آراء

يونس الديدي: لماذا تبقى الشعوب مخلصة لزعماء فاشلين؟

حين ننظر إلى صفحات التاريخ؛ من ملوك وأباطرة، إلى رؤساء، حكّام عسكريين وزعماء حركة سياسية، غالباً ما نجد صورة مدهشة: شعوب مخلصة لزعماء فشلوا اقتصادياً، سياسياً، إنسانياً، لكنهم ظلّوا في السلطة، وحافظوا على ولاء كبير من الناس. لماذا يحدث هذا؟ ما هي القوى العميقة التي تجبر المجتمعات على الإبقاء على ولاء يبدو عند الكثيرين غير عقلي أو حتى مدمر؟ وكيف يُمكن، مع الزمن، أن تتخلص الشعوب من هؤلاء الزعماء ويصبح الوضع أفضل؟

العناصر النفسية والاجتماعية للولاء غير العقلاني

1. الهوية والانتماء

إنّ البشر كائنات اجتماعية أولاً؛ يبحثون عن الانتماء، عن جماعة يشعرون أنها “نحن”، لها قيم مشتركة، لغة مشتركة، تاريخ مشترك. الزعيم، حتى لو كان فاشلاً، غالباً ما يُصاغ في الوعي الشعبي باعتباره رمزاً لهذا الانتماء؛ هو الذي يدافع عن الكرامة، عن الهوية، أو من يُجسد مقاومة ضد قوى أخرى — سواء كانت أجنبية أو داخلية.

عندما تتماهى هوية الفرد مع هوية الجماعة أو القومية التي يقودها الزعيم، يصبح النقد للزعيم نقداً للذات، للهوية. الهجوم على الزعيم يُحسّ به كإهانة للكيان الجماعي. هذا يضع حاجزاً كبيراً أمام العقل والنقد الموضوعي.

2. الأمل المعقود – الخوف من فقدان كل شيء

حتى الزعماء الفاشلون يوهمون الناس بالأمل — وعد بتحسين، بتحول، بتحقيق إصلاح. ولعلّ هذا الأمل هو ما يبقيهم: الناس تميل إلى الانتظار، إلى الإيمان بأن الكوارث ستكون مؤقتة، وأنّ الزمان سيأتي الذي يترجم الوعود إلى أفعال.

في المقابل، الخوف أيضاً قوي جداً: من الفوضى، من الفراغ، من بدائل مجهولة أو ربما أسوأ. من استبدال زعيم فاشل بزعيم لا نعرفه يمكن أن يكون مصير الشعب معه أكثر ضبابية وخطورة. غالباً ما يستخدم الزعيم الفاشل سلطاته أو شبكاته ليزرع الخوف: من الانقسام، من العنف، من العقاب، من الاستهداف، ومن “الأعداء”.

3. الشرعية الرمزية والمؤسساتية

حتى عندما يفشل الزعيم في إدارة الدّولة بفعالية، قد يحتفظ بشرعية ما — شرعية تستند إلى التاريخ، إلى المؤسسات، إلى التقاليد، أو إلى القوانين الموضوعية.

أحياناً يكون الفشل في الأداء اليومي لا يُوازنه افتقار الزعيم للقدرة على أن يُظهِر نفسه كممثل شرعي للمجموعة. كما أن المؤسسات (الجيش، المخابرات، البيروقراطية، الجهاز القضائي، وسائل الإعلام) كثيراً ما تستمر في إعطاء الزعيم مواقع قوة، حتى عندما تضعف فعاليته، مما يُبعد بدائل محتملة أو يُقوّض القدرة على التغيير.

4. تحوّل القيادة الفاشلة إلى “العدو الخارجي”

عندما يتراكم الفشل، كثير من الزعماء يميلون إلى تصوير النقد والتحفظات على أنهم مؤامرة، خيانة، تدخل خارجي، أو أعداء داخليين. هذه الاستراتيجية تحوّل النقد الموضوعي إلى عمل شيطنة لدى كثير من الناس، فتُلهب المشاعر وتحشد الدعم بواسطة إحساس بأن الزعيم هو المظلومة أو الضحية، وأن من يعارضونه ليسوا مجرد معارضين بل خصوماً للهوية أو للأمن.

التاريخ مليء بصور الولاء غير العقلاني… وأيضاً بصور التحرّر والتخلص

أمثلة على الولاء رغم الفشل

- الرومان في مراحِل انهيار الإمبراطورية: غالباً كان الإمبراطور يُعتبر رمز الاستمرارية، الاستقرار، حتى عندما كانت الدولة تنهار من الداخل، والاقتصاد يتداعى، الحدود تُنتهك، الفساد يتفشى. الناس، من الطبقات المختلفة، كانوا يتشبّثون بالولاء كنوع من الانتماء للحضارة، أو خوف من المصير الغامض البديل.

- أنظمة استبدادية حديثة: كثير منها فشلت في توفير الصحة، التعليم، العيش الكريم، أو حتى الأمان، لكن شعبها بقي يدعمها، إما بخوف، إما بإيمان بأن البديل سيكون أسوأ، أو لأنهم تربّوا على فكرة أن الزعيم هو الضامن للبقاء، وأحياناً لأن المعارضة محجوبة، يُلاحق منتقدوها، ولا توجد مساحة حرّة للمنافسة الحقيقية.

أمثلة على التحرّر والتخلص

لكن التاريخ أيضاً مليء بصور الانهيار، والتغيير، ووضوع الوفاء الجمعي للزعيم الفاشل الذي ينكسر. أمثلة:

- سقوط الأنظمة الاستبدادية في الانتفاضات الشعبية، الثورات، أو بعد حروب أهلية، حدثت حين بلغ القمع والفشل ذروته، وتراكب كل من الأمل في التغيير مع انتفاح الفرصة (مثلاً: ضعف الأجهزة الأمنية، انشقاقات عند القمة، تأثير الإعلام أو الشبكات الاجتماعية…).

- الإصلاحات الداخلية: قد يتم استبدال الزعيم أو تقييده عبر الضغوط الداخلية ، النخب، الجيش، السلطات القضائية، أو عن طريق التغيير الديموقراطي حين يصبح الولاء مكلفاً بصورة لا تُطاق: انهيار اقتصادي، أزمات حياة يومية، فقدان الحياة، موت جماعي، جوع.

كيف يصبح الوضع أفضل بعد التخلص من الزعيم الفاشل؟

عندما يُنجز التغيير (وطبعاً ليس كل التغيير ينجح)، فإن بعض النتائج التي تُحققها الشعوب تحسّن الحياة:

- تحسين الأداء الحكومي: عندما يتغيّر القائد أو يُحاسب، تُصبح المؤسسات أكثر مسؤولية، تُصبح المواجهة السياسية أكثر شفافية، وقد تنفتح مساحة للنقد البناء والتجديد.

- حرية أكبر في التعبير والمشاركة: غالباً ما يكون القمع وحرمان الحريات من سمات الزعماء الفاشلين الذين يُخاف من سقوطهم؛ بعدهم، تنتعش المعارضة، وسائل الإعلام، المجتمع المدني.

- إعادة توزيع السلطة والموارد: الزعماء الذين احتكروا السلطة في أيديهم غالباً يُخلّون جزءاً منها بعد التغيير ، سواء بمؤسسات قيّمة مثل القضاء المستقل أو الانتخابات النزيهة أو مؤسسات رقابة.

- إحياء الأمل والثقة: أحياناً يكفي أن تُعطي الشعوب لنفسها الفرصة لأن تُعبر عن رأيها، أن تُغيّر، حتى عندما لا يتغيّر كل شيء ، الشعور بالوكالة، بكون الفرد جزءاً من صنع القرار، يحرّر ويُنعش المجتمعات.

الخوف والأمل كمحركين أساسيّين لسلوك غير عقلاني

إنّ الاثنين: الخوف والأمل، والتقلب بينهما، يشكلان طوق نجاة، أو حلقات دامية، في ولاء الجماهير:

- الأمل يدفع الناس إلى التماسك، إلى الانتظار، إلى التسامح مع الأخطاء، إلى البحث عن تفسير يُرضي النفس بأن الفشل ظرفي، مؤقت، أن الزمان كفيل بتصحيح الأخطاء إن ظلّ الزعيم موجوداً.

- الخوف يجعلهم يخافون من البديل، من الفتنة، من الانفلات، من الاستهداف السياسي، من الجوع، من الحروب، من الفقر. إذا سقط الزعيم الفاشل، قد يسقط معه الاستقرار أو ما تبقى منه، قد تظهر الفوضى أو تُستغل من قوى أخرى أضعف.

-غالباً ما تُستخدم رمزية الخوف: الإشاعة أن من يعارض الزعيم هم “أعداؤه”، أن المعارضين خونة، أو أنهم ينتمون لقوى أجنبية. فتُكبت الأصوات المطلوبة للنقد، أو تُخنق الحركات الإصلاحية، حتى قبل أن تبدأ.

- الأمل الخفي – أمل التغيير، أمل الإصلاح – موجود دائماً، يُحرّك مقاومة داخلية، سواء بالمعارضة الديمقراطية أو بالاحتجاجات أو بضغط الرأي العام أو الضغوط الدولية.

 الخاتمة

إن ولاء الشعوب لزعماء فاشلين ليس ببساطة “غباءً” أو “سذاجةً” من جهة الشعوب، ولا هو بالضرورة استسلامٌ مطلق. هو خليطٌ معقّد من النفسيات (هوية، انتماء، الأمل والخوف)، من الهيئات المؤسسية، من الظروف التاريخية، من القيم المجتمعية، ومن استراتيجيات الزعماء الذين يعرفون كيف يستثمرون في هذه العناصر.

والدروس التي يُعلّمنا إياها التاريخ – السقوط الذي لا مفر منه للأنظمة التي لا تُجدّد نفسها، والطموح المستمر للشعوب نحو القيادة التي تستحقها – تتيح لنا أن نرى: أنه لا بدّ من اللحظة التي يُصبح فيها الولاء عبئاً، فيُتخلص منه الناس، وتنكسر القيود الرمزية، وتبدأ حقبة جديدة يُبنى فيها على الشفافية، والعدالة، والمشاركة.

***

الكاتب: ذ يونس الديدي كاتب مغربي مختص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

في المثقف اليوم