف الأطنان من الحبوب والماشية إلى بريطانيا بينما كان الملايين يتضورون جوعاً. ولم يتم تقديم أي إغاثة.  ولم تصل أي مساعدة لأمثالنا. وادعى ملاك الأراضي والأرستقراطيون الغائبون، الذين لم تطأ أقدام معظمهم أرض أيرلندا قط، "حقهم الممنوح من الله" في غنائمهم الاستعمارية وثمار الإمبراطورية.

إنها صورة تكررت في مختلف أنحاء العالم.  العبيد السود في أفريقيا، والسكر والروم في منطقة البحر الكاريبي، والقطن الذي كان يُرسل من العبيد في أميركا إلى الهند لإنتاج الأفيون، ثم إلى الصين، وكل هذا من أجل الشاي والفضة.

كانت أيرلندا بمثابة الوقود الذي يغذي أفران الدم في الصناعة. الرجال والنساء والأطفال. المناجم والمطاحن والعمل لمدة 18 ساعة، مقابل ما يكفي من الخبز لإبقائهم على قيد الحياة حتى يتم العثور على بديل.

في الطرف الشرقي من غلاسكو كانت الأحياء الفقيرة الكاثوليكية الأيرلندية مروعة.

ولكن وفي عام 1887، شرع الأخ ويلفريد، وهو قس كاثوليكي، في إحداث تغيير. فقد تأسس نادي سلتيك لكرة القدم بهدف واحد: استخدام الأموال من مبيعات التذاكر لإطعام الجوعى والأطفال والعاطلين عن العمل.

بعد مرور أكثر من مائة عام، ها نحن ذا، ولا تزال نفس الروح الإنسانية حية حتى يومنا هذا.

لا تزال أيرلندا غير حرة. ولا تزال هناك ست مقاطعات تحت الحكم البريطاني الاستعماري، ولا يزال نضالنا من أجل التحرير مستمرًا. ومع ذلك، فإننا كمشجعين لنادي سلتيك نرفض أن نغض الطرف عن أولئك الذين يعانون تحت نير الحكم الأجنبي والتطهير العرقي. إن تحرير فلسطين يحتل الصدارة في أذهان كل مشجعي سلتيك.

أتذكر الاقتباس الشهير لأسطورة نادي السلتيك تومي بيرنز الذي قال: "إنه أكثر من مجرد فريق كرة قدم، إنهم يلعبون من أجل قضية، من أجل شعب".

هذه القضية هي قضية أيرلندا وقضية فلسطين أيضًا، وهي قضية كل المجموعات والشعوب المضطهدة في العالم.

في عام 2016، واجهنا في دوري الأبطال فريقًا فظيعًا من إسرائيل. وبدلاً من التطبيع مع الهمجية، دافع مشجعوا نادي السلتيك عن مبادئنا وغطوا ملعب نادي السلتيك ببحر من أعلام فلسطين كما فعلوا مرات عديدة.

وعلى اثر ذلك فرض الاتحاد الأوروبي لكرة القدم غرامة على النادي قدرها 8600 جنيه إسترليني. مصمما على عدم الخضوع للإسكات، اطلق الفريق الأخضر حملة "ادفع الغرامة من أجل فلسطين".  وبعيداً عن دفع الغرامة فقط، نجح مشجعوا نادي السلتيك، ومن خلال تبرعات صغيرة من الناس العاديين، في جمع مبلغ مذهل قدره 176 ألف جنيه إسترليني لصالح الجمعيات الخيرية في فلسطين.

تم تقسيم الأموال بين مؤسسة المعونة الطبية لفلسطين ومركز عايدة الرياضي في بيت لحم. ومن خلال نفس روح الخير التي شكلت نادينا، ولد فريق جديد: عايدة سلتيك أو لاجي سلتيك كما يُعرف الآن.

إن هؤلاء الأطفال في الضفة الغربية، الذين يعيشون كل يوم تحت المراقبة العسكرية المستمرة، والمضايقات، والمداهمات الليلية للمنازل، والاعتقال التعسفي، والغاز المسيل للدموع، وإطلاق الذخيرة الحية - كل هذا يعرفه الشعب الأيرلندي جيداً.

ومع ذلك، ورغم كل الرعب والمعاناة التي تحيط بهم، فإن كرة القدم تمنحهم فرصة للتحرر من هذا الواقع. فهي تعيد إليهم إنسانيتهم وحريتهم التي حرمتهم منها سياسة الفصل العنصري الإسرائيلية ـ ولو لبضع ساعات في الأسبوع.

نسمع دائمًا عن السلبيات في كرة القدم، لكننا نادرًا ما نسمع عن قدرتها على أن تكون قوة للتغيير، وقوة للخير، وقوة للمقاومة والتحرر.

بالاستفادة من تجربتنا التاريخية المشتركة، في أيرلندا وفلسطين، يمكننا أن نتعاون معًا لإحداث الفارق.

إن التضامن هو فعل بسيط من أفعال المقاومة التي يمكننا جميعًا القيام بها. فمجرد التواجد هنا اليوم، وارتداء اللونين الأخضر والأبيض، والتلويح بالعلم بفخر، يحدث فرقًا لا يصدق. ولهذا السبب يكرهوننا. بغض النظر عما تقوله الحيوانات، وبغض النظر عما يفعله هؤلاء البرابرة على أرض الملعب اليوم، فإننا نعلم أننا نضع أنفسنا على الجانب الصحيح من التاريخ.

***

 

قدم الطلبة في العالم، لا سيما في الجامعات الامريكية مبادرات ملفتة للانتباه، ومتواصلة مع الغضب الشعبي العام، في الولايات المتحدة الامريكية، وفي العواصم والمدن العالمية ووضعوا في حراكهم الاجتماعي والسياسي والاخلاقي العالم امام حقائق ووقائع ملموسة وضاغطة، عاكسين، دورهم المعهود، وقدراتهم الميدانية في التاثير والتغيير.

ما ابرزه الطلبة تعبيرا عن طوفان واقعي وامتداد فعلي، من جامعات امريكا الرئيسية، وامتداده عالميا. في مغرب الكرة الارضية ومشرقها، ورسم هذا الطوفان بوضوح ووعي اشعاعات طوفان الأقصى وتحولات الارادة الانسانية في قراءة المتغيرات والتحولات والمهمات المطلوبة. فقد كانت طبيعة التظاهرات والحراك العام إثباتا لحقائق تاريخية وفهما متقدما لقضية شعب ووطن وحقوق عادلة، بخلاف السردية الصهيونية الشائعة بقوة المال والاعلام والقمع والتضليل والتشويه وكي الوعي. ولهذا انشغلت الإدارات الامبريالية الحاكمة والمتخاصمين معها وادواتها الوظيفية في التصدي لهذا الحراك المتصاعد ومارست عليه شتى اشكال القمع والتهديد والارهاب، سواء من اعلى السلطات المتحكمة او الادارات الجامعية التابعة والمتخاذلة، وكشفت الصور التي نقلتها الفضائيات العالمية حقيقة إزدواجية المعايير في إحترام القوانين الدولية وحقوق الانسان والمواثيق والاتفاقيات الدولية الموقعة او المقترحة منها.

عمت تظاهرات الغضب الشعبي العالم بعد طوفان الأقصى، وتصاعدت مع استمرار سياسات الاحتلال الصهيو امريكي في الابادة الجماعية والتهجير والقتل والارهاب الممنهج والتدمير المبرمج، حيث اثارت هذه السياسات الاجرامية والانتهاكات الصارخة الضمير الانساني الشعبي، وشرائح المجتمعات الغربية والشرقية عموما، ولاسيما الطلاب في الجامعات والمعاهد الاكاديمية، ودفعتهم لاخذ مواقف سياسية مؤيدة  للقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والعادلة ورفض ممارسات  النازفاشية (النازية/ الفاشية) التي تشنها الامبرياليات الغربية وقاعدتها الإستراتيجية العسكرية المحتلة لفلسطين.

ملحمة طوفان الأقصى بدات في السابع من تشرين الاول/ اكتوبر 2023 وطوفان الطلبة، باسمهم كطلبة في حرم جامعاتهم، سجلت انطلاقته في 17 نيسان/ابريل 2024، حين بدأ طلاب جامعة كولومبيا في نيويورك اعتصاماً بحرم الجامعة، رفضا للعدوان على غزة، ومطالبة إدارة الجامعة بوقف تعاونها الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية وسحب استثماراتها في شركات تدعم احتلال الأراضي الفلسطينية. ولعبت سياسات القمع والارهاب الحكومية والادارية التي استدعت تدخل القوى الامنية واعتقال عشرات الطلاب، وقعها في توسيع حالة الغضب وامتداد التظاهرات إلى عشرات الجامعات الأميركية، مثل هارفارد، وجورج واشنطن، ونيويورك، وييل، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ونورث كارولينا. ولاحقاً، وبالموازاة معه، اتسع الحراك الطلابي غير المسبوق لدعم فلسطين بالولايات المتحدة إلى جامعات ومعاهد في دول مثل كندا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا والسويد والدانمارك والنرويج وسويسرا وهولندا واليونان والارجنتين والمكسيك والهند واندونيسيا واستراليا وجنوب افريقيا، وغيرها في انحاء المعمورة، شهدت جميعها تظاهرات داعمة لنظيراتها الأميركية ومطالباتها بوقف الحرب على غزة ومقاطعة الشركات التي تزود الكيان الاسرائيلي بالأسلحة او تتعاون مع مؤسساته.

فرض طوفان الطلبة منذ انطلاقته اصراره على مطالبه التي ووجهت رغم سلميته  بالعنف المفرط من قبل الاجهزة الامنية وادارات بعض الجامعات في بعض الحالات مثل جامعة كولومبيا وجامعة جنوب كاليفورنيا في لوس أنجلس ودالاس ـ تكساس وغيرها الكثير. واستخدمت الغازات المسيلة للدموع في اكثر من جامعة وكلية، وهو أمر غير مسبوق، واعتقل أكثر من 2200 طالب وطالبة في بقية الجامعات، خاصة في نيويورك، في الاشهر الاولى للطوفان، وشمل العنف الأساتذة، نساء ورجالا، ونقلت الفضائيات مشهد اعتقال أستاذة في جامعة إيموري في اتلانتا جورجيا بصورة عنيفة، اذ تشارك شرطيان لإخضاعها وهي تصرخ بهم «أنا بروفيسورة» مما تركت أثرا كبيرا على تحرك الطلاب، وتوسع الاحتجاج والارتباطات التضامنية المهنية بين العديد من منظمات الأساتذة والطلاب، بكل عناوينها وتشكيلاتها.

كما لفت الطوفان مشاركة طلبة من الديانة اليهودية فيه، اضافة الى شخصيات أكاديمية وسياسية ودينية معروفة في المشهد السياسي الامريكي والعالمي، وشارك هؤلاء الطلبة في مظاهرات المدن المنتظمة ايضا خارج حرم الجامعات، كاقتحام الكونغرس ومحطات القطارات وتمثال الحرية والمطارات، بشعارات تعرف بهم مؤيدة للقضية الفلسطينية وضد الحرب والعدوان والابادة الجماعية والتهجير المنظم والدموي. وهو ما طرح فهما جديدا ومواقف مهمة في اختراق العقلية والسردية الصهيونية ورد ملموس، عليها وعلى جرائم الحرب والابادة التي ترتكبها الامبريالية وقاعدتها ضد الشعب الفلسطيني والوطن العربي.

وما اكده الطوفان مع تصاعد الحراكات الاحتجاجية والاعتصامات في حرم الجامعات رفع العلم الفلسطيني على سارية طويلة وسط الحرم، مع رفع العلم الفلسطيني ولبس الكوفية الفلسطينية، كرمزين احتجاجيتين لاغلب المشاركين، ونصب الخيام والاعتصام في الحرم الجامعي او بالقرب من بنايات الجامعات او اداراتها، تنديدا باستمرار العدوان الوحشي على غزة  ومماطلة بعض إدارات الجامعات في تلبية المطالب الداعية الى وقف الاستثمارات في الكيان المحتل وقطع العلاقات والتعاون مع الجامعات فيه. وبديهي تتعالى الهتافات المؤيدة للقضية الفلسطينية اثناء رفع العلم الفلسطيني والتلويح بنموذجه والكوفية في تحد ومواجهة مكشوفة وصمود كفاحي معبر عن وعي ثوري وجهادية شبابية كاملة، ورفع شعارات مركزية، تدعو الى الحرية لفلسطين، ووقف الحرب فورا، وفلسطين حرة من البحر الى النهر، ومنع تصدير الاسلحة وإدانة الممارسات النازفاشية. وتكررت هذه الاحتجاجات حتى في حفلات التخرج الاكاديمية وفي كلمات الطلبة المتفوقين في دراساتهم، داخل قاعات الاحتفال وخارجها، باشكال لفتت الانتباه الى ثقافة جديدة، يتمتع بها طلبة الجامعات، من مختلف التكوينات الاجتماعية والتيارات الثقافية والفكرية.

في هذا الزخم الكفاحي امتد طوفان الطلبة في اغلب الجامعات الامريكية، في اكثر من 120 جامعة في اغلب التقديرات الاعلامية والتي تركت اثرها عالميا وحركت في اساليبها ومطالبتها وعي الطلبة الجديد بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، رغم الاعتقالات والعنف المتوحش من قبل القوى الامنية وبعض الادارات الجامعية وانتهاكها للاعراف الجامعية وحقوق التعبير المنصوص عليها في الدستور الامريكي، وفي اغلب الدول التي مارست تلك السياسات الارهابية الرسمية.

انتقال صورة الحراكات الاحتجاجية واساليبها وشعاراتها داخل الجامعات وفي اغلب الدول، غربا وشرقا على هذه المعمورة، من الولايات المتحدة الى استراليا واليابان، مرورا بالدول الاوربية والدول الأفريقية والآسيوية والامريكية الجنوبية، اعاد وهج القضية الفلسطينية وعرّف بعلمها وكوفية الشعب الفلسطيني وتاريخ كفاحها من اجل التحرر والاستقلال والسيادة الوطنية. وبيّن مشروعية حقوق الشعب الفلسطيني وضرورة تحرره وعودة المهجرين لوطنهم وبناء الدولة الوطنية المستقلة من البحر الى النهر، كما رفع بالشعارات والبوسترات، في كل الحراكات الاحتجاجية في ذلك الطوفان العالمي.

عكس هذا الطوفان الطلابي والشعارات والمطالب التي رفعها، والقائمون  به، والمتصدون بصلابة لسياسات الحكومات القمعية وعنفها الفاقع، واستمراره في الاحتجاج والإدانة المتواصلة للحرب والاجرام والابادة والتهجير والتدمير، عكس  صورة وعي جديد، صحوة عالمية بلا حدود، انسانية النزوع، وارادة جامعة لاجيال جديدة تدخل معترك العمل السياسي والكفاح الانساني من اجل عدالة القضايا المشروعة للشعوب، وابرزها اليوم، الشعب الفلسطيني، وعزل السياسات الاستعمارية وادواتها العدوانية وسرديتها المخادعة والقائمة على التضليل وتزوير التاريخ وقلب الحقائق وتشويه الوعي فيها. وفي الوقت نفسه قدم هذا الطوفان في استمراره، وامتداداته العالمية، ردا نضاليا لعدالة القضية الفلسطينية ومشروعية حقوق الشعب الفلسطيني ومقاومته بكل اساليبها واشكالها.

اثبت طوفان الطلبة العالمي عمليا انطلاقه من اشعاعات طوفان الاقصى ومن ارتداداته وانعكاساتها ثقافيا وفكريا ومبادرات نابعة من صحوة الضمير الانساني، والالتزام الأخلاقي والمبدأي من ابناء وبنات القضية الفلسطينية والمتضامنين معها، من العرب والمسلمين، ومن احرار العالم من كل الجنسيات والاديان والتيارات الفكرية والسياسية والثقافية، وهو ما يذكر او يسجل موقفا تاريخيا وتواصلا بالكفاح الوطني التحرري العالمي.

***

د. كاظم الموسوي

السير آرنولد ولسن قطب الاستعمار البريطاني الكبير الذي كان يعارض استقلال العراق وتأسيس الحكم الوطني فيه والذي اصبح بمنصب وكيل الحاكم المدني العام فيه بعد الإحتلال البريطاني ذكر في كتابه المشهور (ولاءات بلاد ما بين النهرين) بمناسبة وفاة الجنرال مود ما يلي: وكان مثله كمثل الاسكندر الكبير توفي في بابل سنة 323 ق.م. والأمبراطور الروماني (جوليان) الذي مات سامراء سنة 363 م حيث إنه استولى على أرض العراق الناكرة للجميل فأصبح فريسة لها..).

ايها (السير) لو كنت حاضراً بيننا الآن لقلنا لك ما هو الجميل الذي قدمه هؤلاء لبلاد الرافدين؟ إنهم دنسوا الأرض وعاثوا في الأرض فساداً لهذا رفضتهم الأرض وحاربتهم الأقدار فسقطوا صرعى على هذه الأرض الوفية لإبناءها ومحبيها وعشاقها، ولقلنا ولقلنا الشيء الكثير لكنك سقطت أنت الآخر صريعاً عندما تطوعت في سلاح الجو البريطاني إثناء الحرب العالمية الثانية وسقطت بك الطائرة قي سماء لندن فتحولت إلى رماد منثور.

فكل العالم يعرف إن بلاد النهرين هي هذه الأرض المباركة والتي أمتدت حضارتها في طول التاريخ وعرضه وذكر سهلها الرسوبي الخصيب في التوراة بأسم (سهل شنعار) وهي بلاد بابل وآشور وموطن نوح والنبي يونس ومسقط رأس إبراهيم الخليل حيث ولد في مدينة (إور) وهي المكان الذي أنشأ نبوخذنصر فيه الجنائن المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، وهي الأرض التي يجري فيها الفرات ودجلة الذي ورد أسمه في التوراة بأسم (حديقيل) ويعني هذا الاسم (السهم) لسرعة جريانه، وبعد هذا كله فهي تضم بغداد عاصمة البلاد ومدينة الأف ليلة وليلة، وكعبة العلم والمعرفة طوال العصر العباسي الذي أمتد أكثر (500) سنة.

لقد جابت جيوش الأسكندر الكبير الأرض غرباً وشرقاً حتى دخل بلاد الهند ووصل إلى تخوم الصين ثم عاد إدارجه إلى بابل وأتخذها عاصمة لإمبراطوريته حيث أختارها لإنها كانت تضاهي (روما) في جمالها وعظمتها وكان إحتلاله عام 331 ق.م.

توفي الإسكندر في بابل إلا إن الروايات التاريخية اليونانية تختلف في سبب وفاته فمنها من قال إنه مات مسموماً من قبل رفاقه إثناء حفلة للشرب، إلا إن المصادر البابلية تقول إنه كانة يشكو من داء (البرداء) وهو (الملاريا) حيث أخذت الحمى تدب في أوصاله بدون إنقطاع وتذكر هذه الروايات إنه كان يكثر من الذهاب إلى نهر الفرات لغرض الإستحمام في مياهه ولكن دون جدوى حيث أخذت درجة حرارة جسمه في الإرتفاع الشديد حتى فقد القدرة على الحركة والكلام وكانت وفاته عام 323 ق.م. وقد أكدت المصادر اليونانية ذلك حين ذكرت بإن سبب وفاة الأسكندر هي إنه تعرض إلى لدغة بعوضة سببت إصابته بمرض الملاريا ولم يتعرض إلى مؤامرة – بحسب ما نسميه اليوم بنظرية المؤامرة.

وهكذا مات أعظم فاتح في التاريخ القديم بلدغة بعوضة (بابلية) باسلة هدت ذلك الجسد الشبابي المفتول العضلات وجعلته جثة هامدة.

بعد إحتلاله لبابل قال الأسكندر (إن الدخول إلى بابل سهل ولكن الخروج منها صعب...) فخرج منها محمولاً في تابوت من ذهب، لقد أوصى قبل وفاته  بأن يكفن ثم يوضع في تابوت من ذهب ويدفن في الأسكندرية وكان له ما أراد.

فاتح أخر هذه المرة رومي الوجه واليد واللسان غزا بلاد الرافدين هو (يولياس) كما يسميه الرومان و(يوليان) كما نسميه نحن عاش بين 331 – 363 م وهو أبن أخت الإمبراطور قسطنطين الكبير أول إمبراطور روماني أعتنق المحسيحية، اصبح (يوليوس) إمبراطوراً عام 361 م إلا إنه جحد المسيحية وشجع الوثنية فسماه الروم (يوليوس) الجاحد أو المرتد. غزا هذا المرتد بلاد الرافدين عام 363 م بعد أن إجتاز آسيا الصغرى  وبلاد الشام حتى وصل إلى موقع مدينة سامراء الحالي وكان غزه للعراق أبان حكم الملك الفارسي (سابور بن أدشير) وجاء إلى العراق في جيوش لا يحصى عددهم ولم يكن لسابور حيلة في دفعه ولقائه لمفاجأته أياه فانصرف سابور عن اللقاء إلى الحيلة، كما جاء في مروج الذهب للمسعودي (ج.1)، وبينما كان يولياس يسير على ضفاف نهر دجلة وقد تملكه الغرور وأحاطت به العظمة من جميع جوانبه جاءه سهم من يد فارس نصراني كان قد حقد عليه لإرتداده عن المسيحية فاصابه وقد قال إثناء أصابته (... لقد غلبتني أيها الجليلي ترث مع ملك السماء ملك الأرض أيضاً) مشيراً إلى السيد المسيح بهذا القول. ثم لفظ إنفاسه الأخيرة على ضفاف نهر دجلة حيث غسلت موجاته ومياه دجلة تربة بلاد النهرين من دنس هذا الوغد الرومي الجاحد.

وما كان ستانلي مود (1864-1917) بأخر غزاة بلاد ما بين النهرين ولم تكن نهايته أحسن من نهاية من سبقوه من الغزاة كالأسكندر المقدوني ويولياس فقط مزقت الكوليرا امعاءه ونزف ما في جوفه من أحقاد قديمة تجاه شعب وحضارة العراق إنها النهاية الحتمية لكل الغزاة والطامعين من قبله فهكذا انتهى جنكيز خان ونيرون وهولاكو وهتلر وصدام حسين. لقد رسم القدر المحتوم نهاية مود حين دعاه زعماء من يهود بغداد الذين رحبوا بدخول القوات البريطانية الغازية إلى بغداد واعربوا عن فرحهم بزوال الحكم العثماني بسبب الإضطهاد الأتراك لهم خلال فترة حكمهم فأطلقوا على الإنكليزي أسم (أبو ناجي). وقد لبى الجنرال ستانلي مود هذه الدعوة وحضر الإحتفال الذي أقامته مدرسة الليسانس الإسرائيلية في بغداد والذي اقيم في يوم 14/11/1917 وتناول إثناء الحفل هذا قدحاً من الحليب الممزوج مع الشاي ويبدو إنه كان ملوثاً ومن يومها أصيب مود يمرض الهيضة (الكوليرا) ولم يمهله المرض غير أيام معدودة فلفظ أنفاسه الأخيرة في يوم 18/11/1917 بحسب ما جاء في التحقيق الذي أجرته سلطات الإحتلال البريطاني في بغداد.

ستانلي مود صاحب المنشور الشهير الذي إلقته طائرته على أهالي بغداد إثناء الإحتلال قائلاً (حنجن جئنا محررين ولسنا فاتحين). ولكن بعد أيام ظهر زيف ادعاءه. هذا الغازي اعتبر من كبار الفاتحين وكانت سلطات الإحتلال قد جمعت من كبار التجار ووجهاء بغداد مبالغ من المال لإنشاء تمثال له بإعتباره (فاتح بغداد) وقد أقيم التمثال بالقرب من السفارة البريطانية في بغداد وبقى قائماً يتحدى مشاعر العراقيين حتى قيام ثورة 14 تموز المجيدة 1958 حيث هاجته الجماهير الثائرة وأزالته من الوجود.

وهكذا غسلت مياه دجلة والفرات آثار اقدام الغزاة مهما تجبروا وطالت أعمارهم وثقلت وطئتهم على أرضه، فقد أنتهوا بوثبة من وثبات الشعب المباركة.. ولكن هل يتعظ السلطان العثماني أوردغان الأول بدروس التاريخ هذه ويتجنب مصير أسلافه الغزاة والفاتحين الذين سقطوا كالذباب تحت أقدام شعب بلاد ما بين النهرين؟

***

غريب دوحي

لم تذكر التَّواريخ، ولا معاجمُ اللُّغة وقواميسها القديمة، أسماء الأرقام ما بعد الألف. لم يكن المليون معروفاً، ولا المليار، ناهيك عن التريليون. كان أفضل مَن توسع بتدوين الحسابات هلال بن المُحسن الصَّابيّ(359-448 هج)، في «رسوم دار الخلافة». زاد الكتاب فائدةً محققُه الحَصيف ميخائيل عواد(ت: 1996)، شكل وشقيقه كوركيس(ت: 1993) ثنائياً علمياً، وكم مِن النّوادر خرجت بتحقيقهما.

أتى الصَّابيّ على تفاصيل رواتب الموظفين، والعساكر، والمستخدمين، وميزانيات المطابخ، وما خص الخلفاء والوزراء، ومصروفات العمران، والأسعار وتبدلها حسب المواسم. لكنَّ أهم ما وقعت العين عليه: أنَّ هارون الرّشيد(حكم: 170-193 هج)، تمنى بلوغ خزينته «البَنُور»(المليار)، فـ «خِلَافَته فِي غَايَة العظمة والفخامة، حتَّى يحْكى أَنه كانَ يستلقي على قَفاهُ، وينظر إلى السَّحابة الحاملة للمطر، ويقول: اذهبي إِلى حيثُ شِئتِ يأتيني خراجكِ» (القلقلشنديّ، مآثر الأناقة في معالم الخلافة).

قال صاحب الخراج: «سَألني الرَّشيد يوماً، عن مبلغٍ مالَهُ، فَقلتُ: ثَمَانمِئَة ألف ألف وثلاثَة وسبعُونَ ألف ألف دِرهَم. فقالَ: أحبُّ أنْ تبلغ بَنُوراً، والبَنُور ألف ألف ألف. فَقلت: لا أرَانِي الله ذلِك ولا كانَ، فضَحِك ثمَّ قالَ: كأَنَّك تذهب إلى أَنَّ الإنسانَ إِذا أُعطي أمْنِيته أتَتهُ منيتهِ»(رسوم دار الخلافة).

كان يُعبر عن المليون بألف ألف، وعن المليار(البَنُور)- وربَّما لم يُذكره غير الصّابئّ- بألف ألف ألف. كذلك مِن بين المعجمين ذكر مجد الدِّين الفيروزآبادي(ت: 817هج) «البَنُور»: «المُخْتَبَرُ من النَّاسِ، (و) البنادِرةُ: تجَّارٌ يلزَمونَ المَعادِنَ، أو الذينَ يَخزُنُونَ البَضائعَ للغَلاءِ»(القاموس المحيط)، أي الاحتكار.

لم يحقق هارون الرَّشيد أمنيته، ونحن لا نتذكر، في دروس الحساب والرِّياضيات، في المدارس، طُرح رقم «المليار»، ناهيك عن «التريليون»، كذلك لم يُطرح المليار رقماً لميزانية مِن ميزانيات دول المنطقة، فالسقف كان الملايين. أمّا الجرائم المالية فلم تتجاوز الألوف، وهناك مَن قُدم إلى محكمة الثَّورة(بعد 1968) لاختلاس مئة دينار أو أقل، فحينها شكلت السُّلطة مفارزَ رقابية وتحقيقية، تُفاجئ المحاسبين في دوائر العراق كافة، يفتح الخزنة ويفتحون سجله، فإذا وجدا غير متطابقين اُعتقل بالحال، ومنهم مَن أخذ عشرة دنانير، بنية إرجاعها، فضبطت عليه وصدر حُكماً ضده، وبهذا انتهى الاختلاس مِن أموال الدَّولة، ولم نسمع باختلاس مليون ناهيك، عن المليار.

لكن ما إنّ نُشرت فضيحة ما عرف بـ «سرقة القرن»، مليارين ونصف المليار دولار، مِن الأموال الضّريبيّة(2022)، حتَّى أُعلن عن فضيحة اختلاس اثنين وعشرين مليار دولار، وقد لا تكفي الأصفار تحويلها إلى الدينار العراقي، فهو مِن الضَّخامة بحيث يصعب عد أصفاره، وبهذا يُريح سارق، أو مختلس، الألوف والملايين ضميرَه، فسرقته لا تعني شيئاً.

لهذا سخر مني أحد المطلعين، عندما كُتبتُ عن الاستحواذ على «جامعة البكر»، أرضاً وبناءً ومعداتٍ، وأرضها مِن أغلى الأرضين ببغداد، قال: لا أحداً يلتفت إليها، وسقطت لضاءلتها نسبة لما تلاها! فمع الزَّمن حذفت فضائح، لظهور الأفضح.

عندما يُسرق اثنان وعشرون مليار دولار، أو «بنور» بلغة الأقدمين، ماذا يُقابله مِن الخراب؟! ناهيك عمَّا يُصب مِن المليارات في طواحين التَّخلف والجهل. رافق ذلك تعطيل وتخريب نحو عشرة آلاف مصنع، تُغني العراقيين عن الاستيراد، وضخ المليارات إلى الخارج، لنصرة «الولاية»، وما يُصاحب ذلك مِن الفساد، تغنيهم بالألبان، والأدوية، والمربيات، والدِّبس - والبلاد أمّ النّخيل - والأقمشة، والورق، والصَّابون، والزُّيوت، والطّابوق، وما تفرش به الأرض، مرمر وكاشٍ، والأدوات الدّقيقة، كل هذه الصّناعة نخرها فساد المليارات، لصالح الخارج الذي يظهر الود و«حماية الأعراض»، وهو الخراب الأعظم.

ربط صاحب خراج الرّشيد بلوغ الألف ألف ألف(البنور/ المليار) بالمَنية، حتّى مات خليفته وهو متمنياً البنور، لكن «بنورات» اليوم تتجدد بها حيوات مختلسيها، وقد «سمن الرّصيدُ» بشركات وعتبات!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كثيرا ماتمنى ساسة ومخططون وصناع استراتيجيات رؤية الشرق الاوسط -هذه البقعة الاهم والاخطر امنيا وستراتيجيا -متوافقا مع مايريدون ومايطمحون اليه، الشرق الاوسط نقطة تقاطع الحضارات والاديان والثقافات والمدنيات والستراتيجيات الدولية.

.يوم انشأ الغرب اسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، ودعمها وساندها وطنا قوميا لليهود ودولة وظيفية تشكل امتدادا للغرب وستراتيجياته في المنطقة، لم يخامر النابهون والعارفون الشك، بان اسرائيل هذه ستكون السوط الذي يجلد به الغرب ابناء المنطقة، كلما احتاج الى ذلك لاي سبب كان، لكن الذي لم يكن متوقعا هو، تحول اسرائيل من دولة وظيفية تابعة، الى دولة صانعة للستراتيجيات، تتخادم مع الدول التي تقود النظام العالمي، وتشارك في ترسيم صور النظام الدولي بما يلائم امنها وطموحاتها، استطيع الزعم باننا في هذه الفترة الانتقالية بين نظام دولي تنفرد بزعامته الولايات المتحدة، وملامح نظام دولي غير واضح يقال بانه في طريقه الى التشكل باقطاب متعددة، تقوم الدولة العبرية بدور اكبر من حجمها بكثير، متخطية القوانين والاعراف والقرارات وحتى الاخلاقيات الدولية، من دون ان يكون لداعميها القدرة على التأثير الحاسم في قراراتها .

في جميع الحروب التي شنتها الدولة العبرية كانت الادارات الامريكية تفرض رؤيتها لوقف الحرب وان كانت هذه الرؤية لاتتباعد عن المصلحة الصهيونية، لكن بما يحفظ لامريكا هيبتها وتأثيرها في النظام العالمي،

في الحرب الراهنة (حرب غزة ولبنان) تبدو الادارة الامريكية اضعف من ان تؤثر في قرارات حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، الان اظهرت تفاعلات الساحة الداخلية الصهيونية الميالة الى مزيد من التطرف والعنف والغطرسة، انها متساوقة مع الاتجاهات اليمينية المتطرفة في اوربا وعموم الغرب، ترفع ذات الشعارات وتسلك نفس السلوك، كأننا في مرحلة ماقبل الحرب العالمية الثانية، حيث تسود اتجاهات قومية يمينية متطرفة، وتتعالى قيم التشدد وتدمير وسحق الاعداء بالقوة !!! .

بداية الالفية الثالثة طرح شيمون بيريس الرئيس الاسرائيلي مشروع الشرق الاوسط الكبير، متزامنا مع المشروع الامريكي الذي عبرت عنه كوندوليزا رايس مستشارة الامن القومي ولاحقا وزيرة الخارجية في ادارة الرئيس بوش الابن، قوام المشروعين او بالاحرى الرؤيتين، يتأسس على توسيع ونشر الديمقراطية واحترام حقوق الاقليات والحريات الدينية، واقامة سلام دائم في المنطقة، وادماج اسرائيل في محيطها الشرق اوسطي بتطبيع العلاقات معها وتمكينها من قيادة المنطقة بفعل (عبقرية العنصر اليهودي وراس المال العالمي) مقترنا بقبول وتعاون دول المنطقة، مع طي صفحة الصراع العربي الصهيوني باعطاء الفلسطينيين دولة تضم الضفة الغربية وقطاع غزة، منزوعة السلاح وخاضعة عمليا للهيمنة الاسرائيلية امنيا واقتصاديا .

تأخر بلوغ هذا المشروع لاهدافه بسبب ممانعات ومقاومة ومخاوف قادتها القوى الاسلامية وبقايا اليسار القومي العربي، هذه الممانعة غذتها ايران بدرجات متفاوتة، لان مشروعها السياسي كان يقوم على فكرة مقاومة الهيمنة الغربية والتغول الاسرائيلي، وساهمت الانتفاضات الفلسطينية وتعالي قيمة وهيبة المقاومة الاسلامية اللبنانية (حزب الله) في تماسك هذا المشروع وصموده، خاصة بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، ثم انسحاب اسرائيل من غزة عام 2005، وصعود كفة حماس والجهاد الاسلامي فلسطينيا، واحزاب الاسلام السياسي عربيا وفي تركيا .

بعد عقدين داميين من الصراعات الداخلية على السلطة بين مشاريع قوى الاسلام السياسي وبين مناوئيها، وبعد سلسلة عقوبات وحصارات على ايران - قائدة محور المقاومة- انهكتها اقتصاديا واجتماعيا، تمخض الوضع العام في المنطقة عن لوحة سوريالية محزنة من الخسارات والتراجعات وضياع الفرص وصعود الشكليات على حساب الجوهر، (ساهم التطرف والارهاب القاعدي والداعشي السلفي في تسريع الانهيارات )، في قبال تنامي قدرات عسكرية وتكنولوجية هائلة لدى اسرائيل وتسليم عربي شبه كامل بالذهاب الى التطبيع الشامل معها، كون مشروع الاسلاميين الزاحف الى السلطة، جمع في تهديده اسرائيل وانظمة المنطقة على حد سواء، ووجدت الانظمة وبعض النخب السياسية والمالية والثقافية، ان مصلحتها في التطبيع، فعدوها لم يعد اسرائيل، انما القوى الدينية السياسية التي رفعت شعار مناكفة الغرب حضاريا مبتدئة بانظمة الدول القطرية، وهي لاتملك القوة المكافئة ولا الادوات المساعدة، ولا البنية المادية، عدا خزين الحماسة الدينية والخطاب الثوري والايدلوجية التعبوية، وحتى هذه الاخيرة لم تكن قادرة فعلا على بناء حاضنة اجتماعية كافية لدعم المشروع (الاسلامي)، لان الاسلاميين اهملوا قضايا ومشكلات اجتماعهم السياسي المحلي، وصنعوا لهم اعداء كثر، واستفزوا قوى عديدة اجتماعية وسياسية ناوئتهم، مستفيدة من الخصومة بين الاسلاميين والغرب، وعداوة الغرب لكل مشروع لاينسجم مع قيمه الحضارية والسياسية .

هجوم حماس في اكتوبر 2023 كشف الى اي حد بلغت عزلة الاسلاميين وفقدانهم للدعم والتعاطف الجماهيري، وكشف الصعوبات التي افقدت زعيمة محور المقاومة (ايران) القدرة على المخاطرة ودعم حلفائها وخوض حرب شاملة او جزئية قد تكلفها خسارة بقاء النظام، حيث تقوم ستراتيجية الامن القومي على قاعدة راسخة مفادها: حفظ النظام السياسي الاسلامي من اوجب الواجبات، ومقدم على كل القضايا المبدئية الاخرى .

اسرائيل والغرب من ورائها، ودول اقليمية عديدة تخشى من محور ايران وجماعات وفصائل (الاسلام السياسي) جديا، وقد وجدت ان الفرصة سانحة لضرب هذا المحور. في هذه الفرصة التي قد لاتتكرر، مادامت ايران منشغلة بالتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها (الاقتصاد، الامن، ثقافة الجيل Z، العقوبات، التحولات الاجتماعية والسياسية التي اثرت على الثقافة الثورية )، صحيح ان حركات المقاومة الاسلامية امتلكت ترسانة اسلحة لم يسبق لفاعل سياسي غير دولتي امتلاكها من قبل، لكن هذه الاسلحة الصاروخية صارت هي الدافع لكل القوى الاقليمية والدولية الى جانب اسرائيل للتخلص من هذا التهديد، الذي بات يقلق دول الشرق الاوسط بأسرها والقوى الدولية الداعمة لها .

ستتوقف حرب غزة -لبنان في غضون اسابيع او اشهر، بعد جراحات مؤلمة وتضحيات جسيمة، لكن الثمن الاكبر لترتيبات مابعد الحرب سيكون على حساب حركات المقاومة، وسيكون العامل الاكثر ضغطا وخطورة ليس اسرائيل وعنجهيتها، والغرب الحامي لها، والدول الاقليمية المقبلة على التطبيع معها، بل جيل النكبات والخسارات المحلي الذي لن يقبل بعد الان ان تخاض باسمه ونيابة عنه حروب ابادة يدفع من لحمه ودمه وحاضره ومستقبله اكلافها دونما منجز سياسي كبير، سينصرف القسم الاكبر من هذا الجيل عن المثل والقضايا الاسلامية الكبرى، الثقافة السائدة التي تهيمن على الفضاء المعرفي والاعلامي والسياسي لم تعد الافكار والتوظيف الديني، بل صارت لقضايا المعاش والامن والرفاه والسلام الاولوية، ورغم التعاطف الكبير مع قضايا فلسطين وحريتها والقدس ورمزيتها، غير ان الوعي السائد لم يعد وعيا ايديولوجيا لدى عامة الجمهور، انما هو وعي متجزيء، فالاغلبية التي تعبر عن نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد مؤمنة ومتحمسة لمعارك المصير كما كان الجمهور القومي يردد، الاولويات اختلفت، والمصالح المحلية الوطنية صارت اهم بكثير من المصلحة الاسلامية العليا كما كان يقال، سيظل جمهور حركات الاسلام السياسي وحده في ميدان الصراع، وهذا الجمهور لن يمنع لوحده ولادة الشرق الاوسط الذي عملت عليه العقول الماكرة الذكية التي نجحت في التخطيط والتنفيذ مستفيدة من تعويل اهل القضية على الايديولوجيا وخطابها واهمالهم القضايا الواقعية لهذا الجيل، فانصرف عنهم في ساعة الجد .

فلسطين ومعاركها استهلكت العديد من المشاريع والافكار والايديولوجيات والسيناريوهات، بيد ان التكنولوجيا والمعرفة والتحالفات الذكية تستطيع ان تلحق الاذى باقوى المباديء رسوخا، فلا حياة لمبدأ لاتحميه القلوب والسواعد والعقول الذكية .

***

ابراهيم العبادي

 

في المثقف اليوم