آراء

آراء

 

من بين كل بلدان الكرة الارضية التي وصلتها الماركسية اللينينه، كان لها في الموضع اللاارضوي الرافديني ان تغدو بديلا مستبدلا من قبل غيرها، الاعلى منها نمطا وفعاليه، ولم يكن الامر مصادفة، فلقد فرضته في حينه اشتراطات الاصطراعية الكونية القائمه هنا مع الاله ومحطتها المصنعية الاولى، اضافة لسعي الغرب مستغلا ماقد تحقق من زخمها لتكريس الغلبة والهيمنه عالميا، استنادا لنموذجيته الكيانيه الارضوية ونمطها السياسي، ونوع رؤاها التوهمية المواكبه لفعل الالة التغييري الابتدائي غير المكتمل.

 ومع اجمالي الترتيبات الاستثنائية التي اضطر الغرب ممثلا بالاحتلال البريطاني لان يعتمدها لاجل الحفاظ على قدر من استمرار نفوذه في العراق بعد ثورة 1920، وفي مقدمها الفبركة الكيانيه "الوطنيه"، واقامه "دولة" من خارج النصاب المجتمعي وبما يخالف طبيعة المكان التاريخيه النمطية البنيوية وبناء عليه، التشكلية التاريخيه المستمرة من القرن السادس عشر، ماقد رهن عملية تامين الهيمنه بالافنائية كشرط، ما تجسد واقعا بحاولة محو الذاتيه النمطية الكونية التاريخيه، ابتداء من اختلاق المروية الاستعمارية عن "العراق" وتاريخ تشكله كما وضع اسسها الضابط الملحق بالحملة العسكرية "فيليب ويرلند"، والتي تلغي الانبعاثية الدوراتيه الحديثة من بداياتها قبل اكثر من ثلاثة قرون حتى حينه، تلك الذاهبة الى "عراق اخر" كوني لاكيانوي، كان عليه اليوم بالذات ان يتحمل وطاة اعنف عملية ابادة ظلت متبقياتها فاعلة الى الساعة، بينما النطقية الذاتيه غائبة، والحضور التشكلي حاضر عمليا وواقعا فعالا، بلا تعبيرية مطابقة؟

 هكذا كانت تتأسس هنا عناصر اصطراعية غير مدركة الابعاد والموضوعات والنتائج متعدية للطاقة المتاحة في حينه على الاستيعاب العقلي، على راسها غياب تبين الغرضية المجتمعية وحكم التاريخ عليها كنهاية ومآل، الامر الذي لم يكن كشف النقاب عنه واردا، مادامت الظاهرة المجتمعية خارج الادراكية البشرية على مدى الطور اليدوي، وصولا الى الراهن الابتدائي الالي الذي نبه الى القصورية المشار اليها، انما من دون ان يتجاوز حدوده الارضوية وهو يحاول اجلاء ملامحها، بما يعرف ب"علم الاجتماع"، وفي مقدمتها الحتمية اللاارضوية الناظمة للظاهرة المجتمعية، المحكومة بالمرور بالطور الارضوي على مدى التاريخ اليدوي، قبل ان تتهيأ شروط الانتقالية الكبرى مع انبجاس الالة التي تظل ارضوية من حيث الرؤية والمفاهيم، تكرارا لوطاة ومتبقيات الطور اليدوي الثقلية، الامر البديهي، بانتظار ان تاخذ الالة ماهي مهياة له من التفاعلية والتحور الضروري، بالصراع الناشب بناء لوجودها بصيغتها الاولى المصنعيه.

من الطبيعي ان ينجم عن اثر وفعل الانتقال الالي منظوران، هذا اذا اعتمدنا انقسام المجتمعات. الى ارضوية ولا ارضوية، وبما ان الاله انبثقت في الموضع الطبقي من النمطية المجتمعية الارضوية، الاعلى ديناميات ضمن صنفها، فان احتمالية تغلب الرؤية الارضوية المستجدة بنية، بمقابل غياب النطقية اللاارضوية المستمر على طول الطور اليدوي، وما متوقع من استمراره الحالي، ابان الغلبة المتحققة للنمطية الازدواجية الطبقية الارضوية بناء على فعالية الاله وماينجم عنها من اثر تسريعي للاليات المجتمعية، سيكون بالاحرى من قبيل العنصر او العامل الاضافي الضروري لاجل تحريك مسببات النطقية اللاارضوية، تحت طائلة الافنائية المسلطة موضوعيا عليها من قبل التسلطية الارضوية الالية.

 هنا نصبح امام مروية او سردية اخرى غير تلك الاحادية التي تصف الاله وحضورها مرهونة بها وحدها، وبمحطة واحده منها، خارج القانون الناظم للتاريخ البشري المجتمعي، ومآلاته التي وجد مهيئا لان يصلها، وان ظلت غير مكشوف عنها النقاب، وهو الشرط اللازم حتى نقف امام ماينبغي الوقوف عنده من نظر ازدواجي، بغض النظر عن عدم نطقية احد طرفيه، وان يكن هو الاساس والمنطوى، فعدم النطقية وتعذرها لاينفي او يلغي الفعالية والحضور من دونها، فاللاارضوية قائمه وتظل مستمرة خارج شروط التحقق، اي انها نموذج مستقبلي تحققا، حاضر وفاعل وجودا ماديا تنقصه اسباب التحقق التي تطابق طبيعته ونوعه، ذلك ان اللاارضوية تحققها مرهون بنطقيتها من جهه، وبتوفر الاسباب المادية الضرورية كوسيلة لازمه لتحقق نموذجها حياتيا، والى حينه فان مستويات من التعبيرية المناسبة للظروف وللحالة والزمن الحاصل مادون النطقية العليا، تواكب تاريخ النمطية المشار لها، ومنها ماهو كوني وراسخ كتعبيرية مجتمعية في قلب الارضوية، كما الابراهيمه التعبيرية اللاارضوية الاولى الدالة على الازدواج حدسيا ونبويا، او وفي الطور الثاني، حزمة التعبيرية القرمطية الاسماعيلية الخوارجية، الاخوان صفائية الاعتزالية الحلاجية، التشيعية الامامية، وصولا للختام الانتظاري الدال على اليأس من امكانية توفر اسباب التحقق في الدورة مدار البحث، ماقد استدعى الاحالة الى قادم بصيغة "المهدي المنتظر".

 هذا يعني ان اللاارضوية نمط ونوع مجتمعية حاضرة ابتداء، وان المجتمعية تبدا بها في ارض سومر عند منطلق تبلور الظاهرة المجتمعية، وتظل حاضر عبر الدورات والانبعاثات بعد الانقطاعات التي تلازم تاريخ هذا الموضع الازدواجي تناوبا مميزة تاريخيه والياته(3)، وهو ماقد عاد وحدث اليوم مع القرن السادس عشر في ارض سومر نفسها بلا نطقية، وبلا امكانية تحقق، تكرارا، انما ضمن اشتراطات مختلفة، تتلازم مع الانتقال النوعي من اليدوية الى الاليه التي هي بالاحرى الطور اللاارضوي، المنطوي على الاسباب والضرورات اللازمه للتحقق بعد طول تعذر لازم الزمن اليدوي المنقضي، وان ظلت الارضوية الاليه الاوربية مصرة على ديمومته واستمرارية مفاعيله الغاربه عجزا وقصورا يستغرق بضعة قرون من التوهمية الكبرى الدالة على عمق القصورية الارضوية بذروتها القصوى، مع وبرغم تبدل اشتراطات وجودها كليا، ومالا منتظرا.

 فاذا وصل الغرب الحديث الى ارض الرافدين مستعمرا وهو بصيغته النموذجية الاليه الابتدائية، فان الامر ينقلب مقارنه بالعلاقة باي موضع احادي ارضوي على مستوى المعمورة، وهو الامر الاساس في الاليات المجتمعية وماقد طرا عليها مع الالة من متغيرات غير منظورة حلت على المجتمعية الاجمالية الشامله، بما يتجاوزالمنظور الاحادي الارضوي الاوربي الجاهز، وتوابعه عالميا وقصوريا موروثا، وفي حين يتصرف الغرب المحتل ببداهة توهمية معتقدا انه النموذجية المطلقة، فان مايحاول الاقدام عليه او تحقيقة كما يعتقد في هذا الموضع من المعمورة، يتجاوزه واقعا وفعلا عمليا، فارضا عليه اشتراطات اصطراعية مغفلة الاسباب والبواعث مع قوة فعلها المعاكسة المضادة لمشروع الالغاء النمطي النوعي، الذي يتحول الى مشروع اصطراع بين نوعين مجتمعيين، احدهما غائب نطقا، وخارج عن تصورات القوة البرانيه الاجنبية الطارئة، وعن اعتقاداتها المعدودة من قبيل البداهة، في الوقت الذي يقابلها مضاد نوعي، يذهب لحد قلب وتحوير مشروعها ونموذجيتها الكيانيه والايديلوجيه، وصولا لمصادرة اهم تعبيراتها واعادة صياغته استبدالا وتوطينا مضادا للمصدر، وهو ماحدث مع نظرية ماركس ولنين على وجه التحديد.

***

عبد الأمير الركابي

............................

* يتبع ملحق/ شيوعية العراق اللاارضوية محل شيوعية ماركس وروسيا

 

في يوم العاشر من كانون الأول/ ديسمبر من كل عام يجري الاحتفال بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948 ودعت منذاك إلى الاحتفال به؛ باعتبار الإعلان وثيقة تاريخية أعلنت حقوقا غير قابلة للتصرف، حيث يحق لكل شخص أن يتمتع بها كإنسان ـ بغض النظر عن العرق أو اللون أو الدين أو الجنس أو اللغة أو الرأي السياسي أو غيره أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو المولد أو أي وضع آخر. وهي الوثيقة الأكثر ترجمة في العالم، ومتاحة بأكثر من 500 لغة. كما كتبت الويكيبيديا.

يضع الإعلان، الذي صاغه ممثلون من خلفيات قانونية وثقافية متنوعة من جميع مناطق العالم، (بمن فيهم خبير عربي من لبنان.. الدكتور شارل حبيب مالك (1906-1987)، القيم العالمية معيارا للهدف المشترك لجميع الشعوب وجميع الأمم. وهو ينص على المساواة في الكرامة والقيمة لكل شخص. وبفضل الإعلان، والتزامات الدول بمبادئه، تم إحياء الكرامة للملايين ووضع الأساس لعالم أكثر عدلا. وتستفيد منه في وضع أو صياغة إعلانات مشابهة أو مستمدة منه على أسس اخرى، عقائدية أو إقليمية وغيرها. وبالرغم من أن ما يصبو إليه الإعلان لم يتحقق بعد تماما، وهذه غصة كبيرة لدى أغلبية بشرية، تتحمل عواقبها أو أسبابها حكومات الدول الكبرى أو التي تسمي نفسها كذلك، ولكن في الحقيقة يمكن القول إنه صمد أمام الاختبارات على مدى الزمن، وهذا يدل على الطابع العالمي الدائم والقيم الدائمة المتمثلة في المساواة والعدالة والكرامة الإنسانية. هذه القيم الإنسانية العامة التي تتطلب الاحترام من جميع الدول وأن تتمتع بها جميع الشعوب على المعمورة.

والإعلان العالمي لحقوق الإنسان يمنح القوة للجميع، حيث إن المبادئ المكرسة في الإعلان لا تزال تحافظ على أهميتها اليوم كما كانت عليه، حين اتفق عليها واختصرت في الإعلان، في عام 1948. ووضعت في 30 مادة، تلخص رأي الجمعية العامة بشأن حقوق الإنسان المكفولة لجميع الناس. ومنذ أن تبنته الأمم المتحدة، عام 1948 في قصر شايو في باريس، نال الإعلان موقعا مهما في القانون الدولي، مع وثيقتي العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية من سنة 1966، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من سنة 1966. وتشكل الوثائق الثلاث معا ما يسمى "لائحة الحقوق الدولية". وفي 1976، بعد أن تم التصديق على الوثيقتين من قبل عدد كافٍ من الدول، أخذت لائحة الحقوق الدولية قوة القانون الدولي. وسعت المنظمات المتفرعة من الأمم المتحدة إلى الاعتماد على اللائحة هذه، والترويج لها كتجسيد للتطلعات الإنسانية المشتركة المتأصلة في مختلف الثقافات، والمعبَّر عنها بوضوح في الفقرة الأولى من ديباجة الإعلان، إذ تنص تلك الفقرة على أن "الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكِّل أساسَ الحرِّية والعدل والسلام في العالم".

كما أشارت اليونسكو في رسالة احتفالها بهذا اليوم قبل أعوام إلى أنه رغم تزايد المصاعب والتحديات فما زالت مختلف أشكال الكراهية والتمييز والعنف مستشرية. ولا يجد مئات الملايين من الناس، رجالا ونساءً على حدٍّ سواء، قوت يومهم، إذ يُحرمون من سُبل العيش والفرص الضرورية لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وتنطوي عمليات الترحيل القسري للسكان على انتهاكات جسيمة متواصلة للحقوق لا نظير لها فيما مضى من تاريخ البشرية. وتشتمل خطة التنمية المستدامة لعام 2030 على وعد بألَّا يخلِّف الركب أحدا وراءه، ويجب الاستناد إلى حقوق الإنسان في جميع التدابير الرامية إلى مواصلة السعي إلى الوفاء بهذا الوعد.

ويجب أن يبدأ السعي إلى ذلك، على صعيد التربية والتعليم، في أبكر وقت ممكن، إذ يجب تعليم الأطفال حقوقهم منذ نعومة أظفارهم. وتضطلع اليونسكو حاليا بريادة وقيادة المساعي الرامية إلى تعليم حقوق الإنسان لضمان معرفة جميع البنات والبنين لحقوقهم وحقوق الآخرين. وهذا هو الأساس الذي يقوم عليه عمل اليونسكو في مجال تعليم المواطَنة العالمية من أجل تعزيز احترام التنوع الثقافي استنادا إلى مبدأ التضامن والحقوق المشتركة.

في وطننا العربي تقف القضية الفلسطينية وحقوق الشعب العربي الفلسطيني شاهدة صارخة على التعسف والاضطهاد والإنكار والارتكابات التي تتعامل مع لائحة حقوق الإنسان والقانون الدولي، وينبغي الإلحاح على الإقرار بالحقوق المشروعة واحترام القانون واللائحة الدوليين. ولعل هذا اليوم الذي يأتي بعد يوم 29 من تشرين الثاني/ نوفمبر، من كل عام أيضا، يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، أن يكون يوما آخر للمطالبة بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وانهاء اخر استعمار استيطاني في التاريخ العالمي المعاصر.

وتأتي هذه المطالبة، وغيرها من المطالب التي تحرم منها أعداد هائلة من الشعب العربي خصوصا بأسباب معلومة، تأكيدا على المعايير والمبادئ، وكي تتردد في وطننا أيضا، كما هي أصداء المادة الأولى من الإعلان في جميع أرجاء العالم منذ عام 1948. والتي تنص على ما يلي: "يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق". وتعم المعايير التي تم إنجازها بالتضحيات والكفاح التحرري، معايير الحرية والمساواة والتضامن والاستقلال والتنمية والتسامح والاحترام والمسؤولية المشتركة.

في كتابه (تاريخ إعلان حقوق الإنسان) أكد أستاذ علم الاجتماع الفرنس البير باييه والذي ترجمه الدكتور محمد مندور وطبع في القاهرة عام 1950 على المبادئ الأربعة الأساسية في الوثيقة، وهي: 1ـ يولد الناس ويظلون أحرارا متساوين في الحقوق. 2ـ يمكن للناس أن يفعلوا كل ما لا يضر بالغير، وبناء على ذلك يمكنهم أن يفكروا ويتكلموا ويكتبوا ويطبعوا في حرية. 3ـ للمواطنين الذين تتكون منهم الأمة الحق المطلق في إدارتها. 4ـ يجب على الأمة صاحبة السلطان أن تضع نصب عينيها دائما حقوق الأفراد من جهة والمصلحة العامة من جهة أخرى.(ص8).

كما كتبت إليانور روزفلت، رئيسة لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (وزوجة الرئيس الأميركي) وهي تستعرض النسخة الإنجليزية. من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عام (1949): “أين عساها تبدأ حقوق الإنسان العالمية في نهاية المطاف؟ لنقل في الأماكن الصغيرة، القريبة من المنزل ـ بل لعلَّها في أماكن قريبة جدا وصغيرة جدا إلى حدِّ أنه لا يمكن رؤيتها في أي خريطة من خرائط العالم. […] ما لم تحظَ هذه الحقوق بمعنى في تلك الأماكن، فإن معناها سيكون أقل شأنا في أي مكان آخر. وما لم تتضافر جهود المواطنين لصونها حتى تكون لصيقة بالوطن، فإنه من غير المجدي أن نتطلع إلى تعميمها في العالم أجمع.”

إن تاريخ الإعلان ومعاييره تلزم الجميع على أن تتحقق دون تمييز أو إغفال أو مداورة، وتكون غير قابلة لمناورة، لتكون فعلا للبشرية جمعاء.

***

د. كاظم الموسوي

لم يكن العلم في يوم من الأيام حكرًا على جماعة من دون أخرى، ولكن في الوقت نفسه، ينبغي للمتعلم أنْ يتدَرّج فيما يطمح الوصول إليه من مراتب علمية، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يعترض بالقول: إنَّ العلم ليس حكرا على جماعة من دون أخرى، فهذا القول لا ينفي أو يتعارض مع مبدأ التدرُّج في العلم، وهذا الكلام يمثِّل مبدأً عامًّا لكل من يريد أنْ يسلك اختصاصًا في هذا المجال المعرفي أو ذلك، ولعلَّ واحدةً من أعراف التدرّج العلمي، أنَّه لا يحق للمُبتدئ – ناهيك عن سواه – أنْ يطرحَ آراء وأفكار تنقد أسس ذلك العلم، ومثل هذا الطرح ينبغي أنْ يكون مستهجنًا، وغير مقبولٍ بين أوساط الناس، إن لم يكن مثيرًا للسخرية، باعتبار أنَّ صاحبه لم يصل إلى مستوىً علميٍّ رفيع في هذا الشأن يؤهِّله لنقد أسس هذا العلم، فكيف له أنْ يتصدّى لإبطال متبنّيات هذا العلم أو نسف نظرياته بعضًا أو كُلاًّ..؟! ولعل كلامي أعلاه يثير استغراب المتخصّصين في العلوم، ممّن بذل جهدًا حتى وصل إلى ما وصلَ إليه من مرتبة في تخصصه أتاحت له أنْ يناقش بعض التفصيلات في هذه النظرية أو ذلك التطبيق في مجاله حصرًا، بفضل توسّع شبكة المعارف الإنسانية، بما جعل العلم الواحد يتفرّع إلى عدّة اختصاصات، وبهذا التوسّع لم يكن لأيِّ من هبَّ ودبَّ أنْ يخوض في معمعان تخصّصٍ ليس لديه أدنى معرفة بحيثيّاته، ومثل هذا قد يحصل في أزمان متفاوتة، ولكن لا يؤثِّر شيئًا في مسيرة العلم، بل يضمحلّ أثره بانتهاء فورة الدعاية لهذا التوجّه؛ لكونه صدر من غير متخصِّص. وهذا ما تفطّن له العرب، حين كان المُتخصِّص منهم في مجالٍ من المجالات العلمية، يؤكِّد أهمية ما يطرحه من رأي أو فكرة يعجز الآخرون عن إصدارها، فقد نقل محمد بن سلّام الجُمَحي (ت: 231 هـ) في كتابه: "طبقات فحول الشعراء" (وَقَالَ قَائِلٌ لخَلَف إِذا سَمِعتُ أَنا بالشعر أستحسنُه فَمَا أبالي مَا قلتَ أَنْت فِيهِ وَأَصْحَابك، قَالَ: إِذا أخذتَ درهمًا فاستحسنتَهُ فَقَالَ لَك الصرَّافُ إِنَّه ردئٌ فَهَل ينفعُكَ استحسانُكَ إِيَّاه..؟) ولا يختلفُ أحدٌ على مصداق ما ذكره خلف الأحمر، في أهمية العودة إلى أهل التخصّص، فهم أولى من غيرهم في بيان الصحيح من الخطأ فيما يتًصل بمجالهم العلمي دون سواه، كذلك يحقُّ للباحثين منهم أنْ يُناقشوا ما طرحه السابقون منهم من أفكار وآراء أو نظريات، فيُبينوا عن قصورها، أو يعدِّلوا في بعض تفصيلاتها، أو يدفعوها بأدلة ويقدِّموا الأفضل منها بحسب ما أتيح لهم من وسائل علمية كان لها الفضل في تبيان قصور تلك الآراء أو النظريات، أما أنْ يأتي شخصٌ بلا أيّ مقدِّمات أحرزها في هذا المجال، ويتناول بالنقد – حتى وإنْ سلّمنا بصحة وجهة نظره في بعض ما يطرحه – فهذا لا يعني أنّه بلغ ما لم يبلغه المتخصّصون في ذلك العلم، فآراؤه ليست إلا وجهة نظر قد تتاح لكثير من الناس، من دون الاهتداء إلى الطريق السليم في استنتاج ذلك الرأي، وميزة رجل العلم، أنّه يقيم الدليل على ما يدّعيه من فكرة، أو يطرحه من رؤية، فضلاً عن كون الدليل الذي يطرحه، ينبغي أنْ تتحقّقَ فيه معايير المنهج العلمي، فيكون ناهضًا، وإلا ما أكثر الادّعاءات التي تحفل بها الكتب التي تتحدّث لنا عن تاريخ كل علم من العلوم والنظريات الحافّة به، فصارت خردةً في درج إرشيف ذلك التاريخ ليس أكثر..

من هذه المقدِّمة، أريد بيان ما لمقدم برنامج (بس يواش) وهو "حيدر جواد" الذي يُعرِّف نفسه بأنه "مهتمٌّ بالشأن الفكري والثقافي العراقي والعربي، باحثٌ في العلاقة الجدلية بين الهوية الثقافية والعولمة"، من رأيٍ طرحه قبل مدة فيما يخص تفنيده علم الاجتماع وعلم النفس وما زالت عجلة حادلته "اللاعلميّة" تسحق العلوم الإنسانية، بكل برود، ولا أعرف إلى أين سيصل..؟ والسؤال الذي أريد طرحه على الرجل: ما التخصُّصُ العلميُّ الذي تخرّجَ منه، وأكمل فيه شوطًا معتدًّا من البحث فيه، حتى أتاحَ له أنْ يصلَ إلى هذه التوصّلات التي تعدُّ في نظر أنصاره ومؤيّديه فتوحات لم يُسبق الآخرون إليها، باعتبار ما أوضحناه آنفًا، من أنَّ لكل علم من العلوم، جملة من القواعد والمتبنّيات/ النظرية والتطبيقات، التي يعرفها ويقيّمها المختصّون بها، فلهم الحق في مناقشة بعضها، أو تفنيد الآخر منها، وهذا ما درج عليه كل علم، فمثلاً نجد العلماء من الفقهاء في كل مذهب، يتناولون آراء من سبقوهم بالنقد أو التوجيه أو الموازنة أو التفنيد لبعض أدلة القائلين بها.. الخ من إجراءات علمية يعرفها المختصون دون غيرهم، وهكذا علماء اللغة العربية، وعلماء القانون وعلماء الاجتماع وعلماء الفلسفة وعلماء النفس وعلماء التاريخ وعلماء الاقتصاد.. الخ، فضلاً عن العلوم التكنولوجية والطبية والهندسية، فليس ثمة رأي أو نظرية أو دليل ثابت على مرّ الأزمان، بل تخضع جميعها للمعيار النسبي بحسب المستوى الفكري الذي هو الآخر يتغير من زمن لآخر، ويتميّز العالم في كل مجال، بحسب فطنته وتوقّده الذهني، حين يُحقِّق الأدلة والآراء التي سبقته ويناقش بعضها ويؤيّد الآخر، ولا يُكون ناقلاً لها فحسب، وبهذا نجد العلماء في كل مجال يتمايزون في مثل هذه التفاصيل، فضلاً عن مستوى الإتيان بالجديد من النظريات أو المعالجات التي تعبّر عن قناعاتهم بما يستوعب الظاهرة التي يتناولونها، وغير ذلك من طفرات نوعية تحصل في ميادين هذه العلوم، بما تُلغي أو تُقلِّل من قيمة الطُرق السابقة في المعالجة العملية في ضوء تلك المعارف. والسؤال الآخر لهذا "المهتمّ" بحسب تعريفه على صفحته، أما كان له من الأولى – في سبيل ترصين وجهة نظره – أنْ يُحقِّق في آراء من نقل عنهم، بما يوافق مزاجه، ويُقابلها بآراء رعيل أكثر عددًا من الذين استدلًّ بآرائهم، من علماء وباحثين في علم الاجتماع، يرون جدوى هذا العلم، ويؤصِّلون لمتبنّياته النظرية، ويتناولون مباحثه في مختلف الاتجاهات، باعتبار "أنَّ علماء الاجتماع المعاصرين لم ينتظموا في صعيدٍ موحّدٍ من الفكر بل تتوزّعهم اتجاهات متباينة مثل سائر ضروب المعرفة الأرضية التي يطبعها مثل هذا التفاوت" (الإسلام وعلم الاجتماع، محمود البستاني: 7) بما تقوم به من دراسات تثبت جدارتك العلمية في هذا المضمار حتى يكون لكلامك جدوى علمية وإقناع لمن يرى في هذه العلوم أهمية، فضلا عن المتخصصين الذين أفنوا أعمارهم في درسها وتدريسها، فهل يصحُّ دحض علمٍ تجد فيه من الثراء والتنوُّع في داخل أروقته – شأنه شأن العلوم الإنسانية – تتوزّعه الاتجاهات والمذاهب، برأيٍ فطير ينمُّ عن أحاديةٍ نظر، وقلّة بضاعة في تصدّيه لمشاكل كل اتجاه من اتجاهات هذا العلم وما يفرزه من نظريات وقضايا تعكس توجّه ذلك المنحى دون سواه..؟ وإلا كان ما تنقله لا ينطلي إلا على المتعصّبين الذين لا يرون جدوى في كل هذه العلوم الإنسانية باعتبارها هُراءً لا فائدة من ورائها، وهؤلاء قد لا يحتاجون هذا التعب من جنابكم، فبمجرّد أنْ تقول لهم إن هذه العلوم لم ترد عندنا في النص الديني، فهذا يكفيهم؛ لما يؤمن به أتباع هذا التوجّه من فكرٍ مغلقٍ – ومغلوط في الوقت نفسه - على الجماعة التي ينتمون إليها.

ثم أيُّها المهتمُّ العزيز، من قال لك إنّ آراء نوال سعداوي أو الوردي أو الطاهر لبيب، أو المرنيسي، تمثِّل مقدّسات أو ثوابت في علم الاجتماع..؟ فكل باحثٍ في كل علم من العلوم، لا يمكن أنْ تجده بريئًا من توجّهاتٍ قبليّة تدفعه لاختيار الظاهرة أو الموضوع أو الاتجاه الذي يميل إليه، ولا يختار سواه، وهذا أمرٌ لا يخفى على كل باحثٍ بصير، وتبعًا لهذه القضية، قد تجده فيما يتوصّل إليه متحاملاً أو بعيدًا عن الموضوعية باستقصائه الظواهر التي تتّفق ومزاجه، أو التي تعكس مرجعياته الثقافية، ومنهم جنابكم الكريم، في دحضك أسس علم الاجتماع وقواعده، لم تستقص آراء كل علماء الاجتماع، بل وقفتَ على ما ينسجم وتوجّهك، وإلا فمن حقِّ المستمع أو المتلقي، أنْ يطالبك بآراء جميع العلماء والمشتغلين في هذا العلم، وتقارن بين مدّعيات هؤلاء وأولئك، هذا إذا افترضنا أنّ جنابكم قد تحرّى بنفسه تلكم الآراء التي عرضها عبر برنامجكم "بس يواش" وإلا فبحسب ما اطلعتُ عليه بنفسي، أنّ ما عرضتموه ليس إلا نقلا من كتاب "اعترافات علماء الاجتماع – عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع" للدكتور أحمد خضر، الذي صدر عام 2000 من المنتدى الإسلامي في لندن، وليس لك فضلٌ في هذه الفتوحات التي يُصوِّرها المعجبون ببرنامجك سوى النقل من هذا الكتاب لا أكثر ولا أقل..!! ولعل واحدةً من منطلقات هذا الكتاب التي اشتغلتَ عليها في طعنك جملةً وتفصيلا بعالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، يمكن لأي قارئ أنْ يتساءل – إذا كان ذا مسكةٍ من ضميرٍ وإنصاف – عن دليلكم فيما ذهبتم إليه من اتّهام للورديّ وتواطئه مع السلطة، عبر المقدِّمة التي اعتمدتَ عليها من كتاب أحمد خضر التي قال فيها: "إن علم الاجتماع علمٌ استعماري بطبيعته، وذو صلة بأعمال المخابرات، هدفه الأول ضرب الدين والعقيدة بصفة عامة، والإسلام وشريعته بصفة خاصة" وقُمتَ استنادًا على هذا الزعم، بتخوين الوردي وجعله أداةً من أدوات السلطة، وحين قال لك الإعلامي "زيد طارق" في برنامج "حديث حاد" على قناة الأولى، أنّه كان مغضوبا عليه في زمان البعث، قلتَ له إن الوردي كان مرحّبا به في زمن الحكومات السابقة.. في حين أنَّ من يطالع كتاب (علي الوردي في ملفّه الأمني) الذي صدر عام 2016 عن دار سطور في بغداد للكاتب سعدون هليّل، يُثبت بالأدلة والوثائق خلاف ما ذكرتَ مطلقًا، من أنَّ التقارير الامنية لاحقته في جميع الانظمة والحكومات العراقية المتعاقبة ابتدا من الملكي فالجمهوري الاول (1958-1968) والجمهوري الثاني (1968-2003( أي أنّ تلك التقارير الامنية قد بدأت عام 1950 وهو العام الذي حصل فيه الدكتوراه من الولايات المتحدة وتعين فيه استاذا في كلية الاداب، واستمرت طيلة العقود الاربعة اللاحقة، وأن الدكتور الوردي كان يشكل هاجسا امنيا ملحا عند الانظمة الحاكمة. والتقارير الامنية كانت تلاحقه وبأدقِّ التفاصيل الاجتماعية والاكاديمية والسياسية. كل ذلك ينفي صدق مدّعاك، بما يكشف عن موقف مسبقٍ لديك مع الوردي، علما أنّ الوردي ليس مقدّسًا في آرائه أو فيما توصل إليه، فكثيرٌ من الدراسات التي صدرت من مختصّين في علم الاجتماع، قد شخّصت ما وقع فيه من هنات، فضلاً عن سواهم من علماء، مثل كتاب العلامة الراحل السيد مرتضى العسكري في كتابه (مع الدكتور الوردي في كتابه وعّاظ السلاطين) الذي صدر عام 1955  ولكن في الوقت نفسه لم تنف جهوده، وما قدّمه من نتاج أثرى به الساحة الثقافية بصورة عامة فضلا عن المتخصّصين في هذا العلم، وكان لك – في حال انتقاده – أنْ تستعرض ما استوقف أولئك العلماء والباحثين في منجز الرجل، بما يحفظ جهودهم وجهود الرجل في آنٍ، فضلا عن حفظ ماء وجهكم بما لا يُظهركم بهذا الغضب العارم الذي أفقدكم التوازن في النيل من هذا العلم وأعلامه بطريقة أبعد ما تكون عن المهنيّة والموضوعية.

***

د. وسام حسين العبيدي

غادرت العملية التحولية الكونيه الازدواجية مابين النهرينيه الطور الثاني من تاريخها الدوراتي الانقطاعاتي عند القرن الثالث عشر، بعدما تهيأت الاسباب للانقلاب الالي بدفع من اعلى ممكنات الاقتصاد التجاري الريعي. بانتظار تحفيز الاصطراعية الطبقية، وصولا لانبثاق  العنصر الضروري من خارج عملية الصراع الازدواجي الثنائي، وهو مالم يصبح واقعا الا مع القرن السابع عشرمع الالة، بينما كانت الدورة الثالثة الازدواجية المجتمعية قد قد بدات قبل التاريخ المشار اليه، فمع القرن السادس عشر عادت ارض سومر للانبعاث في دورة مجتمعية لاارضوية ازدواجية مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر التاريخيه نفسها تكرارا، مغلفة بذات وطاة النقص القصوري  البشري الحاسم الذي ظل يميز الدورتين، الاولى السومرية البابليه الابراهيميه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، فما كان لتعذر"النطقية" اللاارضوية ان  يتغير ابتداء، وبالاخص تحت شروط الاصطراعيه اليدوية،  دلاله على عمق القصورية الادراكية العقلية البشرية.

 واذ حدثت تزامنا مقدمات الانقلابيه الالية، وقبلها بقليل الانبعاثية الحديثة الرافدينيه الثالثة الحالية، فان عنصرا حاسما قد  رافق اليوم العملية التاريخيه المجتمعية وديناميات وقوانين حركتها الذاهبة الى مابعد مجتمعية. وكما هي العادة وماقد تكرر دائما عبر تاريخ الاصطراعية اللاارضوية/ الارضوية، فان المنقلب الحديث النوعي كان مكتوبا له ان يكرر بافق عالمي، الاصطراعية المشار اليها بوسائل مختلفة، وبالدرجة الاولى عالميا، بدل الاصطراع الذاتي الداخلي التقليدي، المفضي مع كل دورة الى الانقطاع.

  وهكذا يكون الانقلاب النوعي الالي قد غير آليات الاصطراعية الازدواجية الارضوية اللاارضوية، ليدخل العالم من وقته تاريخ الاصطراعية التحولية الانقلابيه من الارضوية التي ظلت غالبه ومتسيده نمطا ابان الطور اليدوي، بينما اللاارضوية الحاضرة بلا نطقية ولا حضور معلن يوازن دورها غير المشخص وموقعها، بينما استمر العالم على مدى  يقرب من ثلاثة قرون خارج الحقيقة الاصطراعيه، تلعب ثوابت ومتبقيات الوعي الارضوي الراسخ فيه دورا فاصلا، غيب الحقيقة الانقلابيه واعادها الى ماقبلها فكانها استمرار لليدوية في زمن الالة المختلف كليا، وهو ماقد تكفلت به المنطقة الطبقية التي فيها ظهرت الالة قبل غيرها، مكرسة  حالة من التوهمية مادون الادراكية الضرورية المتناسبة مع  الانقلابية الحاصلة.

 ومع التسارع غير العادي الذي طرا على الديناميات المجتمعية الارضوية، وبالذات منها الطبقية المرتفعه الديناميات كينونة، فلقد حظيت منطقة الانبجاس الالي الاوربية بكل اسباب الرجحان والغلبة على مستوى المعمورة، مستفيدة من استمرار فعل الطور اليدوي على الحال المجتمعي خارج اوربا، بينما لم يكن واردا الاعتقاد بوجود  مجتمعية من نوع اخر هو الاكثر تلاؤما مع الحدث الانقلابي الالي، والموضع المرهون تحققه بعد دورتيه الاولى والثانيه بالانبثاق  الالي، بعد مروره بما هو لازم وضروري من اسباب اكتمال الالة نوعا تشكليا، بعد طور من الاصطراعيه الذاتيه المجتمعية الناجمه  ابتداء عن الالة وفعلها التغييري للكينونه المجتمعية اليدوية، اي بعد تحول آليات التشكل المجتمعي، من كونها عملية بيئية، بشرية ابتداء الى حال اخر يدخل فيه عنصر من خارجها، ومختلف عن طبيعتها، هو الالة التي تصير المجتمعات مع انبثاقها محكومة لفعل ثلاثة عناصر: هي البيئة، والكائن البشري، والاله، الامر الذي يولد اصطراعية نوعيه انقلابيه مختلفة تلقي بنتائجها واثرها على المجتمعات بنية، كماعلى الاله محوله اياها من صيغتها الاولى المصنعية، الى التكنولوجية الانتاجية  الحالية، الى التكنولوجيا العليا الوشيكه.

 عند القرن العشرين  تبدا الاصطراعيه التحولية الكونيه مع وصول الغرب ممثلا ببريطانيه وجيشها عام 1914 الى اقصى جنوب العراق، لتصعد من هناك الى عاصمة الامبراطورية والدورة الثانيه المنهاره متسببة بصعودها من نقطة الامان التاريخي، في الثورة اللاارضوية الاولى غير الناطقة عام 1920 ،تلك الوجودية التي حركها المرور من اسفل  جنوبا في منطقة من العالم هي الاكثر تعرضا للغزو على مر التاريخ من الشرق والغرب والشمال، من الجبال الجرداء والصحارى، نحو ارض الخصب، الا منطقة الجنوب منطقة الامان التاريخي  والتبلور المجتمعي الدائم، عدا عن نوع القوة الغازية الالية عسكريا، والتي قوبلت بالفالة والمكوار ،وقتالية  اللاارضويين المشرفين على احتمال الفنائية، لتتسبب في وضع الغازي على حافة الهزيمه، وتجبره على الانسحاب كما قد جرت التهيئة من قبل قيادة الحمله البريطانية، لولا اعتبارات الاستدراكية  الانقلابيه من الاستعمار القديم الى "الجديد"، قبل اوانه باربعين عاما، بخيار اقامه حكومة "من اهل البلاد" لضمان ماممكن من النفوذ الاستعماري(1).

 ومن حينه دخلت ارض الرافيدن الازدواجية حقبة من التاريخ غير المسبوق، بالاخص بما يخص تحوله بعد انتهاء الدورة الثانيه بعد 1258 تاريخ احتلال هولاكو لبغداد حيث قامت من حينه حالة من البرانيه اليدوية، تاخذ من العاصمة المنهارة مركزا رمزيا بلا سلطة او حكم شامل لبقية البلاد، بالاخص بعد القرن السادس عشر مع الانبعاث الحديث حين سادت حالة اصطراعية لاارضوية ارضوية، برانيه يدوية، تتعاقب عليها الدول واشباه الامبراطوريات من هولاكو الى العثمانيين، عاش العراق ابانها منقسما بين كيانيه سفلى من طبيعتها عدم الاعلان عن ذاتها، ومركز براني يتوهم "حكم العراق"  لاتتعدى سلطته اسوار المدن الكبرى،علما بان العراق الاسفل كان عام 1787 قد حرر البلاد من بغداد الى الفاو بالثورة الثلاثية بقيادة ثويني العبدالله، ومشاركة  حمد الى حمود شيخ الخزاعل، وسليمان الشاوي الامير العبيدي البغدادي وذلك خلال الطور التشكلي القبلي الذي استمر من القرن السادس عشر الى حينه(2)، اي الى القرن الثامن عشر، لتبدا من وقته الفترة الانتظارية النجفية، وتبقى غالبة الى حين وصول الحملة البريطانيه وانطلاقة الثورة اللاارضوية غير الناطقة الاولى عام 1920.

 وقتها يدخل العراق طور الاصطراعية الافنائية  التوهمية الغربية الاليه، ليغدو محكوما لفعالية متبقيات القصورية العقلية التاريخيه مضافا لها المفهومية الافنائية التوهمية الغربية، يقابلهما فعل "الاستبدال اللااارضوي" الحاضر دائما، وكان في خلفية الفترتين الحديثتين، وظهر في الفترة الافنائية الاخيرة متخذا شكل الاستبدال الاستعاري مع قيام "الشوعيه اللاارضوية" في ارض سومر من جديد/ في الناصرية/ المنتفك، وهي تجربة استثناء على مستوى المعمورة في حينه، فالماركسية وماتولد عنها من صيغة "شيوعيه" لينينيه، تهأت لها الاسباب هنا  كي تنتقل من ماركس والرؤية التحولية الارضوية الطبقية، الى اللاارضوية مجتمعيا، متعدية المجال الطبقي الى المجتمعي بصفتها عاملا وعنصرا اصطراعيا مضادا للافنائية التوهمية الغربيه.

يتبع: شيوعيه اخرى ما بعد ماركسية لينينه

***

عبد الأمير الركابي

............................. 

ـ الهوامش مع الحلقة الاخيرة.

هل يستحقون العرب قبل الإسلام أصحاب قوانين مجلس الملأ والشعر والأدب والمعلقات والمعاهدات التجارية تسميتهم بعرب الجاهلية كما علمنا المنهج الدراسي الفاشل اليوم.. أم كانت التسمية كيدية.. والا لماذا نقرأ الآدب الجاهلي والمعلقات السبعة بإلزامية.. نعم لأنها كانت كيدية. وهل فهم عرب الإسلام النصوص الدينية الإسلامية عن معرفة لغوية مستدركة ومستكملة لتجريداتها الحسية.. أم كانت بالنسبة لهم لُغز مُحير ملفوف بالغموض فسره الفقهاء تفسيرا سطحيا كيفما شاؤوا كما هو شأن المفسرين الإسلاميين في القرون الاولى، حينما كانوا غير مدركين لواقع التغيير التاريخي في أمة العرب والأديان ؟.

نتيجة هذا التصور المبهم اصبح العربي كالاعمى الذي يقود بصيراً فضل الطريق ودخل الإسلام دون تأني ومعرفة بالنص المقدس بعد ان كانت الاغلبية على الديانة المسيحية تتبع ورقة بن نوفل خال خديجة بنت خويلد زوجة الرسول محمد، ام كان واعيا له.. ولماذا ورقة بن نوفل مستشار النبي محمد لم يصبح مسلماً؟

فهل السيف اجبر العربي على الدخول في الإسلام ام ان دخوله كان توافقياً؟.. وهل كان العربي قبل مجيء الإسلام من اصحاب دين ثابت حقيقته لن تتغير وهي عبادة الاصنام والتماثيل الممزوجة بمناسك الحج ورمي الشيطان بالحجر، حتى ان هذه العبادة ظلت راسخة في أذهانهم بعد إسلامهم، كما في رمي الحجر على ابليس (الشيطان) في مناسك الحج اليوم.. وهي مناسك غير إسلامية وليس لدينا فيها نصوص.. وهي بالنسبة لهم حقيقة مطلقة وكأنها وثيقة منقوشة فوق حجر.. حتى اصبح الحج تقليدا إسلاميا عند المسلمين بعد مجيء الإسلام ولا ندري كيف اضاف له العباسيون (132 للهجرة) هذا التقليد الذي لم نعرفه قبلهم.

من هنا اصبحت السياسة عند العربي اعتقاد بلا مبادئ، ومعرفة علم بلا قيم، ومتعة شخصية بلا ضمير، وقيادة مكاسب بلا تضحية ، مجرد عقيدة وتقليد ولا غيرغلفوه بالمغفرة المصطنعة منهم. وهذا ما أثبته الواقع التطبيقي اليوم.. حين اصبحوا كالمنافق الحقيقي الذي لا يدرك خُداعة، لانه يكذب بصدق. ولا زالوا الى اليوم لم يتغيروا.. فنستطيع ان نقول ان الإسلام اليوم هو غير إسلام محمد الاصل بعد ان فقد العدل والاستقامة معاً.

كل هذا جعلهم منذ البداية يؤمنون بحياة غيبية دون برهان.. تلاعبت فيهم أفكار فقهاء التخريف، ولا زالت العقيدة راسخة في الاذهان دون تقدم لفقدانهم عقيدة المبدأ والتصديق. هنا الفرق بين المؤمن بالمبادى.. وبين الذي كان قد أتخذها عقيدة لهوولعب.. دون ايمان. لذا تجسدت فيها كل موبقات الزمان.. كما نراها اليوم في مشايخ الدين جهلاء الأيمان، المستمدين دينهم من البخاري وابو هريرة وغيرهم من الكذابين والمنافقين في الأديان..

فالخيانة والقتل والفساد والأعوجاج والكذب والخروج على العدالة والمنطق هي، هي منذ مجيئهم بعد الرسول والى اليوم حين كانوا ولا زالوا يستسيغون ضرب الحقوق والانسان معا شاعرين او قل معتقدين أنهم أحسن الناس ودينهم أحسن الاديان الشفيع لهم على مر الزمان.. ولم يعرفوا ان الشفاعة تتجسد في العدل والاستقامة لا في اراء فقهاء الزمان.. ، لذا فنظرتهم للانسان الاخر نظرة دونية لا تقبل حقوق الانسان - الفتوح الإسلامية وما جرى فيها من اعتداءات على انسانية الانسان مثالاً- هؤلاء لا يمكن للطبيعة الانسانية ان تقبلهم فيها لذا بقوا كما هم وسيبقون الى اخر الازمان اغبياء عقيدة وهمية لا علاقة لها بالخالق والانسان.. لا تستسيغهم الامم ولا تقبل منهم مشاركة في الحياة والاديان.. بعد ان رفضوا فلسفة حياة الانسان.

فلاسفة اليونان اعتقدوا ان الوجود عندهم موت يتلاشى، والموت وجود يزول، فالخير والشر والكون والفساد أمور تتلازم وتنسجم مع النظام العام تتغير مع الزمن. من هنا قال الفيلسوف ارسطو(322ق م) بالكون والفساد.. والفساد عند افاطون حركة تغيير وليس بما نفهمه اليوم ضمن حركة التاريخ الأصلاحية. هذا التوجه التاريخي لم يفهمه المسلمون منذ ان جاء دينهم الذي فسروه خطئاً الى اليوم.

لكن نظرة العرب قبل الإسلام الى تلك الحركة الدائمة كانت اقرب الى الواقع من اليونانيين والمسلمين معاً حين ادخلوا مفهوم التاريخ بحركة الكون وتعاقب الليل والنهاروتغير الأزمان وتطور حركة الايمان حين قال شاعرهم عدي بن زيد العبادي:

من رآنا فليوطن نفسه            أنه موفٍ على قرب زوال ِ

عصف الدهر بهم فأنقرضوا   وكذلك الدهر حالا بعد حالِ

اي كانوا يؤمنون بحركة صيرورة التاريخ.. والإسلام أيد هذه الفكرة يقول القرآن الكريم: "قل سيروا في الأرض فأنظروا كيف بدأ الخلق العنكبوت آية 20" اي كيف بدأ الإسلام وكيف تطور لكنه توقف حتى اصبح اليوم عقيدة بلا ضمان نتيجة سلطة الطغيان. لماذا.. ؟

هذه النظرة الفلسفية الواقعية، أماتها المسلمون اللا مؤمنون بالفلسفة التطورية.. بأعتبارها سبب الحياة والموت، لذا لم يقدموا لنا البرهان الفلسفي على التطورالأكيد فبقوا على ماهم عليه من جمود عقلية التفوق على الاخرين لاهين بالمرأة والجنس والتعالي على الاخرين والجنة والنار وحور العين -آوهام فقهاء التخريف -.. وعندما قامت الحركة الفلسفية الإسلامية قتلوا الفلاسفة والنابهين ومقتل ابن رشد والحلاج وغيرهم كثير.. نموذجا..

لقد عايش العرب قبل الإسلام نظرية الاحساس بالتاريخ وحركته لكن هذا الاحساس يقوم على حركته باتجاه واحد هما الحياة والموت والتغيرات الطبيعية نحو صيرورة التاريخ ولو استمر العرب بتنظيماتهم الاجتماعية والفكرية التطورية التي بدأوابها، لكنا اليوم مثل اليابان والصين.. بينما المصرين كانوا اوسع منهم خيالا حين اكملوا دورة الحياة بحياة اخرى بعد الموت وما فيها من نعيم او جحيم.. (مجرد تصور). لكن الجميع لم يصلوا الى ما وصل اليه اليونان من ربط الحياة بالموت كظواهر طبيعية، وتولد الاشياء بعضها بحركة التاريخ من بعض.. وانسانية الانسان في الحقوق والواجبات.. .

بينما الفيلسوف توكيد اليوناني قال لا جديد بحوادث التاريخ، والتاريخ ليس الا دائرة شريرة كلما اتم البشر الطواف فيها عاد من جديد.. لذافأن فلسفته ماتت دون تحقيق.

أما الفرس بفلسفتهم التاريخية الزرادشتية وخاصة في عهد اردشيربن بابك (ت242م) في وصيته المعروفة التي حذر فيها ملوك الفرس من الاغترار بالدنيا والجاه والسلطان، وأكد ان الزمان لا جديد فيه سوى الوجود والافول والزوال، فالحقوق هي التي تحفظ الأنسان. فهل يفهم الفرس اليوم ما قاله الاجداد. ام تبقى الانانية وكراهيتهم للأخرين وللعرب بشكل خاص هي الأساس، لذا فأن موتهم حضاريا سيتحقق كما نراهم اليوم في افول النسيان.. يخطأ العرب اليوم اذا اعتقدوا ان الفرس سيكونون يوماً لهم أعضاد.

ان الحياة فيها سر لم يكتشف بعد ان فهموه هو سر التغيير والزوال هما مصدر ظلم الانسان للانسان، لذا عليه ان لا يغتر فالدائرة شريرة لابد من تلقفها له وعودته الى ما كان. على الانسان ان يعي الزمان وغدر الزمان. فالباطل لا يدوم.. والحق المغتصب انتقامه للمظلوم من شيم الزمان لا يمر دون عقاب.. ففي الطبيعة اسرار لم يعرفها الانسان الى اليوم رغم تباهيه بالاديان، وهي الظلم والخيانة والفساد لا تقبل ولا تمر دون عقاب.. قال زرادشت الفارسي ان الحقد لا يزول من القلوب حتى لو مرَعليه الف زمان وزمان.. لذا من قال لك ان الفرس ينسون العرب وفتوحاتهم لاراضيهم وأسر ذراريهم وبيعهم في اسواق النخاسة الذي اعتبروه غدر الزمان، فلابد من اخذ الثأر منهم لا سيما وحتى اليوم لن ينسوا انتصار جيش      العراق عام 88 عليهم حين جرعهم السُم في قبول الانتصار.

على المسلمين ان يفهموا ان الإسلام ادخل على الفكر العربي عمقا بالغاً بازدياد العربي احساسا بالموت والحياة والحساب وما سيلقيه بعد الموت لكن ايمانهم مجرد تصور وليس عقيدة. فلو فهموه عقيدة ما تجرؤأ على الباطل في الأنسان، وهكذا بمرور الزمن تطورت دورة العمران حتى تحدث ابن خلدون عن دورة العمران الاربعة وكيفية العودة الى ماكان. فليس المهم ان نكون مسلمين نؤدي الشعائر والصوم والصلاة والدعاء وخطبة يوم الجمعة في المساجد من الآميين، والمذاهب المفرقة والتعصب وزيارات الاربعين الوهمية لها دون علم وايمان..

لكن المهم علينا ان نفهم القانون في الحقوق بين الانسان والأنسان ذكرا أو أنثىى او حتى الحيوان .. في وقت الى اليوم يعتقدون ان المرأة اذا مرت من امامهم تفسد صلاتهم ولا ندري اية صلاة وما فيها يقولون.. وهل ان المرأة جاءت من خارج دائرة الأنسان (انا خلقناكم من نقسٍ واحدة). اذن ما رأيكم لو مرت مريم ام المسيح وفاطمة الزهراء أم الحسين هل تفسدا صلاة المؤمنين.. نريد منهم جوابا؟.. ان كانوا مؤمنين شجعان..؟

كل هذا المصائب التي تحملناها ولا زلنا غارقين فيها من جراء عدم تطبيق نظرية انسانية الانسان وفقدان الاستقامة والعدل عند المسلمين.. بعد ان افهمتنا المرجعيات الدينية المتخلفة المصطنعة من المذاهب صاحبة الحق المقدس الوهم، ان حقوقنا مضمونة امام الله لمجرد اصبحنا مسلمون.. "أقتل أنهب افسد خون مجرد تذهب الى الحج تغفر الذنوب.. فوقعنا في وهم التاريخ.. هكذا سمعتها من احد مسؤلي مؤسسة الدين الذين زاروا واشنطن بنفسي في واشنطن يحدث السامعين.

,انه كاذب افاك لم يفهم الا مصلحة المذهب الوهم في التحقيق. وهنا سر التخلف في سلطتهم الجائرة البارحة واليوم على الناس اجمعين . فالإسلام دين فلسفة معمقة ثابتة ترمي لتحقيق العدل المطلق والاستقامة ولاغير.. فطريق العدل والمبادئ هو وحده يضمن للمجتمع استعادة التوازن والثقة، حتى لو تم في ثورة فيها تضحيات. هذه هي مبادئ ثورة تشرين19 التي قتلها الحاكم الظالم بمساعدة اعدء الشعب من الفرس الغرباء الكارهين والحاقدين على امة العرب والمسلمين..

فطريقهم لم يأتِ لظلم الاخرين وقتلهم وسبي ذراريهم في الفتوحات الباطلة كما قالوا ونفذوا، وانما الدين جاء لأحتواء خلافات المتعارضين، يقول الحق: "من شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر أنا أعتدنا للظالمين ناراً" فالإسلام يدعو الى الحرية في معتقدات الانسان حتى اصبحنا بنكرانها بنظر التاريخ أقسى من المغول.. بينما غالبية الديانات لا تعترف بهذا الخطأ فاستطاعت ان تتجاوز التخلف في الوجود.. فتقدمت ونحن لا زلنا الى الوراء در. فهل سنصحى على التاريخ. أم نبقى نغالي دون ثبت.. من برهان فلا يصح ان ينسب الفعل الى فاعلٍ غير مختار.. ؟ أنتبهوا.. فقد فات الآوان..

من يعترض على ما نقول.. عليه ان يرد ردا علميا بالأثبات.. لا بالعاطفة التي جمدت عقولنا وأوصلتنا الى التوقف الانساني.. ؟

***

د. عبد الجبار العبيدي

بقلم: سالي روني

ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم

***

تقود الرأسمالية نحو تدمير كوكبنا. علينا أن نفكر خارج - وضد - إطار نظامنا السياسي الحالي.

***

إذا استمر حرق الوقود الأحفوري بالمعدلات الحالية، فنحن ماضون نحو انهيار حضاري كارثي. وربما الأمر الأكثر غرابة هو أنه لم يعد هناك خلاف جاد حول هذا الادعاء. ليس فقط لأن الإجماع العلمي أصبح ساحقًا، بل لأننا بدأنا نرى الأدلة بأنفسنا. الأحداث المناخية القاتلة تحدث بشكل متكرر وبشدة أكبر في كل مكان ننظر إليه. المزارعون يعانون من تأثير ارتفاع درجات الحرارة، وتغير أنماط الطقس وفقدان التنوع البيولوجي بشكل مباشر. معظم قادة العالم ملتزمون بتقليص انبعاثات الكربون. "لا يمكن إنكار العلم"، كما يقول سيمون هاريس، "الكوكب يحترق". ولكن كل عام، تُفوَّت الأهداف، ويحقق الوقود الأحفوري أرباحًا ضخمة، وتستمر انبعاثات الكربون العالمية في الزيادة.

كيف يمكن أن يكون هذا؟ يبدو أن البشرية نفسها محاصرة في معركة موت رهيبة، تكافح يائسًا من أجل بقائها. ولكن ضد أي عدو؟ ما هي هذه القوة الجبارة التي تحارب البشر نحو الانقراض؟ البعض قد يجعلنا نعتقد أن الإجابة هي أنفسنا: أننا كائنات جشعة بطبيعتنا، محكوم علينا بتدمير كل ما نلمسه. ولكن في الواقع، عاش البشر على كوكب الأرض لمئات الآلاف من السنين، ولم نبدأ في انبعاث مستويات خطيرة من ثاني أكسيد الكربون إلا منذ ولادة الصناعة في القرن الثامن عشر. ومعظم الزيادة في الكربون في الغلاف الجوي حديثة جدًا. نسبة مذهلة منها تعود إلى العقود القليلة الماضية فقط – عندما كان خطر تغير المناخ قد أصبح مفهومًا تمامًا. إذا كان كوكبنا الذي يزداد حرارة نتيجة لجشع البشر، فيجب أن يكون نوعًا خاصًا من الجشع، نوعًا ظهر بشكل محير في وقت متأخر من تاريخ نوعنا الطويل، ثم فجأة وبعنف. ولكن يمكننا أن نعطيه اسمًا أفضل وأكثر تحديدًا: الرأسمالية.

الشركات المتعددة الجنسيات تدمر الأرض من أجل الربح. إذا أردنا تغييرًا حقيقيًا، فيتعين علينا أن نكون على استعداد لتهديد هذه الأرباح.

على عكس الطرق الأخرى لتنظيم الحياة الاقتصادية، فإن النظام الرأسمالي ينتج – ويعتمد على – النمو الأسي. قبل عصر الرأسمالية الصناعية، لم يكن الإنتاج الاقتصادي يميل إلى التغيير كثيرًا من عقد إلى عقد، أو حتى من قرن إلى قرن. كانت نفس الأراضي تنتج تقريبًا نفس العوائد في عام 1200 كما في عام 1600. لكن ظهور الرأسمالية غيّر كل ذلك. اليوم، تمامًا كما في عصر محرك البخار، يجب على الاقتصادات الرأسمالية أن تنمو باستمرار، وليس نحو حالة نهائية من الوفرة المثالية، بل نحو المزيد دائمًا: المزيد من الموارد، المزيد من الإنتاج، المزيد من الاستهلاك، دائمًا المزيد. النمو يعني العائد على الاستثمار، والعائد على الاستثمار هو الأساس الذي يقوم عليه الاقتصاد الرأسمالي. أولئك الذين لديهم رأس المال للاستثمار يريدون أن ينمو استثمارهم، ليس لأنهم أشرار أو مجانين، ولكن لأن هذه هي القاعدة الأساسية للاستثمار نفسه. كما يوضح الفيلسوف السياسي كوهِي سايتو، فإن الرأسمالية لا يمكن أن "تتباطأ" ببساطة. إن الدفع نحو النمو هو محرك النظام. وهذا المحرك، مثل معظم المحركات الأخرى، يعمل على الوقود الأحفوري.

بالطبع، هذه الصورة غير مكتملة. الفحم والنفط والغاز هي مجرد مواد غير حية، ليس لها قوة جوهرية للتأثير على اقتصادنا. من أجل أن تحقق الوقود الأحفوري ربحًا، يجب على الناس تبادل المال من أجلها أو من أجل السلع التي تساعد على إنتاجها. وبالفعل، يفعل الناس ذلك! من الرحلات الجوية الطويلة إلى السيارات الفاخرة إلى الأزياء السريعة القابلة للتخلص منها، يحرص المستهلكون الأثرياء على تدنيس كوكبنا من أجل تسليتهم وراحتهم. لكن الاستهلاك بحد ذاته، مهما كان مفرطًا، لا ينتج أو يعتمد على النمو الأسي. إذا اشتريت 10 قمصان هذا العام، لا يوجد منطق اقتصادي يدفعك لشراء 12 أو 15 قميصًا في العام المقبل. النمو هو مبدأ الرأسمالي، وليس المستهلك. والفجوة بين احتياجات الناس واحتياجات رأس المال تلوح أمامنا بوضوح. هنا في أيرلندا، بينما تكافح العديد من الأسر لدفع فواتير الطاقة، تستخدم مراكز البيانات الشركات الخاصة الآن كهرباء أكثر من جميع الأسر الحضرية مجتمعة.

ماذا عن الديمقراطية؟ حسنًا، ديمقراطية من؟ نظامنا السياسي ليس ديمقراطية عالمية واحدة، بل هو هرم من الأمم غير المتكافئة. في الواقع، فإن حفنة من الناخبين في الولايات المتأرجحة في الولايات المتحدة لديهم قوة أكبر لتحديد سرعة وحجم ارتفاع حرارة الكوكب مقارنة بمليارات الأشخاص الآخرين على الأرض. اشتهر المستعمرون الأمريكيون بثورتهم ضد ممارسة "الضرائب بدون تمثيل". هل التدمير البيئي بدون تمثيل مختلف؟ حتى إذا كانت انبعاثات الكربون تحدد ديمقراطيًا بالكامل – وهو ما ليس عليه الحال – فلماذا يجب أن يكون لدى الناخبين في أغنى دول العالم الحق في تسميم الهواء والبحر والتربة والأنهار لبقية سكان الأرض؟ الكربون المنبعث في الولايات المتحدة وأوروبا يسبب دمارًا في باكستان، وفي هايتي، وفي الصومال، وفي الفلبين. لكن شعوب هذه البلدان ليس لها الحق في التصويت في الانتخابات الأمريكية أو الأوروبية. كطريقة لتنظيم حياتنا السياسية الجماعية، يبدو ذلك أقل كديمقراطية وأكثر كنظام سياسي آخر نعرفه هنا في أيرلندا: الإمبراطورية.

سالي هايدن: تغير المناخ من صنع الإنسان، لكن ليس جميع البشر لعبوا نفس الدور فيه.

جزيئات الكربون، مع ذلك، لا تعرف شيئًا عن السياسات الانتخابية أو السيادة الوطنية. الحدود الأكثر تسليحًا والأشد رقابة في العالم لا توقف تسلل الكربون في الغلاف الجوي. قد نرى أنفسنا كمواطنين في دول ديمقراطية، ولكن عندما يتعلق الأمر بانهيار الأنظمة البيئية للكوكب، فإننا جميعًا أولاً وقبل كل شيء سكان هذه الأرض المشتركة.

الفقراء في العالم – الذين يعملون في المصانع والحقول والمناجم لإثراء الأغنياء – يعانون بالفعل من أقسى صدمات المناخ وأبكرها. ولكن لا تخطئ: هذه الأزمة قادمة للجميع. الفيضانات المدمرة مثل التي أودت مؤخرًا بحياة مئات الأشخاص في فالنسيا أصبحت أكثر تكرارًا ودمارًا. والعواصف المدمرة تتزايد من حيث الانتظام والشدة. وفي عام 2023 وحده، يُقدر أن حوالي 47,000 أوروبي لقوا حتفهم بسبب الحرارة الشديدة. وهذه مجرد البداية.

مازال بإمكان الناخبين المهتمين بمستقبل الحياة البشرية على الأرض اختيار دعم الأحزاب اليسارية الراديكالية القليلة التي تحاول فهم حجم التحدي، مثل حزب "الشعب قبل الربح" هنا في أيرلندا. وبالمثل، يمكن للمستهلكين الذين يشعرون بالقلق إزاء المناخ تقليل تأثيرهم على انبعاثات الكربون من خلال التوقف عن السفر بالطائرات، وتقليل تناول اللحوم أو الامتناع عنها، وشراء عدد أقل من الأشياء غير الضرورية، وما إلى ذلك.

هذه الخطوات ليست بأي حال من الأحوال خطوات عديمة المعنى، لكنها أيضًا ليست كافية لإسقاط مؤسسات الوقود الأحفوري. إن انهيار النظم البيئية العالمية وارتفاع درجات الحرارة بشكل متسارع يتطلب منا التفكير خارج – وضد – إطار نظامنا السياسي الحالي. إذا كنا نريد لأطفال اليوم أن يكون لهم مستقبل على هذا الكوكب، فلا يمكننا الاستمرار في الالتزام المطيع بالقواعد التقليدية.

إذن ما الخيارات المتبقية؟ الاحتجاجات في الشوارع؟ العرائض؟ الحملات العامة؟ رمي الحساء في المعارض الفنية العامة؟ لكنها جميعها أساليب تهدف إلى تغيير الخطاب العام. الشركات متعددة الجنسيات لا تدمر الأرض لأنها تريد كسب تعاطف الجمهور؛ إنها تدمرها لتحقيق الأرباح. إذا كنا نريد تغييرًا حقيقيًا، علينا أن نكون مستعدين لتهديد تلك الأرباح – وأن نتعلم من أولئك الذين فعلوا ذلك. هنا في مقاطعة مايو، عمل نشطاء من منظمة Shell to Sea لأكثر من عقد لمعارضة بناء خط أنابيب غاز محلي ومصفاة تابعة لعملاق الوقود الأحفوري شل. بدءًا من عام 2005، نظمت الحملة اعتصامات عند مواقع البناء، ومنعت العمال من الدخول، بل وعمدت إلى تخريب البنية التحتية بتمزيق الطرق الخشبية التي وُضعت فوق الأراضي المستنقعية. واجه المحتجون العنف والترهيب من الشرطة ومن شركات الأمن الخاصة، لكنهم استمروا في نضالهم. وبحلول عام 2012، قُدّر أن التأخيرات الناتجة عن التحركات المجتمعية قد ضاعفت تكلفة المشروع ثلاث مرات. نعم، تم بناء خط الأنابيب في نهاية المطاف. ولكن في اقتصاد السوق، قد تجعل التأخيرات المكلفة الاستثمار أقل جاذبية. إذا كان بإمكان مجموعة محلية واحدة من النشطاء الملتزمين أن تكلف شل أكثر من مليار يورو، تخيلوا ما يمكن أن تحققه عشرات أو مئات من مثل هذه المجموعات.

ما الذي يمنح الشركات متعددة الجنسيات الحق في تلويث الهواء الذي نتنفسه، واستنزاف مواردنا المائية، واستغلال موارد كوكبنا المحدودة – ويحرمنا من الحق في وقفها؟ فكرة واحدة قوية: الملكية الخاصة. لأن الأغنياء يمتلكون الأشياء، والفقراء لا يمتلكون، يصبح من القانوني للأغنياء تدمير الأرض وغير قانوني للفقراء منعهم. كما كتب الأكاديمي السويدي أندرياس مالم في كتابه "كيف نفجر خط أنابيب" الصادر في عام 2021: "الملكية لا تقف فوق الأرض؛ لا يوجد قانون تقني أو طبيعي أو إلهي يجعلها غير قابلة للمساس في هذه الحالة الطارئة". علينا إما مواجهة النظام الذي يهدد حضارتنا – أو أن "الملكية ستكلفنا الأرض". وفي كل عام، وكل شهر، تصبح الحجة أكثر صعوبة في دحضها. نحن نعرف ما يحدث بالفعل حولنا. ونعرف ما الذي سيحدث لاحقًا. متى سنجد الشجاعة لوقف ذلك؟

[غاز كوريب: هل كان الأمر يستحق ذلك؟ نعم.يفتح في نافذة جديدة]

[الخط الزمني لغاز كوريب: 20 عامًا من الاحتجاجات والجدل]

ربما السيناريو الأفضل هو أن ينظر أطفال اليوم وأحفادهم إلينا برعب، متسائلين كيف تمكن العديد منا – وأنا منهم – من أن يكونوا بهذا القدر من الهدوء، وعدم التنظيم، والجبن، في الوقت الذي كنا نعلم فيه أن حياتهم كانت على المحك. لكن هناك سيناريو آخر محتمل بنفس القدر، وهو أنه لن يبقى هناك عدد كبير منهم أصلاً، ولن يتوفر لهم الوقت الكافي للنظر إلى الماضي.

(انتهى)

***

...........................

الكاتبة: سالى رونى / Sally Rooney روائية وكاتبة إيرلندية مشهورة لها أربع روايات، صدر آخرها هذا العام بعنوان: Intermezzo وتعني فاصل موسيقى أو استراحة . ولدت سالي روني عام 1991 في كاسلبار، مقاطعة مايو.

رابط المقال:

https://www.irishtimes.com/life-style/people/2024/11/23/sally-rooney-when-are-we-going-to-have-the-courage-to-stop-the-climate-crisis/?utm_source=Sailthru&utm_medium=email&utm_campaign=Lit%20Hub%20Daily:%20December%204%2C%202024&utm_term=lithub_master_list

اهم ماقد ميز الماركسية تحويلها "اليوتوبيا" الى "ارض توبيا"، فاذا بالحلم الارضي يتحول الى حقيقة وممكن قابل للتحقق بالاليات التاريخيه المجتمعية الحتمية، والوعي بها وبحركتها الخارجه عن الرغبة او الارادة البشرية، فماذا يتبقى في مجتمع طبقي، بعد البرجوازية ونظريتها  ونموذجيتها الليبراليه،  غير مايقابلها من منتهى"بروليتاري" اشتراكي/ شيوعي تعاقبا منطقيا اصطراعيا كما يبدو للوهلة الاولى، تحت طائلة ومفعول متبقيات التعاقبية اليدوية الالية المعتمده في حينه، بناء على العجز الابتدائي الاستهلالي عن ادراك الحقيقة الاليه، وبالتحديد تجاوز كون الانتقال  التعاقبي اليدوي الالي، هو انتقال نوعي بين طورين ومرحلتين مجتمعيتين مختلفتين كليا، الاولى منهما ارضوية، والثانية كونية لاارضوية منطوية على اسباب انقلابها النوعي، معها تصل المجتمعية الغاية التي وجدت كي تؤديها على مستوى تطور وارتقائية الكائن البشري، من الحيوانيه الى الانسانيه المرتهنه للعقل وحضوره،  غير الخاضع للجسدية وحكم الحاجة المميز للطور اليدوي الاول من التاريخ البشري.

  ومع التفارقية النوعية المجتمعية، من البديهي ان تتولد تفارقبة في "الحلم" و "اليوتوبيا" تقسمه هو الاخرالى نوعين، ارضوي ولا ارضوي، احدهما يتوقف بالمجتمعية  عند المنتهى الطبقي البروليتاري  ومآله اللاطبقي واللادولوي اللاتملكي، مقابل الحلم او الحقيقة المضمرة المتعدية اصلا للمجتمعية بكل انماطها واشكال تجسدها،  وهو مايتفق مع الحقيقة المضمرة ومع اتجاهات التفاعلية المجتمعية التاريخيه المتعدية للارضوية، ارتكازا للحقيقة المغفله قصورا  عقليا، وللعجز التاريخي عن رؤية الازدواج المجتمعي، كما كان عليه الحال بالنسبة للازدواج الادنى الطبقي الذي ظل مبهما هو الاخر الى العصور الحديثة، والى مابعد الانقلابية الالية وتبسيطات الابتداء الغربي الافتتاحية تحت طائلة الانبجاس الالي، قبل توفر اشتراطاته الادراكية مع القرن التاسع عشر، ومنها لابل في المقدمه منها نظرية ماركس التحولية الدنيا.

  " ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ التفاعلية الازدواجية المجتمعية ذهابا الى مابعد مجتمعية" هذا ماكان مفترضا بماركس ان يقوله وعجزعنه  لاسباب موضوعيه خاصة  بانتمائه الجغرافي المجتمعي، وباللحظة التي وجد ضمنها ابان ابتداء الانقلاب الالي، في المكان الذي هو منه، وماقد نجم عنه من انقلابية في الاليات المجتمعية، مع الانتقال النوعي الانقلابي من اليدوية الى الاليه في مجتمع عالي الديناميات، قياسا بعموم نمطيته الارضوية اصلا، بسبب ازدواجيته الاصطراعية الطبقية، مع احتدامية الافتتاح الالي المصنعي الكبرى على صعيد الصراع بين الطبقات بالذات. حيث يعود ليتكرر بهذه المناسبة ليحضر بقوة، ماقد سلف من الاعتقاد الناقص القصوري على  مستوى  مفهوم الوجود المتاح، القائل بارضوية  وابدية الوجود البشري المجتمعي ارضويا، بناء لرسوخه الدال على مستوى الاحاطة والادراكية العقلية المتوفرة للكائن البشري حتى حينه كمتبقيات، لم يحن اوان زوالها وعيا،  رغم بدء توفر اسباب الارتقاء العقلي اتفاقا مع  التغير النوعي في الطور التاريخي، من اليدوية الى الالية، مع ان قفزات عقلية قد حصلت بمثابة حزمه انتقالية انقلابيه، من اهمها اكتشاف الطبقات والصراع الطبقي، ومانتج عنه من تصور تحولي واحتمالية انقلابيه اجتماعية عائدة افتراضا  بالتاريخ المجتمعي على بدء، من " الشيوعية اليدوية" الاولى الى "الشيوعية الالية" العليا، المقصد الاخير.

  يغيب بحكم القصور العقلي الغامر اهم عناصر السيرورة التاريخانيه الفعلية، بغمط الابتداء اللاارضوي  بغض النظر عن الوقائع الشاخصة، فلا احد بناء عليه يمكن ان يرى الى معنى الانبعاثية الرافدينيه الثالثة الحديثة مع القرن السادس عشر، بعد ثلاثة قرون على انتهاء الدورة التاريخيه  الثانيه مع سقوط بغداد عام 1258 من ارض سومر بالذات، حيث البدئية المجتمعية الاولى بعدما حققت واقعا ماهو ضروري واساس للانقلاب الالي، بدءا بالبرجوازي التجاري مع الصعود التجاري الريعي العالمي وعاصمته العالمية بغداد، عاصمة الدورة الثانيه الازدواجية الرافدينيه، ليبدا من حينه، مع القرنين الثاني عشر والثالث عشر، توقيت انهيار بغداد،  طور الصعود البرجوازي الاوربي على المنقلب الاوربي بعوامل من خارجه، ظلت تتنامى الى القرن السابع عشر،وقت كان موقع الازدواج المجتمعي قد بدا يتجاوز القصورية  التحولية للدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، مفتتحا قبل الانقلاب الالي الذي هيا هو اسبابه المادية، الدورة الاخيرة الحديثة الثالثة  الراهنه من تاريخ التحولية المجتمعية.

 لايبدا تاريخ الانقلاب الالي من القرن السابع عشر مع ظهور الاله، بل من القرن السادس عشر مع قيام "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر الحديثة "ذي قار"، اي مع بدء الدورة الازدواجية التاريخيه مابين النهرينيه الحاليه، لتنهي متبقيات الطور اليدوي اصطراعا، مع المركز البراني اليدوي المتعاقب على عاصمة الدورة الثانيه الامبراطورية المنهارة، وصولا الى العثمانيه اخر البرانيات اليدوية الفاصلة بين الطور الثاني المنهار، والطور الراهن الذاهب الى الاصطراعية الالية بعد حقبتين تاريخيتين، الاولى قبلية، والثانيه انتظارية نجفية، قبل الانتقال الى الطور الايديلوجي الاكراهي الالي الاستعماري، ونموذجيته الافنائية الوطنيه، كما هي مجسدة اوربيا آليا في ( الدولة / الامه)، وقد سلطت قسرا على نمطية كونية بالطبيعة والمنشأ،  لم تعرف في تاريخها على الاطلاق، التشكلية المحلوية الارضوية الاحادية الكيانوية المعروفة ب " الوطنيه".

 تبدا المجتمعات لاارضوية قاصرة عن التحقق والانتقال من الجسدية الحاجاتيه الى العقلية الكونية، مابعد "الانسايوانيه"، المرحلة الانتقالية الاخذه بالكائن الحي من الحيوانيه الى "الانسانية" العقلية، المتحررة من وطاة الجسدية المتبقى الحيواني، عنصر ارتهان الكائن البشري للكوكب الارضي، علما بان الكائن الحي ازدواجي، الانتماء  والتفاعل وانه ليس منفصلا عن الكون، بل مرهون به وبقوانينه التي ماتزال خافية على العقل بحدود ادراكيته الحالية كما تحقق في وثبته الاولى ابان الانتصاب على قائمتين، وان تكن القوانين الارضوية وتفاعليتها هي الغالبة، وتظل كذلك  كما يجري ادراكها عيانا  بالملموس، كما هي ابان الطورين الحيواني و"الانسايواني"،فلا تتهيأ اسباب رؤية الاليات التحولية المجتمعية  الكونية الناظمة لتاريخ المجتمعات، بينما يحدث ان يرى ماقد توصل اليه شخص مثل ماركس قال ب "المادية التاريخيه"  كمنتهى الممكن من الادراكية للتحول الارضوي باعلى صيغه.

  ـ يتبع ـ 

***

عبد الامير الركابي

أفادت المرجعية الدِّينية النجفيّة، في لقاء مع ممثل الأمم المتحدة، نصاً: «حصر السِّلاح بيد الدَّولة»(النَّجف4/11/2024، وكالات الأنباء). عندما تُصرح المرجعية بذلك، وهو اِفتاؤها السابق، تعني عشرات الميليشيات، أما الأفراد والعشائر، لا اِمتداد خارجي لهم، فضبط سلاحهم لا يحتاج فتوى، وأمماً متحدة.

أخذت الميليشيات، بولائها الخارجي قيادةً وعملياتٍ، تحرج السُّلطة العراقية، فكم قائد ميليشيا هدد بإعلان الحرب، ولا تعنيه قيادة قوات المسلحة ولا وزارة الدفاع، ناهيك عن اِتخاذ مناطق للاختطاف والاغتيال، ومنطقة «جرف الصّخر» تحكي وقائع الاغتيال والخطف، مِن قبل ميليشيا معروفة، وهو مكان محرم الاقتراب منه، حتى على السُّلطة نفسها.

غير أنّ الإعلام الميليشاويّ فسر تصريح المرجعية: «حصر السّلاح بيد الدولة»، لا يعني الميليشيات، لأنها «الحشد الشّعبيّ» نفسه، والأخير ضمن إطار الدولة، مع العلم أنّ ميليشيات الحشد، المعروفة بالولائية، تستنزف أموال الدولة، ولا تلزمها أوامرها، لها مرجعيتها وولاتها الأجانب.

إنها عالم آخر، تأسست كجيشٍ موازٍ داخل العِراق، بدأ تشكيلها لحظة سقوط النظام السّابق (2003)، بل سبق وجودها إعادة تشكيل الجيس العراقيّ نفسه، ثم أخذت تتكاثر، باتخاذها «فتوى الجهاد الكفائيّ» (2014) ذريعةً شرعيّةً لوجودها. بينما خطاب المرجعية - صاحبة الفتوى- كان واضحاً، منذ إطلاقها، وهو التّطوع داخل القوات المسلحة لا خارجها. فأيّ ميليشيا عناصرها داخل الجيش الرّسميّ؟

نُذكّرُ بنداءات المرجعية المتكررة، في عدم موافقتها، بل واعتراضها على وجود ميليشيات: جاء في خطبة الجمعة (4-7-2014)، بشأن تلبية نداء ما عُرف بـ«فتوى الجهاد الكفائيّ»: «نؤكّد مرّةً أخرى على ضرورة تنظيم عملية التطوّع، وإدراج المتطوّعين ضمن تشكيلات الجيش والقوات الأمنية الرسمية، وعدم السماح بحمل السلاح بصورةٍ غير قانونية، وفي هذه المناسبة نجدّد الشكر والتقدير للقوّات الأمنية، ومن التحق بهم من المتطوّعين الذين يخوضون معارك ضارية ضدّ الإرهابيين الغرباء، من أجل الحفاظ على بلدنا وشعبنا، بجميع مكوّناته وطوائفه، سائلين المولى العليّ القدير أنْ يحميهم وينصرهم، إنّه سميع مجيب»(موقع المرجعية الرسميّ).

كذلك كررت المرجعية في خطبة الجمعة (11/7/ 2014)، طبيعة التطوع، وفق «فتوى الجهاد الكفائيّ»: «لقد أوضحنا أكثر مِن مرة، أنّ الدَّعوة للتطوع في صفوف القوات العسكرية والأمنية العراقية، إنما كانت لغرض حماية العراقيين، من مختلف الطوائف والأعراق، وحماية أعراضهم ومقدساتهم، من الإرهابيين الغرباء، ومن هنا نؤكد على جميع المقاتلين في القوات المسلحة، ومَن التحق بهم من المتطوعين، الذين نشيد بشجاعتهم وبسالتهم، في الدِّفاع عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم... نؤكد عليهم جميعاً ضرورة الالتزام التام والصارم، برعاية حقوق المواطنين جميعاً، وعدم التَّجاوز على أيّ مواطنٍ بريءٍ، مهما كان انتماؤه المذهبي أو العرقي، وأياً كان موقفه السِّياسي».

كما جاء التشديد أكثر، في شأن التَّطوع في القوات المسلحة، لا تشكيل ميليشيات: «نؤكد أيضاً مرة أخرى، ضرورة تنظيم عملية التطوع، وإدراج المتطوعين ضمن القوات العسكرية، والأمنية العراقية الرسمية، وعدم السَّماح بوجود مجموعات مسلحة خارج الأطر القانونية، تحت أيّ صفة وعنوان، هذه مسؤولية الحكومة، وليس لها أنْ تتسامح في القيام بها»(موقع المرجعيّة الرّسميّ).

لا أعتقد هناك وضوح أكثر مِن هذا! فليست الميليشيات جيشاً موازيَّاً لجيش الدَّولة فحسب، بل تعبث في المؤسسات الاقتصادية والأمنية والخدميّة بنفوذها.

إنّ العنادَ في تفسير نداءات المرجعية الواضحة، مرّ على أهل العِراق مِن قَبل، عندما حرم الحجاج الثقفيّ(حكم: 75-95هج) على الناس لحوم البقر، لأجل زيادة الخَراج: «شكونا إليه خراب السّواد/فحرّم فينا لحوم البقر/ وكان كما قيل فى بعده/ أريها السّها وترينى القمر»(العسكريّ، جمهرة الأمثال)، والمقصود بالمثل التحايل على الواضح مِن الكلام. لكنّ العنادَ واضحة أسبابه، أنّ هؤلاء لا تعنيهم مرجعيَّة النَّجف، ولا الدولة العراقية.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يبدو من سيمياء العنوان إنها خواطر حقيقية وواقعية ليست فنتازية خيالية بل هي خواطر نابعة من أماني مواطن فقد وطنهُ بعد 2003 بمرور عقدين ونيف عجاف وهو يعاني التصحر الروحي في أقحام وعي الشعب وتأريخهُ في سديم النقطة السوداء لتدمير وتغييب نهايته التراجيدية، وإن واقع السينما العالمية وهويتهُ راسخة في قلوب الجمهور المتابع بشغف خاصة في دول الغرب ذات الديمقراطيات القديمة حيث تصل لدرجة المغالاة في تقديس وعشق الشاشة البيضاء ولتصل إلى التقديس كما قال الفنان الوجودي الفرنسي (رولان بارت): {إن السينما مقدسة ترقى زيارتها كزيارة المعابد} وإن وظيفة السينما تحدد على مستويين، مستوى كونها عامل ترفيهي وثانيها أداة تأثير في الأذهان فسرعان ما يزول العامل الترفيهي بتقادم الزمن ويبقى العامل النفسي بمحور جمهور سينمائي كما هو الحال اليوم في الجمهور الكروي البرشلوني والريالي.

أسباب الانحطاط:

-فوبيا السلطات الشمولية من واقع السينما الذي يعرض الأحداث السياسية بشكل وثائقي مؤرخن ينقلب إلى مؤثر ديناميكي في الوعي والأدراك بالحالة المزرية فاللجوء إلى التغيير كما أحدثهُ الفيلم الروسي المدرعة بوتيميكين في زعزعة النظام القيصري.

- أن أغلب الروايات الإنسانية تحولت إلى الشاشة البيضاء السينما مع جمهورها المتصاعد يوما بعد يوم.

- تطور السينما العالية في فن التكنيك للسيناروهات في المزج بين التراث الكلاسيكي والتقنية الرقمية المعصرنة الحداثوية.

- ولآن السينما تقدم نقدا ثقافيا واجتماعيا للواقع العراقي لحقبات تأريخية بعمر قرن من الزمن بكشف التشوهات السوسيولوجية الآجتماعية للمجتمع العراقي وبالأخص (جيل الحرب والحصارالأقتصادي).

- وإن الشاشة البيضاء للسينما تعتبر أرقى أشكال التعبير المرأي في تجسيد ما يجيش في أعماق اللاوعي وتدور هذه الأشارات حول محور الأنسان لأنه أثمن رأسمال.

- ويمكن للسينوريست والكاتب اللجوء للترميزية الأحيائية المرئية في أثارة أسئلة محرجة للسلطات الشمولية حول العدمية السوداوية مما يجعل الشاشة البيضاء تأملية واعدة للأيمان بمفهوم التغيير الشامل.

- وان للمد الديني الراديكالي دورُ كبيرُ في انحطاط دور السينما باعتبارها من المحرمات وللأسف الشديد غدت دور السينما اليوم بعد 2003 هياكل تراثية ربما مخازن تجارية.

وشهد الزمن الجميل في ستينات وسبعينات القرن الماضي فترة ذهبية في رغبة الجمهور الشديدة لصداقة السينما التي هي الركيزة الأساسية في أثارة الوعي ونقل الأحداث اليومية إلى الشارع وهل يغيب القمر في حياة الشباب ىالمتطلع والمتشوق لثلاثة أحداث مهمة هي (مسابقات كرة القدم – والأولمبيات – ومهرجان كان السينمائي)

ولابد من استذكار فترة الستينات والسبعينات الزمن الجميل وهي الفترة الذهبية لأيام الشباب ومعايشتنا تطور الفن السينمائي وارتفاع سقف الطلب عليه مما شجع القطاع الخاص الى بناء صالات دور راقية فيها التكنيك المعماري الحديث من تبريد وشاشات عملاقه وكراسي وثيرة وكامرات حديثة وطاقم أداري وعمالي لخدمة المرتادين لهذه الدور مثل سينما النصر، وسميراميس، وأطلس، والخيام، وسينما روكسي وريكس (في بغداد طبعا).

وأحداث السينما العالمية منذ انطلاقتها تعتبر التأريخ: نوعا فلميا في توضيح دورها الآيدولوجي من جهة في الانتشار الجماهيري للسينما من جهة ثانية لذا نرى الأحداث التأريخية الكبرى أحتلت حيزا في السينما الى جانب اعتبارها فنا وصناعه، فن ومجتمع، أبداع فردي وجماعي، وأن وظيفتها تحدد على مستويين: مستوى كونها عامل ترفيهي وثانيها أداة تأثير في الأذهان أذ سرعان ما يزول العامل الترفيهي بتقادم الزمن ويبقى العامل النفسي الذي يحفر في الذهن أخاديد لا تنسى – كما أن الطاقة لا تفنى فأن الفن أيضا لا يفنى- بل في تجدد مستمر، وأن العديد من مؤرخي الثقافة العربية المعاصرة يتعاملون مع ذوقيات المثقف العربي خلال أرتياده للسينما ونوعية الأفلام التي يحبذها.

والغريب أن الحداثة تطغى على العالم في كل المجالات التقنية والفنية، ولكن نجد انحطاط واقع السينما العراقية – بالرغم من أهميته الرقمية في توثيق الأحداث في أرشيف الأمة – حيث أغلقت ابوابها وتبخر روادها، ربما يكون تداول الفلم عن طريق الأقراص المدمجة، وعالم اليوتوب الفسيح، والفضائيات، وجيل الآيفون المتطور، أو المد الدينى الذي يعتبره من المحرمات، وأشعر بالأسى حين أتذكر الزمن الجميل حين نشاهد فلمين في يوم الأجهزة بالإضافة كنا نترقب بشغف برنامج (السينما والناس) التي تعدها المذيعة المتألقة الراحلة الطيبة الذكر{اعتقال الطائي} وتعرض في آخر البرنامج فلما عالميا على شاشات التلفزيون العراقي.

وسوف أعرض بعض الأفلام الهادفة والملتزمة أنسانيا والتي تحضرني – شاهدتُ بعضها شخصيا – وأني كنت مولع في أرتياد دور السينما لمشاهدة هذه الدرر من الروايات العالمية الموسومة بأقلام عباقرة كتاب العالم والمعروضه سينمائيا، وأعتذر عن نسيان بعضها (العمر اتعدا ال-------لا يا فلان).

1- ذهب مع الريح: تأليف ماركريت ميتشل 1939 عرض الفيلم على صالة سينما ريكس – شارع الرشيد- سنة 67 ومدة الفيلم 222 دقيقة، تمثيل كلارك كيبل وفيفيان لي وترجمت الى ثلاثين لغة منها اللغة العربية، ولروعة الفيلم وشدة الطلب عليه أعيد عرضه سنة 1971 على صالة سينما روكسي، ويدور أحداث الفيلم حول الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال الصناعي والحنوب الزراعي وتحرير العبيد وأنهيار الأقطاع وحب جارف ومندفع بجنون ولكنه ينتهي بنهاية غير سعيدة.

2- الرز المر: من الأفلام الأيطالية الواقعية ومن أخراج المخرج الواقعي (جوسيبي دي سانتس، وتمثيل الحسناء الأيطالية (سلفانا منكانا )1949 وعرض سنة 1961 على صالة سينما ريكس في شارع الرشيد، ويحكي أستغلال النساء العاملات في حقول الرزفي ايطاليا، وهو يمثل الواقعية الجديدة في السينما الأيطالية.

3-افلام المخرج الأيطالي الواقعي (فيتوريو دي سيكا) يحكي الواقع الإيطالي البائس حيث الجوع والتشرد الذي هو من نتاج الحرب العالمية الثانية منها: سارق الدراجة وهو فلم مأساوي، وماسح الأحذية، وأمرأتان عرض على صالة سينما الخيام سنة1964تمثيل الممثلة المثيرة والجميلة المتألقة (صوفيا لورين) التي حصلت على جائزة الأوسكار في تمثيلها في هذا الفيلم، وأخراج افلام المرح والتأمل برومانسية شفافة رائعة مثل(خبز وحب ومرح ) بطولة الحسناء الفرنسية (جينا لولو بريجيدا) وعرض في بغداد في 67.

4-ومن الأفلام السوفياتية: دستوفسكي 1821- 1881 واحد من أكبر الكتاب الروس ومن أفضل الكتاب العالميين كان له أثر بالغ وعميق على أدب القرن العشرين، ورواياته تحوي فهما عميقا للنفس البشرية، كما تقدم تحليلا دقيقا ثاقبا للحالة السياسية والأجتماعية الروحية لروسيا في ذلك الوقت، والعديد من أعماله المعروفة تعد مصدر ألهام للفكر والأدب المعاصر، وشاهدنا له (الأخوة كارامازوف) بطولة يول برينر سنة 77 على صالة سينما ساميراميس-أذا أسعفتني الذاكرة- وشهدنا له روايته المشهورة (الجريمة والعقاب)على صالة سينما النصر في السبعينات، والفلمان عباره عن تشريح فسلجي للنفس البشرية وما يختلج فيها من مشاعر وأحاسيس وعندما تتغلغل داخل أعماقي تثير لدي أحساس غريب وكأنها تتحدث عني بوضوح.

الحرب والسلام: فيلم روائى للكاتب الواقعي (تولستوي) عرض بأسلوب واقعي معاناة الشعب البائس في خضم أهوال الحرب وفضائحه وما تجلبه من دمار ومآسي للشعب ليأكد للمشاهد الحاجة للسلام ضرورة ملحة لأنقاذ ما تبقى منه.

5-شكسبير:1554 – 1616 شاعر وكاتب مسرحي انكليزي يغوص أغوار النفس البشرية ويحللها في بناء متناسق هو أبرز الشخصيات في الأدب العالمي – أن لم يكن أبرزها على الأطلاق – تاجر البندقية، هاملت، عطيل، مكبث، يوليوس قيصر، جميعها عرضت على مسارح بغداد الجادة ومثل بعضها وترجمت الى العربية وتبقى النسخة الأنكليزية هي الأفضل كأنك أمام هذا الطود الشامخ يحاكيك قلبا ولسانا.

6- آرنست همنكواي: امريكي الجنسية كوبي الأقامة، وضح تجاربه في الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الأهلية الأسبانية – لأنه شارك فيها فعلا- ومن رواياته التي مثلت وشاهدناها بشغف: الشيخ والبحر، لمن تقرع الأجراص، وداعا للسلاح وعلى الشاشة الفضية لصالة سينما الخيام.

7-فكتور هيجو: روائي فرنسي شاهدنا له رائعته الرومانسية (أحدب نوتر دام) بطولة الأسطورة العالمية (انتوني كوين والحسناء المتألقة جينا لولو بريجيدا)، يوضح الظلم وغياب العدل وأنصات لصوت الضعفاء المحرومين.

8-ظهرت في مصر موجة الواقعية في السينما المصرية: مثل فيلم أفواه وأرانب للكاتب الجاد سمير عبد العظيم والمخرج الواقعي هنري بركات خص قضية الفقر وعدم التخطيط الأسري، وفيلم اللص والكلاب للكاتب نجيب محفوظ 1973 يوضح الصراع الطبقي، والصراع (بين الأنحراف المجتمعي والناس).

9- الفيلم العراقي " بحيرة الوجع " بطولة جلال كامل وهمسة الماجد والممثلة القديرة سناء عبدالرحمن من أنتاج مشروع بغداد عاصمة الثقافة 2013، وقد كان من ضمن مشاريع المخرج والممثل المبدع " جلال كامل " تصوير فيلمه الروائي بحيرة الوجع ضمن فعاليات بغداد عاصمة الثقافة العربية للعام 2013 ليحكي هموم العراقيين وهو يحاكي الدراما العراقية بعرض أحداث تأريخية مأساوية حدثتْ بين عامي 2006- 2007 من شحن طائفي مقيت وفتنة أيقضها المحتل الأمريكي لعنهُ الله، ولقد شاهدتُ شخصيا عرض الفيلم على صالة المسرح الوطني في بغداد الحبيبة خريف 2015، لقد أثارت لدي مزيجأ من الشجون مع بعض من الأحباط عن تهميش هذا الفن ووضع علامة كروس على بواباتهِ.

يتحدث الفيلم: عن التهجير، وأستنكار فتاوى الظلالة وموروثات العشائرية البالية، ونشر الحوار والتعايش السلمي المجتمعي وشعاردعم حقوق المرأة، وفهمتُ مغزى الفيلم (الجيل الجديد سوف يتجاوز التخلف لأستيعابه ثقافة المواطنة وقبول الآخرباللجوء إلى الحوار ثم الحوار.

10-المسرح الجاد العراقي: من أبطاله المخرج والكاتب والممثل الراحل قاسم محمد، والمخرج المبدع  ابراهيم جلال، والمخرجه والكاتبة د - عواطف نعيم، ورائد الفن الملتزم الراحل الأستاذ (يوسف العاني)، والكاتب الواقعي الجاد غائب طعمه فرمان الذي ابهجنا بغبطة وتفاؤل ونحن نشاهد النخله والجيران، والشريعه، والكاتب المبدع والواقعي (عادل كاظم)، والممثلات المبدعات فاطمه الربيعي وانعام الربيعي، والراحله فخريه عبد الكريم (زينب) وناهده الرماح وزكيه خليفه وطه سالم وشذا سالم و الممثل والكاتب د- سامي عبد الحميد وجعفر السعدي وخليل شوقي وسليم البصري وحمودي الحارثي وبدري حسون فريد و مقداد عبد الرضا وطعمه التميمي ومحسن العزاوي ومحسن العلي،  

وألف تحية وأجلال لهذه الكوكبة العراقية التي لا تخبو ضوءها الى الأبد.

***

عبد الجبار نوري- أبو رفاه - كاتب وباحث عراقي مغترب

في- سبتمبر 2024

اكثر من ثلاثين عاما مرت على سقوط الاتحاد السوفياتي، ومعها انتهت الماركسية كفعالية مع متبقيات ايمانيه ما تزال محموله من قبل الاحزاب الشيوعيه اللينينيه المنبثة على مستوى المعمورة، وهي ذاتها شبكه الاحزاب الاممية التي كانت موجوده ضمن اشتراطات مختلفة ابان ما كان الاتحاد السوفياتي حاضرا، والعالم يعيش حالة استقطاب بينه وبين ما يعرف بالمعسكر الراسمالي او الامبريالي، ما كان يمنحها حضورا ووزنا في بلدانها ومن ثم على الصعيد العالمي، الامر الذي غاب وسقط مع قاعدته ومصدر ديناميته، من دون ان يظهر للوجود اي مؤشر يمكن الاستدلال به ومعه على استمرار فعالية يمكن اضفائه على الاحزاب المذكوره مجتمعة، بما يبرر نعتها بالقوة الحية فضلا عن الحيوية الفاعله.

ومع غياب المركز/ الدولة ، لم يبق مما يسمع او يمكن ان يتابع في مواقف وتنظيرات الاحزاب المذكورة بما يتعدى التركيز على الايمانيه والتمسك الواثق بالحتمية: اليوتوبيه"المبهمه، هذا في حين لم يؤد حدث مثل انهيار الاتحاد السوفياتي الى وقفه من نوعه ومستواه تعيينا لموجبات مرحلة هي الثالثة في التدرجية الماركسية كدعوة، الاولى النظرية التاسيسية التي اضطلع بها ماركس/ انجلز، والثانيه التطبيقية اللينينيه ومحصلتها الكيانيه رافعه لافته ونموذج الدولة التي تقول بالاشتراكية، وصولا الى اليوم حيث يلح السؤال عما اذا كان هنالك مايمكن اعتباره مرحلة ثالثة استكمالية، ام ان الحركة المذكورة برمتها قد بلغت مع المرحلة الثانيه ونهايتها، نهاية النظرية الطبقية الشيوعيه، ومايترتب عليها ومن المفترض ان  تولده تاريخيا على مستوى المعمورة.

واضح امامنا بما لا يقبل الجدل ان ما بعد ماركس ولنين لاشيء سوى ازمه بلا حل ولاافق، وان سقوط الاتحاد السوفياتي مشروع لنين المرتكز لماركس،  هو مجرد اجترار من دون اية وثبه يمكن الاشاره اليها، "فلا ماركس او لنين بعد ماركس ولنين" الامر المعروف في التاريخ عندما تظهر حركات تتمتع ابتداء ببعض الفعاليه، وتحقق منجزات عملية ثم تتراجع على هذا الصعيد منتقلة من "الايمانية الفعالة"، الى "الايمانيه بلا فعل"، وهو حال الكثير من الحركات القديمه الدينيه وغيرها الباقية على مر القرون، لا تعدم البواقي وحملة الرايات خارج الزمن والفعل. هذا مع الفارق الجوهري بين ما ننوه عنه، وبين الماركسية والشيوعية المعاصرة المبنية كما مفترض على ما يطلق عليه تسمية " العلم" و "المادية التاريخيه" وحتميتها التي تعيد التاريخ البشري على بدء، على اعتبار ان العتبة الاولى من التاريخ "شيوعيه" بدائية، التاريخ مصمم كي يعود اليها في المراحل الاخيرة، بعد الارتقاء الى الالة ومغادرة اليدوية.

لا احد قد خطر له او فكر من الاحزاب الشيوعيه او خارجها باحتمال ان يكون  الصراع الطبقي كمرتكز "علمي" اجتماعي، بنيت عليه نظرية ماركس، غير علمية اصلا  وغير صحيحه، خصوصا وانه اكتشف اليوم بعد انبثاق الاله، وتغير عناصر الاليه التشكلية المجتمعية، ومنها الطبقية كما كانت ابان الطور اليدوي، اي ان  الازدواجية المجتمعية الطبقية الاوربية هي خاصية مجتمعية تنتمي الى طور انتاجي بيئي مجتمعي،  مختلف عن ذلك القائم والذي صرنا نعيش في كنفه مع انبثاق الالة، بما هي عنصر مستجد قابل للفعل والتاثير في البنيه المجتمعية السابقة عليه.

هذا يعني ان ماركس بالحرى كان وهو يقول "لم يكن تاريخ المجتمعات الا تاريخ صراع طبقات" انما كان يقرر ماض  منته غير قابل للاستمرار، كما انه  كان في موضع واحد بذاته من المعمورة، فالالة تزيل الطبقات وفعلها الاصطراعي، وان بدت في العتبات الاولى من حضورها مولد احتداميه مجتمعية قصوى غير عادية، يلتهب ابانها الاصطراع وتتبلور الطبقات باعلى  صيغ وجودها، وهو ماقد عاشه ماركس وقتها في القرن التاسع عشر ابان الطور المصنعي من الحضور الالي   ، متوهما بلوغ الاصطراعبة الطبقية ذروتها مع البروليتاريا المتعاظمة الحضور بوجه البرجوازية، والاهم عدم انتباهته الى احتمالية الخروج من وطاة الصراع الطبقي مع الاله، وتبدل اشكال ووسائل الصراع المجتمعي، بعد ان صارت الفئات المالكة قادرة على التحكم بالبنيه المجتمعية ماديا بوعي، عكس ماتصوره هو من انتقال بالوعي البشري الى التحكم الواعي بالاليات المجتمعية وممكنات التغيير.

لا احد على كل انتبه، لا ماركس ولا من جاءوا بعده، الى عدم ذهاب التبلور الاصطراعي في اوربا حيث الانبجاس الالي،  لاية نتيجة حاسمه على صعيد الانقلاب الطبقي "الثوري" المفترض، في حين حدث مايمكن اعتباره من باب او في خانه الثورة الاشتراكية في  مواضع بلا برجوازيات متقدمه مماثله للكلاسيكية الاوربية،  وبالذات في روسيا والصين وبلدان اوربيه طرفيه، جرى التحول فيها تحت قوة زخم الاله، مضافا اليها المنظور التحولي التوهمي، بعدما اضفيت عليه ما يجب من تعديلات مناسبة للانقلابيه الالية، على راسها قوة مفعول الفكرة، وتوطد دور الانتلجنسيا، الفئة الاجتماعية المتزايده الدور بحكم التطور الالي، وهو منجز لينين المرتكز لعنصري "الماركسية الاوربيه" والاستبدادية الشرقية والروسية على وجه التخصيص.

ضمن زخم التوهمية الاوربيه المواكبه للانقلاب الالي عند مفتتحه وبداياته الاولية قبل استقرار  واكتمال معطياته  التحولية الموافقه لطبيعته، خرجت الظاهرة المجتمعية من دائرة الادراكية الفعلية في ساعتها، لتحل محلها مغالات علموية في غير محلها، وجدت  من قبيل التوهم بازاء اشتراطات ناشئه غير مالوفه، ماتزال في بدايات تبلورها، ومع تكريس الصفة الاشتراكية واسباغها على متغير آلي روسي صيني هو من نتائج تعدد اشكال الانقلابيه الالية اسبغ على القطبية التي ظلت تحكم العالم بعد الثورة الروسية والزعامة الامريكيه للغرب، بعد الحرب العالمية الثانيه، على انها اصطراعية اشتراكية امبرياليه بالمفعوم التقليدي، من دون الاخذ بالاعتبار طبيعة الطرف الامريكي الالي الحاضر من خارج الرحم التاريخي مجتمعيا ومن ثم طبقيا، مايدلل على الفعل الحاسم للاله، لتوضع الادراكية وقتها خارج الحقيقة الناشئة، وفي مقدمها كيانيه الفكرة بلا تاريخ، وارتكازا لرسالية كاذبه امبراطورية، اساسها لاارضوي ابراهيمي  مغلف بغلاف الليبرالية الاوربية، منطقة الابتداء الالي  وتوهميته.

بين هذين الكيانين جرى الاستقطاب بتسميات اخرى متوهمه دالة على تقدم الفكرة على الكيانيه، الى ان ذهبت الكيانيه الامريكيه بالالة من المصنعية الى التكنولوجية الانتاجية، ذهابا الى العولمه ماقد  نجم عنه انهيار الكيانيه البيروقراطية الروسية، بناء على ماقد دخل على العملية الاقتصادية من مرونه ولا كيانوية، الامر الذي لم يلفت انتباه الحركة المتبقية من الماركسية والشيوعيه الحزبيه على مستوى المعمورة،  بحيث تتوقف عنده، بالاخص بعد حدث جلل من نوع انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد حلت ساعة الانتقال من "التحولية الارضوية" الطبقية الدنيا، الى "التحولية المجتمعية" المضمرة غير المدركة، الاشمل والاعلى الاكثر تطابقا مع موجبات الانقلاب الالي ومابعد التوهمية التي رافقته كخطوة ابتدائية انتقالية ادراكا.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع أنواع المخاطر في العراق

***

الملخص التنفيذي للورقة:

تكمن أهمية هذه الورقة في بيان قدرة شركات التأمين الخاصة والعامة والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية العراقية على تأمين المشاريع والمنشئات الصناعية بكافة أنواعها (الخاصة والعامة والمختلطة)، بحيث تشمل الآتي:

تأمين بناية المصنع بالكامل من مخازن المواد الخام الأولية الى أقسام وورشات العمل وبناية الإدارة ومخازن المنتجات الجاهزة ومرآب وسائط النقل...الخ

تأمين نقل المواد الخام الأولية الى المصنع

تأمين المكائن والمعدات والآلات والأجهزة الصناعية في المصنع

التأمين على حياة جميع العاملين في المصنع بمختلف اختصاصاتهم ومكان عملهم

تأمين مخازن حفظ المنتجات الصناعية الجاهزة في أسواق تصريفها

المقدمة:

يقاس تطور الاقتصاد الوطني في اي بلد ما بمستوى تطور التأمين فيه، لأن الأخير(التأمين) يشكل احد المفاصل المهمة في ادارة المنشئات والمشاريع الصناعية وأحد مصادر الإدخار(الاستثمار) في قطاعات الاقتصاد الوطني.

لم ينل موضوع التأمين بشكل عام ولا تأمين المشاريع والمنشئات الصناعية بشكل خاص اهتماما في برامج الأحزاب السياسية العراقية وفي برامجها الانتخابية منذ تأسيسها في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي وعلى سبيل المثال الحزب الشيوعي العراقي الذي تأسس في 31 آذار 1934 الذي يعتبر نفسه ممثل الطبقة العاملة العراقية، ولا أي حزب آخر على الساحة العراقية وفي مختلف مراحل تطور الدولة العراقية منذ تأسيسها في العام 1921 وكذلك نمو الاقتصاد الوطني العراقي بمختلف قطاعاته، إلا ما ذكر بالشىء اليسير في مجال الضمان الاجتماعي مفتقرا الى التحليل العلمي.

أما الحكومات المتعاقبة على حكم العراق فلم توليه اهتماما يذكر ولا حتى من موظف فيها على مستوى وزير أو مسؤول في وزارة ما على القرارات او الارشادات التي من الواجب الالتزام بها. ولم ينصرف جل اهتمام العاملين في مجال التأمين الا على المسائل الفنية تاركين الأهمية الاقتصادية لهذا القطاع في تنمية وتطور الاستثمار في البلد. كما لم تنشر البحوث العلمية لطلبة الدراسات العليا على مستوى الدبلوم العالي والماجستير او الدكتوراه في الجامعات العراقية في مجال التأمين وإنما بقيت محفوظة في رفوف مكتبات هذه الجامعات. ولذلك سوف أركز في هذه المقالة على موضوع تأمين مشاريع المنشئات الصناعية في العراق فقط. [1]

وحتى شركة التأمين الوطنية التي تعتبر نفسها الشركة الأولى والرائدة في مجال التأمين في العراق كونها تأسست في العام 1950 وفق القانون 56 والتي رسالتها هي : "خدمة المجتمع العراقي والحفاظ على الاقتصاد والثروة القومية من خلال تشجيع سوق العمل بتوفير مختلف الاغطية التأمينية مما يوفر الامان والاطمئنان لرجال الاعمال وبالتالي زيادة استثماراتهم داخل البلد وبما يخدم بناء عراقنا الحبيب" لم تولي اهتماما خاصا بتأمين المنشئات الصناعية على الرغم من أن هدف الشركة هو " المساهمة في التنمية الاقتصادية من خلال انشطتها التأمينية والانتاجية والاستثمارية وذلك عن طريق توفير الحماية التأمينية لأفراد المجتمع والثروة القومية مما ينعكس بصورة ايجابية على اقتصادنا الوطني من خلال تشجيع استثمار الاموال عن طريق حمايتها بغطاء تأميني رصين من خلال كافة الاغطية التأمينية التي تمنحها شركتنا والتي تساهم في الحماية من المخاطر المختلفة ان وقعت واعادة المؤمن له الى ما كان عليه قبل تحقق الخطر لبلوغ اعلى مستوى ممكن من النمو الاقتصادي اضافة الى نشر الوعي التأميني والوقائي بما يخدم اقتصادنا الوطني ". [2]

ومن الجدير بالذكر فإن أهداف شركة التأمين الوطنية هي:

" أولا : تمارس الشركة جميع أنواع التأمين العام ( التأمين البحري، تأمين الحريق والحوادث ، التأمين على السيارات ، التأمين الزراعي ، التأمين الهندسي ) والتأمين على الحياة وإعادة التأمين وتقديم المشورة في كل حالة لها علاقة بالتأمين

ثانيا : استثمار أموال الشركة في مختلف أوجه الاستثمار(الاستثمار العقاري ، الودائع والحوالات ، الاكتتاب بأسهم الشركات ،الإقراض العقاري ) العمـــــولات تختلف العمولات التي تمنحها الشركة لأجهزتها التسويقية الرسمية والأهلية حسب أنواع التأمين وكذلك حسب القنوات التسويقية ". [3]

ومن خلال قراءة أهداف الشركة السالفة الذكر أعلاه، نرى أنه لا يوجد ذكر صريح لتأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة. أن هذا يعكس قلة اهتمام القائمين في الشركة بمسألة تأمين القطاع الصناعي برمته ولا حتى استثمار أموال الشركة في إقامة مشاريع صناعية مهما كان نوعها تساهم في تنمية الاقتصاد الوطني العراقي.

أهمية الورقة:

تكمن أهمية الورقة في تسليط الضوء على مسألة مهمة تخص تطور القطاع الصناعي في العراق كونه أحد الفروع المهمة في الاقتصاد الوطني العراقي.

أهداف الورقة:

وتهدف الورقة الى القاء الضوء على أهم التحديات التي يمكن أن تواجه مستقبل تطور القطاع الصناعي العراقي في تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع أنواع المخاطر.

من حيث:

1. بيان وتحديد الأسباب الحقيقية التي تقف حجر عثرة أمام تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع المخاطر في العراق، اعتمادا على التحليل العلمي الذي تحدده منهجية هذا البحث.

2. طرح الحلول العملية من خلال الخطط الاقتصادية الطويلة والمتوسطة الأمد لضمان تحقيق تنمية اقتصادية شاملة ومتواصلة حسب التصورات المرسومة لها وتطوير الاستثمار في الاقتصاد الوطني العراقي.

مشكلة الدراسة:

التحديات التي يمكن أن تواجه تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع أنواع المخاطر في العراق. وكذلك عدم توفر الاحصائيات والبيانات عن تأمين المشاريع الصناعية في العراق.

في هذه الورقة سوف أشرح مفاهيم معينة للإجابة على الأسئلة أعلاه ومن ثم الإجابة كيف يمكن للمرء أن يحل المشاكل التي ستواجه مسألة تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع المخاطر في العراق.

فرضيات البحث

والفرضية الأساسية للورقة هي وجود شركات تأمين ومؤسسات مالية في العراق هدفها تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع المخاطر في العراق حتى تتحقق الأهداف المرجوة من تأمين المشاريع والمنشئات الصناعية ورفاهية العاملين فيها.

الفرضية الأولى: الاعتماد على التخطيط الاستراتيجي الطويل الأمد (خطط لمدة 10 سنوات) وخطط اقتصادية خمسية تلائم طبيعة العمل في العراق وتناسب مناخه وبيئته الاجتماعية من أجل تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية-الاجتماعية المنشودة.

الفرضية الثانية: إن نظم المعلومات في المؤسسات والمشاريع الإنتاجية الصناعية التي لها علاقة مباشرة بالاقتصاد الوطني هي من الدعائم الأساسية المساهمة في حل معظم مشاكل تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع المخاطر في العراق من خلال اتخاذ القرارات الرشيدة والقضاء على البيروقراطية الإدارية وكذلك التداخل في المهام الإدارية بين الوحدات التنظيمية المختلفة حتي يتم بناء نظام تأميني فعال يساهم في تنمية وتطور القطاع الصناعي برمته.

منهج البحث:

ومن أجل تحقيق الأهداف المنشودة من هذه الدراسة والوصول الى اثبات فرضية البحث أو نفيها اعتمدت في هذه الورقة استخدام المنهج الاستنباطي الوصفي التحليلي الذي يستند على أساليب الاحصاء الاقتصادي ومحاولة معرفة العلاقة الكمية التي تربط هذه المتغيرات بعضها ببعض حتى يساعد في تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع المخاطر في العراق ويحقق الأهداف المرجوة منها، ولهذا فإننا نحتاج إلى مؤسسات مالية ودستورية توفر كل مقومات النجاح بدءاً من الاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتبر إحدى أولوياتها، وتبنًي السياسات المالية والتمويلية اللازمة لتنفيذها، وانتهاء بالتسويق الداخلي والخارجي (الصادرات) لمنتجات هذه المشاريع.

تحليل نتائج المسح الصناعي

من الضروري بمكان القاء نظرة فاحصة تحليلية على المعلومات والبيانات الواردة في الجدولين أدناه:

جدول (1)

خلاصة نتائج المسح الصناعي للمنشئات الصناعية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة لمحافظات العراق باستثناء محافظات كردستان. للفترة الزمنية 2016 – 2022. [4]666 table

ومن تحليل البيانات الواردة في الجدول رقم 1 الذي يحتوي على خلاصة نتائج المسح الصناعي للمنشئات الصناعية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة لمحافظات العراق باستثناء محافظات كردستان للفترة الزمنية 2016 – 2022 نجد أن عدد المنشئات الصناعية الصغيرة قد ازداد بنسبة 3.1% واجمالي عدد المشتغلين بأجر وبدون أجر ازداد بنسبة 10.9% للفترة الزمنية 2016-2022، آخذين بنظر الاعتبار الفترة الزمنية التي انتشرت فيها جائحة كورونا 2018-2021. وعلينا أن نعرف أن المشتغلين بدون أجر هم اما من عائلة وأقارب صاحب العمل أو من المتدربين عنده. أما بالنسبة لعدد المنشئات الصناعية المتوسطة فقد بلغ 250 وعدد المشتغلين بأجر وبدون أجر بلغ 3603 وهذه المعطيات هي لسنة 2022 فقط حسبما مسجل في هيأة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية – الصناعة التابعة للجهاز المركزي للإحصاء. في حين بلغ اجمالي عدد المنشئات الكبيرة 600 في العام 2018 وبلغ 852 في العام 2022 وبنسبة نمو 42 %. أن هذا مؤشر مهم على تركز العمل في المنشآت الكبيرة وازدياد عدد العاملين بأجر وبدون أجر بنسبة 34.5% بعد أن ازداد من 12737 الى 17139.

جدول رقم 2

خلاصة نتائج المسح الصناعي للمنشئات الصناعية الكبيرة والمتوسطة لمحافظات إقليم كردستان للفترة الزمنية 2018-2022 [5]667 table

ومن فحص بيانات جدول رقم 2 والذي يحتوي على خلاصة نتائج المسح الصناعي للمنشئات الصناعية الكبيرة والمتوسطة لمحافظات إقليم كردستان للفترة الزمنية 2018-2022 يمكننا التوصل الى الاستنتاج التالي: تضاعف عدد المنشآت الصناعية الكبيرة بنسبة 20.9%، فمن 12737 الى 17139 وهذا دليل على تطور عدد المنشآت الصناعية الكبيرة واستيعابه نسبة ليست بالقليلة من الايدي العاملة الصناعية وهي المشتغلين بأجر صاحبه زيادة في عدد المنشآت الصناعية المتوسطة من 375 الى 396 أي بنسبة 5.3%. فيما ازداد بنفس الوقت عدد المشتغلين بأجر بنسبة 0.7% من 5401 الى 5441.

يتضح لنا من الجدولين أن المنشآت الصناعية في محافظات كردستان لا يوجد فيها عاملين بدون أجر حتى ولو كانوا من عائلة أو أقارب رب العمل. وهذه ظاهرة جيدة قياسا ببقية محافظات العراق تعكس عدم استغلال رب العمل للعاملين معه في مشروعه الصناعي سواء كانوا من عائلته أو أقاربه أو حتى من معارفه أو أصدقائه.

وبشكل عام نلاحظ لو سمح لنا أن نقول وجود نهضة صناعية أو زيادة النشاط الإنتاجي من خلال زيادة عدد المشاريع الصناعية بجميع أنواعها وهذا يعكس استقرار الوضع الأمني في القطاع الصناعي داخل العراق. وانطلاقا من هذا فنحن نحتاج الى تظافر جميع الجهود لرفع الوعي في مجال التأمين الصناعي وحاجة العراق له لاسيما وأن العراق من الدول النامية والتي لازالت فيه الحاجة كبيرة لتوعية جميع العاملين في القطاع الصناعي ابتداء من رب العمل ومالك المشروع الصناعي الى أصغر عامل وشغيل فيه، وبدون ذلك لا يمكننا ضمان استقرار العمل في مثل هذه المشاريع الاقتصادية التي تساهم في تطور وتنمية الاقتصاد الوطني العراقي. ولهذا فنحن نحتاج الى وجود شركات تأمين ومؤسسات مالية رصينة في العراق هدفها تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع المخاطر في العراق حتى تتحقق الأهداف المرجوة من المشاريع والمنشئات الصناعية والمحافظة على أرواح العاملين فيها.

مفهوم تأمين المنشآت الصناعية

تشمل وثيقة (بوليصة) تأمين المنشئات الصناعية جميع الأخطار الصناعية والتي بموجبها تتعهد شركة التأمين بتعويض أصحاب المصانع والوحدات الإنتاجية عن الأضرار والخسائر المادية التي تلحق بممتلكاتهم نتيجة حدوث احدى المخاطر التالية:

الحريق والصواعق والاشتعال الذاتي والحريق الناتج عن انفجار ما.

انفجار آلات ومعدات أجهزة تسخين الماء والمحركات البخارية وما شابه ذلك الموجودة بالمصنع.

انفجار واندفاع المياه المفاجئ من أنابيب المياه العذبة بداخل المصنع وفيضان خزانات المياه العلوية والسفلية وتسرب المياه من أجهزة الإطفاء الاوتوماتيكية دون حدوث حادث حريق بها ومن ثم كسر أنابيبها بسبب قدمها وتآكلها.

سقوط واصطدام الطائرات أو أجزاء منها بمداخن المصانع وخصوصا التي ترتفع عاليا في السماء بمقدار 100 متر أو اكثر.

اصطدام وسائط النقل.

الكوارث الطبيعية من الزلازل والهزات الأرضية والعواصف والسيول والفيضانات.

السطو على المصنع أو الأماكن التي يشملها التأمين نتيجة الاعتداء الذي يحدث بالتعقب والكسر وإشهار السلاح واستخدام العنف.

فقدان الإيرادات نتيجة توقف الآلات ومعدات المصنع عن العمل او يسبب حريق أو إحدى الأخطار الإضافية المكملة له أو عطل الماكينات والذى من خلاله تلتزم شركة التأمين بتغطية الخسائر الناتجة عن فقدان أو نقص الإيراد (التكاليف الثابتة + صافى الربح) ونتيجة لذلك تتعهد الشركة بتعويض أصحاب المصانع عن الخسائر أو الأضرار المادية المفاجئة والغير متوقعة التي قد تلحق بالوحدات الإنتاجية أو الآلات المؤمن عليها أو أي جزء منها والتي يرجع السبب فى وقوعها على سبيل المثال وليس الحصر:التصميم الخاطئ، أخطاء التصنيع والتركيب، نقص المهارة، الإهمال، نقص المياه بسخانات المياه، الانفجار ومشاكل انقطاع الطاقة الكهربائية.

المسئولية المدنية القانونية التي تلحق بالمنشأة الصناعية نتيجة أي حادث حريق قد ينشأ فيها ويمتد إلى ممتلكات الغير ويسبب لها أضرار أو خسائر مادية والتي بالنتيجة تكون المنشأة الصناعية مسئولة عنها وفقاً لأحكام القانون.

الأخطار الواقعة بسبب اعمال الهندسة الكهربائية والميكانيكية والكيمياوية.

اجراءات الإخلاء من بنايات ومخازن المنشأة الصناعية.

المسئولية المدنية القانونية التي تلحق بالمنشأة الصناعية نتيجة أي حادث حريق قد ينشأ فيها ويمتد إلى ممتلكات الغير ويسبب لها أضرار أو خسائر مادية والتي بالنتيجة تكون المنشأة الصناعية مسئولة عنها وفقاً لأحكام القانون.

التغطية التأمينية هذه هي في حدودها الدنيا، فهناك مسؤوليات أخرى قد تنشأ من استعمال أو استهلاك المنتجات المصنعة بسبب عيب فيها، وكذلك المسؤولية الناشئة تجاه الأطراف الثالثة بشكل عام ومنها الحوادث التي تقع في المصنع وتتسبب بتلوث ممتلكات هذه الأطراف. مثل هذه المسؤولية تخضع للتأمين بموجب وثائق متخصصة (مثل تلوث مياه الشرب نتيجة ضخ مياه المصانع الى الأنهار والبحيرات وما ينتج عنها من أمراض معدية قد تؤدي الى حالات وفاة المدنيين. ...الخ مضافة من قبل د. سناء).[6]

الأخطار الواقعة بسبب اعمال الهندسة الكهربائية والميكانيكية والكيمياوية وعادة ما تكون هذه الأخطار موضوعاً لوثيقة تأمين متخصصة كوثيقة تأمين كافة أخطار المقاولين ووثيقة تأمين كافة أخطار النصب (نصب الأجهزة والمكائن والمعدات. مضافة من قبل د. سناء). [7]

الفئات المعنية في استراتيجية تأمين المنشآت الصناعية في العراق:

أصحاب ومدراء المنشآت الصناعية وورش الانتاج الصناعي.

الكادر الإداري-التقني الذي يقوم بمهمة السلامة الصناعية في المنشئات الإنتاجية الصناعية والمشرفون على العمال.

ويلقى على عاتق الفئات المعنية الواردة الذكر اعلاه التعرف على:

جميع أنواع المخاطر التي تتعرض لها المنشآت الصناعية والإجراءات المناسبة للحماية الصناعية من كل منها.

البيانات الأساسية التي يجب توفرها عند وضع خطة تأمين للمنشأة الصناعية مثل قوائم بأسماء جميع العاملين فيها والحالة الصحية لكل منهم.

طبيعة خطط الطوارئ التي تتخذها المنشأة الصناعية لمواجهة الكوارث الطبيعية التي يمكن أن تتعرض لها.

أن تأمين المنشآت الصناعية يختلف باختلاف أعمالها، ومن أجل وضع استراتيجية تأمين صناعي ذات فائدة يجب أن نقف على الأخطار التي تتعرض لها هذه المنشئات وذلك لمعرفة التدابير الواجب اتخاذها. فعلى سبيل المثال: إجراءات تأمين منشأة نفطية تختلف عن إجراءات تأمين منشأة صناعات غذائية، ولكن بشكل عام إن تأمين المنشآت الصناعية يعتمد على أسس وقواعد عديدة منها ما هو ثابت ومنها ما هو متغير وفقاً للمتطلبات والتطورات العلمية الحديثة. فالتخطيط لأية عملية انتاج صناعي يجب أن يسبقها بوقت كاف تهيئة عناصر الإنتاج، وأن يكون مدروساُ ويراعي كافة الاحتمالات والقواعد التي تهدف إلى السلامة الصناعية التي تكفل حماية عناصر الإنتاج الرئيسة بما فيها التدابير التي تتخذ لمنع الحرائق وسلامة البيئة والسلامة المهنية والنفسية للعاملين.

أما المشاريع الزراعية-الصناعية والتي تسمى مشاريع التكامل الرأسي فإن مسألة تأمينها تأخذ اهتماما خاصا بسبب قضية تأمين وصول المواد الخام الزراعية الى المصانع ومثال على ذلك الصناعات الغذائية بجميع فروعها، مثل صناعة الزيوت النباتية ومنتجات الألبان والسكر ومطاحن الحبوب والمعلبات بجميع أنواعها ومكابس التمور واستخراج الدبس من التمور والسكاير والمشروبات الروحية ..الخ. وهذا ما نطلق عليه تسمية إجراءات تنفيذ خطة التأمين الصناعي للمواد الخام الزراعية انطلاقا من مبدأ ماهية الأخطار التي تهدد المنشأة الصناعية.

ومن الواقع العملي وتجارب شركات التأمين العراقية في مجال تأمين المشاريع الصناعية فإنها ما زالت بشكل عام محصورة بوثائق التأمين من الحريق والانفجار والصواعق الجوية ثم توسَّعت لتشمل أخطاراً إضافية كالشغب والاضطرابات المدنية، العواصف الرملية والفيضانات، طفح أو تسرّب المياه من الخزانات والأنابيب، سقوط أو ارتطام الطائرات أو أجزاء منها بمداخن المصانع العالية التي يبلغ ارتفاعها في بعض الأحيان 100 متر أو أكثر … الخ. في حين أن الاتجاه الحديث في الوقت الحاضر هو استخدام ما يعرف باسم وثيقة التأمين الشاملة FULL CASCO INSURANSE وخصوصاً في الدول الإسكندنافية وفي مقدمتها النرويج لتغطي جميع أخطار ممتلكات المشروع الصناعي.

إن ميزة وثيقة التأمين الصناعي الشاملة، إنها ليست وثيقة ذات نص قياسي ثابت، وإنما يمكن تغيير النص فيها حسب متطلبات المؤمن له وهي توفر غطاءً أوسع من وثيقة الحريق والأخطار الإضافية الملحقة بها، إذ أنها تضم، على سبيل المثل لا الحصر، تغطية عطب المكائن والحوادث العرضية غير المُسماة وغير المرتبطة بحصول حادث حريق.

ويقوم مفهوم “التأمين الشامل” على عدم تسمية مسببات الضرر أو الخسارة، كما هو الحال بالنسبة لوثيقة الحريق، ويكتفي بالنص العام للوثيقة على أنه يغطي كافة الأضرار والخسائر باستثناء ما هو مكتوب صراحة في نص الوثيقة. وبذلك فإن هذه الوثيقة توفر على مدير التأمين مشقة التفكير بما يجب التأمين القيام به. وتنحصر مزايا وثيقة التأمين الشامل على الفوائد التي توفرها بالنسبة للمؤمن له، فهي تمثل استجابة لحاجة مشاريع الانتاج الكبير وحتى المتوسط، لأن العمليات الانتاجية المرتبطة بهذه الصناعات متعددة وتتطلب من المؤمن له متابعة سيرها في مراحل الإنتاج المختلفة وتوزيع المنتجات ابتداءً من توفير المواد الأولية، مروراً بالتصنيع والتسويق إلى مراكز الاستهلاك لتصريف منتجاتها.

إن نشر ثقافة التأمين في العراق على أساس “التأمين الشامل” من قبل شركات التأمين يمكن أن يجذب اهتمام المنشآت الصناعية العراقية. ولكن هذا يتطلب توعية ومعرفة العاملين في قسم ادارة التأمين في المشروع الصناعي للنماذج الأساسية للوثيقة، واستيعاب المفهوم المرتبط بهذه الوثيقة، والتعريف بقائمة الاستثناءات التي تنصبُّ على استثناء أصول معينة، واستثناء مسببات معينة للضرر.

التوصيات والمقترحات

شمول المنشئات الصناعية بكافة أنواعها الكبيرة والمتوسطة والصغيرة بالتأمين الصناعي

نصب الأجهزة والمكائن والمعدات. إن ما تغطية وثيقة تأمين جميع الأخطار الصناعية هي العقود الإنشائية الصغيرة بموجب ما يعرف بشرط تأمين الأعمال الصغيرة مثل تلوث مياه الشرب نتيجة ضخ مياه المصانع الى الأنهار والبحيرات وما ينتج عنها من أمراض معدية قد تؤدي الى حالات وفاة المدنيين. ...الخ

استخدام ما يعرف باسم وثيقة التأمين الشاملة CASCO INSURANCE لتغطي جميع أخطار ممتلكات المشروع الصناعي.”

توجد في العراق خطط اقتصادية لفترات زمنية مختلفة خلال الحقب التاريخية التي مر بها العراق منذ خمسينيات القرن العشرين ولكن مع الأسف لم يتم تنفيذها بشكل جدي ومتابعة حازمة من قبل

الحكومة العراقية. ولهذا فأنا أوصي بضرورة الاعتماد على التخطيط الاستراتيجي الطويل الأمد (خطط لمدة 10 سنوات) وخطط اقتصادية خمسية تلائم طبيعة العمل في العراق وتناسب مناخه وبيئته الاجتماعية من أجل تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية-الاجتماعية المنشودة.

لازالت البيروقراطية الإدارية والفساد والوساطات تعشعش في معظم دوائر الدولة العراقية وتعيق تقدم وتطور قطاعات الاقتصاد الوطني العراقي جميعها ولهذا من الضروري القضاء على البيروقراطية الإدارية وكذلك على التداخل في المهام الإدارية بين الوحدات التنظيمية المختلفة حتى يتم بناء نظام تأميني فعال يساهم في تنمية وتطور القطاع الصناعي.

الخاتمة

وبشكل عام فإن تأمين المنشئات الصناعية في العراق سيبقى مرتبطاً بالدرجة الأولى بمقدار التطور الصناعي في العراق، وما يتبعه من تطور في قطاع المصارف الحكومية والتجارية كمصدر مهم لتمويل الاستثمار وكوسيط في النشاط الصناعي بصورة خاصة. وفي الحالتين، فإن التوقعات تعتمد بالدرجة الأساسية على مقدار النجاح المنجز في إحداث التغيير الصناعي الاقتصادي الجوهري في العراق الذي يعتمد بالدرجة الأولى على الخطط الاقتصادية البعيدة والمتوسطة المدى وبإقامة القاعدة المادية التقنية لتطور النظام الاقتصادي-الاجتماعي للبلد وليس تحقيق زيادة في المداخيل النفطية فقط واعتماد الاقتصاد الريعي العراقي عليها. وعلى شركات التأمين أن تقوم بتوسيع أعمالها ومفاهيمها حتى تشمل أكبر عدد ممكن من المشاريع الصناعية بجميع أنواعها وحتى نضمن تأمين المشاريع الصناعية في القطاعات العامة والخاصة والمختلطة ضد جميع أنواع المخاطر في العراق وتساهم في تطور وتنمية الاقتصاد الوطني العراقي.

***

أ. د. سناء عبد القادر مصطفى

الأكاديمية العربية في الدنمارك

..........................................

[1] راجع مقالتنا المنشورة في شبكة الاقتصاديين العراقيين: تأمين المشاريع والمنشئات الصناعية في العراق، 16/8/2017.

[2] موقع شركة التأمين الوطنية في جوجول. وزارة المالية العراقية، شركة التأمين الوطنية العراقية التي تأسست وفق القانون رقم 56 لسنـة 1950.

https://ar.wikipedia.org/wiki

[3] موقع شركة التأمين الوطنية في جوجول. وزارة المالية العراقية، شركة التأمين الوطنية العراقية التي تأسست وفق القانون رقم 56 لسنـة 1950.

https://ar.wikipedia.org/wiki

[4] المصدر: وزارة التخطيط – الجهاز المركزي للإحصاء. هيأة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية – الصناعة.

[5] المصدر: وزارة التخطيط – الجهاز المركزي للإحصاء. هيأة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية – الصناعة.

[6] ملاحظة أستاذ مصباح كمال على مقالتي المنشورة في شبكة الاقتصاديين العراقيين: تأمين المشاريع والمنشئات الصناعية في العراق بتاريخ 16/8/2017.

[7] ملاحظة استاذ مصباح كمال على مقالتي المنشورة في شبكة الاقتصاديين العراقيين: تأمين المشاريع والمنشئات الصناعية في العراق بتاريخ 16/8/2017.

اثبتت فترة العقدين الاخيرين من عمر النظام الحالي في العراق، بمئات، ان لم نقل بألاف الادلة، فشل الطغمة الحاكمة فشلا ذريعا في ادارة الدولة وخدمة المصلحة العامة والارتقاء بالمجتمع العراقي، وانما بالعكس، ارجعته للوراء قرنا كاملا، بإمعانها في اعتماد منظومة المحاصصة السياسية والطائفية والاثنية، القائمة على تقاسم المغانم وفرض وهيمنة العناصر غير الكفؤة، بل والجاهلة، ومن مزوري الشهادات، من المحسوبين والمنسوبين، في قيادة المراكز القيادية في الدولة، بما فيها الوزارات والمؤسسات والدوائر الحكومية المهمة.

وعمليا، كشفت تجربة العقدين المنصرمين، ان الطغمة الحاكمة هي طبقة سياسية طفيلية جشعة، لا علم لها بمتطلبات الادارة الناجحة لقيادة مؤسسات ودوائر الدولة. ولذلك لم تحقق طيلة عقدين ولا منجز واحد لخدمة العراق، ذلك لانها لا تجيد سوى التجاوز على المال العام والنهب والهدم والتخريب المنظم، المقترن بالفساد وانعدام المسؤولية واللاابالية والاهمال، الى جانب التخبط والعشوائية في عملها، ولا من رقيب ولا حسيب على ما تفعله من قبل المؤسسات المعنية، وفي مقدمتها القضاء..

ولذا من العبث وضياع الجهد والوقت، ان تطلب من المنظومة السلطوية بعد عقدين كاملين اعتماد الكفاءة والحرص والامانة والسلوك المهني والعلمي الرصين، واجادة التنظيم والتخطيط والمتابعة والمراقبة والتقييم والمحاسبة، باعتبارها المبادى الاساسية للادارة الناجحة.

وقد اثبتت تجربة الدول المتقدمة ان من لا يمتلك المؤهلات المذكورة لن يفلح في عمله ومهماته. وهذا هو ديدن القيادة العراقية في ظل المنظومة السلطوية الحالية، والتي احبط فشلها كافة الخطط والمشاريع الوطنية الهادفة للاعمار والبناء وتقدم البلد، وكان يُفترض تنفيذها من قبل المؤسسات الحكومية.

وبسبب ذلك، تماما، لم تفلح وزارة البيئة العراقية في تبني متطلبات اداء الادارة البيئية الحديثة، ولذا فشلت في التنفيذ الناجح للخطط والمشاريع البيئية الوطنية، وحصيلة عقدين من عملها: تردي البيئة، بدلا من تحسنها..

واستنادا الى ما مر، يمكننا القول بانه ليس اعتباطا، ولا تجنيا، ان يحتل العراق في مؤشر الاداء البيئي Environmental Performance Index(EPI) اسفل الدول التي تهتم بالاداء البيئي، منذ عام 2012، وحتى يومنا هذا. والحكومات العراقية المتعاقبة تعرف تقصيرها جيدا، لكنها لم تسع عمليا لتلافيه.

ومؤشر الاداء البيئي يعني، من منظور اكاديمي، ان نظام الادارة البيئية يُحددُ السياسة البيئية للبلد، والابعاد البيئية لعملياتها، الى جانب المتطلبات القانونية، وغيرها، وكذلك مجموعة الاهداف والغايات المحددة بوضوح لبرامج الادارة البيئية، التي تشمل الانشطة الفنية والتنظيمية التي يقوم بها البلد بغرض تقليل التأثيرات البيئية الضارة واثارها على المجتمع.

بعبارة اخرى، يبين مؤشر الاداء البيئي كفاءة انظمة الادارة البيئية التي تعتمدها مؤسسات الدولة في حماية البيئة من خلال سياسات بيئية ترکز على الانشطة الاقتصادية الانتاجية بهدف الحد من اثارها السلبية على البيئة والمجتمع، واهمها التلوث البيئي، وحماية البيئة الطبيعية.

من هنا، فان مؤشر الاداء البيئي هو، باختصار، طريقة لقياس الاداء البيئي الرقمي والكمي لسياسات الدولة. يُقاس بتقييم استخدام الموارد غير المتجددة، واستهلاك الطاقة، ومكافحة التلوث، وتفادي المنتجات الخطرة، وتخفيض النفايات، واعادة تدوير المفيد منها. ولذا يُعتبر هذا المؤشر بمثابة نتائج نظام الادارة البيئية القابلة للقياس فيما يتعلق بالسيطرة التي يتمتع بها البلد على التأثيرات البيئية بموجب سياسته البيئية، المبنية على التخطيط والتنظيم والتنفيذ السليم والمثمر.

وفقا لتقييمات خبراء الادارة البيئية الحديثة تتواصل في العراق هيمنة سوء الادارة البيئية. ومن مظاهره : انعدام التخطيط والمتابعة والمراقبة والتقييم والمحاسبة، وحتى في حالة وجود قرارات وخطة استراتيجية ومشاريع لها، مُقرة ومُعلنة، لا تحضى بالاهتمام الجدي المطلوب من قبل القيادات الادارية المتنفذة.

 وثمة امثلة كثيرة على سوء الادارة، متمثلا ليس فقط بعدم المواصلة والمتابعة والتقييم والمحاسبة، وانما ايضا بعدم الجدية، واللاابالية، وحتى الاهمال المنظم في تنفيذ الواجبات والمهمات الموكلة للمؤسسات. والحصيلة هي الفشل الحتمي لكل ما بُدءَ به من خطط ومشاريع ومهمات. وهو ما لعب دورا اساسيا في التدهور البيئي الحاصل وتفاقمه وتعمق تبعاته في المجتمع العراقي..

ويتواصل سوء الادارة البيئية في العراق رغم ما حظيت به وزارة البيئة من دعم من قبل الوكالات الدولية ذات العلاقة، وبالذات برنامج الامم المتحدة للبيئة (UNEP)، الذي ابدى تعاونه لتطوير الادارة البيئية وتحديثها وتعزيزها، من خلال بناء القدرات واعداد القيادات ودعم التقييم البيئي للأداء البيئي العام.. فلا يستطيع احد ان يجزم، وليس ثمة ما يدلل عمليا، على حصول تطور في الادارة البيئية العراقية نتيجة استفادة كوادر الوزارة من دعم الوكالات الدولية المتخصصة، او من الافادات والدورات، وما الى ذلك.

 والوزارة اهملت، اسوة بالحكومات المتعاقبة، الكثير من المشاريع والدراسات العلمية واستنتاجاتها وتوصياتها، التي قُدِمت من كفاءات علمية متخصصة، عراقية واجنبية، لمساعدة العراق في معالجة مشاكله البيئية.. اشرنا الى بعضها في الحلقات الاولى من هذا الملف. ونضيف هنا مثال عراقي اخر له صلة بالأزمة المتفاقمة لاختناق المواطنين في بغداد واطرافها بالغازات السامة والضارة وبالروائح الكريهة:

في الدورة النيابية الخامسة، السنة التشريعية الاولى، الفصل التشريعي الثاني، لمجلس النواب العراقي، طلب النائب فالح الخزعليً اجراء بحث عن التلوث البيئي، وفعلا انجزته الباحثة د.دعاء فلاح الدباغ من دائرة البحوث والدراسات النيابية، قسم البحوث، بعنوان :التلوث البيئي ( الهواء والماء والتربة والتلوث الاشعاعي) لسنة 2022، تضمن معلومات علمية وافية ودقيقة، وتوصل الى استنتاجات وتوصيات مهمة.

ومما جاء في البحث: ان العراق يحتل المرتبة العاشرة لاكثر 10 دول تلوثا في العالم. واظهر فحص الجسيمات الدقيقة الضارة المحمولة في الجو، والمعروفة باسم الجسيمات العالقة PM2.5))، بانها تبلغ في العراق 76 ميكروغرام/ م3، في عام 2020. وهذا رقم خطير في وقت توصي فيه منظمة الصحة العالمية الا يتجاوز متوسط تركيزات (PM2.5) الـ 5 ميكروغرام/ م3. وتؤكد وكالة حماية البيئة الامريكية ان المستويات الاعلى من 35.5 ميكروغرام/ م3 يمكن ان تتسبب بمشاكل صحية خطيرة.

واحتل العراق التسلسل 41 من بين 189 دولة في العالم في المساهمة في انبعاثات غازات الدفيئة، وبكمية 216.19 مليون طن، اي ما يعادل 0.44 % من اجمالي اتبعاثات العالم في عام 2018.وهي اعلى مما هي عليه في عام 1990، وبنسبة 0.24 %. وكانت مساهمة العراق في تركيز ثاني اوكسيد الكاربون 49.06 مليون طنا، اي ما يعادل 0.22 % بالنسبة لدول العالم في عام 1990، ازدادت الى 210.83 مليون طنا، وبما يعادل 0.61 % بالنسبة لدول العالم في عام 2020، اي قرابة الثلاثة اضعاف.

واكد البحث ان مدن العراق تعاني من تراجع جودة الهواء بسبب الانبعاثات الملوثة الصادرة عن المصادر الثابتة والمتنقلة والمنتشرة في جميع المدن. كما ان التربة تعاني بشكل رئيسي من رمي النفايات والمخلفات المتنوعة ذات المصادر المختلفة، اضافة الى عدم تطبيق القوانين والتشريعات لمنع تلوث الماء والهواء والتربة. واوضح بان نوعية الهواء الراهنة في العراق ناتجة عن انبعاثات المركبات، والتلوث الناجم عن الحرب، واستخدام المولدات للتزود بالطاقة بسبب البنية التحتية الكهربائية السيئة، والحرائق الناتجة عن مصافي النفط والغاز، في حين صادق العراق على اتفاقية باريس للمناخ ولديه قوانين تُقيد التلوث.

لم نعثر على اية متابعة او اهتمام بالبحث، ولا باستنتاجاته وتوصياته، ومنها: وجوب وضع رؤية استراتيجية وبرنامج عمل لملف التلوث البيئي في العراق، وتشديد الرقابة، بتعاون لجان: الصحة والبيئة، والاسكان والخدمات، والزراعة والاهوار، مع وزارات: البيئة، والموارد المائية، والصناعة والمعادن، والنفط، والصحة، وتشريع القوانين التي تدعم الحفاظ على البيئة، مثل تفعيل قانون الضرائب العامة للمعامل والمصانع التي تعمل على رمي محلقاتها وتجاوزها للحد المسموح به -حسب منظمة الصحة العالمية، واصدار العقوبات اللازمة بها.

وهذا البحث ليس الوحيد، وانما ثمة دراسات وابحاث عراقية واجنبية مماثلة عديدة لقيت نفس المصير. علما بان مؤشر نوعية الهواء العالميAQI) ) لعام 2024 اكد صحة نتائج البحث وتحذيراته، مبينا تصدر العاصمة بغداد المرتبة الاولى عالميا في تلوث الهواء مقارنة مع 120 مدينة في العالم، حيث بلغت 186 ملغرام/م3. واكدته ايضا منصات جدوى الهواء، مبينة تشبع اجواء بغداد بتركيز الجسيمات العالقةPM2.5) ) الذي بلغ 34 ضعف المسموح به من قبل WHO .

واكد علي الوائلي، رئيس مراقبة جودة الهواء في وزارة البيئة العراقية ان اكثر من 50 في المائة من هواء بغداد ملوث، حتى في غياب رائحة الكبريت ( " المدى"، 14/10/2024)

والجدير بالذكر ان البيئيين العراقيين، ونحن منهم، حاولوا، بمبادرات طوعية مخلصة، مساعدة العراق، فكتبوا ونشروا خلال العقدين المنصرمين، الكثير الكثير عن المشكلات البيئية القائمة، واقترحوا المعالجات البيئية العملية المطبقة بنجاح في البلدان المتقدمة. الا ان الحكومات المتعاقبة، وجهاتها المعنية بحماية وتحسين البيئة، لم تاخذ بها، بل وتجاهلتها تماما، مثلما اهملت وتجاهلت الكثير من المشاريع والتوصيات والمقترحات العلمية، التي قُدِمت لها من قبل مؤسسات وكفاءات بيئية، عراقية واجنبية، بهدف مساعدتها في معالجة المشكلات البيئية الساخنة.

هذا الواقع، جعل وسط البيئيين العراقيين المستقلين والموضوعيين ان يحمل المنظومة السلطوية، بحق، الجزء الاكبر من مسؤولية التدهور البيئي المتفاقم، نتيجة تمسك احزابها السياسية المتنفذة بالمحاصصة وتقاسم المغانم، والاعتماد في ادارة شؤون الدولة على المحسوبين والمنسوبين من الفاشلين والغشاشين، وهو ما شجع على استشراء الفساد الاداري والمالي في جميع مفاصل الدولة، وافشل الخطط والمشاريع الوطنية، بما فيها الخطط والستراتيجيات الوطنية لمعالجة المشكلات البيئة المزمنة .

وحتى اليوم لم يدرك صناع القرار العراقي خطورة التدهور البيئي، وفي مقدمته التلوث البيئي وتداعياته على صحة وحياة المجتمع العراقي واجياله الحالية والمقبلة. ولليوم " ينظر اغلب صناع القرار والقادة السياسيين العراقيين الى البيئة وشؤونها ومشكلاتها نوعا من الترف والكماليات"- وفقا للاكاديمي والاعلامي المستقل نجاح العلي ("الصباح"، 17/10/2024).

وفي هذا السياق، يرى خبراء بيئيون ان الوضع البيئي الكارثي في العراق يعود بالدرجة الاساس الى نظام اللادولة في البلاد، وتجاهل النظام السياسي لمسؤوليته في التصدي للتلوث البيئي للهواء والماء والتربة، وللنفايات، ولتداعيات التغير المناخي المدمر، ولاستنزاف الموارد الطبيعية ("الرافدين"، 18/8/ 2024).

واكد الباحث رسلي سعدون المالكي ان "الحكومة العراقية غير جادة تماما بمتابعة وضع جودة الهواء، فمصفى الدورة في محطات الكهرباء منتهي الصلاحية وبحاجة الى تجديد شامل، وهو الذي يطلق كميات ضخمة من المواد السامة بسبب عدم اكتمال عمليات احتراق الغاز. وليست هناك اية حلول جدية لمعالجة كثرة السيارات. والمجسرات التي يجري بناؤها تفاقم ازمة التلوث ولا تحل مشكلة الازدحام، وكمية الانبعاثات الصادرة من السيارات مهولة. وليس هناك اية مؤشرات لانشاء مناطق خضراء، مع اقتلاع الحكومة لبقية الاشجار بحجة توسعة الطرق وانشاء مناطق سكنية ومشاريع استثمارية ".

‏ واضاف من خلال متابعة ميدانية له في عام 2014:" اشترت الحكومة العراقية 74 جهازا لقياس جودة الهواء، منوها بان هذا العدد غير كاف اساسا لبلد بحجم ومساحة العراق، وعلى رغم ذلك، لم يتم ربط اي من هذه الاجهزة بحيث تكون "اون لاين"، وذلك بسبب الربط الخاطئ او عدم الربط اساسا. ولاحظت ان احد تلك الاجهزة تم ربطه اعلى بناية حكومية بجانب مولدة كهرباء، موضوعة فوق سطح البناية، فكيف يقيس الجهاز جودة الهواء وبجانبه عادم ينفث الدخان؟ وهو جهاز حساس جدا ولو لدخان سيجارة، وهذا يؤشر الى سوء التعامل مع الاجهزة "، مشيرا الى ان "الجهاز الوحيد الذي يعمل في كل بغداد هو جهاز السفارة الاميركية، وهو الوحيد الذي يعمل ومربوط (اون لاين)، وهو مخصص للحفاظ على سلامة العاملين في السفارة البالغ عددهم بضعة عشرات ربما، بينما الحكومات العراقية غير عابئة بسلامة 43 مليون عراقي"Independent") عربية"، 26 /10/ 2024).

الى هذا، اشرنا في الحلقة السابقة الى كشف لجنة الصحة والبيئة النيابية بان محطات وزارة البيئة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة، بينما يكذب المتحدث باسم الوزارة بان وزارته " تتابع عن كثب" و"لا داعي للقلق" في وقت حذر فيه الاطباء مرارا الى المخاطر الصحية لتلوث الهواء: التنفسية، والقلبية، والدماغية، وحتى السرطانات، وخفض معدل الاعمار...

وقدعبر مدير اعلام الانواء الجوية، عامر الجابري، عن استيائه من عدم اتخاذ الجهات المعنية، وخاصة وزارة البيئة، اجراءات فعالة لمعالجة هذه المشكلة المتفاقمة. واشار الى ان العراق بحاجة الى اجهزة متخصصة لقياس نسبة التلوث في الهواء، ما سيساعد في وضع خطط مناسبة لحماية المواطنين من التلوث المتزايد. وشدد الجابري على ان المؤسسات الحكومية، وعلى راسها وزارة البيئة، تتحمل مسؤولية كبيرة في معالجة هذه المشكلة التي باتت تؤثر بشكل مباشر على صحة المواطنين..

وذلكم غيظ من فيض الوقائع والادلة عن نهج معالجة المشكلات البيئة المتفاقمة من قبل المنظومة السلطوية ومؤسساتها ومتنفذيها في عراق اليوم !

***

*الاستاذ الدكتور كاظم المقدادي اكاديمي متقاعد، متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد

 

اختُتم في باكو، عاصمة أذربيجان، مؤتمر قمّة المناخ العالمي (11 – 22) تشرين الثاني / نوفمبر 2024، وحضر المؤتمر ما يزيد عن 40 ألف مندوب يمثلون حكومات الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بالإضافة إلى دولة فلسطين والفاتيكان والاتحاد الأوروبي.

وهذه الدول تمثّل أطرافًا في اتفاقية المناخ الدولية لعام 1992، وانضم غالبيتها الساحقة إلى اتفاقية باريس للمناخ العام 2015. وحضر المؤتمر أيضًا دبلوماسيون ومسؤولون في الأمم المتحدة وعلماء مناخ وصحفيون وقادة نقابيون عماليون وخبراء سياسيون، وشارك في المؤتمر منظمات غير حكومية ونشطاء وقادة للسكان الأصليين ومدافعين عن حقوق الإنسان.

وأعلن أن الهدف من انعقاد مؤتمر كوب 29 هو الاتفاق على خطط مستقبلية للتصدّي لتغييرات المناخ، والعمل على تطوير ما تم الاتفاق عليه وتبادل الخبرة في هذا الميدان، لاسيّما الحدّ من ظاهرة الاحتباس الحراري الكوني، وتقديم المساعدة الضرورية لأولئك الأشد تضررًا، لكي يتمكنوا من استعادة حياتهم الطبيعية وبناء مستقبلهم.

صعوبات وتحديات

وينعقد هذا المؤتمر في ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد على المستوى الدولي بسبب استمرار الحرب في أوكرانيا منذ 24 شباط / فبراير 2022 وحرب الإبادة على غزّة منذ 7 تشرين الأول / أوكتوبر 2023 وامتدادها إلى لبنان، حيث تمارس "إسرائيل" تغوّلًا ووحشية لم يحدث لهما مثيلًا على المستوى العالمي.

وثمة تحديات مهمة تواجه المؤتمر بعضها ظرفي ومؤقت وبعضها الآخر مزمن ومعتّق ومنها انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة ومعروف مواقفه السلبية من كوب 29 وسبق له خلال ولايته الأولى أن أعلن انسحابه من اتفاقية باريس في العام 2017، أما التحديات القديمة فتتعلّق بمحاولة الدول الصناعية التملّص من إلتزاماتها إزاء الدول النامية والفقيرة، خصوصًا بالعمل على مساعدتها للتخلّص من تأثيرات تغييرات المناخ.

اتفاقية باريس

في العام 2015، تم الاتفاق على الأسس القانونية لتحديد الأهداف الضرورية للحدّ من انبعاثات الغازات الدفينة من أجل الحد من درجة الحرارة على المستوى العالمي، والسعي لتقليلها إلى درجتين مئويتين على الأقل، أي العودة بها إلى مستويات ما قبل الثورة الصناعية في أطوارها المتأخرة، الأمر الذي يستوجب اتخاذ الإجراءات الكفيلة دوليًا للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وتخفيضها بنسبة 1.5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن الجاري، علمًا بأن البلدان المنخفضة الدخل ستكون هي الأشد تضرّرًا.

ودرس مؤتمر كوب 29 رفع القدرة المالية لمساعدة الدول المتضررة والفقيرة لتحويل اقتصادياتها إلى اقتصاديات خالية من الكربون. وبالطبع التمويل يأتي من الدول الغنية والأكثر مداخيلًا، وهي التي تتحمّل المسؤولية الأكبر في تغيّرات المناخ، ويتطلّب الأمر أُطرًا زمنية، وسيتم تقديم الأموال على شكل منح وليس قروضًا، فقد أثبتت التجربة أن القروض ستزيد في إثقال الدول الفقيرة المنخفضة المداخيل.

ويفترض بالمنح أن تذهب إلى تعويض الخسائر والأضرار، للمساعدة على التعافي من التأثيرات الحالية لتغيّرات المناخ ومن التأثيرات المستقبلية، والأمر يحتاج إلى عدّة تريليونات، وذلك على طريق تحقيق العدالة المناخية، التي تتطلّب الإدامة والتواصل بحيث لا تقل الحاجة عن ترليون دولار سنويًا.

العام 2024 العام الأكثر حرارة

تتسبب تغيّرات المناخ في ارتفاع هائل لوتيرة درجات الحرارة، وحسب الخبراء فإن العام الجاري 2024، هو العام الأشد حرارة على الإطلاق الذي يشهده العالم، وقد نزح مئات الآلاف من الناس بسبب الفياضانات والأعاصير والجفاف وغيرها من الكوارث الطبيعية، تلك التي تفاقمت بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، كما أُزهقت أرواح الآلاف بسبب النزوح والجوع والمرض.

وتطالب العديد من المنظمات غير الحكومية، بما فيها منظمات حقوق الإنسان بوضع مسألة احترام حقوق الإنسان في صميم صنع القرار بما له علاقة بالعدالة المناخية، حيث يتعيّن على الدول الغنية والقادرة على زيادة تمويلات المناخ، تعويض الدول الضعيفة لكي تتخلّص بصورة سريعة وعلى نحو عاجل من التأثيرات الضارة للتغيرات المناخية، لاسيّما باستخدام تقنيات حديثة لاحتجاز الكربون وتخزينه وإزالته والتشجيع على استخدام الغاز باعتباره "وقودًا انتقاليًا".

مستقبل البشرية على المحك

وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريتش قد سلّط الضوء على الدور الحاسم الذي يجب أن تلعبه المدن والمناطق والشركات والمؤسسات المالية في دفع الجهود العالمية نحو الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية، والمقصود فنيًا بمصطلح "الصفر" هو تحقيق التوازن بين الكربون المنبعث من الغلاف الجوي والكربون المزال منه.

وبالطبع فإن مستقبل البشرية سيكون على المحك، الأمر الذي يستوجب التعاون عبر خطط فعالة ومتدرجة، وعلى الجميع الالتزام بها، إذْ لا أحد يستطيع أن يُعفي نفسه منها، سواء الدول المتقدمة والصناعية والغنية أم الدول النامية والفقيرة والمتضررة، وربما ستكون أزمة المناخ وموضوع العدالة المناخية هي أحد أهم المعارك الكبرى التي تخوضها البشرية.

وتأتي هذه التحذيرات التي صدرت عن خبراء معتمدين بعد تقارير قالت أن ثمة تسريبات من غاز الميثان أرسلت على مدار العامين المنصرمين إخطارًا إلى الحكومات والشركات، لكنه لم تتم الاستجابة إليها باستثناءات محدودة جدًا.

وغاز الميثان، حسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة، يسبب نحو ثلث الاحترار الحالي لكوكبنا، ولهذا فإن الطريق الأسرع هو الحدّ من هذه الانبعاثات التي يسببها غاز الميثان لإبطاء ظاهرة الاحتباس الحراري على المدى القريب، كما أنه الأقل تكلفة لتجنّب الأضرار المناخية الخطيرة.

العدالة المناخية

وتُعرّف منظمة Cool The Planet العدالة المناخية بأنها "رؤية لإزالة وتخفيف الأعباء غير المتكافئة التي أنجزها المناخ". وكان التدهور المستمر في البيئة الطبيعية قد عاظم من مسؤولية الدول لإدراك المخاطر الناجمة عن ذلك، لذلك تداعت ومعها العديد من المنظمات الدولية والإقليمية والمحليّة إلى تأكيد أهمية التعاون ورفع الوعي بذلك، والعمل على وقف الاعتداء العشوائي والمنظم، الذي يقترفه الإنسان بحق البيئة والطبيعة وما ينتج عن ذلك من تلوث شامل على نحو يهدّد الوجود الإنساني والنوع البشري، مما أدّى إلى إلتفات المجتمع الدولي، ولاسيّما في عقود السبعينيات إلى ذلك، والتنبّه إلى مخاطره المستقبلية على جميع الكائنات الحية على سطح المعمورة.

الاقتصاد الأخضر

وفي العام 1988 تأسس المجلس الحكومي الدولي الخاص بالتغيّر المناخي، وقد ارتفعت الدعوة إلى ما سمّي بالاقتصاد الأخضر الذي يقوم على ركنين أساسيين هما: الغاية من النشاط الاقتصادي الذي هدفه الحفاظ على البيئة وضمان استدامتها للأجيال المقبلة، ويكون الاقتصاد أخضرًا بمعنى أقل تلويثًا واستهلاكًا للمواد الطبيعية عمومًا وغير المتجددة منها بصفة خاصة. والهدف هو حماية الإنسان أفرادًا أم جماعات بما يتطلّب وجود حماية البيئة وصيانة مواردها.

وقد جاء في إعلان استوكهولم حول البيئة الإنسانية في العام 1972 "أن على الإنسان واجب مقدّس في حماية وتحسين البيئة للأجيال الحاضرة والمقبلة، وأنه يتحمّل كامل المسؤولية في سبيل تحقيق هذا الواجب".

وحسب التقديرات التي يقول بها الخبراء فإن 10% فقط من البلدان الفقيرة هي التي تتحمّل أسباب انبعاث الغازات الدفينة المتسببة في ظاهرة الاحتباس الحراري وتغيرات المناخ، في حين أن البلدان الغنية والتي يقدّر عددها ﺑ 10% من إجمالي سكان العالم هي المسؤولة عن 90% من هذه الانبعاثات.

الطابع الحقوقي والأخلاقي

ولعلّ مسألة العدالة المناخية لها طابع حقوقي وقانوني واقتصادي واجتماعي وعلمي وتكنولوجي، مثلما لها طابع أخلاقي وقيمي يتعلّق بمنظومة العدالة الدولية، وهي جزء لا يتجزأ من الجيل الثالث لحقوق الإنسان الذي يتعلّق بالتنمية والبيئة والسلام والاستفادة من منجزات الثورة العلمية – التقنية، ولعلّ ذلك ما ورد في الاتفاقية الدولية الإطارية للأمم المتحدة الموقعة العام 1992.

وقد صُك مفهوم العدالة المناخية لأول مرة العام 1999، وذلك بتقرير صدر عن مؤسسة سان فرانسيسكو، حيث جرى تبنيه في مؤتمر في هولندا العام 2000، ولاحقًا في مؤتمر بالي (أندونيسيا) في العام 2002، الذي تم فيه اعتماد مبادئ بالي للعدالة المناخية، والمقصود عدالة التوزيع والتخلّص من التمييز وعدم المساواة والإجحاف بين الأفراد والدول، حتى أصبح اليوم ضرورة قانونية دولية وأخلاقية إنسانية في الآن لمعالجة الأعباء الناجمة وغير المتناسبة لتأثيرات المناخ على المجتمعات المختلفة، وخصوصًا الفقيرة.

ومن هنا جاءت انتقادات العديد من المنظمات الدولية، بما فيها منظمة العفو الدولية إزاء حكومات أذربيجان التي ينعقد فيها المؤتمر لانتهاكاتها لحقوق الإنسان فيما يتعلّق بحريّة التعبير وحق تأسيس الجمعيات، ومن ضمنها منظمات خاصة بالبيئة، التي قدّمت مطالعات للارتقاء بالمطالب إلى صيغة أعلى، كما ارتفعت بعض الأصوات مناديةً بذلك.

وحيث يجري النقاش منذ عقود من الزمن بشأن العدالة المناخية، فإن من الواضح أنه ثمة عقبات جدية أمام تحقيقها، لاسيّما بالإمكانات المتوفرة لحد الآن، فضلًا عن تعارض مصالح الدول الغنية مع البلدان الفقيرة، وهو ما دعا البعض إلى اقتراح صيغ وسطية توفيقية، واعتماد تهجين طاقة المستقبل بهدف تأمين بعض المطالب والأهداف الممكنة بدلًا من تبديد الوقت والجهد في نقاشات لا طائل منها وحلول غير ممكنة التحقيق، لاسيّما بفعل ما تمارسه القوى المتنفذة من كسب للوقت وإطالة أمد المماطلة.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

للحركة الصهيونية

جغرافيا التوراة والجوهر الإبادي التوراتي للحركة الصهيونية في ضوء مقابلة مع الباحث أحمد الدبش: بهدف إغناء ثقافتنا "الآثارية والأنثروبولوجية" الفقيرة وخصوصا في ميدان تاريخ الحضارات والأديان وعلم الآثار، من المفيد متابعة الجديد في هذه العلوم على ألسنة الباحثين والخبراء المتخصصين وذوي التوجهات الشعبية الذين لا يحتكرون المعرفة ولا يتصرفون بتكتم وعنجهية الكهان والسحرة في العصور القديمة. وفي هذا السياق التعريفي والتثقيفي، أدرج أدناه بعض رؤوس الأقلام مما ورد في حديث الصديق الباحث أحمد الدبش، مسجلا اتفاقي معه على ضرورة أن يخرج الكُتاب والباحثون والإعلاميون المتخصصون العرب في تلك العلوم من قبضة الرواية التوراتية التقليدية وينتهجون منهجيات علمية صارمة في مقاربة الحقيقة وكتابة تأريخ فلسطين وعموم العالم العربي مع توخي الحذر والحيطة واعتماد اللغة الاحتمالية مرنة وعدم التسرع في إطلاق الأحكام الباتة والنهائية إذْ أنَّ العلوم التأريخية التي نحن بصددها لا تقبل الإطلاق والقطع والبتر لأنها بطبيعتها نسبية وخطاب البحث العلمي يختلف عن الخطاب والبيان السياسي الحماسي.

بدايةً، أود الإشارة إلى اتفاقي الكامل مع الباحث الدبش على تركيزه على الجوهر الديني الخرافي للمشروع الصهيوني الإبادي المعاصر منذ بداياته وكونه في الأساس مشروع بروتستانتي كالفيني. فهذا المحور من الموضوع يهمله الكثيرون من الساسة والباحثون والقراء العرب، بل ويبدو أن بعضهم لا يريد أن يصدق بوجوده ويستوعبه رغم كثرة الأدلة عليه لأنه قد يؤدي به إلى الخروج على السردية الغربية المنافقة التي تساند المشروع الصهيوني والتحالف بين هذا المشروع والدول التي قامت على مبدأ الإبادة التوراتية كما هي الحال في الولايات المتحدة الأميركية التي قامت على جثث شعوب السكان الأصليين الاميركيين.

وثانيا، أسجل تحفظي على الشطب الكامل الذي قال به الباحث على مطلق الوجود اليهودي، العبري، الإسرائيلي (مع أخذ الفروق الجوهرية بين هذه الكلمات بنظر الاعتبار) في المملكتين يهوذا وإسرائيل الغابرتين في منطقة تلال وسط فلسطين. حيث تتوفر لدينا أربعة أدلة رافدانية آثارية ملموسة من العهدين الآشوري والكلداني، وسأتناولها بالتحليل النقدي تفصيلا في مناسبة أخرى. وأكتفي هنا بذكر عناوينها: "1-المسلة السوداء أو مسلة شلمنصر الثالث (858 -824 ق.م)، وفيها يظهر ساجدا ملك إسرائيل ياهو من بيت عمري وهو يقدم الجزية للملك الآشوري مع ملوك آخرين. 2-نقش مسماري باللغة الأكدية "البابلية" ورد فيه ذكر ياهو ياقين ملك يهوذا الأسير. 3-سجلات حملة سرجون الثاني الآشوري لأعداد أسرى السبي البابلي. 4- نصب كورخ "قرقرة" من عهد شلمنصر الثالث من سنة 853 ق.م، وفيه يرد ذكر ملك إسرائيل أخاب وجيشه ضمن جيوش التحالف الآرامي والعربي الذي قاده ملك دمشق حزائيل الآرامي.

 وأتحفظ ثانياً، على شطبه المطلق على كل الرواية التوراتية وتحديدا على تلك التفاصيل القليلة فيها والتي تتطابق مع الأدلة الإركيولوجيا الرافدانية والمصرية وبلاد آرام "الشام" وخصوصا في الأمثلة الرافدانية الأربعة سالفة الذكر، ولكن هذا التطابق لا ينقذ الرواية التوراتية من خرافيتها بل يؤكد بالأدلة الآثارية المذكورة بعض تفاصيلها.

أتحفظ ثالثا على ما ذكره الباحث بخصوص "نفي شتاينر لوجود أورشليم القدس قبل القرن التاسع ق.م". فالحقيقة هي أنَّ شتاينر لم تنفِ وجود أورشليم في هذا القرن بالمطلق "على طريقتنا العربية"، بل وضعت احتمالين لتفسير ورود اسم مدينة أورسليم في رسائل تل العمارنة وهذا يعني أنها تعطي مصداقية لما ورد في تلك الرسائل وتحاول تفسير ما ورد فيها بخصوص أورشليم القدس، فتقول: الاحتمال الأول أن اسم (ءوروساليم) الوارد في الرسائل ربما يعود على مدينة أخرى اسمها (ءوروساليم) يمكن العثور عليها (ولم تقل تم العثور عليها) في القسم الجنوبي من منطقة التلال. والاحتمال الثاني هو أن الاسم يعود فعلا على أورشليم "القدس" نفسها، ولكنها كانت بلدة صغيرة وغير مسورة بل كانت مجرد عزبة خاصة وأراضي خاضعة لسلطة ملكية. ص 68 من كتاب شتاينر "القدس في العصر الحديدي".

وبخصوص اسم "أورشليم" أيضا، فهو لم يرد فقط في رسائل تل العمارنة بل ورد أيضا بألفاظ متقاربة في الأماكن واللغات التالية:

أورشليم- آثار من مملكة إيبلا.

 أورسالم- في ألواح أكدية من العراق القديم.

 يوروشاليم- في نصوص الطهارة من مصر.

 أوشاميم، في نصوص اللعن - من مصر.

 أوشاليم – في مصر.

أورساليمو- في نص أموري.

 شهر شلايم - في ألواح أوغاريت.

المصدر: تاريخ القدس القديم - لخزعل الماجدي ص 93 وص 72

* أدناه جردة سريعة ببعض المواضيع التي بدت لي أكثر أهمية في المقابلة مع الباحث أحمد الدبش:

1- عن إمبراطورية داود وابنه سليمان الذي بنى الهيكل الأول وعنه يقول النص التوراتي إن مساحته 320 متر مربع (وهي مساحة شقة متوسطة وأصغر من مساحة فيلا كبيرة) وشارك في بنائه 176 ألف عامل واستغرق العمل سبع سنوات، وجيء له بخشب من أشجار الأرز من لبنان...إلخ!

2- هل هناك تقاطع (بمعنى تلاقي وتوافق، وليس كما يفهمها بعض العراقيين بمعنى المقاطعة وعدم الاتفاق) بين النص القرآني والتوراتي؟ لماذا يجب إحداث قطيعة بين الرواية القرآنية التي تنزه الأنبياء والتي تهينهم؟ هل هناك جغرافيا للرواية التوراتية في القرآن؟ هل هناك تزمين وراتي في القرآن؟

3- هل صحيح أن أقدم نسخة من التوراة باللغة العبرية كتبت في العاشر الميلادي وموجودة في كنيسة سان بطرسبورغ؟

4- ما قصة الترجمة السبعينية باللغة المصرية المحكية في القرن الثالث ق.م بطلب من الملك بطليموس الأول؟ وهل من المنطقي أن تتم مراجعة الترجمة السبعينية بالرجوع إلى نسخة عبرية كتبت بعدها بثلاثة عشر قرنا لأن النسخة العبرية الأصلية التي ترجمت في القرن الثالث ق.م فقدت؟ أليس من المنطقي أن تقارن وتراجع الترجمة بالنسخة الأقدم منها وليس التي بعدها؟

5- كيف تم توحيد الرواية التوراتية مع الرواية الإنجيلية المسيحية في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين وأمه هيلين أول حاجة في المسيحية؟

6- يرى الباحث الدبش ضرورة إحداث قطيعة بين النص القرآني والنص التوراتي لأن النص القرآني يخلو تماما من التحديدات الجغرافية وهو لم يذكر فلسطين ويخلو من التزمينات والتواريخ ولم يحدد السنوات التي حكم او ولد فيها إبراهيم أو موسى أو داود أو سليمان وغيرهم من انبياء التوراة. والقرآن نزَّه الأنبياء وذكر محاسنهم أما التوراة فأظهرت إبراهيم "..." أنكر أن تكون المرأة التي معه زوجته وقال إنها أخته وحصل بسببها على ماشية واموال وأصبح غنيا بسببها...إلخ، وأغلب الأنبياء تظهرهم التوراة كملوك قساة وقتلة دمويين وسليمان خاصة أظهرته التوراة كزير نساء عبد إله النساء ولم يعبد رب إسرائيل. أما في القرآن فهم أنبياء منزهون وذوو صفات حميدة. من هنا لا يوجد تقاطع بين النص التوراتي والنص القرآني ولذلك ينبغي إحداث قطيعة بينهما لأنهما مختلفان.

7- يشرح الباحث منهجية القس الأميركي إدوارد روبنصون التلفيقية التي استعملها سنة 1834 حين أراد أن يقوم برحلة تشابه او على خطى رحلة موسى من مصر إلى فلسطين الواردة في التوراة، وقام برحلة من سيناء إلى فلسطين ومعه شخص يجيد اللغة العربية هو إيلي سمث، ولم يكن معه أي دليل أثري، وراح يطابق بين الأسماء الواردة في التوراة والأسماء القريبة لفظا من تلك التي مر بها. مثلا مر بقرية تسمى جبع فقال هذه جبعون التوراتية، وبيسان أصبحت بيت شان التوراتية ...إلخ. ويقول الدبش: "نحن الذين كتبنا وألفنا الكتب عن يمنية التوراة وأنا منهم استعملنا منهجية التوراتي روبنصون أي المقاربات اللغوية ولكن على أرض اليمن". ثم يسجل أنه هو شخصيا استعمل كتاب لعالم الآثار اليمني مطهر الإرياني حول الآثار المسندية وراح يطابق بين الأسماء اليمنية الوارد فيه والأسماء الواردة في التوراة من دون مراعاة التزامن التأريخي وقال: "وأنا كنت أعلم أن النقش الأثري اليمني المسندي لا يتزامن مع الحدث التوراتي".

8- ما علاقة ظهور البروتستانتية على يد الألماني مارتن لوثر بالجمع بين المسيحية واليهودية منذ كتابه الأول الذي يحمل عنوان " المسيح ولد يهوديا" ودعا إلى عودة اليهود إلى فلسطين؟

***

علاء اللامي

.....................

* الصورة: واحدة من أقدم النسخ للتوراة تعود إلى القرن العاشر الميلادي أما الترجمة السبعينية باللغة اليونانية للتوراة والتي تعود إلى القرن الثالث ق.م أي قبل هذه النسخة بثلاثة عشر قرنا فلا وجود لها بل توجد مقتبسات متفرقة منها، كما لا توجد النسخة العبرية التي قيل إنَّ المترجمين ترجموا عنها السبعينية إلى اليونانية.

* رابط يحيل إلى المقابلة مع الباحث الفلسطيني أحمد الدبش:

https://www.facebook.com/basimah.issa.186/videos/1277861459908460?idorvanity=531769404416048

ممكنات التحوّل في السياسة الخارجية والأمن القومي الإيراني

ليس من السياسة بشيء أن يزعم أي طرف من أطراف المنطقة أن الفوز المركب لدونالد ترامب لا يعنيه أو لا يؤثر على بلده، فضلاً عن أن يكون ذلك الطرف هو إيران. لذلك ابتعدت الجمهورية الإسلامية سريعاً عن موقفها البدوي الذي برز في الساعات الأولى بعد صدمة الفوز، وتخلت عن تكرار ما ذكرته في ساعات الصدمة الأولى من أن الانتخابات الأمريكية هي شأن داخلي، وأن فوز ترامب لا يعنيها ولا يؤثر في سياساتها، فضلاً عن أن يؤدّي إلى تعديل هذه السياسات، بل ربما يمكن أن يقود مع عواملٍ أُخر حتى إلى تغيير منظومة الأمن القومي الإيراني وآليات عملها، كما كتب عن ذلك نصاً الدبلوماسي الإيراني السابق حسين موسويان، في ورقة بحثية تحليلية وزينة نشرها باللغة الإنكليزية، وقدّم لها موقع «تابناك» التابع للجنرال محسن رضائي، ترجمة وافية إلى اللغة الفارسية، لتكون مجرّد مؤشر من مجموعة مؤشرات متراصة سياسية ودبلوماسية، وتنظيرية وإعلامية على تحولٍ واسع بهذا الاتجاه.

التحوّل السريع

مساء يوم الاثنين 4 تشرين الثاني الحالي وقبل ساعات من بدء الاقتراع في الانتخابات الأمريكية، استضافت التلفزة الإيرانية الرسمية وزير الخارجية عباس عراقچي، فأكد أن الانتخابات شأن أمريكي خاص لا علاقة لإيران به، ولا يؤثر عليها من يفوز سواء أكان كاملا هاريس أم دونالد ترامب.

لقد جاء موقف الوزير عراقچي هذا تتويجاً لسلوك الإعلام الرسمي على مستوى مؤسّسة الإذاعة والتلفزة، والصحف الرسمية وشبه الرسمية (ايران، كيهان، اطلاعات، جام جم، همشهرى وأمثالها) معه اليمين السياسي المحافظ، من التعامل بإهمال قرين بشيء لا يخفى من التعالي على الانتخابات الأمريكية، وقد كان هذا الموقف يستبطن بالعمق قناعة لدى الغالبية العظمى من السياسيين وبقية المعنيين الإيرانيين، من أن حظوظ الديموقراطية هاريس هي الأكبر في الفوز، ومن ثمّ فإن فرصة فوز ترامب إن لم تكن معدومة فهي ضئيلة، ليكونوا مع غيرهم ضحية الاستطلاعات الأمريكية التي هُندست بكثافة، للحديث عن تقدّم هاريس وتخلف ترامب.

الفوز المركّب الهائل لترامب بالأصوات الشعبية والمجمع الانتخابي معاً، والإعلان السريع للنتائج خلال ساعات من دون قلاقل بل اضطرابات كان يتخيّلها العقل السياسي الإيراني ويتمنّاها، بالإضافة إلى تعزيز ذلك كله بمؤشرات فوزٍ قرين ما لبث أن تحقّق في مجلسَي الشيوخ والنوّاب؛ وضع الموقف الإيراني الرسمي ومن كان يراهن في إيران على هاريس، تحت هالة الذهول وفعل الصدمة. لذلك جاءت ردود الفعل السياسية الأولى استمراراً لمنهج الإهمال والتعالي، ومنطق أن الانتخابات لا تعنينا، والفائز لا يهمّنا، لكن ما لبث أن انقلب المشهد بالكامل وتبدّل على نحوٍ شامل.

لقد شهدنا منذ يوم الخميس (7 تشرين الثاني الحالي) الذي تلا الانتخابات كثافة مهولة في التغطية الإعلامية والتحليلية، إلى جوارها مروحة واسعة من المواقف الرسمية الإيرانية التي وضعت وراء ظهرها لغة الإهمال والتعالي ومنطق اللامبالاة، وقد راح الجميع يفكر بكثافة عن كيفية التعامل مع ترامب، وإدارة العلاقة مع الرجل الذي سيمكث أربع سنوات كاملة في البيت الأبيض، ويتصدّر أزمّة القرار ومقاديره في أمريكا.

الأصولية المتشدّدة

عزّ على صحيفة «كيهان» الأصولية المتشدّدة فيما يبدو التعامل مع الأمر الواقع والتفكير بسُبل التكيّف مع فوز ترامب، فانطلقت بهجوم مزدوج على ترامب وعلى من يبحث في الداخل عن أفضل خيارات التكيّف مع إدارته، بدأته بعد يومين من الانتخابات ولم يزل مستمراً حتى الآن. ففي يوم الخميس 7 تشرين الثاني الحالي انطلقت الصحيفة من عنوانٍ عريض على صدر صفحتها الأولى: «أمريكا هي الشيطان الأكبر لا فرق من يكون رئيساً للجمهورية»، ثمّ توالت مواقفها النقدية الحادّة لتيارات الداخل الإيراني، وهي تصرّ على نعتها بـ«المتغرّبة» و«المستسلمة» و«المرعوبة»، بل وتلمّح على نحوٍ مكثف إلى «خيانتها» لمجرّد أنها كانت تستحثّ الجهد السياسي والدبلوماسي والأكاديمي الإيراني، للبحث عن خيارات أقلّ ضرراً في التعامل مع إدارة ترامب.

بديهي كان منطق الآخر بالحيثيات والأرقام أشدّ صلابة وأمضى من معزوفات الشعارية الثورية. فحتى مع مماشاة «كيهان» والتيار الأصولي المتشدّد بأن أمريكا هي الشيطان الأكبر، فمن المؤكد أن هناك فرقاً حاسماً بين من يجلس على قمة هرم الشيطان، تكفي في بيانه لغة الأرقام. ببساطة شديدة وجّه ترامب في إدارته الأولى (2017ـ 2021م) ضربات موجعة سياسية واقتصادية واستراتيجية إلى إيران، عندما انسحب من الاتفاق النووي عام 2018م، وفرض عقوبات الحدّ الأقصى، فانخفضت مبيعات النفط الإيراني كمعدّل إلى (300) ألف برميل يومياً أو ما هو أدنى، ما أدّى إلى انهيارات عظمى في قيمة العملة الوطنية الإيرانية، وشلّ النمو الاقتصادي، قبل أن يختم ذلك كله بضربة استراتيجية عميقة الأثر، تمثلت باغتيال الجنرال سليماني في أول أيام عام 2020م.

والحال أن الصورة قد اختلفت بالكامل مع إدارة الديموقراطي جو بايدن، فمع بايدن عادت المفاوضات الخلفية السرية والجاهرة مع طهران لإرجاع أمريكا إلى الاتفاق النووي. كما غضّ بايدن النظر عن مبدأ عقوبات الحدّ الأقصى الترامبية، فنمت صادرات إيران النفطية وبلغت كمعدل (1,5) مليون برميل يومياً، ما سمح بتدفق سيل العملات الأجنبية إلى إيران ولو على نحوٍ غير رسمي، وبلوغ حالة من استقرار الأزمة، ساهمت إلى حدٍ بعيد في الاستقرار السياسي والاقتصادي، والهدوء الاجتماعي على مرّ ثلاث سنوات تقريباً، من حكم الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي.

وجدلية الداخل ببساطة وسؤالها المباشر في مواجهة التشدّد الأصولي ومعزوفاته الثورية، هو: كيف يكون ترامب وهاريس سواء؛ وهذه هي خلفية الأرقام التي تكشف عن مسافة شاسعة في تجربة إيران على مدار أربع سنوات؛ بين ركيزتي الشيطان الأكبر، دونالد ترامب وجو بايدن؟

مثال من رئيس «المركزي»

السياسي الحاذق هو من يخزن لسانه أثناء الأزمات ولا يصرّح كثيراً إبّان تقلباتها ريثما تهدأ. وهذا ما لم يوفّق إليه محافظ البنك المركزي الإيراني محمد رضا فرزين، وما صرّح به قد يكلفه استمراره بمنصبه بعد أن استثناه الرئيس مسعود پزشكيان من التغيير، إذ هو معيّن لرئاسة المركزي من الحكومة السابقة. لقد أشعل فرزين جدليات نقاش حاد بين رؤيتين في الداخل الإيراني، منذ أن تداول الإعلام الإيراني تصريحاته يوم 11 تشرين الثاني 2024م الحالي، وهو يقطع بجزم أن ليس لعودة ترامب تأثيراً كبيراً على الاقتصاد وسعر العملة، لأن إيران لا تتعامل اقتصادياً مع العالم، وصلة اقتصادها محدودة بأمريكا، بل وحتى بأوربا (تُنظر التصريحات ومناقشاتها في صحيفة «هم ميهن» مثالاً، 11 تشرين الثاني 2024م).

باتت اليوم جدليات العلاقة بين السياسة والاقتصاد أوضح من الشمس برابعة النهار. ومع ذلك وحتى بلغة الاقتصاد وأرقامه، لم يكن رئيس المركزي الإيراني موفقاً في نفي تأثّر اقتصاد بلاده بفوز ترامب. سأدع آراء الخبراء وما أثاره المختصّون بشأن هذه التصريحات جانباً. كما سأترك الملفات المختصّة التي حذّرت قبل أشهر من إمكان وصول ترامب، ووضعت معالجات مقترحة (يُنظر على سبيل المثال، ملف مهم لملحق صحيفة «دنياى اقتصاد» السنوي، صدر شهر آذار الماضي) للتقليل من صدمات هذا الفوز لو حصل؛ وأكتفي من بين ذلك كله بأرقام للرئيس الأسبق حسن روحاني.

الملاحظة التي أثارها الكثيرون في الداخل على تصريحات رئيس المركزي محمد رضا فرزين، أنه لم يحدّثنا عن أضرار الحصار والعقوبات المفروضة على الاقتصاد الإيراني، والأخطر من ذلك الخسائر الفادحة لانقطاع هذا الاقتصاد عن دورة الاقتصاد العالمي، وانحسار تداولاته الأساسية على بضع دول فقط، هي الإمارات العربية المتحدة والصين والعراق وروسيا وأفغانستان وتركيا. بينما تكفل بإيضاح ذلك الرئيس الأسبق روحاني عندما ذكر مباشرةً أن حجم الأضرار التي لحقت الإيرانيين خلال: «السنوات الثلاث الأخيرة بلغت (300) مليار دولار». يضيف روحاني موضحاً: «لقد أضرّوا بالناس بما يبلغ (100) مليار دولار سنوياً من الخسائر المباشرة وغير المباشرة، الناشئة عن بيع النفط والبتروكيمياويات، بالإضافة إلى الخصومات التي منحوها للآخرين!» (عن الموقع الرسمي لروحاني في حديث له مع مجموعة من وزرائه ومعاونيه بتأريخ 19 حزيران 2024م). بل تخطى الأمر ذلك بحسب الرئيس روحاني إلى إرجاع الاقتصاد الإيراني إلى عصر التخلف القاجاري وزمن تعاملات «الصرافة اليدوية»: «لقد أعدتمونا إلى عصر القاجارية، وأرجعتمونا مرّة أخرى إلى مرحلة الصرافين!» وذلك في إشارة منه إلى الوسائل البدائية الملتوية التي يمارسها الاقتصاد في إيران للالتفاف على العقوبات المفروضة (تصريح آخر للرئيس روحاني بحسب موقعه الرسمي، بتأريخ: 25 حزيران 2024م).

لقاء الستة الكبار

إلى جوار جداليات الداخل وصراعاته المحتدمة، يبدو أن حكومة الرئيس پزشكيان منكبّة على جهود حثيثة لبناء طريقتها الخاصة وصناعة مذهبها الدبلوماسي المتميّز في التعاطي ليس مع لحظة ترامب وحسب، بل مع إدارته ومع الغرب عامة. ففي نطاق تقسيم الغرب إلى أمريكي وأوربي، ليس هناك مشكلة لحكومة پزشكيان في التعامل مع الشق الأوربي، إذ كان قد صرّح إبّان حملته الانتخابية مرّات بتفعيل قنوات العلاقة مع أوربا وأكّد ذلك بعد فوزه كرّات؛ إنما المشكلة في صيغة التعامل مع أمريكا.

رجل الدبلوماسية الإيرانية الأوّل ومؤلف كتاب «قدرة التفاوض» وزير الخارجية عباس عراقچي، خفف الوطء عن الرئيس پزشكيان وقد راح ينتقل ببطء خطوة بعد أخرى، لترسّم أسلوب أو مذهب أو طريقة للتعامل الدبلوماسي مع أمريكا، قبل أن ينتهي إلى القول نصاً: «إذا أُمّنت مصالحنا الوطنية فسنتفاوض مع أمريكا أيضاً» مستطرداً بأن: «القنوات مفتوحة بيننا وبين أمريكا» (صحيفة اعتماد كمثال، 14 تشرين الثاني 2024م).

من بين أبرز المراكز المؤثرة في السياسة الخارجية الإيرانية بالإضافة إلى الوزارة المختصة، هو المجلس الأعلى للأمن القومي، بالإضافة إلى مؤسّسة أخرى ناشئة يعود تأسيسها إلى عام 2006م، هي: «اللجنة الاستراتيجية للعلاقات الخارجية» التي يرأسها وزير الخارجية الأسبق كمال خرازي، وكان آخر أمين عام لها هو الوزير الحالي عباس عراقچي، قبل أن يترك منصبه لتتحوّل الأمانة إلى علي باقري كني. من بين المؤسّسات المؤثرة وإلى جوارها، تبرز أسماء لها دورها الكبير في مطبخ السياسة الخارجية الإيرانية، منها على سبيل المثال علي أكبر ولايتي أطول من تسنّم منصب وزير خارجية في تأريخ الجمهورية الإسلامية وأكبرهم عمراً، وهو يشغل بالإضافة إلى ذلك عنوان مستشار المرشد للشؤون الدولية.

ما فعله الرئيس پزشكيان هو عقده للقاء تشاوري مع ستة من كبار هرم الدبلوماسية الإيرانية وأهل الشأن العالي فيها، عندما اجتمع بهم يوم الثلاثاء 12 تشرين الثاني الحالي، وقد ضمّ الاجتماع الوزراء الأربعة السابقون؛ ولايتي وكمال خرازي وعلي أكبر صالحي ومحمد جواد ظريف، بالإضافة إلى معاون وزير الخارجية الأسبق محمد صدر، والوزير ومدير مكتب الرئيس روحاني والسياسي محمود واعظي، والخبير الكبير مهدي سنائي، بحضور وزير خارجيته عباس عراقچي. حصيلة اللقاء بلغة الدبلوماسية لخصها الرئيس پزشكيان، بقوله: «ستكون لنا مواجهة مع أمريكا» ومن ثمّ: «من الأفضل أن ندير نحن المشهد». هذه هي الحصيلة، لكن ما هي المخرجات؟ ربما يكون لقاء الاثنين الماضي (11 تشرين الأول) بين ايلون ماسك وسفير إيران في الأمم المتحدة أمير سعيد ايراواني، رغم تكذيب الناطق باسم الخارجية له يوم السبت قبل الماضي، هو مجرّد فتح لنافذة هذه المخرجات على الرأي العام، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تسريب صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية له مساء الخميس قبل الماضي، لم يأتِ على أساس معلومات من الجانب الأمريكي، بل من الجانب الإيراني نفسه.

ثلاثة أوراق عمل

حقيقة الأمر أن حجم أوراق العمل والرؤى وما تطويه من خيارات وتقدّمه من مقاربات، هي الآن في إيران بالعشرات وفيها الكثير مما يستحق القراءة والمراجعة، لكن سأختار الإشارة السريعة إلى ثلاثة نماذج منها، صارفاً النظر عن إشكالية الأسماء وتصنيفها الجناحي وما تثيره من جدل، مركّزاً على المحتوى. ثمّ ورقة قدّمها الأكاديمي المثير أستاذ العلاقات الدولية ناصر هاديان، أعاد فيها التركيز على نظريته القديمة ذات المفاتيح الثلاثة؛ الأول أهمية التعامل الدبلوماسي المباشر مع أمريكا؛ والثاني الدخول بالتفاصيل وتسميتها وترك العمومات والكليات؛ والثالث وهو الأهمّ فتح الملفات جميعاً مرّة واحدة، لأن التعامل مع أمريكا بصيغة الملفات المفردة (ملف بعد ملف) يؤدّي إلى خسارة إيران؛ بينما يقود فتح الملفات جميعها في المحصلة الأخيرة إلى ربح متراكم لإيران، يتجمّع عبر الربح الذي تجنيه من كلّ واحد من هذه الملفات. وقد أعاد هاديان عرض النظرية نفسها واقترحها على الحكومة الحاضرة في التعامل مع إدارة ترامب (يُنظر مقال له مطوّل، صحيفة هم ميهن، 14 تشرين الثاني 2024م).

المبادرة الثانية انطلقت من قبل حسين مرعشي الأمين العام لحزب بناة إيران (كار گزاران زندگى ايران) المحسوب على خطّ الراحل هاشمي رفسنجاني، انطلقت تحت شعار «عصر ترك المخاصمة مع أمريكا» رأى فيه بعضهم عين الصواب والواقعية السياسية، على حين قرأه تيار المبدأية الأيديولوجية بوصفه شعاراً مستفزاً. العناصر الأساسية للمبادرة ترجع إلى الإقرار أن أمريكا هي الاقتصاد الأول في العالم، صاحبة التكنولوجيا المتقدّمة، والقوّة العسكرية الأكبر، وما ثمة ضرورة لإيران أن تكون خصماً في كلّ شيء لأمريكا وفي كلّ الأوقات، بل بينهما منافع ونقاط مشتركة، والمطلوب هو اقتناص اللحظة المؤاتية التي يرى مرعشي أنها كانت متوفرة لإيران في السابق ولم تزل كذلك على عهد ترامب، بشرط أن تتخلى إيران عن مبدأ ترك الخصومة، وتنتهز الفرصة السانحة مجدداً (تُنظر تفاصيل المبادرة بقلم حسين مرعشي نفسه: صحيفة سازندگى، 8 تشرين الثاني 2024م).

الورقة الأخيرة التي تستحق عنوانها بقوّة لمؤهلاتها البحثية والحلول التي تقترحها، هي ورقة الدبلوماسي السابق حسين موسويان الباحث في جامعة برينستون الأمريكية، ومؤلف الكتاب المعروف: «إيران وأمريكا: الماضي المرير ومسار الصلح». ورقة موسويان التي قدّم موقع «تابناك» ترجمتها الفارسية، تقوم على قراءة الواقع الإيراني في نطاق ثلاثة متغيرات، وتُقدّم تحليلاً من ستة عناصر ليس فقط لإمكان التحوّل في السياسة الخارجية الإيرانية مع أمريكا، بل أيضاً إمكان التحوّل في مشروع الأمن القومي الإيراني وعلى مستوى الإقليم أيضاً، قبل أن تنتهي بأربع توصيات.

أهمية هذه الورقة تدعونا لتأجيل الكلام عن محتواها وتفاصيلها إلى مقالٍ مستأنف، لنختم بملاحظة أعتقد أنها مهمّة جداً؛ مؤدّاها أن الاستقطاب الذي تشهده الساحة الإيرانية اليوم إزاء الموقف من أمريكا، لا يقوم على صراع الرؤى بين الإصلاحيين والأصوليين، وإن كان هذا الصراع موجوداً، بل هو يستند أساساً إلى انقسام عمودي بين الواقعية السياسية ومعيارها مصلحة إيران، وبين من يغرّد خارج نطاق هذه الواقعية، وهذا هو موطن العبرة!

 ***

جواد علي كسار – كاتب وباحث

 

في اعلانه عن النتائج الاولية للتعداد العام للسكان ذكر السيد رئيس الوزراء ان (النتائج تكشف عن دخول العراق مرحلة الهبة الديموغرافية بوصول نسبة السكان في سن العمل الى 60%). ما الذي تخبئه لنا هذه النتيجة؟ هل ستكون نقطة تحول نحو مستقبل مزدهر، ام انها ستزيد من تعقيد المشاكل التي يواجهها العراق؟

الهبة الديموغرافية هي فترة زمنية يمر بها مجتمع ما، تتميز بارتفاع حاد في نسبة السكان القادرين على العمل مقارنة بنسبة الاطفال والمسنين. تعتبر هذه الفترة فرصة ذهبية للنمو الاقتصادي والاجتماعي، وذلك لزيادة القوى العاملة المتاحة للانتاج، وانخفاض الاعتماد على المعالين، مما يزيد من الموارد المتاحة للاستثمار والتنمية. ويحمل بلوغ 60% من افراد المجتمع سن العمل اهمية بالغة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فزيادة عدد الافراد القادرين على العمل والانتاج تدفع عجلة الاقتصاد الى الامام من خلال رفع الانتاجية. كما ان ارتفاع الدخول الناتج عن زيادة القوى العاملة يزيد من الطلب على السلع والخدمات، مما يخلق فرصا اكبر للاستثمار. بالاضافة الى ذلك، تمثل هذه الفترة فرصة ذهبية لتحقيق اهداف التنمية المستدامة، حيث يمكن استغلال الطاقة الانتاجية المتزايدة للقضاء على الفقر وتحسين مستوى التعليم والصحة.

لكن ماذا يعني ذلك للعراق؟ هل هذه الزيادة السكانية في سن العمل نعمة ام نقمة؟ تحمل الهبة الديموغرافية للعراق تحديات جسام وفرصا ضائعة، فبينما يمثل تدفق الشباب الى سوق العمل قوة عاملة ضخمة في دول الرفاهية، الا انه في العراق بغياب التخطيط الاستراتيجي والفرص الحقيقية وانتشار الفساد يحوله الى قنبلة موقوتة. فبدلا من ان يكونوا محركا للنمو الاقتصادي، يصبحون عبئا على الدولة اذا لم يتم توفير فرص عمل حقيقية تلائم قدراتهم.

فهل سيستغل العراق هذه الفرصة التاريخية لبناء اقتصاد مزدهر، ام سيدخل في دوامة من البطالة والفقر واستمرار الازمات الاقتصادية؟ الاجابة تكمن في مدى قدرة الحكومة على توفير البنية التحتية اللازمة، والاستثمار في التعليم والتدريب للشباب والقوى العاملة، وخلق بيئة جاذبة للاستثمار. فاذا استمرت الدولة في الاعتماد على الوظائف الحكومية كحل وحيد، فان الهبة الديموغرافية لن تؤدي الا الى تفاقم المشكلات الاقتصادية وزيادة الاعتماد على الدولة وتأجيج السخط الاجتماعي.

ان العراق اليوم يقف عند مفترق طرق، اما ان يستثمر في شبابه ويحولهم الى قوة انتاجية، او ان يدفعهم الى الهامش ويضيع طاقاتهم. واما ان يتم القضاء على الفساد والمفسدين، او تظل الهبة الديموغرافية فرصة ضائعة الخيار، يعود ذلك الى صناع القرار، فهل سيختارون بناء مستقبل مشرق لشعبهم، ام سيتركونهم يعانون من الخدمات السيئة والبنية التحتية المتردية، وتستمر البلاد في التدهور الاقتصادي والاجتماعي؟

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور ومستشار علمي

الدين ليس سياسةً.. والسياسة ليست ديناً. القرآن الكريم أول من اشار الى هذا التوجه في المجتمع باعتبار اعتماد نص الشورى في الحكم بين الناس، لكنهم هم أول من أهمل تطبيق النص حين اعتبر المعترضين من أهل الشورى زنادقة مرتدين عن الدين، من واجب المسلمين اجتثاثهم باسم حركة الردة في بداية الخلافة ونهايتها باسم الخوارج المطالبين بالتحكيم. من وجهة نظري كباحث تاريخي أعتقد ان هذا مخالف للنص القرآني جملة وتفصيلاً. كل هذا حدث من اجل السلطة لا الدين.

ومن هنا بدأ النقض لقوانين الاسلام.

حمورابي البابلي اول من دون القوانين.. في قانونه المكون من 282 مادة قانونية ملزمة.. والبابليون أول من ألتزم بتطبيق القوانين. ومن خالف التطبيق تعرض لمحاكمة القانون وليس لقتله. هنا البابليون طبقوا النص افضل من المسلمين.

الاسلام لم يكن بدعة عربية، بل جاء بنص واضح متين لضمان حقوق الناس في العدالة بينهم.. نص لم يذكر حتى في القوانين الحضارية السابقة.. وهو "أعدلوا ولو كان ذا قربى" "وهذا صراطي مستقيما فلا تتبعوا السبل فتفرق بكم.. الانعام 151-153. لكنهم اول من اهملوه دون التزام وتطبيق.

لذا من مسودات كتابة القيم وتطبيقها الناقص عند الخلافة الاولى بدأ أصول الضعف عند المسلمين.. الذي أدى بهم الى تحويل مسار الحقوق للخطأ باختراع كلمة الردة في الاسلام والتي لا وجود لها في القران.. "حين قالوا من أرتد عن دينه فاقتتلوه".. بينما القرآن يقول: "من شاء منكم فليؤمن، ومن شاء فليكفر، انا أعتدنا للظالمين نارا ولم يقل للكافرين. الكهف آية 29.

من هنا نشأت عوامل تقهقر الأمة وسر ضعفها، من قادتها وو عاظهم الذين برروا لها الاستسلام للطغيان والتفتيت، مستندين الى نظرية الجبر وسلب الاختيار، والقبول برأي الفاسد في تفسير فقه الأحكام الملزمة للتطبيق. هنا بنيت شخصية الامة على الضعف بالقوة.. فامراضنا الحالية هي وليدة الماضي الخاطىء المغلف بالمقدس من اجل حقوق السلطة لا المواطن ولا حتى الدين.. علما ان لا مقدس سوى الله.

وحين تركزت هذه المبادىء الجائرة، والأصول المصطنعة في وجدان الأمة أصبح من السهل مقاومة الفئات الاخرى الخارجة على السلطان وتصفيتها باالقوة، والمعارضة للخروج على النص كمافي تصفية ثوار تشرين.. لذا من هنا بدأت تنهزم ثورات العدالة المدعوم بالفقه الزائف امام قوة الدولة. حتى الفكر الجائر القديم اصبح اليوم لا يلائم منهج البحث المعاصر لضمان موضوعية النص في التطبيق.

ليس لأمة ان تتحرك وتنهض بدون قضية محركة، وقيم معينة لتنتقل من الخرافة الى العقل.. نحن نحتاج الى اساتذة جامعيين من ذوي الكفاءة والمقدرة والوطنية المتوغلة في قراءة وتطبيق النصوص لدراسة ظاهرة الانتقال.. هؤلاء الافذاذ هم الذين عليهم واجب معرفة سر الازمة والضعف والتردد لوضع الحلول. فهل يشكل العامل التاريخي احد عوامل الضعف والقوة اعتقد... نعم.

 لذا لابد من دراسة المعتقدات والرموز الدينية واقامة الشعائر وفق نظريات الافكار(الآيدلوجيا) العلم الذي يعالج تقويم الافكار وما يتصل بالقيم الانسانية والمعتقدات الفكرية والتقدم.. لا اراء مشايخ الدين الميتة وغيرها لتدارك الخطأ. وخاصة الخلافات المجتمعية والدينية والمذهبية المبتكرة خطئاً من الفقهاء لتفادي الصراعات الدموية المستمرة لاتفه الاسباب.

ولمعالجة تزوير الحقائق بدعوى وحدة الكلمة التي فرضوها علينا في غفلة الزمن. لذا فالقضية ليست تقليدا للجديد.. بل ابداع وخلق ثقة جديدة في النفوس لمجابهة المستحيل في حل المشكلات. بعيدا عن المداهنة واللين وشعرة معاوية لابعاد نظرية سلوكية الحاكم في التطبيق والغاء خطوط التبرير والارجاء وضياع الحق بالتقادم.

من هنا لابد من التعامل مع الواقع والوقائع والخضوع لها بدافع الدين لان بانتهاء عهد الخلافة الاسلامية الفاشلة اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسسلوك السياسي بل، القدوة والعلم والصلاح هي التي تؤدي الى قيام القانون والغاء الشرعية التي انتهى دورها اليوم ليحل محلها القانون في حقوق المرآة والمواريث. فلامدينة مقدسة ولا امام مقدس ولامقدس في الدين سوى الله ولاغير.

بعد ان ركزت مؤسسة الدين الفاشلة باذهان الناس ان الحاكم الظالم افضل من انعدامه.. سقطت شرعية الحقوق للمواطنين. وبدأ عصر جديد هو عصر السلطة لا الدين. فكان ظهور تيار الارجاء الانتهازي نموذجا لتأسيس خط الضعف وضياع الحق بالتقادم متناسين ان طريق العدل والمبادىء هو وحده يضمن للمجتمع أستعادة التوازن والثقة حتى لو ادى الى تضحيات جسام وهذا ما رأيناه في ثورة تشرين19 التي نادت( نريد وطناً)..

والخطوة التي تلتها هي ظهور الكتلة الساكتة لاستقرار الحكم العضوض الذي اعلنته الدولة الاموية فتوقف الاجتهاد واصبح الفكر والتجديد في دائرة الانغلاق. مستندين الى آيات قرآنية فسروها على هواهم مثل: وما تشاؤون الا ان يشاء اللهم متناسين قول الحق: وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ولا أكراه في الدين.. واخرى كثيرة.

الذي زاد من تفاقم الحالة الباطلة وفقدان الحقوق والتوجه الديني الصحيح عند المسلمين، هو ظهور نماذج من فكر الطاعة للحاكم من امثال الماوردي (ت450 للهجرة) باختراع جماعة اهل الحل والعقد دون معايير ويجري اختيارهم بطريقة غامضة على طريقة مجالس النواب العربية اليوم.

وظهور الفقيه الغزالي (المولود في 450 للهجرة) في قوله ان على الفقيه ان يعترف بالسلطة، لأن البديل هو الفوضى (الضرورات تبيح المحضورات ) وكأن اراد ان يقول ان الغاية تبرر الوسيلة). فأستقر الظلم والباطل دون اعتراض ولازال. خوفا من ان الديمقراطية الحقة تهدد عروش الطغيان.

وقد أكد الفقيه ابن تيمية (ت728 للهجرة) في كتابه السياسة الشرعية ان فصل الدين عن الدولة سيعني الفوضى وهذا يعني اتباع الحاكم حتى لو كان فاسقاً. ثم جاء الطرطوشي وابن الازرق وكاظم اليزدي النجفي الذي برر الاحتلال البريطاني للعراق كلهم على هذه الشاكلة التي ثبتت حكم الباطل في الدولة وحولت الاسلام الى خادم للسلطة لا هم خدمة للإسلام.

ومهما يكن الانطباع الذي يحاول ان يتركه الاخر ان الضعف اصبح هو الغالب في عقول الناس بالمقدس الذي لا يخترق. فكيف لأمة ان تخترق الصعاب والسيف مسلط على الرؤوس حتى اصبح المذهب مخالف للأخر، والسيف جزءً من رايتها الرسمية اليوم.

فعن اي دين يتحدثون.. ؟

***

د. عبد الجبار العبيدي

تواجه تركيا الواقعة على مفترق الشرق والغرب، عند تقاطع جنوب آسيا والشرق الأوسط وأوروبا، معدلات مرتفعة باستمرار للهجرة غير النظامية على مدى خمسة عشر عاماً الماضية. ومع تقدم طالبي اللجوء والمهاجرين الآخرين عادةً من الشرق إلى الغرب، فقد يقتربون من تركيا إما كدولة عبور أو وجهة. وسواء كان الأفراد يعتزمون في النهاية طلب اللجوء أو يبحثون عن فرص اقتصادية أو فرص أخرى، فإن الهجرة غير النظامية تشكل تحدياً لتركيا والدول الإقليمية الأخرى لرصدها والسيطرة عليها. يمكن أن تتخذ الحركة أشكالاً عديدة، بما في ذلك الدخول أو الإقامة أو العمل في بلد ما دون تصريح.

يأتي معظم المهاجرين غير النظاميين من أفغانستان أو سوريا. ويستخدم العديد من المهاجرين المهربين في مراحل مختلفة من رحلاتهم، مما قد يثري الجماعات الإجرامية أو المسلحة. مع زيادة إنفاذ القانون في شرق البحر الأبيض المتوسط، تطورت طرق الهجرة. يُنظر الآن إلى السيطرة على الهجرة غير النظامية باعتبارها مصدر قلق إقليمي يتطلب التعاون من كلا الصفتين.

 يفر معظم المهاجرين الذين يسافرون بشكل غير نظامي من مناطق الصراع في أفغانستان وسوريا إلى تركيا. وغالباً ما يفعل المهاجرون الذين يسافرون بدون تصريح ذلك بمساعدة المهربين، بما في ذلك الجماعات الإجرامية والمتمردين المرتبطين بأنشطة مثل الإتجار بالبشر والعمل القسري والإرهاب. ومن المعروف أن المهربين يساعدون المقاتلين الأجانب الذين دعموا المتطرفين وسعوا إلى العودة إلى بلدانهم الأصلية بعد الهزيمة الإقليمية لتنظيم الدولة الإسلامية في عام 2019. وقد أعربت السلطات التركية عن قلقها بشكل خاص بشأن كيفية تمكين التهريب لجماعات مثل حزب العمال الكردستاني (PKK)، الذي انخرط في هجمات واشتباكات مع الحكومة أسفرت عن مقتل الآلاف. إن حزب العمال الكردستاني وجماعات أخرى تحصل على مبالغ كبيرة من خلال تسهيل تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، فضلاً عن تهريب المخدرات والأسلحة، والابتزاز، والجرائم الأخرى. إن تجارة تهريب المهاجرين إلى تركيا ومنها إلى الاتحاد الأوروبي مربحة وخطيرة.

لقد ركزت الحكومة التركية بشكل كبير على مكافحة هذا النشاط. ومع زيادة إنفاذ القانون على طرق مختلفة، غالباً ما يحول المهربون عملياتهم ويستكشفون مسارات جديدة، مما يفرض تحديات جديدة على السلطات. في السنوات الأخيرة، سعت الحكومة إلى بناء حواجز حدودية ووقف الهجرة غير النظامية. وفي حين تم ذلك في بعض الأحيان بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي، إلا أن إدارة قضية الهجرة كانت في لحظات مختلفة أيضاً نقطة خلاف بين القادة الأتراك وقادة الاتحاد الأوروبي.

اتجاهات واستجابات الهجرة غير النظامية

تستضيف تركيا أكبر عدد من اللاجئين في العالم، بما في ذلك حوالي 3.2 مليون سوري يستفيدون من الحماية المؤقتة. في الوقت نفسه، تباينت الهجرة غير النظامية في السنوات الأخيرة ووصلت إلى أعلى مستوى لها عند نحو 455 ألف حالة اعتقال من قبل السلطات التركية في عام 2019، قبل أن تنخفض مؤقتاً أثناء جائحة كوفيد-19. وعلى مدى العقد ونصف الماضي، كان أكثر من نصف حالات الاعتقال من المهاجرين من أفغانستان (ما يقرب من 732 ألفاً، أو 35% من إجمالي 2.1 مليون حالة اعتقال خلال الفترة 2014-2023) أو سوريا (453 ألفاً، أو 22%). وتشمل مجموعات المهاجرين الأخرى العراقيين، والفلسطينيين، والتركمان، والأوزباكستانيين، والمغاربة. (المصدر: وزارة الداخلية التركية، رئاسة إدارة الهجرة، تم التحديث في 1 أغسطس 2024، متاح على الإنترنت)

تقع مسؤولية إنفاذ قوانين الهجرة ومراقبة الحدود في تركيا على عاتق وزارة الداخلية. وتشمل الواجبات الرسمية لرئاسة إدارة الهجرة التابعة للوزارة إنشاء سياسة استباقية لإدارة الهجرة تأخذ في الاعتبار حقوق الإنسان والحريات، والامتثال للمعايير الدولية، ومراجعة جهود إدارة الهجرة. وفي إطار رئاسة إدارة الهجرة، تكون المديرية العامة لمكافحة الهجرة غير النظامية وشؤون الإبعاد مسؤولة عن إجراء العمل المتعلق بالهجرة غير النظامية، وضمان التنسيق بين وحدات إنفاذ القانون والمؤسسات الأخرى المشاركة في مكافحة الهجرة غير النظامية، ومراقبة التنفيذ، وتنفيذ اتفاقيات إعادة القبول التي تعد تركيا طرفاً فيها، بما في ذلك اتفاقية رئيسية مع الاتحاد الأوروبي تهدف إلى منع الهجرة غير النظامية. وكجزء من الاتفاقية، التي تم توقيعها لأول مرة في عام 2016، يتم تسليم المهاجرين الذين يتم القبض عليهم وهم يدخلون بشكل غير نظامي أراضي الاتحاد الأوروبي من تركيا إلى السلطات التركية، وفي المقابل، تقبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي معاملة مماثلة.

وقد وافقت تركيا على استقبال عدد كبير من اللاجئين السوريين، مقابل توفير مليارات اليورو من الاتحاد الأوروبي في شكل دعم إنساني كجزء من مبدأ "تقاسم الأعباء"، واتفقت على العمل نحو نظام دخول بدون تأشيرة للمواطنين الأتراك المسافرين لفترات قصيرة (ولم يتم سن هذا الإعفاء من التأشيرة بعد).

وقد قامت السلطات التركية بتثبيت مجموعة من التدابير الأمنية المادية والتكنولوجية على طول الحدود. ويشمل ذلك جدار بارتفاع ثلاثة أمتار على طول معظم حدود البلاد مع سوريا وإيران، فضلاً عن الأبراج والألواح عالية الأمان والأسوار السلكية والكاميرات الإلكترونية وأجهزة الاستشعار. (كما أقامت بلغاريا واليونان حواجز على طول حدودهما مع تركيا). وتهدف هذه الجهود، التي تستهدف الحدود البرية والبحرية، إلى الكشف عن الأنشطة الإرهابية المحتملة، ومكافحة التهريب من جميع الأنواع، ومنع العبور غير المصرح به.

الجماعات الإجرامية وتهريب المهاجرين

يهرب العديد من المهاجرين الذين يسافرون بشكل غير قانوني إلى تركيا من مناطق الحرب ويحاولون إنقاذ حياتهم. في طريقهم، قد يواجه المهاجرون منظمات إجرامية ومهربي مهاجرين ويصبحون عرضة للاختطاف أو أشكال أخرى من الإساءة. وفقاً لـ "يوروبول" Europol (وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال إنفاذ القانون) فإن 90% من المهاجرين غير النظاميين الذين يصلون إلى الاتحاد الأوروبي عبر أي طريق يفعلون ذلك بمساعدة المهربين. تقدم هذه الجماعات الإجرامية للمهاجرين مجموعة واسعة من الخدمات، بما في ذلك النقل والإقامة والوثائق المزيفة. ويمكن أن تكون الممارسة مربحة للغاية، حيث تصل الأرباح السنوية المقدرة عالمياً إلى 6 مليارات يورو في السنوات الأخيرة. يشتبه اليوروبول في أن أرباح التهريب قد تتضاعف حتى ثلاث مرات في المستقبل. يجد العديد من المهاجرين المهربين ويتواصلون معهم عبر تطبيقات الهواتف الذكية وخدمات الرسائل، مما يوضح الجانب المظلم لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقدرتها على تمكين الجرائم ووضع المهاجرين في مواقف هشة.

تتنوع طرق تهريب المهاجرين وتتنوع باستمرار وتتغير استجابة لحملات إنفاذ القانون. من بين أولويات اليوروبول للفترة 2022-2025 مكافحة الشبكات الإجرامية المتورطة في تسهيل المهاجرين غير النظاميين عبر طرق الهجرة الرئيسية التي تعبر الحدود الخارجية للكتلة وكذلك الحركات الثانوية داخل الاتحاد الأوروبي.

إن تهريب المهاجرين يشكل مصدر قلق خاص في تركيا، نظراً لموقعها الجغرافي على طول الطريق من آسيا إلى الاتحاد الأوروبي. وهذا يخلق احتمال تحقيق عائدات كبيرة للجماعات والمنظمات الإجرامية مثل حزب العمال الكردستاني، الذي صنفته الحكومة التركية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على أنه إرهابي. ويقال إن حزب العمال الكردستاني حصل على مئات الملايين من الدولارات سنوياً من أنشطة تهريب البشر في السنوات الأخيرة. ونظراً للأرباح المتاحة من خلال هذه الأنشطة غير القانونية، تتجه المنظمات بشكل متزايد إليها لدعم أنشطتها. وعلاوة على ذلك، يمكن أن يصبح المهاجرون القسريون الذين يسافرون بشكل غير منتظم عرضة للاستغلال أثناء مرورهم عبر مناطق غير خاضعة للرقابة حيث لا توجد سلطات أو حيث لا يتم تنفيذ الأطر القانونية بشكل كامل، كما هو الحال في شمال العراق وشمال سوريا.

وقد يواجه العديد منهم - أو حتى يتم إقناعهم أو إرغامهم على المشاركة - في أنشطة غير قانونية مثل الاتجار بالمخدرات أو الأسلحة التي تقوم بها نفس الجماعات الإجرامية والإرهابية. ولهذه الأسباب، يمكن أن يكون تهريب المهاجرين بمثابة بوابة لسلسلة من الأنشطة غير القانونية الأخرى. وكثيراً ما توظف شبكات تهريب البشر أفراداً يعملون في مراحل مختلفة لتقديم خدمات مختلفة للمهاجرين. على سبيل المثال، قد يكون أحد المهربين مسؤولاً عن العمل مع المهاجرين لعبور الحدود بشكل غير قانوني، وآخر لنقلهم داخل البلاد دون اكتشافهم، وآخر لتأمين سكن محلي، وآخر لنقلهم خارج البلاد وما بعدها.

تعد مناطق الحدود الشرقية والجنوبية الشرقية في الأناضول طرق عبور رئيسية لتهريب المهاجرين بسبب الظروف الجغرافية التي يصعب السيطرة عليها والتي تشمل سلاسل الجبال والمساحات الريفية الطويلة. وتزداد التضاريس الصعبة والمناخ القاسي - مع الصيف الحار والجاف والشتاء البارد والثلجي - تعقيداً بسبب وجود مجموعات مثل حزب العمال الكردستاني والشركات التابعة له. وتتحد هذه العوامل لتجعل مكافحة تهريب المهاجرين في هذه المنطقة صعبة للغاية. بالإضافة إلى ذلك، فإن نقاط الضعف في أمن الحدود والاضطرابات الداخلية والصراع في البلدان المجاورة مثل سوريا والعراق هي عوامل مهمة أخرى تعقد جهود أمن الحدود التركية. في العام الماضي، ألقت السلطات التركية القبض على ما يقرب من 10500 مهرب مهاجرين، وهو رقم قياسي. (المصدر: وزارة الداخلية التركية، رئاسة إدارة الهجرة).

أدوار المهربين

توضح المقابلات التي أجرتها السلطات التركية مع المهاجرين غير النظاميين الدور الذي يمكن أن يلعبه المهربون في كل خطوة تقريباً من خطوات هجرة الفرد غير النظامية إلى تركيا، وإذا نجحوا، إلى أوروبا. على سبيل المثال، رجل أفغاني يبلغ من العمر 24 عاماً يعيش في إيران قرر الرجل التوجه إلى اليونان مع زوجته نظرا للصعوبات المالية المستمرة التي يواجهانها. وفي أبريل/نيسان 2017، التقى الزوجان بمهرب قال له إنه يستطيع أن يأخذهما إلى مدينة "ماكو"Maku في شمال غرب إيران مقابل 1300 تومان (حوالي 275 يورو) للشخص الواحد. وفي وقت لاحق، نُقِل الزوجان الأفغانيان إلى الحدود التركية، حيث التقت بهما مجموعة جديدة من المهربين. وسار الزوجان لمدة إحدى عشر ساعة طوال الليل عبر الجبال المغطاة بالثلوج والمنحدرات الشديدة. ثم نُقِل الزوجان إلى مقاطعة "فان" Van الحدودية التركية واستقلا حافلة إلى أنقرة Ankara. وبمجرد وصولهما إلى العاصمة، وجدا مهرباً آخر من الجنسية الأفغانية، ليأخذهما إلى اليونان مقابل 1500 دولار أمريكي (حوالي 1350 يورو) للشخص الواحد. واشترى المهرب الجديد تذاكر حافلة من أنقرة إلى مدينة "إزمير" Izmir الساحلية الغربية، حيث ألقت قوات إنفاذ القانون القبض على الزوجين.

رجل آخر، سوري، طلب من زوجة عمه الترتيب مع مهرب لعبور الحدود إلى تركيا مقابل 2000 دولار أميركي (حوالي 1800 يورو) للشخص الواحد من أجل الهروب من الصراع في سوريا. عبر الرجل وعائلته كجزء من مجموعة مكونة من خمسة عشر شخصاً، عند قسم من السياج الحدودي الذي قطعه المهرب في وقت سابق. وبمجرد وصولهم إلى تركيا، تم نقلهم إلى قرية في مركبات رتبها المهرب، حيث تم إنزالهم في منزل عائلة تركية. ابتز صاحب المنزل المهاجرين، ولوح بعصاه وصرخ، "أولئك الذين يدفعون يمكنهم المغادرة من هنا؛ ولا يمكن للبقية أن يخطوا خطوة واحدة خارج المنزل". اتصل الرجل السوري بشقيقه المقيم في تركيا، وأخبره أن العائلة قد تم أخذها كرهائن، وطلب الإنقاذ.

ديناميكيات متغيرة على طول طريق شرق البحر الأبيض المتوسط

يعد شرق البحر الأبيض المتوسط طريق هجرة قديم جداً يُستخدم للعبور من تركيا إلى أوروبا. يتضمن هذا الطريق بشكل أساسي الهجرة البحرية إلى اليونان، على الرغم من أن بعض المهاجرين يعبرون براً إلى بلغاريا. خلال أزمة الهجرة واللاجئين الأوروبية في عامي 2015 و2016، كان هذا هو الطريق البحري الأساسي، الذي وصل من خلاله حوالي مليون طالب لجوء ومهاجرين آخرين إلى أوروبا. ويستخدم هذا الطريق إلى حد كبير الأشخاص الفارين من الشرق الأوسط وجنوب آسيا، وخاصة الأفغان، والعراقيين، والسوريين، على الرغم من أن عدداً ملحوظاً من الأفارقة استخدموه مؤخراً. وحتى الآن في عام 2024، كان المصريون، والإريتريون من بين أكثر خمس مجموعات جنسية مهاجرة شيوعاً، وفقاً للمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. قد ينتقل المهاجرون غير النظاميين الذين يصلون إلى اليونان لاحقاً إلى عمق أوروبا، نحو دول مثل ألمانيا، وإيطاليا، وهولندا، والمملكة المتحدة. وبمساعدة المهربين، يمكن للمهاجرين الذين يستخدمون القوارب السريعة عبور "بحر إيجه" Aegean إلى الجزر اليونانية - بما في ذلك "ليسفوس" Lesvos و"إيفروس" Evros و"ساموس" Evros- في حوالي نصف ساعة.

مع اتهام خفر السواحل اليوناني بدفع قوارب مليئة بالمهاجرين خارج المياه الإقليمية اليونانية وإعادتها إلى المياه التركية، غير العديد من المهاجرين غير النظاميين مسارهم لتجاوز اليونان والتوجه مباشرة إلى البر الرئيسي في إيطاليا عبر قوارب كبيرة من الساحل التركي. يستغرق هذا الطريق الخطير حوالي ثلاثة أيام، ومن ثم يستخدم المهربون قوارب شراعية أو سفن صيد أكبر.

يتضمن مسار آخر السفر من لبنان، وسوريا، والساحل الجنوبي لتركيا إلى نقاط مختلفة في قبرص في قوارب مطاطية على شكل "زودياك" Zodiac يمكنها حمل 15-20 شخصاً. من قبرص، قد يسافر المهاجرون في مجموعات من 100-200 في قوارب أكبر نحو إيطاليا. إن المهربين يتقاضون عادة ما بين 2500 و3000 يورو مقابل رحلة من تركيا إلى جزيرة قبرص. وإذا كان الطريق أطول، مثل الرحلة المباشرة إلى إيطاليا، أو إذا كان يشمل خدمة كبار الشخصيات مع ثلاثة إلى خمسة أشخاص في قارب شراعي حديث، فقد يزيد السعر. وتختلف الرسوم حسب الطريق والموقف وظروف الطقس وخطورة مسار الهجرة.

التعاون في قلب السيطرة على الهجرة

لقد تطورت السيطرة على الهجرة غير النظامية ومكافحة تهريب المهاجرين إلى ما هو أبعد من القضايا التي تؤثر على بلد واحد أو بلدين فقط وأصبحت الآن مسائل خطيرة تعترف الحكومات بضرورة معالجتها دوليا وجماعيا. إن العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي هي دليل على هذه الشبكة المعقدة من الاعتماد، والتي يمكن أن تكون مثيرة للجدال في بعض الأحيان. وفي حين أن مكاسب الاتحاد الأوروبي واضحة - الحد من حركة المهاجرين العفويين - فإن دعم الاتحاد الأوروبي يمكن أن يساعد في تعزيز قدرات السلطات التركية وتخفيف بعض العبء الكبير الذي وقع عليها، وردع المهاجرين عن المرور عبر تركيا بشكل غير نظامي، وبالتالي حرمان المنظمات الإرهابية من مصدر للإيرادات. ومن بين الوسائل التي يمكن من خلالها تقديم هذا الدعم خطة عمل الاتحاد الأوروبي لطريق شرق البحر الأبيض المتوسط، والتي تشكل جزءاً من نهج أوسع نطاقاً للمساعدة في تخفيف الضغوط على الدول الأعضاء. وتركز الخطة على منع المغادرات غير النظامية، ومكافحة التهريب، وتعزيز التعاون بين بلدان الاتحاد الأوروبي.

إن تعزيز إدارة الحدود، وزيادة التعاون بشأن العودة وإعادة القبول، وضمان إدارة الهجرة الفعّالة، وتحسين إجراءات اللجوء، وتوفير قدرات الاستقبال الكافية، وضمان مسارات الهجرة القانونية. وكجزء من هذا الجهد، ركز الاتحاد الأوروبي على الحفاظ على التعاون مع تركيا لمكافحة تهريب المهاجرين ودعم مشروع الشراكة العملياتية المشتركة الجديد (SCOPE II) الذي يهدف إلى التعاون العملي في إنفاذ القانون والتعاون القضائي مع السلطات التركية. كما يساعد الاتحاد الأوروبي في تنفيذ استراتيجية إدارة الحدود المتكاملة في تركيا، والتي تهدف إلى إنشاء نظام يتميز بالتعاون بين المؤسسات والدول لتسهيل التجارة والمرور عبر حدودها.

هل يمكن السيطرة على الهجرة؟

قطعاً لا. ستظل الهجرة غير النظامية إلى تركيا ومنها إلى الاتحاد الأوروبي تشكل تحدياً. وكان ما يقرب من 41600 مهاجر وصلوا بشكل غير نظامي إلى اليونان العام الماضي ثاني أكبر عدد منذ عام 2016، مما يشير إلى أن أي انخفاض مؤقت في العبور خلال جائحة كوفيد-19 قد انتهى. وفي السنوات القادمة، من المرجح أن يستمر الأفغان والسوريون في تشكيل أكبر مجموعات من طالبي اللجوء وغيرهم من المهاجرين غير النظاميين الذين يسافرون عبر طريق شرق البحر الأبيض المتوسط. إن المهاجرين غير النظاميين في شرق البحر الأبيض المتوسط يواجهون ضغوطاً اقتصادية وأمنية مختلفة، سواء في بلدانهم أو في بلدان ثالثة حيث استقر العديد من النازحين مؤقتاً، بما في ذلك إيران، ولبنان، وباكستان. كما ستظل الهجرة غير النظامية في شرق البحر الأبيض المتوسط تتأثر بالعوامل الجيوسياسية بما في ذلك التوترات والصراعات المستمرة في المناطق المجاورة، فضلاً عن الركود الاقتصادي. إن العواقب المتصاعدة للحرب في غزة، وتكثيف الحرب الخفية بين إسرائيل وإيران، والتحديات الاقتصادية الإقليمية وعدم اليقين في أعقاب الوباء، والضغوط المتزايدة من إيران وباكستان لطرد الأفغان، كلها عوامل رئيسية يمكن أن تزيد من حركة العبور في شرق البحر الأبيض المتوسط. إن وجود المزيد من المهاجرين الذين يمرون عبر هذا الطريق يمكن أن يزيد من المخاوف بشأن الأفراد المرتبطين بالمنظمات الإرهابية وقد يشجع المجرمين والشبكات الأخرى التي تعمل في الخفاء.

وستظل الشراكات المستمرة حاسمة للحد من الهجرة غير النظامية. ومع تزايد عمليات مراقبة الحدود في غرب البلقان وشرق البحر الأبيض المتوسط ــ مثل من خلال الميثاق الجديد للهجرة واللجوء الذي وضعه الاتحاد الأوروبي، والذي يهدف إلى تسريع عودة الأفراد الذين رُفِضت طلبات لجوئهم ــ سيواصل المهاجرون غير النظاميين البحث عن طرق سفر بديلة، بما في ذلك عبر قبرص أو إلى البر الرئيسي في إيطاليا. وقد يستغل المهربون هذا الوضع، بما في ذلك من خلال عرض المرور عبر طرق جديدة، ووثائق سفر مزورة، ووسائل نقل، وبالتالي المساهمة في الاختلافات في الهجرة الإقليمية غير النظامية.

إن السيطرة على الهجرة غير النظامية ووقف تهريب المهاجرين من بين أهم أولويات السياسة بالنسبة لتركيا والاتحاد الأوروبي. ويشير الدور المتزايد الذي تلعبه الاتصالات الرقمية في الهجرة غير المشروعة إلى وجود حاجة إلى إجراء بحث مكثف حول الكيفية التي يمكن بها لهذه التقنيات الرقمية تسهيل دخول المهاجرين والمهربين وخروجهم. وقد تحولت الهجرة الدولية بسرعة إلى رقمية مع تقدم التكنولوجيا، وأصبحت المنصات الرقمية الجديدة أدوات أساسية للمهاجرين. وكان المهاجرون يستخدمون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لجمع المعلومات والمشورة في الوقت الحقيقي أثناء رحلاتهم ــ وهو تطور مثير للاهتمام ومثير للقلق. وبالإضافة إلى تسهيل السفر غير النظامي، يمكن استخدام هذه التقنيات أيضًا لنشر معلومات مضللة وشائعات خطيرة يمكن أن تترك المهاجرين عالقين أو يعتمدون على المهربين المبتزين. تشير التطورات الجديدة إلى الحاجة إلى مكافحة الهجرة غير النظامية ليس فقط شخصياً، ولكن في المجال الرقمي أيضاً. وباعتبارها دولة على الخطوط الأمامية للهجرة غير النظامية، ستواصل تركيا تطوير جهودها لمكافحة هذه الحركة غير النظامية.

تجارة مزدهرة

رصدت دراسة جديدة أجراها مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة ثلاثين مساراً رئيسياً وفرعياً لتهريب المهاجرين غير النظاميين في مختلف أرجاء المعمور. وتشير الدراسة الأممية إلى أنه في العام 2023 جرى تهريب 2.3 مليون مهاجر، وجنى المهربون من وراء ذلك ما بين 5.5 و7 مليارات دولار.

رسوم التهريب عبر المسارات

1ـ من النيبال والهند إلى الولايات المتحدة (جوا): يدفع المهاجر ما بين 27 و47 ألف دولار.

2ـ من الهند إلى أوروبا (جوا): ما بين 15 و30 ألف دولار.

3ـ من أفغانستان إلى أوروبا الغربية (جوا): ما بين 10 و15 ألف دولار.

4ـ من أفغانستان إلى أوروبا الغربية (برا): نحو 10 آلاف دولار.

5ـ من باكستان إلى أوروبا الغربية (جوا): ما بين 12 و18 ألف دولار.

6ـ من فيتنام إلى أوروبا الغربية (جوا وبرا): ما بين 7 و15 ألف دولار.

7ـ من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة مرورا بالمكسيك (برا): ما بين 4 و15 ألف دولار.

 8ـ من باكستان إلى أوروبا الغربية (برا): ما بين 3000 و8000 دولار.

9ـ من السواحل التركية إلى الجزر اليونانية (بحرا): ما بين 1000 و8000 دولار.

 10ـ من فرنسا إلى المملكة المتحدة (بحرا أو برا عبر نفق المانش): ما بين 5000 و7500 دولار.

11ـ من المكسيك إلى الولايات المتحدة (برا): نحو 5000 دولار.

12ـ من إرتيريا والسودان وإثيوبيا إلى ليبيا (برا): نحو 4000 دولار.

13ـ من دول القرن الأفريقي إلى جنوب أفريقيا (برا وأحيانا بحرا): ما بين 3000 و3500 دولار.

14ـ  من الصومال والسودان عبر مصر وليبيا (برا): ما بين 2000 و3500 دولار.

15ـ  من مدينة أغاديس غربي النيجر إلى سواحل ليبيا (برا): ما بين 2000 و3000 دولار.

16ـ  من ليبيا إلى إيطاليا (بحرا): ما بين 500 و2500 دولار.

17ـ  من مالطا إلى إيطاليا (مسار ثانوي للتهريب بحرا): نحو 1100 دولار.

18ـ  من إثيوبيا إلى السعودية عبر مدينة بوصاصو بالصومال (برا ثم بحرا ثم برا): 900 دولار.

19 - من إثيوبيا إلى السعودية عبر منطقة أبوك بجيبوتي (برا ثم بحرا ثم برا): 850 دولارا.

20ـ  من أغاديس إلى منطقة سبها في أقصى الجنوب الليبي (برا): بين 100 و300 دولار.

21ـ من بوصاصو الصومالية إلى اليمن (بحرا): ما بين 120 و150 دولارا.

 22ـ من أبوك بجيبوتي إلى اليمن (بحرا): ما بين 60 و200 دولار.

الجدير بالذكر أن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة استقى الأرقام المرتبطة بما يدفعه المهاجرون للمهربين من دراسات متعددة أجراها المكتب نفسه، أو من مراكز دولية متخصصة في أبحاث الهجرة، أو المفوضية الأوروبية، أو المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، أو صندوق الأمم المتحدة للطفولة، ومؤسسات أخرى.

المسارات الكبرى

تتحدث دراسة المنظمة الأممية عن ثماني مسارات كبرى لتهريب المهاجرين في العالم، وهي:

1ـ  من أميركا الوسطى إلى أميركا الشمالية: جنى المهربون في هذا المسار ما بين 3.7 و4.2 مليارات دولار في كل من عامي 2014 و2015، وجرى نقل ما بين 735 و820 ألف مهاجر سنويا.

2 ـ  من غرب أفريقيا إلى شمالها وصولا إلى أوروبا: جنى المهربون ما بين 760 مليونا وأكثر من مليار دولار في 2016، وتم تهريب 380 ألف مهاجر.

3ـ عبر البحر المتوسط من أفريقيا إلى أوروبا: جنى المهربون ما بين 320 و550 مليون دولار في 2016، وجرى تهريب نحو 375 ألف مهاجر.

4 ـ  من القرن الأفريقي عبر شمال القارة إلى أوروبا: حققت شبكات التهريب ما بين 300 و500 مليون دولار بين عامي 2013 و2015، وجرى فيها تهريب 100 ألف شخص.

 5ـ  من غرب وجنوب آسيا إلى أوروبا (العراق وسوريا أساسا): جنى المهربون نحو 300 مليون دولار عام 2016 بعدما نقلوا 162 ألف مهاجر.

6ـ من ميكونغ في جنوب شرقي آسيا إلى أوروبا وأميركا الشمالية: حقق المهربون عام 2009 نحو 192 مليون دولار وهربوا 550 ألف مهاجر.

7ـ إلى دولة جنوب أفريقيا: حقق المهربون بين عامي 2013 و2016 أكثر من 45 مليون دولار سنويا، ونقلوا 25 ألف مهاجر كل عام.

8ـ من القرن الأفريقي إلى اليمن (بحرا): جنى المهربون عام 2016 ما بين 9 و22 مليون دولار، ونقلوا 117 ألف مهاجر.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

تعلن الوطن كونيه العراقية عن اقتراب "يوم القيامه" ونهاية الزمن الارضوي من التاريخ البشري، انما بالصيغة النهائية المكتمله بعد تلك الاولى  التي اعلنت في حينه مقررة نهاية الحياة على كوكب الارض،  مع الاختلاف الجوهري في المقصد والوسائل والدلالات، اليوم ياتي النداء متزامنا  مع الاعلان عن نهاية المجتمعية الارضوية، تلك التي  ظلت سائدة وغالبة على مدى التاريخ اليدوي، الى ان حلت لحظة الانتقال الكبرى الاليه،  ومعها انتهى تاريخ  وضرورة الوجود البشري على كوكب الارض، ما يعني التلازم بين الوسيلتين الانتاجيتين تتابعا، من الجسدوية الحاجاتيه، الى العقلية، فالانتقال الالي ليس كما ظل يقال ويفهم كانتقال من محطة الى محطة، ومن مرحله الى اخرى تشبهها مع اختلاف الوسائل، بل كانقلاب في النوع المجتمعي يحاكي الازدواج التكويني البشري، وسيرورة تشكله وترقيه عقليا.

 انتهى الجزء الارضي من التاريخ البشري باعتباره ضرورة انتقالية لازمه لاجل ترقي العقل  ووثوبه الوثبة الكبرى الثانيه، بعد تلك الاولى التي عرفها ابان تغير بنيته مع الانتصاب على قائمتين وتوفر اسباب النطقية واستعمال اليدين، وقد حضر شاخصا بعد ملايين السنين من الاختفاء تحت طائلة الغلبة الحيوانيه شبه المطلقة، ليذهب من يومها نحو ما يكرس استقلاليته بتخلصه من متبقيات الحامل الحيواني الجسدي وقد انتهت مهمته الطويلة،  وانقضى دوره مع وفي غمرة المحطة الاخيرة المجتمعية وتفاعليتها عبر  وقفتين، اولى يدويه، وثانيه اخيرة آليه/ تكنولوجيه عليا.

  هنا تدخل البشرية مالا عهد لها به مطلقا، ولم يسبق ان قاربته حتى تخيلا حين يتجسد ذلك بالاخص ممارسة وكموقف، هو من دون شك حضور لعالمين بينهما فاصل لايكاد بالامكان اختراقه، وحتى بالمقارنه بالتضاد السماوي الارضوي التعبيري الاول، فان الوضع الراهن يتعدى ما سبق من تباين واختلاف ارضوي غالب،  مقابل السماوي بصيغته النبوية الابراهيمية  الحدسية الاولى، ففي الماضي كانت السماوية تقول بالذهاب الى "العالم الاخر" بعد الموت ونهاية الجسد،  وهو ما يمكن افتراضه كاحتمالية غير وارد التثبت منها، في حين صار الانتقال اليوم حياة وحالا معاشا، يغدو اكثر فاكثر اجباريا، دونه الاختفاء من الوجود والفناء، هذا والوسيلة المتاحة القابلة للاستعمال لاثبات ماهو وشيك، " كتابيه" مفهومية من جنس ونوع النمطية الكونية اللاكيانوية واللاارضوية الموشكه على الحلول محل الارضوية، بمقابل كل عدتها ومتبقياتها المادية المنظوريه، مضافا لها  جملة ما قد تحقق للارضوية مع الالة من اسباب  القوة الفائقة، والشعور بالصوابيه المطلقه، ارتكاز للمتحقق من منجز متاخر.

"انتقال الى العالم الاخر  بلاموت" ياله من نداء افتراقي عن كل مامعتبر وجودا حيا كما تفترض النظرة البداهية الجسدوية، تلك التي تاخذ الجسد البشري على انه حقيقة نهائية غير مطروح ولا وارد تصور ذاتية بشرية من دونها، ما يجعل تخيل الاحتمالية التحولية مستحيلا، علما بان المطروح اليوم ومن هنا فصاعدا ليس بالقدر الجاهز، بقدر ماهو قناعة وفعل، فلا انتقال الى الاكوان  الاخرى اللامرئيية من دون تركيز للفعل والمجهود البشري خارج الجسدية، وبمنحى التخلي من هيمنتها الطويلة،  ذهابا الى تعزيز سلطة العقل على اعتباره اداة انتقالية غير  مدركة، ولا مقدر بعدها واثرها الاستثنائي المختلف كليا، ف  "العقل العقلي " هو غير "العقل الجسدي" الحالي المتعارف عليه، والمحكوم لممكنات الجسدية وشروطها، وعقل الخر وج من حكم الجسدية، هو قطعا وكليا غير العقل الحالي من حيث نوعية الادراكية الاعقالية، ولدينا هنا ما يمكن مقارنته مثلا بين العقل الذي كان موجودا ابان الطور الحيواني وطغيانه، مقارنه بالعقل بعد الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية.

  انقلاب هائل لا يمكن للعقل الحالي تخيله، صارت متوفره أسباب انبثاقه ماديا وادراكيا ، هو بالاحرى المسار الطبيعي للانقلاب الالي بخلاف مايشاع عنه من توهمية قصورية تضعه بموقع التعاقبية الوراثية التبسيطيه مع الطور اليدوي، ومع الجمود الاولي الابتدائي من دون تحر عن احتمالية مختلفة لتلك المعروفه يدويا، مع ما ينطوي عليه اجمالي الموقف من الانقلابيه المستجده من نظر جاهز ومسبق، بلا انتظار للاحتمالية الواجبة الافتراض منطقا، بالاخص بناء لدخول عنصر اساس ضمن كينونة وديناميات الظاهرة المجتمعية، ومايتولد عن ذلك من اصطراعية بنيوية مجتمعية غير مسبوقة، مع نتائجها غير القابله للاستكناه ابتداء، علما بانها لحظة انقلابيه وبداية طور اخر مختلف.

 وكل طور بحسب نوعه له مقتضيات موافقه لطبيعته حتما، واذ تزول ممكنات الجسدية والاحتكام لها ولمتطلباتها وحدودها، فان محركات وموجبات الوجود والاستمرار تتغير بجملتها منقلبة هي الاخرى، الامر الذي يتكفل به مسار الاشياء وماينتظمها من قانون تفاعلي تاريخي، حري بان يتجاوز لحظة الالية اليدوية الاولى الاوربيه  منظورا ونموذجا، مع مايعتورها وتتسبب به من تهيئة للاسباب اللازمة والضرورية لبدء تغلب الانقلابيه الوجودية الثانيه، العقلية مكان الجسدية.

  تسود ابان الانقلابيه الاليه حالة تواز بين مسارين،  الارضوي الاوربي الالي التوهمي، يقابله اللاارضوي غيرالناطق  المابين نهريني، وبينما تمر اوربا بفترات التفاعلية الالية ابتداء من القرن السابع عشر،  تعرف ارض الرافدين بموازاتها ومقابلها الانبعاث الثالث الراهن الحالي المستمر من القرن السادس عشر في ذات ارض سومر الاولى، بعد الدورتين الاولى السومرية البابلية الابراهيمية، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وما فصل بينهما من انقطاع هو حكم القانون الناظم لتاريخ هذا الموضع الازدواجي من العالم ما بين الدورات، وبمقابل المتغيرات الاوربية الانقلابيه تظل منطقة الازدواج بلا نطقية، تمر بفترات تتعاقب بين  القبليّة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، ثم الانتظارية النجفية بين القرن الثامن عشر والعشرين، وصولا الى الالية التوهمية الافنائية الاستعمارية، وقت يدخل الموضع اللاارضوي ساعة الاصطراع الافنائي بين طبيعته ونوعه النمطي الكوني المتعدي للكيانيه، والالية اليدوية الكيانوية التسلطية الاوربية نموذجا، حين يسود من وقته مفهوم "الوطنيه الايهامية"  العراقية الايديلوجية الويرلندية الاتباعية / التحررية بالمنظور المستعار الغربي الايهامي/ على مدى يفوق القرن، تظل النطقية الذاتيه "الوطن كونيه العراقية" ابانه غائبة، بينما النموذجية الغالبة التوهمية الاوربية تتجاوز مدى استمرارها، وتقارب  انتهاء الصلاحية بعد بدء افول النموذج الثاني المتغلب النهائي الاكبر بينها،  وممثلهاالامريكي المفقس خارج رحم التاريخ، عند محطة العولمه وتجاوز وسيله الانتاج للنموذج الكياني والانتاجية الارضوية.

  ـ يتبع ـ ملحق: ديناميات الانقلاب الالي اللاارضوي.

***

عبد الأمير الركابي

مَن لم يعرف حزب «الدَّعوة الإسلاميَّة»، قبل (2003) عرفه بعدها، كان ضمن مجلس آل الحكيم، ثم توزع على البلدان، أَّما فقيهه فظل بقّمّ، وهو صاحب (213) فتوى قتل أطفال وحوامل، وسطو على البنوك، حواها «دليل المجاهد»، لم يعط الحزب رأياً في لائحة فقيهه الإفتائيَّة، صاحب (12) مكتب بالعِراق.

ما زال اللَّغط في تاريخ الحزب، جماعة تعد التَّأسيس (1957)، وربطته بالمولد النّبويّ، بينما المؤسسون حددوه بـ(1959)؛ لذا تَمرُّ الذكرى باهتة، خالية مِن حقيقة المناسبة، فالحزب حتى الثمانينيات، وإعلانه الذوبان في قائد أجنبيّ، لم يصدر بياناً واحداً.

ظهر حزب «الدّعوة»، بالخارج، متشظياً إلى جماعات، بل بدأت الانشقاقات في الداخل بعد التأسيس بفترة وجيزة واستمرت، ويُحسب للدعوة، أنه كان ضد الحصار على العراق (1990-2003)؛ وكان هو والحزب الشيوعي العراقي مِن قوى المعارضة آنذاك، على خلاف «المؤتمر الوطني» (أحمد الجلبيّ)، كان متشدداً تجاه الحصار، بذريعة أنَّ النّظام يستفيد مِن رفعه.

كذلك جماعة مِن الدَّعوة، لم تر نظرية ولاية الفقيه على هذا الموقف، خالفت هذه الجماعة الآخرين، مِن الإسلاميين الشّيعة. بعدها جاءته رئاسة الوزراء، ولم يُقدم مَن يُشار إليه برجل دولة، بقدر ما أجادوا الاستحواذ على الوظائف بالنفوذ والمال العام، فقد يُجيد المعارضة أيَّ أحد، أما السُّلطة فهي الاختبار الأكبر.

كان المفروض، بعد التَّجربة، يبرز الدَّعوة عراقياً، لا طائفيَّاً، لكنه صار قطب الرَّحى للطائفيَّة. عاد أمينه ينادي بثنائية يزيد والحُسين، وعندما عُزل شبّه نفسه بعليَّ بن أبي طالب (اغتيل:40هج)، السُّلطة عنده، كما اعتبرها عليّ: «عفطة عنز» (نهج البلاغة)، بينما تأبط، مِن أجلها، اسم المختار الثقفيّ (قُتل: 67 هج)، لقبه: «مختار العصر»، والمختار لم يتردد مِن قتل أحد أبناء عليّ (الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك)، عندما خالفه.

لم يستفد «الدّعوة» مِن دروس المعارضة، ليخلع ثوب الطّائفيَّة المسموم، وهو في السُّلطة، فصار مسؤولاً عن كبائر، ومازال منتشياً ببناء سواتر طائفيّة جديدة، داعماً لقرار «الغدير» عيداً، لغرض كسب الجمهور الشّيعيّ، ببيان فاقدٍ للحكمة: «الغدير هو مناسبة للوحدة والمحبة، في ظل الرسالة الإلهية، وتحت خيمة الوطن الواحد» (مكتبه الإعلامي 22/5/ 2024).

كيف اعتبر «الدّعوة» احتفال الدَّولة بالغدير «خيمة الوطن»، بينما ملايين العراقيين، عرب وكُرد وتركمان، لا يقرون «الغدير» سياسياً! كيف يخص عموم المسلمين، وعندما رسموا المناسبة، علت الهتافات الوضيعة ضد رموز الآخرين؛ مع علمنا أنَّ مِن فقهاء الشِّيعة لم يحسموا اعتقادهم بالإمامة، لكن «الدَّعوة» يرقص بنغمة الطائفيّة عليها؛ وهذا نعتبره ذوباناً لا وطنياً آخر، بعد ذوبانه المشهور.

بعد «الغدير» تحرك «الدَّعوة» لفرض أحوال شّخصيّة كارثية على العراقيات؛ بإلغاء السن القانوي للزواج (18) عاماً، ويجوز لمن بلغت التاسعة، بل يجوز تملكها قبل ذلك، وإنقاص حضانة الأمّ، وربط النَّفقة بالاستمتاع، حسب الرَّسائل الفقهية المراد تطبيقها، فارتفعت أصوات العراقيات، ضد هذا التَّدبير.

جاء بيانه: «الحرية هي سمة أساسية مِن سمات العهد السياسي الجديد، حيث لم يشهد لها تاريخ العراق الحديث مثيلاً، وهي وليدة التَّضحيات السَّخية للعراقيين الأحرار من المكونات كافة، وقد جاء تعديل قانون الأحوال الشَّخصية ليرسخ حرية الإنسان العراقي»(30/7/2024).

لا ندري كيف يُنشأ حزب «الدعوة» بياناته، ما العلاقة بين إلغاء قانون وطني موحد، والحرية والتجديد؟ أمن أجل الظَّلاميَّة المعتمة كانت التَّضحيات؟!

قال الشّاعر الأمويّ حمزة بن بِيْض، متحدثاً إلى الوليد بن يزيد (قُتل: 126هج)، وقد وعد بإزالة ما تركه عمّه هشام بن عبد الملك(تـ: 125هجرية): «وصلتَ سماءَ الضّرِ بعدما/ زَعمتَ سماءَ الضّرِ عنَّا ستقلعُ/فليت هشاماً كان حياً يسوسنا/ وكنا كما كُنا نُرجِّي ونطمعُ(الأصفهانيّ، الأغاني). أقول: لو تُرك العراقيون يرجّونَ نظاماً جديداً، أفضل، ألف مرة، مِن العودة بهم إلى الوراء، بأكاذيب الحرية والوطنيَّة، مثلما هي بيانات الدَّعوة الدعائيَّة.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

عزيزي القارئ في ظلّ الظروف التي يعيشها العالم والحرب القائمة بين فلسطين والكيان المحتل، أريد أن أحدثك قليلاً عن تاريخ فلسطين، لا ليس التاريخ الذي يجول بخاطرك الآن بينما تقرأ هذه السطور، بل التاريخ المخفي والذي لا يعلمه إلا القلّة، وأكاد أجزم أنك لم تعر اهتماماً بالغاً للقضية إلا بعد أحداث حي الشيخ جرّاح سنة 2021 أو أحداث السابع من أكتوبر 2024.

حسناً قبل كل شي أريدك أن تتجرد من كل الماديات المعيقة لسفرنا، فأنت ستذهب معي في رحلة زمنية روحية لمعرفة التاريخ الحقيقي، دع روحك تحلق معي في رحلة تاريخية فريدة من نوعها.

نحن الآن في إحدى دول أوروبا الشرقية في ثمانينات القرن التاسع عشر، لا ليست أوروبا التي يتم الترويج بأنها بلاد حقوق الإنسان والحريات، البلاد المتحضرة التي أخرجت دول إفريقيا من البربرية والهمجية وأدخلتهم طور الإنسانية كما تدعي، بل أوروبا المتوحشة الظالمة والعنصرية أوروبا كما لم تعهدها من قبل، انظر هناك هل ترى أولئك الرجال الذين يتم الاعتداء عليهم دون شفقة أو رحمة؟ يُضرَبُون بالنِّعال على وجوههم وبطونهم من قبل الروس؟ أظن أنه يجول ببالك أنهم قد فعلوا أمراً شنيعاً كي يُضربوا ويُعاقبوا بتلك الطريقة؟ أريد أن أخبرك أنه تم الاعتداء عليهم فقط لأنهم يهود، هؤلاء هم يهود أوروبا!

نعم نعم اليهود الذين أصبحوا الأطفال المدللين لأوروبا والولايات المتحدة في عصرنا كانوا قديماً يُقتلون ويتم التنكيل بهم بأبشع الطُرق بل أُقيمت العديد من المجازر في روسيا وغيرها من الدول، قُتل فيها عدد كبير من اليهود، لكن الكراهية ضد اليهود تعود لأقدم من ذلك بكثير، تقريباً منذ ظهور محاكم التفتيش في إسبانيا والبرتغال مروراً بعزل اليهود في أحياء منزوية في القرون الوسطى في أوروبا المسيحية، إلى حين ظهور السامية وهي حركة معادية لليهود، ومع تزايد التنكيل باليهود وبقائهم مشردين في العالم، تأسست الصهيونية كفكر إيديولوجي على يد الصحفي النمساوي اليهودي "ثيودور هرتزل" وتدعو إلى إنشاء وطن قومي لليهود، هذا موجز لتاريخ اليهود في أوروبا.

نحن الآن في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، فترة تشكل الأحلاف العسكرية حسب المصالح التي تجمع بين الدول، فظهر حلف الوفاق والحلف الثلاثي، وبعد مدة من بداية الحرب انضمت الإمبراطورية العثمانية لساحة المعركة وكانت في صف ألمانيا ولكن لسوء حظها انضمت للطرف الخاطئ فمع خسارة ألمانيا الساحقة في الحرب وميل الكفة لحلف الوفاق بدأت الإمبراطورية العثمانية في خسارة أراضيها الواحدة تلو الأخرى، ولم يكن في وسع الخليفة فعل أي شيء وبالتالي بدأت الدول العربية الموالية للإمبراطورية في التخلي عنه.

ها نحن الآن نحلق عبر القارات كما حلقنا قبل قليل عبر الزمن، فكانت وجهتنا القارة الإفريقيّة وتحديداً مصر، قصر السفير البريطاني في فترة الحرب الأولى السِّير "هنري مكماهون" ها هو يروح ويجيء أمام ناظريك ضاماً يداه إلى الخلف يبدو عليه أنه متوتر بعض الشيء وينتظر أمراً هاماّ، أُريدك أن تغوص في أفكاره وتعرف ما يجولُ بخاطره، هل وجدت صعوبة في ذلك؟ حسناً لا عليك إنها تجربتك الأولى، دعني أخبرك ما يجول بخاطره وما يخطط له هذا الرجل، إنه ينتظر شخصاً يدعى "رونالد ستروس " السكرتير الشرقي للبعثة البريطانية المكلف بنقل المراسلات بين "مكماهون" السفير البريطاني والشريف "حسين بن علي "ملك الحجاز، حيث قام السكرتير بأربع رحلات إلى الحجاز كما قام بترجمة رسائل الشريف "حسين" للسفير، والآن "مكماهون" ينتظر الرسالة التي ستحسم كل شيء. أرى أنك تتساءل عن موضوع المراسلات وعن العلاقة الغريبة التي تجمع بين سفير بريطاني وملك الحجاز، تمهل لحظة وستفهم كل شيء.

أخيرا وصل "رونالد" إلى قصر السفير، قدّم له الرسالة المترجمة وطلب الإنصراف، فتحها "مكماهون" وقلبه يرتجف من الردّ، فجأة اتسعت عيناه وفغر فاه مبتسماً، أخيراً وافق "الشريف حسين" على الطلب، فمنذ مدة طلب السفير مساندة العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية مقابل وعد منهم باستقلال الجزء العربي الأسيوي عن الإمبراطورية العثمانية والاعتراف به كدولة عربية تحت قيادة" الشريف حسين"

.منذ البداية كان يدرك السفير البريطاني أن ملك الحجاز لن يفّوت على نفسه فرصة كهذه، فهو يحلم بإنشاء دولة عربية كبرى مستقلة عن العثمانيين، حيث أن علاقته بهم كانت سيئة، فالإمبراطوريّة العثمانية كانت منحازة بعض الشيء للأتراك بالإضافة لمصادرتها الأملاك والأراضي علاوة على فرضها التجنيد الإجباري خلال فترة الحرب العالمية الأولى مما أدّى إلى توتر العلاقة بين العرب والأتراك، لذلك حرصت بريطانيا على استغلال الوضع وجذب العرب إليها؛ وفي عام 1916 اندلعت الثورة العربية الكبرى بعد أن أطلق "الشريف حسين "رصاصة من شرفة قصره و شارك معه ضابط الاستخبارات البريطاني "لورانس "الذي اشتهر" بلورانس العرب " وحققت انتصارات وأنهت بذلك الوجود العثماني في الحجاز والشام وصولاً إلى تأسيس الدولة العربية في سوريا أولاً ثم في العراق والأردن، وبالرغم من وعود بريطانيا للعرب بتكوين الدولة العربية إلا أنها قد نقضت وعدها بعد أن أَجرت اتفاقيات سريّة مع فرنسا وروسيا تم بمقتضاها اقتسام أراضي الدولة العثمانية بما فيها البلاد العربية، ثم بعد ذلك انفردت بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سرية سميت باتفاقية سايكس بيكو (1916) نسبة إلى كل من المندوب البريطاني" مارك سايكس" والمندوب الفرنسي "فرانسوا نزلجورج بيكو"، وبموجب هذه الاتفاقية تقاسمت فرنسا وبريطانيا البلدان العربية وأُخضعت كل مناطقها للاستعمار تحت اسم الانتداب، وفي نفس السنة أعلنت بريطانيا وعد بلفور المشؤوم الذي دعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين الصادر في الثاني من شهر نوفمبر سنة 1917.

و قد أرسل هذا الوعد وزير خارجية المملكة المتحدة "أرثر جيمس بلفور "إلى اللورد "ليونيل والتر دي روتشيلد " وهو أحد أبرز الوجوه في المجتمع اليهودي البريطاني.

و بعد نهاية الحرب الأولى وانتصار حلف الوفاق وانهيار دول الحلف الثلاثي تم توقيع اتفاقيات قاسية ضده، وكانت أيضاً بداية نهاية الدولة العثمانية نتيجة تهور حاكمها بانضمامه للحرب فإنه وضع المشرق العربي في براثن بريطانيا وفرنسا.

وفي مؤتمر فرساي للسلام مُثّل الشريف" حسين" ابنه " فيصل "الذي رفض المصادقة على معاهدة فرساي رافضاً بذلك الانتداب على سوريا وفلسطين والعراق من قبل فرنسا وبريطانيا.

و لكن في الأخير وضعت منطقة المشرق العربي تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني.

***

آمنة المسلمي

 

تشرين الثاني عام 1632

كتب سبينوزا غي كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة: " (ليس هناك وسيلة أكثر فعالية لحكم الجماهير من الخرافات. السبب الذي يؤدي إلى الخرافات ويحافظ عليها ويشجعها هو الخوف.. إن حرية الفكر لا تمثل خطرا على الإيمان، إن العقل هو أساس الإيمان فإن غاب ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل)

يكتب الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه لحظة أخرى أيضاً : " إن سبينوزا هو رائد الفهم " لا تضحك، لا تبك، لا تكره، عليك أن تفهم ". يؤكد سبينوزا ان الدين يجب أن يخضع للقوانين العامة، فحرية التفكير والرأي أمر مفيد، انها شرط لإنهاء النزعات الدينية " لا أحد بامكانه التخلي عن حرية التفكير، فكل سيد على افكاره ".

وترى ريبيكا غولدشتاين في كتابها خيانة سبينوزا: " يقول سبينوزا " إن الافتراءات الخادعة للذات تنبع من نقطتي الضعف هاتين في طبيعتنا البشرية - وهما التعظيم الذاتي ورهاب الموت، وكلاهما جوانب من عقلنا المخيف وغير القابل للشفاء - التي تفسر القوة المخيفة لأشكال الدين الخرافية ". كما يلاحظ سبينوزا في مقدمة كتابه (رسالة في اللاهوت والسياسة): ".. إنه الخوف، إذن، فهو الذي يلد الخرافة ويحفظها ويعززها ".

ويكتب جاستن شتاينبيرغ في كتابه سبينوزا: "يريد سبينوزا أن يثبت أن الإيمان والعقل ليسا في صراع، فإن ما يظهره في الواقع هو أن الكتاب المقدس هو مستودع للحكايات والمبادئ الأخلاقية. وبما ان الحقائق الأخلاقية للكتاب المقدس واضحة مباشرة لجميع القراء، فلا يوجد حاجة لطائفة كهنوتية ضليعة في فنون التأويل لتفسير مزاعم النص للجماهير ".

وفي كتابه سبينوزا كيف نحيا وكيف نموت يؤكد ستيفن نادلر ان سبينوزا يصر على ان " الذين يقودهم العقل، لا يرغبون في شيء لانفسهم إلا ويرغبونه لغيرهم، ولذلك فهم عادلون وحسنو النية ونزهاء ". الانسان الحر ايضا مبتهج، ولطيف، ومتسامح. وهو، في مزاجه، ليس عرضة للعديد من احوال النفس التي تشكل مصدرا للصراع بين الاشخاص: الكراهية، والحسد، والاستهزاء، والإزدراء، والغضب، والانتقام، وغير ذلك من الانفعالات الضارة.

في روايته مشكلة سبينوزا يكتب عالم النفس الشهير إرفين د. يالوم هذا الحوار: قال سبيتوزا: لو بحثت في العالم كله فلن تجد قوماً أو ديناً لا يؤمن بالخرافات، فما دام هناك جهل، فإن البعض سيتمسكون بالخرافات، إن التخلص من الجهل هو الحل الوحيد.

فاجاب بنتو " أشعر انّها معركة خاسرة، فالجهل والإيمان بالخرافات ينتشران كالنار في الهشيم، وأعتقد أنّ رجال الدين يغذون هذه النار ليضمنوا مراكزهم. ولهذا أصبحت على قناعة بأنني يجب أن أكون حراً. وإذا لم تكن تلك الطائفة موجودة، فعليّ أن أعيش دون طائفة "

يطرح الفيلسوف الفرنسي المعاصر فريدريك لونوار في كتابه المعجزة السبيونزية سؤالا: " كيف يمكن للفرد العادي، أن يكون سبينوزيا، حتى لو لم يكن مختصا في الدراسات الفلسفية؟ أو كيف يستطيع الإنسان أن يتسلح برؤية سبينوزا وفلسفته في الحياة، ويرى في كتابه " المعجزة السبينوزية "، ان فيلسوفنا يحاول من خلال كتبه أن يقدم لنا " أفضلَ طريق ممكن إلى الخلاص، لكل أفراد المجتمع في هذا العالم الذي يقف على حافة الانهيار، إذ تهتز الديمقراطيات العريقة، وتنتشر النزاعات الطائفية ونزاعات الهوية والحزبية في كل أرجاء العالم". يخبرنا لونوار أن رسالة سبينوزا الفلسفية تبرز من خلال رحلته الحياتية: " فإذا أردنا أن نعرف معنى المعجزة السبينوزية، يكفي أن ندرك أننا أمام شخص له سمات خاصة، شخص ظل وفيا لحب الحقيقة، مفضلا حرية التفكيرِ على طمأنينةِ العائلة والطائفة، وعلى الاِنسياق للفكرِ السائدِ. لقد كانَ ضحية أبشعِ الانتهاكات، تم التنكر له من قبل أَهله وعاشَ تحْت التهديد المتواصل، ولكنه بقي وفيا دائما للخط الموجه لمسيرته. كان عُرضة للكراهية ولكنه لم يكره أبدا. تعرضَ للغدرِ ولكنه لم يغدر أَدا. تَعرضَ للسخريَة ولكنه لم يستخف بأحد قط. تم شتمه، ولكن رده كان دائما هو الاحترام. عاش دائما باعتدال وكرامة وفي انسجام مع أفكاره".

وختامنا مع المفكر العربي فؤاد زكريا وكتابه الشهير إسبينوزا حيث يكتب: " الرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داعٍ لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى — في نظره — لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة "

***

علي حسين – رئيس تحرير جريدة المدى اللبغدادية

وقعت واقعةٌ، تهز الضَّمائر وتثير السّرائر، غير مسبوقةٍ في السّياسة، قديمها وحديثها، مهما كانت القرابة والمواءمة بين الأنظمة، يتجنب ممارستها أو الفخر بها الرَّاهنون بلدانها لأنظمة أجنبية علانية، لكنَّ أغرب الغرائب ما يحدث بعِراق اليوم؛ أنّ تُهتك الوطنيَّة بهذا الرّخص والسَّذاجة، باسم المذهب، والتَّقليد الفقهيّ المرجعيّ الحزبيّ.

 هذا ما مارسه نائب رئيس جمهورية العراق خضير الخزاعيّ؛ أحد أعيان حزب الدَّعوة الإسلاميَّة؛ عندما طلب الاستفتاء والحُكم، بشأنٍ عراقيّ صِرف، مِن رئيس السُّلطة القضائيَّة الإيرانيَّة محمود الشَّاهروديّ (تـ: 2018)، بدعوى أنه كان، في يوم ما، مِن تلاميذ محمد باقر الصَّدر(اعدم: 1980)، وله صلة بحزب الدَّعوة، لكنَّ الرّجل مسؤولٌ في دولة أجنبية، بغض النَّظر، عن أنَّها صديقةٌ أو عدوةٌ، شقيقة في المذهب والدِّين والقبيلة والقوميَّة أو غريبة أجنبيَّة، فللأوطان حرماتها.

ما أخبرنا به الخزاعيّ نفسه، كان خيانةً لا تقبل تأويل ولا تبرير، لو سمعناها مِن لسان غير لسانه، لشككنا بصدق روايتها، جملة وتفصيلاً، على أنَّها كبيرةٌ مِن الكبائر، لأنَّ لا السَّمع ولا النَّظر يستوعبان ما حصل، لكنها جاءت بصوت وصورة صاحب صلاحيات رئيس الجمهوريَّة خضير الخزاعيّ؛ وقبل نقل ما قصه الخزاعيّ نفسه، لنعرف منّ المفتي العراقي ومَن المستفتي الإيرانيّ! وكان الموضوع في العدالة والدّماء، بغض النّظر عمن كان الاستفتاء، عن عدو أو صديق.

أصبح محمود الشّاهروديّ- ولابعاد نسبه الإيرانيّ لُقب بالهاشميّ داخل العراق- بعد انتصار الثّورة الإيرانيّة، ولثقة أحمد خمينيّ(تـ: 1995)، نجل آية الله خمينيّ، به رُشح رئيساً للمجلس الأعلى للثورة الإسلاميَّة بالعراق(1982-1983) بإيران، بقرار مِن مرشد الثورة الإسلاميَّة بإيران آية الله الخمينيّ، مع أنه إيرانيّ الأصل والانتماء والجنسية، وظل في هذه المسؤولية نحو عام، ثم تفرغ للتدريس الحوزويّ بقمّ، بعدها تسلم المناصب العليا الآتية في النّظام الإيرانيّ: عضو مجلس صيانة الدُّستور، وعضو في تشخيص مصلحة النّظام، ورئيس السُّلطة القضائيَّة، وبمصطلحات الأقدمين قاضي قضاة الجمهورية الإسلاميَّة، وهو منصب سيادي كبير، فالسلطات، بعد الولي الفقيه: رئاسة الجمهوريّة، ورئاسة القضاء، ورئاسة البرلمان، ولكم حساب أهمية هذا الرّجل في الدَّولة الإيرانيَّة.

أصيب الشَّاهروديّ بمرض عضال، وسافر للعلاج بألمانيا، لكنه عاد مسرعاً، بسبب احتجاجات الإيرانيين المعارضين المقيمين هناك، ضده على عقوبات الإعدام التي صدرت من القضاء الذي يترأسه.

أمَّا خضير موسى الخزاعيّ، كان ومازال أحد منتسبي حزب الدَّعوة الإسلاميَّة، مع انشقاقه عنه ليكون في تكتل "الدّعوة تنظيم العراق"، عاش بإيران، وكان مِن محشدي الشّباب العراقيين بإيران، للحرب مع الجيش الإيراني ضد العراق، ثم هاجر إلى كندا، وعاد بعد (2003)، ليكون رئيس لجنة الحريات في البرلمان العراقيّ، فوزير تربية وتعليم، وحينها أطلق عبارته المدويّة "يكفيني فخراً أني كُلفتُ بمهمة إعادة صياغة العقل العراقيّ"، ومقولته الأكثر رنةً: "اليد التي تتوظأ لا تسرق"! حسب سيرة حياته، في موقع وزارة التربية والتعليم: حصل على دكتوراه في علوم القرآن، وأخرى في الفلسفة، مِن الهند، ولم يذكر مِن أي جامعة، وقال ممن يعرفه أخذها بالمراسلة، ولا نعلم بأيّ لغة.

أخذ اسم خضير الخزاعي يتداول بنائب رئيس الجمهوريّة للاعدامات، فقد أتت الفرصة، أن يبقى الوحيد في رئاسة الجمهورية، بعد مرض الرئيس جلال الطَّالبانيّ، ثم وفاته(2017)، وخروج نائب الرئيس الآخر طارق الهاشميّ، فاُسندت إليه مهام رئاسة الجمهوريّة، في تلك الفترة.

عُرض على نائب الرَّئيس الخزاعيّ ملف عبد حمود(اعدم: 2012)، سكرتير رئيس الجمهوريّة صدام حسين (اعدام: 2006)، ليصادق على إعدامه، فبعد الاِطّلاع على الملف، وجد الخزاعيّ أنه لا يستحق عقوبة الإعدام، فناقش الموضوع مع القضاة، الذين أصدروا الحُكم، ولم يقتنع بتبريرهم، فذهب يستفتي قاضي قضاة إيران محمود الشّاهرودي، ليأخذ منه الحُكم، كي يطمئن شرعيّاً، وهنا ننقل نص ما صرح به الخزاعيّ شخصياً للقناة العِراقيَّة الإخباريّة، ضمن مقابلة أجراها معه علاء الحطاب، ننقلها حسب ما جاءت على لسانه.

قال الخزاعيّ: "شفته(رأيته) ما يستحق الإعدام، بيني وبين الله، قلتُ لهم (القضاة): شلون (كيف) وقعتوه (أصدرتم الحكم)؟ قالوا: لجنة خماسية، مقررة من الدستور. مَن القاضي؟ قلتُ: أعطونياه( نادوه)، جابو لي(احضروه). جلس في هذا المكان. قلت له: شلون (كيف) حكمت على هذا بالإعدام؟ قال: ليش (لماذا)؟ قلتُ: ولا جريمة تدينه بالإعدام! قلتُ: سجن مؤبد، عشر سنين؛ أما الإعدام، هذا فد(فرد) شرف، شنهو (ماهو) الشّرف... قال (القاضي): نحن خمسة قضاة، ومِن قرأنا النَّص، لم نجد ما ندينه، فقلنا: خل نوقع (لنوقع) على إعدامه، ونخلص منه، مشيناه (وقعنا على إعدامه). قلتُ: ما يجوز لكم، والله العظيم. فأرسلتُ لمَن أثق بأنه يمثل المدرسة الصّدريّة في الإسلام، محمد باقر الصَّدر، وكان السّيد نفسه محمود الهاشميّ (الشّاهروديّ) رئيس القضاء في إيران".

ثم قال: "فوديت(أرسلت) واحد مِن الإخوان، ممَن أثق بنقله وعقله، كلتله(قلتُ له): خل يقرأها(ليقرأها) السيد هذه، وشوف (ابصر) شنهي (ماذا) حُكم هذا؟ حكمه الإعدام وأني معارض. فشافها (قرأها الشَّاهروديّ) فقال: سلمني عليه (سلم علي الخزاعي)، قل له: خل يوقع (ليوقع الإعدام) لا يخاف، الخوف الشَّرعيّ. هم كلبي لعب (لم اطمأن والكلام للخزاعيّ). فقلتُ: هذوله (هؤلاء يقصد القضاة) ماخذتهم العزة بالنفس. فرحت (ذهبتُ إلى إيران) بنفسي بوفد رسميّ برئاستيّ، وأعضاء الوزراء وأعضاء البرلمان".

أكمل الخزاعيّ القصة قائلاً: "فقلتُ له (للشاهروديّ): سيدنا عندي قضية وياك. قال: كلي فلان(قال لي مبعوث الخزاعيّ)، وقلتُ له: مِن حقك(توقيع الإعدام)، قلتُ: أريد اسمع منك. قلتُ: هذا (عبد حمود) كل الذي أمسويه(عمله)، هو سكرتير رئيس الجمهوريَّة، فوجد الجماعة القضاة ورقة مكتوب فيها: تكريم المحققين فلان وفلان، لأن ساهموا في كشف أعداء الثّورة. فقلتُ له: أعداء الثّورة نحن، وهذوله(هؤلاء) طلعوا أبناء الثّورة. قال: لا، أنا ليس على هذه الورقة، فهي لا تصلح أن تكون للإعدام، فهو (عبد حمود) جزء مِن المحاربة (الآية): إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله أن يقتلوا، للحرابة يُقتل. قال: اقتله وأنا المسؤول، بالله وقعتُ عليه"(برنامج خطى، الجزء الثالث، العراقيَّة الإخبارية).

نحن أمام قضية خطيرة للغاية؛ وما قصة استفتاء رئاسة الجمهوريَّة العراقيَّة؛ مِن قاضي قضاة دولة أجنبيّة، في شأن يخص العدالة العراقيّ، إلا نموذجٌ، وبرهان واحد، مِن مئات البراهين، على هتك الوطنيَّة العراقيَّة، مِن قِبل الجماعات الدّينيَّة. صحيح ظهر معممٌ سياسي وقال علانية: إذا نشبت حرب بين العراق وإيران، سأقاتل مع إيران، لأنها تمثل الإسلام، والتمهيد للإمام المهدي المنتظر.

 كذلك، صرح أكثر من قائد ميليشيا بكلام شبيهٍ بذلك؛ أو يظهر رئيس وزراء العراق، ويقول: وجهني قاسم سليماني (قُتل: 2020) بحمل رسالة إلى الدّولة الفلانيّة، وسليماني مجرد ضابط إيراني، وهو رئيس وزراء العِراق والقائد العام للقوات المسلحة! هذا أيضاً قد نأخذه مِن باب التبعية الشَّخصية؛ أو خشية من الاغتيال إن أعلن العصيان على سليمانيّ؛ أو يظهر أحد زعماء الأحزاب الدينيّة ويقول: يجب تسديد العراق خسائر الحرب لإيران، وهذا لا يبرر، ولكنه قد يؤخذ مِن باب فضل إيران عليه وعلى حزبه، في زمن المعارضة؛ لكن خزية الخزاعي شيء آخر.

 هذا، ولو أردنا تدوين كلّ ما قاله رؤساء الأحزاب الدِّينية، وقادة الميليشيات، مِن تفضيل إيران على العراق، ومصالح إيران أولاً، واعتبار ولاية الفقيه الإيرانيَّة محرابهم وقبلتهم، ما يكفي المقال، ولا الكتاب، ولكن أن يخرج القائم بصلاحيات رئيس الجمهورية العراقيَّة، وهو نائب الرئيس، وفي الوظيفة، ويطلب الحُكم مِن قاضي قضاة إيران، على مواطن عراقيّ، وينفذه، فتلك مصيبة كبرى، ليس قبلها ولا بعدها فضيحة وخيانة، وسقوط مدوي، وذلك للأمور الآتية:

1- أظهر الخزاعيّ بهذه الممارسة العراق تابعاً لولاية الفقيه رسمياً؛ فالشَّاهرودي أحد أوتاد تلك الولاية، وللعلم أنَّ اسمه طُرح مرشحاً لخلافة علي خامنئي.

2- أظهر الخزاعي بهذه الممارسة، أنَّ الحُكم بالعراق حكماً دينياً، يُطبق ولاية الفقيه الأجنبية، مع أنَّ المعلن دولة مدنية برلمانيّة وطنيَّة.

3- ظل نائب رئيس الجمهورية يتصرف حزبياً وليس عراقيَّاً؛ فذهب لتطبيق الشَّرع، الذي يعتقد أنه على مدرسة محمد باقر الصَّدر، وهذا لا يقره الدّستور، الذي من المفروض أنّ رئيس الجمهوريَّة هو الأحرص على صيانته.

4-   إنَّ الشّاهرودي رجل دين إيرانيّ، يتناسب وضعه مع نظام ولاية الفقيهة بإيران؛ ولم يدرس القانون العراقيّ، ولا صِلة له بالقضاء العراقيّ المدنيّ، مثله مثل صادق خلخالي(تـ: 2004)، الذي عينه الخميني رئيسا للقضاء الإيرانيّ، وهو ليس حقوقيَّاً، وأعدم باسم الشَّريعة وعلى الشُّبهة.

5-   لم يكن الشَّاهروديّ نفسه نزيهاً بالدِّماء، فله مسؤولية باعدامات ذات شأن سياسيّ، فكيف يكون حاكماً في القرار السِّيادي العراقيّ؟

6-   ظل خضير الخزاعيّ، من خلال ما صرح به، يعمل بالتكليف الشّرعيّ الحزبيّ الدّيني، وليس التكليف الدستوري، الذي مِن المفروض أن يكون عبر البرلمان العّراقيّ؛ لا أنه يستمر يمارس وظيفته تكليفاً شرعيّاً، تابعاً لرجل دين، ومِن مسؤول حكوميّ في دولة أجنبية، حاله حال مأذون الزّواج أو الطَّلاق، أو ممثل مرجع مِن المراجع، بينما كان منزلة رئيس جمهوريَّة.

7-   النقطة الأخطر، يُعد تصرف خضير الخزاعيّ، كنائب رئيس الجمهوريّة، والقائم بصلاحيات رئيس الجمهوريَّة كاملةً، خيانةً عظمى، يُحاكم عليها القانون العراقيّ النَّافذ، فالأمر يتعلق بكشف سر مِن أسرار الدَّولة، ووضع صلاحيات رئاسة الجمهورية بيد قاضي قضاة دولة أجنبيّة، ولا نعتقد أنَّ دولة مِن دول العالم مارسته، وتهتك نفسها بهذا الأسلوب الرَّخيص.

8-  وقع حكم الإعدام بفتوى مسؤول أجنبي، مع أنَّ الخزاعيّ كان غير مقتنع بالحُكم، ولا بالقضاة، وهو والشّاهرودي نفسه، لعتبرا الذَّنب لا يستحق حكم الإعدام، وهنا العقوبة لم تكن قانونيَّة، ووفقاً لذلك كان الإعدام جريمة قتل، يتحملها الخزاعيّ، ويجب أن يُحاكم عليها وعلى الخيانة، هذا إذا تحدثنا بمنطق القانون، لا منطق الاستهتار بالقانون، وبالوطن.

9-   تلاعب الشّاهروديّ وقلده الخزاعيَّ، بآية قرآنيَّة (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، فما بين المعارضة والسُّلطة، وكل معارضة وسلطة، نزاع سياسيّ، لا علاقة له بمحاربة الله ورسوله، فلا الخزاعيُّ رسول الله، ولا حزبه يمثل الله، فتكفير شخص أو نظام صار على مزاج الشّاهروديّ، فهو إذا كان في المعارضة يعتبر السلطة محاربة لله ورسوله، وإذا كان في السلطة يعتبر المعارضة محاربة لله ورسوله، فأين الحقَّ؟

معلوم أنَّ المرجع الكبير محمَّد كاظم شريعتمداريّ (حُبس في داره 1985)، اُعتبر محارباً لله ورسوله، لذا أظهره نظام خميني تائباً على شاشة التلفزيون، ذليلاً مكسوراً يتلي توبته، ومِن يريد المزيد عن مظلومية شريعتمداري فله مراجعة كتاب تلميذه رضا الصَّدر(تـ: 1994) "في سجن ولاية الفقيه"(شقيق موسى الصَّدر)، الذي اعتقل، ومنع من الصّلاة على جنازة أستاذه، الذي أوصى بذلك.

مِن هنا، إذا كان هناك قطرة من الحياء عند القضاء العراقيّ، أن يستدعى خضير الخزاعيّ، للتحقيق، فقضيته تدخل ضمن الخيانات الكبرى بحق العراق. أقول: فلو طلب منه وليه الشَّاهرودي تفجير العراق سيفعلها، لأنها حسب منطقه، تكليف شرعي مِن قبل مرجعه،و إذا لم ينفذه يُعد محارباً لله ورسوله، وصاحب الزَّمان.

يقول مجد الدّين النَّشابي (تـ: 657هـ)، وكان المغول على الأبواب: "يا ضيعة المُلكِ والدِّينِ الحنيفِ/ وما تلقاه مِن حادثاتِ الدَّهرِ بغدادُ/ أين المنيةُ مني كي تساورني/ وللمنيةِ إصدارٌ وإيرادُ/ مِن قبلُ واقعةٍ شنعاءَ مظلمةٍ/ يشيبُ مِن هولها طفلٌ وأكبادُ"(كتاب الحوادث).

***

د. رشيد الخيُّون

ما يفعله ترامب الآن أثار دهشة البعض، وأثار مخاوف كثيرين.. تلك الحكومة التي تتشكل وعلى رأسها إيلون ماسك وزيراً لوزراة غير موجودة إلا في عقل ترامب! تلك الحكومة ليس فيها واحد محسوب لا على الديمقراطيين ولا على الجمهوريين. وهي حكومة مرسومة على مقاس إسرائيل! فهل تَسرَّع ترامب عندما أعلن هذا الأمر مبكراً، رغم أن حكماً ينتظره في السادس والعشرين من هذا الشهر قد يقلب عليه الطاولة أو يحرجه ويضطره لتغيير كل خططه..

 ترامب صريح، وهو لا يخفي ما سيفعله في أوروبا أو الشرق الأوسط، والجولات المكوكية بين إسرائيل وبين منزل ترامب مستمرة، وهناك قنوات اتصال بينه وبين بوتين. ويبدو أن أوروبا هي أكثر الخائفين مما ينتظرها في العام القادم.

2025. عام القلق

 أقل من شهرين على مجيء ترامب رئيساً وعودته للبيت الأبيض. تلك العودة التي ستضع في يديه كل شيء: الكونجرس ومجلس الشيوخ والحكومة، وسوف يكون بمقدوره أن ينفذ وعده، فيحاكم بايدن الذي حاكمه سابقاً ووضع الحديد في يديه!

 المدهش أن ساكن البيت الأبيض الآن، ورغم أنه لم يترك السلطة بعد، يبدو أضعف وأقل نفوذاً من ترامب الذي لم يجلس على كرسي الرئاسة لكنه يدير الأمور بقوة، والوفود تأتي إليه هو، من الداخل والخارج، يريدون أن يعرفوا كيف يفكر وماذا ينوي؟! ولا شك أن في جعبته الكثير، لاسيما وقد علم الجميع كيف أنه يفاجئ الآخرين دائماً بقرارات ومواقف وأعمال غير متوقعة. هو ليس سياسياً مقروءاً، بل هو أقرب للاعب قمار مجازف يحب أن يفاجئ خصومه دائماً بخطوات لا يتوقعون حدوثها. ولهذا تقف أوروبا موقف الخائف منه، المترقب لما ينوي فعله.

 لقد بدأت حرب أوكرانيا في عهد بايدن. ذلك الرئيس السياسي القديم المخضرم، والذي لن يجازف بخسران علاقته القوية مع حلفائه الأوربيين تحت أي ظرف. بينما ترامب البزنس مان، لا يهمه إن خسر حليفه الأوروبي في مقابل أن يكسب محبة شعبه؛ فكيف يلقي بملياراته في جوف زيلينسكي بينما الشعب الأمريكي يعاني البطالة والتشرد ويشكو من غلاء الأسعار؟

 لقد أكد ترامب أن الحرب الأوكرانية الروسية سوف تتوقف بعد يوم من حلف اليمين. ولا توجد طريقة لفعل هذا إلا أن يرفع يد أمريكا من تمويل الحرب، وأن يغادر ساحة القتال ويتركها لباقي دول الناتو الأوروبية تدير معركتها بنفسها. وهذا معناه أن تسيطر روسيا على مقاليد الأمور. حتى لو حدث ما يخطط له ترامب: أن يتم التفاوض على أساس وقف القتال، ووضع قوات دولية محايدة على آخر حدود بين الطرفين المتنازعين، وأن يتم تأجيل انضمام أوكرانيا لحلف الناتو لأجل غير مسمي ترضيةً لروسيا. حتى لو حدث هذا فإن أوروبا ستظل في حالة استنفار مستمرة أمام الدب الروسي الذي سيجدها فرصة لاستعادة قوته، والاحتشاد ضد الناتو، ولن تنام أوروبا ملء جفنيها كما كان سابقاً، بل ستنام كالقطط، بعين مغلقة وأخرى تترقب الحدود الروسية..

 ثمة أشياء كثيرة في العالم ستتغير في العام القادم. ترامب سيكون أحد أيقونات هذا التغيير. الوضع في أوكرانيا سيتغير، ومعه ستتغير أوروبا. والحرب في غزة ولبنان لن تبقي كما هي الآن. الأدهى أن أمريكا نفسها ستلحق بقطار التغيير. وسوف تذوق طعم القلق!

أمريكا الجديدة!

 الشعار الذي يتشبث به ترامب طوال الوقت: "أن تعود أمريكا عظيمة من جديد". إنه يريد أن يُحدث بها تغييراً حقيقياً يستمر أثره بعد رحيله. وها هي الفرصة قد جاءت له سانحة، أن يفعل ما يشاء. خصوصاً وأن خسارة الحزب الديمقراطي الفادحة، جعلت الساحة كلها مرتعاً لترامب وللحزب الجمهوري، وربما يصبح من الصعب على الديمقراطيين أن يضمنوا استعادة مقعد الرئاسة لسنوات كثيرة قادمة. ما يعني أن نجاح ترامب الكاسح هذه المرة قد يضمن بقاء الحزب الجمهوري لسنوات طويلة، وربما لعقود! تلك مخاوف ناقشتها الصحف الأمريكية بعد الخسارة الفادحة التي مني به الديمقراطيين أمام ترامب. غير أني أري الأمر من زاوية مختلفة..

 فالحق أن الحزب الجمهوري نفسه قلق من تصرفات ترامب، لأنه لم يشكل منهم حكومته كما كان متوقعاً، ثم إنه تصرَّف بانتهازية مع الجالية المسلمة، الجالية التي منحته أصواتها في الوقت الذي تخلي عنه اليهود، فإذا هو يأتي بحكومة صهيونية الهوى بالكامل! لقد جعل ترامب الجميع في حالة تحفز، وسوف تستمر حالة الانقسام المجتمعي في الداخل الأمريكي مع استمرار تلك الموجة الترامبية الشعبوية، التي لا تري في الديمقراطيين والجمهوريين إلا جسراً لتمرير خطط ترامب الغامضة، هي خطط تريد أن تبني الاقتصاد لكن على حساب السياسة وعلى حساب الاستقرار المجتمعي.

 ستظل الولايات المتحدة الأمريكية في ظل حكم ترامب على الحافة. وسوف يستغل خلو الساحة أمامه ليزيد نفوذه على حساب الديمقراطيين. وهناك مؤسسات أمنية كبري سوف تتأثر بهذا التغيير الذي سيحرص ترامب على إحداثه من أجل ترسيخ أقدام الحزب الجمهوري بعد انقضاء الأعوام الأربعة التي سيقضيها في الحكم. والخوف أن تأتي ردود الأفعال ضد محاولات ترامب لفرض سيطرته بنتائج عكسية تزيد من الانقسامات الحادثة في الداخل الأمريكي. في الوقت الذي ستواجه فيه أمريكا قضايا خارجية كبري: كصعود الصين، وابتعاد الحليف الأوروبي، وحرب البريكس على الدولار، وهجمات الحوثيين، والتهديد الوجودي القائم ضد إسرائيل.

 إن ترامب يري أن أمريكا يجب عليها أن تنصرف للتفكير في ذاتها وفى تقوية اقتصادها، ولهذا لا يري حرباً ينبغي خوضها إلا حربه الاقتصادية ضد الصين، وهو لن يكسب هذه الحرب.

نهاية الغرب

 هذا عنوان مقال في مجلة "دير شبيجل" الألمانية منذ نحو أسبوع مضي. بقلم "ديرك كوربجويت" يري فيه الكاتب أننا مقبلون على عصر جديد، وتغييرات حادة قادمة لمجرد أن ترامب عاد لتولي السلطة! فمم يخاف الألمان، وما الذي تخشاه أوروبا؟!

 الكاتب ينظر حوله فيري كيف أن اليمين يصعد في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، ثم أتي ترامب ليغلق الدائرة. في الوقت الذي ينهار فيه النموذجان: الليبرالي والديمقراطي بمفهومهما الكلاسيكي المعهود وهو ما سيؤدى في النهاية لتفكك الأحلاف، كنتيجة لغياب المشتركات بين هذه القوي. وبالتالي سيزداد الانقسام بين قوي الغرب. وسيكون مجيء ترامب بمثابة العامل السحري الذي سيسرِّع من حدوث الانقسام والتفكك. وبهذا يفقد الغرب قوته القيادية.

 يقول الكاتب:(بعد عصر الأيديولوجيات الشمولية، التي كانت بمثابة "أديان سياسية" جاء عصر العقلانية المرتكزة على المعرفة العلمية. كانت السياسة تدار بجدية كبيرة؛ حيث كان الهدف هو منع عودة الفاشية والتصدي للاتحاد السوفيتي. اقتربت الدول من بعضها البعض تحت مظلة الناتو، وزالت الحدود بين دول الغرب، الأهمية الكبرى كانت للتحالفات. كان هذا عصر العولمة والمواطنة العالمية. كان عصراً جيداً رغم عيوبه. ولكنه انتهي للأسف!!).

 إن الكاتب يري عدة متغيرات تحدث أمامه: دول تنسحب من الناتو، وهجرة متزايدة أدت لتغيرات ديموجرافية هائلة، ويمين يصعد في أكبر دول أوروبا، وبوتين ينتظر عودة ترامب ليضع يده على الحدود الأوروبية ويعلن انتصاره ولو جزئياً. وترامب سوف يأتي ليكمل المشهد ويغلق الستار، وبهذا ينتهي عهد قديم ويأتي عهد جديد بمفاهيم مختلفة، ونظم سياسية مغايرة. لن يكون فيها ما يسمي بالاتحاد الأوروبي، لأن الناتو نفسه مهدد بالتفكك على يد أمريكا التي صنعته! وربما ينجح البريكس في مسعاه، ويُسقط الدولار من عرشه، فتتغير المفاهيم الاقتصادية تزامناً مع التغيرات السياسية الحادة القادمة حتماً!

 في نهاية مقاله ينصح الكاتب بالعودة للإنسانية كمفهوم مشترك إذا أراد الغرب أن يظل قوياً كما كان، إنه ينادي بمفهوم أهدرته الحروب والانقاسامات. وبالتالي فإن الغرب نفسه مهدد بالسقوط والتداعي. وسوف تظل أوروبا في السنوات القادمة خائفة تترقب. وخوفها الأكبر من حلفائها أن يتركوها، ومن اتحادها أن يتفكك.

***

د. عبد السلام فاروق

أجرت وكالة الأنباء الوطنية الجزائرية لقاءً معي حول الأساليب والطرق التي يلجأ لها النشطاء الفلسطينيين لنشر السردية الفلسطينية، وفضح الرواية الصهيونية التي تعتمد التزوير والتضليل لكسب الراي العام العالمي.

طالما كان للسردية موقعاً مفصلياً بتاريخ الصراع الفلسطيني الصهيوني، في تشكيل الراي العام الإقليمي والدولي، وتوجيه السياسات الحكومية. يزداد هذا الدور تأثيراً خاصة مع سعي إسرائيل لإقامة علاقات مع محيطها، وتمكنها من تحقيق اختراقات تطبيعية مع بعض الدول العربية. ثم حدث العدوان الأخير على قطاع غزة فانقلبت بعض الموازين لصالح السردية الفلسطينية في أماكن متعددة من العالم. وكشف العدوان زيف السردية الإسرائيلية القائمة على فكرة ترويج المظلومية والدفاع عن النفس في وجه التهديد الخارجي.

تمكنت السردية الفلسطينية من كسب التضامن والتأييد الشعبي والرسمي بفضل جهود المثقفين والنشطاء الفلسطينيين في مختلف بقاع العالم، وبفضل المتضامنين العرب، وحركة التضامن الدولي، الذين نقلوا معاناة الشعب الفلسطيني جواء سياسات الاحتلال إلى العالم. وبالرغم من السيطرة الصهيونية على الإعلام الغربي، والديبلوماسية الإسرائيلية الناعمة، تمكنت السردية الفلسطينية من الوصول والتأثير على الكثير من الشعوب في العالم، بفضل المصداقية والأدلة المنطقية، والمشاهدات المباشرة لعذابات الفلسطينيين. ولم تتمكن الرواية الصهيونية من إخفاء وتبرير قتل الأطفال وحرق النساء، وتدمير المباني واقتلاع الأشجار، وتجويع شعب كامل آمن يعيش تحت إرهاب دولة إسرائيل.

لقد أصبحت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي خلال العقدين الماضيين، أدوات قوية وفعالة في تشكيل ونشر السرديات. حيث تمكن الفلسطينيون من الاستفادة المثلى منها لإخبار العالم عم معاناتهم اليومية، ومن نقل الاعتداءات الصهيونية بشكل لحظي، تدعمها شهادات حية للناس مما عزز السردية الفلسطينية وأثبت مصداقيتها.

فيما يلي نص الأسئلة والأجوبة:

1. كيف يستخدم النشطاء الفلسطينيون منصات الإعلام الاجتماعي في نشر قضيتهم والتوعية بانتهاكات الاحتلال؟

منذ ظهور وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة، بدأت معركة جديدة من نوع مختلف، معركة رقمية لا تقل أهمية وشراسة عن معركة الصواريخ والبنادق، بين الفلسطينيين والأشقاء والأصدقاء الأمميين الداعمين من جهة، وبين الكيان الصهيوني ومن يدعمه من جهة أخرى. معركة مهمة تدور رحاها على الشبكة العنكبوتية، وتتواصل بصوت عال وواضح، ونتائجها سوف تؤثر بشكل عميق على مستقبل الصراع والمواجهة. معركة بين الحق الفلسطيني في التحرر من الاحتلال البغيض، وإقامة دولته المستقلة، وبين العدوان والغطرسة الصهيونية. بين العدالة والإنسانية والتضامن الأممي، وبين التوحش والعجرفة الإسرائيلية.

يهدف النشطاء الفلسطينيون إلى الاستيلاء على السيطرة على السرد من المنافذ الإعلامية التي تقمع وجهة نظرهم وتقارن بشكل خاطئ بين معاناة إسرائيل ومعاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ويحاولون فضح السياسات الإسرائيلية القائمة على نظام الفصل العنصري، الذي يسعى إلى حملة تطهير عرقي وإبادة جماعية للشعب الفلسطيني.

منذ بدء الحرب الهمجية التي تشنها قوات الاحتلال الصهيوني على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ ما يقارب العام، نقلت وسائل التواصل الاجتماعي أصوت الاحتجاج الجماهيري المتضامن مع الفلسطينيين وقضيتهم العادلة. أصوات تنمو على الشبكة العنكبوتية، وتتواصل بصوت عال وواضح. في غضون أيام - بينما قصفت إسرائيل الأراضي مناطق سكنية في غزة، انتشرت على منصات وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع من أفلام فيديو مصورة بالهاتف المحمول من الشباب الفلسطينيين إلى الشتات العربي وإلى مختلف بقاع الأرض، تُظهر وحشية الاحتلال، أشعلت الانترنت وأثارت الغضب في جميع أنحاء العالم. ساعدت هذه الأصوات المؤيدة للفلسطينيين والميمات ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي في إنجاز ما لم تنجح فيه عقود من الاحتجاجات العربية ومقاطعة إسرائيل إنجازه للقضية الفلسطينية التي تُركت للموت قبل بضعة أشهر من طوفان الأقصى.

تحول التضامن مع الفلسطينيين إلى الإنترنت وأصبح عالمياً، وهو شارع عربي افتراضي لديه القدرة على إحداث تأثير أوسع من تلك الموجودة في مدن الشرق الأوسط. لقد ربط المتظاهرون عبر الإنترنت ذراعيهم بحركات شعبية لحقوق الأقليات مثل Black Lives Matter، سعياً لاستعادة السرد من وسائل الإعلام السائدة والحصول على الدعم في الدول الغربية التي دعمت إسرائيل بشكل انعكاسي.

فمنذ حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة قبل عام، أصبح العالم عرضة لتدفقات هائلة من المعلومات والبيانات والصور حول ما يحدث في غزة. ظهرت تطورات الحرب كما لو أنها اختباراً لقوة الإعلام الجديد، أو ما يعرف بوسائل التواصل الاجتماعي، في مقابل مؤسسات إعلامية ضخمة وعريقة، اتخذت جانب "إسرائيل" وروجت روايتها.

وبينما اتهم الفلسطينيون وأنصارهم وسائل الإعلام الغربية السائدة في أوروبا والولايات المتحدة بالتحيز لصالح الرواية الإسرائيلية للحرب، فقد تم استخدام منصات الإنترنت بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع من قبل الناشطين المؤيدين لفلسطين في جميع أنحاء العالم لمواجهة هذا التحيز وتزويد جمهور الإنترنت بالجانب الفلسطيني من القصة.

2. ما هي أبرز أشكال التضليل الإعلامي التي تواجهها القضية الفلسطينية في الفضاء الرقمي؟ وكيف يرد النشطاء الفلسطينيون على هذه التحديات؟

يعتمد الملايين في جميع أنحاء العالم على مصادر وسائل التواصل الاجتماعي لفهم ومتابعة أسباب الصراع العربي الإسرائيلي، ومن ثم تشكيل الراي والموقف من هذا الصراع. ولكن لا يكون كل المحتوى - بما في ذلك المحتوى الذي يقدمه المسؤولين – دقيقاً وصادقاً وحقيقياً.

على سبيل المثال تم إخفاء هاشتاج "الأقصى" منصة إنستغرام مؤقتاً، لأنه كانت هناك تقارير عن "بعض المحتوى الذي قد لا يتوافق مع إرشادات مجتمع إنستغرام"، وفقاً للإشعار الذي تلقاه المستخدمون. وألقت شركة فيسبوك، التي تملك إنستغرام، باللوم في عمليات إزالة المحتوى على "مشكلة تقنية عالمية واسعة النطاق لا تتعلق بأي موضوع معين". ومع ذلك، يبدو أن الوسوم تم حظرها لأن محتوى المنصة يقدم دعماً للفلسطينيين. لقد ربط نظام إدارة المحتوى في فيسبوك عن طريق الخطأ المسجد الأقصى - ثالث أقدس موقع في الإسلام - بمنظمة إرهابية، وفقاً لاتصالات داخلية للموظفين اطلع عليها موقع Buzzfeed.

في حالة ربما كانت الأكثر شهرة لنشر معلومات مضللة بشأن المشاهد في غزة، شارك المتحدث الرسمي باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي باللغة العربية، أوفير جندلمان، مقطع فيديو زعم أنه يظهر حماس وهي تطلق الصواريخ على إسرائيل. كان المقطع في الواقع من عام 2018، وأظهر إطلاق الصواريخ في محافظة درعا السورية. تم تصنيف التغريدة في البداية على أنها "إعلام مُتلاعب به" بواسطة تويتر، قبل أن يحذفها جندلمان نفسه.

كما نشر الحساب الرسمي للجيش الإسرائيلي على تويتر معلومات مضللة. شارك حساب قوات الدفاع الإسرائيلية (@IDF) مقطع فيديو يزعم أنه يُظهر حماس وهي تدمج قاذفات الصواريخ في الأحياء المدنية. ومع ذلك، أظهرت اللقطات في الواقع سلاحاً وهمياً استخدمته إسرائيل خلال مناورة تدريبية في شمال غرب البلاد. تمت إعادة مشاركة الفيديو بواسطة حساب تويتر الموثق "Stop Antisemites"، والذي اعتذر لاحقاً عن المعلومات المضللة. وفي الاعتذار، أصرت بشكل استفزازي على وصف اللقطات الفعلية بأنها جاءت من "حي أغلبية مسلمة"، فيما بدا أنه محاولة واضحة لربط سلاح إسرائيلي بالفلسطينيين.

وقال شتايا: "عادة ما تستخدم السلطات الإسرائيلية المعلومات المضللة والأخبار المزيفة كجزء أساسي من دعايتها. هذا النوع من المعلومات يؤثر بشكل كبير على وعي الناس والحركات السياسية الفلسطينية". وفقاً لمنظمة "حملة"، حدد 54٪ من المشاركين في الاستطلاع في تقريرها "الأخبار المزيفة في فلسطين" السلطات الإسرائيلية كمصدر رئيسي للأخبار المزيفة. ووجد البحث أيضاً أن هناك ارتفاعًا بنسبة 58٪ في الأخبار المزيفة أثناء الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين.

ومن بين حالات أخرى من انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت تقارير كاذبة تفيد بأن الفلسطينيين قاموا بتزوير مراسم جنازة في غزة في محاولة لجذب التعاطف العالمي. أظهر الفيديو المزيف، الذي شاركه مستشار وزارة الخارجية الإسرائيلية، دان بوراز، مجموعة من المراهقين يحملون "جثة". وعندما سمعت صفارات الإنذار بصوت عالٍ فجأة، هرع المراهقون - بمن فيهم "النعش" - يتفرق الجميع ويهربون. تم التقاط اللقطات في الواقع العام الماضي في الأردن من قبل مجموعة من الشباب الذين يحاولون تجنب قيود كوفيد-19 من خلال التظاهر بإقامة جنازة وهمية. شارك بوراز الفيديو مع هاشتاج "Pallywood"، وهو مفهوم مشوه للغاية صاغه دعاة اليمين المؤيد لإسرائيل في محاولة ساخرة لاتهام الفلسطينيين بتصوير معاناتهم بشكل درامي لكسب الود الدولي.

مثال آخر لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الذين يروجون لأخبار كاذبة لربط الناس في غزة بـ "Pallywood" يتضمن مشاركة مقطع فيديو يزعم أنه يظهر فلسطينيين يضعون المكياج على إصابات مزيفة ناجمة عن هجمات إسرائيلية. يمكن إرجاع المقطع، الذي تمت مشاركته الأسبوع الماضي، في الواقع إلى عام 2018، وكان جزءًا من تقرير إخباري عن فناني المكياج الفلسطينيين.

3. ما هو تأثير حملات الهاشتاغ (مثل #FreePalestine) على الرأي العام الدولي وحشد التضامن مع الفلسطينيين؟

لقد أحدث العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني تحولاً كبيراً في الرأي العام العالمي، عبر التواصل عبر الإنترنت والتعبئة والتأثير على السياسة وتغيير التصورات الدولية وتشكيل الحركات الناشطة. وأصبحت الوسوم أداة مهمة في نسج السرديات المعقدة على الإنترنت. مثل هاشتاغ #FreePalestine الذي أثبتت الدراسات أنه لا يُحدِث تغييرات في الرأي العام على الإنترنت فحسب، بل إنه يحشد أيضاً العمل الحقيقي ويشكل السرديات العالمية التي تؤثر على السياسة والأعمال. يشمل تحول الرأي العام تغييرات في مواقف الناس ووجهات نظرهم بشأن قضايا معينة. يقدم هاشتاغ #FreePalestine مثالاً ملموساً لكيفية أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي عاملاً في تحويل الرأي العام. في تطوير هذه الحملة، يمكن ملاحظة أن وسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد وسيلة لنقل الرسائل، ولكنها أيضاً أداة لحشد الدعم الجماهيري. تُظهر الأنشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة تلك المتعلقة بهاشتاغ #FreePalestine، التأثير الكبير للجهات الفاعلة والمؤثرة. يمكن للرسائل التي تنقلها الشخصيات المؤثرة أن تكتسب بسرعة انتباه الجمهور وتشكل آرائهم.

لا يعكس الهاشتاج رد فعل على الأحداث الجارية فحسب، بل يرمز أيضاً إلى المقاومة والنضال طويل الأمد. إن استخدام مثل هذه الوسوم كوسيلة للتضامن يخلق بُعداً تاريخياً يربط الماضي والحاضر والمستقبل. وتضيف مساهمة وانخراط الفاعلين المتضامنين الأفراد والمنظمات غير الحكومية في حملة الهاشتاغ بُعداً سياسياً وإنسانياُ وسعاً. ومن خلال هذا الدعم السياسي والإنساني، تساهم الحكومات والمنظمات غير الحكومية في إنشاء سرد أكثر إنصافاً للقضية الفلسطينية.

على سبيل المثال، يوجد في منصة التواصل الاجتماعي تويتر، هناك موضوع بارز ومهيمن في الغرفة X، ألا وهو الحوار السياسي، والذي يشمل هاشتاجين رئيسيين:

 #IsraelVsPalestine مع 20000 تغريدة و#BusinessPalestine مع 5000 تغريدة. وغالباً ما يعمل الحوار السياسي على تويتر كمساحة للتعبير والنقاش المتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني. يشير الهاشتاج #IsraelVsPalestine إلى الاهتمام والمشاركة العاليين، مما يعكس التوتر السياسي واستقطاب الآراء بين مستخدمي تويتر. بالإضافة إلى ذلك، يوفر #BusinessPalestine منظوراً أكثر تحديداً يتعلق بالجوانب الاقتصادية للصراع، مما يعكس الاهتمام والمخاوف بشأن التأثير الاقتصادي للصراع. على منصة فيسبوك، الموضوع المهيمن هو التضامن الفلسطيني، ويمثله هاشتاغان رئيسيان: #FreePalestine مع 10000 تغريدة و#SupportPalestine مع 8000 تغريدة. يعكس هذا التضامن دعماً واسع النطاق من مستخدمي فيسبوك لحرية فلسطين وقد يشمل حملات أو مبادرات مختلفة تؤكد على الجوانب الإنسانية والعدالة الاجتماعية. يشير العدد الكبير من التغريدات تحت كلا الهاشتاغين إلى قوة حركة التضامن هذه بين مستخدمي فيسبوك، مما يسلط الضوء على الدور الحاسم لوسائل التواصل الاجتماعي في تبني وتوحيد وجهات النظر بشأن الموقف من العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني.

4. كيف تؤثر الرقابة الرقمية على المحتوى الفلسطيني؟ وما هي التحديات التي يواجهها النشطاء في إيصال صوتهم للعالم؟

القيود والرقابة لها تأثير بعيد المدى على قدرة الناس على التواصل والتنظيم وتبادل المعلومات، وتحد من نقل الصورة والمعلومة الحقيقية للآخرين. عندما يتم حظر حسابك أو إزالة المحتوى الخاص بك، فمن الواضح أن هذا ينتهك قدرتك على ممارسة حقك في حرية التعبير عبر الإنترنت. وهذا ما تعتمده إسرائيل في محاولتها خنق ووأد الحقائق ومنع انتشار صور الظلم والقتل والدمار والتنكيل وهدم البيوت الذي يمارسه جيشها.

خلال أزمة حي الشيخ جراح في القدس حول عمليات الطرد الوشيكة في أوائل مايو/ 2021 على خلفية قرارات قضائية إسرائيلية تقضي بإخلاء منازل في الحي من سكانها الفلسطينيين لصالح جمعيات استيطانية صهيونية.

حيث أطلق الناشطون الفلسطينيون وأنصارهم في الخارج ناقوس الخطر بشأن حالات عديدة من إزالة منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي والوسوم وحساباتهم أو إغلاقها أو تقييدها بطريقة أخرى. أثارت هذه السلسلة تساؤلات حول دور شركات التكنولوجيا الكبرى مثل فيسبوك وتيك توك وإنستغرام وتويتر في تعميق اختلال التوازن في القوة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والطرق التي تساهم بها الرقابة على الفلسطينيين والناشطين من أجل حقوق الفلسطينيين في التخلص من الاحتلال والتشريد والظلم المستمر.

تم تعليق حساب الصحافية الفلسطينية منى الكرد على منصة إنستغرام لفترة لأنها وثّقت الانتهاكات الصهيونية اليومية التي تحدث في القدس. كما تم إزالة محتوى شقيقها محمد الكرد بسبب "خطاب الكراهية"، على الرغم من أنه قال إنه كان يصور عنف الشرطة الإسرائيلية ببساطة دون تعليق نصي.

والعديد من الفلسطينيين يشتكون أن قصصهم على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة إنستغرام وفيسبوك تتلقى مشاركة أقل ومشاهدات أقل لأسباب غير مفسرة. وفي الوقت نفسه تتم تعطيل حسابات مجموعات تضامنية مع الفلسطينيين والتي تضم مئات الآلاف من الأعضاء بصورة مؤقتة أو بصفة نهائية بسبب "مخالفة معايير المجتمع". أثيرت أسئلة أيضاً على تويتر عندما تم تعليق حساب الصحافية الفلسطينية مريم البرغوثي أثناء تقديمها تقريراً من مظاهرة تضامنية في الضفة الغربية المحتلة. أخبر تويتر لاحقاً موقع Vice أن القرار اتخذ عن طريق الخطأ - على الرغم من أنه فشل في توضيح الجزء المحدد من شروط الخدمة الذي اعتقد في البداية أن البرغوثي انتهكته.

علقت العديد من جماعات حقوق الإنسان على أن أي رقابة من عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي قد ترقى إلى تدمير الأدلة في وثائق جرائم الحرب، والتي تراقبها المحكمة الجنائية الدولية حالياً فيما يتعلق بالعدوان الصهيوني الأخير.

في الوقت الذي يقوم فيه الفلسطينيون والمؤيدون لهم بتوثيق العنف الوحشي الصهيوني وجرائم الاحتلال من خلال الصور ومقاطع الفيديو، مع استخدام هاشتاغات باللغتين الإنجليزية والعربية. فإن النشطاء والمدافعين عن الحقوق الرقمية والمستخدمين انتقدوا منصات التواصل الاجتماعي بسبب الأدلة المتزايدة على الإزالة غير المبررة للمحتوى المؤيد للفلسطينيين. اعترف فيسبوك الأسبوع الماضي بأنه وصف بشكل غير دقيق بعض الكلمات التي يستخدمها الفلسطينيون عادة عبر الإنترنت (بما في ذلك "الشهيد" و"المقاومة") على أنها تحريض على العنف.

بين أكتوبر ونوفمبر 2023، وثقت هيومن رايتس ووتش أكثر من 1050 عملية إزالة وقمع أخرى للمحتوى على إنستغرام وفيسبوك نشره فلسطينيون وأنصارهم، بما في ذلك عن انتهاكات حقوق الإنسان.

5. كيف يمكن تعزيز المقاومة الإلكترونية في المستقبل؟

لقد حولت سهولة وسرعة المشاركة وإعادة التغريد وإعادة النشر وسائل التواصل الاجتماعي إلى أداة حاسمة في هذا التحول الناجح في السرد. جدير بالأهمية أن يستمر ويتواصل ويتطور عمل ودور وفاعلية المواطنين الفلسطينيين العاديين الذين يغطون بكاميرا الهاتف الأحدث التي تقع في فلسطين، من اعتداءات وقتل يقوم بها جنود جيش الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي يؤدي إلى مضاعفة التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، ونزاهة الجمهور المتلقي.

ومن المهم تعزيز استقطاب الرأي من خلال استخدام الناشطون والمجموعات المهتمة بالقضية الفلسطينية فيسبوك كأداة لحشد الدعم ونشر الرسائل. حيث تكتسب الحملات عبر الإنترنت والعرائض والدعوات للتضامن زخماً من خلال كثافة التفاعلات على المنصات، مما يخلق تأثيراً كبيراً على الرأي العام.

أيضاً تشجيع عدد أكبر من المشاهير الإعلان عن مواقفهم من الغطرسة والتوحش الصهيوني علانية في مواقع التواصل الاجتماعي بدلاً من التحدث بها في غرف مغلقة، كما فعلت المغنية البريطانية من أصل ألباني "دوّا ليبا" التي أعلنت صراحة تضامنها مع فلسطين ومع غزة، وطالبت إسرائيل بوقف حملة التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين. كلك دعا الممثل والمخرج والمنتج الأمريكي الشهير "مارك روفالو" إلى فرض عقوبات على إسرائيل، وطالب بوقف الدعم الأمريكي لإسرائيل الذي اعتبره أنه يغذي العنف ويعيق وقف إطلاق النار. وكتب تغريدة على موقع تويتر يدعم فيها سكان قطاع غزة، وحصدت أكثر من 15 مليون مشاهدة، وعشرات آلاف الإعجابات، وآلاف التعليقات خلال 24 ساعة فقط.

كما استخدمت العارضتان جيجي وبيلا حديد، ووالدهما فلسطيني، حساباتهما على وسائل التواصل الاجتماعي - التي تضم أكثر من 108 ملايين متابع مجتمعين - للتعبير عن دعمهما لفلسطين. وتصل منصاتهما الضخمة إلى الملايين في غضون ثوانٍ.

كل هذا يساعد في دفع التغيير في السرد الصهيوني المهيمن والسائد. حيث لا يمكن اعتبار وسائل الإعلام التقليدية مصدراً موثوقاً للحقائق. وهنا يبرز دور الإعلام الرقمي كأحد سلاح مقاومة العدوان الصهيوني، خاصة في الوقت الذي يتعذر فيه وصول الصحفيين والمحققين إلى أماكن كثيرة في فلسطين محدود للغاية لأسباب متعددة، فتصبح المسؤولية على عاتق المواطنين الذين يتحولون إلى صحفيين ينقلون جرائم الجيش الصهيوني إلى العالم خلال ثوان معدودة، وبوسائل بسيطة.

ومن المهم زيادة وتعميق التواصل ما بين النشطاء والفاعلين فيما بينهم، وفيما بينهم وبين شعوب العالم لزيادة الوعي بالقضية الفلسطينية وتعقيداتها، ولنقل صورة حقيقية عن حياة الناس ومعاناتهم اليومية نتيجة الاحتلال العسكري الإسرائيلي. وكذلك القيام بالعديد من الحملات والعرائض، أو حملات هاشتاغ، أو جمع الأموال للمشاريع على الإنترنت لدعم صمود الشعب الفلسطيني.

هذه الحملات المستمرة المنتظمة يجب أن تركز على أولاً: الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)؛ وثانياً: زيادة الوعي بقضية فلسطين من خلال الأنشطة على الإنترنت وعلى الأرض. فيما يتعلق بمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. مع وجوب أن تشمل الأنشطة تشجيع المتسوقين على مقاطعة المنتجات من المستوطنات الإسرائيلية. ووقف التعاون العلمي والأكاديمي مع الجامعات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، وممارسة الضغط رقمياً على الممثلين والفرق الموسيقية والمغنين الدعوة والتوقف عن القدوم إلى إسرائيل. ولزيادة الوعي بقضية فلسطين مهم تزويد الجماهير عبر الإنترنت على مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع المجموعات بقصص ذات طبيعة حقوقية، وإنسانية، تتضمن مثل هذه القصص معلومات عن الظروف المعيشية للشعب الفلسطيني في ظل الحكم العسكري الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة.

من المهم تغيير الطريقة التي كان يرى بها العالم الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على الشعب الفلسطيني. فالفلسطينيين وخاصة الذين يعيشون في غزة الآن ليس لديهم خيار سوى أن يكونوا صحفيين حرب.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث فلسطيني

ملاحظات أولية

تتواصل أزمة تلوث الهواء في أجواء العراق، وخاصة في العاصمة بغداد وأطرافها، بالملوثات الغازية السامة والضارة، في ظل عجز الحكومة عن معالجتها وحتى عن التخفيف من وطأتها على المواطنين.

قبل نحو، سبوعين عاش المواطنون في بغداد والأطراف المحيطة بها فترة هدوء قصيرة، خالية نسبياً من الملوثات والروائح الكريهة. يعود الفضل فيها للأمطار التي هطلت ونظفت الأجواء من الملوثات العالقة..

بيد ان فترة الهدوء لم تدم طويلا. فبينما كان العراقيون ينتظرون على مضض، مع أمل لدى البعض منهم، أن تنفذ الجهات الحكومية المعنية بحماية وتحسين البيئة، وعد رئيس الحكومة السيد السوداني، الذي أطلقه في 15/10/2024، بـ " إجراءات شاملة لمواجهة التلوث وتحسين البيئة في العاصمة بغداد ".. فجأة شهدت سماء العاصمة ليلة وفجر ونهار يوم الأحد الماضي، من جديد، سحابة دخان كثيف خانق، وروائح كبريتية كريهة، بلون اختناقها الأصفر، دخل المستشفيات على أثرها نحو 200.مواطن، أغلبهم من مرضى الربو وعجز القلب.

وشكلت عودة الدخان الخانق قلقاً واسعاً بين المواطنين من تفاقم التلوث بالغازات السامة، ضاعفت من تصاعد مخاوفهم من تأثيراتها الصحية عليهم وعلى أطفالهم.. وقد رصدت " شفق نيوز"، في فبديو لها، في 17/11/2024، غيوم الكبريت التي غزت سماء بغداد ولوثت أجوائها، معلقة بان هذه الغيوم: " ما تزال تعاند قرارات وإجراءات الحكومة العراقية، وتعود مرة أخرى لتطلي صباح العاصمة ومساءها بلونها الأصفر ورائحتها الكبريتية الخانقة ". وجالت كاميرا الوكالة، محلقة في سماء بغداد، توثق انتشار الدخان الأصفر الذي يتسبب بالكثير من حالات الاختناق والأعراض المرضية الأخرى عند أهالي العاصمة، الذين ينتظرون حلاً حكومياً جدياً، أو أن تحن عليهم السماء ببعض المطر ليغسل الهواء الملوث"..

والمعروف ان أجواء العاصمة بغداد وأطرافها تُعاني منذ أشهر من انتشار رائحة الكبريت، إلا أنها ازدادت بشكل ملحوظ خلال الشهرين الأخيرين، مما أثار شكاوى السكان مجدداً من تأثيره على جودة الهواء وعلى صحتهم وحياتهم، مصعدين من مطالباتهم المتكررة للجهات الحكومية، بالتدخل العاجل لإيجاد حلول جدية تحدُ من الانبعاثات الملوثة وتحسن جودة الهواء.

وقد كشف "المؤشر العالمي لجودة الحياة المرتبطة بتلوث الهواء" لعام 2024، ان اكثر المناطق تلوثا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تقع في العراق، حيث بلغت نسبتها 78%-كما أسلفنا في حلقة سابقة

وأشار الخبير في الهيئة العامة للأنواء الجوية والرصد الزلزالي في العراق صادق عطية، إلى تسجيل "ارتفاع كبير وخطير" في مستويات التلوث بالعراق، وقال في منشور عبر حسابه بفيسبوك في 18/10/2024،، إن "خارطة مستويات التلوث AQI في العراق، ومنها العاصمة بغداد، تشير إلى قيم عالية تتجاوز 150-225 مليغرام/ متر مكعب "

وقبل ذلك بيومين، نشرت أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي مؤشر تلوث الهواء في العراق ليوم 16/10/ 2024، وقد بلغ 203، اي 10 مرات أعلى من الحدود المقبولة للتلوث التي حددتها منظمة الصحة العالمية " Independent" )عربية"، 26/10/ 2024).

والطامة، أن يخرج المتحدث باسم وزارة البيئة على المواطنين الذين يعانون منذ شهرين وأكثر من الهواء الملوث بأوكسيد الكبريت والأبخرة والغازات السامة الاخرى والروائح الكريهة، المخيمة كثيفا على بغداد، وتلحق الضرر بصحتهم وتهدد حياتهم، زاعماً: "لا داعي للقلق"! وان " الوزارة تراقب الوضع عن كثب".

ولم يوضح سيادته ما فائدة " المراقبة عن كثب" للمواطنين، خاصة الذين يعانون من مشاكل صحية، وأدى التلوث الى تفاقم حالتهم، والأطباء يواصلون تحذيراتهم من ان السحابة الكبريتية تزيد من خطر التعرض للسكتة الدماغية، وامراض القلب، والربو القصبي، وسرطان الرئة، وحتى الوفاة المبكرة.

وبما ان حبل الكذب قصير-كما يقول المثل الشائع، فقد ردت لجنة الصحة والبيئة البرلمانية، في الأثناء، على مزاعم وزارة البيئة بـ"مراقبتها عن كثب"، وهو رد يُعتبر بمثابة تكذيب لها، بكشفها بان محطات الوزارة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة، وان تأهيلها يتطلب 2،5 مليار دينار، بينما ميزانية الوزارة للعام الحالي لا تصل الى مليار واحد" ("المدى"، 18 /11/2024)..

ولم ترد وزارة البيئة على اللجنة البرلمانية لحد اليوم.. وسكوتها يعني انها كانت تضلل المواطنين ولا تقول الحقيقة، وبالتالي فهي لا تبالي بالمخاطر الصحية لتلوث الهواء على المواطنين. وبذلك فهي لا تلتزم بواجباتها ومسؤولياتها جاههم وتجاه المجتمع العراقي برمته.

والمفارقة الأخرى، هي ان وزارة البيئة كانت قد حددت في 13/10/2024، أماكن بؤر التلوث في العاصمة، وأكدت أنها تتمثل بمحطات توليد الطاقة الكهرباء التي تستخدم الوقود الثقيل ( النفط الأسود)، مثل: محطة توليد الكهرباء في الدورة، ومعامل الاسفلت المؤكسد وغير المؤكسد، ومعامل الطابوق المنتشرة في حزام وضواحي بغداد، بالاضافة الى مواقع تراكم النفايات، والمطامر غير الصحية، خصوصا مواقع معسكر الرشيد، والنهروان، والنباعي، والتاجي، بالإضافة الى الحرق العشوائي، خاصة أثناء الليل، وكذلك كور الصهر غير القانونية التي تنتشر بين الأحياء السكنية، والتي يصاحبها انبعاثات غازية ضارة” (المصدر السابق).

وقد حملَّ رئيس الحكومة السيد السوداني، في 15/10/2024، المسؤولية على الممارسات الحكومية الخاطئة في التعامل مع التلوث البيئي، وكشف عن إتخاذ إجراءات شاملة لمواجهة التلوث وتحسين البيئة في العاصمة بغداد. ووجه، بتشكيل لجنة متخصصة لدراسة حالة التلوث وتكرار انبعاث رائحة الكبريت المنتشرة في بغداد والمحافظات المجاورة، وبيان أسبابها ومعالجتها، مشدداً على ضرورة وضع حلول جذرية للمشكلة، ودراسة الأمر من جميع جوانبه، بحيث تُقدم اللجنة تقريرها الخاص بالموضوع خلال يومين (" الشرق. نت"، 18/10/ 2024..

هنا لابد من ملاحظة.. السيد رئيس مجلس الوزراء مهندس زراعي قديم، وكان إدارياً ناجحاً في وظائفه السابقة- كما وُصِفَ.. فهل من المعقول ان يطلب سيادته تحقيق جملة قضايا مهمة جداً (تشكيل لجنة من ذوي الكفاءة والخبرة، وتجتمع اللجنة، وتقترح معالجات مدروسة وفاعلة وقابلة للتطبيق) خلال يومين فقط ؟ّ!!.

بصراحة يا حضرة رئيس الحكومة، نقولها، مع تقديرنا لحرصك وطموحاتك الخدمية، أنك أوقعت نفسك بنفسك، مرة أخرى، في مطب التخبط والعشوائية وسوء الإدارة، الى جانب التهكمات..

ثم، ان هذا الحدث وما رافقه من تلكؤ وتقصير ولا أبالية، أليست كافية لمحاسبة المسؤولين المتنفذين المقصرين الذين أوصلوا البيئة العراقية الى هذه الحال ؟

أم ان القيود المفروضة عليك تمنعك من القيام بذلك ؟.

وبالعودة الى ما ذكرناه في المقدمة بان المواطنين ينتظرون على مضض تنفيذ الوعود، لأنهم شبعوا حد التخمة منها ومن تشكيل اللجان، معتبرين "تشكيل لجنة" يعني موت القضية المطروحة، وستكون في خبر كان، ذلك لأنه تم طيلة العقدين المنصرمين. تشكيل مئات اللجان، ولم تعُلن نتائج ولا لجنة واحدة رغم مرور أعوام، أو على الأقل أشهر عديدة، على تشكيلها.. ولم يسأل أحد من المسؤولين أو الجهات المعنية عنها..

وبشأن اللجنة التي أمر رئيس الحكومة بتشكيلها، فلا نعلم هل تشكلت فعلآ وضمن مواصفات المهنية والكفاءة العلمية والخبرة الإدارية.. وإذا تشكلت، فهل قدمت، في هذا الوقت القصير جداً، معالجاتها الجادة والفاعلة للمشكلة المطروحة؟ وهل المعالجات التي قدمتها مدروسة وقابلة للتنفيذ؟

حبذا لو تنشر مقترحات اللجنة ليساهم الخبراء البيئيون من خارج وزارة البيئة، في العراق وخارجه، في إغنائها..

وبالرجوع لما شهدته أجواء بغداد من عودة جديدة للدخان الكثيف والخانق والروائح الكريهة، ما يزال المسؤولون المعنيون يتحدثون ويبحثون عن الأسباب، بينما المواطنون ينتظرون من فترة طويلة وضع حد عاحل لهذا النوع من التلوث الذي أضر بصحتهم كثيرا.

أما ما. أما متى يشرعون بالعمل لمعالجة المشكلة جذرياً.. فعيش وشوف!!!

في يوم الاحد 17/11/2024 تحدثت لجنة الصحة والبيئة النيابية عن أسباب عودة الدخان الكثيف والروائح الكريهة. وقال عضو اللجنة، النائب باسم الغرابي ان "أحد أبرز أسباب انتشار الروائح الغريبة الشبيهة بالكبريت، هو حرق النفايات، ومخلفاتها غير المسيطر عليه ".

وأضاف " أن الحكومة شرعت بحملة من قوى الامن وبالتالي أوقفت الحرق نوعا ما، واختفت السحب الدخانية"، مستدركا "عندما توقفت الحملة الحكومية عادت الناس تحرق في نفس الأماكن".

ومن الاسباب الاخرى، وفق الغرابي، هو "انتشار معامل الطابوق ومعامل الاسفلت قرب المناطق السكنية، واستخدام النفط الاسود واستخدام مولدات كهرباء تعمل بالنفط الثقيل او الوقود الثقيل والنفط الاسود، فضلا عن تأثيرات المصافي، مثل الدورة ومخلفاته، التي تنبعث منها نتيجة التكرير، ومكانات الصهر الموجودة في داخل الاحياء غير مسيطر عليها" ("المدى"، 18/11/2024)..

لم توضح اللجنة البرلمانية المتخصصة ما الجديد فيما أعلنته، وهو معروف للقاصي والداني. وقد شخصت مصادر بيئية عديدة ان السبب الرئيسي وراء هذه الظاهرة يعود إلى استمرار بعض المعامل الصناعية في استخدام الوقود الثقيل، المعروف بتسببه في انبعاثات ملوثة عالية، على الرغم من الدعوات السابقة لإغلاق هذه المنشآت أو التحول إلى بدائل طاقة أنظف.

وثمة مصادر كانت أكثر جرأة من غيرها، عندما قالت بأنه رغم الجهود الحكومية المعلنة لمكافحة التلوث البيئي، إلا أن العديد من تلك المعامل لم تخضع للإجراءات العقابية أو الإغلاقات المطلوبة، مما يعكس وجود فجوة في تطبيق القوانين البيئية. ويأتي ذلك في وقت تتزايد فيه شكاوى المواطنين من تردي نوعية الهواء، حيث تتسبب الانبعاثات السامة في ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية، لا سيما بين الأطفال وكبار السن. وإن غياب الرقابة الصارمة واستمرار السماح باستخدام الوقود الثقيل يشكلان عقبة رئيسية أمام تحسين جودة الهواء في بغداد. وطالب ناشطون بيئيون باتخاذ إجراءات حازمة تشمل إغلاق المعامل المخالفة وتحفيز الانتقال إلى مصادر طاقة مستدامة.

وأكد المختص البيئي، مرتضى حاتم بإن "استمرار استخدام الوقود الثقيل في المعامل الصناعية دون اتخاذ حلول جذرية يشكل تهديدًا كبيرًا للصحة العامة في بغداد، حيث أشار إلى أن الانبعاثات الناتجة عن حرق هذا النوع من الوقود تحتوي على جسيمات دقيقة ومواد سامة ترتبط مباشرة بزيادة معدلات الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي والقلب، إضافة إلى مضاعفات خطيرة على الفئات الأكثر ضعفًا، مثل الأطفال وكبار السن".

ونبه حاتم الى أن "تراكم الملوثات في الهواء لا يقتصر تأثيره على الصحة الفردية، بل يمتد ليؤثر على النظام الصحي العام من خلال ارتفاع حالات الاستشفاء والتكاليف الطبية".وتابع أن "الأزمة لن تُحل بإجراءات شكلية، داعيًا الجهات المعنية إلى تبني سياسات صارمة تشمل إغلاق المصانع المخالفة، ودعم التحول إلى بدائل طاقة نظيفة تقلل من آثار التلوث على البيئة وسكان العاصمة" ("المدى"، 17/11/2024)

ثم، ان وزارة البيئة ذاتها أعلنت بأن “عودة الروائح وارتفاع تراكيز الملوثات في سماء بغداد سببها إصرار بعض الأنشطة الصناعية والبلدية المخالفة على مزاولة عملها في ساعات الليل”، مبينة أن “إدارتها العليا وفرقها الرقابية تعمل ميدانيا على مدار الساعة على متابعة مصادر تلوث الهواء في بغداد”.

وقال الوكيل الفني لوزارة البيئة د. جاسم الفلاحي، إنه "رغم ان الحالة الطقسية تسهم في وضوح تلك الروائح الا ان هنالك مشكلة كبيرة في إصرار عدد من الأنشطة الصناعية وغيرها بعدم الامتثال لقرارات الغلق واعتماد وسائل حرق مخالفة لأبسط المحددات البيئة". وأشار إلى أن "تقارير مديرية بيئة بغداد الموثقة استعرضت ابرز أسباب تفاقم التلوث يعود إلى استمرار الحرق السلبي في معامل الطابوق وكور الصهر غير القانونية والأسفلت في النهروان وبعض مناطق بغداد إضافة إلى حرق النفايات المستمر في معسكر الرشيد والنهروان وبعض مواقع جمع النفايات رغم وجود مراكز بلدية وبلديات تابعة إلى امانة بغداد والجهات الامنية الماسكة للأرض تتولى تلك المسؤولية".

كما حذر الوكيل الفني من أن "التقرير الشهري الذي ستعرضه الوزارة على مجلس الوزراء الموقر سيتضمن أسماء وعناوين الأنشطة المستمرة بالمخالفات والجهات القطاعية المعنية بإيقاف تلك الأنشطة" ("المدى"، 17/11/2024)..

والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا: هل سيعقب التحذير المذكور إجراءات رادعة ومعالجات فاعلة عاجلة ؟ أم ان المشكلة ستبقى موضع تصريحات وتوضيحات وتفسيرات بين المسؤولين المعنيين، بينما الوضع البيئي المتردي يتفاقم يوماً بعد اَخر، ويفتك تلوث الهواء بملوثات اوكسيد الكبريت والأبخرة والغازات السامة الاخرى، بالمواطنين ويلحق اشد الضرر بصحتهم، ويرهقهم بروائحه الكريهة، بينما يواصل الأطباء التنبيه والتحذير من خطورة هذا التلوث، الذي يزيد خطر التعرض للسكتة الدماغية وامراض القلب والربو وسرطان الرئة وغيرها..

هل ثمة أمل في انتظار المواطنين لحلول عاجلة، أم سيكتفون بـ"تطمين" المتحدث باسم وزارة البيئة لهم: "لا داعي للقلق"! لان وزارته "تراقب الوضع عن كثب"، وأمرهم لله لأن المراقبة واهية- محطات وزارة البيئة لقياس نقاوة الهواء معطلة منذ اعوام طويلة..

الى هذا، كتب راصد الطريق:" كانت جهات معنية مختلفة، بينها وزارة البيئة، قد ذكرت سابقا ان التخلص من التلوث الخطير ممكن عن طريق اغلاق المعامل التي ترفض استخدام وقود نظيف، وفرض هذا الوقود على محطات الكهرباء والانشطة الصناعية الاخرى بضمنها معامل الطابوق، ومنع احراق النفايات في المطامر العشوائية، وغير ذلك.. لكن شيئا من هذا لم يتحقق حتى الساعة، ولم يتم اغلاق او معاقبة أي معمل او جهة اخرى مخالفة."..

وتساءل بحق: "فهل ان هذا الحال، واستمرار اختناق بغداد والبغداديين، مما يروق للوزارة وللحكومة.. ام ماذا ؟ " ("طريق الشعب"، 19/11/2024)..

فهل من مجيب؟

***

الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي متقاعد، متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد

 

.. جنوب لبنان جزء من "إسرائيل" أم العكس؟

كلام رغبوي خارج السياق

في آخر مقالة لي نُشرت في الأخبار (16 تشرين الثاني 2024)، كتبتُ أنَّ إقليم فينيقيا مجاور لشمال فلسطين ويتداخل مع الجليل الفلسطيني الأعلى. مالم أقله حينها لانعدام الحاجة والسياق هو أنَّ من حق اللبنانيين أن يقولوا إنَّ الجليل كان جزءاً جنوبياً من فينيقيا، مثلما أن من حق الفلسطينيين القول إن فينيقيا كلها كانت جزءاً شمالياً من أرض كنعان.

الجديد، هو أن موظفاً إعلامياً في مكتب نتنياهو يدعى مايكل فرويند كتب مقالة في صحيفة "جيروزاليم بوست - عدد 17 تشرين الثاني- نوفمبر 2024" عنوانها: "جنوب لبنان هو في الواقع شمال إسرائيل". فما علاقة الكيان الصهيوني المصطنع "إسرائيل" بالعلاقة بين فينيقيا وأرض كنعان القديمتين، بل وما علاقة الكيان القديم "مملكة إسرائيل" الوثنية والتي لعنتها ولعنت ملوكها التوراةُ بهذه السياقات؟

كتب فرويند: "الحقيقة هي أن الحدود الحالية بين إسرائيل ولبنان لا يزيد عمرها على قرن من الزمان وهي حدود مصطنعة بالكامل"، وكأن حدود كيانه ليست مصطنعة، وهو يعلم أنه لولا الأموال والسلاح الأميركي الإبادي لما استمر قائماً بضعة أشهر لا بضع سنوات! ويضيف أن هذه الحدود "هي من بقايا زمن كان فيه المستعمرون الأوروبيون يرسمون خطوطاً على الخرائط على زجاجة البراندي في غرف مليئة بالدخان. من الناحية التاريخية، فإن جنوب لبنان هو في الواقع شمال إسرائيل، وجذور الشعب اليهودي في المنطقة عميقة". إنَّ فرويند يتناسى أن كيانه "إسرائيل" قد رسم خريطته أحد أولئك المستعمرين الأوروبيين ويدعى بلفور في غرفة لا تقل دخاناً ودماء.

وإذا كان من حق فرويند ومشغله ميليكوفسكي نتياهو أن يعودا إلى قصة إسرائيل الوثنية على أرض كنعان أو إلى أرض مملكة يهوذا التوحيدية، فإنَّ من حق اللبنانيين والفلسطينيين اليوم أن يعودوا أيضاً الى تلك هذه الحقب التاريخية السحيقة ويطالبوا بطرد محتلي أرض كنعان. والحقيقة فلا علاقة لغزاة اليوم، لا بأرض كنعان ولا حتى بالعبرانيين أو ببني إسرائيل القدماء. فهؤلاء الذي يزعمون أنهم يهود إنما هم متهودون من شعوب وأعراق أخرى، وقصة صعود وانهيار مملكة "خانية" الخزر (650 -1048 م) وملكها المتهوِّد إيبوزير جاليفان (688–711م) جنوب روسيا موثقة ومعروفة.

عشرون مدينة فينيقية في الجليل

إنَّ أدلة فرويند وحججه ليست إلا اقتباسات انتقائية من التوراة: فمن سفر التكوين (10:19) يقتبس "حدود كنعان تمتد من صيدا نحو جِرار إلى غزة". ثم يقفز من هذا الواقع الجغراسياسي لما قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام ليتحدث عن صيدا، المعاصرة ثم يقتبس من سفر التكوين (49: 13) دليلاً توراتياً آخر هو البركة التي منحها "بطريركنا التوراتي يعقوب أبناءه الإثني عشر، وكانت البركة التي أعطاها لابنه زبولون تنص على "ويسكن زبولون عند شاطئ البحر ويكون ميناء سفن، ويكون تخومه إلى صيدا". ومن سفر يشوع (13: 6) يقتبس ورود اسم صيدا صراحةً "باعتبارها المدينة الموعودة للشعب اليهودي، أن حدود سبط آشير كانت تمتد إلى صيدا".

من السهل أن نرد على فرويند وزملائه باقتباسات مضادة من التوراة نفسها، ونطالبهم بإعادة عشرين مدينة في الجليل منحها الملك سليمان للملك الفينيقي حيرام كمقابل لما بعثه له هذا الأخير من ذهب وأخشاب أرز كما ورد في الإصحاح التاسع من سفر الملوك الأول لنقرأ (9 :11) من هذا السفر: "وكان حيرام ملك صور قد ساعف (أسعف – زوَّد) سليمان بخشب أرز وخشب سرو وذهب حسب كل مسرته، أعطى حينئذ الملك سليمان حيرام عشرين مدينة في أرض الجليل ويعيد إلى أحفاد حيرام في صيدا تلك المدن العشرين في الجليل". وكلام التوراة واضح في أن هذه المدن ستعاد إلى أحفاد حيرام أي إنها فينيقية في الأصل! فهل سيعيد فرويند وحكومته هذه المدن العشرين لأحفاد حيرام في صيدا المعاصرة أم أنه سيأخذ من التوراة ما يعجبه فقط؟

ولكننا لن نلجأ إلى النصوص الدينية لأن مدارها وجوهرها دينيان، غيبيان، وأخلاقيان ولا علاقة لهما بمناهج البحث العلمي الحديث في ميادين الإناسة والآثار والحضارات القديمة بل سنلجأ إلى سجلات العلم لنلاحظ:

-إن الدول في عصرنا الحاضر لا تقوم وتحدد حدودها بناء على ما يرد في الكتب الدينية كالتوراة وغيرها، فالتوراة تُلْزِمُ المؤمنين بحرفيتها وصدقيتها فحسب، ولكنها غير مُلْزِمَةٍ لغير المؤمنين بها أو المتضررين منها!

بكلمات أخرى؛ إذا كانت التوراة مُلْزِمة لفرويند فما حجيتها وإلزامها على المسلمين الذين يعتبرون التوراة والأناجيل الحالية محرفة ومختلفة عن تلك التي أنزلت على الأنبياء؟ ولنفترض أن فرويند وجد لبنانيين يتفقون معه على مرجعية التوراة التي تقول إنَّ صيدا هي المدينة الموعودة للشعب اليهودي، فهل سيتفق معهم على تنفيذ ما قاله الإصحاح العاشر من سفر الملوك عن فينيقية عشرين مدينة في الجليل ويعيدها إليهم؟

إن الاحتكام إلى النصوص الدينية لم يعد من عوامل تأسيس الدول ورسم حدودها ولا دور لها في تأصيل وتكريس المعاهدات الدولية في عصرنا، وإنَّ علوما أخرى بدأت تتخصص في دراسة التاريخ القديم وفروعه المختلفة كتاريخ الإنسان واللغات المنقرضة والحية والحضارات، تعتمد الأدلة الآثارية الملموسة والمؤكدة مختبريا بنظائر الكاربون المشع 14 وعلم المورثات والهندسة الجينية وعلوم الألسنيات واللغات القديمة والصوتيات...إلخ.

لن نغوص كثيرا في موضوع التفريق بين الكنعانيين والفينيقيين والعلاقة بينهما، وهل هما شعبان أم شعب واحد سكن إقليمين فصار لاحقا شعبين (كنعانيو الداخل وكنعانيو الساحل). ولكننا نعلم من التأريخ أن النشاط البحري التجاري الفينيقي كان قوياً في عهد الدولة المصرية الوسطى (2050 - 1710 ق.م) فصاعدا، وثمة صورة منحوتة لسفينة فينيقية رسمت على جدران أحد المعابد المصرية تعود إلى عام 1400 ق.م. أما الحدود التخمينية بين الجليل الفلسطيني وفينيقيا الجنوبية فهي متداخلة كما قلنا منذ أقدم العصور.

فينيقيا وفلسطين القديمتين

 ولكننا، نضع اليد على واحدة من تجليات الظاهرة الحدودية الجنينية بين الإقليمين فقد تحول جبل الكرمل في الجليل إلى "فاصلة تحجز بين الفينيقيين والقادمين الجدد "الفلسطة". ولهذا ما عاد الساحل الفلسطيني إلى جنوب الكرمل يدخل ضمن فينيقيا بعد ذلك التاريخ (القرن الثاني عشر ق.م) وصار اسمه (ساحل بلستيا). كما يكتب يوسف سامي اليوسف في "تاريخ فلسطين عبر العصور - ص 58".

لقد كانت حدود فينيقيا الشرقية "الآسيوية" في أقصى اتساع لها، تمتد من كوراسيزيوم جنوب تركيا الحالية وحتى ربيحو "رفح" جنوب فلسطين (خريطة الأبرشية المشرقية)، ثم تقلصت وأمست تمتد من جنوب أوغاريت الكنعانية وحتى شمال مدينة مجيدو (تل المستلم) شمالي فلسطين الكنعانية. ثم انكمشت أكثر ولم تعد تتجاوز حدود مدينتي صور وصيدا وريفهما. أما فينيقيا الغربية الأفريقية وعاصمتها قرطاجنة "قرت حدشت/ قرية حديثة" فلها شأن آخر. فعن أي فينيقيا يريدنا فرويند أنْ نتحدث؟

كلمة إسرائيل ليست عبرية ولا يهودية

إذا كان الموظف في مكتب نتنياهو يحشد أدلته وبراهينه من كتابه المقدس فهذا شأنه، أما نحن فسوف نستقرئ ما تقوله العلوم والأبحاث التأريخية والأنثروبولوجية وعلوم مقارنة الأديان والحضارات:

- تقول الإيتمولوجيا (علم التأثيل اللغوي) إن كلمة "إسرائيل" نفسها لا علاقة لها باللغة العبرية في طورها التوحيدي فهي تتألف من (إسرا) التي تفسرها التوراة نفسها بـ "صرع" في عبارة "صرع الله" التي صارت لقبا ليعقوب بعد أن صرع يعقوب الإله فجرا (تك 32:28). كما وردت لكلمة عدة معانٍ أخرى منها "جندي ئيل، عبد ئيل، وأسير ئيل" مع ثبات اسم (ئيل) كبير الألهة الوثنية في بلاد الرافدين وأرض كنعان القديمة كلها. ومن تركيباتها بابل = باب ئيل، العاصمة الرافدانية المعروفة، وكربلاء "كرب ئيل = قرب ئيل. ومن أسماء الملوك الآراميين الوثنيين القدماء لدينا قائمة طويلة تنتهي باسم الإله ئيل ومنهم ملك دمشق حزائيل الذي قاد تحالف ممالك المدن الآرامية ضد الغزو الآشوري في (853 ق.م). وعلى هذا فكل اسم ينتهي بـ (ئيل) هو وثني تعددي ولا علاقة له بالعبرانيين واليهود الموحدين وإلههم "يهوه".

-تقول الفيلولوجيا (فقه اللغة ودراسة النصوص القديمة) إنَّ هناك إلهاً فينيقياً وثنياً يدعى "إسرائيل". تكلم عنه مؤرخ وكاهن فينيقي يدعى سنخوناثان (سَنْكُنْيَتُنْ) في كتابه عن تاريخ الفينيقيين، وترجمه إلى اليونانية الكاتب الفينيقي فيلون الجبيلي. وقد كتب الراحل زكريا محمد في مقالة مهمة له (الأخبار- 1 كانون الأول 2018) أن هذا الكتاب لم يصلنا "لكن فقرات منه وردت في كتابات الكتاب المسيحيين الفلسطينيين. وهناك على الأخص فقرة مهمة جداً من يوسيبيوس تعلمنا بوجود هذا الإله: "أما كرونوس (ساتيرن) الذي يدعوه الفينيقيون إسرائيل، والذي ألّه بعد موته، وجُعل في النجم الذي يحمل اسمه، فإنه عندما كان ملكاً، كان له ابن وحيد من حورية تدعى أنوبرت، ولهذا ما زال الفينيقيون يسمونه بالوحيد. وحين أحاقت بأرضه مصائب الحرب، فقد زيّن المذبح، وألبس ابنه الرموز الملوكية وضحى به - (Richmond, (1876، Cory’s Ancient Fragments, Page21-22".

- وإنَّ صهيون كلمة كنعانية وهي وصف طوبوغرافي باللغة الكنعانية لجبل في ضواحي القدس، كما يقول الباحث المقدسي إيهاب الجلاد، الذي يرى أن "الجبل حين ذُكر باسمه هذا في التوراة فهذا يعني أنه موجود قبل ظهور بني إسرائيل، وما جاء كان وصفاً لمكان قائم أصلا". مضيفاً أن "صهيون" أحد أسماء مدينة القدس قديماً. وعدا عن جبل صهيون بالقدس، يحمل جبلٌ في ريف اللاذقية بسوريا، وآخر في اليمن اسم "صهيون" كناية عن علوهما ومنعتهما".

الإله إسرائيل الفينيقي

بالعودة إلى ما كتبه الراحل محمد زكريا نجد أنه ربطه بين هذا الإله ومملكة إسرائيل القديمة الشمالية، والتي وصفناها بالوثنية التعددية، بما يؤكد ديانتها وهويتها الوثنية الكنعانية وربما كان هذا الربط متسرعا ويحتاج إلى مزيد من التقصي والتمحيص. ويلفت محمد نظر قارئه إلى أنَّ المؤرخين الغربيين كلهم، شطبوا اسم هذا الإله من الوجود. لقد رفضوا تصديق وجود إله باسم إسرائيل، مفترضين أن وجوده خطأ من الناسخين لا غير، وأن الاسم يجب أن يكون في الأصل «ئيل/ الوثني» وليس «إسرائيل». مع أن الأحرى بهم كان أن يرفضوا اسم إسرائيل نفسه كاسم توحيدي عبراني وهو ليس كذلك! ويضيف الراحل: "إن الغالبية العظمى - من المؤرخين والباحثين الغربيين - تضع، تقتبس النص أعلاه، «ئيل» مكان «إسرائيل» من دون أن تشير إلى ذلك أبداً، أي من دون أن تخبر القارئ أن الاسم في نسخة يوسيبيوس هو «إسرائيل». وقد أذهلني هذا تماماً حين اكتشفته. وهكذا مُحي اسم هذا الإله الفينيقي. وقد محي لأن وجود إله باسم "إسرائيل" يثير اضطراباً، قد يؤدي إلى تغيير الصورة السائدة للديانة اليهودية جذرياً. فبناء على وجوده، يكون بنو إسرائيل عباد هذا الإله -الوثني -في الأصل". إن وثنية دولة إسرائيل الشمالية تعترف بها حتى التوراة فهي تصب لعناتها عليها وعلى ملوكها لهذا السبب بالذات ولأنهم عبدوا البعل – الإله الوثني المقابل لئيل -وهو ليس أمرا جديدا إنما الجديد في الاسم ومنشئه الفينيقي.

وأخيرا فإن الأدلة المادية التي يوردها فرويند كدليل على قِدم الوجود اليهودي في جنوب لبنان كقبر زفلون في صيدا وقبر أهليآب بن أخيساماخ في بلدة سُجد وقبر النبي التوراتي صفنيا في قرية جبل صافي، إنْ صحت يهوديتها لا تعني إلا أمرين حاسمين ومهمين؛ الأول، وقد اعترف به المؤرخون يهود منصفون وهو سماحة وإنسانية الحضارات العربية والمشرقية القديمة مع الأقليات الدينية وخاصة مع اليهود الذين عاشوا قرونا طويلة في بلاد الرافدين (حيث لاتزال قائمة أضرحة ومقامات أنبياء يهود منهم النبي القرآني ذو الكفل (حزقيال التوراتي) في بابل وعزرا في أقصى الجنوب العراقي) وبلاد الشام ومصر وشمال أفريقيا واليمن وتركوا وراءهم العديد من الآثار التراثية بعد أن اقتلعتهم الحركة الصهيونية العنصرية ودولتها من جذورهم بوسائل إرهابية استخبارية.

الأمر الثاني الذي تؤكده هذه الأدلة وغيرها هو أصالة وقِدم الوجود اليهودي الحقيقي في العالم العربي ولكنه وجود وتراث لا علاقة له بالوجود الإشكنازي الخزري المتهود والذي جاءت الحركة الصهيونية بغالبيته من شتى بقاع العالم وحولته الى جيش مسلح استيطاني، في كيان وصفه أرئيل شارون بأنه عبارة عن "حاملة طائرات أميركية ثابتة" كما اقتبس وزير استخباراته يوفال شتاينتس، قبل أن يتحول من حاملة طائرات ثابتة إلى عصابات دموية متحركة بزعامة التيار الصهيوديني لتمارس الإبادة الجماعية والتطهير العرقي علناً ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني!

***

علاء اللامي - *كاتب عراقي

لم يعد التعداد السكاني يقتصر على معرفة عدد نفوس الدولة وبيانات عن عدد المواطنين من حيث النوع الاجتماعي (ذكور، اناث) والعمر والمهنة و.. ، بل انتقل الآن الى توفير قاعدة بيانات تساعد في اتخاذ قرارات لتحسين كافة قطاعات الدولة : التعليم، الصحة، الدراسات العلمية، الخدمات.... وكل ما يمكّن وزارة التخطيط بأجراء دراسات أكاديمية تساعد على تطوير الوطن.

 وعلى صعيد المواطن، فان أهم أجراء يحققه هو (العدالة الاجتماعية) وتعني.. تحقيق المواطنة المتساوية وتوزيع الثروة والفرص والامتيازات بشكل عادل بما يحقق الأمن الاقتصادي ( غذاء، سكن، ملابس، رعاية صحية، تعليم...) لكل مواطن، ولهذا فان الدول المتقدمة تجري التعداد السكاني كل خمس او عشر سنوات، فيما تعداد السكان الحالي (2024) في العراق يأتي بعد (27) سنة من آخر تعداد.

 وما حصل في العراق خلال العشرين سنة الماضية، ان الذين استلموا السلطة بعد 2003، استفردوا بها وبالثروة ايضا، وانتهكوا مبدأ العدالة الاجتماعية بشكل صارخ.. فبرغم أن العراق يعدّ اغنى بلد في المنطقة و أحد أغنى عشرة بلدان في العالم، فان من استفردوا بثروة العراق افقروا 13 مليون عراقي باعتراف وزارة التخطيط. والسبب في ذلك شخّصه مركز بحوث فرنسي بأن 36 سياسيا من احزاب السلطة صار كل واحد منهم ملياردير دولار! بينهم من كانوا فقراء. يؤيد ذلك وصف المرجعية الدينية لهم بـ( حيتان الفساد).. الذي شاع زمن الحكومتين (2006 الى 2014) واصبح الفساد في المفهوم العام شطارة وانتهاز فرصة بعد ان كان في القيم العراقية خزيا وعارا.. وانشغلوا بانتاج الأزمات ولم يقدموا انجازا وطنيا واحدا على مدى عشرين سنة!

 ليس هذا فقط بل انهم انتهكوا مبدأ الرجل المناسب في المكان المناسب، وتقاسموا مؤسسات الدولة بين عوائلهم!، نجم عنها هجرة الألاف من ذوي الكفاءات من مختلف الاختصاصات. ومع ان النظام ديمقراطي يبيح التظاهر السلمي، فأنه في يوم واحد فقط من ايام انتفاضة اكتوبر/ تشرين (الخميس الثالث من الأيام الخمسة الأولى للأنتفاضة) سقط (36) قتيلا في بغداد و (21) في ذي قار تليهما: الديوانية، النجف، كربلاء، وديالى.. برصاص حكومة عادل عبد المهدي.

 اننا اذ نبارك خطوة التعداد السكاني التي جاءت بعد آخر تعداد (1997!) ونحيي السيد محمد شياع السوداني وندرك حسن نيته.. لكننا نرى ان وعده بأن احد اهم اهداف التعداد السكاني هو تحقيق العدالة الأجتماعية.. لن يتحقق. فالذين اصبحوا ملياردريه.. معظمهم قيادات في احزاب اسلامية، استبدلوا عقيدتهم الاسلامية بتطبيق العدالة الأجتماعية بعقيدة حب المال وصاروا في كنزه كجهنم.. يسألونها هل امتلأت تقول هل من مزيد. وما اقتدوا بالأمام علي الذي قال يوم اصبح خليفة: جئتكم بجلبابي وثوبي هذا فان خرجت بغيرهما فأنا خائن. ولأنهم ما خافوا حتى من ربّهم يوم الحساب، فأنهم لن يخافوا من رئيس وزراء هم اتوا به، وسيكون حاله حال سلفه السيد حيدر العبادي الذي اقسم بأنه سيقضي الفساد (حتى لو يقتلوني) ثم اعتذر مبررا ان الفاسدين.. مافيا تمتلك المال والقوة والفضائيات، غير انهم سيخافون فعلا ان أعلن السيد السوداني بأن أحد اهم شروط تحقيق العدالة الاجتماعية التي يدعو اليها الاسلام والنظام الديمقراطي.. هو تطبيق مبدأ: من اين لك هذا؟.. حين يدفعه يقينه بأنه فاعلها بقوة اربعين مليون عراقي نصفهم جياع، في ثورة جياع سلمية، يكون بها العراق انموذجا في تطبيق المفهوم الحديث للتعداد السكاني بالمنطقة.

***

ا. د. قاسم حسين صالح

 

الخلط بين حدثين مختلفين

بعد انتهائي من كتابة الجزء الثاني من مقالتي حول بعض مظاهر العدوان الصهيوني على جبهة الآثار والتراث الفلسطيني ونشر هذا الجزء (الأخبار - 16 تشرين الثاني 2024)، وخلال تفحصي لمراجع المقالة، تنبهت إلى وجود خلط محتمل - تأكدت من وجوده لاحقا - بين موضوعين وحدثين مختلفين بينهما أربع سنوات تقريبا، سببه وجود صورة نشرت مع الخبر الخاص باكتشاف ما سماها الإعلام الإسرائيلي "بوابة إسرائيل الأولى" في موقع أثري قرب تل عيراني الواقع على مسافة 43 كم شمالي بئر السبع. وقد تبين لي أن تلك الصورة التي علقتُ عليها في مقالتي الثانية نشرت أيضا مع خبر آخر باللغة الفرنسية يخص اكتشافا مزعوما لمدينة توراتية مفقودة هي صقلغ (Ziklag).

وبالعودة إلى أوليات وتفاصيل الخبر الثاني وجدتُ أن صحيفة هآرتس كانت قد نشرته بتاريخ 09 تموز - يوليو 2019، أي قبل نشر خبر البوابة بأربع سنوات أو أكثر قليلا.

ومن الواضح أن الخبر الثاني، الأقدم، والذي لم أتوقف عنده تحليليا في الجزأين المنشورين، لا يقل تلفيقية واضطراباً عن الآخر؛ فخلاصته الحرفية تقول: "إن فريقاً من علماء الآثار الإسرائيليين والأستراليين أعلنوا أنهم عثروا على أنقاض مدينة صقلغ التوراتية والتي كانت تقع في منطقة النقب في الجنوب بالقرب من بلدة كريات جات مما كان يعرف بمملكة يهوذا. ويرجع تاريخ صقلغ إلى أوائل القرن العاشر قبل الميلاد وهو الوقت المرتبط بالملك داود. وإذا كانوا على صواب فإن ذلك سيعزز النظرية القائلة بأن الملك داود كان أكثر من مجرد زعيم محلي على قمة التلال، ويدعم النظرية القائلة بأنه حكم بالفعل مملكة موحدة في منطقة يهوذا. لكن يبدو أن المملكة لم تكن ذلك الكيان العظيم في العصور القديمة التي يتصورها البعض" وتضيف هآرتس: "وأوضح العلماء أن اسم صقلغ، يبرز في السجل التوراتي على أنه ليس ساميا أو كنعانيا، ولكن يبدو أنه فلسطيني "فلسطي"، وقد أثبتت الدراسات الوراثية الأخيرة التي أجريت على الهياكل العظمية المكتشفة في مقبرة الفلسطينيين في عسقلان، أن الفلسطيين الغامضين نشأوا في أوروبا". وتختم هآرتس تقريرها الإخباري بالقول "وبحسب الكتاب المقدس العبري، فإن ملك فلسطين حشيش جات (لاحظ الاسم السامي للملك)، سمح لداود بالانتقال إلى صقلغ، عندما فر من يهوذا بسبب عدم رضاه على الملك شاوول، وأصبحت المدينة قاعدة له لبناء قواته". لنتفحص هذه الكًوْمة من الأخطاء والتلفيقات:

لن نتوقف طويلا عند فرية "هآرتس" المفضوحة حول "المنشأ الأوروبي للفلسطينيين" والتي كررها بمتعة حتى الجاهل في العلوم نتنياهو، وكنا قد فندنا هذه الفرية في حينها (الأخبار عدد 18 تموز 2019) وفندها غيرنا حين نُشرتْ نتائج التحليل الجيني لرفات عسقلان 2019. فالمتفق عليه بإجماع العلماء هو الأصل الكنعاني السامي "الجزيري" للشعب في أرض كنعان قبل وبعد هجرة قبائل الفلسطة "فلشتيم" من جزر شرقي المتوسط وذوبانهم مع الكنعانيين خلال خمسة قرون، وحتى قبل تسجيل أول إشارة إلى أي وجود عبراني أو شبه عبراني في رسائل تل العمارنة في مصر وباللغة الأكدية الرافدانية سنة 1360 ق.م.

بوابة تل عيراني وأنقاض صقلغ

إن الخلط الذي وقع بين الخبرين؛ خبر بوابة تل عيراني وخبر أنقاض صقلغ لا ينفي أو يضعف من حيث الجوهر تفنيدنا لخبر البوابة إذْ تبقى الأسئلة التي أثرناها صحيحة، خصوصا وأن صورة الموقع الجديد للبوابة لا تختلف في تفاصيلها كثيرا عن صورة أنقاض صقلغ رغم أنها أكثر تنظيما ووضوحا ولا لكنها لا تعطي الانطباع بوجود البوابة الحجرية "العظيمة والرائعة" التي تحدث عنها الفريق المُكتشِف.

وحتى ضمن نص خبر هآرتس، يفهم القارئ أن الأمر يتعلق بقرية صغيرة تدعى صقلغ ورد ذكرها في التوراة، وبهذا اعتبرت القريةُ توراتيةً. وهذا صحيح جزئيا وشكليا ولكن لا يترتب عليه أن المدينة توراتية أي يهودية أو عبرانية، بل قد تكون كنعانية أو فلسطية مثلما أن قولنا إن نبوخذ نصر هو "شخصية توراتية" بمعنى أن اسمه ورد ذكره في التوراة، وليس بمعنى أنه يهودي أو عبراني فهو الذي دمر مملكة يهوذا. ولكن نبوخذ نصر ليس توراتياً فقط كسليمان أو داود (والدليل الذي قُدم بخصوص داود أي نقش تل القاضي أكد ورولستون، الخبير الإسرائيلي في النقوش السامية القديمة كونه مزيفا وملفقا) بل ورد ذكره في العديد من السجلات والأثار المادية من نصب وتماثيل في بلاد الرافدين بما يؤكد كونه شخصية تأريخية حقيقية. أما ما ورد في التوراة فقط من أسماء شخصيات ومدن فلا يعني تماما ومئة بالمئة أنه تأريخي وحقيقي على الأرض وفي التأريخ. ونجد تفاصيل دحض الكثير مما ورد في التوراة في كتب خبراء الإناسة والآثار ومنهم مثلا توماس تومسن في كتابة "التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي" وشلومو ساند في كتبه ومنها "اختراع الشعب اليهودي" و"اختراع أرض إسرائيل"، وإسرائيل فنكلستين "التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها". ولكن الخبر نفسه يؤكد أن قرية أو بلدة صقلغ لم تكن سامية أو كنعانية بل هي فلسطينية والأدق أن نسميها "فلسطية". وإن حاكمها الملك حشيش جات، سمح لداود بالانتقال إليها كلاجئ. أما في التوراة فنقرأ أن الملك الفلسطي حاشيش أعطى هذه البلدة لداود، وأن العماليق هاجموها وأحرقوها حين كان داود بعيدا عنها، وأن هذا الأخير طاردهم واسترد الغنائم منهم ...إلخ" وهذه كلها قصص توراتية لا يوجد ما يؤكد شيئا منها، بل إن صقلغ نفسها بقيت مدينة مجهولة الموقع طوال قرون وقرون. فهل وجد الآثاريون اليوم ما يؤكد أن هذه الأنقاض قرب كريات جات هي لصقلغ؟ هل تم العثور على ما يؤكد علاقتها بشخصية تدعى الملك داود؟

الباحثة الفرنسية فيلنوف تجيب

لنستمع لما تقوله الباحثة الفرنسية إستل فيلنوف، المتخصصة في علم آثار الكتاب المقدس (في حوار معها أجرته صحيفة (Tribune Juive) الناطقة بالفرنسية عدد 11 تموز- يوليو 2019، حول ما تم العثور عليه من أدلة أركيولوجية في صقلغ، حيث قالت إن ما تم العثور عليه لا يتعدى وجود "مواد تعود إلى القرنين 11 و12، والتي تعتبر فلسطينية نموذجية، تحت طبقة من بداية القرن العاشر". إذن لا شيء يؤكد اسم المدينة "صقلغ" أو علاقتها بداود بل هناك مواد قد تكون بقايا عضوية حللت باستعمال نظائر الكاربون المشع لمعرفة عمرها وبالتالي عمر الموقع لا أكثر ولا أقل وهذا أمر يمكن أن يحدث في أي مكان وزمان دون ان تترتب عليه أيه نتائج واستنتاجات حاسمة.

وتضيف فيلنوف: "إنَّ من الصعب التعليق على بيانات الحفريات الإسرائيلية حتى يتم نشر النتائج. ومن ناحية أخرى، لا يمكننا أن نقول مثل البروفيسور جارفينكل، أحد مديري البعثة الآثارية، أن هذه الاكتشافات تثبت تاريخية الحلقة التوراتية ووجود داود نفسه". ثم تسأل فيلنوف سؤالا لاذعا: "هل ستثبت كاتدرائية نوتردام في باريس وجود كوازيمودو بطل رواية أحدب نوتردام"؟

وحين تواجَه الباحثة الفرنسية فيلنوف بسؤال مباشر وصريح يقول: "هل تم إجراء هذه الحفريات لغرض أيديولوجي"؟ تحاول أن تتملص من الإجابة بالقول "سأحرص على عدم تجربة أي شيء، ومن المرجح أن يسلط الموقع الضوء على الفترة الانتقالية بين العصر الحديدي الأول (القرنين الثاني عشر والحادي عشر) والحديد الثاني (القرنين العاشر والسادس عشر)". ثم تطلق حكما شرطياً معلقاً يقول "إذا جلبت هذه الحفريات بيانات جديدة، فهذا أمر جيد جداً". بمعنى أنها لم تجد ما أعلن عن وجوده الباحث الإسرائيلي جارفينكل من أدلة واستنتاجات شيئا ذا قيمة وبيانات علمية مؤكدة.

إن الباحثة فيلنوف تعي جيدا مسؤولية الباحث الآثاري المنضبط بشروطه العلمية والموضوعية في البحث، ولكنها لا تريد أن يضعها المختلفون معها في خانة "أعداء إسرائيل". ومع ذلك فهي تحافظ على السوية العلمية وخصوصا عندما سئلت سؤالا مباشرا يقول: "لماذا يريد علم الآثار أن يؤكد ما يقوله الكتاب المقدس"؟ فأجابت: "لأن الكتاب المقدس هو أحد أسس الرواية القومية لإسرائيل الحديثة، والتي يعتبرها البعض امتداداً لإسرائيل التوراتية "الكتابية" التي أسسها داود. بالنسبة لجزء من السكان، هذه القصة لا يمكن المساس بها. لكن علماء الآثار هم هؤلاء المواطنون مثل أي شخص آخر، وحتى لو كانوا علماء ممتازين، فإنهم يجرون أبحاثهم كما هي" أي يجرون أبحاثهم بشروط العلم والأدلة الملموسة.

ليس ثمة ما يمكن أن يضاف لكل ما قالته هذه الباحثة الفرنسية بلغة هادئة لكشف حقيقة هذا التلفيق والمبالغات التوراصهيونية حول هذا الاكتشاف؛ فكل ما قيل يفي بالغرض، ويضع الأمور في نصابها العلمي بعيدا عن التشويش الأيديولوجي وعما سماه الباحثان بولان وغويازدا "تسيس التراث وعلم الآثار".

مناقشات آثارية صهيونية داخلية

لقد أثار الخبر، ومن ثم الحوار حوله مع الباحثة الفرنسية الكثير من اللغط والنقاش بين قراء الصحيفة المذكورة. وربما كان من المفيد أن نأخذ فكرة حول هذا النوع من النقاشات في المعسكر الصهيوني أو المنحاز له.  هنا، سنتطرق للنقاشات الحامية على الصفحة التي أجرت الحوار مع الباحثة الفرنسية فيلنوف بين قرائها:

تطلق سيدة تدعى باتريشيا كامباي المناقشة من خلال سؤال مذعور توجهه إلى القراء ومحرري الصحيفة يقول: "أ مدينة فلسطينية في وسط إسرائيل؟! أنا في حيرة. أليس الفلسطينيون غرباء جاءوا عن طريق البحر؟ ألم يستوطنوا على شريط من الأرض على حافة البحر الأبيض المتوسط، يسمى اليوم قطاع غزة" وتختم كلامها بسؤال يقول: "ألم تؤدي كلمة فلسطيني إلى ظهور كلمة فلسطين التي أطلقها الرومان على هذه البلاد؟ هذه الشبكة من الأسئلة تحتوي على أجزاء من الحقيقة مزجت بسوء الفهم والأكاذيب التلفيقات التي نسجتها القراءات التوراتية الآثارية غير العلمية في الوقت عينه وأدت إلى عملية غسيل أدمغة شاملة للجمهور. فإذا كان المقصود بالفلسطينيين في الخبر هم "الفلسطة" فما الذي جاء بهؤلاء إلى وسط إسرائيل شمال أورشليم القدس وهم الذين استقروا في الجنوب؟

ففي حين يصر التوراتيون الصهاينة على وجود إمبراطورية يهودية في زمن داود وسليمان يؤكد العلماء - الباحث الدنماركي نيلز لمكة على سبيل المثال - إنَّ ما سُميَّ إمبراطورية داود وسليمان كانت دويلة صغيرة اتسعت قليلا ولم تستمر أكثر من أربعين عاما، ثم عادت مملكتا إسرائيل ويهوذا إلى مساحتهما الطبيعية والتي تقارب مساحة جزيرة (غوتلاند) السويدية الصغيرة أي ثلاثة آلاف كم² تقريبا، من مجموع مساحة فلسطين البالغة 27 ألف كم²!

وهنا يحاول كاتب آخر هو اندريه مالمو توضيح الموضوع فيزيد الطين بلَّة حين يقول محاولاً الإجابة على سؤال كامباي: "لا، كان الفلسطينيون في جميع أنحاء المنطقة. أنت على حق بشأن اسم فلسطين الذي فرضه الرومان على سكان يهودا والسامرة والجليل لجعل الدول اليهودية تختفي". وهذا غير صحيح فالفلسطينيون بالمعنى القديم لكلمة "الفلسطة" - كما قلنا - لم يكونوا موجودين في جميع أنحاء المنطقة بل في خمس مدن هي غزة، عسقلان، أسدود، جت، وعقرون، في الساحل الجنوبي الفلسطيني ما بين يافا ووادي العريش. أما الموجودون في كل أرجاء المنطقة فهم الكنعانيون سكان البلاد الأصليون قبل أن يتغير اسم البلاد من أرض كنعان إلى فلسطين بالتدريج بدءا من العصر الإغريقي فالروماني. والخطأ الذي تقع فيه باتريشيا كامباي وغيرها هو إنها تخلط بين الفلسطة القدماء وهم مجموعة من المهاجرين البحريين وبين الكنعانيين أو سكان بلاد كنعان الأصليين والذين صار اسمهم "فلسطينيين" في عهود لاحقة. ولا تريد أن تصدق أن هناك فلسطينيين في قلب ما يسمونه أرض إسرائيل التوراتية الوهمية.

ورغم أن بعض المشاركين في النقاش يقرون بأن "مدينة (صقلغ) هي في الأصل مدينة كنعانية وليست مدينة فلسطينية"، ولكنهم يعودون ويكررون ما غرسته التوراة في أذهانهم فيقولون "ولكنها في الواقع مدينة إسرائيلية، لأنها كانت تابعة لملكية يهودية" وأحدهم ذكر القراء بأن كلمة كنعانيين تأتي معنى تحقيري "توراتيا طبعا" لأنهم السكان الأصليون!

والحقيقة فإن بعض التوراتيين الصهاينة صريحون جدا في ما يتعلق بالتوحيد والمماهاة بين اعتقاداتهم الدينية وثقافتهم الآثارية، فهم يعتبرون الرواية التوراتية الدينية حقيقة مطلقة وغير قابلة للمناقشة كما قال المتدخل صامويلي في رده على كومباي حين ذكَّرها: "بالنسبة لليهود المؤمنين، فإن الكتاب المقدس العبري المعروف باسم "العهد القديم" هو وثيقة ذات طبيعة إلهية، وحقيقة لا جدال فيها، ومناقشتها محظورة، وقد أُعطيَ جوهرها لموسى على جبل سيناء؛ منذ حوالي 33 قرنا"، معنى ذلك أن الخطاب الاستبدادي الأيديولوجي القمعي والمعادي للعلوم الحديثة ليس حكرا على قومية أو دين معين فرجال الكهنوت وعبيد النصوص من طينة واحدة وهم موجودون في كل زمان ومكان.

إن هذه الآراء المتطرفة التي تصدر عن جمهور صهيوني توراتي واسع تعرض لعملية غسيل أدمغة مديدة هي التي تمنح الخطاب الصهيوني التوراتي صفته النهائية كخطاب تلفيقي خرافي لا يصمد أبدا أمام الأدلة الملموسة التي تقدمها يقدمها علم الآثار أحيانا أو يسجل انعدام وجود ما يؤكد الرواية التوراتية أحياناً أخرى. ولكن الحقيقة هي اللغة التي تبقى ولا تزول ويحاول مقاربتها علماء التأريخ والآثار والإناسة وبعض من الإسرائيليين المهنيين الذين يحترمون أنفسهم وصفتهم.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

ركزت السياسة الخارجية غير الرّسميَّة الإيرانيَّة، إزاء العراق، على كردستان وشط العرب، الذي يُسمّيه الإيرانيون «أروندرود». بهذا الخصوص استخدم آراش رايزنجاد مؤلف «شيعة إيران والأكراد العراق وشيعة لبنان»، الأسماء الفارسية للمواقع، دون حقّ، فالشط اسمه «شط العرب»، قال ناصر خسرو (ت: 453هج): «وَهَذَا النَّهر هُوَ شط الْعَرَب، ويلتقي دجلة والفرات عِنْد حدود مَدِينَة البَصْرَة» (سفر نامة).

وفق معاهدة (1937) في عهدي الملك غازي (1933-1939) وشاه رضا (1925-1941)، ثبت شط العرب بشاطئيه عراقيّاً. ظلت المعاهدة عقدة تؤرق محمَّد رضا (1941-1979)، ولم يثرها خلال العهد الملكي العراقيّ، بعدها أخذ الشَّاه يبتز العراق عبر أكراده، كي يكون شط العرب مِن حقّ إيران، بما يعرف بـ «التالوك» أعمق نقطة فيه.

توافرت فرص لحل القضية الكُرديَّة، وأجودها حلّ رئيس الوزراء عبد الرّحمن البزاز (1966)، إلا أنَّ إيران أفشلتها، فالشّاه يردد «ما لهم لو تنازلوا عن أروند»، ويغري الأكراد بمواصلة القتال، كلما نضج الحلُّ، وكان الجيش الإيرانيّ يُقاتل العِراق مموهاً بالزَّي الكردي.

أشتد التّدخل بعد (1968)، وكادت الحرب الشَّاملة تندلع، صاحب ذلك حبك المؤامرات بين البلدين، حتّى معاهدة الجزائر (1975)، تنازل بها العراق عن «شط العرب»، حينها لم يكن التّنازل يرضي سواد شيعة العراق، يوم لم يكن للأحزاب الدِّينية وجود، فكانت مواكب حسينية بالنَّجف تشدوا: «شط العرب إنا(لنا) مية بالمية، يا حسين شوف (انظر) الخريطة» (شاهد عيان).

تخلص شاه إيران من معاهدة (1937)، لينقلها عقدةً إلى صدام حسين (أعدم: 2006) مقابل الكف عن دعم الأكراد ضد بغداد، وإذا كان شاه إيران ألغى معاهدة 1937 من طرف واحد، فأول فرصة كانت لصدام إلغاء معاهدة (1975)، ثم أعادها في حرب (1991)، وهكذا ظل شط العرب مقايضة، الكف عن دعم الأكراد مقابل التَّنازل عن الشَّط.

صحيح أنَّ جوهر النزاع، بين إيران والعراق، كان شط العرب، لكنَّ هناك مبررات أخرى لدى الشاه، يضغط بها على الأميركان والإسرائيليين، وهو النُّفوذ السُّوفييتي عبر العراق، بعد عقد معاهدة كبرى بين بغداد وموسكو، وقبلها كان يضغط بالتخويف مِن المد النَّاصريّ، لهذا دفع الأميركان والإسرائيليين إلى التعاون ضد بغداد، في دعم الأكراد بالسَّلاح والمال، وما أقنع الأميركان هو تأميم النفط العراقيّ (1972).

نعم اعترف الشَّاه مبكراً بإسرائيل (1955)، لكنه مع قيام دولة فلسطينية، إلا أنّ أيَّ قضيةٍ، كبرت أو صغرت، لا تتعدى أهمية شط العرب عنده، وفي لحظة تنازل العراق انتهت الحركة الكردية، بالانسحاب فرادى إلى إيران، فمهما كان دافع الشّاه في دعم الأكراد ضد بغداد، فلم يتوهم أنه سيكون في مأمن مِن ثورة كردية ببلاده، وهذا ما منعه مِن دعم الأكراد إلى مستوى قيام كيان مستقل بالعراق.

كانت المنطقة تضطرب، كم سُفكت دماء، وبذرت ثروات، لتبقى كردستان العراق ملغومةً، والتآمر بين العواصم مستمراً، والمطلوب شط العرب مقابل رأس الحركة الكُرديَّة، وقد حصل هذا، ولم يُغرَ الشّاه بعرض قادة الأكراد العراقيين، في أنْ تكون مناطقهم تحت تاجهِ، لأنْه سيفتح جبهة تزيد حدوده لهيباً.

ذهب آلاف الأكراد ضحايا السياسة غير الرسمية الإيرانية، فكانوا يعتقدون أنهم يقاتلون لتحقيق الحقوق القوميّة، في قتالهم مع بغداد، وبينهم البين أيضاً (برازانيون وطلبانيون)، لكنَّ كلَّ قطرة دمٍ سُفحت كانت لتحقيق حلم شاه إيران، في التخلص مِن عقدة «أرنودروود»، وبهذا خمدت الثورة الكردية قبل جفاف حبر توقيع معاهدة (1975). إنَّه أحد الدُّروس، التي يجب مراعاتها، في حساب الخسائر والأرباح.

أحسن البزاز بإخلاصه لحلِّ القضية الكردية حلاً عادلاً، كان شريكَ صاحب البيت في شعوره: «قلبي لكردستان يُهدى والفمُ ولقد يجودُ بأصغريه المُعدمُ» (الجواهريّ، كردستان يا موطن الأبطال). لكنَّ الأوهامَ بإخلاص الشَّاه، دفعت الأكراد حتّى خذلهم، وفي القصيدة ما يعبر: «أنا صورةُ الألمِ الذَّبيحِ أصوغه/ كَلماً عن القلبِ الجريح يُتَرجمُ».

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

تمهيد: تشهد الشواطئ العربية والأفريقية والحدود الإقليمية والدولية موجات غير مسبوقة من الهجرة واللّجوء، بعضها اقترب من رحلات الموت، فلا يكاد يمرّ أسبوعٌ أو شهرٌ إلّا ونسمع عن بواخر وحافلات ومهربين وسماسرة وغرق وسجون، ويزداد عدد الضحايا والمعذبين الذين يقطعون بلدانًا وحدودًا ودولًا وقارات للوصول إلى بلد يؤمن لهم "حق اللجوء"، وكلّ ذلك مصحوب برعب وجوع وخوف وهدر للكرامة واختراق للقوانين والأنظمة الوطنية والدولية.

تيار شعبوي جديد

وحتّى وإن بدا موضوع الهجرة واللجوء اليوم ساخنًا، فإنه قديم قِدم البشرية، وأسبابه مختلفة، اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ودينية ونفسية وغيرها؛ لكن ما هو جديد هي حالة الهجرة واللجوء الكثيفة التي شهدها العالم منذ انهيار الكتلة الاشتراكية في أواخر الثمانينيات وإلى اليوم، لاسيّما بانتهاء عهد الحرب الباردة بطورها القديم، وبداية أشكال جديدة منها، حيث اتّخذ الصراع الأيديولوجي مناح أخرى.

وترافقت الموجات الجديدة مع صعود تيار يميني عنصري شعبوي في الغرب، وخصوصًا في البلدان الاشتراكية السابقة، التي تشكّل ممرًا للهجرة غير الشرعية مثل المجر وسلوفينيا وسلوفاكيا والتشيك وبولونيا، والتي ارتقت إلى موجة كره الأجانب في بلدان أوروبية أخرى مثل النمسا وإيطاليا وهولندا وفرنسا، وإلى حدود معيّنة في بريطانيا، فضلًا عن ارتفاع رصيدها في بعض البلدان الاسكندنافية.

الإسلامفوبيا والويستفوبيا

وبالمقابل فثمة تيارات إسلامية أو إسلاموية متعصّبة ومتطرّفة انتعشت في عدد من البلدان الإسلامية والعربية، وقاد ذلك إلى صراع معلن ومستتر، قديم وجديد، خصوصًا بعد أحداث 11 أيلول / سبتمبر العام 2001، حين تم تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك، الأمر الذي عزّز من نزعات الغرب في فرض الهيمنة وإملاء الإرادة، لاسيّما وأن الولايات المتحدة أصبحت القوّة الأولى في العالم دون منازع، وهو ما قاد إلى احتلال أفغانستان في العام 2001، ثم احتلال العراق في العام 2003، تحت عنوان محاربة الإرهاب الدولي والقضاء على تنظيم القاعدة، والأكثر من ذلك تم تصنيف عدد من البلدان باعتبارها بلدان الشر.

وهكذا سادت موجة مرافقة لموجة اللجوء ومضادة له من جانب الأوساط الغربية المتنفذة، قوامها الرهاب من الإسلام "الإسلامفوبيا"، مثلما تقابلها "الويستفوبيا"، أي الرهاب من الغرب باعتبار كل ما يصدر عنه "شر مطلق"، ونسيان أن ما أنجبه اليوم من حضارة وعمران وفنون وآداب وعلوم وتكنولوجيا وجمال ليس ملكه وحده بقدر ما هو ملك البشرية، إلّا أنه المستودع والخازن والمنتج والمصدّر لها.

ولعلّ الأزمة الاقتصادية والمالية التي شهدها العالم في العام 2008 وما بعدها لا تزال آثارها مستمرة، وهي التي كانت أيضاً وراء توجّه بعض البلدان الغربية لوقف الهجرة أو تخفيضها إلى أقل حدٍّ ممكن، بما فيها الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب (2016 – 2020)، الذي قرّر بناء سياج يفصل الولايات المتحدة عن المكسيك، ناهيك عن تقليص معدّلات الهجرة القانونية، ثمّ قراره العنصري بمنع مواطني عدد من البلدان من دخول الولايات المتحدة، وهو قرار ينمُّ عن صعود موجة عنصريّة تتّسم بروح الكراهية.

الهجرة والحق الإنساني

يمكنني القول أن الهجرة هي حق للإنسان لا يمكن وقفه أو منعه، لكنه يمكن تنظيمه وتقنينه بشكل عام، والحيلولة دون استثماره عبر تجار وسماسرة الموت الذين لا يهمهم شيء سوى الحصول على الأرباح على حساب أرواح الضحايا، خصوصًا وأن المهاجرين واللاجئين لأسباب سياسية تمنحهم قواعد القانون الدولي المعاصر والقانون الإنساني الدولي والشُّرعة الدولية لحقوق الإنسان والعديد من المعاهدات والاتفاقات الدوليّة التي وقّعت عليها البلدان الأوروبيّة، ولا سيّما اتفاقية حقوق اللاجئين الدولية العام 1951 وملحقها العام 1967، إضافةً إلى عدد من الاتفاقيات الأوروبية، حقوقاً لا يمكن تجاهلها أو التنكّر لها.

إخفاق سياسات الهجرة

إنّ عدم التنسيق والتعاون واختلاف التوجّهات بين البلدان الأوروبية وصعود التيّار الشعبوي اليميني العنصري، وعدم احترام قواعد القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، هو الذي كان سبباً في إخفاقها من استيعاب الهجرة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية ومن دول العالم الثالث إلى الدول الصناعية المتقدّمة، ناهيك عن مسؤوليات الدول الغنية إزاء الدول الفقيرة، سواء بسبب سياسات الاستعمار القديمة أم السياسات الامبريالية الجديدة ونهب ثروات الشعوب، بحيث ساهمت في نشر بذور التعصّب في تُربة صالحة لولادة ابنه التطرّف، وهذا الأخير إذا ما انتقل من التفكير إلى التنفيذ يصبح عنفاً، وإذا ضرب عشوائيًّا يصير إرهاباً، وإرهاباً دوليًّا إذا كان عابراً للحدود، وهدفه خلق الرعب والفزع وعدم الثقة بالدولة من جانب المجتمع والفرد، إضافة إلى عدم ثقة الدولة بنفسها، في حين أنّ العنف يستهدف الضحيّة بذاتها ولذاتها. ولعلّ الفقر والأُميّة والتخلّف، إضافةً إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وعنصرية وإثنية وفكرية وثقافية ودينيّة وطائفيّة ولُغويّة وسُلاليّة وغيرها من الأسباب التي كانت وراء اختلال التوازن وغياب العدالة، سواء على المستوى المحلّي أم على مستوى العلاقات الدولية.

ولأن اللجوء حق للإنسان وواجب على الدول، ينبغي الالتزام به، ولاسيّما من جانب الدول الموقّعة على الاتفاقية الدولية بخصوص اللاجئين لعام 1951 وملحقها لعام 1967، فإنه في الوقت نفسه واجب على المجتمع الدولي، وخصوصًا الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي لحماية السلم والأمن الدوليين، وبالأخص حين تندلع حروبٌ أو نزاعات مسلّحة وتنهار سلطة القانون وفي ظروف الاحتلال، الأمر الذي يستوجب تدخله الإنساني إيجابيًا، سواء لحماية اللاجئين والمهاجرين الذين اضطّروا إلى مغادرة بلادهم، بالإضافة إلى مسؤوليته في إطفاء بؤر التوتّر وحل النزاعات بالطرق السلمية، وحماية حقوق الإنسان طبقًا للشرعة الدولية وانسجامًا مع اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها، البروتوكول الأول – الخاص بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة؛ والبروتوكول الثاني – الخاص بحماية ضحايا المنازعات المسلحة غير الدولية.

للضرورة أحكام

خاطب وزير العدل والشرطة السويسري الأسبق أرنولد كولر لاجئي كوسوفو الألبان، وهو يستمع إلى المعاناة الإنسانية الفائقة، قائلًا لهم: لو كنا مكانكم، لكنا فررنا نحن أيضًا، ومثل هذه العبارة المسؤولة والواقعية تفسّر التدفّق المفاجئ لملايين اللاجئين على أوروبا خلال العقود الأربعة المنصرمة، والذي تعاظم خلال العقد ونيّف الماضي.

وإذا كانت الهجرة واللجوء حقًا إنسانيًا، فإن الهجرة غير الشرعية ما تزال تسبب أرقًا للدول المستقبِلة، إذْ أن عدم التنسيق والتعاون بيد الدول المصدّرة للجوء والهجرة لأسباب مختلفة وبين الدول المستقبِلة، يؤدي إلى الفوضى في هذا المجال يرافقه أعمال عنف وإرهاب، فضلًا عن تعصّب وتتطرّف، الأمر الذي يقتضي تعاونًا فيما بينها وبين المنظمات الدولية ذات العلاقة، ولعلّ ذلك كان سبب إخفاق استيعات الهجرة من البلدان الفقيرة إلى بلدان الشمال الغنية.

فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون

وكان فرانسيس فوكوياما عشية نهاية القرن المنصرم قد حذّر من تعاظم مشكلة المهاجرين واللاجئين في عالم ما بعد "نهاية التاريخ" الذي ابتدعه في أواخر الثمانينيات، معلنًا ظفر الليبرالية كنظام سياسي واقتصادي على المستوى العالمي، معتبراً مشكلة تدفق اللاجئين من بلدان الجنوب الفقير إلى بلدان الشمال الغنيّ إحدى التحديّات التي تواجه العالم المعاصر.

واستكمل هذه الرؤية صموئيل هنتنغتون الذي اعتبر أن العدو المحتمل والتحدي الأساسي لعالم ما بعد انهيار الأنظمة الشيوعية هو "الإسلام" الذي يشكل خطراً لسيادة الليبرالية على المستوى الكوني، وفقاً لنظريّته "صدام الحضارات وصراع الثقافات" مع تعاظم مشكلة اللاجئين والمهاجرين، لا سيّما موضوع الهُويّة والاندماج وتفرّعاتهما بمعنى الخصوصية الثقافية والقومية والدينية، مقابل الشمولية العالمية التي تمثّل الليبرالية الجديدة على المستوى الكوني.

قد يثير موضوع الهجرة واللجوء إشكاليات حقيقية ومعاناة فعلية، ثقافية واجتماعية ونفسية بالنسبة للمنفي أو اللاجئ أو بالنسبة لمجتمعه الجديد، وخصوصاً للشباب، وإذا دخل الدين عنصراً في الموضوع فإن هناك الكثير من عوامل عدم الاندماج الموضوعية والذاتية قد تدخل على الخط، ويزداد الأمر تعقيداً بالنسبة للمرأة في ظل العقلية الشرقية والأبوية الدينيّة التقليدية التي تظل تفعل فعلها في حياة المهاجرين والمنفيين لوقت طويل، وربّما تتجدد بأشكال وأساليب تزيد من التمسك بها على نحو يبدو كثير الغرابة والتعقيد.

لقد تضخّم ملف الهجرة واللجوء، وأخذ يشمل عشرات الملايين من البشر غالبيتهم الساحقة حسب إحصاءات الأمم المتحدة من البلدان النامية، بما فيها البلدان العربية والإسلامية، لكن الكثير من الإشكاليات والمشاكل ما تزال تعترضه، حيث تتملّص بلدان الجنوب والشمال على حدّ سواء من استحقاقاتها ومسؤولياتها، الأولى فيما يتعلّق بتحقيق التنمية المستدامة التي من شأنها الحدّ من ظاهرة الهجرة واللجوء، لاسيّما باستيعاب الشباب في العمل وتقليص معدّلات البطالة، والقضاء على الأميّة والتخلّف، وتحسين الأوضاع الصحيّة والتعليمية، وتوفير الحدّ الأدنى من العيش الكريم، والثانية تدير الظهر لبلدان الجنوب، متخليّة عن التزاماتها في تحقيق حدّ أدنى من العدالة، ناهيك عن مساعدتها في تحقيق التنمية المنشودة، على الرغم من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، التي تلزمها بذلك.

***

د. عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

منذ سنين طويلة يعيش العراقيون في بيئة ملوثة بشتى صنوف الملوثات البيئية، بما فيها الخطيرة. ويشهد أهل بغداد بان البيئة المتدهورة في العاصمة وأطرافها تفاقمت في العقدين الأخيرين، بدلآ من تحسنها، كما يُفترض. وان ظاهرة إختناق المواطنين بالغازات الضارة والروائح الكريهة، ليست جديدة، ولا هي وليدة اليوم، لكنها بلغت ذروتها في التأزم مع إنتشار وإتساع الرائحة الكبريتية، التي يعزوها خبراء بيئيون إلى أسباب عديدة،وفي مقدمتها انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري في المصافي والمعامل. بيد ان خبراء وزارة البيئة لم  يتفقوا على أسباب محددة. ومما فاقم من الظاهرة أكثر هو عجز الحكومات المتعاقبة عن معالجتها.

الى هذا، أكد تحقيق استقصائي نشره موقع (DARAG) زيادة إجمالي حجم حرق الغاز في العراق بنسبة 50 في المائة خلال الفترة 2012-2022 ليصل 15.8 مليار متر مكعب في السنة، مما سبب في انبعاث 40.8 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون، وأكد بأن الشركات الأجنبية، لا سيما الأوروبية منها، تمارس الحرق في العراق، على رغم أن هذه الشركات ملتزمة بقوانين صارمة في بلادها وتلتزم باللوائح والإجراءات المتعلقة بالاستدامة وفق مبادرة البنك الدولي (ترجمة وإعداد: "طريق الشعب"،3/10/2024).

وكان الناشط البيئي والإعلامي عادل فاخر قد أوضح في تقرير ميداني ان " العراق يعاني منذ سنوات من ارتفاع معدلات التلوث البيئي، ومن تفاقم تبعاته، وتُعدُ العاصمة بغداد من أكثر المحافظات العراقية تسجيلا لنسب التلوث، بعد أن قارب عدد سكانها 9 ملايين نسمة، وهو ما يعزوه مراقبون لغياب التخطيط والعشوائيات، وعدم بناء مدينة إدارية جديدة للتخلص من التلوث الذي بلغ مستويات خطيرة أثرت على صحة الإنسان."..وأضاف :" تشهد مدينة بغداد تلوثا متعدد الأبعاد في التربة والمياه والهواء، مما يؤثر على حياة السكان بشكل عام، ويزيد من معدلات التلوث وانتشار الأمراض كالربو والأمراض السرطانية وغيرها" ("الجزيرة.نت "، 16/12/2022).

وأكد رئيس المركز الستراتيجي لحقوق الانسان فاضل الغراوي ان اهم مصادر لارتفاع انبعاثات ثاني اوكسيد الكاربون في العراق هي قطاعات النفط والكهرباء والنقل حيث تحتل الغازات المصاحبة لحقول النفط المرتبة الاولى بنسبة 450% ("المدى":،28/7/2024).

وأعاد الباحث في الشأن البيئي عبد الجبار الملا التذكير بتقرير دولي، أعده باحثون أمريكيون في "مركز دراسات الحرب في نيويورك" كشف أن الغبار في العراق يحتوي على37 نوعاً من المعادن ذات التأثير الخطير على الحياة والبيئة "" ( "صوت العراق"،19/9/2024).

وأشرنا في حلقة سابقة الى ما أورده الباحث والأعلامي د. صباح ناهي  عن دراسة جديدة أنجزتها مؤخراً أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي من إن "العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي. وشكل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العراق للفترة (2013-2020) ملايين الأطنان" (" Indepemdentعربية"،26/10/ 2024).

الى هذا، إحتل العراق المرتبة الثالثة كأسوأ بلد في العالم في الحفاظ على الطبيعة، بعد حصوله على 43.3 نقطة فقط على مؤشر الحفاظ على الطبيعة لعام 2024. ويأتي ذلك بسبب فشل "أولياء الأمر" في معالجة ظاهرة التغير المناخي، والتصحر، والعوامل الملوثة للبيئة، وحرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط، وانتشار النفايات ورميها في الأنهار، وعدم تنمية الغطاء الخضري، أو تطوير الإنتاج الزراعي، وحماية الحياة البرية والثروة الحيوانية. هذا واعترفت الحكومة بتعرض 7 ملايين عراقي لآثار التدهور البيئي، لكنها أخلفت بوعدها بمعالجة هذه المشكلة التي باتت تهدّد الأمن الغذائي والصحي والمجتمعي ("طريق الشعب"، 31/10/2024).

وحل العراق ضمن الدول الاعلى تعرضا لمخاطر الكوارث الطبيعية في 2024، فمن أصل 193 دولة حل بالمرتبة 63 وبعدد نقاط بلغ 9.24 نقطة مخاطر، ما يجعله ضمن نطاق المخاطر العالية، وهي ثاني مرتبة بعد المخاطر العالية جدا. وعلى الصعيد العربي، جاء العراق بالمرتبة العاشرة بعد كل من اليمن، مصر، ليبيا، سوريا، المغرب، السودان، تونس، الجزائر والسعودي.

ويجمع المؤشر بين عوامل التعرض للكوارث التي تحدث والكثافة السكانية في المناطق المتضررة، بالإضافة إلى قياس مدى الضعف والافتقار إلى القدرة على التكيف، فيما تشمل الكوارث الطبيعية الأعاصير والفيضانات والجفاف والزلازل ("السومرية نيوز"، 11/9/2024).

أما "مؤشر جودة الحياة المرتبطة بتلوث الهواء" لعام 2024، فقد كشف ان اكثر المناطق تلوثا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تقع في العراق، حيث بلغت نسبتها 78% من هذه المناطق. وبحسب تقرير نُشر عن هذا المؤشر، سيبلغ المتوسط السنوي لمستويات التلوث الجزيئي في العراق 32.4 ميكروغرام/ م3، مما يجعله ثاني أكثر البلدان تلوثا في هذه المنطقة.

وحذر المؤشر من ان  السكان في بغداد، عاصمة العراق الأكثر سكاناً في البلاد، سيخسرون 3.5 سنة من متوسط العمر المتوقع. والوضع أسوأ في المناطق الأكثر تلوثا، مثل قضاء المحاويل في محافظة بابل، حيث سيفقد نحو 1.3 مليون نسمة نحو 4.1 سنة من متوسط العمر المتوقع بسبب لتلوث الجزيئي.

وأكد التقرير الخاص بالمؤشر ان " من أسباب تلوث الهواء في العراق هي عوادم المركبات، والمولدات الكهربائية، وحرائق مصافي النفط والغاز، والصراع العسكري المستمر في المنطق".

حيال خطورة الوضع البيئي الراهن في العراق، كرست له صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، إفتتاحيتها في اليوم العالمي للبيئة (الخامس من حزيران) للعام 2024، تضمنت معلومات وافية عن واقع الحال السائد، مبينة ان  "بلادنا في حالة يرثى لها على الصعيد البيئي.  فعناصر الحياة ومصادرها الاساسية من هواء وماء وتربة وغيرها، يسمّمها التلوث واسع النطاق وغير المسبوق ، ويحوّلها الى مصادر للامراض والاوبئة الفتاكة والتشوهات الولادية، والى عوامل اساسية في تردي جودة الحياة وتدهور ظروف العي"..

وأضافت:" تُظهر المعلومات المتداولة ان التلوث ناجم عن انبعاثات عوادم السيارات ومولدات الكهرباء ومحطات الطاقة الكبرى والمنشآت النفطية والمعامل وسواها.وبينت أيضاً عدم معالجة مياه الصرف الصحي والمجاري  ومياه المبازل، والمصانع، والمستشفيات، وعدم طمر او تدوير ومعالجة عشرات آلاف الاطنان من النفايات يوميا، وعدم الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يسببه التجريف المتزايد للاراضي الخضراء وازالة الغطاء النباتي .. ا".

ونبهت الإفتتاحية: " ان التلوث الناجم عن هذه وغيرها من العوامل يتفاقم باضطراد، وان تأثيره يتضاعف بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستويات هطول الامطار وشح المياه، وما يؤدي اليه هذا كله من جفاف وتصحر. لكن الاخطر هنا هو ان هذه التطورات المثيرة لأشد القلق، لا تقابلها اجراءات حكومية مناسبة، توقفها وتبدد مخاطرها"("طريق الشعب"،6/6/2024)..

وتحت عنوان "واقع بيئي متدهور" تضمن التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (4-5 تموز 2024): ان العراق يواجه تحديات بيئية كبرى، فعناصر الحياة ومصادرها الأساسية من هواء وماء وتربة وغيرها، يسمّمها التلوث واسع النطاق وغير المسبوق، ويحوّلها الى مصادر للامراض والاوبئة الفتاكة والتشوهات الولادية، والى عوامل أساسية في تردي جودة الحياة وتدهور ظروف العيش.

وتظهر المعلومات المتداولة ان التلوث الناجم عن انبعاثات عوادم السيارات ومولدات الكهرباء ومحطات الطاقة الكبرى والمنشآت النفطية والمعامل وسواها، وعن عدم معالجة مياه الصرف الصحي والمجاري ومياه المبازل والمصانع والمستشفيات، وعدم طمر او تدوير ومعالجة عشرات آلاف الاطنان من النفايات يوميا، وعدم الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يضاعفه التجريف المتزايد للاراضي الخضراء وازالة الغطاء النباتي. ان التلوث الناجم عن هذه وغيرها من العوامل يتفاقم باضطراد، وان تأثيره يتضاعف بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات هطول الامطار وشح المياه وتدمير الغطاء النباتي والتقليل المتواصل للمساحات الخضراء، وما يؤدي اليه هذا كله من جفاف وتصحر، واجواء متربة ومغبرة.

ومن القضايا المفصلية والأساسية في وقف هذا التدهور البيئي هو تأمين المياه للأغراض المختلفة، خصوصا بعد تمادي الجارتين تركيا وايران في حرمان العراق من حصته العادلة في مياه نهري دجلة والفرات".

وإختتم ان " حزبنا يتابع باهتمام كبير تدهور الواقع البيئي في العراق، ويعتبره من أكبر وأخطر التحديات التي تواجه حاضر بلدنا ومستقبله، وينبغي أن تكون البيئة في صدارة القضايا التي تستدعي اهتمام القوى والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني والأهلي، والحكومة الإتحادية والحكومات المحلية، ولكن ما يثير القلق ان هذا كله لا تقابله اجراءات حكومية مناسبة، تحد منه وتوقف مخاطره.

كما ان وزارة البيئة مهمَلة، فهي وزارة رقابة وبحوث لا وزارة قرار وتنفيذ، مجردة من الصلاحيات عمليا، وتعيش على فتات من التخصيصات المالية لميزانيات الدولة السنوية.

وان الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة مسؤولة عن إيلاء الموضوع البيئي ما يستحقه من اهتمام ودعم عمل مختلف الجهات ذات العلاقة، وان تعطي مؤسسات الدولة على اختلافها مثالا محفزا في هذا السياق. كما انه يتطلب زيادة التخصيصات لوزارة البيئة كي تنهض بدورها ("طريق الشعب"، 20/7 / 2024).

من جهته، أكد رئيس تحرير صحيفة "الصباح"، في افتتاحيتها ليوم 16/10/2024، بعنوان: "نفايات سامة": " لا يوجد في العراق حتى الآن قانونٌ يُعنى بالنفايات وكيفيَّة التعامل معها والحدِّ منها وتقليل أضرارها. وطوال السنوات الماضية كانتْ مدن العراق وضفاف أنهاره وهواؤه عرضةً لما تُلقيه المعامل ـ وأغلبها لا يُقيم وزناً لسلامة البيئةـ من نفايات، فتمتلئ الأنهار بالمخلّفات السامّة والهواء بأبخرةٍ لها مفعول قاتل.

وخلال تلك السنوات كانت المسألة تُثار في الإعلام من دون أنْ تُعطى الاهتمام الواجب، وكانت تتكرَّر في وسائل التواصل الاجتماعي شكاوى المواطنين من رائحة كبريت تملأ هواء بغداد وتسبِّب اختناقات خصوصاً للذين يعانون مشكلات في جهازهم التنفسيّ. إلّا أنَّ الأيام الماضية شهدتْ بلوغ هذه الظاهرة حدّاً لا يمكن السكوت عنه، فقد بلغ تلوّث هواء العاصمة حدوداً قياسيَّة، بدلالة التقارير التي تحدّثتْ عن أنَّ بغداد من خمس مدن هي الأكثر تلوّثاً بالهواء في العالم".

واختتم:" اتخذتْ الحكومة إجراءاتٍ عاجلة في محاولة للحدِّ من هذه الأزمة البيئيَّة التي تهدِّد حياة الملايين من العراقيين، غير أنَّ أيَّ إجراء آنيّ يُتَّخذ هو أقلّ من أنْ يكون حلاً جذرياً ما لم يسنده قانون يُشرّع خصيصاً لهذا الغرض. المدن العراقيَّة تختنق وهي بانتظار قانون وإجراءات حاسمة لتتنفس من جديد ".

وما تزال الجهات الحكومية المعنية بحماية وتحسين البيئة العراقية تطلق الوعود، التي شبع منها العراقيون حد التخمة، والحصيلة لم يُنفذ ولا وعد واحد يخص البيئة طيلة العقدين المنصرمين.

***

*الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي متقاعد،

متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد

 

نواصل عرضنا التحليلي لدحض باقة من الاكتشافات الآثارية المزيفة أو المبالَغ بأهميتها لسلطة الآثار الإسرائيلية والتي تصاعدت أخيراً متساوقةً مع تصاعد حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان على الشعبين الفلسطيني واللبناني وكنا قد استعرضنا جانباً منها في مناسبة سابقة "الأخبار- 8 تشرين الثاني 2024 "وسنتوقف بشكل خاص عند مشروع قانون جديد سيقدم الى الكنيست بهدف إلى الاستيلاء على آثار الضفة الغربية وقبل ذلك نتوقف عند هذين الاكتشافين:
فينيقيون في أورشليم القدس
يخبرنا موقع (geo.fr) الناطق باللغة الإنكليزية باكتشاف قطعة أثرية ذهبية صغيرة، بحجم زر القميص (4 × 4 × 2 مم). وقد رُبط هذا الاكتشاف بعصر الهيكل الأول، فعنوان الخبر يقول: "أقدم قطعة أثرية ذهبية يعود تاريخها إلى عصر الهيكل الأول".
ويضيف المحرر "اليوم، وبفضل اكتشاف جوهرة فينيقية نموذجية في تل أوفل، لدينا أدلة أثرية مقنعة على وجود فينيقي في القدس في القرن العاشر قبل الميلاد". ويوضح ناجتيجال: "لدينا الآن أقوى دليل أثري حتى الآن يؤكد أن الخدم الفينيقيين قد أُرسلوا بالفعل إلى القدس."
أما على صفحة (ARMSTROG) الناطقة باسم (معهد الآثار التوراتية)، فثمة تقرير مصور ومفصل بقلم برنت ناجتيجال. يُفهم منه أن هذا الاكتشاف يتعلق بـ "قلادة ذهبية صغيرة" ويسميها أحيانا "قرطا" وأحيانا أخرى سلَّة أوفل المسبوكة (Ophel Electrum Basket)، وهي حلية صغيرة لا تتجاوز مساحة قاعدتها أربعة مليمترات. يستعيد ناجتيجال في ثلث تقريره ما ورد في التوراة عن العلاقات بين ملك صور حيرام وملك يهوذا داود، وكيف أرسل له خشب الأرز والنجارين وصاغة الذهب...إلخ، وكيف تعلم صُناع داود الصياغة من الفينيقيين، ثم يربط هذه القصص التوراتية بالاكتشاف الجديد من دون أن يقدم لنا دليلاً ملموساً واحداً على صحة وتأريخية هذا الربط أو على فينيقية الحُلية الذهبية الخالية من أية كتابة.
وفي غمرة حماسته للقصة التوراتية يخبرنا المحرر - في زلة لسان - أنه سبق وأن شاهد صورا لنماذج من هذه الحلية الذهبية الفينيقية في كتاب، حيث عُثر على اثنتين منها بمستعمرة فينيقية بقبرص، وكانتا مؤرختين في الفترة الزمنية نفسها، وعلى أخرى في قادس بإسبانيا، وعلى نموذجين منها في المعابد الكنعانية في بيت شان "بيسان" شمال شرقي القدس سنة 1940. وعلى سادسة اكتشفت في حفريات تل الفرح جنوب فلسطين في ثلاثينات القرن الماضي. وهكذا نسف ناجتيجال قصته التوراتية بتقديمه أدلة على وجود هذا النوع من الحُلي الذهبية الفينيقية في عدة أماكن وصلها التجار الكنعانيون الفينيقيون في حوض البحر المتوسط وفي جنوب فلسطين بما يضعف أي علاقة متخَيَّلة لها بالهيكل الأول والملكين حيروم وداود! الأمر، إذن، لا يتعلق باكتشاف تحفة فينيقية فريدة من نوعها بل بحلية شائعة صغيرة عثر على عدة نماذج منها في فلسطين وخارجها، وهذا يعني أن حُلية أوفل ليست دليلا على صحة أو تأريخية أي جزء من أجزاء القصة التوراتية التي يتسلى بسردها محرر التقرير.
إن ناجتيجال ذو خيال خصب بشكل مفرط، لذلك توصل إلى أن هذا الزر الذهبي الصغير كان يحمله خادم فينيقي -أيام كان الخدم لا يجدون ما يأكلونه بسهولة - وأنه أُرْسِلَ ضمن مجموعة من الخدم من "فينيقيا"، إلى بلاط الملك داود في أورشليم القدس وكأن الفينيقيين مخلوقات فضائية قَدِمت من كوكب آخر لا من إقليم مجاور شمالي فلسطين ويتداخل مع الجليل الفلسطيني الأعلى! من الواضح أن ناجتيجال يريد ان يُفهِم قارئه - وبشكل يخلو من خفة لدم - أن هؤلاء الخدم الفينيقيين أرسلوا من قبل الملك حيرام ليعملوا في القصور إمبراطورية عاصمة داود "ذات الألفي نسمة" في القرن الحادي عشر ق.م!
لقد فاق ناجتيجال في تلفيقاته زميله داني دانون، مندوب "إسرائيل" لدى الأمم المتحدة، مطلق الكذبة الآثارية المدوية سنة 2017. حيث عرض الأخير عملة صغيرة من سنة 76 م، كتب عليها "حرية صهيون" كدليل لا يدحض على أن "القدس جزء لا يتجزأ من تاريخ إسرائيل ومن عقيدتها". وقد أيده في مزاعمه جندلمان المتحدث باسم مكتب رئيس حكومته. ولكن الباحث الفلسطيني أحمد الدبش دحض هذه المزاعم دحضا رصيناً حين أكد "إنَّ نسب العملة المعدنية [التي تم سكها في عام 67 بعد الميلاد] إلى اليهود، هو كذب تاريخي، فلم يسجل على العملة اسم السلطة التي قامت بإصدارها، فكيف تسنى لهم نسبتها لليهود؟! ومن المؤكد أن النقود في هذه الفترة كانت رومانية برموز فلسطينية، ولم يكن لليهود أي كيان سياسي أو اقتصادي مستقل في فلسطين آنذاك".
بوابة إسرائيل الأولى عمرها 5500عام
في شهر آب - أغسطس 2023 أعلن في الكيان وعبر عدة مواقع منها (geo.fr) و(i24news)، عن اكشاف خارق جديد لـ "بوابة حجرية عمرها 5500 عام في جنوب إسرائيل في منطقة تسمى تل عيراني "كريات جت" شمال شرقي قطاع غزة. وهي كما يقول الخبر "أقدم بوابة معروفة حتى الآن في المنطقة". لنلقِ نظرة على خلاصة الخبر ثم نعود لتفكيكه وإظهار مدى استخفافه بعقول الناس: "أثناء التنقيب في مدينة تل عراني القديمة، اكتشف الفريق البحثي ممراً عمره 5500 عام، مبنياً من الحجارة والطوب الِّلبن، ما يشير إلى أن التحضر في المنطقة بدأ قبل قرون مما كان يعتقد سابقاً. وقالت إميلي بيشوف، مديرة التنقيب في سلطة الآثار الإسرائيلية: هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها اكتشاف مثل هذه البوابة الكبيرة التي تعود إلى أوائل العصر البرونزي".
هل لاحظتم كيف تحولت البوابة الحجرية الكبيرة إلى ممر، ثم إلى سور، أو حصن؟ والغريب أنها شيء آخر تماما كما يتبين لنا بنظرة واحدة إلى صورة الموقع الآثاري المعني وكما سنوضح.
ويضيف التقرير "اشتهرت منطقة تل عراني بالتوسع الحضري المبكر في إسرائيل، حيث عرفت استقرارا سكانيا تجاوز 37 فدانا في العصر البرونزي المبكر، بدءاً من حوالي 3300 قبل الميلاد، وربما يرجع إلى وقت مبكر أكثر حتى 3500 قبل الميلاد".
في الأسطر الأربعة الأخيرة ثمة سلسلة من الأكاذيب والتلفيقات والأخطاء الفادحة ومن ذلك:
-يتحدث التقرير عن "بوابة إسرائيل" علما أن المتفق عليه بين المتخصصين أنه لا وجود لشيء اسمه "إسرائيل" أو العبرانيين أو بني إسرائيل في العصر البرونزي المبكر (3400 -2900 ق.م) ولا في تلك المنطقة الكنعانية التي استقر فيها "الفلسطة" المهاجرون بعدها، والتي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالمملكتين التوراتيتين المزعومتين يهوذا وإسرائيل الشمالية. وإذا كان محرر الخبر يقصد مملكة إسرائيل الشمالية، فتلك كانت رقعة صغيرة حول مدينة السامرة شمال غربي شكيم الكنعانية "نابلس العربية"، ولم تمتد حتى إلى أورشليم -القدس.
-ووفق التحديد الزمني التوراتي فقد عمَّرت المملكة الشمالية لقرنين تقريباً، بين 928 ق.م. وحتى 722 ق.م، فعن أي إسرائيل يجري الحديث إذن؟ أعن إسرائيل الحالية أم القديمة التوراتية؟ وما علاقة إسرائيل الحالية أو حتى القديمة بالعصر البرونزي المبكر، إذا كان أول ذكر للعبرانيين أو من يحملون اسما قريبا منهم (الخابيرو - العابيرو) ظهر بعد هذا التأريخ بأكثر من ألفي عام وباتفاق علماء الاناسة والآثار استناداً إلى رسائل تل العمارنة التي أفادت أن قبائل الخابيرو قد احتلت مدينة شكيم سنة 1360 ق م وليس قبل 3500 ق.م؟
وتضيف بيشوف: "ما يثير الاهتمام في هذه البوابة هو أنها بنيت جزئياً من طوب اللبن وجزئيا من أحجار متجانسة، وهذه الأحجار أكبر مني وأن العملية تطلبت جلب المواد من مسافة بعيدة، فضلاً عن تصنيع مئات أو آلاف الطوب اللبن. وإن نظام التحصين دليل على التنظيم الاجتماعي الذي يمثل بداية التحضر.
إنَّ مَن يشاهد صورة الموقع المرفقة بالتقرير لا يرى بوابة حجرية ضخمة ولا أسوارا ولا مدينة أو مستوطنة متحضرة؛ ثمة ركام فوضوي من أحجار بعضها ضخم وأخرى صغيرة ومبعثرة. ربما باستثناء بقايا حائط من أحجار مرتبة بشكل بدائي قد لا يزيد طوله على مترين أو ثلاثة. أما كلام الباحث في سلطة الآثار الإسرائيلية باسترناك، وهو يتغزل بهذه الأحجار قائلا: "من المحتمل أن جميع المارة، سواء كانوا تجاراً أو أعداء، الذين أرادوا دخول المدينة، كان عليهم المرور عبر هذه البوابة الرائعة". ويضيف: "لم تدافع البوابة عن المستعمرة فحسب، بل نقلت أيضا رسالة مفادها أن المرء يدخل إلى مستعمرة قوية ومهمة، وكانت منظمة تنظيماً جيداً سياسياً واجتماعياً واقتصاديا"، أما هذا الكلام "السياحي" فمثير للضحك حقا. والأكيد إننا لو سألنا باسترناك عن أية مدينة أو مستعمرة يتحدث، وهل يعرف اسمها وهل لديه دليل على وجودها غير هذه الأحجار لحارَ جوابا!
قانون هليفي للاستيلاء على آثار الضفة
تأريخياً، شعر مؤسسو الكيان والحركة الصهيونية المعاصرة والتي بدأت كحركة مسيحانية "بروتستاندية" عارضتها غالبية يهودية، شعروا بأن مشروعهم يفتقد إلى التوازن والعمق التأريخي المطلوب حتى بعد أن نجحوا بدعم غربي واسع النطاق وأقاموا كيانهم طالما بقيت منطقة الضفة الغربية، والتي ما يزالون يسمونها في خرائطهم ووثائقهم "يهوذا والسامرة"، تحت السيطرة السكانية والإدارية منزوعة السيادة للفلسطينيين. ويبدو أن الصهاينة الدينيين المتشددين المشاركين في التحالف الحاكم يحاولون حسم هذا الأمر عبر مفاقمة الاستيطان في الضفة وشن حملة تهجير، وأخيراً عبر الاستيلاء على القاعدة المادية والعلمية للتراث الحضاري الفلسطيني القديم في الضفة من خلال تشريع قانون جديد.
ففي شهر تموز- يوليو الماضي أعلن عضو الكنيست عن الليكود عميت هليفي أنه حصل على دعم الحكومة لتقديم مشروع قانون يحمل اسمه ويقضي بضم الآثار القديمة في الضفة الغربية قانونياً وفعلياً لسلطة الآثار الإسرائيلية. وبموجب مشروع القانون الجديد فإنَّ السلطات الآثارية الإسرائيلية الرسمية ستعمل في الضفة الغربية مثلما تعمل في أراضي الكيان، وستطبق القانون الاسرائيلي في الضفة الغربية. وهذا يعني أن وزير التراث الإسرائيلي المتطرف -الذي دعا علنا إلى إبادة الفلسطينيين بإلقاء قبلة نووية على غزة - عميحاي إلياهو سيتمكن من ممارسة صلاحياته كوزير في ما يسمونها "إسرائيل الكبرى" أي على جميع الأراضي الفلسطينية!
سيعتبر مشروع القانون المزمع إقراره انجازاً للحملة الكبيرة التي تطلقها جمعيات اليمين في السنوات الاخيرة حول المواقع الأثرية في الضفة الغربية. ولكن صاحب المشروع هليفي لم يتشاور مع الوزير إلياهو، ولا مع سلطة الآثار ولا مع أكاديمية العلوم أو مع مجلس الآثار.
ينطلق رفض أكاديمية العلوم لمشروع القانون من اعتبارات علمية منها "أن الآثار وتراث فلسطين ليست محصورة بالآثار اليهودية إنْ وجدت بل تمتد عميقاً في التاريخ قبل ظهور العبرانيين أو اليهود بآلاف السنوات، وهذه الآثار ليست ملكاً لعرق أو دين معين بل هي ملك للإنسانية جمعاء كسائر الآثار في العالم".
كما عارض مدير عام سلطة الآثار، إيلي ايسكوزيدو المشروع لأسباب إدارية ولأن أحداً لم يتشاور معه، وربما لأنه لا يريد لليكودي هليفي أن ينفرد بهذا "الإنجاز".
أما رئيس مجلس الآثار د. غاي شتيفل، كما كتب نير حسون في هآرتس، فقد كان أكثر وضوحاً وانسجاماً مع رأي بعض العلماء والباحثين الإسرائيليين المهنيين والمنصفين فكتب في رسالته إلى الوزير إلياهو: "بصفتي ممثل اسرائيل في مجلس الآثار الاوروبي فانه يمكنني القول بأن مجرد طرح مشروع القانون، وليس أقل من ذلك إذا تمت المصادقة عليه، سيكون له موجات ارتداد وسيتسبب بأضرار دولية لا يمكن تقديرها".
وأضاف شتيفل "وبدلا من التفاخر بأننا نحافظ على الماضي المجيد لتاريخ هذه البلاد الرائعة، بدءا من فترة ما قبل التاريخ وحتى الآن، فان مشروع القانون الذي يوجد أمامنا يسعى الى تقويض أسس الآثار والتراث التي من المهم التأكيد على أنها لنا جميعنا. الحديث هنا لا يدور فقط عن الآثار اليهودية، كما تم الادعاء، بل يدور عن الجشع لحيازة أشياء تمثل تراث عالمي، متعدد الثقافات، وهي للبشرية كلها".
حسب أقوال شتيفل فإن القانون، سيؤدي إلى إبعاد إسرائيل عن الأبحاث وصناديق الأبحاث الأوروبية وعن العضوية في منظمات مهنية وهيئات تحرير ومجلات وما شابه. وأضاف "إن مشروع القانون سيقوض أسس الآثار والتراث التي من المهم التأكيد على أنها لنا جميعنا. الحديث هنا لا يدور فقط عن الآثار اليهودية، كما تم الادعاء في اقتراح تعديل القانون، بل يدور عن الجشع لأشياء تمثل تراث عالمي، متعدد الثقافات، وهي للبشرية كلها".
أما رد "الوزير النووي" إلياهو على رسالة شتيفل فقد جاء متعجرفا وعنيفا خلاصته أنَّ الرسالة مليئة بالأكاذيب وأن "أرض اسرائيل تعود للشعب اليهودي ولا توجد أي حقوق قومية لأي شعب آخر".
***
علاء اللامي -كاتب عراقي

 

الشعب المصري يشبه "اللافا والحمم البركانية" التي صهرها الزمن وتعاقبت عليها المحن، فصار كالأحجار الكريمة الصلبة الجميلة في جوهرها مهما تراكمت على سطحها أتربة ليست من معدنه الأصيل..
أزمنة هي من عمر هذه الأرض تعاقبت على مصر. وظلت هي وشعبها ونيلها في اتحاد وانسجام وصبر كصبر هذه الأرض نفسها وصلابتها وحنوها. جينات موروثة من قديم الزمن امتصها الإنسان المصري فصارت شخصيته من خارجها صلدة شفافة كالزجاج تبدو للناظرين هشة سريعة الكسر، بينما هي في حقيقتها وباطنها في صلابة الماس وقوته ولمعانه وأصالته تحتمل في ثبات، وتنزع عنها قشرتها الهشة كلما مرَّ بها خطب أو غزاها غازٍ غاشم، وتظل كامنة كمون اللآلئ في محارها تنتظر انفراج الأزمة وانقشاع الغمة، وهنا يظهر المعدن الحقيقي لشعب قهر الزمن، وتحدي الصعاب عهداً بعد عهد، وجيلاً بعد جيل.
شخصية المصري أثارت ذهن هيرودوت فتحدث عنها بانبهار، ورأي أن المصريين أشد تديناً من سائر أهل الأرض! وأنهم أول من حفر الصور والرسوم على الأحجار، وتغزل في نيلها وأدهشته طبيعتها ونسائم جوها المعتدل، ورأي أن ملابس المصريين هي الأنظف والأجمل. وعندما وفد على مصر كل وافد رحالة سرد عنها أعاجيب لا ينفك التاريخ يذكرها ذاهلاً مدهوشاً. فكتب عنها ابن خلدون فصولاً يصفها وصف العاشق المحب، وذكرها المقريزي في خططه وكشف حقيقة صلابة المصري، وأن مداهنته للحكام جاءت نتيجة لقهر قديم، وأنها ممالأة سطحية لا تنم عن طبيعة أصيلة، وأن المصريين في حقيقتهم لهم هِمم وعزائم تطاول الجبال.
تمعَّن جمال حمدان الجغرافي المصري في حقيقة شخصية مصر، ونظر إليها نظرة المتعمق في أصولها وجذورها الباحث في طبقات تكوينها العريق، فلاحظ كيف أنها تجمع بين الأضداد وتوحد بين المتناقضات، ثم تختار الاعتدال. والوسطية فيها أصيلة؛ فهي تتوسط العالَم القديم كأنها رمانة ميزان ثلاث قارات التحمت في هذه البقعة المضمومة بين كفيّ بحرين من أجمل بحار العالم وأعرقها، ويشقها من منتصفها نهر هو الأطول والأجمل والأحلى مذاقاً. ذلك التكوين الجغرافي العبقري الفريد، جعلها لا تشبه أي بلد من بلدان العالَم. واستطاعت جغرافية مصر هزيمة تاريخها، فبقيت مصر، وذهب غزاتها. وابتلعت بطنها هذا التاريخ، لتكشفه بعد آلاف السنين كأنها تحتفظ داخل أرضها بسجلّ الأرض والتاريخ.
هذا التاريخ التليد أبهر كل دارسيه المعاصرين، المصريين منهم والمستشرقين، وحاول كل منهم تفسير حقيقة مصر وجوهرها من دراسته لتاريخها فأعجزته الحيلة، واحتار في أمرها. وراح كل باحث يراها على ضوء دراساته العميقة من زاوية. فكتب ميلاد حنا عما أسماه: "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية". وبحث الدكتور محمد عودة عن جذور هذه الشخصية ووصفها في كتابه " التكيف والمقاومة الجذور الاجتماعية والسياسية للشخصية المصرية", . وراح الدكتور عاطف غيث يدرس القرية المصرية العريقة وصفات الفلاح المصري الذي ورث عن أجداده الثبات والرسوخ.
جلد المصري كأنه رقائق بردي، كل طبقة منها تكشف عن حقبة تاريخية عايشها أجداده.. فالحقبة الفرعونية تداخلت مع عهد البطالمة فالرومانيين. ثم انسلخت حقبة قبطية عانت الاضطهاد فجاء الإسلام منقذاً ودرعاً ضرب قبته الشفافة حول ربوع مصر يحميها من الغادرين.
تشكلت الشخصية المصرية من عناصر، أولها العقيدة. واجتمع الباحثون أن المصري مفطور على الإيمان الراسخ، وأنه آمن منذ القدم بالبعث والحياة الآخرة، فبني الأهرامات ومراكب الشمس تكريساً لاهتمامه بالحياة الآخرة. وعندما لاحظ اليونانيون ارتباط المصريين بعقيدتهم، حاولوا النفاذ إليهم من هذا الباب؛ واحترموا عقائدهم. والمصريون الذين احتضنت أرضهم ألواح موسي وإنجيل عيسى باتوا في عقيدتهم المسيحية كأنهم الفنار الذي أضاء ما حوله؛ فبمجرد وصول رسالة السيد المسيح للإسكندرية أصبحت أحد أهم مراكز انتشار الدين الجديد، ورغم الاضطهاد صبر المصريون وطووا صدورهم على عقيدتهم حتى باتت المسيحية هي الدين الرسمي للبلاد، ثم انتقم المسيحيون لأنفسهم من الوثنيين ورفضوا كل ما ينتمي لليونانيين. ثم ظهرت الرهبانية، وبُنيت الأديرة، واحتفي المسيحيون بقدِّيسيهم وأقاموا الموالد التي باتت طقساً مشتركاً بين المسلمين والمسيحيين كعادة اكتسبوها منذ القدم. ومع الإسلام بدأت فترة جديدة مشرقة من الحرية الدينية. وأما عملية التحول للدين الإسلامي استمرت إلى ما يقرب من ثلاثة قرون لتصبح الغالبية إسلامية ومَن بقي على المسيحية عرف فيما بعد باسم قبطي .
العنصر الثاني للشخصية المصرية مستمد من صلابة أرضها وخلودها، وهو عنصر الرسوخ والثبات والاستمرارية. فالمصري لا ينبذ ماضيه، بل هو يجمع تاريخه بين جوانحه وفى ذاكرته ويعيش به دون انقطاع عن حاضره، القديم والجديد مجتمعان في شخصيته دون تنافر أو تعارض.
عنصر ثالث استمده المصري من هذا النيل الجاري منذ آلاف السنين كأنه نابع من علياء السماء. هو عنصر الحكمة والاعتدال. إن أهم سمة لهذا الشعب أنه وسطي معتدل هادئ ثابت الجنان لا يثور ولا يتمرد، كما لا تفزعه النوائب. وهو لا يحب العنف، ولا يمارسه. إن الطبيعة الزراعية لوادي مصر الخصيب أثمرت عند الفلاح المصري ثباتاً وصبراً وارتباطاً بالماء والأرض، الفلاح الذي واجه الفيضان السنوي وآفات المواسم الفتاكة بصبر، لم يهتم بتعاقب الحكام، لأنهم يذهبون ويبقي هو، وتبقي أرضه وثمارها تحدب على هذا النيل العجوز حدب الوليد على أمه.
الحكم الروماني عندما جاء في أعقاب هزيمة أنطونيو وكليوباترا في معركة إكتيوم عام 31 ق. م. بدأ وثنياً مع " أوكتافيوس أغسطس " وانتهي مسيحياً مع قسطنطين الذي اعتنق المسيحية وأنشأ مدينة القسطنطينية. ومنذ أيام البطالمة كان هناك نظام لإدراج أسماء السكان في قوائم فأدخل الرومان نظام التعداد المنظم الذي كان يجري كل أربعة عشر عاماً واحتفظ الرومان بتقسيم البلاد القديمة إلى أقاليم على رأس كل منها مدير ولو أنهم جردوه من جميع اختصاصاته العسكرية وكان يعاونه كاتب ملكي. واقتطع الرومان للقادة منهم ضِياعاً وأراضي هي الأجود والأكبر، لكنهم ذهبوا وعادت الأرض للمصريين. لقد أقام الرومان حكومة مركزية قوية ذات جهاز إداري واضح المعالم تسندها قوة عسكرية كافية لحفظ الأمن الداخلي ونظام بيروقراطي محكم حافل بالسجلات والأجهزة الرقابية. ومجتمع هرمي الشكل منقسم إلى طبقات ممتازة وطبقات أدني.
خضع المصريون في القرن الأول الميلادي لمبدأ الإلزام الذي أجبرهم على شغل وظائف إدارية لصالح الدولة الرومانية؛ كشيخ القرية ومحصل ضرائبها، وباتت القرية ككل ملزمة بدفع ضرائب أفرادها من الفلاحين. وبدأت الأمية تنتشر بين المصريين وبخاصة النساء، بعد أن كان المصريون على عهد الفراعنة رواداً في مجالات عديدة كالهندسة والطب والقضاء والعمارة والفنون والأدب.
***
د. عبد السلام فاروق

مزاد العملة في البنك المركزي العراقي هو عملية مصرفية يقوم بها البنك الحكومي لبيع الدولار الأمريكي للمصارف وشركات الصيرفة المحلية، الهدف المعلن من هذا المزاد هو تلبية أحتياجات السوق المحلية من العملة الأجنبية والتي تستخدم عادة لتغطية الواردات والمشتريات الأجنبية ودعم الأستقرا ر الأقتصادي.
في هذا المزاد يقوم البنك المركزي ببيع الدولار للبنوك التجارية وشركات الصيرفة التي تشتري الدولار بهدف توزيعهِ على الشركات والأفراد الذين يحتاجون إلى العملة الصعبة لأستيراد البضائع أو تغطية نفقات تجارية.
أن ظاهرة غسيل الأموال Mony Laudering الشائعة اليوم هي رديفة حميمة لظاهرة مزاد بيع العملة في البنك المركزي العراقي والذي هو مؤسسة أقتصادية ومصرفية مهمة للتنمية المستدامة، إن الأصطلاح عصري بديل للأقتصاد الخفي أو الأقتصاديات السوداء أو أقتصاديات الظل والتي تستثمروتشتغل بالأموال (الغير مشروعة) وتخلط حينها بأموال مشروعة لأخفاء مصدرها الممنوع للخروج من المسائلة القانونية بعد تظليل الجهات الأمنية.
علاقة مزاد العملة بغسيل الأموال؟!
تثارحول مزاد العملة أتهامات مرتبطة بغسيل الأموال بسبب بعض المخالفات والتجاوزات التي يمكن أن تحدث في هذه العملية كمثل: أحتمالية أساءة أستخدام الدولار المخصص للأستيراد حيث يتم تقديم وثائق أستيراد وهمية أو تضخيم أسعار السلع المستوردة للحصول على كميات كبيرة من الدولار الأمريكي من المزاد.
من طرق التلاعب المحتملة
- فواتير أستيراد مزورة تقديم وثائق غير صحيحة تدعي أستيراد سلع وهمية بأسعار مبالغ فيها هذا يسمح لبعض الجهات بشراء الدولار من المزاد بسعر مدعوم وتحويله إلى الخارج بدون أن يستخدم لأغراض تجارية حقيقية.
- تهريب العملة بعد شراء الدولار من المزاد يتم تهريبه إلى الخارج بطرق غير شرعية بهدف التربح من فرق السعر أو لدعم عمليات مالية غير قانونية.
- التلاعب بسعر الصرف الرسمي بعض الأطراف قد تستغل الفارق بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق لتحقيق منافع مالية كبيرة عن طريق أعادة بيع الدولار بسعر أعلى بعد الحصول عليه من المزاد بسعر أقل.
تداعيات مزاد بيع العملة وغسيل الأموال على ألأقتصاد العراقي
- يمكن أن تؤدي هذه الممارسات الغير سوية إلى أستنزاف أحتياطي العملة الصعبة في البنك المركزي وبالتالي إلى أضعاف قيمة الدينار العراقي وزيادة التضخم مما يؤثر على الأقتصاد الوطني بشكلٍ سلبي، كما إن غسيل الأموال يؤدي إلى زيادة تدفق الأموال الغير شرعية في النظام المصرفي ما يخلق تحديات إضافية أمام الأجهزة الرقابية.
- يتصدرالعراق لائحة الفساد العالمية، وحسب المؤشر الدولي للدول الأكثر فساداً هي : العراق وفنزويلا وكوريا الشمالية وليبيا والسودان واليمن وأفغانستان وسوريا، وأن هذه المعطيات نُشرتْ من قبل المنظمة الدولية Tronsparency International
- ويعتبر "مزاد العملة الأجنبية" هو تلك الفرية الأمريكية البريمرية للمحتلين طُبقتْ بالتحديد عام 2004 من قبل البنك المركزي العراقي، والذي يعتبر شكلاً جديداً من أشكال الفساد الأقتصادي المرتبط بحبلهِ السري مع عملية غسيل الأموال في العراق، فمزاد العملة في العراق أصبح وسيلة لتهريب الأموال من العراق فقد تمّ هدر 312 مليار دولار من 2004 لحد 2014 وهي من عائدات النفط العراقي الآيل للنفاذ في 2040.
- والذي ضخهُ البنك المركزي العراقي إلى الأسواق وتمّ تحويلهُ ألى الخارج وهو رقم لا يستهان به حين يعاني الأقتصاد العراقي شللا بسبب أستنزاف الحرب الداعشية وأنخفاض سعرالبرميل من النفط الخام والألتجاء إلى الأستدانة من البنوك الدولية ورهن مستقبل الأجيال القادمة بالضمانات السيادية والرضوخ للشروط التعسفية للصندوق الأسود !؟ وهذه واحدة من التداعيات السلبية التي ظهرت على الحياة السياسية والأقتصادية والأجتماعية والثقافية.
- ومما يزيد في الأحباط : أن البنك المركزي يعلن أن (التدقيق) ليس من أختصاصه إنما من أختصاص دائرة الجريمة الأقتصادية التابعة لوزارة الداخلية العراقية.
- التذبذب في سعر الصرف.
- خضوع الأقتصاد العراقي الأحادي لتقلبات ومضاربات الأسوأق المحلية.
- أستنزاف أحتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة وسبائك الذهب الذي يؤثر بدوره في صرف العملة المحلية.
- تراجع أحتياطي البنك المركزي في سنة 2009 ألى 35%.
- فقدان أستقلالية البنك المركزي العراقي.
- نوسع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر السوق.
- البطالة بنسبة 39 % والفقر بنسبة 40%.
- العجز بميزان المدفوعات وثم ألى أنخفاض القدرة الأنتاجية.
- تنامي وأنتشار الفساد والسرقة للمال العام وضعف الروابط الأجتماعية.
- تنامي ظاهرة غسيل الأموال.
ما الحل؟؟؟!!!
للحد من هذه الظاهرة يسعى البنك المركزي العراقي إلى تعزيز الرقابة على مزاد العملة من خلال فرض شروط وضوابط صارمة على عمليات البيع وتدقيق فواتير الأستيراد وأيضاً تعزيز التعاون مع الجهات الأمنية والرقابية للحد من ظاهرة غسيل الأموال والتلاعب بسوق العملة مع هذا وذاك طفت على سطح الأقتصاد العراقي في السنوات الماضية تحديات تكتيكية وأستراتيجية في تدهو (أستدامة) المصادر المالية في العراق منذ سنة 2014 وهي مستمرة حاليا التي تلت الأزمة المالية العالمية وتأثر بها العراق في 2008، وأستمر ظهور العجز في الميزانية العراقية حتى وصل ألى رقم كارثي يتجاوز 111 مليار دولار وخفف الرقم ألى 37 مليار دولار بعد شطب المانحين في نادي باريس لتلك الديون بنسبة 80%، من الضرورة الوطنية في أختيار الجهات الرقابية والتي هي (هيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية ومكاتب المفتشين العموميين) لكي تقف بوجه الفساد بيد أنها تحتاج إلى توفيرالأمن والدعم السياسي لهم.
***
عبد الجبار نوري
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
في تشرين ثاني 2024
...........................
الهوامش والمصادر/
- د-علي مرزا – أستخدام الأحتياطي في غير وظيفته /
- سمير شعبان – جريمة تبييض الأموال 2016 /
- أيمان محمود –الأزمات المالية العالمية.

 

سؤال شك أم سؤال يقين؟

على سبيل التمهيد: هل نستطيع اليوم أن نتحدّث عن نموذج شرق أوسطي حالي في الحياة المشتركة؟ أم أن النموذج الذي نتحدّث عنه هو نموذج الماضي؟ وإذا كان الحديث عن الماضي بغية استشراف المستقبل، فالأمر يتعلّق بالمعنى والدلالة.
والمقصود بالمعنى قبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية في إطار المشترك الإنساني، الذي هو الفضاء الأوسع إنطلاقًا من الشراكة في الوطن والمشاركة في اتخاذ القرار، سواء على مستوى كل بلد أو على المستوى الكوني، فنحن شركاء نعيش على هذا الكوكب، وينبغي أن نكون مشاركين في تقرير مصيره ومستقبله، مثلما نساهم في تقرير مستقبل أوطاننا.
أما الدلالة فهي تنطلق من المعايير الإنسانية كذلك، تلك التي تتجسّد في مفهوم المواطنة في الدولة العصرية، التي تقوم على عناصر أربعة، تمثّل القيم الإنسانية المشتركة وهي، الحريّة والمساواة والعدالة، ولاسيّما العدالة الاجتماعية، وإن بحدّها الأدنى، والشراكة والمشاركة، وغياب هذه العناصر أو أحدها، يؤدي إلى اختلال أو ضعف أو تشويه أو بتر في معادلة المواطنة المتكافئة والمتساوية.
وإذا كان ثمة هويّة جامعة وموحّدة، فإن ثمة هويّات فرعية لا بدّ من الإقرار بحقها في الوجود والتطوّر على قدم المساواة مع الهويّات الأخرى، سواء كانت دينية أم إثنية أم غيرها، وبغضّ النظر عن حجمها وعددها.
العلّة والمعلول
ثمة علاقة بين العلّة والمعلول، والسبب والنتيجة، كما نقول في الفلسفة، فلكلّ علّة معلول، ولكلّ نتيجة سبب أيضًا، وشحّ المساحات المشتركة للمواطنة وأركانها القيمية الإنسانية وعدم الاعتراف بالهويّات الفرعية يؤدي إلى اندلاع صراعات ونزاعات، بعضها يتّخذ طابعًا مسلحًا.
قلق وعدم يقين وأزمة
الحديث عن النموذج ليس حديث طمأنينة بقدر ما هو حديث قلق، وهو سؤال شك وليس سؤال يقين، وبالتالي فهو كلام عن أزمة واستعصاء، خصوصًا في ظلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، التي تواجه مجتمعاتنا الشرق أوسطية بشكل خاص، وتقلّص المساحة المشتركة، سواء على الصعيد الديني أم الطائفي، أم على الصعيد الإثني واللغوي.
وفي منطقتنا نشأت ثلاث أديان أساسية ، ونمت وانتشرت منها، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عَرفت هذه البلاد تاريخيًا نوعًا من التعايش والقبول والتعاون والتسامح، وإن شهدت كذلك صراعات ونزاعات، بعضها كان دمويًا، لكنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في أوروبا بين الطوائف المختلفة، فقد ظلّ الصراع اللوثري - الكاثوليكي مستمرًا نحو 5 قرون، إلى أن تم ّالاتفاق على تسويته في العام 2016 بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة اللوثرية بعد حوار دام نصف قرن تقريبًا، حتى لتبدو أن مقولة 100 عام حوار أفضل من ساعة حرب، تنطبق إلى حدود كبيرة على الصراع اللوثري – الكاثوليكي.
وثمة حروب دامت مئة عام في أوروبا وبعدها حرب الثلاثين عام التي انتهت بتوقيع معاهدة ويستفاليا 1648 والتي تنص على الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (الإمارات) المتفرّقة وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية.
كما يوجد في منطقتنا أربعة أمم أساسية هي الترك والفرس والكرد والعرب، وأمم أخرى لو تمكنت من تحقيق نوع من التفاهم والإستقرار بينها على أساس مبدأ حق تقرير المصير والخصوصية الهويّاتية ووفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، لأمكنها أن تحقق تعاونًا بناءً أقرب إلى التكامل، إضافة إلى تنمية وتطوّر، ولكانت المنطقة أقلّ تأثرًا بالتدخلات الأجنبية، فضلًا عن مناطق نفوذ للقوى المتنفذة في العلاقات الدولية.
وسبق للكاتب أن نظّم عددًا من الفعاليات بخصوص حوار بين مثقفي الأمم الأربعة، إضافة إلى الأمم الأخرى، ويشمل مثل هذا الحوار أتباع الأديان أيضًا من مسيحيين وإزيديين وصابئة مندائيين وغيرهم.
تهجير الكرد الفيليين
الكرد الفيليون فئة من اللور تتوزّع مناطق سكناهم بين العراق وإيران، وظلّت هويّتهم محطّ جدل ونقاش وأخذ ورد من جانب الحكومات المتعاقبة في العراق، وتعرضوا منذ تأسيس الدولة العراقية إلى تمييز في موضوع الجنسية، كما هجّر العديد منهم على فترات مختلفة، وشهدت سنوات الستينيات، من القرن الماضي، عمليات منظمة لتهجيرهم، والتهجير يعني سلب الحق في المواطنة ونزع الجنسية في مخالفة صريحة للقواعد الآمرة في القانون الدولي Jus Cognes وما يسمّى حسن النية في تنفيذ الالتزامات الدولية Pacta Sont Serevenda، وخلافًا للمادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الفقرة الثانية)، التي تنصّ عدم جواز حرمان الشخص من الجنسية حرمانًا تعسفيًا.
والكرد الفيليون هم مجموعة عشائر مسلمة، وقد تعرّض هؤلاء إلى محاولات عديدة لإلغاء هويتّهم القومية (الكردية)، إضافة إلى هويتهم الوطنية، سواء كانت هذه الهويّة عراقية أم إيرانية تبعًا لوجودهم قانونًا، وتعود معاناتهم في العراق إلى تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لاسيّما بصدور القانون رقم 42 لسنة 1924، الذي ميّز بين العراقيين على أساس التبعية العثمانية والتبعية غير العثمانية، فاعتبر الأول عراقيًا أصيلًا، أما الثاني فهو عراقي من الدرجة الثانية، وامتدّ التمييز إلى الممارسات العملية، إضافة إلى القانون، فشمل بعض الوظائف الحكومية العليا، والقبول في الكليات العسكرية والشرطة والعمل الديبلوماسي، وإنْ كان العهد الملكي أكثر تسامحًا، على الرغم من التمييز القانوني، لكن فترة العهود الجمهورية كانت الأشد قسوة بالنسبة لهم، باستثناء الفترة الأولى من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، لكن قضيتهم، حتى في تلك الفترة، لم يتم حلّها، وظلّت إشكالية الجنسية قائمة، بل أصبحت مسألة معتّقة، صارخة ومأسوية فيما بعد.
وفي مطلع العام 1969، هجّرت الحكومة العراقية نحو 12 ألف كردي فيلي، وفي العام 1971، وعلى الرغم من صدور بيان 11 آذار / مارس 1970 بين الحكومة العراقية والحركة الكردية، فقد تمّ تسفير نحو 70 ألف مواطن غالبيتهم الساحقة من الكرد الفيليين، حيث لم تنجح محاولات التوصّل إلى حلول لمشكلتهم التي تتعلّق بالجنسية، علمًا بأن غالبيتهم الساحقة هم وآباؤهم وأجدادهم ولدوا في العراق، وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطنًا سواه.
كان ينبغي إعادة النظر بقانون الجنسية بعد العام 1958، وذلك عقب ثورة 14 تموز/ يوليو، لكن ذلك لم يحصل ولم تتغيّر الأمور، وما جرى هو التخفيف من حدةّ التمييز، ولاسيّما القانوني، حتى وإن كان الكثير منهم قد حصل على الجنسية العراقية.
وإثر توقيع اتفاقية 6 آذار / مارس 1975 بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي كان حينها نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر، وبين محمد رضا بهلوي، شاه إيران السابق، شرعت الحكومة العراقية بتهجير القرى الكردية، وبعضها يقطنها الكرد الفيليين مثل خانقين و مندلي شمالًا وصولًا إلى بدرة وجصّان وزباطية جنوبًا، وبعضهم تم تهجيره إلى جنوب وغرب العراق، وكان الهدف تفتيت التجمعات السكانية وفصل هؤلاء عن إقليم كردستان، ولكن أكبر عملية تهجير حصلت في العام 1980 تمهيدًا للحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، حيث صدر قرار خاص بذلك من مجلس قيادة الثورة.
وكان تهجير الكرد الفيليين إلى إيران بمثابة الخطوة الأولى في الحرب العراقية – الإيرانية، فقد كانوا كبش فداء جماعي، حيث تم تهجير نحو 300 ألف منهم بموجب القرار 666 الصادر عن مجلس قيادة الثورة في 7 أيار / مايو 1980، واستمرّت عملية التهجير طيلة فترة الحرب (1980 – 1988)، كما تم احتجاز ما يُقارب 6 آلاف من أبنائهم بين أعمار تتراوح 16 و 35 كرهائن، ولم يظهر مصير الغالبية الساحقة من هؤلاء.
وقد تمّت مصادرة أموالهم وممتلكاتهم بشكل تعسفي دون وجه حق ودون تعويض ودون مهلة لتصفية أعمالهم أو الاحتفاظ بوثائقهم، علمًا بأن الكثير منهم أدوا الخدمة العسكرية، وحتى هذه الأخيرة لم تكن مجزية لاكتسابهم الجنسية العراقية الأصلية، حيث جرى التشكيك بعراقيتهم، لدرجة اتهامهم بالعمل كطابور خامس للفرس المجوس، وهم حتى تلك اللحظة لم يخدموا في أي جيش أو أي دولة أو حكومة أجنبية.
وقد تعاظمت مشكلتهم في إيران بعد تهجيرهم، بما لها من تبعات قانونية وسياسية واجتماعية ونفسية، حيث جرى التمييز ضدّهم في إيران، باعتبارهم عربًا، وشكك بقسم منهم بأنهم يعملون لصالح النظام الذي هجّرهم، وقد نشرت 14 شهادة عن معاناتهم ومأساة الحرمان من الجنسية في كتابي "من هو العراقي"، (دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2002).
بمثابة خاتمة
دلّت التجربة التاريخية الكونية، أن مشكلة المجموعات الثقافية الدينية والعرقية واللغوية، وإشكالياتها في مجتمعات متعدّدة الثقافات، تتطلّب معالجةً استثنائية لأوضاع استثنائية، بتعزيز مبدأ المواطنة المتساوية والمتكافئة والحيوية، في إطار الوحدة الوطنية، إذْ كان التنكّر للهويّات الفرعية فادحًا والخسارة المادية والمعنوية كبيرة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقمها وتعقيدها، مما ضاعف من استغلال القوى الخارجية لها، بالتغلغل الناعم، وبوسائل مختلفة لخلخلة كيانية المجتمع ووحدته وتعطيل تنميته وتقدّمه، وليس حرصًا على حقوق المجموعات الثقافية.
وقد عانى الكرد من غياب المواطنة المتساوية والمتكافئة، فضلًا عن الاضطهاد المزمن، واستمرّت القضية الكردية في استنزاف الدولة العراقية على مدى عقود من الزمن، الأمر الذي أدّى إلى خسائر فادحة، بشرية ومادية، دفع العراقيون عربًا وكردًا وشعوب المنطقة أثمانًا باهظة، ولو حُلّت القضية الكردية بوقت مبكر، وعلى أساس المواطنة والحق في تقرير المصير، لجنبّت الشرق الأوسط الكثير من الهدر لطاقات وكفاءات وثروات كبيرة.
ولعلّ أمر الأديان وأتباعها سيكون تأثيره كبيرًا جدًا على تطوّر مجتمعاتنا وتنميتها، وذلك بسبب الصراعات الدينية والطائفية التي شهدتها مجتمعاتنا، لاسيّما في الفترة الأخيرة بين الشيعية السياسية والسنية السياسية وانعكاساتها المجتمعية، الأمر الذي بحاجة إلى إعادة النظر بالتشريعات والممارسات العملية، وفقًا لمبادئ المواطنة والشراكة والمشاركة في الوطن، والأمر يشمل المسيحيين والأمازيغيين والإيزيديين والصابئة المندائيين وآخرين، حيث يتم الانتقاص من هويّتهم، والنظر باستخفاف إلى خصوصياتهم، وذلك يتطلّب الأمر إعادة النظر بالمناهج الدراسية لتكريس مبادئ المواطنة المتكافئة، ومنع التمييز لأي سبب كان، بل واتّخاذ إجراءات حاسمة لكي لا يحصل ذلك في المستقبل، ومعالجة الآثار الضارة للفترات السابقة، وذلك من خلال توسيع مساحة الحياة المشتركة والعيش معًا ومكافحة جذور التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، خصوصًا بالتوقف عند جذوره الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها.
***
د. عبد الحسين شعبان

 

شغلت قضية شيعة لبنان، وقصة السياسة الخارجية غير الرسمية الإيرانيّة- تأتي سيرة موسى الصّدر(المختفي: 1978) موضوعها الأول- فصولاً من كتاب آراش رايزنجاد «شيعة إيران وأكراد العراق وشيعة لبنان»، الصَّادر (2018-2019) عن دار «بالجريف ماكميلان»، وبمعلومات منسية، لا نجد حتى التلميح إليها، في ما كُتب مِن قَبل.
وصل الصّدر بيروت حاملاً همَ الطائفة الشيعية بلبنان على كاهله، دون فصلها عن بلادها. تم ذلك بموافقة شاه إيران، وبطلب مراجع الشيعة مثل: حسين البروجردي(ت: 1961) بقمّ، ومحسن الحكيم(ت: 1970) بالنّجف، وسرعان ما أصبح الصّدر محل تقدير زعامات لبنان، وكانت لديه الرغبة في مد علاقات طائفته مع المحيط العربيّ، فاتصل بالملوك والأمراء العرب، كما ظهر في خطبه وتوجيهاته بعيداً عن الطّائفيّة.
لكنَّ الظُّروف حتمت، تشكيل ما عُرف بأفواج المقاومة اللبنانيّة (أمل)، وقبلها تأسيس المجلس الإسلامي الشِّيعي، فجذب عليه العداوة والحسد، مِن قِبل وجهاء شيعة لبنانيين، فإذا كان مدعوماً من قِبل المرجع عبد الحسين شرف الدّين(ت: 1957)، في أن يحل محله لقيادة الشيعة دينياً، ناصبه ولده العداء، ومن هنا بدأت المتاعب تهطل عليه، ومصدرها شاه إيران نفسه.
عندها تخلى الشَّاه عن دعمه لبناء مستشفى، ومرافق خدمية للشيعة، فوضع الصَّدر في موقف محرج مع الطائفة. يومها أخذت السّفارة الإيرانية، تقدمه عدواً للشاه، يعمل مع الثوريين ضده، وبالمقابل أنَّ الثوريين لم يثقوا به، لصلته بالبلاط البهلوي، ولم يقتنع هؤلاء بسحب جوازه الإيرانيّ، وأنه لا يريد أن يكون عميلاً في أجهزة الشَّاه غير الرسمية، ولا عدواً.
عندما وصل الصّدر لبنان (1956)، أول مرة للاستقرار بها، قدم نفسه لبنانيَّاً لا إيرانيَّاً، راجعاً بجوارحه إلى أُصوله بجبل عامل، رافضاً التعاون مع السَّفارة الإيرانيَّة ببيروت، ونقطة جهاز السَّافاك، وحينها مُنح الجنسية اللبنانية والجواز اللبنانيّ، وهذا ما جعله لا يتأثر بسحب جوازه الإيرانيّ.
لم يكن الصَّدر بصف رجال الدين الثوريين، فمِن جانبهم أسقطوا اسمه كرجل دين، بعد زيارته لإيران ومقابلة الشَّاه، بينما كان يتوسط لإطلاق سراح سجناء، من أولئك الثوريين.
لكنَّ هناك مَن كان يفكر به أن يصبح يوماً زعيماً للثورة، بديلاً عن آية الله الخميني(ت: 1989)، لكبر سن الأخير. كان هذا الأمر يُتداول، ولم يكن الصّدر على عِلم به، غير أنَّ المحيطين بالخميني بالنّجف، قد جعلوه عدواً، بعد إرسال برقية التعزية بوفاة محسن الحكيم إلى أبي القاسم الخوئي(ت: 1992)، وليس إلى الخميني، ومعلوم أنّ تعزية الخوئيّ تعني الاعتراف بمرجعية الأخير، بينما كان مصطفى الخميني(ت: 1977)، يريد لأبيه أن يكون مرجعاً دينياً لا سياسياً، فكان يناقشه كثيراً في ولاية الفقيه (فاطمة طباطبائي، ذكرياتي). ظل هذا الشعور قائماً تجاه الصَّدر حتّى اختفائه.
ماذا يعني تأثير الصَّدر لو كان موجوداً عند انطلاق الثورة، وقد اختفى قبلها بشهور؟ قدم رايزنجاد فرضيات للتخلص مِن الصّدر، منها يتعلق بتأثيره المحتمل في الثورة، فهو ليس مع الإطاحة بالشّاه، وهذا لا تريده ليبيا القذافيّ، وبعد كثرة البحث عنه، وجهود الشَّاه نفسه لإنقاذه، واختلاف الوساطات، ومنها ما عُرض على أنور السَّادات، أجاب الأخير: «أُعدم السّيد الصّدر، وأُلقيت جثته في البحر المتوسط»، وعندما أُخبر الشّاه، «جلس على كرسيه لمدة 10 دقائق» صامتاً.
خلال الشُّهور، التي عقبت اختفاء الصّدر، افتضح أمر الحاملين له الضَّغينة، مثل السَّفير الإيراني ببيروت ورئيس نقطة السَفاك. هذا، واختفاء الصّدر، وسقوط الشَّاه، بعد عام، انتهت قصة السّياسة الخارجية الإيرانيّة غير الرسميَّة، وقد حرص الصَّدر ألا يتورط شيعة لبنان بتبعية لغير بلادهم، وإن كان شاه إيران، الذي قدم نفسه قائداً للشيعة، ليبدأ فصل آخر بين إيران وشيعة لبنان.
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

مَرّ اكثر من عام على انطلاق طوفان الأقصى (7 تشرين اول/ اكتوبر 2023)، وخلاله تعرى، ما جرى باثر الطوفان وما بعده، او محصله، من مواقف ووقائع ومعلومات عن مؤسسات ومنظمات وحكومات لها صلة بالامر، او متداخلة بالمجريات، وأحدث في الوقت نفسه متغيرات ووقائع جديدة. وقد سميتها في وقتها طوفانات متوالية ومتوالدة من الطوفان الأساسي، طوفانات الطلبة، والوعد الصادق والغضب الشعبي العالمي والهدهد ومتوالياتها، وفرض الطوفان صورا اخرى لم تحصل قبله. وفي الوقت نفسه سجل الطوفان غضبا وحماسة في الحراك الشعبي، عالميا وعربيا. وفي كل هذه المتغيرات برزت اهمية الوقوف امامها بوعي وتقدير موضوعي واستفادة منها في اغتنام الفرص منها ومواكبتها بما يخدم التقدم والتطور والتغيير، ومواجهة الهجمة الإمبريالية ومخططاتها العدوانية وممارساتها النازفاشية (النازية والفاشية) الجديدة او المتولدة منها، وكسر التحالفات الامبريالية، والصهيونية العالمية، والرجعية العربية، ومن يتخادم مع هذه التحالفات السوداء.
حصل خلال ذلك ايضا ما هو مواز للطوفان، في جبهتنا، ولكن في اطار السلب منه، عند الشعوب العربية وفي حدود الوطن العربي خصوصا وما احاط به، تلخص في نجاح الامبريالية واداتها او قاعدتها العسكرية الاستراتيجية في منطقتنا، في اغتيال القيادات التي عولت عليها الشعوب في اطار الطوفانات المتتالية، واثبات التفوق التقني والامني والتجسس بكل اساليبه وتفرعاته، فقد خسرت الامة العربية والإسلامية قيادات لها، كانت تلعب دورا كبيرا في ادارة الطوفانات، من جهة وحركة التحرر الوطني من جهة اخرى. ابتدات من اغتيال القائد الفلسطيني الشهيد صالح العاروري في الضاحية الجنوبية من بيروت، وما عناه هذا الاسلوب وما قدمه من رسالة تحد، لم يؤخذ الحذر المرجو منها والاعتبار من تمكن العدو وقدرته على الوصول والتنفيذ بدم بارد، ومن ثم استطاع العدو ان يفجر اجهزة البيجر واللاسلكي العائدة لاعضاء في حزب الله او المقربين منه، وادى الى اصابة اكثر من ثلاثة الاف مستخدم لها باصابات مؤلمة متنوعة، وهذه العملية خطيرة واختراق امني صارخ يثير اكثر من سؤال واستفهام واتهام. لحقه اغتيال الزعيم الفلسطيني، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الاسلامية في فلسطين، اسماعيل هنية، في العاصمة طهران، في فترة استشهاد رموز لبنانية في قيادة الجناح العسكري للمقاومة الاسلامية في لبنان، وطليعتها حزب الله، ومن ثم تمكن العدو الطبقي والسياسي والامني للامة والوطن من الوصول الى القيادة المباشرة، الشهيد، القائد الأممي، السيد حسن نصر الله، وتلاه الشهيد السيد هاشم صفي الدين وبعدهما مباشرة جاء استشهاد القائد الفلسطيني، والمنظم لطوفان الأقصى والمتصدي للحرب العدوانية الصهيو غربية على غزة، الشهيد يحيى السنوار، كل هذا سجل نقاطا لصالح العدو وضربات متتالية لمحور المقاومة ضد محور الامبريالية الصهيو غربية، وتعمد بدم الشهداء وكاد يوزع خيبة كبيرة في طبيعة الصراع الدموي الذي يجري اليوم في المنطقة اساسا وفي العالم ضمن ارتداداته العلنية والسرية. رغم ان تلك القيادات لم تترك الساحات فارغة بعدها، بل قد غرست جيلا مواصلا لدورها ومكانتها وموقعها الاستراتيجي في المقاومة والمواجهة والمجابهة، مع اعتراف وادراك للفوارق في الامكانات والمعدات والتقنيات والموازنات، وعلى صعد مختلفة، ولكن منظومة الاعداء تفتقر لما عند محور الممانعة والمقاومة من وعي كبير بمهماته وقناعات ايمانية بمدد وعدد وسبل النصر العقيدي والروح الاستشهادي المميز والدافع المعنوي والقيمي في ثناياه.
جاء طوفان الأقصى ليجدد عدالة القضية الفلسطينية ومظلوميتها ويضعها امام العالم، كما يعيدها الى الوعي العربي والاقليمي، ويفضح بها هشاشة القاعدة العسكرية التي كرست ذاتها كقوة رادعة للامة العربية ومن يتعاون معها، سواء من الامم او الشعوب. كما فضح الرد الوحشي على الطوفان ليس وحشية القاعدة الصهيو امبريالية، الكيان إلاسرائيلي الاحتلالي الاستيطاني التوسعي، وحسب، في الابادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير الجماعي والتخريب والتدمير والهدم والسجن والاعتقال والاسر والاضطهاد والتجويع والحرمان، بل وعرى الحكومات الامبريالية والراسمالية العالمية في ازدواجية المعايير والعنصرية والتناقض في قيمها وقوانينها ودساتيرها وادعاءاتها وخداعها وتضليلها وفشلها في التغطية والتعتيم والتشويش للوقائع والاحداث الدموية الماثلة والمنقولة بوقتها صورة وصوتا في الفضائيات وكل وسائل الإعلام والتواصل الإعلامي والاجتماعي.
ما المطلوب الان؟، بعد كل هذا وبعد مرور تلك الفترة الزمنية والصمود الاسطوري للشعب الفلسطيني في قطاع غزة وباقي فلسطين وجبهات المساندة من حزب الله في لبنان، ومن انصار الله في اليمن ومن الحشد الشعبي في العراق وسورية وفصائل مسلحة اخرى تتوجه بالسياق نفسه وراي عام يسهم في مقاومة العدو الصهيو امبريالي في مختلف المستويات والمجالات، وتتحدى هذه الفصائل بقدراتها اكبر آلة عسكرية حربية عدوانية ومجمعات صناعية ولوبيات لها تاثيرها في القرارات المتداولة في العدوان والحرب القائمة وعالميا، بعد كل هذا يستعيد محور المقاومة بكل فصائله جاهزيته ودوره ومهامه المنوط بها، والتي يقوم بها عمليا.
يوضح الصراع الدموي القائم الان في فلسطين، ابعاد الصراع المحلي والإقليمي والدولي، ويكشف عن تحولات في طبيعة الحرب والعدوان وقوى المجابهة والمقاومة لاشرس مواجهات ومخططات ومصالح دولية وتوجهات تدمير وتخريب المنطقة ومن ياتي بعدها بالتسلسل او بالتقارب الجغراسياسي ويعكس ابعاد الهيمنة والمشاريع الراسمالية والدول الامبريالية التي فضح الطوفان ماهيتها ووسائلها وخداعها الاستراتيجي. وللاسف انعكس هذا الامر سلبا او تفشى ضعفا او غياب وعي في صورة الواقع السياسي والفكري العربي والاسلامي، في اغلب التيارات والاتجاهات والاحزاب والمنظمات وتعبيراتها الطبقية والاجتماعية، وبرز منه الى السطح بشكل كارثي لا يخدم الاهداف والمناهج التي اقتنع بها وانتج الايمان والنضال تحت شعاراتها وبرامجها وحتى رموزها التي وقع في خطيئة تقديسها والابتعاد عن حقيقة التطورات الجارية والمتطلبات الضرورية للتحرر والتنوير. وهو ما يتوجب تحميل المسؤولية عنها ونقدها بموضوعية ووعي ديمقراطي للخروج من تجربتها القاسية والمرة التي ادت إلى الوصول الى هذه المرحلة الحرجة.
يعيد الواقع الحالي التفكير بنظرية تقسيم الشعب والامة العربية الى تشكيلتين او قسمين، ايجابيا وسلبيا، تقدميا ورجعيا، متطورا ومتخلفا، يؤدي نضالا او عمالة، مقاومة ومجابهة او خضوعا واستسلاما، افقيا وعموديا، وتبدو هذه النظرية رغم قسوتها هي واقع الحال، اليوم، وتوشح المشهد السياسي والفكري والاجتماعي، وانكارها لا يغير منها ولا يفيد في ترقيعها، وتظهر في المنظمات الاقليمية والاحزاب السياسية بتياراتها المختلفة والهيئات العامة والنقابات ووسائل الاعلام والإتصال وحتى داخل العائلة الواحدة، او القبول في الفتنة والانشطار والتفتت وترويجها عموما، علنيا او سريا، بوعي وادراك او بجهل وغباء، الامر الذي يطلب من الجميع ومن يهمه الامر اساسا، في القرار والقيادة والمسؤولية والحرص على الوجود في التأريخ مع التقدم والتطور ان ياخذها بجدية ويعمل من اجل اعادة البناء وادراك حقيقة الصراع القائم والمهمات المطلوبة في التحرر الوطني والقومي بروح ثورية علمية تفتح الافاق وتعيد الثقة بالطاقات والإمكانات الكامنة في امتنا ووطننا والحلفاء الذين تعهدوا ذات المنهج والطريق، وتتجاوز المصالح الذاتية والزبائنية الحزبية او الجمود الفكري او التحجر الثقافي، وهنا الوردة، فلنرقص معا.
***
د. كاظم الموسوي

شهد العراق موجة أمطار غزيرة، يمكن القول بأنها " نظفت" أجواءه مؤقتاً من الملوثات الغازية التي خنقت المواطنين في بغداد وأطرافها، خلال الشهرين الأخيرين. لكن الأزمة لم تُحل، ومن جديدد سيتكرر المشهد المقلق- إستيقاظ المواطنين مختنقين من التلوث، وسط انتشار روائح خانقة من الكبريت وغيره، لأن أسباب المشكلة مازالت قائمة، وسيضطر المواطنون من جديد لارتداء الكمامات في محاولة لحماية أنفسهم من الآثار الضارة لهذا التلوث.
والمقلق أكثر هو ان التقارير والتوضيحات الرسمية الصادرة من الجهات تالاسمية المعنية بحماية البيئة لم تحدد المصدر الرئيس للتلوث، لتضع حد له. وبذلك تدلل ،مرة أخرى،على عجزها عن معرفة الأسباب الحقيقية، ناهيكم عن إيجاد الحلول العاجلة والفاعلة، وهو دليل اَخر على مواصلة التخبط وسوء الإدارة البيئية..
وفي هذا السياق، قوبِلَت التصريحات الرسمية المنتناقشة بردود أفعال قوية، مشفوعة بتصاعد إمتعاض وإستنكار المواطنين،الى جانب تندرهم وإستهزاءهم بالتصريحات المتناقضة وغير المقنعة وغير المبنية على دراسة علمية بشأن أسباب تلوث أجواء بغداد وأطرافها بالملوثات الغازية والروائح الكريهة التي يستنشقها المواطنون مجبرين، ومنها نصيحة المتحدث باسم وزارة البيئة لؤي المختار لأهالي بغداد بـ "عدم الخروج للشوارع في اوقات الليل و الفجر، وإغلاق النوافذ حتى لا يتنفسوا روائح كريهه ومزعجة ، لحين التحقق من الأسباب المفصلة بناء على دراسات علمية رصينة ، وإيجاد حلول جذرية "..
رداً على ذلك، تساءل أحد المواطنين:" لماذا لم تجروا الدراسات العلمية الرصينة احد الآن ؟ وما هو شغل مؤسساتكم ولليوم ليس لديها حلول جذرية لمشكلة وخيمة تهدد صحة وحياة المواطنين ؟!!"..
ومن ردود الأفعال الموضوعية الأخرى:
* كتب د. رائد فهمي، سكرتير الحزب الشيوعي العراقي موجزاً المشكلة القائمة بالسطور التالية:" التلوث البيئي في العراق بلغ مستويات الأعلى في العالم، وبات يشكل تهديداً اَنياً للصحة العامة. ما يحصل نتيجة طبيعية للإهمال وللسياسات الضارة للحكومات المتتالية. ان مواجهة الأزمة البيئية بفاعلية تتطلب سياسات وإجراءات وفق أولويات عجز عن تأمينها حكم المحاصصة الذي أضعف الدولة وأشاع الفساد".
* وأوردت أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي في دراسة انتهت منها أخيراً – بحسب الباحث د. صباح ناهي- قولها إن "العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي والذي يمثل ما قيمته 2.5 مليار دولار سنوياً، واستورد من إيران مليار قدم مكعبة من الغاز يومياً لإنتاج الطاقة الكهربائية خلال عام 2020، ولو تم استخدام الغاز الطبيعي الذي يتم حرقة في إنتاج الطاقة الكهربائية لكان أنتج ما يقارب 10 ميغاواط سنوياً وشكل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العراق للفترة (2013-2020) ملايين الأطنان"(" Indepemdentعربية"،26/10/2024)..
ونشرت د.العزاوي مؤشر تلوث الهواء في العراق ليوم 16/10/ 2024، وبلغ 203 ، اي 10 مرات أعلى من الحدود المقبولة للتلوث التي حددتها منظمة الصحة العالمية. وقالت:" ان مشكلة تلوث الهواء في العراق قائمة منذ اكثر من عقدين، حيث ان محطات توليد الطاقة الكهربائية الحرارية الحكومية الكبيرة والمساهمة بالتلوث قديمة، ويستخدم فيها نفط اسود غير مكرر وديزل. وحيث ان نسبة الكبريت في النفط العراقي هو الأعلى بالعالم. وبدلا من تجديد هذه المحطات وصيانتها او تغييرها بمنظومات تعمل على الغاز الطبيعي النظيف أو حتى الكازاويل، و تركيب فلاتر ومرسبات تمنع هذه الانبعاثات للهواء، كما يتم في كل دول العالم ، تتم سرقة التخصيصات المالية من قبل جيوش الفاسدين واللصوص في الوزارات ذات العلاقة ، وتبقى هذه المحطات تنفث غازات مضرة للصحة وتزيد من تبعات الاحتباس الحراري والتصحر في العراق. ومن هذه الملوثات اكاسيد الكبريت، والكاربون، وكبريتيد الهيدروجين، والسخام الهايدروكربوني، الذي هو مسرطن، وغازات اخرى، والتي منها ما يعتبر ساما اذا تم استنشاقه بتراكيز عالية لفترات غير قصيرة ". .
وأكدت: " ان هيئة حماية البيئة في العراق لا تستطيع إغلاق هذه المحطات لان الحاجة الحالية للطاقة الكهربائية للعراق هي بحدود 40 ميكاوات، ولا ينتج منها في العراق أكثر من 25 ميكاوات، نصفها فقط من منظومات قديمة، وباقي المحطات تعمل بالغاز الطبيعي. يضاف لذلك ان كل معامل حرق الطابوق وصناعة الاسمنت تستخدم النفط الاسود، مضافا اليها مشكلة حرق النفايات المنزلية و حتى الالكترونية في مواقع متداخلة مع سكن المواطنين، مثل التي في منطقة معسكر الرشيد، والتي تنبعث منها ابخرة مصنفة سمية وخطرة عالميا. ولذلك هنالك زيادة كبيرة بالوفيات و في الاصابة بالامراض السرطانية في العراق لا تعلن عنها وزارة الصحة، لان العراق اصلا مصنف ضمن اول 10 أسوأ دول بتلوث الهواء في العالم لاكثر من عشر سنوات"
* من جهته، أكد عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية باسم الغرابي: "أن الجهات الحكومية تتحمل المسؤولية الأولى عن التلوث البيئي في العراق، حيث سجلت العاصمة بغداد تلوثا في هوائها بنسبة تصل إلى 70 في المائة.ولم تتخذ الحكومة خطوات فعالة لمعالجة مشكلة التلوث"، موضحًا أن الإحصائيات تشير إلى وجود تلوث في الهواء والماء والتربة دون وجود أية معالجات مناسبة. وأضاف، أن وزارة البيئة تفتقر للإمكانات الفنية والصلاحيات القانونية اللازمة لمواجهة هذا الملف الحرج ("طريق الشعب"،14 /10/2024).
* وأفاد مرصد “العراق الأخضر” المتخصص في شؤون البيئة، بأن معامل الاسفلت والطابوق هي المسبب الرئيس لتلوث الهواء في بغداد.وقال عضو المرصد عمر عبد اللطيف، في حديث صحفي ان تلك المعامل، إضافة إلى رداءة الوقود المستخدم في السيارات والمولدات، هي المصادر الرئيسة لتلوث هواء بغداد. فيما لفت إلى ان مصفى الدورة غير معني بهذا التلوث.
* وكانت لجنة الصحة والبيئة النيابية ووزارة البيئة، قد حددتا أسباب انبعاث رائحة الكبريت في بغداد بأنها ناجمة عن حرق الوقود الثقيل المتمثل بالنفط عالي الكبريت، وعند حرقه يولد غازات سامة ("الصياح"، 20/10/2024).
* وكان المتنبئ الجوّي صادق عطية قد نشر يوم السبت 12/10/ 2024 على حسابه الشخصي بمنصّة "فيس بوك"(نقلآ عن الكاتب لؤي الزبيدي) مقطعًا مصورًا يظهر كمية التلوث في العاصمة بغداد.وكتب ان الدخان الصادر عن مواقع الحرق والطمر هو عبارة عن كورة خاصة بالحرق يستخدمها تجار مواد الصفر والنحاس وكيبلات الكهرباء والوايرات، وهي منتجة لرائحة الكبريت كون بعض المواد الممنوعة هي مواد حربية او أجهزة الكترونية دقيقة وايضا قناني الكلور والزئبق وهو ما يسبب ضررًا كبير على البيئة والانسان.
وأوضح، انه وصله بان مواقع التلوث تقع في نهاية منطقة العبيدي، جهة الرئاسة، شريط سدة ديالى وشطيط، ونفس الدخان جهة العماري والباوية ومعمل الثرمستون، ونفس الدخان جهة الدورة وجسر ديالى والسيدية، فضلا عن مواقع طمر البلديات".
وأكمل،: كل ما في الأمر ان هنالك اتفاق بين تجاره السكراب والمواد المعاد تدويرها وبعض أصحاب الاراضي الكبيرة على استغلال فترة الليل وانعدام الرقابة الامنية والبيئة وايضا طمع أصحاب الاراضي وتاجيرها لأصحاب المواد لغرض استخدام الارض كموقع حرق وتدوير او استخراج المواد لغرض بيعه."
* وأكد عضو مجلس النواب ياسر الحسيني أن "رائحة الكبريت والتلوث الملحوظين في الفترة الأخيرة ناجمان عن مصانع تعمل ليلاً بقضايا الأكسدة ومناطق طمر صحي غير ملائمة"...
هذه الطروحات، وغيرها، أحرجت المسؤولين في وزارة البيئة، بل وأربكتهم. وتلافياً لما حصل أقدمت وزارة البيئة على تصحيح الموقف،،كما يبدو، فأجملت، في مؤتمر صحفي في13/10/ 2024، أسباب المشكلة في احتراق النفط الأسود من محطات توليد الطاقة، ومعامل الاسفلت والطابوق، اضافة الى إضرام النيران في مطامر النفايات غير الصحية في اطراف العاصمة.
وأوضح الوكيل الفني في الوزارة لشؤون البيئة د. جاسم الفلاحي: " يعود ارتفاع مؤشرات تلوث الهواء في مدينة بغداد لبؤر تلوث مرصودة في حدود المحافظة من قبل فرقنا المنتشرة ميدانياً، والمثبتة في التقارير والبلاغات التي تصدر عن هذه الوزارة. وتتمثل البؤر بمحطات توليد طاقة الكهرباء والتي تستخدم الوقود الثقيل ( النفط الأسود) مثل: محطة توليد الكهرباء في الدورة، ومعامل الاسفلت المؤكسد وغير المؤكسد، ومعامل الطابوق المنتشرة في حزام وضواحي بغداد، بالاضافة الى مواقع تراكم النفايات، والمطمر غير الصحي، خصوصا مواقع معسكر الرشيد، والنهروان، والنباعي، والتاجي بالإضافة الى ما تتعرض له من حرق عشوائي وخاصة أثناء الليل". وأشار أيضاً الى "كور الصهر غير القانونية والتي تنتشر بين الأحياء السكنية، والتي يصاحبها انبعاثات غازية ضارة، مع الاخذ بنظر الاعتبار وجود ظهور طقسية في هذه الاثناء والمتمثلة بتغير درجات الحرارة، وتغير اتجاهات الرياح، مع ازدياد معدلات الرطوبة، مع اعتبار تراكم مثل هذه الانبعاثات الضارة والتي تظهر على شكل ضباب أو غيوم تحتوي على ازدياد في تراكيز الغازات الضارة ومنها ثاني اوكسيد الكبريات وغازات الميثان، وغيرها، مع تداعياتها الصحية المتوقعة"..
وسرعان ما إنطلقت من "القطط السمان" مطالبات بنقل مصفى الدورة ومحطة الكهرباء الى خارج أطراف بغداد، الأمر الذي دعا أستاذ الأعلام والباحث في الشأن السياسي د.عالب الدعمي ان يتساءل:" لماذا ازدادت الدعوات بنقل مصفى الدورة ومحطة الكهرباء بالتزامن مع انتشار رائحة الكبريت ؟ " وقال بأنه لا يستبعد ان هذه الرائحة الكبريتية يقف خلفها الفساد لذي يخطط للاستيلاء على ارض مصفى الدورة ومحطة الكهرباء الكائنة على نهر دجلة " ..
وعلق الكاتب سمير داود حنوش: "أخيراً، يبدو أن الجميع إتفق على المسبب الذي ينطبق عليه شعار “رُبَّ ضارة نافعة”، عازين السبب في إرتفاع نسبة التلوث في العاصمة إلى مصفى الدورة في بغداد وبجانبه محطة كهرباء الدورة"..وتساءل: " هل هناك نيّة لإبادة جماعية للعراقيين قد تحدث لهم من خلال الهواء الفاسد الذي يستنشقونه ؟ .. لا أحد يعلم، لكن المؤكد إن الإجراءات الحكومية لا ترتقي لمستوى الأزمة التي تتصاعد يومياً..
***

د. كاظم المقدادي

يري الدكتور يوسف بودن مهندس معماري ومهتم بالفكر الحضاري عند مالك بن نبي وجب أنه علي المجتمع الإسلامي اليوم أن يعرف خصمه تاريخيا ومعرفيا ولا ينبغي ان يحول القرآن إلي تلاوة فقط بل يحول التلاوة إلي سؤال، وأن يعرف الثنائية بين الذات والأخر، هذا الأخر الدي جاء فبادتنا وليس لتحضيرنا وأن لا نحصر المشكلات في المسائل السياسية بل معرفة ما حدث في التاريخ وما يحدث الأن، يعني إعادة قراء التاريخ وكيف نهضت الحضارات وكيف سقطت؟ وهو ما أشار إليه مالك بن نبي في الجزء الثاني من كتابه وجهة العالم الإسلامي.
إن قراءة فكر مالك بن نبي لا يكفي في محاضرة أو ندوة أو حتي ملتقى كونه موسوعة فكرية لا يستطيع أحد منافسته أو الوقوف أمامه ندا للند إلا من وصل إلى مستوي فكره وتأمله وهو يدرس الظواهر ويحللها من منظور عقلي خاصة ما تعلق بالمشكلة الحضارية ومسائل أخرى كالمسالة اليهودية ومشروع العود الأبدي، وقد اعتادت دار النشر ومكتبة الإحسان بمنطقة الأوراس (شرق الجزائر) أن تنظم جلسات فكرية لمناقشة قضايا مختلفة ومتنوعة، تهم الرأي العام لاسيما القضايا والإشكاليات التي هي موضوع الساعة، فكان لها هذه المرة أن تستضيف باحث مهتم بالفكر البنّاوي، هي الإشكالية التي تناولها الدكتور يوسف بودن مهندس معماري واستاذ بجامعة باتنة، وهي قراءة لكتاب "وجهة العالم الإسلامي" في جزئه الثاني للمفكر والفيلسوف مالك بن نبي، الذي سلط الضوء على العود الأبدي "المسألة اليهودية" عند نيتشه وزرادشت، متسائلا عن سبب حضور هذين الفيلسوفين في كتابات مالك بن نبي، وكان مالك بن نبي في الجزء ألأول من الكتاب قد عالج فكرة إنسان ما بعد الموحدين، وحركة النهضة والفوضى التي يعيشها العالم الإسلامي الحديث والعالم الغربي على حد سواء وعواملها الداخلية والخارجية.
في محاضرته وقف يوسف بودن عبر عدة محطات، بدءًا من فكرة التقطيع الزمني الذي مرّ بأربع مراحل حدثت فيها ثورات، وتمدد الجغرافيات وكيف تعرض الإسلام إلى الانكماش ليسوق الحديث عن الحداثة وما بعد الحداثة التي تميزت بالعقلانية والعصرنة، وظهور عصر الأنوار والثورة الفرنسية وهذا المحطات مهدت لعقد المؤتمر الصهيوني في 1897 وكانت من نتائجه ميلاد إسرائيل في 1948، كان هناك إشعاعا كونيا للثقافة العربية لكن رافقتها نوع من الفوضى، وهذه الفوضى أدت بالضرورة إلى انفصال العلم عن الأخلاق، أي السقوط الأخلاقي للغرب والاتجاه نحو المادية.
وقد استعمل المحاضر بعض المفاهيم التي هي بحاجة إلى تبسيط كمفهوم الإستعمار والفتوحات باعتبارهما مفهومان مختلفان، ومفهوم الشّتات في أبعاده العرقية، السياسية، الثقافية والعقائدية الدينية ومفهوم البراديغم عندما قال أن اليهود اليوم يحاولون الخروج من البراديغم والإندماج في المجتمع الغربي من خلال فكرة قتل الاله التي أعلن عنها نينشه، وهي فكرة جربتها النخب اليهودية الأولي ثم المحاولة الثانية في تجسيد الله في المسيح، بالنسبة للعود الأبدي هو الانتقال من الجماعة إلى الدولة ولتحقيق اليهودية مخططها، ساهم اليهودي في تلويث المجتمع المنافس (المسلمون) عن طريق بعض الجماعات كالحشاشين، حتى يصبح اليهودي مركز أوروبا الحديثة ويصبح وحده3 المُنَظِّرُ في الحقول المعرفية، يقول يوسف بودن أن اليهود هم المؤسسين للحداثة وفي الوقت نفسه كانوا ضحاياها، فاضطروا إلى الهجرة لأنهم وجدوا أنفسهم أمام واقع اسمه الدولة الأمة، أراد المخيال اليهودي تحويل الماضي إلى ملحمة وطنية حتى تصبح الهولوكوست دينا يستعمل من أجل الابتزاز مثلما نراه اليوم في المانيا، في نفس الوقت نجد طوفان الأقصى يعيد النظر في ثقافة الإبادة والعنصرية ويفنّد كل الادعاءات مع إبراز بعض الهوامش في العالم.
في المسالة اليهودية توقع مالك بن نبي حرب بين الرأسمالية والإشتراكية، لكنها كانت حربا باردة، اراد مالك بن نبي أن ينبه المسلمين بأن اليهود متواجدون داخل الجماعات بما فيهم اتباع الرأسمالية والإشتراكية، ويستنتج المحاضر من خلال قراءة فكر مالك بن نبي أن الشيوعية تيار يعمل على خدمة اليهود وهذه مفاهيم تسعى في أعماقها خدمة التراث اليهودي ومسار انعتاقهم ومركزيتهم، أما بالنسبة للمسيحية ففي نظر مالك بن نبي انتهت ولم يعد لها وجود ويجب ملء هذا الفراغ الروحي ليس بالهيمنة على العالم بل إنقاذه، أي لإقناع البشرية وليس الانتصار عليها عن طريق التقنية والطاقة وإنتاج نخب تعرف العالم عبر منهجية علمية، وقد ساق يوسف بودن حديث عن المسالة اليهودية لمالك بالنبي الحديث كتاب "الجزائري اليهودية" وهو عنوان وصفه بالمستفز
نقد وتعقيب
كانت هذه محطات وقف عليها الدكتور يوسف بودن وقد فتحت الشهية لدكاترة شاركوا الندوة الفكرية حيث انتقدوا تاريخ ظهور كتاب الجزء الثاني من كتاب وجهة العالم الإسلامي والذي ركز فيه مالك بن نبي عن المسألة اليهودية، وزمن تلقيه (2012) ومنهم الدكتور عمر بوقرورة أستاذ الأدب الجزار بجامعة باتنة في رده علي المحاضر عندما قال أن اليهود اليوم يحاولون الخروج من البراديغم والإندماج في المجتمع الغربي وقال الدكتور عمر بوقرورة أن المسالة اليهودية لا ينبغي أن تطرح في إطارها التاريخي فحسب، بل في إطار استشرافي للوقوف على كيف استولى اليهودي على روح الحضارة الغربية وكيف استسلم الغرب لليهودي، وأصبح اليهودي هو المسيطر على روح الحضارة وهو اليوم يحاول تطويع وتطبيع الحضارة العربية الإسلامية وما تملكه من روح كما طوّع الحضارة الغربية.
كما انتقد الفكرة التي جاء بها يوسف بودن وهي انتقال اليهودي من الديني إلى الثقافي، وقال أن ما حدث هو العكس، أي أن اليهودي انتقل من الثقافي إلى الديني واستغل الثقافي من أجل إعلاء الديني أي السيطرة بالإله، لفشارة وحسب بعض الكتابات فإن اليهود لم يمارسوا التبشير باعتبار أن اليهودية ديانة غير تبشيرية ومغلقة على أهلها، لأنهم يزعمون أن الله اختصهم بها لأنهم شعبه المختار، وهو ما أشار إليه يوسف بودن في قراءته للمسالة اليهودية عند مالك بن نبي، ولعل انتصار اليهودي سببه تفكك العالم الإسلامي وغياب الثقافة الإسلامية، مما جعلهم يتفوقون في جميع الميادين في العلم وفي الصناعة، وما يملكونه من مهارات في الصياغة والجانب المالي والصيرفة ولا زالوا حتي الأن يتوارثون هذه الصفة أو هذه الخاصية كما يستخدمون عنصر المال في السيطرة والهيمنة، ناهيك عن معرفتهم بالكتابة والقراءة عكس العرب في الجزيرة العربية، فيما انتقد أخرون الجامعة الجزائرية وتقاعسها في مناقشة هكذا قضايا وهو ما اشار إليه الصغير باله إطار جامعي ومفتش في قطاع التعليم بأن الجامعة الجزائرية بنخبتها تسوق الانهزامية حيث دعا إلى تحديد المصطلحات والمفاهيم إن كنا نتحدث عن إسرائيل؟ أم نتحدث عن اليهود؟ أم عن الصهاينة؟.
وبالعودة إلى مفهوم العود الأبدي عند اليهود فالمفهوم نفسه يراه البعض في تحول قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، وهذا التحول كان له دور في انتشار الديانات السّامية وبخاصة الديانتان الساميتان الإبراهيميتان التوحيديتان: الموسوية والعيسوية أو اليهودية والنصرانية (المسيحية) في جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام، وكيف ارتبطت اليهودية بمنطقة يثرب ما جعلها مركز جذب للديانة التوحيدية السامية الأولي، بفعل نزوح اليهود من فلسطين إلي منطقة الحجاز وقد نجح ايهود إلي حد ما في تهويد بعض القبائل العربية في منطقة الحجاز وبذلك عرف ما يسمي بـ: يهود نازحين وعرب متهوّدين وصاروا يلقبونهم بيهود يثرب، تبقي مسألة انتهاء المسيحية فهذه المسألة اختلفت حولها الآراء، فهي كانت منتشرة انتشارا واسعا وكان حظها من ذلك أكبر من الموسوية أو اليهودية لعوامل عديدة منها الجغرافية والتاريخية والسياسية، فالأرقام التي ذكرها مالك بن نبي في كتابه أزمة العالم الإسلامي الصفحة 130
ورغم أن الأرقام قديمة، لكنه ذكر أن النصاري يحتلون المرتبة الأولي من حيث العدد (600 مليون)، والبوذية (570 مليون) والبرهمانية (450 ليون، الإسلامية (400 مليون) واليهودية (14 مليون) وهكذا تأتي اليهودية في المرتبة الأخيرة (14 مليون) وهي تعد من "الأقليات" بعد انتهاء المجوسية، يقول مالك بن نبي في الصفحة 131 من نفس الكتاب (أزمة العالم الإسلامي) أن اليهودية لا تعدُّ دينا بأتم معني الكلمة، هي سياسة أو دين عنصري لا يطلب من أحد الدخول فيه، أما الشيوعية فقد بدأت تظهر كدين جديد يلقي لونه الأحمر على خريطة الأفكار وقد اكتسح لونها رقعة كبيرة من الأرض: (الصين وشرق أوروبا والاتحاد السوفياتي إذن لم يبق علي الخريطة كعقيدة إلا الإسلام والشيوعية لكن هذه الأخيرة هي الأن متصدعة وغير مستقرة في الاتحاد السوفياتي.
إن أهم مسألة عالجها مالك بن نبي في كتابه أزمة العالم الإسلامي هي فكرة "التمزق" إذ يقول أن التمزق لم يصب الضمير العلمي، وإنما اصاب ضمير الإنسانية المتهيئ لجميع الانفصالات، المستعد لضروب المنازعات، المشرف على منازل القيامة، ولعل في ضمير الغيب مصيرا محزنا ينتظر هذه الإنسانية، ويتوقع مالك بن نبي ان تعود الإنسانية إلى عهد الكهوف (ص 138) وقد توحي إلينا القنابل الذرية في الغد بفن جديد من فنون العمارة، عمارة الحياة في جوف الأرض، ويومئذ تعيش الإنسانية في أعشاش هائلة تشبه أعشاش القوارض..الخ وهو ما يحدث الأن ونحن نقف على ما يحدث في فلسطين وغزة.
خلاصة القول يقول الدكتور يوسف بودن، وجب على المجتمع الإسلامي اليوم أن يعرف خصمه تاريخيا ومعرفيا ولا ينبغي أن يُحَوّل القرآن إلى تلاوة فقط، بل يحوّل التلاوة إلى سؤال، وأن يعرف الثنائية بين الذات والأخر، هذا الأخر الذي جاء لإبادتنا وليس لتحضيرنا وأن لا نحصر المشكلات في المسائل السياسية بل معرفة ما حدث في التاريخ وما يحدث الأن، يعني إعادة قراء التاريخ وكيف نهضت الحضارات وكيف سقطت ؟ وهو ما أشار إليه مالك بن نبي في كتابه وجهة العالم الإسلامي، كان هذا في رده على سؤالنا إن كان خطاب السّيف الذي تبناه التيار السلفي الجهادي مسؤول عن الأزمة التي يغرق فيها العالم الإسلامي اليوم ؟.
***
علجية عيش بتصرف
.......................
* (في محاضرة ألقاها الدكتور يوسف بودن حول العود الأبدي)

 

في المثقف اليوم