آراء

آراء

من اهم مظاهر الانحطاطية الشرق متوسطيه المستمرة منذ اكثر من سبعة قرون، غياب التحدي الابراهيمي من الاهتمام العقلي، على افتراض وجود مايدل على حضوره الفعال باية درجه ومستوى، وفي مكان وموضع من المعمورة، تعبيريته الرئيسية والاهم عن ذاته، نبوية حدسية ابراهيمية، لم تحضر هذه على الاطلاق من بين مايمكن اعتباره مجالات وموضوعات جديره بالمراجعه، بحثا عما يمكن ان يكون مساعدا على عبور حالة التردي الشامل وتوقف عمل الديناميات التاريخيه المجتمعية، هذا على الرغم من تعاظم الرغبه باللجوء لمتبقيات هذا المنجز، ومحاولة بعث فعاليته المتوقفه عن طريق تكرار نماذجه ومناسباته الفعالة المنصرمه، والتي غدت من الماضي، وادت المطلوب بناء على اشتراطات زمنها الذي انقلب وتغير مع حضورها، لنغدو بعدها، وبعدما وجدت، مشمولين بمفاعيل زمن اخر كمثل الاسلام الختامي وماتحقق بفعله انتشارا وفعالية امبراطورية دامت لاكثر من خمسة قرون، وكرست الانتشار المفهومي شرقا وصولا الى الصين وغربا حتى غرب اوربا.
والاشكال الاكبر والعقبة الكاداء لهذه الجهه، ان الابراهيمية والنبوية العملية منها كالمسيحية والاسلام، لايخضعان عقليا للتاريخانيه، وانهما مع جملة النبوية خارج فعل الزمن والتاريخ، فليس لهما ماض وحاضر ومستقبل، وهذه الصفة المتعدية للتاريخ تناسب مصدرهما الالهي فوق الزمني، والذاهب بهما الى انتهاء الوجود البشري على كوكب الارض/ القيامه، مايعني كونهما حضور عالم آخر في قلب الحياة الارضية المجتمعية المادية، تاخذها لمافوق ارضوية.
هذا في حين سادت مع الحضور الاوربي المتاخر الالي على مستوى المعمورة، نزعه متشبهه بالمصدر الغالب تفكرا ونموذجا، تكرس الارضوية ومايعرف بالعقلانيه والعلم، بما يخرج المنظور المعروف بالديني من دائرة الاهتمام، وصولا لالغائة كضرورة وموجب حياتي فضلا عن الخياراو احتماليته على مستوى الحياة المعاشة وتنظيمها، قابله في هذا الموضع من العالم نزوع مضاد سلفي انبعاثي، تعددت اشكاله كصيغة دفاعية بلا فعالية منتظره، حضور الغرب ومثله ومفاهيمه الحداثوية ظل يعزز انبعاثها، من دون اية حصيله يمكن احتسابها على صعيد مضاهاة الواقع عالميا، بعد الانقلاب الالي ونهوض الغرب، او الخروج من دائرة وعالم الانهيار الانحطاطي المستمر.
لم تخطر على البال على الاطلاق، احتمالية وقوف المنطقة الابراهيمه الشرق متوسطية امام مفترق تاريخي ابراهيمي، يخرج بالتعبيرية الكونية التاريخيه من عالم غير المدركة خلفيته الى الواقع والمعاين، بمعنى الثورة داخل الابراهيميه، ومع ان الغرب قد شرع كابتداء وتمهيد في وضع اسس النظر الى الظاهرة المجتمعية التي كانت خارج الادراكية العقلية على مدى تاريخ البشرية، الا ان ماقد تحقق في مجال "اخر العلوم" لم يكن قد وصل الحد الضروري واللازم لاجل مقاربة ماهو مطلوب ومساعد على ظهور مايمكن ان يفتح الباب، امام طور اخر تكميلي مناسب للمرحلة التاريخيه من الرؤية اللاارضوية النبوية بصيغتها الحدسية الاولى، فلقد كان المطلوب وغير المتوفره اسباب بلوغه بعد، اماطة اللثام عن الحقيقة المغفله غير المكشوف عنها بما خص المجتمعات ونوعها، واذا كانت كما هو سائد وغالب، واحدة ام اكثر نوعا، وصولا الى التعرف على ثنائية النمطية المجتمعية اللاارضوية/ الارضوية.
وقتها كان من الوارد او يصير من المعقول التفكير بمصدر اخر واقعي وملموس للتعبيرية الاخرى النبوية الابراهيمه، فضلا عن ان يحضر التفكير بضرورة وامكان ان تكون الرؤية المذكورة خاضعه، وان بحسب شروطها وكينونتها، للتاريخانيه وللتطور نوعا، ومع ان الغرب قد اكتشف وقتها بان التعبيرية الفوقية نتاج البنية التحتية، الاانه ظل يرى في التعبيرية النبوية صيغة وحيده ماورائية دينيه، نافيا عنها صفة المجتمعية ولو من باب الاحتمال، ولايقف الامر لهذه الجهه عند النوع والنمطية المجتمعية من دون مكمله، والعامل البنيوي التكويني البشري وازدواجية كينونته العقلية الجسدية، الامر الذي يسهم في تعميم اشكال الرؤية المعتبرة ماورائية كطور من اطوار مسيرة العقل، كما قرر الغرب اعتباطا بحسب هيغل على الاقل، متنقلا بالعقل من الاسطورة، الى الدين، الى الفلسفة، بينما الواقع ان ماعرف من تعبيرية هو الاخر ثنائية، ابراهيميه نبوية شرق متوسطية، وفلسفية اغريقية مقابلة من نوع وصيغه اخرى، هي قمة التعبيرية الارضوية مقابل التعبيرية اللاارضوية الشرق متوسطية.
هل الانتقال من اليدوية مجتمعيا الى الاله يغير شكل التعبيرية اللاارضوية واعلى صيغها واكملها النبوية الابراهيمه؟ لقد قلبت الاله الغرب الاوربي على الصعد كافة، وغيرت منظوره للاشياء وللكون كما كان ممكنا، وبحسب مامتاح ومتوفر من قدرة المجتمعية الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نمطيتها وصنفها بسبب الازدواجية الطبقية، على التفاعل مع الطاريء الانقلابي النوعي، غير ان هذا ليس اخر ولانهاية مامتضمن في الانقلابية الالية على مستوى المعمورة، بانتظار شمولها العالم بعد اوربا الرائدة، ومطلقة الانقلابيه المفهومية والمجتمعية الابتداء، وهو مالن يكون النهاية، ولا اخر ماسيترتب على الحدث التحولي الحاسم، وخصوصا بما يتعلق بالجزء من العالم المعروف بالشرق الاوسط الابراهيمي، الاسبق تبلورا مجتمعيا، وصياغه تاسيسية بدئية للحياة البشرية، وللتعبيرية الكونية الازدواجية الاكمل، فاذا كانت الالة لم تنبجس ابتداء في هذا الموضع بالذات، وظهرت مقابله على الطرف الاخر من المتوسط، موضع التفاعلية التاريخي مع الجانب الشرقي، فان ماعرف وحدث الى اليوم لن يكون النهاية، ولا اخر مامنتظر كونيا.
بالتوقف عند باب التعبيرية اللاارضوية الشرق متوسطية باعتبارها مجتمعية غير مدركة، وقف العقل البشري بسبب قصوريته الابتدائية دون الكشف عن خاصياتها ومصدر تعبيرها، ليس من المستبعد ان نجد المحركات المتزايدة الفعالية مع الوقت وزيادة اسباب التردي الثاني، بعد فترة التماهي الاولى مع الغرب، الغالبة اليوم، والسائدة كانحطاطية ثانيه، شامله بعدان انتفت وخرجت من الحسبان الاسباب المتوهمه عن اللحاق بالغرب لمجرد الرغبة ووطاة العجز عن مقاربة الذات والاخر.
فلنتوقع اليوم ومن هنا فصاعدا، بدء الاضافة النوعية اللاارضوية المعتادة بصيغتها الراهنه، الموافقه لطبيعة هذا الجزء من المعمورة، ولمقتضيات حقيقة الوعي الكوني بعد الانقلاب الالي، لاارضويا، بانتظار الثورة الكبرى في علم الاجتماع ومترتبات البنية التعبيرية الموافقه للانقلابية المجتمعية اللاارضوية الالية، بعد النبوية اليدوية، وهو مايمكن تخيله كمسار انتقالي كوني مستجد، من المنتظر ان يكون هو الانقلاب الكوني الفعلي المواكب لظهور الالة وقد شارف على الانبثاق، بمقابل احتمالية اخرى هي الفناء.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

عندما تفقد الدولة قدرتها على أداء الوظائف الأساسية التي تعتبر جوهرية لوجودها، وتشمل هذه الوظائف عادة، إدارة شؤون الحكم وتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، الحفاظ على النظام الداخلي، تقديم الخدمات العامة وضمان الأمن والاستقرار لمواطنيها. لكن، عندما لم تتمكن إلى جانب انهيار المؤسسات الإدارية وعدم الاستقرار الوطني، السياسي والاجتماعي، من توفير تلك المهام، تكون، وفقا لخصائص الدولة الاساسية المتعارف عليها في النظم المدنية، دولة فاشلة. العراق، بسبب انهيار سيادة القانون وضعف النظام القضائي والقانوني وانعدام الأمن والاستقرار السياسي والمجتمعي وانتشار المحسوبية وتفشي الفساد المقنن والجريمة المنظمة وإختراق الميليشيات المسلحة لمرافق الدولة، أصبح يعاني من عدم القدرة على توفير أبسط الخدمات الأساسية للمجتمع أو الحد من نقص المياه والكهرباء وسوء الرعاية الصحية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانهيار البنى التحتية وغياب المشاركة السياسية الحقيقية وانعدام الشفافية. فيما بلغت دوّامة الصراعات السياسية مدياتها البينية لافراز الأزمات المجتمعية. الأمر الذي غالبا ما أدى إلى عجز الدولة عن بسط نفوذها الجيوسياسي أو حماية مواطنيها وحدودها ومواردها الوطنية، بذلك ساعدت القوى والأحزاب التقليدية الماسكة بالسلطة للسيطرة على المؤسسات العامة واستنزاف قدراتها المعنوية والاقتصادية والبشرية بطرق غير قانونية. إن انقسام النخب السياسية وتعايشها مع الأزمات، قد أدى إلى غياب التوافق حول القرارات المصيرية، وخلق حالة من الفوضى السياسية وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على تلبية تطلعات الشعب، مما عمق الصراع الداخلي وتدهور الأوضاع واستغلال الجماعات المتطرفة للفجوات الأمنية لإثارة الفتن وأعمال العنف. أيضا، أضعاف الدولة وجعلها عرضة للتدخلات الدولية وعدم القدرة على ضمان المصالح الوطنية وإلى فقدان المواطنين الثقة بها، الأمر الذي زاد من مشاعر الإحباط واليأس...
جماعات فئوية
عندما تكون الحكومات غير قادرة على بسط سيطرتها على الدولة ومحيطها الجيوديمغرافي، يصبح من الممكن، أن تتمرد الأحزاب والجماعات الفئوية على الدولة، مما يفضي ذلك إلى عدم التوازن وبالنهاية إلى صراع على السلطة والنفوذ بطرق غير مشروعة. وعندما تصبح الإدارة المركزية للدولة غير قادرة على ضبط الميكانيكية الاقتصادية سيؤدي إلى انهيار الأسواق المحلية وإلى غياب الاستثمار وإهمال الخدمات العامة وتدهور جودة الحياة. وعندما تكون سلطة الدولة غائبة، فمن الطبيعي، أن تسعى الجماعات المسلحة لملء الفراغ وممارسة التجارة بالمخدرات والأسلحة كوسيلة لتمويل الجهات غير الحكومية التي تتقاسم النفوذ والتأثير الإثني. إن ازدواجية صنع القرار في العراق وتمركزه بين قوتين متضادتين «الدولة» و»الدولة العميقة»، أدى إلى تآكل ثقة الناس بالمؤسسات الرسمية ودفع بالهروب من البلاد بحثا عن الأمان. وتجلى فشل الديمقراطية والحكم الرشيد وسيادة القانون ودولة المواطنة بمظاهر غياب حكومة مركزية قوية بإستطاعتها الحد من الأزمات وتدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية أو محاربة الجريمة السياسية والفساد الإداري والمالي وتحقيق الشفافية والعدالة الاجتماعية. بيد أن العديد من المكونات، العرقية والدينية والفئات المجتمعية والفكرية والشخصيات الاجتماعية، باتوا، لا يثقون بالعملية السياسية، مما أدى إلى ابتعادهم عن المشاركة السياسية الفعلية بسبب تماهي القوى الماسكة بالسلطة للتفرد بالحكم والهيمنة على صناعة القرار السياسي وتسويف المبادئ الدستورية والقانونية والمصالح الوطنية. وهو أمر، لو لم يحدث، كان من شأنه أن يعزز مكانة الدولة ومقدرتها للتحرر من الضغوط السياسية والأمنية الداخلية والخارجية.
ضعف مؤسسات
إذن، الدولة الفاشلة ليست مجرد نتيجة لفشل الحكومة في بسط إراداتها الحصرية، بل هي حالة مركبة تنتج عن ضعف المؤسسات واختراقها من قبل منظومات الفساد وسيطرة الأحزاب، والأهم، التباين الاجتماعي بسبب عدم التوازن والتناقضات السياسية والعقائدية.
فيما الدولة بحاجة إلى كفاءات حرفية نزيهة تمتلك عقيدة وطنية ورؤية استراتيجية متكاملة لمعالجة الأسباب جذريا والنهوض بالعراق نحو الاستقرار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي. السؤال: هل بإمكان القوى المدنية التي تتعارض مواقفها مع سوء إدارة الدولة، مواجهة الفوضى السياسية وإنهاء الأزمات الخطيرة التي يتعرض لها العراق والمجتمع العراقي برمته منذ عقدين من الزمن. فيما تتربع طبقة سياسية طائفية، شيعية سنية كردية، على مقاليد الحكم، ينصب كل همها على المكاسب والامتيازات الفئوية والجهوية. الأسباب التي جعلت العراق ومصالحه الوطنية والجغرافية عرضة للتهديد والابتزاز والعدوان الخارجي، الإقليمي والدولي. في ظل الأوضاع الداخلية المتأزمة والظروف السياسية والأمنية التي تتعرض لها المنطقة، والعراق بشكل خاص، إلى تهديدات وفرض الإرادات الخارجية، يجب، على أحزاب السلطة وأصحاب القرار في العراق تغيير عقيدتهم السياسية ومغادرة الهرج الطائفي والكسسب السياسي غير المشروع وشعار «أخذناها وما ننطقها بعد؟.» وأن يقتنعوا، بان، سلطة فوضوية، لا يمكن إلا أن تنتج أزمات خطيرة، مواجهتها، تتطلب مرحلة استراتيجية شاملة ومتكاملة تتجاوز ردود الفعل العشوائية بإتجاه خطط مدروسة تعزز الوحدة الوطنية الشرعية وتوظف القوى المجتمعية والسياسية لتحقيق التغيير والإصلاح والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات نزيهة بإشراف دولي لحفظ سيادة العراق وأمن شعبه.
***
عصام الياسري

في القص الديني وسرديته الشائعة، الصراع ديدن، والحروب سجية ووسيلة لبقاء الاصلح والاقوى والاذكى والاكثر ايمانا بالله، القادر على نصر من يشاء وخسف الارض بمن يشاء انه هو وليس غيره من يحمل الاسماء الحسنى، فهو الجبار والمتكبر والسلام والقهار، هو الوحدة بين الشيء وضده، الله ثقب اسود وابيض في آن واحد لكل آلهة البشر منذ وحشيتهم الى بربريتهم الى مدنيتهم، يكون او لا يكون؟ الله فعل، كن فيكون!
هنا نخص الديانات التوحيدية المتناسلة تحديدا، والتي غرفت بعناية من بحر الماثيولوجيا الرافدينية جواهرها، كأساطير الخليقة والطوفان، ونواميس الموت والحياة، واختراعات، البشر انصاف الالهة، وإسرائهم للسماء السابعة للقاء مجمع الالهة، وحبكة صراعات الالهة الخيرة والشريرة، في العوالم العلوية والسفلية، وتوالدها التطوري الذي اقام نظام الكون المادي والروحي، ففي البدء كان البحر بموجه العاتي ممثلا بالإلهة نامو التي انجبت الإله آن إله السماء وكي إلهة الارض وبزواجهما انجب إنليل إله الهواء الذي فصل الارض عن السماء وهكذا ولدت نانا إلهة القمر واوتو إله الشمس، تعدد الالهة لا ينفي مرجعيتها، سيرورتها الاولى الى حيث إلوهية البداية الواحدة، والاولوية كانت للماء، وجعلنا من الماء كل شيء حيا، الملائكة مخلوقات من ذات المجمع الربوبي، انها متخصصة بوظائف محددة كملاك الموت عزرائيل الذي يقبض الارواح ثم يسلمها الى الإله كور رب العالم الاسفل، وجبرائيل ملاك الرحمة والتواصل والملائكة الوصيفة كميكائيل وروفائيل الذين يسبحون باسم الرب ويتمثلون لارادته وخدمته بمطاردة الشياطين، ملائكة تتنكر بحسب الحاجة وبقوى خارقة من نفحات الرب، تطير باجنحة خارقة وقوية كما قوة الثور المجنح!
دخلت الالهة بحروب عديدة كانت سببا للاستمرار والبقاء والتطور، ومن دم ولحم الالهة الميتة تصنع الالهة المنتصرة حياة جديدة الانسان احد مخلوقاتها، من ضلع آدم صنع الرب مخلوقة حواء، التي انجبت بنكاحها مع آدم ايام جنة عدن قابيل مع تؤمته الانثى اقليما، ثم انجبت هابيل وتؤمته لبودا، وكيف قتل قابيل هابيل، تنافسا وعصيانا لوصايا الرب، والانبياء فلاسفة وثوار ومصلحين وبعضهم ملوك ومخترعين بطاقات روحية تستلهم من الرب شرعية وحصانة وراية ايديولوجية مقدسة لتحقيق تغييرات ثورية شاملة لواقع تاريخي ملموس، مأزوم ويحتضر، وتحديدا للانبياء المتطلعين لدين له دولة وعليه كانت الحروب احدى اهم الركائز الشرعية للحروب المقدسة والعادلة بحسب شريعة الرب !
الاديان التوحيدية تعاطت فعليا مع ظاهرة الحروب كونها حاجة لكبح جماح الشر والدفاع عن النفس إزاء المعتدين والكفار والامثلة كثيرة، ربما تميز عنها المسيح بنبرته الداعية لاعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فدعوته ومعجزته كانت تجاوزا للغيتو التوراتي الذي اعتبر العبرانيين هم ابناء الله وشعبه المختار دون الاغيار، فكانت نظرته اكثر اتساقا مع روح التحرر من مفاسد المال والنفاق الديني والسياسي السائد، والقوة الاخلاقية لدعوته كانت مؤثرة بملحمية مثله الشخصي الذي كلما تعتق كلما تجرد من حسيته حتى صار ايقونة لفكرة الخلاص، بسبب اخلاصه حتى الصلب، وبطولته في تحمل الالم عن خطايا البشر !
الحروب الدينية بعد اختتام عهود النبوة المقدسة، اصبحت شائعة بدمويتها وفجورها واستهتارها في كل الارجاء، وخاصة في القارة الاوروبية، وتحديدا حروب الكاثوليك والبروتستانت، درجة لا يتصورها اي إله او نبي، بما فيهم يسوع نفسه !
من حروب الردة الى حروب ملوك دول الطوائف الاسلامية، الى الحروب الصليبية، حروب متوالدة لا علاقة لها بالدين كإيمان، وانما تستخدم الدين كغطاء وآصرة لما له من طاقة روحية غائرة في العقل الباطن للبشرية منذ طفولتها الاولى، لتلبية نداءات التغيير المسكونة باستدامة مصادر العيش والاستحواذ !
يقول ابن خلدون: ان الحروب والمقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله.
يتبع الجزء الثالث
***
جمال محمد تقي

والمسالة الكبرى والجوهر الاساس في نظرية ماركس، اي الطبقات واصطراعيتها، لم تكن قابله في حينه، ويوم قرر ماركس اجمال العالم بها كمحرك تاريخي، للادراك كما قد صارت، وقد غدت ساعتها متجهه الى زوال، فالطبقات واصطراعها ـ وهو ماكان خارج وعي ماركس كليا ضمن ماكان يعيشه من ظروف ـ هي ظاهرة يدوية مجتمعيا، تنتهي مع الدخول في عصر الالة، مع العلم ان البداية والمفتتح الانقلابي المشار اليه، يولد احتدامية غير عادية من نوع تلك التي جعلته هو او رفيقة انجلس يدمدم امام الحال البريطاني العمالي: "امتان"، علما بانها احتدامية انتقالية الى ما بعد طبقية، فالطبقات هي وليد الطور المجتمعي البيئئ/ البشري اليدوي الاول، يبدا بالزوال والانتهاء مع دخول العنصر المستجد الالي ضمن الديناميات المجتمعية، عندما يصير التدخل الواعي في البنية المجتمعية ممكنا، بما يتلائم ومصالح القوى المالكة المتنفذه، ومنها المتحولة من طبقات "برجوازية" الى مجرد "برجوازية" بلا اشتراطات الطبقية، مثلهم مثل العمال بلا صفة الطبقية كما هو حاصل اليوم.
ولم يكن ماركس وقتها برغم منجزه غير العادي، معفيا من التوهمية التي سببتها لحظة الانتقال الالي، ان لم يكن بالحرى الاكثر توهمية وايهاما على مستوى المعمورة كمنظر اساس، لاشك ان الجانب المهم العملي من نظريته تطبيقا يعود الفضل فيها الى لنين الروسي الايديلوجي التحولي الالي بالفكرة والالة، في مجتمع ادنى تبلورا برجوازيا، مقارنه بالمنطلق الاوربي الغربي "الكلاسيكي" النموذجي.
ومن غير المعتاد ولا المسبوق ان جرى النظر الى عموم المنجز الغربي المعروف بالحديث على اعتباره مصدر توهمية كبرى غير مسبوقة في التاريخ البشري، مع ان مثل هذا النوع من الوقوع تحت طائلة اللحظة الفائقة للمتوفر والمتاح والموروث اعقالا، مما هو متوقع منطقيا، فالاعقال اليدوي ومحاولة الاحاطة والادراك مع انبجاس الاله، كان هو الفاعل والذي سعى وقتها للتفاعل مع الحدث الانقلابي النوعي الذي مايزال في بداياته، بالاخص على مستوى الادراكية العقلية المفترض ان تحضر بعد استيعاب المنجز التحولي غير المعلومه ابعاده الكاملة وقتها بعد، هذا في وقت لم يكن فيه مايمكن، او هو بوضع يتيح له النظر الى المنجز الغربي الادراكي الاني، بعد ظهور الاله من زاوية تخرج عن الاعجاب، ان لم يكن الانبهار بعلموية وعقلانية ما يصدر عن نقطة انطلاق الاله على مستوى المعمورة، بينما بقية العالم مايزال رازحا تحت وطاة الاشتراطات اليدوية التفكرية والمعاشية.
هذا علما بان الاله وماواكبها ونتج عنها من تصورات واجمالي رؤية اوربيا، كان بالاحرى لحظة افتتاح توهمي ماقبل آلي، مايصدر عنه وينتج في غمرته على صعيد الافكار والنموذجية الكيانوية ومايتصل بها، مجرد محطة استباقية انتجتها ظروف الانقلاب في ساعتها بانتظار اطوار اخرى لاحقة، ينتظر ان تنتجها اشتراطات اكتمال مقومات الانقلاب الالي، ومنها وفي مقدمتها تلك العائدة الى الجانب التحولي الذي تنطوي عليه وتتضمنه العملية الانقلابية التي توحي بها الاله، تلك التي اليها تنتسب المحاولة الابتدائية المبسطة والافتراضية بلا اساس، الماركسية، بمقابل مامنتظر من احتمالية انقلابية تحولية مجتمعية، هي المتوافقه مع الحقيقة التاريخيه والمسارات المجتمعية الاصطراعية الابتدائية، الارضوية اللاارضوية.
من الاكبر من بين نواقص وقصورية نظرية ماركس، تابيديتها للنمطية المجتمعية الارضوية المعاشة والمتلائمه مع اشتراطات الانتاجية اليدوية الاولى، فماركس اصلا يبدا متمسكا بالمجتمعية الراهنه حين يتبنى جزءا منها ويذهب الى فرضه مجتمعيا، فالشيوعية المفترضة تقول بالمجتمعية الحالية بدون طبقات، بينما التحولية الاليه الفعليه التي لم يكن بالامكان ادراك ابعادها في القرن التاسع عشر، هي تحولية في النوع والنمطية المجتمعية، من مجتمعية جسدية حاجاتية ارضوية الى مجتمعية / عقلية، متحرره من وطاة الجسدية والمتبقيات الحيوانيه العالقة بالكائن البشري وبالعقل السائر نحو عالمه مافوق الارضي، منتهيا من الطور الحالي اليدوي الانتقالي مابين الحيوان والانسان/ العقل، مرورا بالكائن البشري الحالي "الانسايوان" الذي يطلق عليه اعتباطا اسم "الانسان".
والحديث جار عن مجتمعية لها آلياتها المحركة ونوع دينامياتها الحياتيه المعروفة على مر تاريخ الكائن الحي وحركة تحولاته الطويلة التفاعلية في قلب الطبيعه، هي ليست، ولم تكن يوما من النوع الانقلابي اللحظوي الاني كما افترض الغرب الحديث، فسجل بذلك لحظة التوهمية الكبرى المتناسبة مع نوع وطبيعة اللحظة الانتقالية في بدايتها ومفتتحها، بانتظار ان تتبلور الاسباب والموجبات الضرورية الناجمه عن التفاعلية الراهنه المستجده بعناصرها الاساسية وماصار اساسيا وفعالا ضمن حركتها، علما بان مايشار اليه من نكوص ابتدائي ليس اوربيا حيث ابجست الاله، بقدر ماهو شامل للمعمورة التي تذهب الى المصادقة على علموية وعقلانية مايراه الغرب، وماقد ارساه من مفاهيم ونموذج حياتي ورؤى، مرتكزا الى، ومستغلا ماقد صار متوفرا عليه من قدرات وممكنات غير عادية، اوجدتها الاله مع تسريعها الاستثنائي للاليات المجتمعية هناك.
وماتقدم من اكثر المناحي تعريضا للرؤية التحولية المجتمعية للانكار والرفض البداهي القصوري المصدر عقليا وتراكميا، بالاخص من قبل اولئك الذي يصل بهم الامراو يحتاجون لاسباب لاعلاقة لها بالحقيقة ولا بالادراكية السليمه حد الايمانيه المتعدية للمعقول، كمثل من يعتبرون انفسه " شيوعيين" على مستوى العالم، ومازالوا الى اليوم، وبعد انهيار مايعرف بالاتحاد السوفيتي التوهمية الايديلوجية الالية الكبرى، يعتقدون بان الشيوعيه محكومة لقانون تاريخي وحتمية لابد منها، علما بان مايعرف مما يعتقدونه الى الان قد مر بثلاث مراحل: الاولى اوربية ابتدائية تاسيسية نظرية، والثانيه ايديلوجية الية روسية تحولت الى صينيه اوربية شرقية، ولاارضوية في جنوب العراق استمرت مابين الثلاثينات واوائل الستينات، مندمجه بآليات التحول اللاارضوي المجتمعي جوهر الانقلاب الالي.
مع تبلور المنظور التحولي اللاارضوي كمنتهى وقمه انتقالية آليه بعدما وصلت الاله مشارف التحورية مابعد المصنعية والتكنولوجية الانتاجية الحالية، بانتظار التكنولوجيا العليا، يمكن توقع انتباه من بقي يعتقد بالنظرية الماركسية الى ضرورة الانتقال الى المنظور اللاارضوي، موفرين بذلك وسيلة عالمية منظمه ومتلاقية ذهنيا وتنظيما، من شانها ان توفر الكثير من الجهد والوقت ضمن مسار اقامه تيار التحولية الكونية، الانتقالي المجتمعي الى المجتمعية العقلية ومغادرة متبقيات الجسدية.
***
عبد الأمير الركابي

مع القصورية التي لازمت العقل البشري، ومن اهم مظاهرها  النكوص ادراكا امام الظاهرة المجتمعية كمعطى بذاته، وهو ما قد استمر ساريا على مدى الطور اليدوي من التاريخ الانتاجي المجتمعي، لم يحدث ان طرقت باب المجتمعية، الا بعد حصول الانقلاب الالي عند مبتدئه، وان بصيغه ابتدائية اوليه، استحقت ان تسبغ عليها صفة الجده، ليغدو علم الاجتماع "اخر العلوم" المتلازم مع الانقلابية الالية تحديدا، والذي حدث ان انقلب فجاه متعديا نحو اكتشاف القانون التاريخي الناظم لوجود وحركة المجتمعات ووجهتها الانقلابية المضمرة الكبرى، مع القرن التاسع عشر ونظرية ماركس و"ماديته التاريخيه" وحتمياتها الناظمة للاليات المجتمعية الاخذه بها نحو المحطة، او المرحلة النهائية التي هي عود على بدء مفترض بلا اثبات، هو "الشيوعيه البدائية" نحو "الشيوعيه العليا".

وكانت الطبقات كمكون رئيسي وخاصية نمطية مجتمعية اوربية، قد اكتشفت في حينه لتصبح قاعدة  واساس، باصطراعيتها جرى تعميمها من قبل ماركس مقررا " ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقي"، اسهمت الغلبه الاوربية عالميا بفعل الالة وماوفرته من الاسباب في تعميمها على مستوى المعمورة، في حين لعب الانقلاب الالي الروسي بوسائل ايديلوجه، الدور الاهم على هذا الصعيد، بعد دخول الاضافة العملية اللينينيه بتحويل الطبقة الى "حزب مالعمل"، اي الاستبدادية الشرقية الروسية، محدثة بيد  الانتلجنسيا ـ الفئة الجديدة وليدة المتغير البنيوي الناتج عن حضور الالة كعامل تغيير نمطي مجتمعي ـ   مع نقله المجتمعية التقليدية اليدوية (الكائن البشري /البيئة)، الى بنية اخرى ثلاثية  التفاعلية (كائن بشري/ بيئة/ آلة)، الاخيرة من خارج، وغير طبيعه العنصرين التاريخيين، هيأت الاسباب للتدخل الواعي في البنية والكينونة المجتمعية، وولدت بناء عليه نوعا جديدا من التفاعلية الاصطراعية على هذا الصعيد.

وعلى العموم فان المتغير الاوربي الابتدائي الالي المصنعي، وما قد واكبه من انقلاب " حداثي" غير عادي في الديناميات المجتمعيه على مستوى النموذجيه الكيانيه والدولة، وفي المجالات المعرفية ككل، كان كافيا لان تحظى الانجازات الغربية فوق اليدوية بما لايضاهى من الاعتبار عالميا، خصوصا وان المجتمعات البشرية وقتها كانت ماتزال خارج الفعالية الالية، ماتزال واقعا يدوية، ماوضع النموذجية الغربية بموقع الارفع والمرتجى المستقبلي، فلم يكن ثمة وقتها مايمكن ان يضع التفكرات والنموذجية الغربيه تحت طائلة الفحص غير المتوفرة اسبابه، ماظل يشمل بالاخص المنجزات الفكرية والتصورية الاساسية والكبرى، ومنها الماركسية التي وجدت في التناقض الراسمالي الغربي، واجمالي  العالم ماقبل الراسمالي المعرض للهيمنه والاحتلال وفقد السيادة الذاتية بالقوة والاكراه، مادة وسلاحا بوجه الامبريالية  الطاغية بالدرجة الاولى.

وليست الماركسية لوحدها من بين ماتحقق على يد الغرب الحديث، كانت تستحق التوقف باعتبارها منجزا آليا اوليا، هو افتتاح لمرحلة وطور تاريخ انتقالي مجتمعي، يقارب الانتقال من طور "الصيد واللقاط" الى " التجمع + انتاج الغذاء" صيغة المجتمعية المعروفة الى اليوم، هذا غير العديد من التوهمات التي ساقها الغرب على عجل في حينه، وسعى لتكريسها كمطلق نهائي قبل اوانه، ساعده في ذلك بما خص النواحي المجتمعية، قصورية الوعي بالمسالة المجتمعية الموروثة والباقية اثارها، برغم بدايات الانتقال الالي قبل التكنولوجي الانتاجي الحالي الراهن، وما منتظر من قفزة تكنولوجية قادمه  متوقعه.

ويتمثل اكتشاف ماركس من حيث القاعده البنائية النظرية، لافي الطبقات وصراعها الذي لم يكتشفه هو،  انما في توهمية الاكتشاف المجتمعي المفبرك عن "المرحلة الشيوعية" بحيث يفترض مرور المجتمعات البشرية ابتداء بها من دون اي اثبات، لابل وبتجاوز متعد على الحقيقة التبلورية المجتمعية،  ماركس ومعه انجلز ماكانا مؤهلين، او في وضع يتيح لهما اصدار مثل هذا الحكم التاريخي المجتمعي القاطع، ويعتبرانه حقيقة، هذا بغض النظر عن اصرارهما على ربط مفهومهما المفتعل للبدئية المجتمعية، ليضعا في رحابه كتابات من نوع ماقد وضعه انجلز عن اصل "العائلة والملكية الخاصة والدولة"، من دون الانتباه  الى ان الدولة ليست ظاهرة شامله لعموم المجتمعات، وان هنالك مجتمعات ليست قليله، هي مجتمعات " لادولة"، وجدت في اميركا اللاتينيه، وامريكا قبل الغزو الاستيطاني الغربي الحديث، واستراليا،  وبعض افريقا واسيا، وهي بلدان لم تعرف الملكية الخاصة، ولا الطبقات، والاهم بما يخص احدى اهم المواضع التي لعبت دورا  اساسيا بدئيا مجتمعيا في ارض مابين النهرين في سومر، انها وجدت كمساواتيه ومشاعية اشتراكية مافوق اشتراكية طبقية، بما انها " اشتراكية مجتمعية"، شاملة وليست جزئية قاعدتها " الطبقة"، احد مكونات المجتمعية.

وليست الاشتراكية المجتمعية، المشار اليها بالحالة المؤقته او المتغيرة جوهرا، فالاشتراكية المجتمعية السومرية الارض سوادية الرافدينيه العراقية، هي نمطية دائمه تظهر استجابه لقانون الدورات والانقطاعات الذي ينتظم كقانون تاريخ هذا الموضع من المعمورة، بالتراوح  بين كوراجينا كمثال مبكر هو او ل من نطق في التاريخ البشري  /في لوح مكتوب/ بكلمه "حرية / امارجي" وحقوق المستضعفين، وكل حقوق الانسان التي يتبناها البشر اليوم، دالا على نوع مساواتية اشتراكية ممتنعه عن انتاج التمايزات المجتمعية ابتداء، وصولا الى القرمطية ومجمل التعبيرات التي ظهرت في ارض السواد خلال الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، من تشيع انتظاري واسماعيلية وحلاجيه،  مع المعتزله واخوان الصفا والخوارج، كسلطة خارج سلطة بغداد التي هي اصلا هروب من الاسفل الى الاعلى،تامينا لاسباب الاستمرار التي لم تكن ممكنه في الكوفة التي هرب منها ومن انتفاضاتها العباسيون، ابتداء الى الرمادي، ومن ثم الى الهاشميات، حين قامت بوجههم وقتها انتفاضة الراوندية.

والشيء نفسه حدث اليوم منذ القرن السادس عشر، حين عادت اللاارضوية الاشتراكية المجتمعية التاريخيه للانبعاث في دورة ثالثة هي الراهنه، تحت شروط اليدوية والبرانيه الشرقية المتعاقبه سلالات واشباه امبراطوريات على عاصمة امبراطورية الدورة الثانيه المنهاره منذ 1258،  وصولا الى العثمانيين ومااعقبهم من انقلاب البرانية مع الاحتلال الانكليزي عام 1917 ساعة انتقلت من اليدوية الى  الاحتلال الالي، الذي نتجت عنه في ارض السواد "الشيوعية اللاارضوية" في الجنوب، في عاصمة الانبعاث الحديث المنتفجي / الناصرية/ بعد محاولات تاسيسية فاشله، جرت في العاصمه المنهارة، ليقوم في موضع الاشتراكية المجتمعية من الثلاثينات، وحيث الموضع الاكثر تاخرا ويدوية، شيوعية مجتمعية لم تعرف مثلها، لااوربا ولا روسيا والصين على صعيد التغلغل المجتمعي خارج الطبقي، استطاع عام 1959 ان يسير تظاهرة من مليون ونصف المليون في مجتمع بفترض انه " مسلم"، تعداده لايتجاوز السبعه ملايين.

***

عبد الأمير الركابي

فلسفيا لا توجد ضرورات دون صدف، والتقاطعات بينهما حتمية، فالضرورة ظاهرة لاسباب واشتراطات موضوعية تنبع من الجدل "التغير المستمر" الداخلي للظواهر، اما الصدفة فتنبع من الجدل الخارجي للظواهر وتنحسر سيرورتها بذاتيتها، وكلاهما، الصدفة والضرورة، يقعان تحت سطوة قوانين جدل داخلي وخارجي أعم، تتحكم بالسيرورة الكلية للظواهر الطبيعية والمجتمعية، اي باطلاقية على اشكال الحركة المعروفة وغير المعروفة للمادة والطاقة والمجتمع، من الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والاجتماعية وما قد يأتي بعدها من اشكال غير معروفة للحركة الكونية، والقوانين هي : وحدة وصراع الاضداد، ونفي النفي، والتحول من الكم الى الكيف .

الحروب غير النظامية او النزاعات الجماعية والفردية كانت ولازالت ملازمة للبشر، منذ مراحل الوحشية والبربرية واخيرا المدنية، الفرق انه في المرحلة المدنية، اي بعد رسوخ المجتمعات الزراعية ثم ظهور الدولة كمؤسسة مجتمعية " طبقية" ضامنة ومحتكرة للسلطة ما بعد العشائرية والقبلية، برز شكل جديد من الحروب والنزاعات، هو ما نطلق عليه اليوم بالحروب النظامية، حروب بين الدول والامبراطوريات، حروب بابل واشور وسبارطة والإسكندر المقدوني الى المغول والى نابليون وحرب الافيون الى الحروب العالمية الاولى والثانية الى حرب فيتنام والعراق وفلسطين واوكرانيا، والحبل على الجرار!

تتعدد الاسماء والمعنى واحد!

حروب اهلية، حروب طائفية، حروب دولية، حروب استباقية، حروب انتقامية، حروب عادلة، حروب عنصرية، حروب حدودية، حروب تحررية، حروب كولونيالية، حروب مقدسة، حروب نووية، حروب بيولوجية وكيميائية، حروب شاملة، حروب ذكية وغبية حروب، حروب فضائية، حروب إبادية .

للاسماء علاقة بهوية الجهات المتحاربة وصفاتهم، او بنوع السلاح الحيوي المستخدم فيها او بجغرافيتها او باهدافها، لكنها جميعا مشاريع للقتل، ودمار العمران، واستغلال القوة لتحقيق اهداف مختلفة، كالاحتلال والسيطرة على الموارد والدفاع عن النفس والتحكم بالمصائر ومنع العدوان، وبعضها يتلبس دوافع وذرائع ايديولوجية وثقافية ودينية هي في النهاية تشكل محاولة لشرعنة المشروع القاتل!

 الحروب غريزة أم دين أم..؟

عندما يفترس الحيوان، حيوان آخر، فهو يفعل ذلك بدافع اشباع جوعه، وعندما يشبع لا يعود للافتراس حتى تحركه غريزة الجوع مرة اخرى، وعندما لا يجد ما يفترسه يموت، اما البشر فكانوا لا يفترسون او يتصيدون او يجمعون الثمار ليومهم فقط وانما يحتاطون لنفاذ الصيد او الثمار بفعل التفكر والتذكر، الذي ميزهم عن معشر الدواب، فكانوا ومازالوا يحسبون حساب الغد، لذلك هم ينافسون بعضهم للاستحواذ على المصادر المستدامة، وهذا ديدن انسان جاوة ونياندرتال ولوسي وذريتهم حتى الساعة، يتقاتلون لاشباع غرائزهم! وبرغم غزارة الانتاج والتطور البشري الحاصل وخاصة التكنولوجي والمعرفي والاخلاقي لكن سوء التوزيع، وانانية قانون الملكية الخاصة المقدس، وظهور فائض الانتاج وفائض القوة عند البعض جعلهم يستثمرون بالقيم الفائضة لاستعباد القسم الاخر الاقل فائضا وقوة، لاستدامة ومضاعفة فوائض القوة والقيم المنتجة عند المستثمرين، واذا سال لعابهم على ما في ايادي الاخرين فلا بأس من الحرب لانتزاع ما ينتزع او ابادة وتهجير من يقاوم الاقوى وسيد السلطة والثروة!

الجوع ابو الكفار، ولو كان الفقر رجلا لقتلته، وما وجد متخم إلا وجنبه جائع، وكيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟ نتف من التراث الثري الذي يدعو للانسنة والتكافل ليؤكد فقدان التوازن بين الانتاج والتوزيع!

 أناتول فرانس خير من جسد هذه المعاني خاصة في روايته "جزيرة البطريق" لقد توصل الى ان الحرب فتح جديد للاسواق، وبالتالي فهي وسيلة الدولة الصناعية لفتح الاسواق المغلقة، وكلما زاد الانتاج ازداد عدد الحروب!

يتبع الجزء الثاني

***

جمال محمد تقي

     

عاصر المحامي والوزير مكرم الطَّالبانيّ(1923-2025) عهود الدَّولة العراقيَّة كافة؛ مِن العهد الملكيّ(1921-1958)، والجمهوريّ بانقلاباته(1958-2003)؛ وفي العهود كافة: كان إمَّا سجيناً، وحزبياً تحت الأرض، أو وزيراً. أحد المحامين(1947) عن يوسف سلمان يوسف(فهد/ اُعدم1949)، مؤسس حزبه «الشّيوعي العراقيَّ»، بعدها سُجن وأطلق سراحه، ليكون بعد( 14 يوليو 1958) مديراً ومفتشاً عام، ثم تكليفه بوزارة البلديات(1959)، لكنه لم يبدِ حماساً، لأنها كانت مشروطة بالتخلي عن انتمائه الحزبيّ، وحين توزر ممثلاً لحزبه(1972) بعد إعلان الميثاق الوطني وقيام الجبهة بين البعث الحاكم والشّيوعي(1973-1979)، فأصبح وزيراً للري ثم للنقل. لكلّ ما تقدم يكون مُكرم الطَّالبانيّ آخر السَّاسة المخضرمين. كان وجهاً معروفاً لدى النّظام الجديد آنذاك(1968-2003)، فقبيل اِستلام البعث السّلطة(الأربعاء 17 يوليو 1968)، طلب أمين حزب «البعث» وقائد الانقلاب الجديد أحمد حسن البكر(تـ: 1982) مقابلته سراً، فوصله بهيئة طبيب، للتمويه؛ طالباً اِشتراك حزبه الشّيوعي بالانقلاب على العهد «العارفيّ»؛ ولم تحصل الموافقة، لتجربة اليسار المريرة مع «البعث» والقوميين السنة(1963). لذا؛ عندما بُثت البيانات، قبل إعلان البكر رئيساً للجمهورية، سمعها الطَّالبانيّ ببرود، وسط وجوم العراقيين، فهو مِن القلائل، مِن غير قادة «البعث»، لديه عِلم بالانقلاب، فقد ظلت هوية الانقلاب مخفيةً لأيام، وإذاعة لا تبثُ غير القرآن والبيانات.

كنا نسمع أنَّ الحزب الشِّيوعيّ، قبل الجبهة الوطنيَّة، كشف سر اِنقلاب مدبر ضد حكومة «البعث»، وساعة الصّفر يوم (1 يناير1970)، كان أحد الانقلابيين الضَّابط عبد الغني الرَّواي(تـ: 2011)، الذي لحزب مكرم واقعة مؤلمة معه، يوم كُلف بتنفيذ الشّريعة بالشّيوعيين وأنصارهم(1963)، لهذا الغرض أخذ فتاوى من فقهاء المذهبين، الشِّيعي والسّنيّ، لهذا كان حزب الطَّالباني حريصاً على كشف الانقلاب، فكلفته قيادته، لصلته بالبكر، حمل رسالة له، وحال تسليمها اتَّخذ الإجراء لإحباطه. استغل الطَّالباني الفرصة، بما قَدمه للبكر مِن فضلٍ، ونجح بإطلاق سراح المحكومين بالإعدام مِن رفاقه، بحوادث الموصل(1959). خرج معظم قادة حزبه مِن العِراق، بعد إلغاء الجبهة بينهم وبين «البعث»، بسبب المطاردات والإعدامات التي نالتهم. ظل الطَّالباني داخل العراق، بعد تقديم استقالته مِن الوزارة، وربّما خرج وعاد، فلعب دوراً في الوساطة، بين النّظام والمعارضة، ويلتقي بين فترة وأخرى بصدام حسين(أعدم: 2006)، بشأن الوساطة، أو الشَّفاعة لمحكومين بالإعدام. مثلما التقى بالبعثيين قُبيل نجاحهم باستلام الحُكم(1968) ممثلين بأحمد حسن البكر، التقى بهم قُبيل سقوطهم(2003)، ممثلين بصدام حسين، وبطلبٍ من الأخير، فالـ(35) سنة، بوقائعها الهوائل، مرت مرور السّحابة، بين اِرتفاع وسقوط. بحث صدام مع الطَّالبانيّ المسألة الكرديّة ومقترحات المعارضة، وكأنه لم يسمع سنابك الخيل تطرق على حدوده؛ فحينها كانت استعدادات الغزو قد تمت، وقضي الأمرُ.

أتذكر، اِحتفل اليسار بانتصار الفيتناميين (ربيع 1975) على الأميركان، يومها رأينا الطَّالباني، بأناقته المعهودة، يُقدم الشّاعر محمَّد صالح بحر العلوم(تـ: 1992)، في مجلس السلم والتضامن ببغداد، يشحذ فيه روح الأربعينيات، عندما قال قصيدته السَّائرة آنذاك «أين حقّي»، لكن ما أنشده بحر العلوم ليتنا لم نسمعه، لتبقى صورته كما رسمناها للشَّاعر المطبوع، فما سمعناه كان صدىً خافتاً، وقد بلغ مِن الكبر عتياً، وبعدها نكسته المدائح المبتذلات.

مَن يقرأ مذكرات الطَّالبانيّ يشعر به يماهي بين الماركسيّة والصوفيَّة؛ فتراه مع اِعتزازه بيساريته، أظهر اعتزازاً بتكية أجداه الطَّالبانيين، نسبة لقرية «طالبان» الكُرديَّة، مِن تكايا القادريّة، التي اِتَّخذت مِن علي بن أبي طالب عميد سلسلتها، وتقاسمت إقليم كردستان مع البارزانيّة، إحدى تفرعات النّقشبنديّة، التي تَّتخذ مِن أبي بكر الصِّدِّيق عميداً، دون ظهور نزاعٍ بين العميدين، علي وأبي بكر، في أعراف التكيتين، خلاف الحدة المذهبيَّة الطَّاغية(بعد 2003). لم يكن الطَّالباني آخر السِّياسيين المخضرمين فحسب، بل آخر الوزراء، الذين لم يدخل بيوتهم غير معاشهم (الرَّاتب)؛ وأظنها أمةً قد خلت.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

 الرؤية "الوطن كونيه العراقية" القادمه

 تنقسم الكيانيه المجتمعية الى صنفين ونوعين بحسب النمطية البدئية وتباينها: كونية متعدية للكيانيه لاارضويا، وكيانوية محلية "وطنية"، هكذا وجدت بالاصل ومع اولى التبلورات المجتمعية في الشرق المتوسطي نهريا، مابين كيانيه وطنيه هي النيلية المصرية، واخرى متعدية للكيانيه في ارض مابين النهرين، مايعني اختلاف التعبيرية بين مايعرف ب "الوطنيه" العامه على مستوى المعمورة على مدى الطور اليدوي الانتاجي، واخر "وطن كوني" متعد للمحلية، وغير موجود حين يحضرالا كونيا ازدواجيا امبراطوريا من جهه، يواكبه وينتج عن اصطراعيته، تعبير اخر مجتمعي لاارضوي، سماوي،مايعني في الحصيلة ازدواجية التعبير اتفاقا مع ازدواجية الكينونة والبنيه.

 والنمطيتان تتباينان على مستوى الاصطراعية المفروض عليهما خوضها على طريق التشكل، فالاحادية التعبير، تفاعليتها مقصورة على العامل الطبيعي البيئي، وفي غمرته تكتسب خاصياتها، في حين تتشكل الكينونه الازدواج في غمرة الاصطراع مع عاملين، اولهما البيئي الطبيعي الطار والمجافي، يتلوه اصطراع مجتمعي ارضوي لاارضوي، سببه كون البيئة المتباينه كليا قد ولدت ابتداء نمطيتان مجتمعيتان مختلفتان نوعا، الامر الذي يبقي الكيانيه المزدوجة هنا واحدة غير موحدة.

 ولا يوجد الاصطراع المومى اليه عبثا او بلا منتهيات تشكلية موصولة بالضرورة المجتمعية وما تنطوي عليه، وهي متجهة نحوه كنهاية وغاية تتولد عن التفاعلية التاريخيه وتراكماتها، تظل مطوية وخارج الادراكية البشرية على مدى الطور اليدوي من الانتاجية، عندما تكون الاحادية المجتمعية الارضوية هي الغالبة نمطا ونموذجا ومفاهيما، يكرسها ويديم غلبتها القصور العقلي المواكب دون الحقيقة المجتمعية، فالعقل لا يكون مع تبلور الظاهرة المجتمعية، ورغم حضوره الابتدائي، مكتملا، بقدر ما هو في حال تشكل ونقص ادراكية واحاطة، ابتداء من لحظة وثبته الافتتاحية مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، الى ان ياتي الطور المجتمعي وتفاعلاته وما ينتج عنها، كمحطة اخيرة ضرورة، قبل اكتماله، وخروجه من متبقيات الهيمنه الجسدية التي عاني من وطاتها ملايين السنين، لابل مليارات عندما كان في البداية كامنا في الجسدية الحيوانيه وغلبتها شبه المطلقة، قبل ان تبدا رحلة تحرره وصيروته نحو الاكتمال بحصيلة بانتظار منتهى المجتمعية الراهنه.

 تبدا المجتمعية لاارضوية جنوب ارض ما بين النهرين، منطوية على المقصد والنهاية التي ترومها المجتمعية وهي مصممه لكي تبلغها منتهى، غير انها وان عبرت عن ذاتها بما متاح وممكن لها ابتداء، تظل غير قادرة على التحقق، لنقص في الوسائل المادية الضرورية لزوم التحول ما بعد الجسدي، ادراكا غير متوفره اسبابه عقليا بعد، وماديا بانقلاب وسيلة الانتاج من اليدوية الى الصيغة العليا التكنولوجية، ما يفرض حكما طورا مديدا من الغلبة النموذجية النمطية الارضوية، تبقى هي الغالبة على مستوى المعمورة، لحين انتهاء الطور اليدوي، وحتى ساعتها ومع البداية الانقلابيه الاليه، فان متبقيات الطور السالف، واسباب القصورية العقلية وموروثاتها تظل هي الغالبة، لابل وتتعزز بقوة مفعول الالة وتسريعها الديناميات المجتمعية الى اقصى ما يمكن تصوره.

 وقتها يبدا طور من التفاعلية الالية المجتمعية غير المنظورة، والمحجوبة بقوة متبقيات الوعي الموروث، فيتعذر الانتباه الى مقاصد واتجاهات التفاعلية المستحدثة مع الالة والتي هي في الجوهر عملية انهاء للمجتمعية اليدوية الاحادية الارضوية جوهرا، تعززه تحورات الالة نفسها اصطراعيا، من صيغتها "المصنعية"، الى التكنولوجية باعلى مراتبها العقلية، ما بعد الانتاجية الحالية، وهو ماصار واقعا وشيكا، بانتظار العنصر الاخطر والاهم الذي لاانتقالية مجتمعية عقلية من دونه، ذلك هو الادراكية المفهومية، حيث الانقلاب على القصورية التاريخيه العقلية، ومغادرتها خارج منظورات الكيانوية المجتمعية ( الوطنيه/ القومية) الغالبة حتى الان، وعلى مدى الطور اليدوي المنصرم.

 ما ان تنبجس الالة، وعلى عكس ما هو مشاع من انواع التصورات التتابعية التعاقبية الموكوله الى صنف وطور بذاته هو المختبر والمعاش، حتى تصبح المجتمعات في حال تحول من الجسدوية الارضوية، الى اللاارضوية المتوافقة كينونة مع اشتراطات وضرورات الانقلابيه فوق الجسدية، تلك التي تظل مطوية غائبة ادراكا على مدى التاريخ المجتمعي، والعائدة الى الصيغة التعبيرية العظمى "الوطن كونية" العراقية المغفلة والمطوية، او التي تعرف وعرفت فيما سبق وعبر الدورات التي مرت على هذا المكان (الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمة المنتهية بسقوط بابل، والثانية العباسية القرمطية الانتظارية) اشكالا من التعبيرية ما قبل التحققية الادراكية، حدسية نبوية، ظلت حاضرة كاختراق كوني في قلب المجتمعات الارضوية، متماشية مع اشتراطات الغلبة الارضوية وتعذر التحقق الاني، بانتظار توفر اسباب التحقق التحولي المادية والادراكية.

 توجد المجتمعات البشرية وتتبلور، محكومة لقانون العودة على بدء، لاكما تهيأ لماركس من الشيوعية الاولى الى الشيوعية العليا، بل من اللاارضوية المعزولة مكانا ونمطا، الى اللاارضوية الانتهاء، عندما تتحول المجتمعات بحكم الالة وتحوراتها وصيغتها الاعلى، الى مجتمعات "فكرة بحته" هي العامل الفاعل في الكينونة المجتمعية وتعبيريتها الوطنية لاكما كانت المجتمعات الارضوية اليدوية، مادية جغرافية بشرية تاريخيه ولغوية، بينما تنقلب الاشتراطات الافنائية، من البيئية الاصل الى الالية التدميرية، قبل ان تعم حالة استحالة الكيانيه الارضوية مع تبدل وسيلة الانتاج من الارضوية الى مابعدها ويتجاوزها.

 هنا تاتي "الوطن كونية الرافدينيه" حصيلة التاريخ الانقطاعي الدوراتي، والاصطراعية الازدواجية بعد فترة من اشكال من الافنائية البرانيه، ومنها وفي مقدمها الافنائية الايديلوجية المتماهية مع الغرب التوهمي الحداثي، عدا التحول من الاحتلال العسكري، الى الافناء التدميري وازالة الكيانيه، وحلول عالم الاضطراب الاقصى، والفوضى والخراب الذي لا مخرج منه، بظل غياب الرؤية، وافتقاد المنظور الغائب اصلا، بعد سقوط صيغ الايديلوجية الببغاوية النهائي، ليغدو الاستباق شبه الفنائي الرافديني العراقي على مستوى المعمورة ساعتها وقد نضجت فيه الاسباب الضرورية، مولدا للرؤية المطوية الغائبة على مر التاريخ، بعدما تحولت الى رؤية عالمية اختراقية لا موضعية، مثلما سبق للابراهيمه الاولى ان كانت، ووقتها ينقلب التاريخ، ويبدا الكائن البشري رحلة الانتقال من الجسدية الحاجاتيه، الى العقل المستقل المتحرر من وطاة الجسد، كما من اشتراطات السكن الارضي المؤقت. كما كان مقررا ومصصما بالاصل للمجتمعية وللكائن البشري ان يذهب.

***

عبد الأمير الركابي

لم يظهر باي شكل مايدل او يشير الى احتمالية  تبلور منظور دال على الذاتية والكينونة الرافدينيه العراقية في العصر الحديث، مع ما يفترض ان  يمتاز به من مقاربة حديثة  ادراكية لازمه، بعد اشكال التعبيرية التي عرفها هذا الجزء من المعمورة خلال الدورتين السالفتين من تاريخه، السومرية البابلية الابراهيمه الاولى، والعباسية القرمطية الانتظارية الثانيه، ونحن نتحدث هنا عن موضع تحكمه كقانون نافذ، متوالية الدورات والانقطاعات، الامر المرهون والمرافق للكينونه الازدواجية المجتمعية الفريدة على مستوى المعمورة، ومع غلبة القصورية العقلية وقتها، وابان الطور اليدوي، فلقد ظلت التعبيرية المواكبة للدورات والفعالية اللاارضوية ضمنها، ما قبل ادراكية، موكولة الى الحدسية النبوية الابراهيمة الاولى، واشكال التجلي القرمطي الاسماعيلي الحلاجي الخوارجي الامامي الشيعي، وصولا الى الانتظارية الختام الاحالي الى طور اخر قادم، بعد الاقتناع خلاصة، باستحالة التحقق وقتها ابان اصطراعية الدورة الثانيه واشتراطاتها اليدويه.

  واي نظر في التاريخ المنوه عنه ومنجزه نوعا ومستوى تعبيريا عن المطلوب، لابد ان ياخذنا كسيرورة طبيعيه الى الطور الثالث الراهن، بحثا عن الصيغة الثالثة الملائمه من التعبيرية المنتظرة، ضمن شروط الخروج من اليدوية الى الزمن والطور الاخر، علما بان الدورة الراهنه الثالثة قد بدات كانبعاثية حديثة منذ القرن السادس عشر، اي في ذات الفترة الزمنية التي وجدت ابانها الالة في اوربا، ان لم يكن قبلها وفي طليعتها، الامر الذي لم ينتبه له احد من العراقيين الماخوذين بالتماهي مع النموذجية الغربية ومنظوراتها، ومفاهيمها الالية الابتدائية،  فعز بناء عليه الاعتقاد الضروري بالايقاعية التشكلية العراقية الانبعاثية الحديثة الراهنه، تكرارا واتفاقا مع كينونتها التاريخيه، في حين اعتمدت المروية والسردية الاستعمارية الويرلندية عن "العراق الحديث" الموجود  كلدتبة نشكلية من 1831 لاسباب واليات غربية عائدة الى الايقاع الراسمالي العالمي، ونظامه الناشيء والمعمم على المعمورة، وفي المقدمه منها تلك التي لم تعرف بعد الانتقال الالي.

 وقتها ومع ثقل وطاة الانقطاعية الانهيارية المستمرة منذ 1258 عام سقوط عاصمة امبراطورية الدورة الثانيه، واستمرارية الشروط الانتاجية اليدوية التي ضمنها جرت عملية الانبعاث الحديث الثالث بحقبتيها،  القبلية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، والانتظارية الحديثة النجفية، من القرن الثامن عشر بعد الثورة الثلاثية التي حررت العراق الاسفل من بغداد الى الفاو عام 1787، وصولا الى الاحتلال الانكليزي عام  1917، بعد ثلاث سنوات من  وصول الحملة البريطانيه الى الفاو، واختراق منطقة الامان المجتمعي التاريخي صعودا نحو العاصمة المنهاره، في وقت ظلت التشكلية وقتها من دون نطقية بانتظار عبور مقتضيات اليدوية الباقية، مع مايواكبها من العجز القصوري المستمرادراكا، فتح الباب لطور من النظر الى الذات بعين الاخر، ونقل واستعمال وسائل الاخر التعبيرية جاهزة، بغض النظر عن الشروط الواقعية التي هي انعكاس لها في موضعها، ومع العشرينات والثلاثينات تبلورت ظاهرة الوطنية البرانيه المنقولة الايديلوجية من هذا النوع، الماركسية، والليبراليه، والقومية، الحزبية تحديدا، بمقابل الدولة التي اقامها الاحتلال هو الاخر برانيا، من خارج النصاب الاجتماعي والتشكلية المجتمعية، ضمانا لاستمرارية مصالحه، لتصبح الوطنيه هي مايضاد الاحتلال بغض النظر عن الذاتيه او المحركات التي تستند اليها واقعا، ماقد جعل العراق برانيا كليا من اعلى ومن اسفل، بعدما كان برانياشرقيا يدويا من اعلى، منذ هولاكو وماقد تبعه من دول  الخروف الابيض والخروف الاسود، واشباه امبراطوريات متعاقبة على العاصمة الامبراطورية المنهارة، الى العثمانيين اخر البرانيين اليدوين، قبل الاحتلال الانكليزي الغربي الالي.

 لايعني هذا ان الاليات التشكلية الذاتيه قد توقفت وقتها، او انها خضعت لمايراه  "الوطنيون" البرانيون، مثل الماركسيين، من اصطراعيه طبقية توهمية، او الليبرليون من  منظور برجوازي بلا اساس، او القوميون الذين يحولون التعبيرية اللاارضوية التاريخيه الجزيرية الابراهيميه المحمدية، الى قومية، والنبي محمد الى غاريبالدي بحسب عفلق، فهولاء خضعوا هم انفسهم بحسب اللحظة والحاجة الى حكم الاليات الذاتيه ومقتضياتها غير الناطقة، فكانت ثمة شيوعيه لاارضوية، من البديهي ان تخضع لاشتراطات هي المساواتيه العليا  اللاارضوية  الكوراجينيه القرمطية تاريخيا وواقعا، وهو ماقد شمل الحزب الشوعي من الثلاثينات انطلاقا من الناصرية عاصمة المنتفك السومري، وموضع الانبعاث الثالث الراهن، بعد محاولات بغدادية فاشلة، وكذا بالنسبة لحزب البعث بعد محاولات تأسيس بغدادية باءت هي الاخرى بالفشل، لتتحق في ذات المدينه الاحدث في تاريخ العراق، الى ان انتهت الشيوعية الانتظارية بعد ثورة تموز 1958،وتبدل اشكال الاصطراعية التشكلية، حين تحول الحزب الشيوعي بعد عام 1964 مع عزيز محمد، الى حزب براني معدوم العلاقة بالاليات التشكلية، خاضع لمحركات، الغالب فيها الموقع الكردي، وقد تحول الى ظاهرة ايديلوجية محضه مضادة، وحتى معادية للشيوعية اللاارضوية، تعتاش على سرقة  ومصادر تاريخها، بعدما توقفت هي كليا عن ان يكون لها اي حضور في تاريخ العراق التشكلي الاصطراعي.

 ووقتها كانت الاشتراطات الاصطراعية قد تبدلت كليا، والبرانيه العليا ماعادت موكولة الى الدويلات واشباه الامبراطوريات، ولا الى الغرب الالي، بعدما دخل العنصر الريعي على المشهد، وصارت الدولة من اعلى مستقلة عن المجتمع، متحرره من مقتضيات ووطاة العلاقة بالاسفل، ماقد زين لها امكان تصفية المجال اللاارضوي وحضوره المادي غير الناطق، وبدل الاصطراعية وعناصرها  بالمقابل انطلاقا من تحسس خطر واحتمالية الاجهاز على الموقع الانتظاري  النجفي، ماقد وسع دائرة المجابهة الى ايران، وحفز  الميل المخالف عمليا وفقهيا، المرفوض تاريخيا في النجف،  لاقامة" الدولة الاسلامية" الخمينية  من النجف نفسها، حيث كان مقيما منفيا من قبل الشاه، ليدخل العراق من يومها تاريخ العيش على حافة الفناء الثاني، لا البيئي، بل الاحترابي، بدءا من الحرب العراقية الايرانيه بعد الثورة هناك، اطول حرب بين بلدين بعد الحرب العالمية الثانيه،  والتي اسقطت امتياز الريعيه الاستقلاليه، وحملت نظام البعث الديون،  ما قد اصابه بالجنون والاختلال السياسي  العسكري،  بحثا عن تعويض غير ممكن من دون استمرار الحروب التي اورثت البلاد اول حرب عالمية، تبعها اقسى حصار مضروب على دولة في التاريخ لمدة 12 عاما، وما جاء من حرب عالمية اخرى ثانية، وانهاء للكيانيه العراقية،  قبل سلسلة الحروب الطائفية، والتفجيرات التي  كلفت ما تكلفة حرب بين بلدين/ الى اليوم، من الانهيار الشامل والكلي ـ  وتسيد الحثالة المجتمعية ـ على الصعد كافة، بظل اختفاء اي شكل من اشكال الاثر او الحضور لاي تعبير يمكن نسبته الى  ما عرف ب "الوطنيه"  واحزابها، وقد اختفت من الوجود، او تحولت الى دكانه تأتمر بأوامر السفارة الامريكيه في بغداد، كما حال من يسمون انفسم بالشيوعيين.

***

عبد الأمير الركابي

....................

*  يتبع / ملحق: الرؤية "الوطن كونيه العراقية" القادمه

 

في انحسار الزمن تحت ثقل الانتروبيا - الإنتروبيا مصطلح اخترعه لأول مرة رودولف كلاوزيوس. لكنه لم يعطِ لا هو ولا غيره تعريفاً واضحاً له، حتى أدخل بولتزمان عليه مفهوماً إحصائياً بحتاً. فالإنتروبيا باختصار شديد هي مقياسٌ لفوضى نظام معيَّن - وفي انشطار الوجود بين التلاشي والخلق، ينسج جان فرانسوا ليوتار في "أخلاقيات ما بعد الحداثة" سردًا يستشرف انهيار النظام كما نعرفه، أو بالأحرى، استحالته إلى صورة أخرى لا تعترف بمقاييس الحداثة. الحكاية ليست إلا انعكاسًا لنزاع كوني بين مبدأين: الأول هو التفكك الحتمي الذي تفرضه قوانين الانتروبيا، والثاني هو القفزات العشوائية نحو نظام جديد يتشكل وفق احتمالات نادرة وغير متوقعة. في هذه المعادلة، الإنسان ليس سوى عارضٍ زائل، يتذبذب بين عقلٍ يشكل الواقع وواقعٍ يعيد تشكيل العقل.

لكن الأزمة التي يكشفها ليوتار ليست أزمة مستقبل بعيد، بل هي أزمة راهنة، تتجلى في اهتزاز الحقيقة، في تقويض الدولة وسيادتها، وفي تآكل الأشكال السياسية التي بدت لوهلة وكأنها انتصار للعقلانية والحرية. الديمقراطية، ذلك المشروع الذي ظن الحداثيون أنه الغاية المثلى، لم تعد أكثر من فكرة تائهة في فضاء لا يكترث إلا لفاعلية القوة وسرعة الانتقال بين الأنظمة.

يتجسد هذا التحول في لحظةٍ معاصرةٍ من خلال صعود نموذج جديد للسلطة، يجسده إيلون ماسك كأيقونة للنظام ما بعد السياسي. بدأ مساره من افتتان بالسفر إلى الفضاء، لكنه لم يكن افتتانًا علميًا بقدر ما كان مشروعًا لإعادة تشكيل الواقع وفق شروط رأس المال المطلق. المريخ ليس مجرد كوكب، بل هو استعارة لحلم الفناء وإعادة الولادة، حلمٌ يتجاوز الدولة والقانون والمجتمع، حيث لا يبقى سوى ملكية فردية تعيد تعريف السياسة كمنظومة تعاقدية محضة. في هذا العالم، المؤسسات والتاريخ وحتى الإنسان ليسوا سوى متغيرات مؤقتة في معادلة السيادة المطلقة.

ايلون ماسك، بهذا المعنى، ليس شخصًا، بل ظاهرة: تكثيفٌ لعناصر العدمية النشطة، تلك التي لا تؤمن بالإصلاح بل تعمل على تسريع انهيار القائم بغرض كشف بنيته التحتية، وتحويله إلى مادة خام لمشروع هيمنة بلا حدود. إنه يسعى إلى مضاعفة الفوضى بحيث تولد منها طاقة جديدة تعيد تشكيل علاقات القوة وفق منطق السوق، حيث لا وجود للأمم، بل شبكات، ولا وجود للحدود، بل فضاءات سيولة بلا نهاية.

هذا الحلم التكنوقراطي لا يضع اختيارات بقدر ما يخلق احتمالات قابلة للتسريع. فالمجتمع المدني، كما نعرفه، لا مكان له على المريخ، تمامًا كما لا مكان له في عالم تحكمه المنصات الرقمية وعقود الملكية المطلقة. الأرض، من منظور هذا المشروع، لم تعد سوى محطة مؤقتة، ميدان تجارب لخلق الفراغ المدني الذي سيُعاد إنتاجه لاحقًا في الفضاء الخارجي.

الاستبدال هنا هو القاعدة، والكلمات التي شكلت روح الحداثة - الحرية، المساواة، الإخاء - لم تعد إلا علاماتٍ فارغة، هاشتاغات تتكرر ضمن دوائر مغلقة، لا تحيل إلى مرجع حقيقي سوى آلية اشتغالها الخاصة. هكذا، تتحول الشبكات الاجتماعية إلى مساحات تتلاشى فيها الحقائق، حيث تصبح المعلومة مجرد ضوضاء اتصال، ويصبح الزمن السياسي مشوهًا تحت وطأة اللحظة الفورية. فالتاريخ نفسه، كما كان يُبنى على صراعاتٍ وتحولات، يُعاد تشكيله اليوم كحدثٍ شبكي بلا ذاكرة.

لكن هذا لا يعني أن مشروع ماسك استبدادي بالمعنى التقليدي، فهو لا يؤمن بالحكم بقدر ما يؤمن بتفكيك البنى التي تجعل الحكم ممكنًا. إنه لا يسعى إلى السلطة كغاية، بل إلى خلق منظومة تكون فيها السلطة بلا مركز، حيث تتكاثر مراكز القوة ضمن شبكة تتوسع كالفيروس، تتجاوز الحدود، وتتلاعب بمفاهيم السيادة كما يتلاعب رأس المال بالمجتمعات.

إن صلب هذه الرؤية ليس التكنولوجيا في حد ذاتها، بل مفهوم الزمن الذي يُعاد تشكيله وفق شروط رأس المال المطلق. الفورية هي القانون الجديد: لا انتظار، لا تخطيط، بل استثمار اللحظة بوصفها فرصة للتوسع. كل شيء يجب أن يحدث الآن، وبأقصى سرعة ممكنة. حتى الحروب، حتى الأزمات، ليست سوى وقودًا لهذه العملية.

في قلب هذا المشهد، يصبح الإنسان - أو دماغه - مجرد كيان قابل للاستبدال، شبكة من الذبذبات العصبية التي يمكن محاكاتها أو تجاوزها. وإذا كان ديكارت قد قال "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، فإن ما بعد الحداثة التكنوقراطية تهمس: "أنا متصل، إذن أنا قابل للاستبدال". الإنسان لم يعد هو المركز، بل بات هامشًا في معادلة لا تبحث عن الثبات، بل عن التحول المستمر.

هكذا، يقف إيلون ماسك ليس كمبتكر، بل كمهندس للفراغ: حيث لا تبقى السياسة سوى ظلٍ باهتٍ لمشروع أكبر، مشروع يمحو الحدود بين الافتراضي والحقيقي، ويحوّل العالم إلى مختبر دائم لإعادة إنتاج الهيمنة بوسائل لم تعد تحتاج إلى العنف التقليدي، بل تكتفي بخلق شروط الاستغناء عن كل ما كان يبدو يومًا ضروريًا. في هذه الرؤية، لا مكان للتاريخ، ولا مكان للإنسان، بل فقط تسارعٌ بلا وجهة، حيث يصبح العالم كله مادة أولية لحلمٍ تكنوقراطيٍ بلا نهاية.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

القانون الجديد للأحوال الشخصية العراقي ضرب الأساس الذي أُعلن له وذكر في الأسباب الموجبة، وهو أن الناس أحرار في أحوالهم الشخصية بما يؤمنون، وذكروا أن أتباع المذهب الجعفري متضررون من عدم العمل وفق مذهبهم في قانون ١٨٨ الساري، ولكنهم وقعوا في سذاجة الفهم للفقه الجعفري، وأهم سمة فيه وأساس عظمته، وهو أنه فقه فردي، وأن باب الإجتهاد مفتوح فيه، وأن المكلف غير ملزم باتباع المجتهد الأكثر تقليدا ولا الرأي المشهور، ولا فقهاء النجف.

وهنا نسأل لماذا يحرم العراقي الذي يقلد مرجعا من غير النجف في العمل بفتاوي مرجعه؟ ولماذا يتبع المشهور؟ إذن اين الحرية للمواطنين بالعمل وفق معتقداتهم، المستند للدستور المادة ٤١؟

خاصة اذا كان هذا المواطن إمرأة ؟ فأغلب الإجتهادات الجديدة التي لصالحها هي آراء غير مشهورة، مثل سن البلوغ ١٣ سنة، او زواج البالغة الرشيدة بدون إذن الولي والزام الزوج بايقاع الخلع اذا طلبته الزوجة وجوبا عليه.

هذا القانون يقول لا للعمل بالإجتهادات الجعفرية الجديدة وابقوا - كما بقى الآخرون من المذاهب الأخرى على آراء فقهائهم القدماء - ولاتجددوا في فقهكم. وهنا مقتل الفقه الجعفري المتجدد الذي يواكب الحياة.

اغلب القانونيين يتصورون أن الأحكام الشرعية مثل القانون الذي يعدونه نصا لا اجتهاد أمامه، الحكم الشرعي بالفقه قابل للتغير بحسب إجتهاد كل مجتهد ولذلك هو مواكب للزمن ومتغير بحسب تطور الحياة، فلايجوز تقليد الميت، أي على المكلَّف إتباع غير المشهور من الفتاوى جبرا، إذا اجتهد مرجعه برأي ما غير مشهور.

ولذلك نشاهد الجمود عند القانونيين لأنهم يقيسون الفقه عليه.

الفقه إجتهاد بشري في النص التشريعي الثابت، وعمل المكلف الجعفري هو إتّباع من يراه الأعلم أو يراه مجموعة من الفضلاء أنه الأعلم فيأخذ برأيهم، وهذا هو الذي يحكم عمله وليس قانون فيه الكثير مما يخالف مذهبه (كما سأوضحه في منشورات قادمة) .

ان السعي وراء اسم فقط والحصول على نصر موهوم من أشخاص غير مؤهلين سوف يجعل هذا الفقه العظيم مجرد نصوص ميتة.

أن مثل هذا القانون المهم والذي يغير حياة الناس لابد ان يدرس دراسة مستفيضة، وأن تشارك به جعات دينية وقانونية وشعبية وممثلون عن المجتمع المدني، بحيث يشبع دراسة وبحثا، فالقانون المعدل هذا شوه الفقه الجعفري ولم ينصره ولم يطبقه كما يجب تطبيقه.

كان الأجدر أن يتم تلبية أتباع المذهب الجعفري بطريقة أسهل، وهي إجرائية أن ينتدب ويعين رجل دين (فقيه) في المحاكم يعرف ويتابع آراء المجتهدين ويعمل بآخر فتاواهم ويلبي مطالب الناس بحسب مجتهديهم، مهما كثر المجتهدون وبذلك نحفظ للفقه الجعفري فرادته وتميزه،لكن كما يبدو أن البعض يريد أن ينسب لنفسه نصرا ويعمل (حلاوة بكدر مزروف).

***

ا. د. بتول فاروق - النجف

١٣/ ٢/ ٢٠٢٥

عاش العراق تاريخه الاطول بين تواريخ المجتمعات البشرية بلا رؤية للذات وللخاصيات الوطنيه، والامر لهذه الجهة لايخص ناحية او مسالة خاصة متعلقة بالكيانيه العراقية تحديدا بقدر ماتتعداها الى الواقع المجتمعي البشري ككل، والى اجمالي التشكلية المجتمعية  الكيانيه بعد التبلورات الاولى، الامر الذي يعود تقريبا الى قرابة العشرة الاف عام، عندما بدات في هذا المكان بالذات علائم التشكلية النمطية البيئية الاولى تاريخيا، قابلتها في وقت مقارب حالة شرق متوسطية نهرية اخرى، هي النيليلة التي ستنتج صيغة كيانيه صارت هي النموذج على مستوى المعمورة، تلك هي الصيغة الكيانيه "الوطنية" التي يعتبرها جغرافي مصري مثل جمال حمدان قمة ومنتهى ممكنات التشكل المجتمعية الكياني على مستوى المعمورة.

وتتغلب الصيغة المشار اليها اعلاه لتغدو بمستوى البداهة التعميمية، دلالة على حال لم  يحصل التوقف عنده لاسباب تكاد تكون عضوية، متعلقة بالجانب العقلي من الكينونة والنشوئية البشرية الاعقالية، وعملية ترقي وتصير العقل، لتدل على قصورية كانت غير قابلة للتجاوز في حينه، بالذات وتعيينا بما خص العلاقة بالظاهرة المجتمعية، ومدى وممكنات ادراكها والتعرف على كنهها، وهي حالة ستستمر غالبة عموما على مدى الطور اليدوي من التاريخ البشري، الى ان بدات اولى علامات الاقتراب من الظاهرة المجتمعية ومحاولة ادراك منطوياتها مع بدايات الانقلاب الالي الحديث، هذا علما بان بدايات مايعر ب "علم الاجتماع الغربي" او "اخر العلوم"، لم تفلح في تحقيق اللازم وكشف النقاب عن الحقيقة المجتمعية التي ظلت وقتها والى اللحظة غائبة، كما كانت على مر التاريخ السابق، وماحدث ان الغرب على عكس المطلوب، قد كرس بقوة مفهوم الكيانيه  بصيغتها الاخيرة الحديثة ( الدولة/ الامه)، وعممها، لابل ولم يتوانى عن  فرضها بالقوة والاكراه.

وهكذا ظلت النقيصة الكبرى نفسها قائمه بعدما تحولت مع تبدل نوع الانتاجية التاريخي الى معضلة كبرى، وعامل خطورة يمكن ان تواجهه المجتمعات والبشرية على مستوى المعمورة، فما نشير اليه من نقص ادراكي اصلي، واساس بدئي، ليس مسالة ذاتيه، والمقصود هنا الخاصيات الرافدينيه مابين النهرينيه وماترتب عليها وعلى منطوياتها التاسيسية، مما يستدعي اعادة النظر في الظاهرة المجتمعية وموجباتها، وتصميمها الكوني الذي يعين مستهدفاتها ومن ثم مستهدفات الكائن البشري كينونة ومآلا، فكيانيه النهرين كانت حين قامت بالاصل نقيضا، ومن نمطية ونوع مجتمعي اخر، مقارنه بالنيلي التبسيطي الكيانوي والادراكي، بينما ولدت في ارض النهرين العاتيين المدمرين، الاسباب والموجبات الكونيه الغعلية الموافقه للصيرورة البشرية للاكيانيه المتعدية للكانيه الانيه، تقوم اساسا كاصطراعية ازدواجية من مجتمعيتين: لاارضوية اساس وبدء، وارضوية هي حصيلة الانصباب من الجهات الثلاث المفتوحة شرقا وغربا وشمالا باتجاه ارض الخصب جنوبا، وبدء اصطراعية هذه مع النمطية الاخرى المتشكلة قبلا في غمرة الاصطراع مع البيئة الطاردة، وحالة العيش على حافة الفناء، لتزيدها من الاسباب سببا مهما، يكرس خصوصياتها وجوهر كينونتها اللاارضوية المجافية كليا.

لم يعرف العراق ارض الرافدين وما بين النهرين على مدى تاريخيه، الكيانيه الارضوية " الوطنيه الاحادية" على الاطلاق، وهي كيانيه ادنى كينونة، مقارنه بالنوع المجتمعي الاعلى والاكثر توافقا مع الحقيقة الوجودية البشرية، والباقية خارج البحث، بانتظار توفر العقل بالتفاعلية الطويلة على اسباب الادراكية الضرورية المغفلة، وبغض النظر عن متبقيات وماتراكم من اصناف النظر الى تاريخ العراق،  بناء لبداهة الالحاق بالنموذج القابل للاحاطة، فان ماحدث هنا من تشكلات على مستوى الكيانيه، ظل كونيا  متعديا للوطنيه، امبراطوري مع سرجون الاكدي حاكم زوايا الدنيا الاربع ( قصتة الشخصية ولادة حتى الحكم، هي قصة النبي موسى)اول امبراطور ازدواجي في التاريخ البشري من  2371 ـ 2316، ولاارضوي سماوي نبوي حدسي كوني من اسفل، وصولا الى بابل / المدينوامبراطورية/ كتشكل نهائي للمجتمعية العليا النازلة، بعد عجزها عن اخضاع مجتمعية اللاارضوية واضطرارها للانكفاء خارج المكان، تامينا للريع غير الممكن داخليا، بعد اضطرارها الى خوض الغزوات الداخلية المكلفة جدا لحلب الريع، ماقد استوجب استقلالها في اعلى وعلى حافة المجتمعية اللاارضوية في مدن محصنه ومسورة اعلى تحصين، معزولة عن المجتمعية السفلى، اعلاها تجسيدا لنوعها "بابل" قبل "بغداد"  بانتظار "بابداد"،مع ان الثانيه هي هروب عباسي من الاسفل(1)، من الكوفة الى الاعلى لاجل الاستقلال المدينو/امبراطوري.

والمجتمعية الاصل تبلورا، هي مجتمعية ( الكائن البشري/ البيئة)  تشكلا وكينونة مادامت الانتاجية اليدوية هي السارية،  وقد وجدت في الشرق المتوسطي استهلالا على نوعين، كوني لاارضوي مستقبلي ازدواجي، تبدا اولى تبلوراته وسط مجافاة النهرين وتدميريتهما وفوضاهما المخالفة للدورة الزراعية فيضانا، مع جملة الاشتراطات البيئية الطاردة، وانفتاح الحدود من الجبال الجرداء والصحارى شرقا وغربا وشمالا، ماعدا منطقة الامان التاريخي جنوبا، مقابل المصرية حيث التوافقية البيئية الانتاجية للنيل الذي يفيض بانفاق مع الدورة الزراعية، والحماية التي توفرها الصحراء والبحر في الشمال ضد الانصبابات والغزو، مايجعل المجتمعية من دون ديناميات اصطراعية مجتمعية، من البديهي تشكلها في الدولة، في نمطية دولة احادية، هي الاكثر شيوعا على مستوى المعمورة، مع تعدد اشكالها، وبالاخص اعلاها ديناميات ضمن صنفها، المجتمعية الاصطراعية الطبقية الاوربية على المنقلب المتوسطي الاخر.

تشكليا ومن حيث الديناميات والقانون التفاعلي المجتمعي، تظل الارضوية الاحادية بصيغتها المتعارف عليها تاريخيا هي الغالبة، لانتفاء الاسباب الضرورية واللازمة للتحقق اللاارضوي الرافديني  المشروط اولا بانتهاء القصورية العقلية اليدوي، وانقضاء الطور اليدوي من الانتاجوية، بما يعني بقاء نمطية مابين النهرين خارج الادراكية ابان الطور اليدوي، وانتسابها الى الطور الثاني الالي كشرط موضوعي مادي واعقالي ضروري لحضورها.

ولايعني بدء الانتقال الالي في بداياته، تحقق الادراكية الاليه في حينه وساعته، فاوربا التي يقع بين ظهرانيها الانقلاب المشاراليه، ليست مؤهله لان  تدرك الحاصل فيها، وبالاخص من ناحية النوع النمطي، ومن ثم الكياني، فتظل ابتداء رازحه تحت وطاة الارضوية اليدوية السالفة ونوع ومستوى ادراكيتها للمسالة المجتمعية، الى ان تحين اللحظة، وتتوفر الاسباب والتراكمات الضرورية لانبثاق الرؤية اللاارضوية الازدواجية، مع بدء الانتقالية التحولية البشرية من "الانسايوانيه"، الى "الانسان العقل"، والى اشتراطات التحول من الارضوية الى الكونيه، ووقتها فقط يكتمل الانتقال التاريخي من اليدوية الانتاجية الى الاليه بصيغتها العليا / التكنولوجية.

***

عبد الأمير الركابي

 

زُج ما يُسمَّى بـ «قانون تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة» (188 لسنة 1959)، مع قانوني «العفو العام»، و«إعادة العقارات» - المستولى عليها قبل (2003)، وليس بعدها - فأقرَّ البرلمان (21/1/2035) القوانين الثلاثة بمزاد غريب، حتَّى على تقاليد الأسواق، وبعدها قامت المحكمة الاتحادية (4/2/2025)، بوقف تنفيذ التَّعديل، وقصدها ليس (تعديل) الأحوال الشّخصية، إنَّما قانون «العفو العام»، المتصل بما جنته على العراقيين مادة (4 إرهاب) و«المخبر السّري»، المصوت عليها وفق اتفاقات رؤساء الكُتل، أمَّا الأعضاء فعليهم رفع الأيدي، فتكتل حزب الدّعوة، وهو ما يشار إليه بالدَّولة العميقة، يلح مؤيداً تبطيل (اشتقاق من الباطل) الأحوال الشّخصيّة، وتسليمها للفقه، كمظهر من مظاهر الدَّولة الدّينية، التي ينشد إقامتها، وبالمقابل أخذ يلح على إلغاء إقرار قانون العفو العام.

ما يهمنا هو «الأحوال الشَّخصيّة»، فليت المقصودَ تحريرُ هذا القانون مِن اِعوجاج، فسمُّي- جزافاً- تعديلاً، بما اشتهر بتصويت السَّلة، ولا عِلم لي إذا كانت «السَّلة» مِن أدوات الدّيمقراطية، وهي أداة الأسواق لا البرلمانات، وهنا أول مرة ألجأ للذَّكاء الاصطناعيّ، وأسأله عن تصويت السِّلال؟ فأجاب بنعم، ولكن ليس بمعنى التَّصويت دفعة واحدة على ما في السَّلة، إنما حصل قديماً أنْ «يُطلب مِن الأعضاء، وضع أصواتهم في سَلة، أو صندوق خاص، من دون إعلانهم عن خيارهم علناً، مما يُعزز السّرية».

استخدم لفظ التَّعديل تلطيفاً للأسوأ، وهو في الحقيقة تبطيل لا تعديل، وإلا فاللَّفظ منافٍ لحقيقة ما يُراد إقراره، فحسب المعاجم العربيّة: «تعديل الشَّيء تقويمه، فاعتدل حتَّى استقام» (لسان العرب)، والعدل ضد الأعوج، فكيف بإلغاء قانون يحفظ حقّ الطَّفل والمرأة يُعد تعديلاً؟ في سن الزَّواج والحضانة، وكلاهما يقعان على كواهل الأطفال والنّساء.

اعتمد «المعدلون» على مادة الدّستور الثَّانية: «لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام»، ومعلوم الثَّوابت هي الأُصول المعروفة، أمَّا تفاصيل الزّواج فمِن وضع الرّجال، ولأبي حنيفة(ت: 150هج) عبارة قالها عندما أُشكل في مسألة: «نحن رجال وهم رجال» (الزَّمخشريّ، ربيع الأبرار)، والدَّليل اختلاف المذاهب في مسائل الزَّواج بتباين الفقهاء، ولو كان ذلك مِن الثّوابت ما صنفت كُتبُ «اختلاف الفقهاء»، وما ظهرت في مكاتبنا الألوف المؤلفة في اختلاف الاجتهادات! فأي ثوابت للإسلام تتعارض مع سن الزواج (18) عاماً؟ وأي ثابت تتجاوزه مدة الحضانة للأم؟ كذلك اعتمد (المعدلون) على المادة (41): «العراقيون أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشَّخصيَّة...».

أليس هذا مبعثَ فوضى في المجتمع؟ وما دُست هذه المادة في الدّستور إلا ثأراً لمن أزعجه قانون (188/1959)، فقد جعل عقود الزَّواج للمحاكم، لا للفقهاء، مع تحديد سن الزَّواج اللائق، والميل لمصلحة الطَّفل بحضانة الأمّ. ليس هناك دولة تنظر إلى الأمام بلا قانون أحوال شّخصية، يحمي الطُّفولة. سيقولون: إنَّها الدِّيمقراطيّة؟ أقول: إذا كان الأمر كذلك، فالنَّاس أحرار في ممارسة الضّرر الاجتماعيّ!

بينما للأطفال الحقّ بالحماية مِن معاملات تقرّ خطوبة الرَّضيعات، والاستمتاع بهنَّ «لا بأس به»، والدُّخول بإكمال التسع سنوات! هل فكر المعدلون بفظاعة المشهد؟! مِن باب آخر جَعل (التَّعديل) الفقهاءَ فوق المحاكم، لتغدو مكاتب خدمية لِما يبرمه الفقيه. بينما قانون (188)، أخذ ما يناسب العصر من المذاهب، جاعلاً مصلحة الإنسان أولاً. اِطَّلعت على معظم قوانين الأحوال الشّخصية، لدول قريبة وبعيدة، فوجدتُ الزَّواج عند كافتها (18) عاماً، والحضانة للأمِّ بين (15) إلى (18) عاماً. فهل تراها خالفت «ثوابت الإسلام»؟

وأين فقه المصلحة؟ سبق الشّاعر وقال في محنة مشابهةٍ: «مشت كلّ جارات العراق طموحةً/ سراعاً وحالت دونه العقبات» (الجواهريّ، الرَّجعيون 1929). يبقى الأمل بالقضاء العراقي يرفض تطبيق قانون التّبطيل، فهو شرخ في تاريخ العدالة، فلا يجب أن تكون مصائر الأطفال والنّساء خاضعة للمساومة، فيصوت عليها بـ «السَّلة».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ما يجري في العالم من تسارع للاحداث والصراعات، ماهي الا حرباً للسرديات مختلفة وصراعاً انتقل من السردية الى ارض الواقع، ومحاولات لفرض الوجود من طرف على حساب الطرف الأخر، اذن هي معركة لاثبات الشرعية.

فلم تعد تقتصر المعارك على الأسلحة والجيوش، بل انسحبت إلى ميادين الفكر والثقافة والإعلام، تُعرف هذه الظاهرة بـ"حرب السرديات" حيث تتنافس الدول والجماعات وحتى الأفراد على فرض رؤاهم ورواياتهم الخاصة للواقع والتاريخ، في جوهر هذه الحرب، تكمن مسألة "إثبات الوجود" ومحاولة للسعي إلى ترسيخ الهوية والتأثير على وعي الجماهير وصناعة الحقيقة المقبولة.

فالسردية ليست مجرد قصة تُروى، بل هي إطار فكري يؤثر في فهم الناس للأحداث ويشكل هويتهم الثقافية والسياسية، وفي سياق الحروب التقليدية أو تناطح الأيديولوجيات، تسعى الأطراف المختلفة إلى فرض وبسط رواياتها حول الشرعية، والاحقية والعدالة والقيم التي تدافع عنها.

في الوضع الطبيعي لن تحتاج الامم لسردية مثيرة تثبت بها احقيتها من غيرها في نزاع ما!

لكن يبرز اهمية خلق سردية بشكل خاص عند الصراعات التاريخية، حيث تحاول كل جهة إعادة تشكيل الماضي بما يخدم مصالحها، وفي النزاعات السياسية، حيث تستخدم الحكومات والمؤسسات الإعلامية السرديات لتبرير سياساتها.

وتعمل على تغذية تلك السرديات بشهادات حية مرة، لأناس عاصروا تلك الحقبة الزمنية او تستشهد بصور وبيانات ومخطوطات ووثائق تعضد على لسان السردية.

ولا يقف الامر عند هذا الحد بل قد تخاض حرب السرديات عبر وسائل متعددة، من أبرزها، الإعلام التقليدي والجديد اذ تستخدم الدول والمنظمات القنوات التلفزيونية والصحف ومنصات التواصل الاجتماعي لنشر رواياتها والتأثير على الرأي العام.

كذلك يلعب الأدب والسينما والموسيقى دورًا مهمًا في ترسيخ السرديات عبر الزمن، حيث تساهم في خلق صور نمطية وتشكيل وعي الأجيال. والمسلسات المصرية التاريخية خير دليل

اما التعليم والمناهج الدراسية فتعد أداة حاسمة في بناء السردية الوطنية وترسيخ قيم وتصورات محددة حول التاريخ والهوية.

يعد "إثبات الوجود" أحد الأهداف المركزية لحرب السرديات، وهو يعني تأكيد الهوية والحقوق في مواجهة التهميش أو الطمس الثقافي والسياسي.

يظهر هذا بوضوح في قضايا يعيشها العالم اليوم، مثل القضية الفلسطينية حيث يتنافس الفلسطينيون والإسرائيليون على سرديات متناقضة حول الاحقية بالأرض والتاريخ والحقوق، ويستخدم كل طرف الإعلام والتعليم والدبلوماسية بل وحتى الطبخ فكل طرف يقول انه اول من اخترع الفلافل! لترسيخ روايته.

ان التوثيق الرصين لعادات وتقاليد وموروثات الشعب ما هو الا صك ملكية للارض والهواء لتلك البقعة، وعند العودة للقضية الفلسطينية وسرديته حول الارض نرى ان العالم بات يهمش تلك السردية، وغالبا ما يطالب بإعادة كتابة التاريخ من جديد، والتوجه نحو اسرائيل وتصوير ثقافتها كنموذج عالمي، او الترويج لهويتها الخاصة كبديل منافس.

ولا تواجه السرديات بمنطق القوة بل بسرديات مغايرة لها وذلك باتباع استراتيجيات متعددة، منها تعزيز التفكير النقدي لدى الأفراد ليتمكنوا من تحليل السرديات المختلفة وفهم دوافعها، اي لا يقبل اي سردية خرافية وتهمل من المبالغة وعدم الدقة الشيء الكثير.

اما إنتاج السرديات البديلة فيجب ان تستند إلى حقائق واضحة وصحيحة وهنا ياتي دور الإعلام المستقل كونه القوة الناعمة بدعم السردية عبر دعم الصحافة الحرة والإعلام المستقل لضمان تقديم روايات غير منحازة وقائمة على الحقائق وتوظيف التعليم والفنون كوسائل لنشر السردية الوطنية أو القومية بطرق أكثر تأثيرًا وديمومة.

في ظل تزايد الصراعات الفكرية والمعلوماتية، أصبحت حرب السرديات أداة حاسمة في رسم خريطة النفوذ والتأثير العالمي، إن النجاح في هذه الحرب لا يعتمد فقط على القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل على القدرة على صناعة وإيصال روايات مقنعة تخاطب العقول والقلوب. في النهاية، من يمتلك السردية الأكثر إقناعًا هو من يستطيع إثبات وجوده بقوة في ميدان التاريخ والسياسة والثقافة.

***

رسل جمال

تذهب نظرية (حافة الهاوية) تلك التي يجري توظيفها في الحقل السياسي والصراعات الدولية إلى أنه عليك التمترس إلى أقصى درجة، ورفع سقف مطالبك إلى حدود غير مقبولة، وجعل الأمر وكأن حرباً كبيرة ستقوم. في تلك اللحظة سيفقد الجميع الأمل مطلقاً في إمكانية الوصول الى أي حل سلمي، هنا يكون الجميع قد وقف على حافة الهاوية.

ومن ثم حين تُقدِّم تنازلاً بسيطاً جداً سيهرع الجميع للقبول بباقي مطالبك، اعتقاداً منهم أنهم أحرزوا نصراً، ونزعوا فتيل التوتر، وتجنبوا سيناريو الحرب.

فهي إذن استراتيجية التصعيد لأزمة دولية ما إلى قمة الصراع، ودفعها إلى حافة الهاوية من أجل إخضاع الطرف الآخر عبر استدعاء الخوف، وهواجس النهاية المأساوية الكامنة داخله.

ونظرية حافة الهاوية (Brinkmanship) تلك كان قد نظَّر لها وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس، في خمسينيات القرن المنصرم، وتم تطبيقها بالفعل إبان الصراع الكبير بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي فيما يعرف بالحرب الباردة، والحرب الكورية عام1953م وكذلك وقت الأزمة الكوبية عام 1962م.

من هنا يمكننا أن نفهم الاجراءات التي شرع ترامب في اتخاذها في الآونة الأخيرة ضد كثير من بلدان العالم، والتي وضعت الاستقرار الدولي على الحافة، إذ تدور في سياق ما تطرحه تلك النظرية السياسية.

كذلك التصريحات المتعلقة بالشأن الفلسطيني، فما أعلنه ترامب من مخططات تهجير للفلسطينيين والقضاء على مشروع الدولة الفلسطينية لصالح الصهيونية العالمية هي الأخرى، في اعتقادنا، تندفع وفق مقتضيات تلك الرؤية.

فهي إجراءات في اعتقادي سيتراجع ترامب وحلفاؤه عن بعضها لكنهم لن يكفّوا عن الضغط لمرات عديدة في سبيل تحقيقها طالما أن الظرف الدولي يسمح بذلك ولم يجدوا تكتلاً دولياً حقيقياً يتصدى لهم.

غير أن حافة الهاوية الحقيقة التي يأخذ ترامب أمريكا والغرب إليها، والتي نقصدها في هذا المقال، هي حافة هاوية الحضارة الغربية واقتراب انهيارها، إيذاناً بحتمية تشكُّل نسق حضاري جديد، وربما تكون تلك هي الحسنة الوحيدة من وراء وجود ترامب وحلفائه في السلطة.

حقيقة أن الرجل الفائق لدى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، أو السوبرمان الذي بشر به، نجده وقد تجسَّد في شخص (دونالد ترامب)، هذا الرجل الجسماني النفعي، ذو النزعة البراجماتية الانتهازية، والخالي من أية مشاعر إنسانية، الذي لا يعرف مقتضيات الرحمة الإنسانية ولا يفهم إلا مصالحه وفقط ودون أن يعبأ بأية قيم إنسانية.

ربما لو عاش نيتشه حتى رأى ترامب لعدل عن كثير من أطروحاته، أو لانهار مغشيًا عليه من رداءة وكارثية تفسيرها.

تنصيب ترامب هو إذن علامة على بداية دخول الحضارة الغربية والأمريكية تحديداً طور الانهيار، ومن ثم سيتذكر التاريخ تلك اللحظة جيداً.

ونلمح هنا توافق الرؤية الترامبية التام مع النظرة ما بعد الحداثية، فكل شيء قابل للبيع بما فيها الكرامة الإنسانية، والقيم، والمبادئ الخالدة، والتاريخ، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.

وأنه لا أحد يمكنه مقاومة الإغراءات المادية في عصر ما بعد الحداثة، إنها، وفقًا للقناعة الترامبية، تجعل الشعوب تُسقِط من ذاكرتها تاريخها، تُثملها وتضعها في حالة سكر ونشوة بفعل المتع المادية الآنية الكاذبة.

فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذاته هو أحد أحدث منتجات ما بعد الحداثة في طورها الأكثر رداءة، هو تعبير عن بلوغها أقصى درجات الانحطاط الإنساني، ذلك الجسماني الخاوي والمُفرغ من الداخل، ورجل المصارعة الذي يُمجِّد القوة كقيمة مركزية ولا يعبأ بالقيم الإنسانية، رجل البيزنس والمقاولات حيث قيم الربح والخسارة هي الحاكمة وأن كل شيء قابل للمساومة ومن ثم البيع والشراء، كما يتم استدعاء المُتع الجنسية والدفع بها لأقصى حد، الاستهلاك المفرط، الحياة المنزوعة من أي غائية حقيقية، العمل الفاقد للقيمة كعروض الأزياء ومستحضرات التجميل والمضاربات وسمسرة العقارات، المهم لديه هو تحقيق أعلى ربح بأقل جهد.

كذلك النظرة الدونية للآخر، غير الغربي تحديدًا، ذلك الذي هو ما دون الإنسان ومِن ثَمَّ فحياته وممتلكاته وثرواته مباحة طالما أن ذلك سيحقق السعادة والرفاهية القصوى للإنسان الغربي، فهو حقًا (الكائن المستباح)، إذا جاز لنا أن نستعير من المفكر الإيطالي جورجيو أجامبين.

كذلك الإيمان بمقدرة المال على شراء كل شيء، فهو، أي ترامب، يعتقد أنه اشترى الكرسي الرئاسي بأمواله وأموال حلفائه، وهو مُحِقّ في ذلك إلى حد كبير.

رغم علمانيته نجده وقد تحالف مع التيارات الدينية المتطرفة (كالصهيونية الدينية أو المسيحية الصهيونية) فهي بمقدورها تثبيت أركان دولته والغاية حتماً تبرر الوسيلة.

وإذا ما كان مفكرنا العظيم ديستوفيسكي يردد أن الحضارة الغربية قد اتسمت بسمات ثلاث رئيسية هي (النفعية المادية، ضمور الحس الخلقي، التمركز حول الذات) فإن ترامب وأعوانه قد دفعوا بتلك الخصائص والسمات إلى حدودها القصوى.

في يقيني أن لحظة جلوسه على كرسي الرئاسة هي تدشين لعصر دخول الحضارة الغربية والأمريكية تحديدًا في طور الانهيار التام بعد فترة سبقتها من الاضمحلال الأخلاقي والقيمي، فهي إذن حافة الهاوية.

فترامب هو هتلر الجديد لكن في نسخته الأكثر رداءة ودموية والذي سيقود أمريكا والنظام العالمي معها إلى حافة الجنون.

***

دكتور محمد عمارة تقي الدين

ليس من مهمة الدولة إدخالك الجنة. ليست وظيفتها أن تقودك إلى المطلق، ولا أن تُلقنك شكلًا واحدًا للخلاص، ولا أن ترسم لك طريقًا سرمديًا نحو النجاة. الدولة، في جوهرها، كيان مادي، هش، مؤقت، قائم على التفاوض بين المصالح، خاضع لقوانين التاريخ والتقلبات الاجتماعية. لا يمكنها أن تدّعي امتلاك مفاتيح الأبدية.
ومع ذلك، ما زالت السرديات السلطوية تصرّ، بإلحاحٍ وضاعة، على الالتفاف حول العقل الجمعي، وتدجينه عبر منظومات الخطاب الديني والسياسي، بحيث يُغلق الأفق أمام أي محاولة للفكاك من قبضتها.
لكن لماذا تحتاج السلطة إلى الدين؟ ولماذا يتكئ المستبد على رجل الدين كما يتكئ الاعرج على عصاه؟
يبدو الأمر وكأنه استدعاءٌ مقصود لوهم السرمدية، حيث يحاول الحاكم، كيانٌ زائل بحكم التاريخ، أن يُلبس نفسه رداء المقدس، أن يعبر هشاشته عبر أوهام الإطلاق، أن يتمدد في الزمن عبر أذرع الأيديولوجيا اللاهوتية.
منذ اللحظة التي يدرك فيها أي نظام سلطوي محدوديته، يبدأ في استدعاء الغيبي، يحتمي به، يستخدمه كسلاحٍ ضد أي محاولة لتفكيك بنيته.
السردية هنا ليست جديدة: الملك الذي يتوجّه بمباركة الكهنة، الخليفة الذي يُسمى “ظل الله في الأرض”، الطاغية الذي يحيط نفسه بفقهاء السلطة، في مشهدٍ كاريكاتوري يختزل ألفيةً من التاريخ في صورةٍ واحدة، حيث يجلس السياسي في مركز الهيمنة، بينما يجلس رجل الدين على حافة المشهد، كمجرد انعكاسٍ سلطوي لصورة الحاكم.
حين تتحول الدولة إلى وسيطٍ بين الإنسان والمطلق، يصبح الدين أداةً لإعادة إنتاج السلطة، لا مشروعًا روحيًا مستقلًا. لا تكتفي الدولة بتطويع الدين لخدمتها، بل تحوّله إلى خطابٍ مغلق، لا يسمح بأي تأويلٍ خارج المسموح به، ويُستخدم لتبرير الاستبداد، وتشريع الإقصاء، وعزل المثقف أو نفيه أو التخلص منه أو جعله ضمن منظومة الهيمنة.
يتحول الفقر إلى “ابتلاء”، والقمع إلى “حماية”، والصمت إلى “حكمة”.
لا يعود الإيمان مسألةً شخصية، بل يتحول إلى ميثاقٍ اجتماعيٍ قسري، تفرضه السلطة كإجراءٍ إداري، كجزءٍ من البيروقراطية السلطوية، حيث يصبح التدين علامةً إجبارية على الولاء، لا اختيارًا فرديًا ينتمي إلى حقل التجربة الداخلية للإنسان.
في السودان، لم يكن نظام الجبهة الإسلامية إلا امتدادًا فجًّا لهذه السردية، حيث استخدم الإسلاميون الدين غطاءً لتبرير حكمهم، وحوّلوا جهاز الدولة إلى مؤسسةٍ لإعادة إنتاج الطاعة تحت لافتة الشريعة.
حين استولت الجبهة الإسلامية على السلطة بانقلاب 1989، قدمت خطابًا قائمًا على أن الحكم الإسلامي هو الطريق إلى “المدينة الفاضلة”، حيث يصبح السودان نموذجًا “للدولة الرسالية” التي تقود العالم الإسلامي.
لكن في الممارسة، لم يكن هذا المشروع سوى إعادة تدويرٍ لصيغ الاستبداد الكلاسيكي، مع إضفاء طابعٍ ديني يمنحه غطاءً شرعيًا.
تحولت الدولة إلى مؤسسةٍ عقائدية، تُوظف فيها أجهزة الأمن والمخابرات، ليس فقط لقمع المعارضين، بل لمراقبة إيمان الأفراد، حتى بات الولاء للنظام يتجسد في الشعائر والتصريحات قبل أي شيءٍ آخر.
لم يكن الهدف خلق مجتمعٍ أكثر تدينًا، بل خلق مجتمعٍ أكثر خضوعًا، حيث يصبح التدين جزءًا من البنية البيروقراطية للهيمنة.
كما في كل الأنظمة التي تستخدم الدين كأداة، كان لا بد من تصفية المثقفين الذين يشكلون تهديدًا لهذا البناء.
لم يكن من الممكن السماح لأي خطابٍ بديل أن ينمو، فإما أن يتم تدجين المثقف داخل المنظومة، عبر تقديمه كواجهةٍ دينية “معتدلة”، أو يتم نفيه تمامًا، سياسيًا أو حتى جسديًا.
هكذا وجدنا عشرات المفكرين السودانيين يختارون المنافي، بينما أُفرغت الساحة الثقافية لصالح خطابٍ دينيٍ مؤدلج، يُعيد إنتاج نفسه عبر فقهاء السلطة، الذين تحولوا إلى أدواتٍ ناطقةٍ باسم النظام.
في المقابل، كان الشيوخ والفقهاء الرسميون يتمتعون بامتيازات السلطة: القصور، والصفقات، والظهور الإعلامي المكثف، في حين كانت المساجد المستقلة تتعرض للمضايقة، وأحيانًا الإغلاق.
لم يكن الدين هو المقصود في ذاته، بل كان مجرد قناعٍ سياسيٍ لتمرير مشروع الهيمنة، حيث تتحول المنابر إلى أداة ضبط، لا إلى فضاءٍ للبحث عن المعنى أو للحوار المفتوح.
لكن لماذا تصرّ السلطة على التلبّس بالمقدس؟ ولماذا تعيد إنتاج هذا النموذج رغم فشله؟
الإجابة تكمن في طبيعة السلطة ذاتها، في حاجتها الدائمة إلى تبرير وجودها عبر أدواتٍ ما فوق سياسية.
السياسة، في جوهرها، تقوم على الصراع والموازنة والمصالح، وهي جميعًا أمورٌ نسبية، متغيرة، مؤقتة.
الدولة التي تفقد قدرتها على إقناع الجماهير بشرعيتها من خلال الإنجاز والتنمية، تلجأ إلى استراتيجيةٍ أخرى: تحويل الشرعية إلى سرديةٍ لاهوتية، بحيث لا تعود المسألة متعلقةً بكفاءة الحكم، بل بقدسيته، بحيث يصبح الاعتراض على السلطة نوعًا من التجديف، وتصبح المعارضة السياسية ضربًا من الخروج على النص المطلق، لا على القانون الوضعي.
لكن إذا كانت الدولة ليست مسؤولةً عن خلاص الأفراد، فلماذا تصرّ على لعب هذا الدور؟ ولماذا يصرّ بعض الأفراد على قبول هذه السردية، حتى عندما تكون ضد مصالحهم المباشرة؟
الإجابة تكمن في ما أسماه أنطونيو غرامشي بـ”الهيمنة الثقافية”، حيث لا تفرض السلطة سيطرتها فقط بالقوة، بل عبر التحكم في الخطاب، في الأفكار، في ما يُقال وما لا يُقال.
السلطة الأكثر إحكامًا ليست تلك التي تضطهدك، بل تلك التي تقنعك بأن اضطهادها هو شكلٌ من أشكال الحماية، وأن قمعها لك هو نوعٌ من الرعاية، وأن بقاءها ضروري، حتى لو كان ثمن ذلك هو اختناق المجال العام، وانغلاق الأفق، وانعدام أي إمكانيةٍ لتصور مستقبلٍ خارج الهيمنة.
لكن هل نكتفي بالنقد، أم نطرح سرديةً مضادة؟ هل يمكن تصور دولةٍ لا تحتكر الدين، ولا تُفرغه من مضمونه الإنساني، ولا تستخدمه أداةً في مشاريع السلطة؟
الدولة التي لا تزعم احتكار الحقيقة ليست بالضرورة دولةً ليبراليةً متوحشة، ولا دولةً فوضويةً بلا معنى.
يمكن تصوّر دولةٍ مدنية، اشتراكيةٍ ديمقراطية، تضمن الحقوق دون أن تفرض الوصاية، تحترم الإيمان دون أن تؤدلجه، تتيح المجال للنقد دون أن تمتصّه داخل آلتها البيروقراطية.
في النهاية، الدولة ليست نبيًا، ولا الحاكم قديسًا، ولا النظام السياسي كيانًا سرمديًا.
إنها جميعًا مؤسساتٌ بشرية، قابلةٌ للتغيير، قابلةٌ للزوال، لا تحمل أي قيمةٍ مطلقة، ولا تمتلك أي شرعيةٍ فوق تاريخية.
وإذا كان الإنسان سيحاسب فردًا، فلا مبرر لأن يُفرض عليه طريقٌ واحد، مرسومٌ بأيدي رجال السلطة، باسم الدين، أو باسم الدولة، أو باسم أي سرديةٍ أخرى تحاول تطويعه داخل مشروع الهيمنة.
***
إبراهيم برسي

لا يمكن التخلص من السيطرة الأجنبية دون تحقيق الاستقلال الثقافي

"ازرع بذور ثقافة صحيحة في الجيل الحالي..، تجن نهضة شاملة يحققها جيل الغد ويستمتع بها" هي جملة قالها العالم الكبير الدكتور قسطنطين رزيق، الذي رأى أن ثقافة أمة، أيّ أمّة..،  هي الزاد الذي يستمد منه أبناء الأمة وقادتها وأعلامها، وهي القدرة على مجابهة  الصعاب وبناء الغد، على أسس أفضل والسعي بهم نحو مجتمع العدالة والحرية والسلم والتقدم، والمثقف عادة ما يعتبر "الديمقراطية " السقف الذي يستظل به إذا أراد أمنا وحماية، وهي الرئة التي يتنفس بها، والواقع أن المثقف هو قلب الأمّة النابض وعقلها المدبر، وإن تعرض القلب والعقل لعطب ما توقفت عجلة تقدم الأمة كلها

منذ آلاف السنين والإنسان يبحث عن طريقة يغير بها نمط حياته، ويسعى لينتقل من الفردانية إلى العيش مع الجماعة، التي منها يحقق ذاته ويؤمن الظرف المناسب للتواصل في نمط الحياة الديمقراطية على اختلاف أشكالها ونظمها، فكل من كتب عن الثقافة والمثقف يكاد لا يخرج عن حدود التعريفات التي قرأوها هنا وهناك، ودأبوا على تقديمها للطلبة في الثانوية والجامعة أو في الملتقيات،  فالبعض أرجعها إلى الزراعة   culture، في المفهوم الفرنسي القديم، وهو استعمال مجازي للدلالة على ما يجري من ترقية الأفكار والآداب، والبعض الآخر قابلها بكلمة الحضارة، التي تعكس  الهمجية والبربرية.

وإن كان بعض الباحثين اعتبروا أن الثقافة مرتبطة بالحضارة، حيث تشمل هذه الأخيرة  كما قالوا الأمور المادية والوسائل المادية أيضا،  فإن البعض الآخر فرق بين الحضارة والثقافة، كون الثانية  خاصة بكل أمّة على حدة، وهذا مخطئ لأن الثقافة الغربية استطاعت على نشر جذورها في الأمة العربية، خاصة دول العالم الثالث، الذي عرفت شعوبه السيطرة الاستعمارية، وإن كانت هذه الشعوب نالت استقلالها العسكري، فإنها لم تنل استقلالها الفكري والسياسي والثقافي كذلك، والجزائر كنموذج ما تزال مستعمرة ثقافيا، فيما راح البعض بالقول أن الثقافة أكثر شمولا، لأنها تنحصر بالأمور "الذهنية"..

فمما  لا شك فيه أن المشكلة في المجتمع أي مجتمع (الجزائر نموذجا)  هي مشكلة "ذهنيات"، وتغييرها يأتي مع الجيل الذي يكون قادرا على التغيير، ليس على طريق "الربيع العربي" مثلما يحدث الآن، من أجل التحرر، وإسقاط الأنظمة، وهنا يبادرنا سؤال وجيه، هل إسقاط النظام وإجبار الحاكم على الرحيل بطريقة أو بأخرى، يعني القضاء على الفساد أو نهايته؟، فتغيير الذهنيات لا يأتي بالنار والحديد، ولكن بالفكر، قليلون جدا من لهم فكر " نيّر" ولكن هؤلاء غير مرغوب فيهم، وغالبا ما يكونون  في الهامش، وتمارس عليهم شتى أساليب الإقصاء،  وأساليب أخرى إما تنتهي بالاغتيال، أو  تدفعهم إلى الانطوائية، وهذه بدورها تقود إلى الشعور باليأس ثم  الإقبال على الانتحار، وكم من فيلسوف مات مشنوقا أو مسموما، ولنا أمثلة في الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، الذي خص للحديث عن الثقافة والحضارة وبناء الإنسان مجالا واسعا في كتبه ومؤلفاته، ونذكر أيضا الأديب السوري ندرة اليازجي الذي صور لوحة كانت عبارة عن فسيفساء لما سماه بـ: " حضارة البؤس"، ركز فيها على قضايا  الشباب، وكانت له أحاديث في الصداقة  والزواج، وفلسفة الكذب  وغير ذلك..

الاستقلال الثقافي عامل من عوامل تحضر المجتمع

الصراع بين الشرق والغرب، ومن له حق الملكية  الفكرية، جعل البعض يطالبون بالاستقلال الثقافي، باعتبار أن الثقافة تعبير عن هوية المجتمع، غير أن الاصطدام وقع بين أصحاب هذا المطلب ودعاة الحداثة، وقد عرف بعض الكتاب المحدثين "الاستقلال الثقافي"  بأنه لا يعني كراهية الثقافات الأجنبية  ولا يتضمن قطع العلائق مع الثقافات الأخرى، إنما يعني تنظيم ثقافة البلاد وتوجيهها حسب ما تقتضيه مصالح الأمة، ذلك صحيح، غير انه غير مطبق في الواقع، لأن المسؤولين على قطاع الثقافة لم يسعوا إلى تحقيق الاستقلال الثقافي،  وراحوا بالقول أنه لابد من أن ننفتح على الآخر ونطور ثقافتنا، وأن هذه الأخيرة بحاجة هي الأخرى إلى تلقيح اصطناعي من نوع خاص، لكي نمزج ما هو غربي مع ما هو شرقي، ويمكن أن نضرب مثالا لما دأبت عليه بعض الفرق الموسيقية في الجزائر وبخاصة في عاصمة الشرق قسنطينة، عندما أدخلت فن "الجاز" على فن المالوف"، رغم أن الاثنان يختلفان.

فكل ما يقدم يكاد أن يكون تحصيل حاصل لما أنتجه الآخر، وأصبح هذا الآخر مثل الجنّ يسكن جسده وذهنه المنغلق على أفكاره الأنانية حتى لا نقول "الخبيثة"، يضع "الأقنعة" حتى لا تنكشف حقيقته المزيفة، فهل يمكن القول أن "المثقف" في المجتمع العربي بصفة عامة والمثقف الجزائري بصفة خاصة هو ذلك الوعي الزائف، لقد سئل أحد الفلاسفة في حوار أجرته معه جريدة "لوموند" le monde حول ماهية "المثقف"، فكان رده : أنا لا أعرف من هو المثقف، أعرف أن هذا كاتب وذاك موسيقي، والآخر المهندس الذي يخطط، و الذي يعالج يقال له طبيب" وهكذا، أما المثقف فلم أتصادف معه"، ويفهم من ذلك أن القضية تتعلق بالاختصاص، وكلّ والمجال الذي يعمل فيه، لكن الواقع أن "المثقف" لابد عليه كما يقول قسطنطين  رزيق  أن "يعرف شيئا عن كل شيئ، ويعرف كل شيء عن شيء"..

فما أعظم ما يكابده المثقف وهو يعصر ما أنتجه المفكرون، يقول عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكُتّابِ وهو يحثهم على العناية بتراثهم ودينهم: " فتنافسوا يا معشر الكتاب في صفوف الآداب وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلك كتاب الله والفرائض، ثم العربية فإنها حقائق ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط، وأرووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب وأحاديثهم وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم"، ولنستمع إلى ( أمادو هامباتي بل)  الذي يقول: " من مميزات المثقف الأساسية استعداداه لسماع الرأي الآخر واحترامه لرغبته في التوصل لتفاهم متبادل عن طريق الحوار وكراهيته للتعصب،  وانفتاحه على الفهم العالمي، فهو يتمثل ثقافة مجتمعه  ويستلهم أحلام قومه وآمالهم، وفي نفس الوقت يعمل على تجاوزها أو تغييرها إن أصابها خلل .

الصِّرَاع بين "المُتَفَرْنِسِينَ" و"المُعَرّبـِينَ" متجذر في التاريخ

الصراع لم يعد بين الشرق والغرب كما يعتقد البعض، وإنما هو صراع بين أبناء الوطن الواحد، المنقسمين ثقافيا إلى مُفَرِنِسٍ ومُعَرَّبٍ، مثلما يحدث في الجزائر، وأثبتت الدراسات في ميدان الثقافة  مثلما جاء في كتاب  بعنوان : آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة" لأحد الكتاب المشارقة أن " الدول المستعمرة كثيرا ما تسعى لنشر ثقافتها في بعض البلاد، بغية تقوية نفوذها السياسي فيها، وقدم صاحب هذا الكتاب شواهد تاريخية عديدة، تؤكد أن  النفوذ الثقافي كثيرا ما يكون مقدمة للنفوذ السياسي، كما أن السيطرة السياسية كثير ما تسعى لترسيخ أقدامها عن طريق تقوية السيطرة الثقافية، ولهذا رأى الباحثين في المجال أن الاستقلال الثقافي أصبح ضرورة ملحة من اجل التخلص من السيطرة الأجنبية، والسؤال يطرح نفسه بنفسه كيف يتخلص المجتمع  الجزائري على سبيل المثال من السيطرة الأجنبية.

الصراع ما زال قائما إلى اليوم بين جماعة المتفرنسين والمعربين،  تحاول الجماعة الأولى أن تلبس للثانية ثوب "الرجعية"، وتنعتها بالتزمت، والتعصب والتخلف، وتحاول دوما إلغائها من الوجود، وظل المثقف المُعَرّبُ في الصف الأخير،  يحلم ويرسم أحلامه على الورق، في الكتب والصحف والمجلات، ويهربها نحو المواقع الإلكترونية، واليوم نجده يعلن ثورته عبر "الفايسبوك"، ووجد في هدا العالم الافتراضي المتنفس الكبير، ليعبر عن نجاحه كما يعبر عن فشله فيه أو يفعل ما لا يقدر على فعله أمام المسؤول، يركد وجوده ويقول للآخر : " أنا هنا"  لو باسم مستعار أو صورة رمزية.

المثقف والظاهرة الإسلامية وجها لوجه

محاربة الدين والرافضين لتطبيق تعالمه، حتى لا نقول "اللادينيين" ومحاربة المتلاعبين به،  من تجار السياسة، جعلت المثقف في موقف  في مفترق الطرق، ووجد نفسه في موقف  حرج جدا،  ووقع ما يسمى بالانشقاق الذاتي للمثقف، لأنه أصبح يعيش في تموجات ضبابية، أمام التعدد الإيديولوجي، وظهور دعوات جديدة لتكوين الدولة الإسلامية وطغيان الشعور القبلي والطائفي على الشعور الوطني، هذا الالتباس حسب المحللين قام من الصورة التي رسمها إيديولوجيو التاريخ الإسلامي للتاريخ العربي، حيث اعتبرت الإيديولوجيا الإسلامية (الجماعات السلفية والوهابية على الخصوص) أن التاريخ بدأ معها وأن كل ما سبقه جاهلية، مثلما جاء في كتاب الدكتور سلامة كيلة بعنوان:  العرب ومسألة الأمة، وكأنها تدعو إلى  أسلوب العيش البطريكي القديم، وهي النظرة السائدة الآن، وهذه النظرة أدت إلى تجاوز أن هناك تاريخا واحدا وتطورا تاريخيا واحدا يخصان مجموعة من البشر، فالصراعات الطائفية ودعوات الوهابية لتأسيس رؤية سلفية،  فسخت العلاقة بين المثقف ومجتمعه.

في كل هذا وذاك لا يمكن بناء الديمقراطية في مجتمع جاهل متخلف، أو مجتمع تسيره المادة وتسيطر عليه الأنظمة الفاسدة وتتحكم في قراراته ومصيره، مجتمع مثقفيه لا يعرفون من الثقافة سوى كتابة بعض الأشعار والقصص الصغيرة أو حتى الروايات، يتفلسفون في الصغيرة والكبيرة إلى درجة الفتوى، وهم يفتقرون إلى فكر يحرر مجتمعهم من نير المادة والعبودية، مثقفين هم مجرد ديكور يجلسون  وراء مكاتبهم ويتركون كاتبتهم تدير وتسير، تأمر وتنهي وتقرر، وقد تجدهم لا يفقهون شيئا من أمور التسيير سوى حمل القلم للتوقيع على وثائق يجهلون محتواها، فلا هم أفادوا المجتمع بأفكارهم وتجاربهم والمجتمع، ولا استفادوا هم من تجارب " الآخر" الذين يقتبسون إنجازاته ويمارسونها في حياتهم اليومية، وهم يملكون ما لا يملكه هذا "الآخر"، فمسخ نفسه وأصبح يعيش "الازدواجية" لأنه فقد كل المفاهيم والأفكار التي تعتبر نتاج الواقع، فبدلا من أن يبدع قلد وأغرق نفسه ومن حوله في التقليد.

***

علجية عيش

اعتبر 15 تشرين الثَّاني (نوفمبر) يوماً سنوياً لبغداد، لاسترجاع إرثها الحضاري وتاريخها الغابر، وسط حاضر لا تسر به أفقر العواصم، فكيف ببغداد، لكثرة ما مرَّ عليها من أوجاع، وقد قيل عنها، في ما مضى، مِن قِبل ابنها المؤرخ أحمد بن إسحاق بن واضح اليعقوبي (القرن الثالث الهجري)، وهو يتحدث عن العراق في كتابه (البلدان): (وإنما ابتدأتُ بالعِراق، لأنَّها وسط الدُّنيا، وسُرة الأرض، وذكرتُ بغداد لأنَّها وسط العِراق، والمدينة العظمى، ليس لها نظيرٌ في مشارق الأرض ومغاربها، سِعةً وكبراً، وعمارةً، وكثرة مياه، وصِحة هواء)(1). غير أنَّ تأسيسها كان في ربيع الأول 145هـ، المصادف في الميلادي حزيران (يونيو) 762 ميلاديَّة، فلماذا يكون يومها تشرين الثّاني، إلا إذا أرادوا تاريخ مناسبة لها غير تاريخ تأسيسها.

نقل أبو حيان التَّوحيديّ (ت: 414هـ)- عن قدماء- كلاماً مختصراً عن اختيار تأسيس المُدن: «إنَّ المُدُن تُبنى على الماء والمرعَى والمُحتَطَبِ والحَصانة»(2)، وبغداد جمعت الثّلاثة، فإذا كان الماء كان المرعى والمُحتطب، والحَصانة، أنَّها صرة العِراق، على دجلة، والفرات ليس بعيداً عنها، ولأنَّها كانت حصينة، قبل تمصيرها، اُتخذت مقراً لدير مِن أديرة النَّصارى (النّساطرة)، ومِن العادة يستقرون في الأمكنة الآمنة.

يذكر محمّد بن جرير الطّبري (ت: 310هـ)، وهو يؤرخ لبناء بغداد: أنَّ أبا جعفر المنصور (حكم: 136 - 158هـ) عندما نزلها ليختارها عاصمة له، (أحضر البطريق، صاحب رحا البطريق، وصاحب بغداد، وصاحب المخرم، وصاحب الدَّير، المعروف بستان القِس، وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم)(3)، وكانوا في قرى منتشرة حول بغداد.

فبعد التأكد مِن مناخها في الحرّ والبرد، وخلوها مِن الهوام التي تفسد الطّعام والأبدان، وضمان وصول الميرة لها، عبر دجلة والفرات، القريب منها، وقع الخيار عليها، فبدأ البناء في الجانب الغربيّ، المعروف بالكرخ، وقد اشترى الأرض، التي أقام عليها مدينته المُدوَّرة مِن صاحبها الرّاهب، ولما أراد البناء، ويرى تصميمها، على أرض الواقع، فأمر بتخطيط الأساسات، ونثر عليها مِن حبوب القطن المرشوشة بالنّفط(4)، فاُشعلت النّيران بها (فنظر إليها والنَّار تشتعل، ففهمها، وعرف رسمها، وأمر أن يُحفر أساس ذلك على الرَّسم، ثم ابتدئ في عملها)(5).

كان ذلك السنّة (144هـ)، لكنْ والمنصور كان مشغولاً بالإشراف على بناء بغداد، لتكون عاصمة لدولته، ثار عليه قريبه محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (المعروف بالنّفس الزَّكيَّة) بالمدينة، وكانت واقعةً خطيرةً، كادت تعصف بالخلافة العباسية، الحديثة آنذاك، ثم ثار أخوه إبراهيم بعده بالبصرة، فترك المنصور البناء، ولم ينجز منه شيئاً، سوى حفر الأساسات للمدينة المُدوَّرة، تركها أبو جعفر ليتابع المعارك الحامية الوطيس بالمدينة والبصرة، حتى انتهت بقتل الثّائرين (145هـ)، فعاد أدراجه إلى بغداد لإكمال البناء.

كانت الخلافة العباسية، بشخص أبي جعفر المنصور، مهددة مِن داخل الهاشمية التي اتخذها أبو العباس السّفاح (ت: 136هـ) عاصمة، الواقعة بظهر الكوفة، ثم انتقل عنها إلى الأنبار ليسمي مقامه الجديد الهاشميَّة أيضاً، فمات هناك، وحَكم منها المنصور، وكان سبب الانتقال من هاشميَّة الكوفة إلى هاشميَّة الأنبار ثم إلى بغداد(6)، شغب (الرَّاونديَّة)(7)، واسم الهاشميَّة نسبة إلى بني هاشم، وليس مكاناً قديماً بهذا الاسم. بمعنى كان الدَّافع للانتقال عن الكوفة وهاشميتها والأنبار سياسياً، ليأمن المنصور على نفسه وجنده(8).1035 baghdad

بغدادو البابلية

كانت بغداد قبل بنائها (مزرعةً للبغداديين، يُقال لها المباركة)(9)، وعن بابلية بغداد، يقول البلدانيّ القديم أحمد بن عمر المعروف بابن رسته (المتوفى بعد 300 هـ)، وهو بلداني فارسي: (هذه الكورة مدينة السَّلام، وهي المسماة بغداد وبغدادذ، اسم موضع، كانت في تلك البقعة، مِن قَبلُ زعموا أنه كان موضوعاً للأوثان والأصنام في الدهر القديم، وهي أرض بابل، وبابل أقدم هذه المواضع)(10). غير أنّ ناشري الكتاب يضعون حاشية، لم يقلها ابن رسته، في فارسيَّة اسم بغداد.

كذلك يفيدنا المؤرخ علي ظريف الأعظميّ (1882 - 1958) في اسم بغداد البابليّ، بعد الاكتشافات في عالم الآثار، الذي كان مخفياً على القدماء، لذا تناقلوا رواية أحد المتعصبين الفرس، الذي سنأتي على بيانه: (أثبتت الكتب التاريخية الصحيحة، المستندة إلى الآثار المكتشفة حديثاً في بغداد وأطرافها، أن هذه المدينة، مِن المدن الكلدانيَّة القديمة العهد، وكانت عامرة قبل الميلاد بنحو ألفي سنة، وقد أيدت ذلك الكتابة المنقوشة، على كثير مِن الآجر القديم، الذي وجده الباحثون فيها، وقد كُتب على بعضه بالحرف المسماريّ اسمها (بل دودو)، وعلى بعضه بغدادو، أو بغدانو، ومعنى (بل دودو) مدينة الإله في لغة السّريانيين الكلدان، والظاهر أنَّ هذه الكلمة صُحفت على توالي الأعوام والقرون إلى بغداد، وقد أخطأ مَن زعم أنَّ لفظة بغداد فارسية، وأن أصلها (باغ داد)، بمعنى عطية الصنم)(11). جاء ذلك في كتاب الأعظمي (مختصر تاريخ بغداد)، ونوضح هنا: لا علاقة له بمختصرات (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي (ت: 463هـ) المعروفة.

يؤيد ذلك بحثٌ علميَّ أنجزه الباحثان العراقيان المعروفان، كوركيس عواد (ت: 1992) وبشير فرنسيس (ت: 1994)، جاء في بحثهما: (ظهرت الدراسات الأثرية، أن مثل هذا الاسم قد ورد في الكتابات المسمارية القديمة، التي ترجع إلى العصرين البابلي والآشوري بصورة بغدادو، وبغدادى، ويكدادو، وتُقرأ خدادو أيضاً، يُرقى زمن هذه الكتابات إلى أوائل الألف الثَّاني قبل الميلاد، ويتبين منها أيضاً أنَّ مدينة قُرب بغداد الحالية، وإقليماً أيضاً، كانا يعرفان بمثل هذا الاسم في العصر البابليّ)(12). كما (أرجع البعض اسم بغداد إلى أصل آرامي، مركب مِن بيت وكداد، ومعنى ذلك: بيت، أو دار، أو مدينة الضَّان، أو الغنم، وأيدوا رأيهم بإيراد أسماء آراميَّة لمدن عراقيَّة، مبدوءة بالباء على شاكلتها)(13).

كذلك ذكر الباحثان ما تردد عند بعض المؤلفين (أنَّ أصل اسم بغداد فارسيّ، وهو ما ذهب إليه بلدانيو العرب أيضاً، فقالوا: إن اسمها مركب مِن كلمتين فارسيتين: بغد -داد، ومعنى ذلك عطية الإله)(14).

ما يخص اسم بغداد الفارسي المزعوم، عند القدماء، كتب الخطيب البغدادي (ت: 463هـ): (إنما سميت بغداد بالفرس لأنه أهدي لكسرى خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لهم صنم يعبدونه بالمشرق يقال له: البغ. فقال بغ داد. يقول: أعطاني الصَّنم. والفقهاء يكرهون هذا الاسم مِن أجل هذا، وسماها أبو جعفر مدينة السلام، لأنَّ دجلة كان يقال لها: وادي السلام)(15).

كذلك جاء عند ياقوت الحموي (ت: 626هـ): (قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ مِن عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصَّنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان، وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد، فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأنَّ بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل، من الفرس اسمه داذويه)(16). مِن المعلوم، عندما قال الحموي (بعض الأعاجم) يقصد الأصفهانيّ، الذي سنأتي إلى ذِكره.

لكنَّ مِن أين دخل هذا (التفريس) على اسم بغداد، وقد أصبحت عاصمة الدُّنيا؟ ولم يقل به ابن واضح اليعقوبيّ (ت: 292هـ) في كتابه (البلدان)، ولم يقله محمَّد بن جرير الطّبريّ (ت: 310هـ) في تاريخه، ولا غيرهما مِن بلدانيين ومؤرخين، قبل القرن الرابع الهجري. يبدو أنّه نشأ في الفترة البويهيّة، وحكم أسرة آل بويه لبغداد كسلاطين مع وجود الخلفاء العباسيين، وهم قوم مِن الفرس الدّيلم. قال به اثنان مِن الكُتاب الفُرس، أحمد بن محمَّد المعروف بابن الفقيه الهمذاني (ت: 365هـ): (سميت بغداد لأنَّ كسرى أهدي له خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لقوم ذلك الخصي صنم بالمشرق، يقال له البغ. فقال الخصي: بغداد. يعني ذلك الصَّنم أعطاه ذلك الموضع)(17).

أشار لي الباحث الأهوازي الصَّديق عبدالنَّبي القيم إلى أن مؤلفاً فارسيَّاً آخر معروف بالتّعصب، كان وراء بث ادعاءات مِن هذا القبيل، وهو حمزة بن الحسن الأصفهاني (ت: 360هـ)، لم يلحقه اللَّقب مِن مرور بأصفهان، أو تعليم، إنَّما مدينته أصفهان، وله كتاب (تاريخ أصفهان)، وكتاب (أصبهان وأخبارها)، وكتاب (أعياد بغداد الفرس)، وقد ذكره ياقوت الحموي بالقول: (وكان مع ذلك رفيعاً ناقص العقل، غير ثبت، ولم يُعرف في عصره أعرف منه بالفارسيَّة، ولا أحسن تصرفاً فيها منه)(18)، وهو الذي نقل عنه الحموي، وأشار إليه بالحمزة بن الحسن، وهو الأصفهانيّ نفسه.

قال أبو الرّيحان البيروني (ت: 440هـ) في عصبية حمزة بن الحسن الأصفهاني الفارسية، وهو يتحدث عن التقويم وأسماء الشُّهور، وادعاء المؤرخين بالمعرفة بها، وهم ليسوا كذلك: (كلٌّ يعمل على شاكلته، وكلّ حزب بما لديهم فرحون.. ولمثل هذا تَعرَّض حمزة بن الحسن الأصفهانيّ، في رسالته عن النَّيـــروز، حيث تعصـــب للفـــرس، في عملهـــــم في سنـــة الشَّمــــس..) (19). مَن يقرأ كتب البيروني، سيجده ضد التعصب الشعوبي أو الديني تماماً، فقد شكل حالة مبكرة مِن التَّسامح، فليس عليه غريبة هذه الملاحظة عن أمثال الأصفهاني.

أما عن ترهات هذه الرواية، فليس من عاقل يعقلها، بأنَّ الصين أو الهند أهدت لكسرى خصياً، ليعطيه بغداد بقراها وبساتينها هديةً، وأنَّ اسمه (البغ) وداد أعطى، فيكون المعنى (الصنم أعطاني)، غير أن فُرس اليوم أخذوا يتشبثون بهذه النسبة، ليس جهلاً إنما قصداً، كي يظهروا العراق بستاناً فارسياً، وهم من أبناء الثورة ومن خصومها، لكنهم متفقون في ترهات حمزة الأصفهاني(20).

بناء بغداد

يعد الخطيب البغدادي أحد أوسع الذين كتبوا عن تاريخ بغداد، أو تاريخ مدينة السَّلام، ويمكن أن يكون ابن طيفور (ت: 280هـ)، في كتابه (بغداد) هو الأوسع، لكن لم يصلنا منه إلا جزء واحد، تضمن أيام الخليفة عبدالله المأمون (ت: 218هـ). قال الخطيب: (بلغني أن المنصور لما عزم على بنائها، أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، فمثل لهم صفتها التي في نفسه، ثم أحضر الفعلة والصناع من النَّجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، وأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إلى كلِّ بلد بحمل من فيه ممن يفهم شيئاً من أمر البناء، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل المهن والصناعات ألوف كثيرة، ثم اختطها وجعلها مدورة. ويقال: لا يعرف في أقطار الدنيا كلها مدينة مُدوَّرة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم)(21).

ما جاء به الخطيب البغدادي، قد ذكره اليعقوبي، وهو قد سبقه بنحو قرنين من الزمن، ما قاله عن جلب أبي جعفر المنصور لأهل المعرفة والفنون الهندسية، قال: (وجه في إحضار المهندسين، وأهل المعرفة بالبناء، والعلم بالذَّرع (مسح الأرض) والمساحة، وقسمة الأرضين، حتى اختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر المنصور، وأحضر البنائين والفَعلة، والصُّناع، من النَّجارين والحدادين والحفارين، فلما اجتمعوا وتكاملوا، أجرى عليهم الأرزاق، وأقام لهم الأجرة، وكتب إلى كلِّ بلدٍ في حملِ مَن فيه، ممَن يفهم شيئاً مِن البناء، فحضره مائة ألف مِن أصناف المهن، والصّناعات، خبرَ بهذا جماعة مِن المشايخ، أنَّ أبا جعفر المنصور لم يبندِ البناء حتَّى تكامل له الفعَلة، وأهل المهن مائة ألف، ثم اختطها في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، وجعلها مُدوَّرة، ولا تُعرف في جميع أقطار الدُّنيا مدينة مُدوَّرة غيرها)(22).

حفرت تزامناً مع البناء الآبار وشقت القنوات، لتدخل المدينة للشرب، ولصناعة اللّبن (الطَّابوق غير المفخور أو المشوي)، وتحضير الطين كمادة في البناء، ومِن اللِبن كان البن (العظام) المربعات، بقياس ذراع في ذراع، ويصل وزن الواحدة منها مئتي رطل، واللبنات الأنصاف، طولها نصف ذراع ووزنها مئة رطل(23).

كان المهندسون، الذين كلفوا بتصميم وبناء المدينة المدورة أربعة، ذكرهم ابن واضح اليعقوبي كالآتي: (وكان الذين هندسوها: عبدالله بن مُحَّرز، والحجَّاج بن يوسف، وعُمران بن الوضاح، وشهاب بن كثير)(24). قسمت بغداد إلى أربعة أرباع، وكلُّ مهندس اختص بربع. كان معهم عدد مِن المنجمين، ويمكن إضافة مهندس خامس إلى الأربعة، الذي اختص بعمارة المسجد، وهو الحجَّاج بن أرطأة، فـ(هو الذي خطَّ مسجد جامعها بأمر أبي جعفر)(25). جعل المؤرخ المصريّ أحمد تيمور (ت: 1930) هؤلاء مهندسي بغداد الأربعة ضمن كتابه (أعلام المهندسين في الإسلام) (طبع 1957).

قد يثار السؤال أو الاستفسار: لماذا أمر المنصور، أو أشير عليه، أن تكون مدينته مُدوَّرة الشّكل، والقصور عادة تكون مربعة، فيأتي الجواب مِن الخطيب البغدادي: (أنَّ أبا جعفر بنى المدينة مُدوَّرة، لأنَّ المُدوَّرة لها معان سوى المربعة، وذلك أنَّ المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض، والمُدوَّر من حيث قسم كان مستوياً، لا يزيد هذا على هذا ولا هذا على هذا)(26). هذا، ولكم النَّظر في ما عُرف بالطَّاولة المستديرة.

أمر أبو جعفر المنصور، مِن الكوفة، الحجاج بن أرطأة لخط المسجد الجامع، مثلما تقدم ذِكره، وصاحب المذهب أبا حنيفة النُّعمان (ت: 150هـ)، فعمل الأخير على عدِّ اللِّبن للبناء، وقصة ذلك (أنَّ المنصور أراد أبا حنيفة النُّعمان بن ثابت على القضاء، فامتنع مِن ذلك، فحلف المنصور أن يتولّى له، وحلف أبو حنيفة ألاَّ يفعل، فولاه القيام ببناء المدينة وضرب اللِّبن وعدَّه، وأخذ الرّجال بالعمل. قال: وإنَّما عمل المنصور ذلك ليخرج مِن يمينه، قال: وكان أبو حنيفة المتولّي لذلك، حتَّى فرغ مِن استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة)(27). كان أبو حنيفة يعد اللّبن بالقصب (على رجلٍ كان لبَّنه)، فكان أول مَن عدَّ بالقصب(28).

تكاليف البناء

تذكر السجلات التي كشف عنها عيسى بن أبي جعفر المنصور، أنَّ تكاليف بناء بغداد، وجامعها، وقصر الذَّهب، وتشييد الأسواق، والخنادق، والقباب، والأبواب (أربعة آلاف ألف وثمانمئة وثلاثة وثلاثين درهماً)، أي مئة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرين ألف فلس، بلغة الأرقام اليوم تبلغ أربعة ملايين درهم، أو مئة مليون فلس، وكانت أجرة البنَّاء الواحد في اليوم قيراط من الفضة(29).

واجه أبو جعفر المنصور نقصاً في الخشب والسّاج المجلوب مِن الهند، فبعد أن هُيئت مواد البناء ومنها الخشب والسَّاج، نشبت الثورة ضده بالمدينة والبصرة، فترك البناء لمواجهة الثائرين، مثلما تقدم، وقد تضاربت الأخبار، فشاع خبر عن هزيمة الجيش العباسي، فقام مولى المنصور، الذي أوكله على بغداد بحرق الخشب والسّاج، كي لا يكون تحت يدي الثّائرين، وبهذا كان المنصور حريصاً على المال، حتَّى اُتهم بالبخل، وأخذ يُلقب بالدَّوانيقي، والدَّانق يمثل أصغر عملة آنذاك، قد يُقابله بلهجة العراقيين اليوم، عندما يصفون بخيلاً يقولون: (أبو فليس).

كان المنصور دقيقاً في الحسابات ومواجهة الفساد، الذي يحصل عادة في الصَّرف على مشروع مثل هذا، قال أحد الموكلين بالبناء: (لما فرغتُ مِن بناء ذلك الرُّبع، رفعت إليه (المنصور) جماعة النّفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي عليَّ خمسة عشر درهماً، فحبسني بها، في حبس الشَّرقيَّة أياماً، حتَّى أدَّيتها)(30).

خيال مبكر بالرَّادار

ذكر الخطيب البغدادي عن أحدهم، وهو يتحدث عن القبة الخضراء التي شيدت لأبي جعفر المنصور بمدينته المُدوَّرة: (قال: سمعتُ جماعة من شيوخنا يذكرون: أنَّ القبة الخضراء كان على رأسها صنم، على صورة فارس في يده رمح، فكان السُّلطان إذا رأى أنَّ ذلك الصَّنم قد استقبل بعض الجهات، ومدَّ الرّمح نحوها، علم أنَّ بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار، بأن خارجياً (متمرداً) قد نجم من تلك الجهة، أو كما قال)(31).

أما عن مصير القبة الخضراء، فيُفيدنا صاحب (تاريخ مدينة السَّلام) بالآتي: (أنبأنا إبراهيم بن مخلد القاضي، قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قال: سقط رأس القبة الخضراء، خضراء أبي جعفر المنصور، التي في قصره بمدينته يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمئة، وكان ليلتئذ مطرٌ عظيمٌ، ورعد هائل، وبرق شديد، وكانت هذه القبة تاج بغداد، وعلم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى هذا الوقت، فكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة)(32).

خلاصة القول: دخلت في اختيار بغداد عاصمة حكايات وأوهام، مِن قِبل القصاصين، كاسم أبي جعفر المنصور (مقلاص)، وأنَّ الرُّهبان عندهم في كتبهم الدّينيَّة يبنيها شخص اسمه مقلاص، أو الدّوانيقي، لكن ما أدخله حمزة بن الحسن الأصفهاني على اسمها، وجعله صنماً أو بستاناً فارسيين، كان وهماً مقصوداً، كي تكون هذه المدينة داراً من حقّ الديلم الفرس، وهم البويهيون، واليوم يتجدد الوهم عليها، بسطوة جديدة، والتوطئة تكون باستبدال (البغ وداد) الفارسية ببغدادو البابلية.

***

د. رشيد الخيون

..........................

1 - اليعقوبي، كتاب البلدان (مع كتاب الأعلاق النَّفيسة لابن رسته)، ليدن المحروسة: مطبعة بريل 1892، ص 233.

2 - التَّوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزّين. بيروت: دار الحياة للطباعة والنَّشر 2 ص 27.

3 - الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك، تحقيق: عبدأ علي مهنا، بيروت: مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات 6 ص 540 - 541.

4 - النّفط: كان موجوداً ومستخدماً، كمادة محتقرة، آنذاك، يخرج مِن الأرض مِن تلقاء نفسه، ويجمع ويستخدم في الإضاءة والحروب، فهناك فرقة في الجيوش تسمى (النفاطين)، مهمتهم رمي العدو بمشاعل تشتعل بالنفط، وهناك عدد من المعدومين أحرقوا بالنّفط (انظر مقالنا: قانون نفط العراق يعقر الناقة، جريدة الاتحاد 24/4/2018).

5 - الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك 6 ص 542.

6 - مصطفى جواد، هاشمية الأنبار وهاشمية الكوفة، مجلة سومر (مجلة تبحث في آثار العِراق القديمة، صدرت ببغداد)، العدد الثامن، الجزء الثّاني 1952، ص 158.

7 - الرّاونديَّة: فرقة ناصرت العباسيين، وساهمت في ثورتهم، أتباع رجل اسمه عبدالله الرّاونديّ، ثأروا لأبي مسلم الخراساني، فخشي من بأسهم (مشكور، موسوعة الفرق الإسلاميَّة، ترجمة: علي هاشم، بيروت: مجمع البحوث الإسلاميَّة 1995، ص 252).

8 - الطّبري 6 ص 539.

9 - المصدر نفسه 6 ص 543.

10 - ابن رسته، الأعلاق النَّفيسة ويليه كتاب البلدان لليعقوبي، مدينة ليدن المحروسة: مطبعة بريل 1892، ص 108.

11 - الأعظميّ، مختصر تاريخ بغداد، بغداد: المكتبة العربية، طُبع على نفقة نُعمان الأعظميّ الكُتبي 1926 ص 3.

12 - أًصول أسماء الأمكنة العِراقيَّة، مجلة سومر (مجلة تبحث في آثار العِراق القديَّمة تصدر ببغداد)، العدد الثَّامن 1952، الجزء الأول، ص 256 - 257.

13 - المرجع نفسه.

14 - المرجع نفسه.

15 - البغداديّ، تاريخ مدينة السَّلام، تحقيق: بشار عواد معروف، بيروت: دار الغرب الإسلاميّ 2002 الجزء 1 ص 364.

16 - الحمويّ، معجم البلدان، بيروت: دار صادر 1995 الجزء 1 ص 456.

17 - ابن الفقيه، كتاب البلدان، بيروت: عالم الكُتب 1996 ص 278.

18 - الحموي، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء)، تحقيق: إحسان عباس، تونس: دار الغرب الإسلاميّ 3 ص 1220.

19 - البيرونيّ، الآثار الباقيَّة عن القرون الخاليَّة، لايبزك 1923 ص 52.

20 - انظر مثلاً مقال الكاتب الفارسي أمير طاهريّ (العراق وطهران.. أوهام)، الشَّرق الأوسط، المؤرخ 9/6/2023، وردنا عليه على صفحات الجريدة نفسها في المؤرخ 13/6/2023.

21 - البغداديّ 1 ص 375.

22 - اليعقوبيّ، ص 238.

23 - المصدر نفسه.

24 - اليعقوبي، ص 241.

25 - الطَّبريّ 6 ص 573.

26 - البغداديّ 1 ص 382.

27 - الطّبري 6 ص 543.

28 - المصدر نفسه.

29 - المصدر نفسه 6 ص 576.

30 - المصدر نفسه 6 ص 573.

31 - البغدادي 1 ص 383.

32 - المصدر نفسه.

ذو صلة

 

يعدّ النَّاس مَن يخرج على ما يعتقدون خائناً، حتَّى إذا عرض نفسه للهلاك، أكثر مِن مرة في سبيل انتمائه السَّابق، فتجد أحد المتقدمين في حزبه، بمفاهيم اليوم، قد بذل الغالي والرَّخيص، وتشرد أهله، واِفتقر إلى حد الإملاق والجوع، ما أن ظهر منه ما يخالف ولاءه الأول، يصبح في طرفة عين خائناً عميلاً جاحداً، لا يُذكر له شيء مِن ذلك الولاء المخلص، والتّضحية الصَّادقة، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى، مِن الأحزاب والأنظمة، في الأمس واليوم، بل وأهل الأديان والمذاهب مارسوها كافة، عند الميل إلى موقف آخر.

جُمعت في شبث بن ربعي التِّميمي الرِّياحيّ (تـ: 70 هـ)، تقلبات المواقف السّياسية والعقديَّة، وهو شخصية معروفة يكاد لا يخلو كتابٌ مِن أمهات التّاريخ مِن ذكرٍ له. ولد قبل الإسلام، ثم وأدركه، وأحسن إسلامه، عاش إلى منتصف الدّولة الأموية، فقد أمتد به العمر إلى التسعين عاماً، فقد عدَّه أبو حاتم السِّجستانيّ (تـ: 250 هـ) في كتابه «الوصايا»، ضمن القسم الملحق بكتابه «المعمرون».

كما ذُكر أنه «مِن أشراف بني تميم، وكان جاهليَّاً إسلاميَّاً فارساً، لا يدفع عن حسب وشرف، بطلاً شجاعاً» (ابن أعثم، كتاب الفتوح)، لذا كان قائداً في كلِّ جيشٍ يُقاتل في صفوقه.

دخل الإسلام ثم ارتدَّ مع مرتدي اليَمامة، وصار مؤذناً للمتنبئة سَجِاح التَّميميَّة، ثم جدد إِسلامه في خلافة عمر بن الخطاب (اغتيل: 23 هـ)، فشارك قائداً لقومه في حرب القادسية بالعراق (17هـ)، أُتهم بالتحريض ضد عثمان بن عفان (قُتل: 35 هـ)، وظل محايداً في معركة الجمل بالبصرة (36 هـ)، اِنحاز بمعركة صفين (37 هـ) لعليّ بن أبي طالب (اغتيل: 40 هـ)، وكان أحد القادة. ثم أرسله عليّ في الوفد المفاوض للصلح، لكنه اِنشقَّ مع رافضي «التّحكيم»، فعُدَّ أول الخوارج، وذُكر عنه: «إنه أول مَن حرر الحوريّة(اسم الخوارج الأول)» (آل نعمان، الجامع لكتب الضَّعفاء والمتروكين)، بعدها عاد تائباً إلى صف عليّ، فقاتل الخوارج معه، وبالجملة «كان شبث علويَّاً» (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف).

استمر ضد الأمويين، وهو أحد الذين كتبوا إلى الحُسين بن عليّ (قُتل: 61 هـ)، بالقدوم إلى العراق لتسلم الخلافة، لكنه اِنقَلب ضده منحازاً إلى الأمويين، فناده الحُسين: «يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثِّمار وأَخضرّ الجناب وطمت الجمام» (البَلاذري). غير أنه اِعترض على مَن سعى بحرق مخيم الحُسين: «وقال شبث بن ربعي: يا سبحان الله، ما رأيت موقفاً أسوأ من موقفك، ولا قولاً أقبح من قولك، فاستحيا شمر (ابن ذي الجوشن) منه» (البلاذري). بعدها حارب المختار بن عبيد الله الثَّقفيّ (قُتل: 67 هـ)، محارباً بصف الزُّبيريين. أخيراً اعتزل بسبب الكُبر.

لم نأتِ بقصة شبث الرّياح، لكتابة ترجمة له، فاسمه مشهور في أمهات التّاريخ، مثلما تقدمت الإشارة، بقدر ما وجدناه نموذجاً، قل مثله، أن يتقلب هذه التقلبات السّياسية، وإن شئتم سموها الحزّبيّة، فماذا كان يبتغي، وهو سيد قومه، وفي كلّ محلٍ يحل به، أو جهةٍ يميل إليها، لا يتقدم عليه أحد؟ أقول: ماذا لو ثبت الرِّياحيّ في موقف من المواقفٍ، كيف يؤرخ له؟ مَن يقرأ التّاريخ، بعين محايدة، لا يتعصب لِما مضى وغبر، فكان شبث مسلماً شارك في الفتوحات قائداً، وصار علوياً قائداً، ثم خارجياً، وعاد علويّاً، وفي كل هذه المواقف استمر مخلصاً، مكلفاً بمهمات القيادة. لم يكن الرّياحي منفرداً في سلوكه، فالمئات في يوم عُدّوا مقدسين، وفي يوم آخر نعتوا مدنسين.

هذا، وللأمير الشّاعر عبد الله بن المعُتز (قُتل: 296 هـ) ما يفيد: «فمَن قال خيراً قيل: إنَّك صادقٌ/ ومِن قال شراً قيل: إنَّك كذوبُ» (الدِّيوان)، كلّ رأى تقلب الرّياحيّ بعينه.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يعيد اِصطلاح «الشَّعبوبيَّة» اليوم إلى الأذهان الحركة «الشُّعوبيَّة» في الأمس البعيد، مع أنَّ كلاً له زمنه ودلالته، كلاهما منحوتان مِن «الشَّعب» و«الشُّعوب». نَعتَ البعضُ بالشَّعبويَّة الرئيسَ الأميركيّ دونالد ترامب، في حملته الانتخابيّة الأولى (2016)، هجاءً لا مديحاً، وتزامناً نُعت بها المصوتون على «بريكست» (2016)- خروج بريطانيا مِن الاتحاد الأوربي- وأخذ اللَّفظ يُطلق على كلّ مَن يُظهر في خطابه تواضعاً ومزاجاً شعبياً، بحكم معاداة «النّخبة».

يأتي، بعد وحدة اللفظ، بين الشّعوبيّة قديماً، في التاريخ الإسلاميّ، والشَّعبويَّة حديثاً، في التّاريخ الأوروبيّ، الاستخفاف بالنّخبة. تبنى الشُّعوبيّةَ شعراءٌ ومثقفون، مِن غير العرب ضد العرب، يوم مثّل العرب النُّخبة، في السّياسة والأدب. كذلك تبرز «الشَّعبويَّة» لتحطيم النُّخب، أو الخطاب النّخبوي، وعمرها يرقى إلى القرنين مِن الزَّمان، وقد حار المنظِّرون في تعريفها، لذا لم يجعلوا لها مكاناً بين المصطلحات السّياسيَّة.

أمَّا الشّعوبيّة فحُسم أمرها حال ظهورها، ارتبطت بالحط مِن العرب، فالشُّعوبيون «يصغرون شأن العرب» (الزَّمخشريّ، أساس اللُّغة)، وعندها قيل: «لا تقل بقول الشّعوبيَّة، أراد الموالي، الذين لا يحبون العرب، ولا يقرون بفضلهم، فإنَّ قولهم بدعة وخلاف» (الكرميّ، مسبوك الذَّهب).

لهذا، عندما واجه أحدُهم النّسابةَ هشام الكلبي (ت: 204)، بسؤال: «لِما سمت العرب أبناءها بكلب وأوس وأسد وما شاكلها، وسمت عبيدها بيسر وسعد ويُمن؟ قال (ابن الكلبيّ) وأحسن: لأنها سمَّت أبناءَها لأعدائها، وسمّت عبيدها لأنفسها» (الثَّعالبي، فقه اللغة).

كذلك واجه الجاحظ (ت: 255ه) الشُّعوبيين، مع أنه كان عربياً بالموالاة لقبيلة كنانة، وليس كنانيَّ الأصل، وذلك عندما أكثر الشُّعوبيون مِن ثلب العرب: «إنك متى أخذت بيد الشّعوبي، فأدخلته بلاد الأعراب الخُلُّص، ومعدن الفصاحة التَّامة، ووقفته على شاعر مفلِق (مبدع)، أو خطيب مِصقع (فصحيح البيان)، عَلم أنَّ الذي قلت هو الحقّ، وأبصر الشَّاهد عِياناً، فهذا فرقُ ما بيننا وبينهم» (البيان والتبيين).

يطلب الجاحظ من الشُّعوبيين المغالين، النَّظر في أحوال بقية الأُمم، فسيخففوا مِن شعوبيتهم ضد العرب، قال: «لو عرفوا أخلاق أهل كلِّ مِلة، وزيّ أهل كلِّ لغةٍ وعللِهم، على اختلاف شاراتهم وآلاتهم، وشمائلهم، وهيئاتهم.. لأراحوا أنفسهم، ولخفت مؤونتهم، على ما خالطهم» (نفسه).

كانت المعركة حامية الوطيس، بين الشُّعوبيين والمعارضين لهم، لكنَّ القصة لا تخلو مِن فعل ورد فعل، فعدد مِن النَّسابين العرب أنكروا على الشُّعوب فضلهم (كان يشار لغير العرب بالشعوب وللعرب بالقبائل، عندما فسروا الآية: و(جعلناكم شعوباً وقبائلَ)، وقد ورد في الحديث: «أنَّ رجلاً أسلم مِن الشُّعوب» (ابن منظور، لسان العرب)، فالكل صاروا مِن أصول عربيّة. لذا، قال شاعر محسوب على الشُّعوبيَّة: «متى كانت الأتراك أبناء مذحجٍ/ إلا أنَّ في الدُّنيا عجيباً لمَن عَجب» (ابن الجوزي، الرّسائل). جعلوا بالمقابل علماء وفقهاء مِن أصول عربية أعاجمَ (انظر: معروف، عروبة العلماء المنسوبون إلى البلدان الأعجميَّة).

كل ما تقدم، مِن الشعوبيّة، جوهره مواجهة «النُّخبة» لصالح «الشُّعوب»، والنخبة هم العرب، وخصوصاً في العصر الأمويّ. كذلك نجد «الشعبويّة»: فكرة الشّعب مقابل النُّخبة. بدأ تداول هذا اللفظ أواخر القرن التاسع عشر، في روسيا وأميركا، وعُرف حسب قاموس «بوتي روبير» بالقول: «خطاب سياسيّ موجه إلى الطَّبقات الشَّعبيَّة، قائم على انتقاد النّظام، ومسؤوليه، والنُّخب» (تقرير مفصل لـ«فرانس 24»).

إذا كانت الشعوبيّة، أُخذت بالعنصريّة ضد العرب، والمقصود الطبقات المتنفذة آنذاك، على أنها صوت الشُّعوب (غير العرب)، وأكثريتهم مِن سُكان البلدان المفتوحة، فقد ورد في تعاريف «الشّعبويَّة» أنها «صوت الشَّعب» ضد النُّخبة الحاكمة، على أنها ارتبطت في بداية الأمر بحركة الفلاحين الروس الاشتراكيَّة. لكن يبقى كلٌّ له زمنه ووسائله، ولم يخل الاثنان بإطلاقهما، مِن الحط بالمقصودين بهما. هذا، ونختم بأجزل الشّعر وأنبله: «حببتُ الناسَ والأجناسَ: مذ شاركنا، الأحباشُ، والبربرُ، والزِنْجُ، بأحزانٍ وأعراسْ» (الجواهريّ، حببتُ الناس).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

إن التضليل الإعلامي والحرب النفسية مُصطلح يُستخدم من قِبلِ دوائر شريرة، بهدف نشر شائعاتٍ ومعلومات تُؤدّي إلى تشويه الحقائق، وبالتالي السعي لإثارة البلبلة والخوف بينَ المدنيين، من خلال كلّ الوسائل الإعلامية والصحفية، واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي، كُلّ هذه التصرفات تنتهك حقوق الإنسان، وتخترق السلامة والأمان والحالة النفسية للبشر.

كما تؤدّي إلى التوتّر وإلى الاكتئاب، والعنف بين الشعوب، وقد يكون هناك صراعاً مُسلّحاً، يُؤدّي إلى تعطيل الأعمال وخاصّة التربوية منها، وفقدان الكثير لوظائفهم، وإلى هجرة المواطنين وهروب رؤوس الأعمال، وبالتالي تدمير البنية التحتية للبلاد.

والأخطر من ذلك أن هذه الأساليب المشبوهة لا تسمح للرأي الآخر أن يُضفي شرعيته حتّى على أقذر الرذائل البشرية بما في ذلك زواج المثليين أو تجارة الأعضاء البشرية، أو الاعتداء الجنسي على الأطفال، وأمور كثيرةٌ أخرى، إنّه التخلّي بل التجرّد النهائي من الحسّ الإنساني وعن القيم والثوابت التقليدية التي تجمع الآدمية البشرية في خندقٍ واحد، وإبادة بقايا المشاعر البشرية عند الناس.

فحينما نتناول هكذا ملف، علينا أن نكون وندرك، بل أن نعترف وبجرأة بأننا نعجز عن تفسير سلوكيات المؤسسات الاعلامية وخاصّة في الأزمات والحروب، وخاصّة عندما نراها بمجملها تنطق باِسمِ السلطان، أو السلطة والقائمين عليها.

هناك ممارسات إعلامية مختلفة، نراها عادية ومتألقة في مهامها زمن السلم، ولكنها في أزمات الحروب تختلف فهي تُجيّش بشكلٍ تقليدي، متمسّكة بحرية العمل الصحفي والإعلامي الذي يخدم الدولة والمواطن.

الواقع الحالي الذي تعيشه الأمّة، ويعيشه العالم، نراه مليء بالصراعات المتعددة الجوانب، منها ما هو سياسي أو جغرافي أو مائي، أو متعلّق بأزمات التمدد الإرهابي، إضافة إلى الأزمة المالية التي تعصف في مختلف دول العالم، وكلّهم انزلقوا إلى قاع الجريمة.

التضليل الإعلامي حاولت استخدامه أمريكا في حربها على فيتنام، في الوقت الذي كانت فيه المقاومة الفيتنامية صادقة ونزيهة في بياناتها اليومية ونشاطها الفعّال في الميدان، سقطت أمريكا وتضليلها الإعلامي وحربها النفسية على الفيتناميين، وأعلنت انسحابها من فيتنام عام 1975.

كلّنا يتابع استفحال الأزمات في مختلف دول العالم، وكلّ هذه الأزمات يعتريها الشحوب والتعتيم والتضليل المُبرمج، وكلّها أزماتٌ مُفتعلة مُسبقة الصنع، وتم التحضير لها، وتنفجر فجأة وفي الوقت المناسب للدول التي خططت لها، وكُلّ ما يرمون إليه هو ثقافة تهميش الآخر، وتوسيع نطاق صراع الثقافات والحضارات، ونشر الجهل والعنصرية وهضم حقوق الشعوب المستضعفة، وكلّنا تابعنا ونتابع ما حدث ويحدث في غزّة وفلسطين المحتلة، وفي اليمن والعراق وسورية ولبنان على سبيل المثال وليس الحصر.

ويبقى على الدوام الإنسان هو الضحية، والذي يتساءل بنفس الوقت، هل حقيقة الذي يُرى ؟!، وكلّهم يُتاجرون ويدّعون تمسّكهم بمبادئ حقوق الإنسان وبالحرية والعدالة !.

لم تعد هناك أخلاق ولا موضوعية ولا مهنية لديهم، ولدى مؤسسات الإعلام التي تتجاهل في تغطية الوقائع إلاّ وفق ما يُناسبها وما يسمح به سعادة السلطان.

الحرب الإعلامية ليست بسهلة على الإطلاق، إنها تتم بضبط خطواتها ومعطياتها ووقتها، كيف لا وأننا نعيش ظاهرة إنتشار الحقد والكراهية والتضليل والفيديوهات المُفبركة، والأخبار الكاذبة وبدون أي إعتبار للمشاهد أو المُتلقي، والاستخفاف بمشاعر أبناء الشعب، وكأنهم بُلهاء كما يعتقدون.

التشويه الإعلامي المُفتعل لا حدود له، وكأن الخطوط والعناوين العريضة المُلوّنة، والصورة، هي التي تكسب الرأي العام وتُسيّره، إنّه التواطؤ غير الأخلاقي لكلِ مؤسسات الإعلام التي تُهرول وراء سلطة المال والسياسة، بعيداً كُلّ البعد عن الأخلاق والمهنية والقيم والثوابت.

أمام المطبات التي تُواجه الأُمّة، على الإعلام العربي أكثر من أي وقتٍ مضى أن يحتكم إلى صحوةِ الضمير، ويتعامل مع الواقع بكلِ حرفية وأخلاق سامية مع كُلّ الأزمات المختلفة بغضِ النظر إن كانت محلية أو إقليمية أو دولية، وأن يحتكم إلى صوت الضمير الحر، وإلى قيمنا وثوابتنا، وإلى ثقافة قبول الآخر، وثقافة الحوار، واحترام انسانية البشر، كي لا تتغلّب الطلقة على الكلمة، والقوة الغاشمة على حديث العقل والحكمة.

إذا توسّعنا أكثر نرى أن المُعادلة ما بين الإرهاب والإعلام تختزن مفهوم الحسّ الوطني وحقوق الإنسان، وإبتزاز الفصائل الإرهابية المنصّات الاعلامية بهدف تحقيق الوصول إلى منبرٍ يضمن لهم التواجد والحضور الاعلامي بشكلٍ علني، ومن ثُمّ الوصول إلى الرأي العام، ومن خلال هكذا علاقة تضيع حقوق الإنسان ومصلحة الوطن والمواطن، إنّها الإثارة والتضخيم في حيثيات الواقع من جهةٍ أخرى.

وإذا دققنا في دقائق الأمور نرى أن المهنية الاعلامية تعجز عن تفسير مسار المؤسسات الإعلامية في تغطيتها الأزمات والحروب، بحيث تصبح هكذا أجهزة إعلامية وتظهر وكأنها طرفٌ أساسي من الأزمات والحروب نفسها.

مع الأسف إن الخطاب الإعلامي أصبح يعتلي منبراً بعيداً كل البعد عن الموضوعية والمهنية والحرف النبيل والحر.

إن إختراق القيم والحرفية الإعلامية أصبح بشكلٍ جلي من السمات الأساسية لإعلام هذه الأيام، حيث يساهم وبكل اندفاع في تشويه الحقائق والتضليل، وبث الكراهية والفتنة، وثقافة الحقد بين الأمم وشعوبها.

فهل يستطيع الإعلام المُضللّ التخلي عن الزيف وثقافة الحروب والأزمات، والعودة إلى النزاهة المهنية، بهدف السلم والأمان والتقارب بين الشعوب والأديان.

وعلى المفكرين والمثقفين والكتّاب العرب أخذ دورهم الفاعل :

* في مواجهة الحرب النفسية المُضللة، ومواجهة العبث الفكري والقيمي. والعمل على دفع مسيرة المجتمع العربي كي يخطو خطواتٍ سريعة تنسجم والتطور الحضاري.

* وبذل الجهد الأكبر بهدف نشر الوعي في المجتمع العربي.

 * وتخصيص جهود فاعلة في المؤسسات التربوية والإعلامية لتعزيز قيم ومعايير وثوابت مجتمعاتنا بهدف تحصين الإنسان من تأثيرات الغزو الثقافي والإعلامي المشبوه والشرير.,

* مناشدة الحكام العرب كي يتطهّروا من ثقافة التبعية العمياء، والتركيز على البناء النفسي والثقافي والفكري لكافة أفراد مُكوّنات مجتمعاتنا.

* رفض الحرب النفسية والإعلامية المضللة التي ولجت المنطقة كسلاحٍ فعال تلجأ إليه دول عديدة، ونظم سياسية مختلفة بهدفِ التأثير على مجتمعاتنا وعلى مجتمعات أخرى مُستهدفة، بهدف زرع بذور تقبّل هذه الأفكار، وبالتالي تشكيل وتكوين شريحة من البشر تملك قناعة بها لتأمين مصالح ومكاسب تلك الدول.

لذلك علينا مفكرين وكُتّاب ومثقفين عرب، أن نأخذ دورنا الفاعل كي نُحذّر عامة الناس والرأي العام بعدم الاستهتار بالحربِ الاعلامية المضللة، وعدم تبسيطها لأنها فعلاً خطيرة، وتملك أبعاداً للمدى الطويل، والتحرر من التبعيات البغيضة، ورفض سياسات الأمر الواقع، وعدم الانجراف وراء الإعلام المُغرض والمُضلل، واحترام حرمة القضايا المصيرية، والتمسّك وبعناد بالثوابت الوطنية والقومية والفكرية.

الآن نتساءل:

هل الأمّة العربية تملك أسلحة مؤسساتها الإعلامية من أجل الدفاع عن قضايانا وقيمنا، وإيصال صوتنا إلى العالم، ومواجهة أكاذيب العدو، وحماية شباب الأمة وأجيالها من مطبات الحرب النفسية والإعلامية المُضللة والمشبوهة، وغرس روح المواطنة والتعايش، والوفاء والولاء للدولة وللأُمّة، وإزالة الخوف من العدو، وتنمية الوعي ومشاعر الحسّ الأخلاقي والإنساني في أبناء الأمّة ؟!.

نحن سنجيب بدلاً عن الأمة وعن مؤسساتها الإعلامية، ونقول:

 للأسف لا نملك سوى التبعية العمياء التي تحكمكم، فالحرب على غزّة أكّدت وكشفت وبقوة كل شيء حتّى عوراتكم.

***

د . أنور ساطع أصفري .

من المعروف ان ظاهرة الاستعمار ليست بالظاهرة الحديثة، حيث نشأت بداياتها منذ القرن الخامس عشر الميلادي على يد البرتغالين، وكانت الامبراطوريتان البرتغالية والاسبانية، اول امبراطوريتين عالميتين استعماريتين استعمرتا دول اخرى، امتدت عبر قارات، وبعد ذلك ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر انكلترا وفرنسا، وهولندا كإمبراطوريات استعمارية، اما امريكا فقد دخلت نادي دول الاستعمار في القرن العشرين.

الاستعمار كما تعرفه الوكيبيديا بانه (اخضاع جماعة من الناس لحكم اجنبي، وتسمى البلاد الواقعة تحت الاحتلال، البلاد المستعمرة). من هذا التعريف يتضح من خلاله هدف الاستعمار، وهو هدف يرمي الى اخضاع الدول المستَعمرة، وجعلها مناطق نفوذ لها، وسوقا مفتوحة لتصريف صناعتها، والاستيلاء على مواردها الطبيعية. وقد سجل التاريخ ان عام 1415م هي نقطة البداية لظاهرة الاستعمار في مدينة سبته المغربية من قِبل البرتغالين.

صحيح كان الهدف الاول للاستعمار هو الاستيلاء على ثروات الامم الاخرى، ولكن استجدت مع الزمن اهداف اخرى مضافة للهدف الاول، وهو السعي من خلال الاستعمار، تحسين مركز الدولة المُستعمرة لمركزها الدولي، من خلال الحصول على مركز تنافسي على المراكز المتقدمة على سلم القوى الدولي، ويجعلها أكثر قدرة على التحكم في القرارات الدولية، وتوجيهها لصالحها.

اصناف الاستعمار:

1- الاستعمار القديم: وهو الاستعمار العسكري المباشر، حيث تاتي الدولة المُستعمرة بجيوشها ومعداتها العسكرية، وتهاجم دولة اخرى وتحتلها بقوة السلاح، ومثال ذلك احتلال بريطانيا للعراق 1914- 1917م، واحتلال فرنسا للجزائر عام 1830م، واحتلال امريكا للعراق 2003م، حيث تقيم هذه الدول قواعد عسكرية لها في هذه الدول، لردع اي حالة ممانعة لوجودها في الدول المستَعمرة.

2- استعمار غير مباشر: ومن امثال ذلك هو استعمار امريكا للسعودية، وبريطانيا لبعض دول الخليج، واقامة استثمارات نفطية، وتجارية لصالح الدولة المُستعمرة.

3- الاستعمار الاستيطاني: وهو يتمثل باستيلاء دولة على ارض دولة، واحلال شعب غير شعبها فيه، كما هو حاصل في فلسطين.

ابتداءً من المنتصف الثاني للقرن العشرين بدا يظهر نوع من الاستعمار بمواصفات واساليب وادعاءات مختلفة، تتناسب وما حصل من تطور في العالم على المستوى التقني والثقافي، وما طرا على الشعوب لحالة من الوعي تختلف عن مستويات وعي الاجيال السابقة، وهذا ما جعل الدول الامبريالية تلبس ثوبا اخر، وتدعي بدعوى مختلفة، تمويها، واخفاءً لبشاعة وجه الاستعمار القديم التي مقتته الشعوب المستَعمرة، ونهضت لمقاومته، وناضلت من اجل التخلص منه، بسبب ما تركه من اثار مدرة، وذكريات مساوية على الشعوب المغلوبة على امرها، لذا فقد استبدلوا الاستعمار العسكري، بالاستعمار الاقتصادي، تحت يافطة الاستثمار، كمحاولة لإخفاء الوجه الكالح، والمكروه للدول المُستعمرة ، ولكن هذا النوع من الاستعمار يقتضي مقدمات له تفتح له ابواب البلد على مصراعيه، ومن هذه المقدمات هو فرض لغة، وثقافة البلد المستعمر، وجزء من هذه الثقافة، هو ثقافة الاستهلاك، وهذه الثقافة هي ايضا تتطلب مقدمات تهيا لها فعاليتها، الا وهو تغير المنظومة القيمية للمجتمع، الذي يبيح دخول سلع، وفعاليات تسلية جديدة، كانت غير محبذة، ولا مرغوبة لدى الشعوب المُستَعمرة، بالإضافة الى زرع ثقافة ما يُسمى بأسلوب الرفاهية، وهو بالحقيقة لم ينطبق الاسم على المسمى، بقدر ما يكون هو زيادة نمط الاستهلاك لهذه الشعوب بشكل مفرط، وهو افراط غير مبرر للمواد المستهلكة، وكذلك افراط في استخدام اللهو البريء والغير بريء، وهذا النوع من الثقافة الاستهلاكية يؤدي بلا شك الى اهدار الوقت، الذي يذهب لصالح اللهو، بعيدا عن الجد في مجال العمل وبناء الذات اخلاقيا ووطنيا وعلميا، وزيادة المشتريات لدى العائلة، مما يسبب ضغطا كبيرا على رب العائلة من جهة، بالإضافة الى الهاء الافراد من اداء مسؤوليات اهم، والتراخي فيها، كما تشجع على شيوع القيم البذيئة والمتميعة، مما تخلق حالة من الهشاشة في النسيج المجتمعي، بسبب بروز ونمو حالة السلوك الفردي، والتمحور حول الذات، بسبب التركيز على محاولة اشباع الرغبات الغير محدودة لدى الانسان، مما تجعله لا يفكر الا بنفسه، ولا يهمه الا ذاته. هذه الفردية المقيته من صفاتها، هو عدم الاهتمام بالشأن العام، واهمال المصلحة العامة، ورفعها من جدول اهتمام الانسان.

ان ازدياد استهلاك الفرد، يدفع باتجاه اللهث وراء جمع المال، باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تحقق ما يلبي شهوته بالاستهلاك، ويدفعه الى اتباع جميع الوسائل الممكنة بالحصول عليه، سواء كانت قانونية او غير قانونية، شريفة، او غير شريفة، مقبولة، او غير مقبولة اجتماعيا او دينيا، فاقتناء المال يكون هو الهدف الاسمى للفرد، ولأجل الوصول لهذا الهدف مستعد الفرد ان يرفع شعار (كل شيء يباع ويُشترى في روما)، اي كل شيء مباح مادام يأتي بالمال الوفير، في حين نرى ان الشعوب التي يحمل افرادها قيم رفيعة، تكون فيها القيم الوطنية والاخلاقية، هي من تتقدم على سواها، وهذا هو من جعل رجال الاستعمار الحديث من يَستَبقونَ الزمن في تدمير قيم وثقافات الشعوب المراد استعمارها، وتحطيم كل تابواتها التي تحرم التفريط بالقيم الوطنية والثقافية والدينية، لذلك وجهوا فوهات مدافعهم الى تدمير القيم الدينية والوطنية لأنها حجر عثرة في طريق المستعمرين الجدد، لذلك نرى الهجوم الشرس على القيم التي تدعوا الى قيم الاعتدال، والشرف، والشهامة، والوحدة، والمصلحة العامة، والهوية الثقافية، في محاولة لتمزيقها، ليسهل لهم استعباد الانسان المسلوب الارادة، والمستبيح لكل القيم التي كانت تمنحه العزة والشرف والعلو والرفعة، فينهار بفعل اقناعه بان قيمه قد عفى عليها الزمن، وباتت لا تنسجم وتطور الزمن، ولم تلبي له حاجاته، وينبغي عليه مغادرتها، والاعراض عنها، هو اول الخطوات المهمة بالحصول على الحرية، والدخول الى عالم اكثر رحابة وسعة مما كان يعيشه. انه عصر الرفاهية، والفردية، والحرية المطلقة، عصر الانسان الذي يهتم، فقط بالأرض التي هي جنته، وليس الانسان الذي يضع السماء جزء من اهتماماته، وهو عصر ما قبل الحداثة، وما عليه الا الاهتمام بما يُدعى بعصر الحداثة، والذي يبشر به الغرب، وهو عصر الديمقراطية الغربية، الذي يمثل نهاية التاريخ بالنسبة لإنسان هذه الارض، ولا يتحقق ذلك الا بنبذ الاسلام، والتخلص من قيمه، وتشريعاته، واستبدالها بقيم التنوير الحداثوية، وما بعد الحداثة، وقد قدموا نماذج حاضرة للعيان، خادعة للأبصار، مدغدغة للغرائز ومحركة للرغبات، كما في النموذج الاماراتي العاهر.

* الاستراتيجية الجديدة:

لاشك ان العالم يتحول باضطراد، وهذه هي سنّة الحياة، وانسجاما مع التغيرات، بادر الاستعمار الى تغير جلده، فقد اخذ طرقا اخرى للتعبير عن نفسه، تكيفا مع التغيرات التي طرأت على العالم، فهو كالحرباء يتلون بطريقة تتلائم والبيئة الجديدة التي يحل بها، ويركز على طريقة لا تثير مشاعر الشعوب، بل يتبع اسلوب يجعل الحكام والشعوب هي من تدعوه اليها، وتقدم له التسهيلات، والعروض الجذابة من اجل القدوم والاستثمار في بلدانها، وهذا لا يتحقق، الا بعد ان فعلت الدول الاستعمارية الافاعيل في بلدان وحكومات هذه الشعوب، حيث خططت لأجل ذلك الاتي:

اولا: خلق الصراعات البينية داخل الوطن الواحد، وهذا العامل يمكن تفعيلة من خلال اثارة النزاعات الطائفية والقومية، والدينية، وكذلك بين البلدان فيما بينها وخاصة المتجاورة، ومثال ذلك ما حدث في العراق بين السنة والشيعة، وبين العرب والاكراد، وكذلك الاقليات والطوائف الاخرى، مما ادى الى حالة من الاقتتال الطائفي، ونحن العراقيون قد عانينا من ذلك، وكلنا يتذكر احتلال داعش لثلث مساحة العراق عام 2014م من خلال ارض سوريا الى الموصل، وبمساعدة عدة دول غربية واخرى اقليمية تأتمر بأمر الاولى، وكانت نتائج ذلك هو تدمير بنية العراق الصناعية والزراعية واضعاف العراق اقتصاديا. هذا الامر قاد العراق اضطرارا الى اتباع سياسة الاستثمار الاجنبي في كل القطاعات، وخاصة القطاع النفطي، الذي اممه العراق في سبعينات القرن الماضي، اما الان فالعراق يرحب بكل الشركات العالمية بالقدوم له والاستثمار على اراضيه، وهذا هو المطلوب، والمرغوب من قِبل الغرب، باعتباره شكل من اشكال الاستعمار، ولكن بثوب جديد.

ثانيا: خلق الصراعات الحدودية بين دول الجوار، لتكون سبب لدخول الحرب بين بلدين متجاورين، وبالتالي اضعافهم اقتصاديا وعسكريا، لأجل اجبارهم على طلب الاستثمار الاجنبي في بلادهم تحت ضغط تلبية الحاجات الملحة لشعوبهم، وهذا ما يعطي فرص استثمارية كبيرة للدول الاستعمارية والتي حركت هذه الصراعات، بان يُطلب منها الاستثمار الصناعي والتجاري والزراعي على ارضي هذه الدول المتحاربة.

ثالثا: بعد كل مرحلة حرب، وحصار اقتصادي تفرضه الدول الكبرى، يعيش الشعب بحالة من البؤس الاقتصادي، والانهاك النفسي، وفي هذه الحالة تراه يتطلع كحالة تعويضية الى اشباع كل ما حُرم منه ماديا ونفسيا، فتراه يندفع بحالة من الشره الى اقتناء كل ما حُرم منه، على مستوى الغذاء، والمواد الكمالية والترفيهية، ويكون اندفاعه بمساعدة الاعلان التجاري المخطط له من قِبل هذه الدول، اندفاع جنوني، لانها شعوب عانت ما عانت من الحرمان والفقر الشديد في سالف الايام، وان هذا العامل هو من اخطر العوامل التي يُعول عليه بعملية التغير التي يرعاها الغرب على شعوبنا العربية والاسلامية، وهو عامل استفحال، وايصال الشعوب الى درجة الادمان الاستهلاكي، فانة حينئذ يفقد السيطرة على نفسه، وتسهل عملية تغيره بالاتجاه الذي يبغيه المُستعمر، فيكون المجتمع جاهز ولين العريكة في تدمير منظومته الاخلاقية، وبطريقة انسيابية لا تثير الشكوك، بل يعتبر المجتمع ان ما يعيشه هو تعبير عن حالة من الرفاهية، ولون من الوان السعادة، فحينئذ يسقط في مصيدة الترويض القيمي، وهنا يبدا التخدير، وقيام عملية الاحلال والابدال لهوية الشعوب الدينية والثقافية، ويتحقق الاستلاب بكل وجوهه، وهنا تستسلم الشعوب باعتبارها شعوب مقهورة، وعندما تصل الى هذه الدرجة من التخدير والاستلاب تجري عليها كل ما هو مخطط له من قبل المراكز المشرفة على هذه التحول، فتتغير حدود، وجغرافيات، ويُمسخ تاريخ، وتُستلب هويات ثقافية ودينية، ولعله تُباد مجاميع بشرية، واخرى تُستخدم لخدمة غيرها، وبالتالي بعد حين من التخدير والترويض، تفلس هذه الشعوب من الرفاهية المزعومة، وتفلس من كل مقومات وجودها السابقة، التي كانت تجعلها في مصاف شعوب العالم، وحينئذ تخرج هذه الشعوب من التاريخ، وتكون من الشعوب الغابرة، كما حصل لاقوام هود وصالح، والهنود الحمر في الامريكيتين، والشعوب الاصلية في استراليا ونيوزلندا.

من مظاهر اسلحة النمط الاستهلاكي:

هناك تجارب اقامها النظام الامبريالي في عدة اماكن من العالم، غرضه ابراز نموذج رأسمالي مقابل نموذج اشتراكي يُراد هزيمته، ولكن بطريقة غير عنفيه، وهي طريقة اتخذتها الانظمة الرأسمالية كأحد ادوات الحرب الناعمة، فكانت تجربة بناء المانيا الغربية، بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى، مقابل تجربة المانيا الشرقية، وعاصمتها برلين الشرقية، ذات التجربة الاشتراكية ، فقد اثارت التجربة الغربية في نفوس الشعب الالماني في المانيا الشرقية كل اشواق ونزعات الانسان المتطلع للحرية، والعيش بالرفاهية التي تلبي طموحات ورغبات، وامالي النفس البشرية، بكل مشارب الحياة المادية والنفسية، حتى تحولت المانيا الغربية الى هدف يطمح بالوصول له، بل حلم كل الشعب الالماني الشرقي، فهي بالنسبة لهم ارض الاحلام، ولا يمكن نكران فشل النموذج الشرقي بإقامة دولة تحترم حقوق الانسان، واخفقت كذلك بتوفير وسائل العيش الرغيد لرعاياها، مما ساهم بزيادة نزوع الالمان الشرقيين نحو المانيا الغربية، واعتبروها المنقذ الوحيد لهم من جحيم النظام الاشتراكي الشرقي، وفعلا اندفع سكان برلين الشرقية في لحظة تاريخية 9 نوفبر عام 1989م ، واهدموا جدار برلين، ورموا بأنفسهم نحو برلين الغربية، وسقطت حينها المانيا الشرقية بنظامها الاشتراكي، وكانت اول تجربة ينهار بها نظام بطريقة الحرب الباردة، بسلاح النمط الاستهلاكي، وهناك تجربة اخرى حدثت با قصى الشرق، وهي تجربة هونغ كونغ، حيث بُني نموذج استهلاكي رأسمالي مقابل تجربة اشتراكية صينية، ولكنها فشلت امام التجربة الصينية بسبب انتهاء مدة استئجار منطقة هونغ كونغ البالغة 99 عام، التي اجرتها بريطانيا من الصين آنذاك، بالإضافة الى الاسلوب المرن الذي مارسه النظام الصيني، حيث اتبعت النظام المختلط في الاقتصاد، المتمثل بالانتفتاح على العالم، والسماح بالملكية الشخصية، مما افشلت المحاولة الغربية باستدراج الشعب الصيني للانخراط مع العالم الغربي بشكل كلي، حيث طوروا تجربتهم الاشتراكية، وتخلوا من بعض مفاصلها، واحتفظوا لنفسهم بنظام خاص بهم له تجربة وخصوصية صينية، بدأوا بها ينافسون النظام الرأسمالي نفسه في قعر داره، والذي باتت الصين به اليوم تنافس اقوى اقتصاديات العالم الغربي، المتمثل في الاقتصاد الامريكي، لكن الاستعمار الغربي لا يمكن ان يغفل اغنى منطقة نفطية بالعالم، واهم مناطق العالم جغرافيا، والمتمثلة بمنطقة الشرق الاوسط. منطقة هي الاهم بالعالم بالنسبة للغرب عامة، وامريكا خاصة، لانها تمثل مصدر الطاقة الاهم بالعالم، لذا فهي محل اهتمام الغرب برمته، والمكان الذي يجب ان تنصب كل الجهود لاحتوائه، وهي الاولى بإقامة النموذج الاستهلاكي الذي استدرج الفرد الالماني الشرقي، الذي عاش تقريبا نفس الظروف الاقتصادية والسياسية لشعوب بلدان الشرق الاوسط، وخاصة البلدان ذات الانظمة الاشتراكية كمصر عبد الناصر، وسوريا الاسد وعراق صدام حسين، فعمد الغرب الى بناء نماذج استهلاكية في دويلات صغيرة المساحة والسكان، وهي من تصلح اكثر من غيرها لهكذا تجارب باعتبار صغر المساحة، وقلة عدد السكان، حيث يمكن تمويلها بسهولة، وتحقيق النموذج المطلوب بسهولة، واقصر زمن، وهي مناطق هادئة سياسيا، وذات سكان ذو طبيعة هادئة، وفقيرة جدا، خاصة قبل اكتشاف النفط، وليس فيها زراعة ولا صناعة، مما يجعلها بعد اكتشاف النفط من اسهل المناطق لإقامة نماذج دول ذات طابع استهلاكي، يمكن تقديمها كنماذج تنافسية بمقابل دول ذات طابع ثوري كالنظام في ايران والعراق وسوريا، وليبيا، وانظمة لم تنال رضى امريكا والغرب كمصر والجزائر وغيرها، فزرعوا لهم دُبي واخواتها من دول خليجية، وان كانت بمستويات مختلفة، كنموذج لدولة الاستهلاك والرفاهية ذات النمط الغربي، وعملوا على بناء دولة الحلم، التي تتوفر بها كل وسائل الرفاهية، وكل ما يُثير الغرائز الانسانية ويستهويها، فانهالت عليها الاستثمارات من العالم الغربي، حتى حولوها الى نموذج باهر وفريد للترفيه، والتسوق، والتجارة، لتكون مدينة الاغراء الاولى في العالم، والتي يُشَد لها الرحال من كل العالم للتنعم بمزاياها الترفيهية والجمالية، هذا النموذج الذي سحر، وخلب الباب شعوب المنطقة، اغرى بعض الدول، ومنها المملكة العربية السعودية من ركوب الموجة، حتى ذهبوا الى ابعد مما ذهبت اليه الامارات العربية، فعينت المملكة السعودية وزير للترفيه المدعو تركي بن الشيخ ، والذي احدث هزة كبيرة في الوسط السعودي بما اقدم عليه من ادخال كل وسائل الترفيه التي كانت محضورة في المملكة السعودية، باعتبارها بلد الحرمين الشريفين، بل ذهبت المملكة الى ما هو اكثر جرأة وذلك في البدا ببناء مدينة (نيوم) التي يُطلق عليها مدينة الاحلام، وحتى ان اسم هذه المدينة (نيوم) سُمي باللغة العبرية، والتي تعني القوة، وهناك من يطلق عليها مدينة الخيال، ومن الملاحظ، والذي يثير الشك والتساؤل انها تقع بالشمال الغربي من المملكة السعودية، بالقرب من اسرائيل، ، وهي ستكون نموذج للتطبيع بين المملكة السعودية واسرائيل.

بالإضافة الى انشاء دول كنماذج للنمط الاستهلاكي، كمحاور جذب، ونماذج خادعة تحاول ان تجذب انظار شعوب المنطقة، التي جُوعت، وحُرمت، واضطهدت لفترة طويلة، اعتبر الغرب انها اللحظة الحاسمة لبناء هذه النماذج الاستهلاكية، التي ستحدث صدمة نفسية لهم، تنتهي بتخليهم عن الكثير من قيمهم الثورية، والاخلاقية والدينية، ويراجعوا ما هم عليه من موروث ثقافي، وبمساعدة بعض عرابي الثقافة الجديدة من ابناء المنطقة، وبأسماء معروفة مدنية ودينية، ليزينوا لهم الانخراط بطريقة الحياة الجديدة، على غرار ما يجري في دُبي، وهذا ما نلاحظه فيما يجري في بغداد وبقية مدن العراق من توجه نحو تقليد النموذج الاماراتي والقطري في انشاء المرافق الترفيهية، ولكن قد تكون التجربة العراقية ممكن السيطرة والتحكم بها، لأسباب معروفه، ليس هنا مورد ذكرها، ولكن نلمس هنا تجربة قامت بها اسرائيل على نفس المنوال، في المناطق المحتلة في الجولان مع ابناء الدروز التي احتلت مناطقهم اسرائيل عام 1967م، حيث طبقت عليهم هذا النموذج لغرض اغرائهم بالبقاء مع اسرائيل وتفضيلها على الالتحاق بالبلد الام سوريا، وقد اكد ذلك احد رؤساء بلدية احد مدن الجولان في مقابلة تلفزيونية، وهو احد ابناء الدروز، عندما سالته مقدمة البرنامج، ماذا تفضل البقاء مع اسرائيل، ام الرجوع الى البلد الام سوريا، لكنه قال وبضرس قاطع، نحن نفضل البقاء مع اسرائيل، فقد قدمت لنا طريقة افضل للرفاهية، وها هي اليوم اسرائيل احتلت جزء اخر من الجولان، وتحاول ضمها لها، واتباع نفس الاسلوب الذي استعملته مع ابناء الطائفة الدرزية ممن سبقوهم بالاحتلال، وهكذا يقضموا الارض، وبرضى ابناءها، مما يكسبهم صفة قانونية دولية، تحت شعار حق تقرير المصير للأقليات القومية والدينية. طبعا الخطورة في مثل هذا النوع من الاحتلال، انه مخدر وقتي، وبعد ان تُبلع الارض وتصبح جزء لا يتجزأ من ارض اسرائيل يبدا التحلل من التزام اسرائيل بتوفير شروط الرفاهية لهذه الاقليات، ولكن بعد ان تصادر الارض، سوف لا يُعبا بصراخ هؤلاء المغرر بهم، مهما علت صراخاتهم، وارتفع عويلهم على مصادرة ارضهم، التي تساهلوا بتسليمها لعدوهم تحت وهم الرفاهية الخادع. وهكذا أصبح اسلوب الترفيه من قِبل الدول الاستعمارية، للدول المستَعمرة، كحصان طروادة، تحقق من خلاله هيمنتها على هذه الشعوب التي ذهبت ضحية معادلة، مفادُها؛ تجويع، وحرمان، واضطهاد ترفيه مزيف احتلال.

***

اياد الزهيري

في دهاليز التاريخ السوداني المتشابك، وفي تلك اللحظات التي تكتظ فيها الذاكرة بالحلم والعجز معًا، يقف المثقف السوداني في موقع مريب بين الفاعلية والخذلان.

ليس هذا الفشل نتاج نقص في الوعي، ولا قلة في الإبداع، بل هو حصيلة لتفاعلات تاريخية وثقافية وسياسية أحكمت قيودها على عنق الفكر، فجعلته يلهث في دائرة مغلقة، غير قادر على الانطلاق نحو التغيير الجذري.

الإرث الاستعماري، بما يحمله من تعقيدات، ليس مجرد صفحة تُطوى في كتب التاريخ، بل هو جرح عميق يستنزف الحاضر.

لقد أدرك المستعمر، كما أدرك غيره من القوى الإمبريالية، أن السيطرة لا تكتمل إلا حين تُعاد صياغة النخبة الفكرية لخدمة الهيمنة. فأُنشئت مؤسسات تعليمية ضيقة الأفق، لا تصنع سوى مثقفين منزوعي القدرة على التمرد. وهكذا، أصبح المثقف السوداني رهينَ نظامٍ لا يترك له سوى هامش ضيق يتحرك فيه. هامش ينهار تدريجيًا مع كل حقبة جديدة.

وحين أطلت الأنظمة العسكرية برأسها، منذ انقلاب إبراهيم عبود وحتى دكتاتورية البشير، وجدت في المثقف مصدر تهديد دائم. كان الحل بسيطًا: القمع أو الاستيعاب. فتحول المثقف في كثير من الأحيان إلى صوت للسلطة، فاقدًا لقدرته على النقد أو المواجهة.

هذا التآكل التدريجي لدور المثقف يعكس مأساة الوعي الذي يُحتكر ويُعاد تشكيله ليصبح خادمًا لمنظومة تستنزف البلاد والعباد. لكن الإخفاق لم يكن وليد القمع فقط. إنه أيضًا انعكاس لانقسامات أيديولوجية شرَّعت أبواب التشظي.

فبدل أن يكون المثقف صوتًا للوحدة والتنوير، غرق في مستنقع الصراعات الفكرية.

اليسار والإسلاميون والقوميون والليبراليون، كلهم كانوا مشغولين بمعاركهم الضيقة، فيما كانت البلاد تنحدر نحو المجهول. إن هذا الانقسام لا يعكس تعددية صحية، بل يعبر عن فشل جماعي في صياغة رؤية وطنية متماسكة.

ومع هذا التشظي، بقي المثقف بعيدًا عن الشعب، غارقًا في لغة نخبوية لا تصل إلى عمق الحقول الممتدة في الجزيرة، ولا تعانق قسوة الرمال في كردفان.

إنه المثقف الذي يتحدث عن الشعب دون أن يخاطبه، ويرسم أحلامًا بلا جذور. كان يكتب ويقرأ، لكن كلماته كانت تتبخر في الهواء قبل أن تمس الأرض التي تنتمي إليها.

أما حين جاءت الجبهة الإسلامية، فإن اللعبة تغيرت تمامًا. أصبحت السيطرة على المؤسسات التعليمية والإعلامية أولوية للنظام، حيث استُخدمت الأدوات الناعمة لترويض العقول. التعليم نفسه، الذي يفترض أن يكون نافذة نحو الحرية، تحول إلى آلة تصنع أجيالًا مبرمجة لخدمة الأيديولوجيا الحاكمة. وهنا، وجد المثقف نفسه بين مطرقة الاستيعاب وسندان المنفى.

الهجرة، التي بدت للكثيرين كخلاص، كانت في حقيقتها نوعًا آخر من الإقصاء. فالعقل الذي يهاجر، يفقد ارتباطه العضوي بالجسد الاجتماعي الذي يسعى لتغييره.

ورغم كل هذه العوائق، كان الإبداع يقاوم، مثل زهرة تنبت في صخر. الطيب صالح، في موسم الهجرة إلى الشمال، عرى ببراعة جراح الهوية السودانية. ومصطفى سيد أحمد، بصوته الذي يحمل وجع الأرض، حاول أن يروي حكايات المنسيين.

لكن الإبداع الفردي، مهما كان عظيمًا، لا يستطيع وحده مواجهة آلة القمع والتهميش.

وفي هذا المشهد المعقد، يبدو المثقف السوداني كمن يسير في طريق طويل، تحفه الأشواك من كل جانب.

ليس الفشل عارًا، لكنه دعوة للتأمل وإعادة البناء. وكما قال سارتر ذات يوم، “الإنسان هو مشروعه”. فإن المثقف السوداني، رغم كل ما أصابه، ما زال مشروعًا لم يكتمل.

التغيير الحقيقي يبدأ حين يدرك المثقف أن قوته لا تكمن في عزلته الفكرية، بل في التحامه مع الناس. حين تصبح الكلمة فعلًا، والفكرة أداة لتحريك الواقع.

التاريخ لا يرحم من يتوقف عند عتباته. والمثقف السوداني اليوم أمامه فرصة نادرة لإعادة صياغة دوره. هذا الدور لن يتحقق إلا بالتواضع أمام تعقيدات الواقع، وبالتخلي عن برجه العاجي لصالح غبار الحقول وصخب الشوارع. وحدها الكلمة التي تُخلق من رحم المعاناة، وتُبنى على أسس من الفهم العميق، يمكنها أن تصبح شرارة التغيير المنتظر.

***

إبراهيم برسي

في حركة التاريخ قابلية للتحول، ونفي النفي، ضمن وحدة وصراع الاضداد، اي ان التغير المستمر محكوم، منه وفيه، وإلا ما تواصل وإستدام، وبقي يغذي الحاضر، ويستشرف المستقبل، فالثابت فيه هو متحول في السياقات الزمانية والمكانية واللغوية، والتاريخية، والمعرفية المتواصلة دون إنقطاع، مادام العقل العضوي يستتبعها صعودا ونزولا، ولا حاجة لإنكار تكراره، بنسبية ثابته كانت او متحوله، ولا تقبل بعضه وإنكار بعضه، أنما الحاجة كل الحاجة لإستئناف إداء العقل العضوي في إستنطاق المستقبل، الحفيد المحسن بجنسه، وبأستمرار لجدل التاريخ في الماضي والحاضر!

يتفق ماركس مع هيغل في ان البشر لا يصنعون تاريخهم بمعزل عن إشتراطات التاريخ نفسه، كان وصف هيغل لنابليون الاول، وهو يمتطي جواده مكتسحا الجيوش والقلاع والبلدان، بأنه روح العصر، وهو صنيعته وزبونه اليقظ، وهو كازبائن التاريخ الكبار في كل العصور، بالرغم من إعتقادهم النرجسي بالتفرد، لكنهم لا يعوا حقيقة انهم مجرد مشخصاتية للاشتراطات الموضوعية والذاتية التي يستبطنها العقل!

يقول هيجل: ان جميع الحقائق والشخصيات تحدث كما لو انها حدثت من قبل. ويؤكد ماركس على ان مقولته النافذة تلك تشي بأن التاريخ يمكن ان يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، ويستشهد ماركس بمأساة نابليون الاول، ومهزلة نابليون الثالث!

وربما يكون مجرد انتخاب دونالد ترامب كرئيس لامريكا في المرة الاولى مأساة، واعادة انتخابه ثانية هي المهزلة بعينها، فبشخصه تتشخص كل عيوب المنظومة التي انجبته، امبراطور بلا اقنعة يكشف زيف العالم الحر!

البداية والنهاية!

فرانسيس فوكوياما، اعلن نهاية التاريخ وذلك لوصوله الى حالة الكمال بتسيد الليبرالية الغربية على احلام وايام العالم، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، متناسيا ان مكر التاريخ يغشي العيون عن رؤية الحقيقة، فالنهايات وهمية بخطوطها وان وجدت فهي مدعاة للتصفير، والرجوع للوراء لان التوقف هو بحد ذاته تقهقر وفناء!

مثلما تبدو البداية افتراضية، ان كانت داروينية او سماوية، فأن النهاية كذلك، بحكم كون النتائج أسيرة لمقدماتها، وعليه لا يصح إسقاط ما ينطبق على اخراج الافلام والمسلسلات بكل اجناسها الوثائقية والتسجيلية والتاريخية والدرامية والكوميدية والمغامراتية والخيالية على التاريخ وحركته التي وان كانت تدور بدوائره إلا انها بالمجمل محاكاة لانعكاس كل اشكال الحركة المادية والروحية المكتشفة وغير المكتشفة في الطبيعة، من المكانيكية الى الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والاجتماعية والفراغية والكوكبية الى نظام الطفرات في الوعي الذاتي والموضوعي التاريخي للطبيعة ودور المعرفة الانسانية في سبر اغوارها، الاحلام هي افلام من مخرجات العقل الباطن المصور وهي بلا بداية اونهاية، على نقيض الفلم الهندي التقليدي، انما تكون اقرب للافلام الغربية الحديثة ذات البدايات والنهايات المفتوحة، والافلام النفسية القريبة من هذيان المخيلة.

مكر التاريخ في تكرار نفسه دون ان يكون مملا، كالافلام الطويلة، وانه ان طرح وجمع وقسم وضرب وازاد وانقص وجاء بانساق لونية واشتقاقات ضوئية غير مسبوقة فأنه يعيد انتاج ذات العوالم ولكن من زوايا مختلفة، ومن مسافات كمية وكيفية مختلفة، ويبدو للبصيرة المجردة انه جديد بعوالمه كل الجدة!

عوالم الامبراطوريات والدول والحروب الكبيرة والصغيرة، بكمية ضحاياها، وبنوعية اسلحتها، وكل عوالم الصراعات البشرية، العادلة وغير العادلة، هي مكررة، منذ ايام قابيل وهابيل على عهدة الكتاب المقدس، ومنذ الحضارات الاولى في وادي الرافدين والنيل وسيحون وجيحون والنهر الاصفر والامازون والمسسبي الى الكسندر المقدوني وحروب طروادة واخواتها الى روما وامبراطوريتها ونيرونها الى الامويين والعباسيين والمغول والتتر، هولاكو وتيمورلنك، الى غزو الامريكيتين وابادة الهنود الحمر الى العثمانيين الى الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس الى الحربين العالميتين الاولى والثانية، التي قتل في الاولى منها نحو 20 مليون عسكري ومدني، وفي الثانية اكثر من 60 مليون مدني وعسكري، الى حرق هيروشيما ونكازاكي بالسلاح النوعي الجديد، النووي، الى الحرب الاستيطانية الكولونيالية المستدامة على فلسطين الى حروب فيتنام وكمبوديا ولاوس، الى حروب احتلال افغانستان والعراق، الى حروب جديدة اكثر فتكا!

مؤشرات التاريخ الماكر تقول كلما تطور الانسان تكنلوجيا وازدادت معرفته العلمية كلما بلغ الذروة في القتل والتدمير، اي انه مازال في طوره البهيمي برغم كل مظاهر الانسنة الفلمية التي يتبجح بها، وهي ليست قطعا نتاج احلامه، بمعنى ان ثورته وثروته المادية المتضخمة لم تؤدي حتى الان الى ثورة على غرائزه الوحشية والبربرية، وحضارته القائمة هي شكلية وليست بعد مضمونية!

على الافتراض السماوي: ان كان الانسان مسيرا فالامر كل الامر بيد المدبر، وهو المسؤول الاول والاخير عما يجري من فظائع متعاظمة بانتظار ظهور المخلص او المهدي المنتظر، اما اذا كان مخيرا فأن الامر بحاجة للمراجعة لان التاريخ يعلمنا بمكره اننا نسير وبشكل دائري نحو جحيم كوني غير منتظر!

حراك اعمى يغشي إستكانة الحلم العاقل!

مكر التاريخ يخدع ببركات الحراك الذي يحرر الطاقة ويغري باشتعاله حرق الحلم العاقل ما يصب مزيدا من الزيت على نار الخديعة ليحرق بجحيمها الاحلام والافلام معا، فالخواء الروحي يستسهل العبث، وان كانت تجاربه تحرر طاقة الفضول وهو على اي حال فضول معرفي لكنه يبقى اعمى وفي احسن الاحوال اعور.

يقول ابن خلدون: السكون هو الضعف الشديد في الحركة، والعمران المتخم بالترف والدعة والاستهلاك مهبط للبداوة . فالتقلب بين البداوة والحضر هو شرعة لدائرة مدورة لزمانه، لكنه لو رأى الآن الإفناء الذاتي للانسان قبل العمران، من خلال تعاظم سرعة احتراقه المادي والروحي، سيقول ما نقوله!

في بيت معبر من الشعر يقول ابو البقاء الرندي:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

*

هي الأمور كما شاهدتها دول 

من سره زمن ساءته ازمان .

***

 

هذه قصة نقلها الدكتور عبد الله الغذامي، المفكر السعودي المعروف، وتحكي معاناة شاب أفغاني الأصل، ولد في ألمانيا ويحمل جنسيتها، لكنه مع ذلك واجه دائماً من يذكّره بأنه ليس ألمانياً حقيقياً، «بيسري» وليس أصيلاً، حسب تعبير أشقائنا الكويتيين. وكان هذا يشعره بضيق شديد. لكنه سافر مرة إلى سويسرا، فشتمه نادل المقهى ووصفه بـ«الألماني اللعين». تلك كانت أول مرة يشعر فيها بأنه ألماني حقيقي. يعلق الغذامي على هذا قائلاً إن تلك الشتيمة كانت صانعة لهوية الشاب التائه بين أصله وفصله، بين ماضيه وحاضره.

ذكرني هذا بالدراسة القيمة التي وضعها إريك إريكسون، عن المحددات السلبية للهوية. في ألمانيا، عومل إريكسون بوصفه يهودياً بغيضاً، فهاجر إلى أميركا. لكن يهودها قاطعوه، لأنه علماني ولأن زوجته مسيحية. من خلال معاناته الخاصة طور إريكسون سياقاً بحثياً في علم النفس، يدور حول «أزمة الهوية». وركز خصوصاً على دور المحيط الاجتماعي في تصليب الهوية الطبيعية للفرد (الدين، العرق، اللون، الجنس) ولا سيما في الاتجاه السلبي، أي تحويلها إلى خط انكسار في علاقة الفرد مع محيطه.

عالج هذه المسألة أيضاً المفكر الفرنسي - اللبناني أمين معلوف، في كتابه القيم «الهويات القاتلة». ولا بد أن الزملاء الذين قرأوا هذا الكتاب، يستذكرون قوله الموجع: «غالباً ما نتعرف إلى أنفسنا في الانتماء الأكثر عرضة للتهجم». أخبرنا معلوف أن الهوية الفردية تتشكل في سياق تجاذب، بين الترحيب من جهة، والإقصاء من جهة أخرى. يساهم الترحيب في تنسيج هوية الفرد ضمن الهوية الأوسع، بينما يؤدي الإقصاء إلى تضخيم حدود الهوية الخاصة وإبرازها على نحو متنافر مع الهوية العامة.

حسناً، ما الذي يجعلنا نتذكر هذه القصة اليوم؟

الداعي لاستذكار مسألة الهوية، هو الجدل الدائر في سوريا اليوم، حول هوية البلد، ومن ثمّ موقع الأقليات الدينية والعرقية في النظام السياسي الجديد. وقرأت تعليقاً لشخص بارز في إحدى الجماعات، يعلن تبرمه بالأقليات التي حصلت على مكاسب في النظام السابق، ومع ذلك فهي تطالب بمثلها في النظام الجديد. كما أشار خصوصاً إلى الجماعات الكردية التي تطالب بنوع من الحكم الذاتي، شبيه بذلك القائم في العراق. وقال العديد من الناس مثل هذا. ولاحظت خصوصاً أن الذين يصنفون أنفسهم ضمن تيار الإسلام السياسي، يتحدثون عن السلطة السياسية، كما لو أنها «غنيمة» على النحو الذي شرحته في الأسبوع الماضي، رغم أنهم لا يقولون هذا صراحة، بل يتحدثون عن «حق» الأكثرية في الحكم و«واجب» الأقلية في التسليم والطاعة. ونعلم أن ذلك الحق وهذا الواجب، لا وجود لهما - على النحو الذي يذكرونه - في أي تشريع أو فلسفة أو منظور ديني أو سياسي.

أمامنا أمثلة صريحة الدلالة على أنظمة سياسية قامت على إقصاء المختلفين، وأخرى استوعبتهم. جربت تركيا إقصاء الأكراد مدة تزيد على 40 عاماً، وتسبب هذا في مواجهات كلفت البلاد عشرات الآلاف من القتلى وهجرت عشرات القرى، دون ثمرة، حتى اعترفت الدولة بالمشكلة، وتبنت مشروعاً يستهدف استيعاب الأقلية الكردية ضمن النظام السياسي القائم. فهل يريد السوريون إعادة اختراع العجلة؟

الأكراد يمثلون مشكلة داهمة، لأنهم القوة الأكثر جاهزية للصراع، ولأنهم يسيطرون فعلياً على مساحة واسعة نسبياً. لكن يهمني التأكيد على التعامل المنهجي وليس التكتيكي مع مشكلة الهوية. سيكون على السوريين استيعاب الأقليات الدينية والقومية العديدة، فسوريا ليست ملكاً لحكامها الحاليين أو السابقين، بل لكل سكانها، أياً كانت أصولهم العرقية أو أديانهم أو مذاهبهم. لا يمكن للحكومة أن تفرض عقيدتها أو توجهها السياسي على مخالفيها. كما لا يصح للأكثرية (في المعنى السياسي) أن تفرض رأيها على الأقلية. ينبغي القول بوضوح إن خطاباً سياسياً يستوعب الجميع، هو الذي يؤسس للهوية الوطنية الجامعة. وإن الخطابات الانكماشية والإقصائية تفتح الباب لانهيارات قادمة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

تجد كتب التَّاريخ ملأى بالغرائب والعجائب؛ تسمع بشخصية ذي مكانة في قيام ثورة مِن الثَّورات، أو دولة مِن الدُّول، وإذا به وصل إلى ما هو عليه، بعد إشقاء النّاس بقطعه الطّريق، واللصوصيَّة. تجمّع حوله قاطعو الطُّرق الصّغار، واللُّصُوص المطاردون، الذين بالعادة يسبتون نهاراً، داخل الكهوف والمغارات والأماكن المهجورة، وينتشرون ليلاً للتلصَّص، وإذا بهم يجدون أنفسهم منتظمين في جيش، يحملون السّلاح.

أصبح ما ينهبونه مِن أموال، ويسفحونه مِن دماء، عملاً مشروعاً، لا يخشون سجناً وقطع أيدٍ، ما زال إمامهم يوعدهم بدولته، وأرزاقهم، حيث تصل سيوفهم ورماحهم، أمَّا السُّلطة، التي يحاربونها، فمارقة على الدِّين، وأول ما يتمكن الزعيم تُقرأ باسمه الخطبة. فهذا أحد زعماء اللّصوص يقول بعد توبته: «قل للصُوصِ بني الخناء يحتسبوا/ بزَّ العراق وينسوا طرفة اليمن»(الآمدي، المؤتلف والمختلف).ِ

رصدتُ الكثير ِن هؤلاء، في «لُصوص الأموال ومنتحلي النُّصوص»(مركز المسبار)؛ مع الحذر، فليس كلّ خارج على سلطنة، في مختلف العهود، على هذه الشّاكلة، إنما هي ظاهرة محصورة بمَن قاد اللُصُوص  ليصبح بهم إمامٌ. نجد بينهم أسماء شغلت المؤرخين، بينهم مَن نجح، ومِن قُتل، فتفرق عنه الأعوان عائدين إلى أوكارهم.

يأتي في المقدمة الثَّائر عبيد الله بن الحرّ(قُتل: 67 هجرية)، جمع حوله الصّعاليك واللّصوص، وكان خلاف ما ذَكر بعضهم، لم ينوِ قيام دولة، بقدر ما غايته المال والجاه. كان جسوراً شجاعاً، تجنب الدخول في المعارك بين العلويين والأمويين، شكل جيشه ممَن ذكرنا، قاتلَ المختار الثَّقفيّ(تـ: 67 هجرية)، وقاتل الزُّبيريين، حتَّى قُتل، وحُمل رأسه إلى عبد الله بن الزُّبير(قُتل: 73هجرية) بمكة، وهو صاحب البيت المعروف: «فلا كوفة أمُّي ولا بَصرةَ أبي/ ولا أنا يثنيني عن الرّحلة الكسل»(ابن أعثم، كتاب الفتوح)، فكان ثائراً جوالاً بجيشه.

يُذكر أنَّ أبا مسلم الخراساني(قُتل: 136هجرية)، كان غلاماً عند قاطع طريق، وسُجن معه واللُصوص، فتعرف عليه أحد دعاة العباسيين المسجونين، وكسبه إليهم، حتى قابل زعيم الدَّعوة إبراهيم الإمام(قُتل: 131هجرية)، فاُعجب به، فضمه إلى حركته، وحصل ما حصل مِن قيادته للثورة العباسيَّة(كتاب أخبار العباس وولده).

يُذكر أنَّ أبا السَّرايا السَّري بن المنصور الشّيباني(قُتل: 200هجرية)، «خالف السُّلطان ونابذه، وعاث في نواحي السَّواد»(الأصفهانيّ، مقاتل الطالبيين)، كان يقطع الطَّريق مع جماعة، ثم التقى بأحد العلويين، فصار يدعو له، بالكوفة في زمن المأمون(198-218 هجرية)، واستولى على اليمن ومكة. كان معه إبراهيم ابن الإمام موسى الكاظم، وبعد مقتل أبي السّرايا، عاد إبراهيم إلى بغداد، بشفاعة أخيه ولي العهد عليّ الرِّضا(تـ: 203 هجرية)، وعاش ببغداد ومات بها(ابن الطَّقطقيّ، الأصيلي، في أنساب الطَّالبيين).

يأتي اسم عمران بن شاهين، الذي طاردته السلطة لجنايةٍ، ليست سياسيّة، فهرب واختلط باللُّصوص، فشكل منهم جيشاً مقاتلاً، وظل يُحارب البويهيين(388-369هجرية)، على الرّغم هما على تجاه واحد، وأقام إمارة بالبطائح، جنوب العِراق، حيث مسقط رأسه «الجامدة، تولاها بعده أولاده، لأكثر مِن مئة سنة»(مسكويه، تجارب الأُمم وتعاقب الهمم).

هذا، غيض مِن فيض، فالوقائع وأسماء الثَّائرين كثيرة، في الماضي والحاضر، وتتبدل النَّوايا، وتكبر الأطماع، فلِصُّ الأمس يصبح ثائراً قائداً اليوم، يتحكم بالأرواح والثّروات، مع أنه لم يغير شيئاً، فما أقنع به أتباعه مِن أهداف، تراه أول الخارجين عليها، ومَن وعد العبيد بتحريرهم، عندما تمكن صار مِن ملاكهم، بعد أن مكنوه بسيوفهم.

حتَّى اليوم، كم مِن جماعة خارجة على القانون بسلاحها، وتضع لها شعارات وأهدافاً جساماً، غير أنَّها، في الحقيقة، مبنية على أخلاق العصابات، فكم مِن زعيم صارت بيده رقاب النّاس، ملك البر والبحر، لكنه ظل ذلك الشّريد، الباحث عن المجد بين قطاعي الطُّرق واللُّصوص؛ إنَّها غرائب وعجائب الثّورات.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

من الممكن الحديث عن ضرورة العلمانية اليوم وقبل الغد للدوله اليمنية كمشروع نهضوي وحضاري وديمقراطي وخاصة بعد سقوط وفشل الاسلام السياسي بكل مذاهبه وجماعاته التي كان لها نصيب في قيادة مؤسسات الدولة في الفترة الماضية او في الوقت الراهن هي من تولت قيادة البلاد في الداخل والخارج وساهمت في تدمير الدوله والوطن والشعب وعندما نتكلم عن العلمانية بانها ليست كما صورها اعداءها وخصومها من القوى المتطرفة في الاديان سوء كان على المستوى اليمني او العربي او الدولي بتلك الصوره المشوه ولو نظرنا الى العلمانية في مفهوم فصل الدولة عن الدين وغيره. فركائزها الأساسية تقوم على الاحترام والضمانات والمتطلبات والعيش المشترك. وتشكل كل هذه الأمور مجموعة حقوق وواجبات للدولة والأديان والأفراد. ومن مبادئها:

احترام تنوع الجماعات والمذاهب الدينية

ان الدولة العلمانية تتطالب باستقلالية السلطة السياسة استقلالية تامة وفصل الدولة عن الدين الذي لا سلطة له على الدولة والقرار السياسي اي بمعني لا يتدخل الكيانات الدينية وقادتها في سياسات الدولة وقرارتها كما لهذه الأخير سلطة عليها ايضا ولهذا فالعلمانية تطالب بفصل الدين عن الدولة بهدف الحفاظ على مكانة الدين من الإساءة اليه ومنع الكيانات والجماعات الاسلاموية من استغلال الدين استغلال رخيص في تحقيق اهدافها واجندتها المشبوه مثلما يحدث اليوم في بلادنا حيث استغلت كل الجماعات الاسلاموية بكل مذاهبها الدين وسخرت الدين تسخير قذر في الوصول إلى اهدافها المتقزمة ومشاريعها الصغيرة التي افضت الى تدمير البلد والدولة واغراقه في مستنقع الحروب والصراعات الدموية وبمعنى أن العلمانية تؤمن بحرية تنوع المذاهب والجماعات الدينية فكل مذهب له فكره ومعتقده بحيث لا يتدخل اي مذهب بشؤون المذهب الاخر ولا الأديان والمعتقدات الاخرى ولا يتدخل في الدوله بحيث تضمن الدولة حماية كل الخيارات الدينية ايا كانت ولا تسمح في سيطرة مذهب معين في ادارة الدولة لانه سيمارس الارهاب بكافة اشكاله على حساب المذاهب والاديان الأخرى والإقصاء والعنصربة والتعصب لصالح مذهبه وهنا يبدأ مسلسل الصراع الديني والمسلح على حساب الشعب مثلما هو حاصل في الجمهورية اليمنية اليوم.

كما تؤمن العلمانية بان كل تدخل سياسي في ما يختص بالتوجهات الدينية أمر مشروع بمعني تتدخل الدولة السياسية في اطار التوجهات الدينية في حالات مشروعه كثيرة. وبما إن العلمانية لا تنطوي على حياد الدولة عن كل المذاهب والاديان بل انها سلطة الضبط العليا باعتبارها دوله للجميع وفوق الجميع: فعليها ألا تمنح أية أفضلية لخيار ديني دون غيره. واستناداً إلى مبدأ المساواة لا تمنح الدولة العلمانية أي امتياز عام إلى أي من العبادات والأديان والمذاهب كما أن علاقات الدولة التي تقيمها مع كل التوجهات الدينية قائمة على انها الدولة وسلطة الضبط العليا على كل المذاهب والاديان بحيث لا تسمح ان يستبد مذهب بالمذهب الأخرى والاديان الأخرى او يشكل خطراً عليه استنادا لمبدأ الفصل القانوني.

كما أنه يجب على كل الجماعات الدينية الامتناع عن فرض أي هيمنة دينية على الدولة ومؤسساتها او على الفرد والمجتمع والمذاهب والاديان الأخرى وأن ينأى عن أي بعد سياسي. فالعلمانية لا تقبل باي توجه ديني قد يرغب من خلاله التحكم في مسار النظام الاجتماعي أو السياسي، للدولة باسم الافكار التي يحملها هذا المذهب او الدين وتحترم العلمانية مبدا حرية التعبير الديني في المجال العام، وهي حرية مشروعة وجوهرية للحوار الديمقراطي، وبين الهيمنة على المجال العام، الذي يعد أمر غير شرعي. ومن حق ممثلي هذه الخيارات الدينية المختلفة أن يشاركوا بصفتهم هذه في الحوار العام، على غرار أي من مكونات المجتمع.

ويستفـيد من هذا كل من الكيانات الدينية والدولة على حد سواء: فالأولى تركز على مهمتها الدينية وتجد فيها فضاء حرية التعبير المسموح له بحدود. والثانية، ان الدولة وموظفيها لها مسارها السياسي ولا تنتمي إلى كيان ديني ومتجردة من اي ولاءات دينية وغير مقيدة بأي رابط مذهبي، لانها تعد ملكاً لجميع المواطنين.

ضمان حرية المعتقد

تضمن الدولة العلمانية حرية المعتقد بين ابناء الشعب. وتضمن الممارسة الحرة للشعائر الدينية لكل التوجهات الدينية وتتولى الدولة مسؤولية حمايتها ويحق للدوله عند وجود مؤشر الخطر مصادرة واغلاق اي توجه ديني او مذهبي عندما يخرج عن اطار القانون او يخل بامن النظام العام او يشرعن لافكار تهدد مصالح الناس والشعب والدولة العليا مع مراعاة القيود، المنصوص عليها فيما، وذلك لصالح النظام العام". ولا يمكن للدولة أن تحجب "بستار من الجهل" الواقع الديني. وفي العلاقات مع العبادات، فإن الدولة تسهر على تمكينها جميعا من التعبير عن نفسها وفق حدود معينه بحيث لا تتجاوزها. كما تسمح كذلك للكيانات الدينية الأكثر ضعفا أو الأقل عددا أو الأحدث عهدا بالتمتّع بهذه الحرية وذلك مع مراعاة مقتضيات النظام العام. تضمن العلمانية لجميع الخيارات الدينية الإطار الشرعي الملائم لهذا التعبير بحدود معينه لا تتجاوز الخطوط الحمراء.

وعلاوة على حرية العبادة والتعبير، فإن الدولة العلمانية، بصفتها ضامنة لحرية المعتقد، تحمي الفرد ايضا وتسمح بحرية الخيار للجميع، بأن يكون لهم توجه ديني او مذهبي معين، وبأن يغيّروا من هذا الاتجاه أو أن يعدلوا عنه. إن الدولة العلمانية تحرص على أن لا تسمح لأي جماعة دينية أو أي طائفة فرض انتماءها أو معتقداتها وأفكارها على شخص ما بالإكراه او القوه باعتبار ذلك جريمه بحقوق الانسان امتثالا لقوله تعالى " لا اكراه في الدين "، وبشكل خاص بسبب أصول هذا الأخير. إنها تحمي كل مواطن ومواطنة ضد أي ضغوط جسدية أو معنوية تمارس بذريعة الخضوع لأوامر الجماعة الدينية هذه او تلك وإن الدفاع عن حرية المعتقد الفردي والجماعي حق اساسي ومشروع ضد أي نوع من الشرعنه المتطرفة يأتي اليوم مكملاً لمفهومين مركزيين في، ألا وهما فصل الدين عن الدولة.

وينطبق هذا الأمر بدايةً على المدرسة، حيث ينبغي تمكين التلاميذ من اكتساب العلم وبناء الذات في جو من الطمأنينة من أجل أن يتملّكوا استقلالية الرأي. ويتعين على الدولة أن تمنع اي توجه ديني ان يمارس العنف والترهيب للفرد والمجتمع لبث افكاره ومعتقداته بالقوة حماية من التأثير على عقولهم بحيث تضمن التعليم لجميع ابناء الشعب وبما يخدم حماية الأجيال من الانحرافات الدينية والفكرية والمذهبية الخاطئة التي سينعكس آثارها سلبا على امن واستقرار وسلامة الشعب اضافة الى ظرورة حماية المناهج الدراسية وابعادها عن كل التوجهات الفكرية الدينية والجهوية والمذهبية والطائفية المقيته بحيث تكون مناهج تعليمية تضعها الدولة وفق اسس علمية ووطنية بحته بما يتواكب مع تطورات العلم وتتعدد مشاربه ولا تتدخل التوجهات الدينية او المذهبية في تأليفها او اعدادها تحت اي مبرر حماية لها من اي تدليس مذهبي او ديني وحفاضاً على مستقبل الدولة والوطن والاجيال بما يبني لا يهدم ويخدم مصالح الدولة والشعب العليا، ولا ينبغي أن تصبح المدرسة صدى لأهواء وافكار جماعة اسلامويه دينية محددة وإلا تعرضت للفشل والإفلاس في مهمتها التربوية.

لا يمكن للدولة العلمانية أن تبقى غير مكترثة أمام زعزعة النظام العام وممارسة الضغوط والتهديدات والممارسات العنصرية أو الداعية إلى التفرقة تحت ذرائع دينية أو طائفية من شأنها نسف الأسس التي تقوم عليها المدرسة.

والعلمانية في التصوّر الفرنسي ليست مجرد "حارس حدود" يقتصر عمله على فرض احترام الفصل ما بين الدولة والدين وما بين السياسة والمتطرف الديني. وانما تسمح الدولة بتوطيد القيم المشتركة التي ترتكز عليها الروابط الاجتماعية في بلدنا. ومن بين هذه القيم، المساواة بين الرجل والمرأة والتي على الرغم من كونها من الإنجازات الحديثة قد احتلت حيزا هاما في تشريعات وقانون ودستور الجمهورية اليمنية. إنها عنصر من عناصر التشريع الجمهوري اليمني. ولا يمكن للدولة أن تبقى مكتوفة الأيدي إزاء أية إساءة لهذا المبدأ. وبقيامها بهذه المهمة، فإن العلمانية لا تحل محل المقتضيات الدينية الأخرى. إنها مجرد تأكيد على أن الدولة تدافع عن القيم المشتركة للمجتمع بكل مكوناته الذي انبثقت منه باعتبارها سلطة الضبط العليا فوق الجميع. وإذ تنطلق العلمانية من رؤية وطيدة للمواطنة المتساوية التي، تتجاوز الانتماءات الطائفية أو المذهبية أو العرقية، فإنها تولد للدولة التزامات تجاه المواطنين

ضمان الحرية والتعبير

تضمن الدولة العلمانية لكل افراد الشعب حرية الرأي والتعبير باعتبارهما جزء اصيل من حريتهم التي ولدوا مكرمين بها ولا تسمح العلمانية اي مساس بتلك الحقوق والحريات الأساسية للانسان تحت اي مبرر كان.

للحديث بقيه.

***

د. فارس قائد الحداد - صحافي وحقوقي يمني

في ظلّ الفوضى التي نعيشها الان في العراق وتحكّم الطامعين وذوي الفصام الوطني ممن يعملون بكل جهدهم على تفكيك بلادنا وتمزيق حبال الوصل بينه وبين المدنية والتحضّر والنهوض والارتقاء ونشر بذور الفوضوية والانقسام وتفكيك عرى النظم الحديثة التي بدأ العراق يمسك اول خيوطها وكاد ان يفلت من ظلامية وتخلّف مما يسمّى الدول الناميّة ؛ لم يجد هؤلاء غير ترسيخ العشائرية ونشر أعرافها وتقاليدها البالية وسمومها في أوصالنا لتكون بلاءً اخر يضاف الى بلاء الطائفية والمذهبية والنزاعات بين ابناء الوطن الواحد وصولا الى هدم اركان المجتمع كليّا.

أليس غريبا ان يُفتقد القانون تماما في بلاد مثل وادي الرافدين كان لها الاولوية وقصب السبق على امم المعمورة كلها في سنّ القوانين وترسيخ الشرائع والأنظمة وإعداد البنود والمواد القانونية بشأن العقاب والثواب وإعطاء كل ذي حق حقه ومعاقبة كل من يسيء الى المجتمع.

أقول هذا الكلام وأنا أرى بأم عيني مدى شيوع النزعة العشائرية ورسوخها والخضوع لأعرافها وتقاليدها طوعا ام رغما مادامت الدولة لا ينظمها قانون مدني سائد وصارم وبقيت يد القضاء مهزوزة رخوة يلويها هذا السياسي المتنفذ، يد ترتعش حينما تمسك سيفا او سوطا وتواجه وتعاقب بها المسيء واللص والخارج عن القانون وراعي الجريمة المنظّمة والمأجور للقتل من أسلحته لينتقي أضحيته في الشارع او السوق او الدائرة الرسمية بكل صلف ويترك القتيل او الجريح نازفا دون ان يوقفه او يمسكه احد ويلقي القبض عليه متلبسا بجريمته.

وفي اسوأ الاحوال لو كانت عشيرة القتيل متنفذة ولها شأن بين العشائر فما عليه الاّ ان يدفع ديّة القتيل مما يسمونه فصلا الى أهله وأسرته وينتهي كل شيء، اما دور الدولة او القضاء فغائب تماما وكأن مصير ابنائها لا يهمها في شئ فالحقّ العام غائب في اجازة مفتوحة منذ اكثر من عقدين من السنوات.

ومع ان القبلية قد رسّخت موطئ قدم لها منذ تاسيس الدولة العراقية عام /1921 بحيث كان ثلث النواب هم من زعماء القبائل في البرلمان لكن القانون المدني العراقي كان له دور فاعل في تحجيم سطوة العشيرة وأعرافها وتضييق خناقها الاّ في نطاق ضيق جدا حينما تكون بعيدة عن انظار القانون.

بعد انتهاء الملكية في تموز من العام /1958 تم توجيه ضربة قاصمة على النزعة العشائرية وممسكي زمامها من الاقطاع حينما صدر مرسوم جمهوري بالغاء قانون العشائر الذي لم يكن الاّ سلاحا بيد الاقطاع يخيف به الطبقة المسحوقة من الفلاحين الفقراء التابعين لهذه العشيرة او تلك في حالة وصلت الى حد الاستعباد في حقبة الملكية فهذا القانون قد حرّر الانسان من نفوذ رئيس العشيرة والاقطاعي معا ليبقى الانسان محميا مصانا في كنف قانون مدني وضعي سليم لولا ان جاء صدام حسين وتبنّى مجددا العمل بالأطر العشائرية لتكون سندا له ومنعة بعد ان نفخ في رمادها واشعل الجمر مجددا بحيث توقّدت كثيرا وصارت منهجا راسخا حتى انه قام بتنصيب من يراه عونا له وسندا من رعاع القبائل ورذائل رجالها ليكونوا زعماء قبائلهم رغما عن أناس القبيلة وأتباعها سواء من علية القوم او بسطائهم مادام هؤلاء المنتخبون هم من اذيال وخدم السيد القائد الضرورة حتى انه لم يعبأ وقتها بقرار رئيس الجمهورية السابق له احمد حسن البكر الذي منع بموجبه استخدام لقب العشيرة واسمها عندما يذكر اسم المواطن العراقي الثلاثي سواء في السجلات الرسمية او في وسائل الإعلام او اية وثائق اخرى يستلزم فيها ذكر الاسم والاّ يتعرض المخالف الى العقوبة والتغريم في حالات المخالفة.

هكذا وصلت النزعة القبلية والعشائرية الى ذروة تسلّطها وهيمنت على القانون المدني الوضعي حتى بتنا نرى الان مقرات في كل المحلات والاحياء البغدادية بما في ذلك الاحياء الراقية تشير اللافتات الى مقر رابطة عشيرة آل فلان وقبيلة آل فلتان يترعرع فيها زمرة من الرجال المنتفعين ذوي الالسن السليطة والازياء المنتقاة التي تدلّ على المهابة والاعتبار بدءا من العقال العربي الى العباءة وممن تزيّى بازياء رجل الدين واعتمر العمامة السوداء او البيضاء ولبس الجبّة لإضفاء الحشمة والتأثير على الناس السذّج، فهؤلاء يمكن تأجيرهم لفضّ النزاعات بين تلك القبيلة او ذينك العشيرة مقابل مبالغ نقدية لا يستهان بها تبدأ من الديّة ولا تنتهي الاّ بترضية من يسمون انفسهم مشايخ من الذين يتقاضون نسبة محددة من مبلغ الفصل والديّة من الاطراف المتخاصمة ؛ فهذه المكاتب والمقرّات العشائرية لديها من يظهر مثل الحملان الوديعة ويتقمص دور واسطة الخير لاحتواء النزاع وتقريب المتخاصمين لاجل المصالحة بعد فرض كمية المال اللازمة للدفع، وفي حالة عدم التوافق واستحالة تحقيق مآربهم بالطرق السلمية وديّا ؛ فهناك من الفتوّات والبلطجية من امتهن التهديد والوعيد لأخذ المال والفصل بالقوة واستعمال السلاح للحصول على مبتغاهم

ومن المضحكات المبكيات ان هناك تسعيرات محددة لمبلغ الفصل فالقتل العمد تصل ديّته الى مبالغ فلكية بحيث يضطر المبتلي الى بيع بيته لايفائه والاستجداء من بقية افراد القبيلة واحدا واحدا حتى يتم تغطية المبلغ مثلما تكون تسعيرات على الامور الصغيرة بما في ذلك الملاسنة والشتائم والقذع في الكلام والاشتباك بالايدي حتى ضرب الكفّ وكل هذه مثبتة ومدونة كتابة وشفاها في مقرات القبائل ومكاتبها المنتشرة في عموم البلاد.

ولم تسلم مفاصل الدولة من تلك النزعة فهناك مكاتب مؤسسة في اعلى السلطة التنفيذية تعنى بشؤون العشائر يعمل فيها مستشارون برواتب مغرية دائمو الاتصال برؤساء العشائر لتمييع وإضعاف ما بقي من بنود وقواعد ومواد قانون العقوبات المدني ولا تخلو بعض الوزارات المهمة الامنية بالذات من وجود مسؤولين كبار يهتمون ويتولون رعاية وتغذية القانون العشائري ومغازلة رؤوس القبائل أيضا، كل هذا يحدث بالضد من السلطة القضائية لاجل اضعاف دورها الى حد الهزال وتفتيت القوانين المدنية ان بقيت منها ظلال خافتة.

وليس خافيا ان يصل الامر الى مداه المخزي حين يلجأ نواب في البرلمان وهم ممثلو الشعب الى عشائرهم لاجل نصرتهم عندما يتعرضون الى بعض الاذى او الانتقاد بسبب تصريحاتهم ولذا تراهم يستنجدون بقبائلهم لأخذ الفصل من عشيرة الطرف الاخر وكثيرا ما سمعنا ان الناطق الرسمي لتلك الكتلة الحزبية قد اساء القول على مسؤول او عضو من الكتلة الاخرى فيستغل الطرف المُساء اليه الفرصة ليلوذ بقبيلته ويطالبها برفع الحيف عنه وأخذ حقه مالا او اعتذارا فيلجأ " المعتدِي " الى استرضاء " المعتدَى عليه " عن طريق " مشّاية " وهم وجهاء القبيلتين ويجتمعون معا لتحديد قيمة الفصل ومبلغ الاسترضاء وقد يصل نوع الاسترضاء ان يهب الطرف المعتدي بعض نساء القبيلة الى عشيرة الطرف الاخر في عمليات مساومة بشعة وكأن المرأة تباع وتشترى وتقدّم هدية لترضية الطرف المشتكي... وقد خفتت هذه الحالة وكادت ان تنعدم بعد صيحات الاستنكار والاستهجان حتى من افراد القبائل لو تنازعت فيما بينها فصارت تُسام المرأة بقدر معين من المال لتحديد سعر مناسب لها لايفائه بدلا من ان تذهب هي بنفسها مهرا بخسا او مجانيا وتكون ديّة للاخرين.

ولا اعرف كيف ان هؤلاء الساسة والمسؤولين الكبار في الدولة من نواب البرلمان ومن لفّ لفّهم يلجؤون الى قبائلهم طلبا للقوة والمنعة ورفع الحيف عنهم ولا افهم كيف سيبنون دولة ديمقراطية مدنية مثلما يتشدقون بها ويضعون اللبنة الاولى لنظام مدني متحضر طالما هم بهذه الحال من الرثاثة الفكرية والميل السقيم للطائفة والعشيرة ؟؟!

كل ذلك يحصل في بلادي والقانون المدني والمواد القضائية في العقاب والثواب نائمة في سبات عميق فلا استرداد للحقوق ولا معاقبة من يعيثون في القوانين الوضعية فسادا وتعطيلا طالما ان القانون العشائري والأعراف القبلية هي السائدة والانكى انها تتغذّى وتشاع وتنتشر كالوباء بسبب سكوت الدولة وضعفها وارتخاء السلطة القضائية بل وهناك الغالبية من ذوي الشأن في سلطاتنا الثلاث من يعمل على ترسيخها وديمومتها نكاية وإعلانا للحرب على الانظمة القانونية المدنية السليمة وقد لا أغالي لو قلت بملء فمي ان سلطة القبيلة عندنا الان فوق سلطة القانون والمحاكم وجميع مفاصل القضاء ووصل الامر الى اختراق مؤسسات الدولة كلها مما اضعف قوة الهيكل الحكومي والعبث بدستور البلاد الى حد السخرية منه وضرب قانون العقوبات العراقي عرض الحائط والاستهزاء بمواده.

اما المواطن البسيط ممن لا عشيرة له او ممن يستهجن هذه الممارسات في اعماقه وفي قناعاته الفكريّة فمن السهل ان يكون صيدا سهلا وضحية لمكائد مجموعة تتحين الفرص لانتقاء من تختاره للايقاع به كأن تفتعل حادثة دهس مفتعلة في الشارع او افتعال عراك ومن هنا يبدأ الابتزاز وسلب المال والمقاضاة العشائرية فيلجأ الضحية المسكين الى الاستنجاد بقبيلة نافذة لتدافع عنه مما يسمى في العرف العشائري " يذب جِرِش " عسى ان يتم تخليصه واخراجه من المأزق الذي أوقعوه فيه، ومن لا يستجيب عليه ان يغادر بيته ويهرب الى مكان آمن خلاصا منهم، وكم رأينا في احيائنا بيوتا مهجورة كُتب على ابوابها وجدرانها عبارات تشير ان هذا الهارب مطلوب عشائريا.

كم هو حائر هذا المخلوق العراقيّ، تُرى ايّ السهام يتّـقي وبأيّ جدارٍ يحتمي؟؟!، فكلّها جدران آيلة للسقوط على رأسه ولم يبقَ له ملاذٌ الاّ ان يعيش وسط وحوش الغاب ولا أغالي لو قلت ان الوحوش قد تكون أكثر رحمة وحنوّا مما هو فيه ببلاد الفوضى والطيش وموت القانون والشراسة التي كشّرت عن انيابها وبرزت أظفارها من قبل عصابات الجريمة المنظمة المطلقة السراح في مشهد مرعب لم يرَه حتى في أشرطة الرعب السينمائية.

***

جواد غلوم

 

ارتفعت وتيرة الكلام عن سوريا الجديدة. وهل ستأخذ صبغة إسلامية أم محايدة تحترم مؤسسات المجتمع المدني وتتبع الدستور بعد تصويبات تلغي ما طرأ عليه من شذوذ بسبب الحرب، بالإضافة للمفاجآت التي وضعت السلطة في مواقف صعبة.

ولسنا بصدد الكلام عن حنكة أو تهور السلطات في مثل هذه المواقف. كانت ردود أفعال النظام تتسم بقدر كبير من الغموض فيما يخص الدائرة الضيقة للدولة، مع وضوح لا خلاف حوله فيما يخص أحوال المتبقي. وأقصد به كل ما يدور خارج تلك الدائرة الشائكة، وبمزيد من التحديد المقهى السياسي والشارع غير المسيس. وتراوحت النشاطات العامة في سوريا، بعد توالي ثلاث أو أربع جمهوريات، بين النقد الإيجابي، أو بلغة أوضح نقد تبناه الإنسان الاجتماعي المرعوب من واقعه والمصدوم به. وبين النقد السلبي الذي اتخذ عدة أشكال منها الصمت واللامبالاة وعدم الإيمان بما يرى ويسمع. وتطورت من هذا الحال الظاهرة الشعبوية - وشملت أيضا عدة تفريعات، كانت مرجعياتها من جذور متباينة (من أصل اجتماعي أو روحي - وهو غير الدين. بسبب خلوه من الإيمان والإدراك وغلبة عوامل جانبية عليه ومنها العائلة ودين الأب وغير ذلك).

ولكن لنكون عادلين مع أنفسنا لا يمكن أن نتوقع معجزة بحجم ما حصل في أنقرة بعد وصول العدل والتنمية بصيغته الأولى إلى الحكم. فقد كانت سوريا في حالة انفلات أمني وفقر بالمصادر الطبيعية والخدمات. وهي حاليا ممزقة بين ثلاث تبعيات أو أكثر. وخروج الثلاثي روسيا وإيران وحزب الله من المعادلة لم يحسن هذا الحيود. فقد حلت محله تركيا وأمريكا وإسرائيل (لديها نفوذ تضاعف منه الشماتة أو سياسة الأمر الواقع كما هو حال نفوذ نظام صدام في فترة من الفترات. ليس لأنه بعثي وعروبي ولكن نكاية بالحكومة). وأي مقارنة بين الظرف الوجودي السابق والحالي يؤكد أن روسيا لم تيأس تماما من دمشق، وإنما هي بمرحلة مراجعة لحساباتها. فقد كان سقوط النظام السوري ثاني ضربة تتلقاها روسيا على رأسها. أما الأولى فهي العجز المفاجئ في أوكرانيا.

وإذا خذلت أمريكا الحكومة الجديدة، ولم تقدم ما يكفي من العطايا، كما فعلت مع عبد الناصر بعد انقلاب تموز عام 1952، لن يكون أمام السوريين غير العودة للروس. فهم أيضا تخلوا عن الإيديولوجيا الشمولية، وعادوا لمعايير اللغة والحضارة والدين، وكلها رؤوس المثلث الذي ينتظر الانعاش وإعادة الهيكلة في دمشق. وسيكون ذلك على مرحلتين. الأولى، وهي قيد التنفيذ، ولها علاقة بالمؤسسات. والثانية، وهي قيد الدراسة، ولها علاقة بالإنسان وهويته والحدود اللازمة لتربية الأجيال الصاعدة، أو بالأحرى لإنقاذهم من الصدع المرعب والعميق الذي كان بين الكلام والفعل، والشعارات والتنفيذ. وأستبعد أن يكون للروس، في الأجل القريب، الكلمة الأولى. وربما يجب عليهم إجراء تفاهمات مع الراعي التركي - الذي يستعمل مؤسسته العسكرية بنصف طاقاتها تقريبا لضبط حدوده مع سوريا، ولوقف تمدد المشروع الكردي المدعوم من أمريكا. بالإضافة لتفاهمات مع الراعي القطري - الذي يقدم للحكومة السورية الدعم الدبلوماسي والمالي. وبالفعل بدأ الروس باستعمال لغة مختلفة في مخاطبة الوضع السوري، حتى أن لافروف صرح، وحرفيا، بخطأ الرئاسة السورية، حينما رفضت تقاسم السلطة مع المعارضة. ونفهم من ذلك أنه فضل خسارة جزء على خسارة كل شيء.

ولا تخلو هذه الصورة من تقاطعات ومناطق رمادية ونقاط عمياء، وفي مقدمتها الدور الأمريكي الذي يدعم، في كل مكان، الهوية الوطنية، إلا في سوريا والعراق فقد كان داعما لهوية عرقية وقومية. ويعاني موقف الروس من هذا الإشكال. فقد كانوا في سوريا مع إيديولوجيا بنت نصف تحصيناتها ومؤسساتها وفق النموذج السوفييتي الذي يتعرض للتنكيل على أرضه. وعلى الأغلب يعود الاختلاف في أشكال وأساليب الظاهرة الأدبية إلى هذا السبب. فالروس هربوا من الإيديولوجيا إلى عالم تحكمت به التكنولوجيا الحديثة والخيال العلمي والفانتازيا. وبعد رموز مشهورة اختتمت بها الدولة السوفييتية خطابها مثل جينكيز إيتماتوف وفالنتين راسبوتين، وكلاهما من أنصار الواقعية الجديدة، ظهرت أسماء فلاديمير سوروكين وفلاديمير شاروف وفيكتور بيليفين، وكلهم معروفون برؤية قاتمة وفوق طبيعية للمجتمع الروسي، مع التأكيد على دور القوة الخارقة التي تتوفر لأفراد غير عاديين واستثنائيين. وكأنهم يكررون محاولات غربية سابقة - ابتداء من ليني زوماس الأمريكية وحتى نعومي ألديرمان البريطانية. بينما وقف بعيدا عنهم زاخار بريليبين، بنغمته الوجودية والشعرية، المشحونة بشيء غير قليل من حب المغامرة والتفكير بالذات من خارجها (بالمعنى الذي أسس له هايدغر - انظر روايته "سانكا" وهي عمل يدور في إطار دموي. ثم روايته "خطيئة". ومن أهم مواصفاتها الشك بالحاضر وغموض المستقبل. ولذلك جاءت بشكل حبكة ممزقة وزعت حكايتها على مشاهد متجاورة وشخصيات متتالية).

لكن تابع مؤيدو الانتقال السياسي في دمشق مع أشكال الواقعية الجديدة لانتقاد نظامهم، وأحيانا للدعوة إلى الانقلاب عليه، كما فعل نبيل سليمان في أعمال مبكرة عرضته لعقوبات متتالية من مؤسسته الأدبية، بالإضافة لخالد خليفة الذي لم يتردد في اتهام السلطة الأمنية والعسكر وشخص الرئيس نفسه، على الرغم من أنه لم يغادر دمشق إلا لفترة قصيرة. وإذا اتفقنا أن الأدب رؤية موضوعية للتحول السياسي، فهذا يعني أن آلية التحول في موسكو كانت مختلفة تماما عما حصل في دمشق. وبقناعتي شكل ذلك دافعا لدى الروس لتعديل اتفاقاتهم الأمنية مع السوريين قبل التخلي عنهم نهائيا.

وكما ألاحظ تمر منطقة الشرق الأوسط باحتمالات من أسبابها عودة ترامب لأربع سنوات قادمة على الأقل. وهو ليس مجرد رئيس أمريكي آخر، ولكنه يشكل تحديا لماضي حزبه ولوضع الديمقراطيين المهزوز والضعيف والذي قد يؤدي إلى انقسامات ضمنه، كما جرى في حزب العمال البريطاني، بعد خروج عدة كتل يسارية هامة منه. السبب الثاني اقتراب نهاية فترة أردوغان. ولا أحد يضمن إن كان سيخلفه رئيس يؤمن بالحل العسكري أو الدبلوماسي. وفي واقع الحال طوق النجاة الذي تقدمه تركيا لجيرانها ينقصه الوضوح. فالصورة الراهنة لديهم لا ينقصها النوستالجيا لسياسة أتاتورك – "أبو" الأتراك، أو الديكتاتور الذي أنهى عدة قرون من الإمبراطورية العثمانية، واتخذ إجراءات حاسمة للقطيعة مع الماضي. ولكنها نوستالجيا لا تصل لدرجة ثورة وتكتفي بإصلاحات تعيد قراءة المجتمع بناء على مخزونه الروحي، وهو الدين والدولة. ولذلك إن نجونا من اندلاع حرب عالمية محدودة لن ننجو من الرهانات على ما تبقى من الحرس القديم في عموم الشرق الأوسط.

***

د. صالح الرزوق

 

يُعاني المجتمع الشيعي خللاً بنيوياً واضحاً في طبيعة التعاطي مع مُفهوم النُخبة، هذا الخللُ يتجسّد في طبيعة الجهاز الواصف للمفهوم والخيارات المُتبنّاة من قبل المجتمع الشيعي تجاه هذا المفهوم والمصاديق التي تُعبّر عنه، تاريخياً، احتكرَ رجل الدين الشيعي التعاطي الكُلياني مع نشوء مفهوم الدولة في العراق بمعناها الحديث، ورغم أن مفهوم رجل الدين بحدّ ذاته بحاجة إلى مراجعةٍ منهجيّةٍ حقيقيةٍ بوصفه مفهوماً دخيلاً على معجم المنظومة الفقهية وعلوم الشريعة إذ لم يرِدْ في الأدبيات الحديثية عند فرق المسلمين، غير أنّه بثّ دلالات مشحونة اكتسبت قيمتها بغياب الخطّ الموازي القائم على المراجعة والتساؤل، ليغدو رجل الدين بنزوع استعادي قائم على تراث المقدّس من جهة، وبصياغة استبعادية لكلِّ صوتٍ يحاول إعادة صياغة العلاقة بين اللاهوتي والحياتي على نحوٍ يعكسُ طبيعة و وظيفة وقدرات كلّ مسار على حِده، لذا، نجد أن التعاطي الشيعي مع صياغة الأُطر التأسيسية الناظمة لكيان الدولة لم يكنْ عن طريق النخب التي تنتمي إلى الحقل الذي يُمارس دوره بحسب المرجعيات المعرفية المُتصلة مع بدايات هذا التأسيس، وإنما جرى التعاطي معها باحتكار رجل الدين لمفهوم النُخبة ودورها في كيفية هذا التعاطي، يتجلّى ذلك بوضوح في الممارسة السياسية البِكر بعد عام 1921 التي تخصّ المراجع الثلاثة الكبار وموقفهم من انتخابات المجلس التأسيسي عام 1922، لستُ بصددِ تقييم هذا الموقف وبيان جدواه من عدمها، ما يهمُّني تحديدا هو الكشف عن غياب تمثيل نخبوي حقيقي للمجتمع الشيعي للتعاطي مع القضايا الوطنية الكبرى بعيداً عن رجل الدين، ليغدوا هذا الموقف مساراً ثابتاً جيّره رجل الدين في احتكار القرار والتعاطي مع هذه القضايا وإن كان بحكم الواقع والتجربة غير قادر على الإلمام بطبيعتها الكليّة فضلاً عن تفاصيلها الدقيقة. رسم هذان الخطاّن: احتكار رجل الدين لمفهوم النخبة وتمثيلها في أدبيات المجتمع الشيعي من جهة، وايمان هذا المجتمع اليقيني الذي يرقى إلى مستوى العقيدة بصوابية خيارات رجل الدين وتعاطيه مع القضايا المصيرية الكبرى على الرغم من افتقاده إلى الأُسس الضرورية لهذا التعاطي بحكم غياب التخصّص من جهةٍ أخرى، مثلاّ المسار الذي استدعته الطبقة السياسية الشيعية في رسم سياسات ما بعد 2003 للتعاطي مع مفهوم الدولة وملفاتها المتشابكة، مع بزوغ نزعة عدائية ذات طبيعة إقصائية في رسم العلاقة مع النخبة بشكلٍ عام والنُخبة الشيعية على نحوِ الخصوص، ساعدَ على ذلك التراكم التاريخي المتمثل في معارضة السلطة على طول الخط والتي حمل لوائها رجال الدين عِبرَ حقب زمنية طويلة، هذه النزعة الاحتكارية للتمثيل النخبوي للمجتمع الشيعي من قبل رجل الدين وما اختزنته من نزوع استبعادي للآخر تُمثّل –فيما أعتقد- السبب الرئيس لهذا المأزق الرهيب الذي أوصل البلد إلى حافة الهاوية، فبدلاً من قيام المجتمع الشيعي بكسر هذه النزعة الاحتكارية لهذا التمثيل المخطوف من جهة وغياب الفاعل النخبوي ونكوصه ويأسه وخوفه وترقبه من جهة أخرى، وقدرة رجل الدين في الحفاظ على موقعه والتحذير الممزوج بالتخويف على مستقبل الطائفة التي احتكر تمثيلها واختزالها بذاته، رغم كلّ هذا وما شايعه من صيروراتٍ حياتية لامستْ واقع الحياتي والديني على نحو سواء، نجدُ أنّ هذا المجتمع وطبقته السياسية تهرعُ إلى غير المختص في كلّ أزمةٍ بدلاً من الذهاب إلى الحقل العلمي الذي يكشفُ عن أسباب الأزمة وطرائق حلّها إن وُجدتْ!

***

د. مؤيد آل صوينت – كاتب أكاديمي

 

لم نكتب، تحت هذا العنوان، بطراً ولا ترفاً، ولا ضيقاً بالمواضيع، إنَّما لكشف زيفٍ استمر لقرون، وما زال يتداوله المُغرضون وسليمو النَّوايا، على حدٍّ سواء، فالاستحواذ عادة يُهيأ له بتزوير الأسماء، أسماء النَّاس والمدن والبلدان، هذا ما تعرضت وتتعرض له «بغداد»، بتلفيق معنى اسمها في العهد البويهيّ (348-448 هـ)، حتَّى صار التلفيق حقيقةً، وكم مِن ملفقات أزحن الصّحيحات، لكن قيل لا يبقى إلا الصحيح. فمَن هو «الخصيّ» الذي أهدي لكسرى كي يهديه الأخير بغداد، لتصبح «البغ داد»، عطية الصّنم؟

كانت بغداد قبل بنائها «مزرعةً للبغداديين، يُقال لها المباركة» (الطَّبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، وعن بابليتها، يقول ابن رسته (تـ: بعد 300 هـ)، وهو بلداني فارسيّ، لكنه مات قبل السلطنة البويهيَّة: «بغداد وبغدادذ، اسم موضع، كانت في تلك البقعة، مِن قَبلُ زعموا أنه كان موضوعاً للأوثان والأصنام في الدهر القديم، وهي أرض بابل» (الأعلاق النفيسة).

كذلك ذكر علي ظريف الأعظميّ (1882-1958): «أثبتت الكُتب التّاريخيَّة الصّحيحة، المستندة إلى الآثار المكتشفة حديثاً في بغداد وأطرافها، أنَّ هذه المدينة، مِن المدن الكلدانيَّة القديمة العهد، وكانت عامرة قبل الميلاد بنحو ألفي سنة، وقد أيدت ذلك الكتابة المنقوشة، على كثير مِن الآجر القديم، اسمها (بل دودو)، وعلى بعضه بغدادو، أو بغدانو، ومعنى (بل دودو) مدينة الإله في لغة السّريانيين الكلدان، والظاهر أنَّ هذه الكلمة صُحفت على توالي الأعوام والقرون إلى بغداد؛ وقد أخطأ مَن زعم أنَّ لفظة بغداد فارسيَّة» (مختصر تاريخ بغداد).

يؤيد ذلك العالمان كوركيس عواد (تـ: 1992) وبشير فرنسيس (تـ: 1994): «أظهرت الدّراسات الأثريَّة، أنَّ مثل هذا الاسم قد ورد في الكتابات المسماريَّة القديمة؛ التي ترجع إلى العصرين البابليّ والآشوريّ بصورة بغدادو، وبغدادى، وبكدادو» (مجلة سومر، أصول أسماء المدن العِراقيَّة).

ما يخص اسم بغداد الملفق، عند القدماء، كتب الخطيب البغداديّ (تـ: 463 هـ): «إنما سميت بغداد بالفُرس، لأنه أهدي لكسرى خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لهم صنم يعبدونه بالمشرق يقال له: البغ. فقال بغ داد. يقول: أعطاني الصَّنم (تاريخ مدينة السَّلام). كذلك جاء عند ياقوت الحموي (تـ: 626 هـ)». وقال حمزة بن الحسن.. ويُكمل الرواية نفسها (معجم البلدان).

لكن مِن أين دخل هذا «التفريس» على اسم بغداد، وقد أصبحت عاصمة الدُّنيا؟ ولم يقل به اليعقوبيّ (تـ: 292 هـ) في«البلدان»، ولا الطّبريّ (تـ: 310 هـ) في تاريخه، ولا غيرهما قبل القرن الرابع الهجري، حيث الحُكم البويهيّ. قال به اثنان مِن الكُتاب الفُرس، حمزة بن الحسن الأصفهاني (تـ: 360 هـ)، وابن الفقيه الهمذاني (تـ: 365 هـ) في كتابه «البلدان».

قال أبو الرّيحان البيرونيّ (تـ: 440هـ) في عصبية الأصفهانيّ؛ وهو يتحدث عن أسماء الشهور:« كلٌّ يعمل على شاكلته، وكلّ حزب بما لديهم فرحون... ولمثل هذا تَعرَّض حمزة بن الحسن الأصفهانيّ، في رسالته عن النَّيروز، حيث تعصب للفرس، في عملهم في سنة الشَّمس...» (الآثار الباقيَّة). مَن يقرأ كتب البيرونيّ، سيجده ضد التعصب الشّعوبي، أو الديني، فكان عينة مبكرة مِن التَّسامح، فليس غريبة عليه هذه الملاحظة.

كما ذكر الحموي الأصفهاني قائلاً: «وكان مع ذلك رفيعاً ناقص العقل، غير ثبت، ولم يُعرف في عصره أعرف منه بالفارسيَّة» (معجم الأدباء)، وهو الذي نقل عنه الحموي، وأشار إليه بالحمزة بن الحسن.

أمَّا عن ترهات هذه الرّواية، فليس مِن عاقل يعقلها، بأنَّ الصين أو الهند تهدي لكسرى خصياً، ليعطيه بغداد بقراها وبساتينها هديةً، وأنَّ اسمه «البغ» و«داد» أعطى، فيكون المعنى «الصّنم أعطانيّ»، غير أن ملفقي اليوم أخذوا يتشبثون بهذه النسبة، ليس جهلاً وإنما قصداً، كي يظهروا العراق بستاناً لغير العراقيين، ومع اختلافهم بكلِّ شيء، لكنهم متفقون في مزيفات حمزة الأصفهاني وابن الفقيه الهمذانيّ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

هل يمكن إبطال مقولة "لا يصلح العطّار ما أفسده الدّهر"؟

(الحِوَارُ بات حتمية لمعرفة الآخر وفَهْمِهِ)

سؤال وجب اليوم أن يطرح وبشدة وهو لماذا يرفض الحكام الحوار مع المعارضة، وكأن الأنظمة الحاكمة والمستبدة ما تزال تطبق على معارضيها ذهنية: " أسكت يا ولد"، كما ترى المثقفين والمفكرين بأنهم ما زالوا صغارًا على اللعب السياسي، أليست المبادرات الفكرية تأتي عن طريق الحوار؟ المشكلة كما يري البعض تتعلق بالخطاب، هناك ما يسمي بخطاب السّيف القائم علي التهديد والترهيب والوعيد وهناك خطاب لم يتحرر من الديماغوجية والكذب السياسي وقمع الحريات الفردية وحرية التعبير، عاشت الأمة تجربة قاسية جدا بسبب تدهور المناخ الفكري سمّاها برهان غليون بـ: "اغتيال العقل" بسبب ضيق الأفق واليأس والقنوط من كل تغيير، فاين المشكلة إذن؟ هل هي في المثقف الذي يجب عليه أن ينفض عنه وعن أمته الغبار؟ أم في رجل السياسة الذي يجب ان يتحرر من الذيلية ومن القابلية للاستعمار؟

لم تعد قراءة التاريخ قراءة فاحصة، وهي قراءة تتصل بالهوية، فجميع الدول وبالخصوص العربية منها محاصرة اليوم بعدة عقد، أخطرها عقدة التعايش مع الآخر والتحاور معه لإحداث السلام، حتى أحزابها ومثقفيها لم يتناولوا بالتشريح الأسباب التي أدت إلى تأخرهم عن الركب الحضاري في الوقت الذي سيطرت فيه بلدان أوروبية على منافذ البحر الأبيض المتوسط، إن التعنت الفكري وراء الأحداث الذي عاشتها بعض الدول التي حولت الخلاف "من الرأس إلى اليد" عندما تفرق أبناء البلد الواحد وانقسم كل طرف إلى مهاجم ومدافع في أن واحد مثلما حدث في الجزائر و تونس ومصر و ليبيا والعراق وسوريا التي ما تزال تعيش الصراعات بعد أن أكاحت بالنظام الدكتاتوري الذي أحدثه بشار الأسد، نشب الاقتتال ودبّت الفرقة، وتقطعت اللحمة، بحيث لم يعد أي خيط يربط بينهم، إن التعددية الفكرية لم تخلق حالة حوارية عقلانية كما يقول بعض المفكرين، الذين يرون أن الاختلاف سُنّةٌ، وجعلوا من الحوار علاجًا للتخلص من الأزمات، بل أصبحوا يؤمنون بأن التغيير أمر في حكم المستحيل، من أجل أن يظل الحال على ما هو عليه، يقول المؤرخ الجزائر محمد الميلي رحمه الله: "من الخطأ أن نتصور بأن ظواهر التطرف والإرهاب التي يعرفها هذا البلد أو ذاك، ناتجة فقط عن التحولات الداخلية للبلد المعني، بل إنها شديدة الصلة أيضا بالشمولية العالمية التي تؤدي إلى القضاء على الهويات، ومن ثم الانفصال عن التاريخ أو فك الارتباط به".

لقد وضع المؤرخ الجزائري محمد الميلي المثقف العربي على طاولة التشريح، ذلك المثقف الذي تعرض لنار مزدوجة: " سوط الحاكم وتكفير المفتي"، هذه النار أوقفت كل مبادرة فكرية للتجاوب مع المتغيرات، فأصبح المثقف والمفكر يلوذان بالصمت أو يسايران نفاقا ما يقوله علماء البلاط والمفتون، في حين لم بتغير شيء، يفهم من كلامه أنه يُحَمِّلُ "المثقف العربي " مسؤولية ما يحدث بعد أن وضعه على طاولة التشريح، ذلك المثقف الذي تعرض لنار مزدوجة: " سوط الحاكم وتكفير المفتي"، هذه النار أوقفت كل مبادرة فكرية للتجاوب مع المتغيرات، فأصبح المثقف والمفكر يلوذان بالصمت أو يسايران نفاقا ما يقوله علماء البلاط والمفتون (أصحاب الفتاوي)، والدليل على ذلك نجد الأحزاب القوية اليوم ومع بداية السنة الجديدة (2025) تغرق سفينتها وقواعدها النضالية في حركات احتجاجية كما يحدث الأن في الجزائر وانتفاضة المعارضة داخل الحزب الحاكم في البلاد "جبهة التحرير الوطني" ومطالبة أمينه العام بالرحيل، وكذلك ما يحدث في تونس وفي البلاد الأخرى كسوريا، وتعنت السلطة تجاه الإسلاميين ومحاصرتهم والتضييق عليهم واعتقالهم، فقد ظلت بعض الدول تعاني من حالة احتراب داخلي ناشبة بين السلطات الحاكمة التي لا تريد التخلي عن كراسيها وسلطانها، لذلك فهي تسلك العنف سبيلا إليه، فتشعرهم بالضياع والعبثية وانسداد الأفق، ولعل ما يحدث الآن من تمرد شباني ومواقف الرفض وتصاعد حركات التطرف والتعصب الديني والسياسي سببه انهيار النظم، التي كانت سببا في تراجع مؤشر الثقة في كل المؤسسات وتراجع الضمائر بدورها كلما وقفت متفرجة على ما يحدث من أزمات، والتي تضع العالم كله أمام أخطار شاملة.

الحِوَارُ بات حتمية لمعرفة الآخر وفَهْمِهِ

ما يمكن استنتاجه هو أن الإرهاب ما زال يحصد أرواح البشر، وقضايا تتعلق بالتعذيب، ولكن لنتساءل من وراء تحريك رياح العنف ومعظم الإسلاميين اليوم هم داخل السجون والمعتقلات؟، سواء في تونس أو في الجزائر، فمسلسل الاعتقالات في الجزائر متواصل وهناك معتقلين داخل السجون لمدة تزيد عن 32 سنة مسّت شريحة واسعة من النشطاء السياسيين وأصحاب الرأي، بعضهم اليوم مضربون عن الطعام وحتي الإعلاميين مستهم عمليات القمع من قبل السلطة، وفي تونس قادة أحزاب لا زالوا يقبعون وراء القضبان الحديدية (راشد الغنوشي وأنصاره) وحركات احتجاجية هنا وهناك تزامنا مع الذكرى الـ: 14 للثورة التونسية وأخرون في البلاد الأخرى، وعن ماذا نتحدث؟ هل نتكلم عن الإرهاب المسلح؟ أم الإرهاب الفكري؟ وهل نتكلم عن السلم أم نتحدث السلم المسلح؟ ومن هم المجرمون الحقيقيون الذين يخططون لقتل الأبرياء وتدمير العقول المفكرة؟، فالأنظمة التي وضعت المفكر والمثقف جانبا وفي آخر الصفوف، تخشى اليوم حتى من اتصالها بالأخر وكيفية التواصل معه، أي ممارسة "الحوار" مع الآخر والاعتراف به كمحاور، بل تقف معه " ندًّا للنَدّ " رغم ما يكون بينهما من اختلاف ومغايرة، هذان العنصران (الاختلاف والمغايرة) كما يقول محمد الميلي هما اللذان يبرزان أهمية حوار طرف مع آخر، فكونه مغايرا للآخر، هو الذي يجعله يسهم في تشكيل الآخر ويحرره من كل اشكال الهيمنة ومن ثمّ يخرج بحل جديد وممكن.

المثقف وحتى السياسي اليوم يبحث عن طريقة تخلصه من مُرَكَّبِ النقص ليعيد صياغة التاريخ ورواسبه، ويعيد النظر في المكونات الأساسية للهوية، من ثمّ يعيد النظر في ذاته، ويحاول كيف يحررها ويستعيدها من جديد بعد أن يتخلص من التبعية والذيلية وكذلك دراسة الواقع من كل الزوايا (الجيوسياسية، الثقافية، الإجتماعية والإقتصادية)، حتى يتمكن من تغيير قانون الغاب الذي فرضته السلطة والأنظمة الاستبدادية التي أفقرت شعوب العالم وتركت التصحر يجتاح ربوعها الخضراء فاقتلعت أشجارها وعاثت فيها فسادا، ومنها النظام السوري وما أحدثه بشار الأسد من فساد وقمع، والشعب اليوم يعمل على ترقيع ما تم تخريبه، وإزالة بقايا الردم والانهيار الذي لحق بالبلاد، ورسم خريطة جديدة لنهوض سوريا واستعادة مجدها الذي عرفته في العقود الماضية، وإعادته إلى ما كان عليه، في محاولة منها إبطال مقولة: " لا يصلح العطار ما أفسده الدهر" ويمكن القول أن الانحطاط السياسي الذي بلغته الأنظمة العربية، وما ينتظرها اليوم من ضرورة تصحيح ما يمكن تصحيحه، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه يجعل المهمة صعبة وشاقة وهي بحاجة إلى نَفَسٍ طويل، ونقف هنا مع برهان غليون بأن الأزمة أعمق من ذلك، وهي ليست مرتبطة بزعيم ما أو نظام معين، فانحباس كل تقدم اجتماعي وسياس هو أكبر دليل علي أن الأزمة تتجاوز السطح إلى العمق.

إذن، لاشك أن الحِوَارُ ضروري لمعرفة الآخر وفهمه، طالما يوجد اختلاف بين الطرفين، فكرا وإيديولوجية ومذهبا وعقيدة، كما أن الحوار ضروري بغية الاستفادة مما لديه من أفكار وتجارب تساعد في تحقيق التعايش، وتغيير الواقع وتحويله للاتجاه الذي يرضي الجميع ويحقق المصلحة العامة، مشكلتنا نحن المسلمون أننا لا نقبل بالحوار، لأننا ننظر للآخر بنصف عين، ونعتقد أنه أقل منّا مرتبة، فوقفنا جامدين أمام التحولات التي يشهدها العالم، إن التعصب الفكري والعقائدي وحده يولد الخلافات بين البشر ويقود إلى انقسامات فيما بينهم، ليس بين مجتمع مسلم وآخر غير مسلم، بل حتى بين المسلمين أنفسهم، إن حاجة الفكر اليوم كما يقول برهان غليون إلي أن يعيد فحص مفاهيمه كخطوة أولي علي طريق إعادة ـاسيس نفسه كفكر فاعل وإيجابي، اي انه لا يستثني حقبة من حقب تاريخه فلا يمحوها كما يفعل "الانقلابين"، هكذا يمكن لهذا الفكر أن يتجاوز زمن الفتن والحروب.

***

ورقة علجية عيش - الجزائر

كتبت قبل اسابيع مقالا بعنوان: نحو حركة تحرر وطني وقومي ثورية، حاولت ان اقرا الواقع الوطني والقومي في الوطن العربي ومحيطه الاسلامي، وذكرت فيه ان "الصراع الدموي القائم الان في فلسطين المحتلة بين مقاومة الشعب الفلسطيني وقوات قاعدة الاحتلال الاستيطاني الاستعماري يوضح ابعاد الصراع المحلي والإقليمي والدولي، ويكشف عن تحولات في طبيعة الحرب والعدوان وقوى المجابهة والمقاومة لاشرس مواجهات ومخططات ومصالح دولية وتوجهات تدمير وتخريب المنطقة ومن ياتي بعدها، داخلها بالتسلسل او بالتقارب الجغراسياسي، ويعكس ابعاد الهيمنة والمشاريع الراسمالية والدول الامبريالية التي فضح الطوفان ماهيتها ووسائلها وخداعها الاستراتيجي. وللاسف انعكست تطورات هذا الامر سلبا او تفشت ضعفا او غياب وعي في صورة الواقع السياسي والفكري العربي والاسلامي، في اغلب التيارات والاتجاهات والاحزاب والمنظمات وتعبيراتها الطبقية والاجتماعية، وبرز منه الى السطح بشكل كارثي لا يخدم الاهداف والمناهج التي اقتنع بها وانتج الايمان والنضال تحت شعاراتها وبرامجها وحتى رموزها التي وقع في خطيئة تقديسها والابتعاد عن حقيقة التطورات الجارية والمتطلبات الضرورية للتحرر والتنوير. وهو ما يتوجب تحميل المسؤولية عنها ونقدها بموضوعية ووعي ديمقراطي للخروج من تجربتها القاسية والمرة التي ادت إلى الوصول الى هذه المرحلة الحرجة".

وختمت المقال بمقولة معروفة، "هنا الوردة فلترقص هنا" بما لها من دلالات مهمة لمضمونه، والتي وردت في استخدام معبر عن روح التحدي والتحرك من اجل الانتصار والتغيير، والبرهان عليه. وكانت قد نسبت الى عدد من المفكرين، واستخدمها عدد اخر من المثقفين والادباء، ومنهم من وضعها عنوانا لانتاجه الثقافي، او شعارات الحراك الشعبي الغاضب، وبعد استخدامها من قبل كارل ماركس في كتابه، "الثامن عشر من بروميير"، نسبت اليه وهدفه منها، كما نقلت عن استخدام جورج فيلهلم فريدريش هيجل لها، وقصتها الاغريقية واختبار رجل ادعى قفزه من صخرة عالية في رودس، الجزيرة اليونانية التي يقال إن معناها، الوردة، واستخدم العبارة المعروفة بتحريرها المعروف، هنا رودس، الوردة، فلتقفز هنا، الى ما عرفت به، وشاعت "هنا الوردة فلترقص هنا" كما كتبها هيجل في مقدمة كتابه "فلسفة الحق". والمقصود منها، كما اوردها من استخدمها لتحريك الواقع والثورة عليه، والانطلاق منه لتجسيد حركة التحرر والتغيير وبناء الحاضر والمستقبل بوعي وادراك ومسؤولية تأريخية.

نعود الى ما بدأناه، بالأسئلة، لماذا هذا الواقع العربي والاسلامي المخيب للامال؟، وما هذه الحالة التي وصلنا اليها؟، وتكشفت الان بهذه الصورة المحزنة؟، وهل نستطيع ان نغيرها ونستعيد امكانات التغيير والتقدم للامة ونستثمر في توجيه تحولاتها؟. وكنا نعيش ملحمة تاريخية، من خلال عنوانها "طوفان الاقصى" والاسناد الشجاع له من محور واسع رفع شعارات التحرر الوطني والقومي من منطلقات اسلامية تحررية ودعم مباشر من الجمهورية الاسلامية في ايران، فماذا حصل ولماذا؟، اليس من المتوقع ان يكون رد العدو الصهيو امبريالي بهذه الممارسة الاجرامية الوحشية، وما الجديد فيها؟. صحيح .. فتحت ابواب الجحيم، وظهرت الامبريالية والرأسمالية العالمية بوجهها الحقيقي في الانتقام واستخدام القوة العسكرية الفتاكة بافراط مفتوح، فقد دمرت قطاع غزة وحوّلته الى انقاض، كمعيار للاحتلال والتهجير والابادة الجماعية، وامتدت الى مناطق اخرى من جمهورية لبنان وبعدها عمليات واسعة داخل حدود الجمهورية العربية السورية، وهددت وارعدت وقد تواصل نهجها العدواني النازفاشي (النازي- الفاشي) الى خارجها بدعم واضح وصمت جارح.

خلال تلك الفترة، من بعد السابع من اكتوبر 2023، تعرض الوطن العربي والامة العربية والاسلامية، الى حالة من الذهول والانكار والتفرج على العدوان والمجازر النازفاشية. وكشفت الايام تخاذلا عربيا رسميا وتواطؤا مذلا، حتى في بيانات اجتماعات قمم شكلية. سميت بقمم عربية او اسلامية، لا فرق بينها، ونطقت بفضيحة التخاذل والمشاركة والخنوع بالتخادم للمخططات والمشاريع الصهيو امبريالية. واستعملت حتى وسائل الاعلام المختلفة في التضليل والتشويه والخداع وخيانة شرف المهنة. فما مسؤولية الظروف الموضوعية والذاتية فيها، وكيف نفعّلها بعد كل ما جرى وحدث ومازال بعضه مستمرا، بل ان بعضه صار اخطر مما كان عليه؟. 

اذا كانت الظروف الموضوعية، وصفاتها، وانعكاساتها المؤسفة، تعكس طبيعة الاحتلال الشامل للوطن العربي، باشكال مختلفة ومتلونة، وتعبر عنها الحالة الظاهرة للعيان، التخادم والتخاذل والتواطؤ والارتهان المصيري بين القيادات الرسمية والعدوان الصهيو امبريالي، الذي يمارس خططه في تسمين قاعدته الإستراتيجية العسكرية وتوسيع مراكزه وتصعيد ارهابه ومجازره، وتحويل نفوذه الى واقع متوافق عليه، يعمق من ازمة التبعية وتشابك صراعات التخلف والنهب والاحتكار والتباينات البينية، معريا احتلال الارض وخيراتها المادية، جهارا نهارا، ومقررا عبر نفوذه وهيمنته سياسات الحكم والتعامل مع الاحتلال بروح الامر الواقع، قبول الاحتلال للوطن والثروات والانسان، ثقافة وممارسة، شراء وتقبلا، واجراءات وامتيازات تكرس التفاوت بين الطبقات والفئات الاجتماعية، وتأسس قواعد استسلام للاستبداد والطغيان والفساد وكي الوعي وغسل الادمغة. واستمرت في تهيئة واعداد ما تسعى اليه وتطلبه، قبل الطوفان وبعده، من مساع لتصفية القضية الفلسطينية وحقوق ألشعب الفلسطيني وخنق الشعوب التي دعمتها او ناضلت معها ومن اجلها.

بعد هذه الاشارات السريعة عن الظروف الموضوعية، ما هي الظروف الذاتية وما هو دورها ومهماتها العملية في تلك الظروف المحيطة بها؟ والتي ينظر اليها مباشرة، كقوى ومنظمات واحزاب وتيارات فاعلة ومؤثرة في المجتمعات والاوطان. ولعل السؤال او الأسئلة الراهنة كيف تقوم هذه المؤسسات الجماهيرية بدورها في التصدي لحالة الانهيار وواقع الخذلان والرهانات الاستعمارية التي تكبد الشعب العربي في الوطن العربي، كموقع متقدم امامها، وتدفع الى التخادم بين القوى الرجعية والطغاة العرب والمسلمين مع القوى الإمبريالية المتنفذة في المشهد السياسي والعملي اليوم؟!. ولهذا الامر استخدمت المقولة المعروفة، التي سبق ذكرها، بدلالاتها ومعانيها ومفهومها الثوري والحركي والمحفز لاخذ زمام المبادرة والتحرك الفعال للتغلب على التحديات الكبيرة والصعوبات الكثيرة والمواجهات المطلوبة، فهذا هو الفعل المباشر لمثل هذه الوقائع اليومية.

ما تنقله الفضائيات مباشرة عما يحصل في قطاع غزة وجنوب لبنان وشرقه والان في الاراضي السورية، من ممارسات نازفاشية، وابادة جماعية وتطهير عرقي وتدمير مبرمج للمدن وجعلها غير صالحة للسكن، والمؤسسات والمنشآت العسكرية وغيرها من الممارسات تتطلب من كل انسان ذي ضمير ان لا يصمت متفرجا، ومن القوى والتيارات الفاعلة ان توحد جهودها وتطور وعيها وان تجتهد في مواقفها العملية بكل اشكال الكفاح من اجل تحقيق مهمات التحرر الوطني والتغيير الثوري. وهو الامر الذي يضع هذه القوى والتيارات حية في واجهة المشهد والتاريخ ويعيدها الى تاريخها الوطني في البناء والنضال الحقيقي ضد الامبريالية والرجعية والاحتلال والاستبداد والفساد والخيانات الغادرة.

لا حلاً امام الشعوب العربية والاسلامية اليوم بعد كل ما يحصل في منطقتنا من دمار وخراب ودماء وقتل وفظاعات تشكل وصمة عار تفضح دعاة القيم الإنسانية والديمقراطية وحقوق الانسان من حكومات الغرب عموما، لا حلا الا في الصمود ورد الاعتبار بالمقاومة والمجابهة لها، فان الصمت عار وان التفرج على الدماء يوصل الى المثل المعروف ايضا، "اكلت يوم اكل الثور الابيض"، وان الوقائع القائمة اكبر دليل وبرهان. ولعل معرفتها تدفع الى برمجة مهمات الكفاح الوطني، والبدء بها، حتى ولو بالتدرج وباعمال حركية جماهيرية تساعد على فتح السبل الى التحرر الوطني والقومي. فما حصل في تونس والاردن، مثلا وفي هذه الظروف المربكة، من محاصرة المتظاهرين لمباني السفارة الامريكية في تونس العاصمة وعَمان، والمطالبة باغلاقها وطرد السفراء واجهزة التجسس ووسائلها الإجرامية، يرسم خطوات اولية، لخطوات متتالية ومتوازية، لطرد اوكار الشر الامبريالية من وطننا الكبير، ولابد ان يصبح هذا النضال التحرري مستمرا ومتواصلا في كل البلدان العربية والإسلامية، في البداية كمرحلة أولى ضد السياسات الصهيو امبريالية، ومن ثم يتابع انطلاقها في العالم، حيث احرار العالم يشاركون في التظاهر والاحتجاجات الغاضبة، ورفع الشعارات والرموز التي تعتبرها حكوماتهم ممنوعة في قوانينها وسياساتها، بينما يتحدى هؤلاء الاحرار ذلك ويخرجون باستمرار في مظاهرات شعبية كبيرة ومعبرة عن صحوة عالمية، تدين الحروب والعدوان والاحتلال والإبادة البشرية. ولابد معها العمل على تصعيد الكفاح التحرري والبناء الوطني والقومي والانساني، سوية والى الامام، في التخلص بكل اشكال الكفاح من الطغيان والاستبداد والاستغلال والفساد والظلم والاضطهاد والقمع والعبودية المركبة.

دون ذلك فإن التاريخ لا يرحم وابوابه لا تفتح دائما الا لمن يثبت نفسه ويسجل صفحاته المعهودة في التحرر والتغيير والتقدم. فاما ان تكون معرفا في التاريخ ويسجل لك صفحتك، او خارجه، وتلك كارثة ترميك في النسيان وخيبة الامال. ولعل ما شهد به التاريخ العربي من بطولات وصفحات مجد وشهامة وتضحية واقدام هي الابرز والاشرف والاكرم.

***

كاظم الموسوي

 

يُعد المجتمع أحد العوامل الأساسية في نجاح عملية إعادة تأهيل المفرج عنهم، حيث يتطلب الأمر تضافر جهود الجميع لدعم هذه الفئة وضمان اندماجها الفعّال في المجتمع بعد قضاء فترة العقوبة. فالمجتمع الذي يمتلك وعيًا كافيًا ويدرك أهمية إعادة تأهيل هؤلاء الأفراد يكون أكثر استعدادًا لتقديم الدعم والمساندة، مما يساهم في خلق بيئة أكثر تقبلًا وأقل تمييزًا.

أحد الجوانب المهمة في هذا السياق هو تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية تقبل المفرج عنهم. في العديد من الحالات، يواجه هؤلاء الأشخاص تحديات كبيرة تتعلق بالوصمة الاجتماعية التي تلاحقهم بعد الخروج من السجن، مما قد يعرقل جهودهم في إعادة بناء حياتهم. لذلك، يُعد نشر الوعي حول قضايا المفرج عنهم ضروريًا لتحفيز المجتمع على تجاوز الصور النمطية والمساهمة في تقبلهم بشكل إيجابي وداعم.

يمكن للوعي المجتمعي أن ينعكس في ممارسات ملموسة، مثل تأييد حقوق المفرج عنهم في الحصول على فرص عمل ودعمهم في تأمين مسكن مناسب. كما ينبغي على المجتمع أن يدرك أن هؤلاء الأفراد بحاجة إلى فرص حقيقية لإعادة بناء حياتهم بعيدًا عن السلوكيات الإجرامية، مما يعزز فرصهم في التصحيح والاندماج الاجتماعي.

تشجيع المجتمع على المشاركة في جهود إعادة الإدماج يُعد من الركائز الأساسية لضمان نجاح عملية التأهيل. في الواقع، لا يقتصر دور المجتمع على تقبل المفرج عنهم، بل يمتد إلى المشاركة الفعّالة في مساعدتهم على تجاوز التحديات التي قد يواجهونها. ويمكن للمجتمع أن يقدم الدعم من خلال البرامج الاجتماعية والنفسية التي تهدف إلى تحسين مهارات المفرج عنهم الحياتية والاجتماعية، مما يسهم في تعزيز فرصهم للاندماج الإيجابي المستدام.

تلعب مؤسسات المجتمع المدني دورًا كبيرًا في هذا السياق. من خلال برامج دعم موجهة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية، يمكن للمنظمات غير الحكومية أن توفر الموارد اللازمة للمفرج عنهم، مثل التدريب المهني، المساعدة في البحث عن عمل، ودعم التعليم. تسهم هذه المبادرات في مساعدة المفرج عنهم على اكتساب مهارات جديدة تعزز إدماجهم الاقتصادي والاجتماعي. 

يُعد الدعم النفسي والاجتماعي أحد المجالات الهامة التي يحتاج فيها المفرج عنهم إلى مساندة المجتمع. فالمفرج عنهم غالبًا ما يكونون أكثر عرضة للمعاناة من القلق والاكتئاب نتيجة فترة السجن الطويلة والعزلة الاجتماعية التي مروا بها. ويمكن للمجتمع تقديم دعم معنوي من خلال حملات توعية وأحداث تفاعلية تهدف إلى تخفيف العبء النفسي عنهم، مما يعزز شعورهم بالانتماء للمجتمع ويقلل من إحساسهم بالاستبعاد.

يمكن أن تشمل المشاركة المجتمعية أيضًا مبادرات تطوعية، حيث يساهم الأفراد المتطوعون في تقديم إرشادات مهنية أو اجتماعية للمفرج عنهم. فكلما كان المجتمع أكثر استعدادًا للمشاركة في جهود إعادة الإدماج، زادت فرص المفرج عنهم في التكيف والاندماج بشكل أفضل.

لا ينبغي أن تتحمل المؤسسات الحكومية وحدها مسؤولية هذه الجهود، بل يجب أن تعمل بالتعاون مع المبادرات المجتمعية. فعلى سبيل المثال، يمكن للحكومات توفير برامج تدريبية بالتنسيق مع المنظمات المجتمعية لدعم المفرج عنهم ومساعدتهم على اكتساب مهارات عملية تسهل اندماجهم في سوق العمل وتأمين وظائف مستقرة.

يُعتبر التعاون بين القطاعات المختلفة من أهم عوامل نجاح هذه المبادرات. يجب على الحكومة، المجتمع المدني، والمؤسسات التعليمية والتدريبية أن تتكاتف لتوفير بيئة شاملة للمفرج عنهم. يضمن هذا التعاون توفير الدعم على المدى الطويل ويشجع المفرج عنهم على الاستمرار في الجهود المبذولة لإعادة التأهيل.

توسيع نطاق الفرص لهؤلاء الأفراد يتطلب أيضًا دعمًا من الشركات الخاصة. يمكن للقطاع الخاص المساهمة من خلال توظيف المفرج عنهم، مما يوفر لهم مصدر دخل ثابت ويسهم في تقليل احتمالية عودتهم إلى الجريمة. كما أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني قد توفر حلاً مستدامًا للعديد من المفرج عنهم.

تأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن دور المجتمع في دعم الرعاية اللاحقة لا يقتصر على تقبل المفرج عنهم فحسب، بل يمتد إلى المشاركة الفعّالة في توفير الفرص لهم لبناء حياة جديدة. من خلال تعزيز الوعي والمشاركة المجتمعية، يمكن للمجتمع أن يسهم بشكل كبير في تقليل معدلات العودة إلى الجريمة وخلق بيئة أكثر استقرارًا للمفرج عنهم، مما يعزز تكاملهم الاجتماعي والنفسي بشكل مستدام.

من الضروري إذن أن يعمل المجتمع على توفير بيئة داعمة تشمل التأهيل المهني والتعليمي، بالإضافة إلى الدعم النفسي المستمر للمفرج عنهم. ولا شك أن الشراكات بين القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني تساهم في توفير حلول مستدامة تضمن استقرار المفرج عنهم ونجاحهم في إعادة بناء حياتهم بعيدًا عن السلوكيات الإجرامية.

***

د. هاني جرجس

منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا شكلت الأرض وما تحتويه من موارد نقطة ارتكاز أساسية للصراعات بين الأمم والشعوب، فمنذ أكثر من خمسة آلاف عام سيطرت الحروب والنزاعات على تاريخ البشرية بينما ظلت فترات السلام والتعاون التجاري والثقافي هي الاستثناء.

تمثل الأرض المورد الأهم الذي يسعى الإنسان للسيطرة عليه سواء كان ذلك على مستوى الإمبراطوريات الكبرى مثل الرومانية، أو على نطاق الدول والمقاطعات كما هو الحال في كشمير، ومنذ فجر الحضارة كانت الموارد الأرضية هي العامل الرئيس لهذه الصراعات؛ فالأرض ليست مجرد مساحة و إنما حاوية للثروات الطبيعية بما في ذلك الغذاء ومصادر البناء والمياه العذبة ومصادر الطاقة، وتحت ستار الحجج السياسية والفكرية غالبًا ما يُستخدم التلاعب بالاضطرابات والفتن كأداة للهيمنة على الأراضي والموارد، وعلى المستوى العالمي أدى تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية جغرافيا إلى تعقيد هذه الصراعات بشكل كبير.

إن تأثير الموارد الجغرافية لم يعد مقتصرا على حدود الدول وانما أصبحت ذات تأثير عالمي مما يعكس ديناميكيات جديدة في التوازن الدولي، وبحسب التحليل المعمق الذي ورد في مقالة موسوعة المعرفة وطبقا لويكيبيديا والموسومة (مجيد ملوك السامرائي) فأن الرؤية العالمية توضح؛ تجاوز تأثير الموارد الجغرافية الموقعية للحدود الوطنية للدولة لتتخذ أبعاد عالمية تتسم بتعقيدها وعمقها، إذ ان التفاعل بين المتغيرات الجيوسياسية والجيو إقتصادية المعاصرة تعكس ديناميكيات جديدة وغير مسبوقة في التوازن الدولي، إضافة إلى ان التقدم التكنولوجي في نظم النقل والاتصال ساهم في تغير الأهمية المكانية لمواقع جغرافية كانت يومًا ما محورية في التجارة الدولية، فطرق التجارة القديمة التي كانت تعتمد على الموانئ والمضائق البحرية أصبحت تواجه منافسة من ممرات نقل جديدة تعتمد على التكنولوجيا والبنية التحتية المتطورة، كما ان الأساليب التنموية الحديثة وتوسع الاذرع الدولية للتجارة الحرة بانفتاحها الكبير والمقرون بالتقدم التكنولوجي الرقمي لنظم النقل والاتصال تؤدي الى تغير الأهمية المكانية لمواقع جغرافية في كل القارات كانت متحكمة في حركة النقل واتجاهات التجارة الدولية الى مواقع أخرى جديدة، وهذه التحولات ستسهم بشكل متصاعد في إعادة تشكيل العلاقات بين الدول مما يفضى إلى تصاعد النزاعات حول الموارد الأرضية، وتشمل هذه الموارد على وجه الخصوص؛ مصادر الطاقة مثل النفط والغاز، والمياه العذبة التي تزداد أهميتها مع تزايد النمو السكاني وتغير المناخ، ومع اقتراب منتصف القرن الحالي من المتوقع أن تتفاقم هذه الصراعات لتصبح أكثر دراماتيكية مما سيغير شكل العالم بشكل جذري.

الصراعات على الموارد الأرضية ليست مجرد قضية تاريخية بل هي تحدٍّ معاصر يتطلب رؤية متجددة، ويمثل التوازن العالمي والدولي حالة من الاستقرار التي تتحقق من خلال؛ توزيع متوازن للموارد والنفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري بين الدول في ظل العولمة المتزايدة حيث يبرز التوازن شرطا أساسيا لضمان الأمن والسلم الدوليين وتحقيق التنمية المستدامة، ولتحقيق توازن مستدام في العلاقات الدولية يتعين على الدول تبني سياسات تنموية تعتمد على؛ التجارة الحرة التشاركية والانفتاح على أسواق جديدة وتعزيز التكامل الاقتصادي بين الدول، ولا بد من الاستثمار في نظم النقل والاتصالات لتقليل أهمية المواقع الجغرافية التقليدية وفتح آفاق جديدة للتعاون، ان التوازن العالمي والدولي ليس هدفًا يمكن تحقيقه بقرارات فردية أو على المدى القصير؛ أنما هو عملية متكاملة تتطلب التزامًا مشتركًا من كافة الدول ومن خلال تعزيز العدالة والتعاون والتنمية المستدامة لتحقيق عالم أكثر استقرارًا وعدالة للأجيال القادمة.

هكذا تتضح الحاجة الماسة الى تبني استراتيجيات تنموية متقدمة تتسم بالانفتاح التشاركي على أفاق التجارة الحرة كركيزة أساسية للتحولات التنموية الجذرية والمتوازنة وبالتالي إعادة تشكيل العلاقات بين الدول بعيدا عن النزاعات والصراعات.

***

ا. د. مجيد ملوك السامرائي

كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

 

يقول تيري إيجلتون في مقدمة كتابه "الارهاب المقدس" لم يتوقف البشر عن قتل بعضهم بعضا منذ فجر التاريخ، بسبب التنافس على البقاء والحيازة، ومازالوا كذلك، وكان لظهور القوى الآلهية الخارقة في العقائد البشرية، وثنائيات الخير المطلق والشرالمطلق،  وبالتالي ثنائية المقدس والمدنس، بمثابة غرس نوعي، او جينالوجي في شرعنة القتل والتعايش معه، والانتحار او التضحية بالحياة، فداء لحياة مطلقة اخرى، لا تستقيم إلا بالآضاحي، وان الترويع او الترهيب من عقاب الآلهة هو اول زراعة واعية لبذور ثقافة التخويف او الترويع الغيبي المتدحرج بميكانزميات التاريخ لشكل مقدس من الارهاب على الارض، جنة للبعض وجحيم للبعض الآخر .

وفي كتاب "الفلسفة في زمن الارهاب : حوارات مع يورغن هابرماس وجاك دريدا " من تأليف الباحثة الامريكية ايطالية الاصل، جيوفانا بورادوري، يصل المتحاوران الى استنتاجات عميقة منها، ان مفهوم الارهاب ملتبس وبحاجة التي تفكيك وتدقيق للتميز بين ارهاب الدول الذي سطع نجمه منذ ايام اليعاقبة وروبسبيير والارهاب الاهلي او المحلي وتتويجه بالارهاب الدولي، وان الارهاب المعاصر هو صراع العولمة مع ذاتها، وبالتالي فهو ليس صرعا بين الحضارات او الاديان، وان العنف المستشري هو تعبير عن الانسداد الذي يفجر الصراخ الدموي كبديل وحيد ضد سياسة الاذان الصماء، ويرى الفيلسوفان ان اوروبا مدعوة لانقاذ ذاتها، بالعمل على تطوير القانون الدولي، ودمقرطته والحرص على احترامه، ورفض الانغلاق القومي، ونبذ نزعة معاداة الاجانب والعمل معا لتحقيق الديمقراطية والتحرر للجميع، كي لا يموت التنوير الذي تدعيه، فالارهاب لا اخلاقي والعولمة لا اخلاقية، واحدهما يستوجب الآخر!

بالأمس إرهاب شيوعي واليوم إرهاب إسلامي وغدا!

مع انتهاء الحرب الباردة انتهت حملات شيطنة الشيوعية وحركات التحرر المستعينة بها وحل مكانها الاسلام ليحمل ما لا يحتمل!

 ولأن مفهوم الارهاب المتداول منذ احداث 11 سبتمبر 2001 وحتى الان اكثر إلتباسا وإنتقائية ومطاطية وحمال اوجه، ولا نبالغ اذا قلنا مغالط، لا يسع اي ذي بصيرة، إلا إعادة الخوض في محاولات التأصيل، والتعقب، المنطلق من كون الارهاب ظاهرة اجتماعية سياسية فكرية عنيفة، عنف التوحش الراسمالي بصيغته، النيو ليبرالية، شديدة الارتباط بمستوى وحدة تركز وتمركز السلطة وادواتها والثروة وإستثماراتها كونيا، وانعكاساتها الكارثية على المجتمعات المستهلكة بحكم الامر الواقع، ومن كونه أحد أوجه العنف الفردي والجماعي الملازم تاريخيا للصراع على مصادر العيش والبقاء والتسيد المتعاظم، في عالم كلما ازداد تراكما وتقاربا وتفوقا، كلما ازداد انحدارا !

لقد أُفشلت محاولات الامم المتحدة وعن عمد للتوافق على تعريف جامع مانع لماهية الارهاب وفرزه عن غيره من مظاهر العنف الاخرى، جنائية كانت أم سياسية، داخل حدود الدول وخارجها، وطبيعة الحرب عليه، وشكل علاقتها بالحروب التقليدية ومديات شرعيتها، قانونيا واخلاقيا، ففي عام 1972 ناقشت الجمعية العامة للامم المتحدة لاول مرة موضوعة الارهاب الدولي وتباينت الاراء لدرجة التصادم، ففي الوقت الذي ركزت فيه اغلب الدول على ان ارهاب الدولة يجب ان يكون في مضمار اي تعريف جاد ورصين للارهاب خاصة اثناء الصراعات المباشرة وغير المباشرة او الحروب بالوكالة بين الدول، واعتبار ذلك جرما مشهودا يخالف القانون الدولي، حيث ركزت النقاشات وقتها على الارهاب الامريكي لشعوب الهند الصينية وتحديدا الحرب الامريكية المدمرة على فيتنام، والدور التخريبي للسي اي اية، في كوبا وامريكا اللاتينية وافريقيا الذي يبرمج الانقلابات العسكرية والنزاعات المحلية ويغذيها، كان التركيز الامريكي على عنف الجماعات الصغيرة والافراد من غير المرتبطين رسميا بالدول، وكانت نتيجة حوار الطرشان هذا، عدم التوافق . وفي فترة حكم الرئيس الاربعين للولايات المتحدة الامريكية رولاند ريغان 1981 – 1989 جرى التداول الامريكي لمصطلح الدول الراعية للارهاب، وباتجاه واحد يؤشر "لامبراطورية الشر" الاتحاد السوفيتي، ومن يتمحور معها في مخاض الحرب الباردة، فبعد تفجيرات قوات المارينز في بيروت 1983، اعلن ريغان عن وجود دول ارهابية وراء الهجوم، كإيران وسوريا وليبيا وهي متناغمة مع ارهاب كوبا ونيكاراغوا، واطلق على هذه الدول كونفدرالية الدول الارهابية، وبعد محاولة اغتيال دموية للرئيس الكوري الجنوبي، برعاية كورية شمالية، والتي حصلت اثناء زيارة الرئيس الكوري الجنوبي لبورما، ادانت جميع دول الامم المتحدة العملية، وصوتت اغلبيتها على قرار يطالب بتركيز المجتمع الدولي، على الدور الذي تلعبه الدول، في التمويل والتخطيط لعمليات "الارهاب الدولي"، كان تصويت المندوب الامريكي والكوري الشمالي ضد القرار، والسبب واضح فكوريا الشمالية لا تريد إدانة نفسها، اما امريكا فانها لا تريد سابقة تفتح الابواب امام إدانات متوقعة من الجمعية العامة، لارهابها المتواتر بالاصالة او الوكالة !

اما مهزلة قوائم التصنيف الامريكي للمنظمات والجماعات الارهابية حول العالم فهي انتقائية وازدواجية في معاييرها، لأن أي مجموعة عنيفة مرتبطة بأجندة تتعارض والمصالح الامريكية تصنف كجماعة ارهابية، وبحسب مجلة التاريخ الامريكي الصادرة عام 2011 لاحظت الباحثة بيفرلي غيج كيف حاولت وزارات الخارجية والدفاع والخزانة تجنب تطبيق نفس التصنيف على عملاء امريكا الذين يخوضون حروبها بالوكالة، فعندما كان المجاهدون العرب بقيادة اسامة بن لادن  يقاتلون السوفيت في افغانستان وبكل شراسة وعنف، كانوا ابطالا وثوارا، ولا تنطبق عليهم صفة الارهاب برغم ارهابهم لكل مظاهر المجتمع المدني الذي كان قائما، لكنهم وبقدرة قادر اصبحوا ارهابيون خطرون يجب ابادتهم لمجرد استنفاذ تخادمهم، وتصويب بنادقهم ضد الامريكان حتى قبل 11 سبتمبر 2001، اما بخصوص حركة طالبان، فأنها بحسب قائمة وزارة الخارجية الامريكية للجماعات الارهابية الاجنبية، ليست جماعة ارهابية، لكنها مصنفة ارهابية بحسب لائحة وزارة الخزانة ويبدو ان التفسير الوحيد لهذا التناقض البرغماتي الصارخ هو الادراك الامريكي المبكر بعدم القدرة على هزيمة طالبان، وبالتالي حاجة الدبلوماسية الامريكية لنافذة تواصل معها، قد تقلل الخسائر، قبل وبعد الانسحاب !

***

جمال محمد تقي

حينما نتحدث عن آبارٍ باطنية أيّاً كانت، فإن هذه الآبار لها عمر معيّن ومن ثُمّ تخفت وتتلاشى، وقد يتم اكتشاف آبارٍ جديدة، ولكنها بالتالي سوف تتلاشى مثل غيرها. وخاصّة أن معظم آبار النفط في العالم العربي مكتشفة ويعمل بها منذ عام 1936 من القرن الماضي، وتتلاشى في نهاية هذا القرن كما هو متوقّع، لذلك معظم دول العالم أصبحت تبحث عن الطاقة البديلة التي لا بُدّ منها، والتي هي على الأغلب نتاج الطبيعة من خلال الخيار الأمثل لاستخدامها من مصادرها المتوفرة، والتي تحقق المكاسب الكافية، وبالتالي تتلاشى أو تتناقص الأضرار الناتجة من استخدام الطاقة ذاتها، مثل الاستخدام المستمر للوقود الأحفوري الملوّث كالفحم والنفط والغاز الطبيعي والتي تتسبب في الاحتباس الحراري ورفع مستوى الوفيات للمصابين بأمراض تلوّث الهواء كلّ عام.

في ألمانيا وأمريكا وكندا وأينما اتجهت تجد الألواح الشمسية الضخمة بمساحاتٍ واسعة، وتوربينات الرياح التي يمكن أن تغذي مباشرة الشبكة. كما يشمل سيناريو توليد الطاقة المتجددة نسبة مقدارها 100% من خلال توربينات الرياح البرية والبحرية، و الكهروضوئية الشمسية على أسطح المنازل، وفي محطات توليد الطاقة، والطاقة الشمسية المركّزة.

كما أن الطاقة النووية هي أهم أنواع الطاقة البديلة، والتي تُعتبر الأمل الكبير لإنتاج وتوليد التيار الكهربائي، حيث أصبحت إقامة مفاعلات نووية سلّمية لإنتاج الطاقة من الأشياء البديهية التي تسعى معظم الدول لأجلها.

ووفق المصادر الاحصائية، فإن معظم دول العالم بحلول عام 2030 ستكون قد استخدمت أو استهلكت 80% من الطاقة عن طريق الطاقة البديلة، وأمّا بحلول عام 2050 فإن النسبة ستصل إلى 100%، وذلك لتفادي الآثار الخطيرة لتغيّر المناخ.

وألمانيا حالياً اعتمادها على الطاقة البديلة يصل إلى حوالي 40% من الاستهلاك العام، وهذا رقم متطوّر نسبيّاً.

والطاقة البديلة نأخذ بعين الاعتبار أنها لا تلوّث البيئة، وتحافظ على الصحة العامّة للكائنات الحيّة، إن كان إنسان أو حيوان أو نبات، نضف إلى ذلك أنها اقتصادية واستمرار توفّرها مضمونٌ ومأمون، ومن ناحية أخرى فإنها تستخدم تقنيات ليست معقّدة.

فلو أخذنا البلاد العربية بشكلٍ عام فإنها تتمتّع بأشعةٍ الشمس بشكلٍ دائمٍ، وأحياناً على مدار العام، وهذا لا يتوفّر في البلاد الأخرى، وبشكلٍ عام فهناك مناطق جغرافية عديدة في العالم العربي تنقصها الطاقة، في الوقت الذي يتمتّع فيه الوطن العربي بكمٍ لا متناهٍ ووافر من خيرات الطبيعة، ومصادر الطاقة المتجددة والبديلة، الاستثمار الجاد نحو الطاقة البديلة لم يأخذ دوره وافياً لأسبابٍ عديدةٍ منها غياب الدور الإيجابي للحكومات العربية، وعدم جدّية صُنّاع القرار بالأخذ بهكذا منحى، وبنفس الوقت هناك بعض الدول التي ما زالت منشغلة في أزماتها وحروبها، لكن القطاع الخاص بدأ ينشط بشكلٍ مقبول في مصر وأيضاً القطاع الخاص في سورية نشط مؤخراً وبدأ بشكلٍ متسارع يعمل في مجال الطاقة الشمسية البديلة.

هنا نستطيع أن نقول أن مفهوم الحضارة تكمن في قدرة الإنسان على الاستفادة من المحيط الذي يُقيم فيه وتسخير الإمكانيات لصالحه ولصالح البيئة ولصالح الإنسان.

فبعد حوالي ثمانون عاماً من استخدام النفط في المنطقة العربية لاحظ الجميع الآثار السلبية، حيث تلاشت العديد من الصناعات على حساب قطاع النفط، وهذا ممّا جعل هذه المجتمعات مجتمعات مستهلكة، إضافةً إلى الأزمة المعروفة بالاحتباس الحراري، وتغيّر في أنماط الطقس والمناخ بشكلٍ متصاعد حول العالم كله وليس منطقتنا وحسب، وظهور الكوارث الطبيعية من أعاصير وفيضانات، إضافةً إلى الجفاف ونقص المياه، وهذا ما شاهدناه هذا العام في العديد بل الكثير من دول العالم ومنطقتنا.

الوطن العربي ينقسم إلى دولٍ منتجة للنفط، وأخرى مستوردة للنفط، وكلا القسمين يشهد نموّاً متصاعداً للسكان المترافق مع إستهلاك متصاعد أيضاً للطاقة التقليدية الغير نظيفة، وهذا كلّه شكّل تلوّثاً بيئياً للماء والهواء والتربة أيضاً.

فالسعودية تأتي في المرتبة 20 من بين أكبر 30 دولة مطلقة لغاز ثاني أُكسيد الكربون تليها مصر ودولة الإمارات.

البلاد العربية تتمتّع بشدةِ الإشعاع الشمسي، وأصبح من السهل جداً توليد الكهرباء من خلال الألواح الشمسية وبشكلٍ مباشر، وأصبح تخزين هذه الطاقة مُتاحاً بفضلِ التقنيات الحديثة، ومن خلالها يتم صنع شبكةٍ هجينة من طاقة شمسية ورياح، ويتم ربطها بالشبكات الوطنية، ألمانيا نجحت في سدّ ما يُقارب نصف حاجتها من الطاقة بفضلِ هذا النظام الهجين، الذي يجمع الطاقة الشمسية والرياح.

البعض يتساءل، لماذا هناك عرقلة للانطلاق نحو الطاقة البديلة في بلادنا العربية ؟،

أعتقد أن المشكلة تكمن في أن الاستثمار في الطاقة الشمسية يحتاج إلى رأسمال كبير للإنطلاق نحو هذا المشروع، كما أن تخزين الطاقة الشمسية مُكلفٌ أيضاً، فتكلفةِ كيلو وات بهذه الطريقة يُكلّف حوالي نصف دولار، بينما تكلفة الكيلو واط بالطريقة التقليدية يُكلّف حوالي ربع دولار، ويستطيعون أن يُغطّوا هذا الفرق البسيط من المال المنهوب من المال العام عن طريق الفساد المتفشي، وأيضاً ولأن الكهرباء شبه رخيصة في عالمنا العربي لذلك غاب الإبداع في الولوج إلى منظومة الطاقة الشمسية، ويكتفي الوطن العربي والذي يُعتبر أكثر البلدان استهلاكاً للطاقة التقليدية الملوّثة للبيئة في توليد الكهرباء.

لذلك لا بدّ من رؤيةٍ وطنية واضحة تخدم الانسان والانسانية جمعاء والبيئة، والبدء في وضعِ خططٍ استراتيجية لتحقيق الاستفادة من الطاقة المتجددة، والطاقة الشمسية المستدامة.

علماً أن الولوج في هذا المجال يوفّر عدة ملايين من فرص العمل، ويحدّ بالتالي من نسبة البطالة المنتشرة في البلاد.

وأيّاً كانت الأمور فإن العمل بالطاقة الشمسية البديلة لا بدّ منه، ولا بديل عنه، وعلى الوطن العربي أن لا تفوته فرصة خلق تكنولوجيات عربية لاستغلال الطاقة الشمسية وهي لا تزال في بدايات تطورها مثل صناعة الخلايا الفوتوضوئية والمجمّعات الشمسية، وخاصة أن الوطن العربي يتمتع بوفرة مساحات الأراضي الصحراوية والتي تنعم بسطوعِ الشمس على مدارِ العام، و بالامكان استغلالها عن طريق إنشاء مزارع لإنتاج الطاقة الكهربائية، مع إمكانية تصديرها للدول الأخرى مستقبلاً أيضاً.

يجب أن يستغلّ الوطن العربي أرضهِ وشمسهِ ورياحهِ ويستثمر فيهم لِما فيهِ خدمةِ الإنسان والنبات والحيوان والبيئةِ بشكلٍ عام.

***

بقلم الكاتب الإعلامي: د. أنور ساطع أصفري

تعرضت غالبية مدن الشرق الأوسط خاصة في الدول العربية المتعددة المكونات القومية والدينية والمذهبية منذ اكتشاف النفط وفي دول أخرى بُعيد انقلابات العسكر على النظم السياسية الى تضخم مريع في التركيب السكاني، وتغيير ديموغرافي حاد في ظل أنظمة اجتماعية قروية وسياسية شمولية، حولت المدن الى قرى مسرطنة بعد ان فعل الفقر والجهل والتصحر والعقلية السياسية المغلقة فعلته في اضمحلال القرى وهجرة أو تهجير سكانها الى مراكز المدن أو أطرافها طلبا للماء والكلأ تارة والغزو والاستيطان تارة أخرى!

ولعل ابرز الأمثلة على هذا التضخم في مراكز المدن واطرافها ما حصل في الدول العربية وخاصة في العراق وسوريا والأردن وليبيا ومصر وغيرها، حيث فقدت كثير من المدن الكبرى هويتها بسبب هذا التضخم العبثي الذي يعود في أصله الى الفقر وانعدام فرص العمل والفشل في تطوير القرى والأرياف الذي دفع ملايين من سكانها الى ترك قراهم والهجرة الى اطراف المدن في احزمة وعشوائيات بائسة، شوهت مداخل المدن ومخارجها، ناهيك عن الفقر والبؤس والعادات والسلوكيات الغريبة التي رافقت هذه المجاميع وشكلت عبئا ثقيلا على المدن، وتسببت في ابطاه او منع تطورها في كثير من الخدمات المتعلقة بالحاجيات الضرورية كالماء والكهرباء والمواصلات والصحة والتعليم، وبنظرة سريعة وفاحصة لتلك المدن يدرك المرء هذا التضخم العبثي الذي تتحمل وزره الحكومات التي ركزت جل اهتماماتها على المدن وتركت الريف وقراه يأن من البؤس والفقر والتخلف.

واذا كان هناك ثمة مبرر للتضخم الأول الذي تحدثنا عنه فان ما حصل في العراق وسوريا والدول متعددة المكونات القومية والدينية والمذهبية كان ممنهجا ضمن برامج حكومية وبميزانيات كبيرة وخلفية أيديولوجية عنصرية او دينية مذهبية طائفية نفذته على مراحل الحكومات ذات التوجه الشمولي احادي القومية او الدين والمذهب، حيث عملت منذ أواسط القرن الماضي على احتواء وإذابة المكونات الأصغر قوميا أو دينيا ومذهبيا، وذلك بتهجير السكان الأصليين واستقدام سكان آخرين من قومية النظام او مذهبه لإحداث تغيير في التركيب السكاني والجغرافي لتلك المناطق كما حصل في مدن الحدود الجنوبية والغربية والشرقية لإقليم كوردستان العراق منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وكذا الحال في سوريا وفي حزامها المسمى بالحزام العربي الذي نفذه النظام السوري باستقدام سكان عرب واسكانهم في قرى ومجمعات على حساب تهجير السكان الكورد الأصليين وبعثرتهم في المدن والقرى البعيدة عن جغرافيتهم الأصلية وهذا ما حصل بالضبط في العراق أيضا.

لقد تركت عمليات التغيير الديموغرافي آثارا مؤلمة واشكاليات يعاني منها العراق وسوريا حيث لم ينجح النظام البديل بحل تلك الإشكاليات المتراكمة منذ عقدين من الزمان رغم تضمينها في مواد دستورية واضحة دون التباس او تأويل، مما عقد الأمور ومنع تلك المناطق ومنذ عقدين من أي تقدم وازدهار، بل أصبحت مرتعا للتنظيمات الإرهابية بسبب تواجد الميليشيات والفصائل المسلحة المستقدمة من خارج المنطقة والتي تمارس هي الأخرى إرهابا منظما بحق سكان تلك المناطق وتضطرهم الى ترك بيوتهم ومزارعهم لاستكمال عملية تغيير ديموغرافي على خلفية طائفية اكثر بشاعة من تلك التي استخدمتها الأنظمة السابقة على خلفية التطهير العرقي.

انه تحدي كبير امام تلك الحكومات سواء في العراق او في سوريا التي بدأت تعيش نظام جديدا يتأمل فيه المواطن من كل المكونات انصافه وانهاء عمليات التغيير الديموغرافي بكل اشكالها ومعالجة آثارها وتداعياتها قبل أن تنفجر تلك الأورام والالغام وتقود البلاد الى حروب أهلية عرقية او طائفية تأتي على ما تبقى من تلك البلاد التي دمرتها الحروب وشوهت نظامها الاجتماعي والسيكولوجي.

***

كفاح محمود

أطل إمام مسجد الإمام أبي حنيفة ببغداد قائلاً: "إلى كلّ الآباء، وإلى كلّ الأُمهات، وإلى كلّ الأبناء، وإلى كلّ البنات... المسلم يتميز بشخصيته، عيد الميلاد، وعيد رأس السَّنة لأهلهما، لا يجوز لنَّا أنْ نُشارك غيرنا مناسباتهم"(الجمعة27/12/2024)، مع أنَّ الإمام، في خطبة سابقة، خاطب المُفَرطِيّن بالعراق: "أريد أنْ أبني بلدي"! وهذا الخِطاب لا يبني بلداً، يشترك فيه أهل أديان ومذاهب.

حذر، قبل ذلك، مفتي الدِّيار العراقيَّة، مِن أمام محراب جامع أمّ الطّبول، ببغداد: "لا يجوز الاحتفال برأس السَّنة، ولا التّهنئة لها، ولا المشاركة فيها"(28/12/2018)؛ معللاً  فتوته، إذا صح لنا اعتبارها فتوى،  لأنَّ التهنئة تعني تأييد ما ورد في القرآن: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"(التوبة أو براءة: 30)، وخاطب المهنئ: "إذا متَ تموت مشركاً". تأتي وصايا إمام مسجد أبي حنيفة، ومفتي الدّيار مِن "الشّروط العُمريَّة"(ابن تيمية، مسألة في الكنائس، الخمينيّ، تحرير الوسيلة). أقول: كيف يجري التَّفكير، والكنائس ملأى بالمسلمين، عند الشَّدائد، مِن اجتياح المغول لبغداد إلى يومنا هذا!

إذا كان الخطيبان ملتزميَن بشرط مِن الشُّروط، فعليهما التزامها كافة، ولو طبقت لانهارت الأوطان وتفتت، ومنها: إلزامهم يتجنبون وسط الطّريق توسعة للمسلمين؛ وأنْ يحلقوا مقادم رؤوسهم، ويلزمون الزَّي المقرر عليهم، مثلما طبق في فترات متفاوتة مِن التَّاريخ.

لقد سبق جماعة الإخوان المسلمين بالعراق الخطيبين، بتحريم مشاركة المسيحيين، أو تهنئتهم، ببغداد خلال العهد الملكيّ، بغداد المعروفة باختلاطها الدِّينيّ التاريخيّ، كان ذلك عندما سُمح لهذه الجماعة العمل بحرية، ظناً أنها جماعة تقوى، لا سياسة وحزب، حتَّى أنتبه ذلك العهد، وأوقف نشاطها حينها(الصّواف، سجل ذكرياتي).

لا أُحَشد كلّ ما يعترض فتوى الخطيبين مِن التّاريخ، بل أكتفي بشواهد منها ما فسره، قبل ألف عام، العالم المسلم أبو الرّيحان البيرونيّ(تـ: 440هج)، الذي لو أُخذ بما تفضل به لؤلفت مِن آرائه دفاتر التسامح والتّعايش بين البشر، وبرز الإسلام خارج التعصب، فللنُصوص أسباب نزولها وقولها، قال البيرونيّ مفسراً الأقانيم المسيحيَّة:

«اسم الأبوة والبنوة، فإن الإسلام لا يسمح بهما إذ الولد والابن في العربية متقاربا المعنى؛ وما وراء الولد مِن الوالدين، والولادة منفية عن معاني الأبوية، وما عدا لغة العرب يتسع لذلك جداً، حتَّى تكون المخاطبة فيها بالأب قريبة من المخاطبة بالسَّيد؛ وقد علم ما عليه النَّصارى من ذلك، حتَّى إن مَنْ لا يقول بالأب والابن فهو خارج عن جملة مِلتهم؛ والابن يرجع إلى عيسى بمعنى الاختصاص والأثرة؛ وليس يقصر عليه، بل يعدوه إلى غيره، فهو الذي يأمر تلاميذه في الدُّعاء بأن يقولوا: يا أبانا الذي في السَّماء. ويخبرهم في نعي نفسه إليهم، بأنه ذاهب إلى أبيه وأبيهم؛ ويفسر ذلك بقوله فـي أكثــر كلامــه عــن نفسه، إنه ابــن البشر»(تحقيق ما للهند)، فعل البيرونيّ مثل ذلك مع الصَّابئة، عندما أُشير إليهم بعبدة الكواكب، فنزههم مِن ذلك.

قبيل ما أتى به البيرونيّ، يرى المؤرخ والمفسر الموسوعيّ أبو جعفر محمد بن جرير الطَّبريّ(تـ: 310هـ) في تفسيره للآية: "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"(التَّوبة أو براءة: 30): "الإله القديم جوهر واحد يعم ثلاثة أقانيم: أباً والداً غير مولود، وابناً مولوداً غير والدٍ، وزوجاً متتبَّعة بينهما"(مجمع البيان في تأويل آي القرآن).

كذلك كتب الفضل بن الحسن الطَّبرسيّ(تـ: 548هـ) في تفسيره، بما لا يختلف عن سلفه الطّبريّ: «لم يقولوا بثلاثة آلهة، ولكنهم يقولون إله واحد ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح القدس (...) وقد شبهوا قولهم جوهر واحد ثلاثة أقانيم، بقولنا سراج: واحد ثم نقول: ثلاثة أشياء، دهن وقطن ونار وشمس واحدة، وإنما هي أشياء متغايرة. فإن قالوا: إنَّ الله شيء واحد، وإله واحد حقيقة؛ فقولهم ثلاثة متناقضة؛ وإن قالوا: إنه في الحقيقة أشياء مثل ما ذكرنا في الإنسان والسِّراج وغيرهما؛ فقد تركوا القول بالتوحيد، والتحقوا بالمشبهة، وإلا فلا و اسطة بين الأمرين»(مجمع البيان في تفسير القرآن).

إذا كانت الآية "وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ"، تستوجب مقاطعتهم الاجتماعيَّة، مثلما تفضل المفتون بذلك، فما تجمعهم بالمسلمين اليوم المواطنة، وهناك حشدٌ مِن الآيات، التي توصي بالعلاقة معهم، بغض النّظر عن الاختلاف في الدِّين، منها الزَّواج، ومنها الاشتراك في الطَّعام، فإذا تؤخذ الآية المذكورة منفردة، فلا تعني المواطنة غير تكارهٍ دائمٍ، فماذا يقول الكارهون، النَّاهون لتهنئة أهل الأديان بأعيادهم، ومناسباتهم، في الآيات: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(العنكبوت، الآية 46)؛ و«الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَمن قبلكم»(المائدة، الآية 5). «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ »(المائدة، الآية 47). وخص المسيحيين بالقول: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»(المائدة، الآية 82)، وغيرها.

عدا ما تقدم، أود تذكير الخطيبين، واحدهما أجزم أنه على مذهب العظيم أبي حنيفة؛ فيكفيه أنه صاحب "الرَّأي"، أما الآخر  فيُحسب سلفيَّاً؛ أسند رأيه لابن قيم الجوزيَّة(تـ: 751هـ)، فهو القائل: "فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، مِثْلَ أَنْ يُهَنِّئَهُمْ بِأَعْيَادِهِمْ وَصَوْمِهِمْ، فَيَقُولَ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، أَوْ تَهْنَأُ بِهَذَا الْعِيدِ، وَنَحْوَهُ، فَهَذَا إِنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِنَ الْكُفْرِ ، فَهُوَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ"(ابن قيم، أحكام أهل الذِّمة). قد يُصار السّلفي إلى تقليد ابن قيم؛ لكنْ ماذا يفعل مَن يمثل أبي حنيفة، فقيه "أهل العِراق"، عندما اختلف عن بقية أئمة المذاهب الإسلاميَّة، بدخول غير المسلمين المساجد، حتَّى دخواهم الكعبة(ابن قيم، نفسه)، وابن قيم أورد ذلك ناقداً لأبي حنيفة، لأنه قاس على صلاة نصارى نجران داخل المسجد النّبوي(ابن هشام، السِّيرة النّبويّة).

إذا أُخذ تحذير مفتي الدِّيار العِراقيَّة، وإمام مسجد أبي حنيفة، حيث يرقد الإمام منذ السنة خمسين ومئة مِن الهجرة، وتُضاف لتحذيراتهما تصريحات خطيب الجمعة بالنَّجف صدر الدِّين القبانجيّ، يكون مسؤولو الدولة العراقيَّة، مِن العهد الملكيّ، إلى يومنا هذا، كفاراً لأنهم قدموا التهاني للمسيحيين، في كنائسهم، بداية من الملك فيصل الأول(تـ: 1933) إلى رئيس الوزراء محمّد شياع السًّودانيّ، الذي حضر قداس الميلاد ببغداد، مروراً بعبد الكريم قاسم(قُـتل: 1963).

إنَّ بناء الأوطان، وحمايتها مِن الكراهيَّة، وبالتالي مِن موجات العنف، وعبث الجماعات المسلحة الشّريرة بالأرواح، يحتاج إلى خطاب ديني معتدل، إنسانيّ في نغمته، فالدّين وجد لصالح وخدمة النَّاس، لا العكس، ورجال الدين اليوم، بخطابهم المتشدد، المفعم ببث الكراهيَّة، والعزلة للشركاء في الوطن الواحد، يجعلون العكس، أي: النَّاس في خدمة الدِّين، وبما أنّ الدّين يُقدم بهذا الخطاب العنفيّ، فقد تحول النّاس إلى خدم لرجال الدّين، وعلى حد ما نُقل عن الخليفة الرّابع الإمام عليَّ بن أي طالب(اغتيل: 40هـ: "هذَا الْقُرْآنُ إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْتُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْن، لا يَنْطِقُ بِلِسَان، وَلاَ بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَان، وَإِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ"(نهج البلاغة، خطبة رقم: 123)، ويبقى لرجال الدين كيف ينطقونه، بلسان المودة واللين أو بلسان الكراهيّة واالتَّزمت.

فما حصل مِن تفجيرات كارثيَّة طالت المسيحيين العراقيين ببغداد والموصل؛ في آيام الآحاد خصوصاً، وأيام الأسبوع كافة عموماً، كانت البداية بخطاب أشبه عنفاً بخطاب مَن ذكرنا، لا أظن يحمل أصحاب هذا الخطاب شيئاً مِن المروءة، عندما يضخون العنف في النفوس، ولا عنف أشد مِن الصدود عن جارك، وابن موطنك في فرحه وترحه.

هذا، وكنا نعتقد أنّ الألف عام الفاصلة بين البيروني ومهدي أحمد الصُّميدعيّ؛ تؤخذ بنظر الاعتبار للتقدم لا للتأخر. أعود مذكراً بما قاله الفقيه سفيان الثّوري(تـ: 161هج)، ولعلَّ إمام جامع أم طبول، يحفظ للثوريّ تقديراً وتبجيلاً، قال: "«إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَنَا الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ، فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ»(ابن عبد البرِّ، بيان العِلم وفضله). أود سؤال المفتين بالصد عن المسيحيين، في أعيادهم، ماذا يفسرون ويقولون وهم يرون الكنائس ملأى باللاجئين المسلمين، خلال اجتياح المغول لبغداد، وحشود الطالبين اللجوء ببلدان الغرب؟ هل هؤلاء كفروا لأنهم دخلوا  بيوتاً يُقال فيها: "قالت النَّصارى عيس ابن الله"، ولم يضعوا للتفسير والتأويل مكاناً، ولاختلاف الطَّوائف في ما اعتقدوا بالأقانيم الثَّلاثة؟

***

د. رشيد الخيُّون

 

"احضنوهم، لنساهم جميعًا في بناء أوطاننا ونُشيد صرح علاقات متكافئة وسوية...". كان ذلك ما أرسله لي صديقي بعتب مملّح ، بعد أن استمع إلى حوار تلفزيوني لي جئت فيه على ذكر الأمم الأربعة دون أن أدرج معهم الأمازيغ، كما قرأ ملخّص محاضرة كنت قد ألقيتها بعنوان "نحو ويستفاليا مشرقية" دعوت فيها إلى علاقات متكافئة بين أمم المشرق، لتلمّسي حاجة دول الإقليم وأممه الماسة إليها، نظرًا لما أصابها من اضطرابات وصراعات ونزاعات وحروب، سالت فيها دماء كثيرة وأزهقت فيها أرواح الملايين من البشر، وهُدرت أموال طائلة جرّاء عدم الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول الآخر واحترام سيادته وحقّه في تقرير المصير.

ولم أكن أقصد بالطبع استعارة نصيّة لمعاهدة ويستفاليا أو اقتباس حرفي لما عُرف بصلح ويستفاليا أو تقليد ساذج لظروف مختلفة وأوضاع متباينة، وإنما الاسترشاد بالقواعد والمبادئ العامة التي حكمت الاتفاق لوقف النزاعات المسلحة والحروب الدموية التي شهدتها أوروبا لأسباب دينية وطائفية وإثنية، مع التأكيد على خصوصية دول الإقليم على مستوى كلّ بلد وعلى مستوى الإقليم، ناهيك عن اختلاف الوضع الدولي.

ولكن تجربة ويستفاليا "الناجحة" تدعونا مثل أية تجربة عالمية للتأمّل والتفكير وإعمال العقل لابتداع نموذجنا الخاص، آخذين بنظر الاعتبار المشتركات الكثيرة التي تجمع شعوب الإقليم وأممه، التي تنتمي في الغالب إلى دين واحد، وإن تعدّدت لغاتها وقومياتها وعاداتها وتقاليدها، لكن ثمة مصالح مشتركة وتاريخ مشترك وعلاقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وتجارية على جميع المستويات، بل وحتى مصائر مشتركة يكمّل بعضها بعضًا، تقتضي التوقّف عندها في الحديث عن ويستفاليا مشرقية.

وكنت أقصد بوستفاليا مشرقية التفاهم بين أمم وشعوب ودول الإقليم، ولاسيّما في المشرق، وأعني بذلك الترك والفرس والكرد والعرب، وهو ما سبق أن أدرنا حوارات متعدّدة بشأنه في تونس ولبنان والأردن والعراق، بما فيها في أربيل، على أساس التكامل الإقليمي، الذي يمكن أن يكون محور استقطاب جاذب للاستثمار والتنمية والتفاهم والسلام بعد أن كان بؤرة للتعصّب والتطرّف والعنف والنزاعات والحروب.

وكان سمو الأمير الحسن بن طلال قد تبنى فكرة حوار أعمدة الأمة الاربعة، ودعا إلى حوار معمّق حضره عدد من الشخصيات الثقافية والفكرية في الأمم المذكورة، وذلك في العام 2018 بعد حوار ناجح عربي – كردي سبقه بنحو 5 أشهر، وقد تأسست لجنة متابعة بالتعاون مع منتدى الفكر العربي.

أعادني سؤال صديقي الذي طرحه عليّ في أربيل خلال زيارته الأخيرة (17 كانون الأول / ديسمبر 2024) إلى نقاش دار على هامش جلسة في مكناس بينه وبيني، فقد سبق أن ناقشني بصيغة استفهام، وماذا عن الأمازيغ؟

ولأنه يعرف موقفي المبدئي في تأييد حقوق جميع المظلومين ورفضي أي تمييز بين البشر على أساس عرقي أو ديني أو لغوي أو جنسي أو لأي سبب آخر، ناهيك عن دعوتي إلى المواطنة المتساوية، التي تقوم على الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، لذلك كان السؤال عن الأمازيغ هو بمثابة تذكير وتفكير وتأمل وتحفيز، لإعادة طرح موضوع الحق في التنوّع والحق في التعددية والدعوة إلى إدارة متفهمة  وواعية لإعادة النظر فيما اعتادت عليه الدولة العربية، ناهيك عن دول الإقليم في موقفها من الحقوق، لاسيّما حقوق الأمازيغ، خصوصًا في بلدانهم التي يعيشون فيها، فضلًا عن رأي عام عربي سلبي أحيانًا في الموقف من التنوّع الثقافي الذي يُطلق عليه مجازًا ﺑ "الأقليات".

ويختلف الأمازيغ عن العرب في اللغة والتاريخ والثقافة، وتلك أساسات الهويّة الخاصة، ذات المواصفات الخصوصية، سواءً كانت "كبرى" أم "صغرى"، والمقصود عدديًا، علمًا بأن الأمر لا يتعلّق بالأغلبية والأقلية، التي تستبطن التسيّد والهيمنة من جهة، ومن الجهة الثانية الخضوع والتبعية تحت مبررات مختلفة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الأمازيغ ليسوا أقلية.

ودون الدخول في جدل تاريخي وقانوني حول هل الأمازيغ قوميّة أو أمة يمكن أن تندرج في حوار الامم الأربعة أو أعمدتها؟ إلّا أنهم يشكّلون مجموعة ثقافية متميّزة ولها خصوصيتها التي تتمثّل في هويّتها الخاصة خارج النطاق العددي، سواءً كانت أغلبية أم أقلية بالمصطلح السائد، ووفقًا لإعلان حقوق الأقليات لعام 1992 الصادر عن الأمم المتحدة والمتضمّن 9 مواد.

واستلهامًا من ويستفاليا والتجربة التاريخية الكونية عمومًا، فإن أية مجموعة ثقافية دينية أم قومية أم سلالية أم لغوية لها كامل الحق في التمتّع بحريّتها ومنع أي اضطّهاد أو تمييز يقع عليها، الأمر الذي يقتضي إبرام عقد اجتماعي – قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء أو تمييز.

وإذا كانت دول المشرق تكاد تخلو من الأمازيغ، فإن الأمازيغ في دول المغرب العربي، ولاسيّما المغرب والجزائر، يكادون يمثلون "أغلبية" دون أن تكون لهم "حقوقها"، ودون أن يعني ذلك الرغبة في تغيير هويّة الدولة، والمقصود هويّة مواطنيها العرب، ولكن لا بدّ من الإقرار بحقوقهم كاملة وغير منقوصة، وإلغاء التمييز بحقّهم، القانوني وغير القانوني، المعلن والمضمر.

ويحقّ لصديقي المغربي الحقوقي البارز والروائي والكاتب عبد السلام بو طيب رئيس مركز الذاكرة المشتركة أن يطلب مني عدم نسيان الأمازيغ، وبطريقته الصداقية يكتب لي "أنا أعرفهم جيدًا وأعرف ردود أفعالهم العنيفة عندما يشعرون بالتمييز" وبأسلوبه الشائق والمهذب، فإنه يستدرك بالقول من باب الصداقة والمحبة والرغبة في التواصل الإنساني، لاسيّما مع دعاة الحق ورواده.

إذا كان يصحّ الأمر في المشرق الدعوة إلى "ويستفاليا مشرقية"، فيصحّ عند الحديث عن المشرق والمغرب، الحديث عن ويستفاليا لأعمدة الأمة، والأمازيغ هم من أعمدتها التاريخية أيضًا.

إن أسباب دعوتنا وانسجامنا مع دعوة سمو الأمير الحسن بن طلال تصدر عن قناعة بأهمية القيم والمبادئ المشتركة التي جاءت بها ويستفاليا بعد حروب دامت 30 عامًا وقبلها 100 عام، الأمر الذي تبلور في مصالحة شاملة، وهو ما يحتاجه العرب والكرد والفرس والترك والأمازيغ وأعمدة أخرى على صعيد كل بلد وعلى الصعيد الإقليمي.

وبالطبع فإن ثمة أسباب موجبة للدعوة إلى ويستفاليا تكمن في استمرار التنكّر للحقوق العادلة والمشروعة، وأهمها الحق في تقرير المصير، واستمرار الصراعات اللاعقلانية الداخلية والخارجية، وغياب مبادئ المساواة واستمرار استغلال الثغرات في إدارة التنوع من جانب القوى الغربية والقوى الطامعة ببلادنا، حيث يتم العزف على أوتار الهويّات الخاصة، الفرعية، ناهيك عن التعامل مع دول الإقليم كجزئيات وليس إقليمًا متكاملًا، على الرغم من المشتركات التي تجمع بين أممه وشعوبه ودوله.

هكذا تصبح الدعوة إلى وستفاليا فرض عين وليس فرض كفاية، وهي ضرورة واختيار في الآن لحماية الأوطان وتحقيق التنمية والتكامل والسلام على صعيد كلّ بلد وعلى الصعيد الإقليمي.

ولا شكّ أن الحوار ليس ترفًا وإنما لمعالجة المشاكل ومواجهة التحديّات، كما يُعتبر مسؤولية على هذا الصعيد، خصوصًا بالنسبة للنخب الثقافية والفكرية والسياسية، بهدف تنقية الذاكرة المشتركة مما علق بها من كراهيات ومرارات تكدّست على مرّ السنين، والانطلاق من مفهوم التقارب والتشارك دون نسيان الماضي، مع الأخذ بنظر الاعتبار مبادئ التسامح. وحتى لو استغرق الحوار زمنًا طويلًا، فحوار سنة أفضل من قتال ساعة كما يُقال، وقد استمرّ الحوار اللوثري – الكاثوليكي 50 عامًا حتى تم تسويته في العام 2016 بعد أن دام الصراع نحو 500 عام.

ولعلّ هذه المقالة هي من وحي حواري مع صديقي مثلما هي بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة، التي سبق لي أن احتفلت بها أكثر من مرّة مع أصدقائي الأمازيغ، الذين أشعر بسعادة غامرة بالتواصل معهم.

وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس قد أصدر قرارًا في أيار / مايو 2023 يقضي باعتبار رأس السنة الأمازيغية الذي يوافق 13 كانون الثاني / يناير من كل عام يوم "عطلة وطنية" على غرار رأس السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية. وحسب التاريخ الأمازيغي نحن نحتفل بالعام الأمازيغي الجديد 2975، ولعل ذلك جزءًا من توسيع دائرة الحقوق للأمازيغ، والتي تكرّس بعضها دستوريًا، لاسيما في اللغة، حيث اعتبرت الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.

وكانت المغرب قد اعترفت بالحقوق الثقافية للأمازيغ عبر خطوات متدرجة، حيث أقرّ قانون كتابة الأمازيغية بحروفها الخاصة المعروفة "تيفيناغ".

ومن تجارب الشعوب والأمم فإن مشكلة المجموعات الثقافية وإشكالياتها متعددة في البلدان المتعددة الثقافات، حيث يتطلّب الأمر معالجات استثنائية لأوضاع إستثنائية على أساس مبادئ المواطنة والمساواة، فالكل شركاء في الوطن، وينبغي أن يكونوا شركاء في اتخاذ القرار.

نعم لا ينبغي نسيان الأمازيغ في المستقبل، فدول الإقليم التي تكالبت عليها القوى المستعمرة والطامعة، أورثتنا "الجهل المقدّس" و"الجهل المدنّس" تحت عناوين الأيديولوجيا وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، وإذا ما أردنا تجاوز ذلك واللحاق بالعالم المتقدّم، فلا بدّ من إحداث تغيير في الوعي والتربية على قيم جديدة أساسها احترام الإنسان وكرامته وحقوقه، وذلك سبيلًا للتنمية المستدامة بجميع أركانها.

يبقى الأمازيغ مع العرب في مركب واحد وبوصلة واحدة ومستقبل واحد، الأمر الذي يتطلّب تعزيز التفاهم وتوسيع دائرة الحقوق وتعميق المشترك الإنساني.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر عربي من العراق

في المثقف اليوم