آراء

جمال محمد تقي: الحروب بين الصدفة والضرورة (5)

الحربان العالميتان الاولى والثانية، هي اوروبية بامتياز، وميدان الحرب الباردة الاول هو اوروبا، ومعظم الدول المنخرطة في اكبرحلفين عسكريين عالميين، وارسو والناتو، هي اوروبية، اضافة الى امريكا وكندا كأمتداد وجودي متفاعل!
المركزية الاوروبية الطاغية على العالم، جعلته اسير لتفاعلاتها التنافسية، وحداثتها المتسلحة بالتفوق في انتاج اعظم ادوات الحروب قاطبة، والتي مهدت لسيطرتها الكولونيالية، وفرض شروطها على العالم القديم والجديد، لم تستسلم اليابان لامريكا الا بعد استخدام الاخيرة للسلاح الجهنمي، الذري، على مدينتي هيروشيما ونكزاكي، والصين اخضعتها بريطانيا بقوة اساطيلها وكثافة طلقات مدفعيتها، وبحيلها الافيونية، وشعاراتها الكاذبة الداعية لحرية التجارة، اما الهند درة التاج البريطاني فلم تكتفي بريطانيا بنهب ثرواتها بل سخرت شبابها لخدمة العسكرية البريطانية في مستعمراتها حول العالم، والشرق الاوسط تقاسمته بريطانيا وفرنسا، باتفاقيات سايكس بيكو، التي لم تراعي سعي شعوبه لحق تقرير المصير، ثم اقامت انظمة محلية تسير بفلكها !
عملت بريطانيا وفرنسا على ترحيل المشكلة اليهودية التي تعاني منها اوروبا اصلا الى الشرق الاوسط من خلال وعد بلفور لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مما تسبب بخلق مشكلة مركبة ومستفحلة بتداعياتها حتى وقتنا الحالي، استيطان احلالي يؤدي الى تشريد الشعب الفلسطيني صاحب الارض، اما في افريقيا فالامر اكثر استعبادا وقهرا، فنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا شاهد، ومازالت فرنسا تعتبر غرب افريقيا مجال حيوي وتاريخي لنفوذها والتفاصيل كثيرة من الصومال حتى سبتة ومليلة !
امريكا الجنوبية اعتبرها الاوروبيون حديقتهم الخلفية التي يتزودون منها بما يثريهم ليكرسون تبعيتها كسوق لتصريف منتجاتهم التي تتغذى على خامات جنوب العالم !
مشوار طويل من الحروب المتسلسلة سلكته الراسمالية الاوروبية الامريكية، لمصلحة احتكارات كارتلاتها، والتي لا يفلت من قبضتها اي بلد من البلدان، حتى بعد موجة التحرر السياسي التي سادت العالم كنتيجة عرضية للحرب العالمية الثانية ومقاومة الشعب للسياسات الاستعمارية !
تفاوت التطور التنافسي الاوروبي يشكل دافع موضوعي للحروب الداخلية والخارجية وهو فاعل حتى الآن : والامثلة كثيرة، حروب دول البلقان، الحرب القبرصية، صراعات اسبانيا الكتلونية، استمرار احتلال بريطانيا لجبل طارق الاسباني، مشكلة شعب الباسك في عموم شبه الجزيرة الايبرية، واخيرا الحرب الروسية الاوكرانية، وتداعياتها التي اثبتت ان اوروبا لم تتخلى بعد عن نهج التسلح الذي ينتج فائض القوة للحصانة والتفوق لسوقها الداخلي والخارجي !
يقول تولستوي في ملحمته الخالدة " الحرب والسلام " : ان حادثا احترب فيه ملايين البشر، وقتل فيه نصف مليون من الرجال، لايمكن ان تكون إرادة فرد واحد هي سببه !
نعم الحروب نتاج عوامل موضوعية وذاتية، وتعاشقها يتجسد حتما بمجموعة افراد، وربما بينهم من تتوحد فيه تلك العوامل بطغيان زماني ومكاني تتجلى فيه محددات الصدفة والضرورة معا، فلو لم يكن بونابرت لكان غيره وهكذا الحال بالنسبة للكسندر الاول، او هتلر او موسوليني وفرانكو وتشرشل، حتى ريغان وبايدن وترامب او صدام وبوتين !
واكرر مقولة تولستوي " ان نابليون اداة لا معنى لها بيد التاريخ "، فالصفات الشخصية للافراد لا تحدد وجهة التاريخ، ربما تمنح الحوادث تجسيدا مطابقا لروحه، كالممثلين البارعين في اداء ادوارهم على خشبة مسرح !
يقول علي عزت بيجوفيتش : الحرب ايغال في توحش القوة، وفيها تقع افعال سادية تخالف الفطرة الانسانية، والحروب تصنع سرديتها الكبرى ويضمحل الانسان حد التلاشي امام هذه السردية، ويتقزم لمجرد شيء !
وفي معرض تناوله لنصوص تولستوي في الحرب والسلام، يذهب الى كون النصوص الروائية خير معبر عن حقيقة الحرب السافرة، فهي مادة خصبة للسرد الروائي، ويقرر ان اشتغال المؤرخ على حقبة تاريخية ما، ينتج عنها نوع من السرد البراني لتلك الحقبة اما اشتغال الاديب عن نفس الحقبة فينتج عنه سرد جواني في تفاصيله كل شياطين وملائكة تلك الحقبة التاريخية واخلاقياتها مع كل اكسسواراتها!
تولستوي يحرض غاندي على إستفزاز الضمائر لا العضلات!
هل يعقل ان 30 ألف انجليزي يستعمرون مئات الملايين من الهنود ؟ نعم لان الاكثرية منهم رضوا بالخنوع لاسباب عديدة اجتماعية وثقافية ودينية، لكنهم لو عرفوا ان الانكليز سلطة ظالمة يمكن معارضتها بوسائل المقاطعة السلمية لفعلوا ذلك، هذا فحوى مراسلات الى هندوسي التي كتبها تولستوي في واحدة من رسائله الى غاندي وآخرين من نخب المقاومة الهندية والتي تشرح فكرته، بسلاح سلمي يخير المتعجرفين بان يتصرفوا كوحوش ام بشر بقيم انسانية واخلاقية تميزهم عن حيوانات الغابة؟
رفض ومقاومة الاستعمار البريطاني لا تحتم الصدام الدموي، بل تحتم التعبئة الواعية للملايين كي لا يخنعوا ولا يستجيبوا لدعوات الطاعة العمياء للحكام، التي يبثها وعاض السلاطين من اصحاب النفوذ الديني، ولا دعوات الانتحار التي يبثها المتطرفين، فالمقاومة اللاعنفية ستضعف البريطانيين وتجعلهم بوضع لا يستطيعون الدفاع عنه، المقاطعة السلمية للملايين ستحقن الدماء وتحقق هدف جلاء المستعمرين!
***
جمال محمد تقي

 

في المثقف اليوم