آراء

آراء

الصين والدول العربية تتكاتفان للدفاع عن العدالة والإنصاف الدوليين وبناء مستقبل سلمي

في عام 2025، سيحتفل العالم بالذكرى الثمانين لانتصار الحلفاء على الفاشية، بينما تكون الأمم المتحدة قد صمدت أمام عواصف ثمانين عاماً. أعادت هذه الحرب تشكيل المشهد السياسي للقرن العشرين بالكامل، وأرسيت أسس النظام الدولي الحديث. ومع ذلك، وبعد مرور ثمانية عقود، لا تزال ظلال السياسات الهيمنية والأحادية والصراعات الجيوسياسية تلوح في الأفق، مهددة السلام والاستقرار الذي تحقق بصعوبة. تواجه الصين والدول العربية، باعتبارهما لاعبين رئيسيين في الحرب العالمية الثانية وحارسين ثابتين للنظام الدولي ما بعد الحرب، تحديات متشابهة وتتحملان مسؤولية مشتركة في نهر التاريخ الطويل.

أولا. الذاكرة التاريخية: المساهمة المشتركة للصين والدول العربية في الحرب ضد الفاشية

كانت الصين من أوائل الدول التي وقفت وقاومت العدوان الفاشي خلال الحرب العالمية الثانية. من "حادثة 18 سبتمبر" عام 1931 حتى استسلام اليابان عام 1945، حرب الصين الشاقة التي استمرت 14 عامًا ربطت أكثر من %60 من إجمالي القوات البرية اليابانية. وفقًا للإحصاءات، قُتل أو أُصيب أكثر من 35 مليون عسكري ومدني صيني، مع خسائر اقتصادية مباشرة تجاوزت 600 مليار دولار أمريكي (محسوبة بناءً على قيم العملة لعام 1945). شكلت مقاومة الصين الطويلة حاجزًا منيعًا، حطم تمامًا استراتيجية اليابان الوهمية لـ"النصر السريع"، ووفر لقوات الحلفاء وقتًا لا يقدر بثمن لشن هجوم مضاد على جبهة المحيط الهادئ. تكمن أهمية مقاومة الصين ليس فقط في الدفاع عن أراضيها وكرامتها، ولكن أيضًا في تقديم دعم استراتيجي حاسم للنضال العالمي ضد الفاشية.

لعبت الدول العربية أيضًا دورًا حاسمًا خلال الحرب العالمية الثانية. كانت معركة العلمين في عام 1942 نقطة تحول حاسمة في مسرح العمليات بشمال إفريقيا، حيث قاتل الجيش البريطاني الثامن بشجاعة في مصر وهزم القوات الألمانية الإيطالية، مما أوقف بشكل فعال توسع دول المحور الجنوني في الشرق الأوسط. في الوقت نفسه، كان النضال القومي العربي ضد الاستعمار متشابكًا بشكل وثيق ويعزز بشكل متبادل الحرب العالمية المناهضة للفاشية. على سبيل المثال، ناضلت سوريا ولبنان بنشاط وحسم من أجل الاستقلال الوطني خلال الحرب. وفي عام 1945، نجحا في أن يصبحا عضوين مؤسسين في الأمم المتحدة، وهو حدث بارز يمثل ظهور العالم العربي على الساحة الدولية. وقدمت حركات المقاومة في المنطقة العربية نقاط ارتكاز استراتيجية حاسمة لقوات الحلفاء، حيث قامت بربط جزء من قوات المحور، وشكلت مع دول مثل الصين شبكة عالمية لمكافحة الفاشية.

على الرغم من الفصل الذي فرضته المحيطات الشاسعة خلال الحرب، تنسقت الصين والدول العربية جهودهما الاستراتيجية ودعمتا بعضهما البعض في نضالاتهما الخاصة، وساهمتا معًا في قضية مكافحة الفاشية. أصبحت روح التعاون عبر المناطق هذه ممارسة مبكرة وأساسًا تاريخيًا عميقًا لبناء مجتمع ذي مصير مشترك بين الصين والدول العربية.

ثانياً. النظام ما بعد الحرب: سعي الصين والدول العربية نحو العدالة والإنصاف الدوليين

خلال الحرب الباردة، وقفت الصين والدول العربية جنباً إلى جنب وعملتا معاً بشكل وثيق في النضال ضد الهيمنة. يمثل مؤتمر باندونغ الذي عُقد عام 1955 نموذجاً مشرقاً للتعاون الصيني-العربي. حيث تعاونت الصين مع دول عربية مثل مصر وسوريا للدفاع المشترك عن "المبادئ الخمسة للتعايش السلمي"، والتي رسمت مساراً للوحدة والتعاون بين دول آسيا وأفريقيا ومعارضة الهيمنة. خلال حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962)، لم تقدم الصين الدعم السياسي القوي للجزائر فحسب، بل قدمت أيضاً مساعدات مادية كبيرة. في المقابل، ناصرت الدول العربية الجزائر بقوة على الساحة الدولية. تعاونت الصين والدول العربية معاً لمواجهة القوى الاستعمارية الخارجية والتدخلات الهيمنية، مما شكل نموذجاً حياً لتضامن الدول النامية ضد الهيمنة.

الأمم المتحدة، التي تأسست عام 1945، وفرت منصة حيوية للتعاون بين الصين والدول العربية. وفي إطار الأمم المتحدة، تشكل تدريجياً تعاون وثيق وتفاهم متبادل بين الصين والدول العربية. في عام 1971، خلال التصويت الحاسم حول استعادة الصين لمقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، لم تصوت الدول العربية لصالح الصين فحسب، بل قامت جامعة الدول العربية بتنسيق فعال للمواقف الداخلية، مما وفر دعماً قوياً للصين من خلال الجهود الجماعية. كما دعمت الصين باستمرار المطالب المشروعة للدول العربية في الشؤون الدولية. على سبيل المثال، خلال أزمة قناة السويس عام 1956، وفي مواجهة الإجراءات العسكرية من قبل المملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل، أعلنت الصين موقفها بوضوح ودعمت بحزم الجهود العادلة لمصر للحفاظ على سيادتها الوطنية. وقد عزز هذا البيان معنويات الدول العربية في نضالها ضد التدخل الهيمني الخارجي، وأصبح دعامة دعم مهمة للدول العربية في سعيها للدفاع عن السيادة. كما أظهرت الترجمة الصلابة الراسخة لكل من الصين والدول العربية في دعم بعضهما البعض والدفاع المشترك عن العدالة والإنصاف الدوليين في إطار الأمم المتحدة.

ثالثاً. التحديات الراهنة: العالم تحت ظل الهيمنة واستجابة الصين والدول العربية

في السنوات الأخيرة، تجاوزت بعض الدول القانون الدولي بشكل صارخ، وأساءت استخدام العقوبات، ومارست الولاية القضائية خارج الحدود، مما عرقل بشدة النظام القانوني الدولي. في مواجهة مثل هذه الإجراءات الهيمنية، حافظت الصين والدول العربية دائماً على درجة عالية من الاتساق. في العديد من منتديات الأمم المتحدة، صوتت الصين والدول العربية معاً مراراً ضد العقوبات الأحادية. في 16 يونيو 2025، اعتمدت الدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كبيرة القرار بشأن "اليوم الدولي لمناهضة الإجراءات القسرية الأحادية الجانب"، الذي قدمته "مجموعة أصدقاء ميثاق الأمم المتحدة" بقيادة الصين، والذي يحدد الرابع من ديسمبر من كل عام يوماً عالمياً للعمل ضد العقوبات الأحادية. إن اعتماد هذا القرار يشهد بقوة على تعاون الصين والدول العربية معاً في إطار الأمم المتحدة لبناء جبهة موحدة ضد الهيمنة. تعمل الدول العربية، في إطار جامعة الدول العربية، على تنسيق مواقفها الداخلية بشكل فعال وحث المجتمع الدولي باستمرار على تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة لدفع نضال الشعب الفلسطيني من أجل دولة مستقلة. وفي هذه القضية الأساسية المتعلقة بالسلام والعدالة الإقليمية، تتشارك الصين والدول العربية الموقف نفسه وتعمل بتناغم، سعياً مشتركاً من أجل قضية التحرر الوطني للشعب الفلسطيني.

في رحلة مواجهة التحديات الهيمنية، قدمت الصين سلسلة من المبادرات العالمية التي تتجذر تدريجياً. حققت مبادرة التنمية العالمية (GDI) نتائج كبيرة في الدول العربية، حيث تم تنفيذ أكثر من 50 مشروع تعاون بنجاح حتى الآن. في عام 2024، تم إطلاق "قاعدة ريادة الأعمال للشباب العربي" رسمياً تحت إطار منتدى التعاون الصيني العربي، مما وفر للشباب العربي منصة واسعة لفرص ريادة الأعمال والتنمية؛ كما تم تأسيس "مركز التعاون التكنولوجي الزراعي في شمال إفريقيا" بنجاح، مما ساعد على تعزيز مستويات تقنيات الإنتاج الزراعي في منطقة شمال إفريقيا وتعزيز التنمية الزراعية المستدامة. بتوجيه من مبادرة الأمن العالمية (GSI)، تدعو الصين إلى رؤية أمنية مشتركة وشاملة ومستدامة، مساهمة بالحكمة الصينية في حل النزاعات الإقليمية والحفاظ على السلام العالمي. وفي الوقت نفسه، سعت الدول العربية بنشاط إلى تحقيق الاستقلال الاستراتيجي. في عام 2023، حققت المملكة العربية السعودية وإيران مصالحة تاريخية، مما يمثل علامة فارقة كنجاح نموذجي لدول المنطقة في حل النزاعات بشكل مستقل، ويظهر العزم الراسخ والقدرة القوية للدول العربية في الحفاظ على السلام والاستقرار الإقليمي. بالإضافة إلى ذلك، نفذت الدول العربية بنشاط سياسة "التوجه شرقًا"، معززة باستمرار التعاون مع دول مثل الصين وروسيا، وجعلت صوتها مسموعًا بقوة أكبر على الساحة الدولية.

رابعاً: بناء مستقبل مشترك: التعاون الصيني العربي يعزز بناء مجتمع ذي مستقبل مشترك للبشرية

منذ إنشائه قبل 20 عاماً، حقق منتدى التعاون الصيني العربي نتائج مثمرة، حيث وقع الجانبان أكثر من 100 اتفاقية تعاون شملت مجالات متعددة مثل السياسة والاقتصاد والثقافة. وفي إطار آلية بريكس، أدى انضمام دول عربية مثل مصر والإمارات العربية المتحدة إلى تعزيز تمثيل دول الجنوب على الساحة الاقتصادية والسياسية الدولية بشكل كبير. وفي عام 2025، اعتمدت الأطراف المشاركة في اجتماع التشاور بين وزراء الخارجية ونوابهم/المبعوثين الخاصين لدول بريكس بشأن شؤون الشرق الأوسط بياناً مشتركاً، حيث تم التوصل إلى إجماع واسع حول القضايا الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، بما في ذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وسوريا واليمن. وأصبح التعاون بين الصين والدول العربية على المنصات المتعددة الأطراف أكثر تقارباً، مما أسهم بشكل كبير في جهود إصلاح نظام الحكم العالمي.

يشهد التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين والدول العربية ازدهارًا ويظهر اتجاهًا واعدًا. من 36.7 مليار دولار أمريكي في عام 2004 إلى 430 مليار دولار أمريكي في عام 2023، حقق حجم التجارة بين الصين والدول العربية نموًا قفزيًا. إن التنفيذ المتعمق لمبادرة الحزام والطريق قد حقق زخمًا قويًا للتعاون الاقتصادي بين الصين والدول العربية. وتتقدم مشاريع مثل منطقة التعاون الاقتصادي والتجاري الصينية المصرية في السويس ومنطقة التجمع الصناعي الصينية السعودية في جيزان بثبات، مما يوفر دعمًا قويًا لعملية التصنيع في الدول العربية. وهذا لا يظهر فقط بشكل حيوي الصداقة بين الصين والدول العربية، بل يلعب أيضًا دورًا إيجابيًا في ضمان الأمن الغذائي المحلي وتحسين هيكل الإنتاج والتوزيع الزراعي.

في عام 2024، عُقد "عام الحوار الحضاري بين الصين والدول العربية" بنجاح، حيث شهد سلسلة من الأنشطة النابضة بالحياة التي عززت بشكل كبير التبادل الثقافي والتعلّم المتبادل بين الحضارتين الصينية والعربية. وقد عرض "معرض تبادل حضارات طريق الحرير" الذي نُظم بشكل مشترك قطعًا أثرية تاريخية ثمينة وعروضًا ثقافية متنوعة، مما أعاد تصوير التاريخ المجيد لطريق الحرير القديم الذي ربط بين الحضارتين الصينية والعربية. أما "المجموعة المشتركة لمقالات علماء صينيين وعرب حول مواجهة الهيمنة"، فقد جمعت حكمة علماء من الجانبين، حيث قدمت تحليلًا أكاديميًا متعمقًا لأضرار الهيمنة ووفرت دعمًا نظريًا لتعزيز العدالة والإنصاف العالميين.

في موجة إصلاح الحوكمة العالمية، تعمل الصين والدول العربية معًا. ويسعى الجانبان بنشاط إلى تعزيز إصلاح نظام الحصص في صندوق النقد الدولي، والسعي لزيادة صوت البلدان النامية في النظام المالي الدولي وجعل الحوكمة الاقتصادية العالمية أكثر عدلاً ومعقولية. وفي مواجهة التحدي العالمي المتمثل في تغير المناخ، تدعم الصين بقوة الدول العربية في تطوير صناعات الطاقة الجديدة. ومن خلال الإجراءات الملموسة، تساهم الصين والدول العربية في تحسين نظام الحوكمة العالمية والاستجابة للتحديات العالمية، والعمل معًا لدفع المجتمع البشري نحو مستقبل أكثر استدامة وشمولاً.

قبل ثمانين عامًا، قاتلت الصين والدول العربية جنبًا إلى جنب، مساهمةً بإسهام لا يُنسى في انتصار الحرب العالمية المناهضة للفاشية. وبعد ثمانين عامًا، وفي مواجهة التحديات الجديدة التي يفرضها الهيمنة، يظل الجانبان متحدين وثابتين في الدفاع عن مقاصد ميثاق الأمم المتحدة والعدالة الدولية. بالاستفادة من حكمة التاريخ وصياغة المستقبل عبر التعاون، فإن مجتمع المصير المشترك بين الصين والعرب يزداد حيويةً ونشاطًا. وفي الرحلة العظيمة نحو بناء مجتمع مصير مشترك للبشرية، ستعزز الصين والدول العربية تعاونهما وتتخذ خطوات أكثر حزمًا للمساهمة بجهود أكبر في السلام والتنمية العالميين، معًا في كتابة فصل جديد من المستقبل المشرق للبشرية.

***

تشانغ شين (يسرى)

باحثة مساعدة في قسم دراسات الشرق الأوسط لمعهد الدراسات الإقليمية والدولية بجامعة صن يات سان

شُيد المقال على شخصيتين، مرجع النَّجف الأكبر، في وقته، أبي الحَسن الأَصفهانيّ (توفي 1946)، وخطيب المنبر الحُسينيّ صالح الحليّ (توفي 1940). لفت نظر المرجع أنَّ الخطيب يتلاعب بالعقول، في حكايات تُكرس الجهل، وهم لا يميزون بين صدقها وكذبها.

أما الخطيب فكان يهمه تزاحم الجمهور، وهو المتفوق بالخِطابة، لكنّ بمحتوى هابطٍ، ناهيك عن أنَّه شاعرٌ، وذو صوتٍ شجي، فأخذ بهجاء مَن أصدر فتوى تحريم التّطبير، والجلد بالسّلاسل، ولطم الصّدور، في مواسم عاشوراء. كان أبو الحسن أبرز أصحاب الفتاوى التي مالت للتعقل في المناسبات الدِّينيَّة، بتنزيهها عن دق الطّبول والصّنوج، والخرافات والشّعوذات (الخليليّ، هكذا عرفتهم)، لذا أخذ الحليّ يتناول الفقهاءَ بالهجاء، فاضطر المرجع إلى إِصدار فتوى تُحرم خطابته.

كان الحليّ مِن الشّعبيّة، وأغلب الفقهاء يخشون لسانه، والأصفهاني يَعلم أن هذا قد يؤثر على منزلته، وهو المتصدي للمرجعيّة العليا بالنَّجف، ويحتاج لكثرة المُقلِّدين، لكنه نظر في المصلحة، وفتواه أنهت الحليّ، وتلاعبه بالعقول، ولم يقبل بالوساطات لإلغاء الفتوى بحقِّهِ، بل ظل مصراً عليها، ولم يتراجع عن تحريم التّطبير والجلد بالسّلاسل ولطم الصّدور، وكل ما لا يليق بالمناسبة. ومما يُنسب للحليّ بيتُ هجاءٍ قيل في مرجع الشّام محسن الأمين (توفي 1952)، بسبب توجيه مراسم عاشوراء إلى العقلانيّة، والاكتفاء بالأدب والشّعر: «يا راكباً إما مررتَ بجلقِ/فابصق بوجه أمينها المتزندقِ» (الخليلي، نفسه، أمالي السّيد طالب الرّفاعيّ)، وهو بيت مشهور داخل النَّجف.

وعن مداراة الفقهاء لمزاج العوام، يمتنع البعض عن «المجاهرة بالحقِّ»، بذريعة دع النّاس في غفلاتهم. وفي هذا الجانب الذي تخطاه الأصفهانيّ بجرأة غير مسبوقةٍ وغير متبوعةٍ، مما نراه اليوم مِن تمادٍ وطغيان للخرافة والشّعوذة، في أداء الطُّقوس، يقول العلامة هبة الدّين الشّهرستاني (منشئ مجلة «العلم» النَّجفيَّة 1910 - 1912)، وهو أحد الفقهاء الجريئين: «أما في القرون الأخيرة، فالسَّيطرة أصحبت للرأي العام على رأي الأعلام.. فصار العالم والفقيه يتكلم مِن خوفهِ بين الطلاب، غير ما يتلطف به بين العوام» («العِلم» 23/11/1911). وما فعله هبة الدّين (توفي 1967)، أنْ حول مجلسَهُ في ذكرى عاشوراء إلى الأدب والخطابة، بعيداً عن الغلو والتَّظاهر في الطُّرقات، مِن قِبل المنتفعين، مِن أصحاب المواكب (الخاقاني، شعراء الغري). غير أنَّ موقف أبي الحسن الصّلب، في مواجهة الخرافة، تدعمه سلسلة مِن المواقف، فقد امتنع عن تكفير معروف الرُّصافيّ (توفي 1945)، عندما أفتى بتكفيره آخرون، وقد طُلب منه ذلك، لأنْه قال بـ «وحدة الوجود»، فكان جوابه: «هذا قيل مِن قبل، ولم يُكَفر عليه». وله القول بطهارة الإنسان بغض النّظر عن دينه، بينما رسائل فقهية ملأى بتنجيس الإنسان لدينه. كما أفتى باعتبار رؤية هلال رمضان وشوال لكلّ بلد، لا تؤخذ على وحدة مذهب أو لاعتبارات السياسة، إلا هلال ذي الحجَّة فالمعتمد إعلان مكَّةَ. كذلك عمل أبو الحسن، وهو المرجع الأعلى، على إيقاف انتقال الفلاحين مِن العشائر الشِّيعية إلى سامراء، بعد شراء الأراضي الزّراعيّة هناك، مراعاةً للأمر الواقع، فهي مدينة سُنيَّة، وسدانة مرقدها سُنيَّة منذ مئات السِّنين، وهناك مَن اعتبر ذلك مؤامرة (الطَّريحيّ، أبو الحسن الأصفهاني، مجلة «الموسم»)، ولا أراه كذلك، بل كان مِن أجل السّلم المجتمعي. نعود إلى بيت القصيد، إذا حاول أبو الحسن وقف التَّلاعب بعقول النّاس، كم يكون الموقف اليوم ضروريَّاً، حيث تزايد المتلاعبون، وهم يدفعون المجتمع إلى القاع، ولم يُتصدَ لهم بفتوى واضحة، مثل الحَزم الذي تصدى به الأصفهاني، والشهرستاني، والأمين، مع أنَّ وقتنا هو الأحوج. فإذا كانت المغالاة تذاع في مجلس محدد، فاليوم يسمعها ويستنشق زفيرها الملايين، فعلام الخشية مِن هذه الأصوات، وآخر الأداء شتم مدن بتاريخها وحاضرها مثل الكوفة. لذا لا بد مِن موقفٍ واضحٍ يحد مِن تلاعب ذرية الحليّ وأمثاله مِن المتلاعبين بالعقول، لوقف خطابهم الطائفي الذي ينخر البلاد ويؤذي العباد.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

لا يزال الفكر العربي الإسلامي، في كثير من تجلياته، يراوح بين سطوة الماضي وضرورات الحاضر، بين سلطان الغيب وإلحاح العقل، بين الأسطورة التي تريح الضمير والواقع الذي يفترض اليقظة. وهو في هذا التردد يخسر نفسه قبل أن يخسر قضيته، ويهزم روحيًّا قبل أن يهزم ماديًّا. فما بالنا نرى هذا الفكر، كلما اشتدت به الأزمات، التفت إلى الغيبيات يستمد منها العزاء، بينما خصومه يلتفتون إلى العلم ليستمدوا منه القوة؟

لقد صدق من قال إن التاريخ لا يرحم، فهو لا يحابي من ينام على أحلام اليقظة، ولا يكرم من يرفع راية الغيب في معركة تحتاج إلى سلاح العقل. أترى الإمام المنتظر (ع ج) سيخرج لنا من تحت هذه القبة الحمراء، أو من وراء تلك الصخرة المقدسة، ليحارب عنا بدلًا من أن نحارب بأنفسنا؟ وهل يعقل أن نترك مصائرنا لأساطير نؤمن بها، بينما خصومنا يبنون مصائرهم بمختبرات الذرة وخوارزميات الذكاء الاصطناعي؟

إن الفكر الصهيوني، بكل تشعباته الدينية والسياسية، يقدم لنا درسًا مريرًا في كيف تُحوَّل الأساطير إلى قوة مادية. فهم يرفعون شعارات توراتية مثل "أرض الميعاد" و"الشعب المختار"، لكنهم لا يتركونها حبيسة الكتب المقدسة، بل يطوعونها بمطرقة العلم وسندان التكنولوجيا. فها هم يحولون الصحراء إلى جنات خضراء، والخرافة إلى سياسة دولية، والكلمات القديمة إلى صواريخ عابرة للقارات.

أما نحن، فما زلنا نردد: "سيفعل الإمام كذا"، "سيأتي المهدي حين يشاء"، "إن الله سينصرنا"، وكأن النصر سينزل علينا من السماء بغير جهد منا، أو كأن الغيب سيحارب عنا بدلًا من أن نحارب بالعلم والمنطق. أليس من العار أن نرى أعداءنا يستثمرون كل لحظة في بناء المستقبل، بينما نحن نستثمر أوقاتنا في انتظار المعجزات؟

لست هنا أدعو إلى القطيعة مع التراث أو التخلي عن الإيمان، ولكنني أدعو إلى أن نضع كل شيء في موضعه. فالإيمان روح تبعث فينا القوة، لكنه لا يغني عن العقل الذي يخطط، ولا عن العلم الذي يبني. والغيب قد يكون ملاذًا للقلوب المضطربة، لكنه لا يكون خطةً للعقول الحائرة.

إن الأمم التي تريد الحياة لا تعيش على هامش التاريخ، منتظرة من يكتب لها نصرًا لم تسع إليه. والأفكار التي تريد البقاء لا تتوارى خلف الغيبيات كلما هبت رياح التحدي. فليكن إيماننا حافزًا لا عائقًا، وليكن تراثنا إرثًا نبنى عليه لا سجنًا نحبس أنفسنا فيه. فهل نفيق من سباتنا قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه الصحوة؟

ما أقسى أن تكون الهزيمة مرة في مذاقها، ولكن الأقسى منها أن تحلى بشراب الوهم، فيصبح الهروب إلى الخيالِ بديلًا عن المواجهة، والاستسلام للخرافة عوضًا عن التحرير. فالفكر العربي الإسلامي، في كثير من تجلياته، يعلن هزيمته يوم يلجأ إلى الغيبيات لتعويض عجزه عن الفعل، ويوم يختزل التاريخ في انتظار منقذ أسطوري، بينما يصنع الآخرون تاريخهم بأنفسهم.

لقد صدق الشاعر حين قال: "وما نيل المطالب بالتمني ... ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا". فها هي إسرائيل، بكل ما تحمله من أساطير توراتية، لا تكتفي بتلاوة نصوصها المقدسة، بل تحولها إلى وقائع ملموسة: فـ"أرض الميعاد" تستخرج من الصحراء بالري الذكي، و"الشعب المختار" يثبت تفوقه بالعلوم لا بالادعاءات. أما نحن، فما زلنا نردد كالمسحورين: "الغرباء سينتصرون"، "الظهور قريب"، وكأننا نستعير نصرًا لم نُعدّ له عدته!

لأنهم يفصلون بين "الإيمان" و"العمل"، بين "الروحي" و"المادي". فهم يؤمنون بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أما نحن فنتصور أن التغيير يأتي بالدعاء وحده! لقد حوّل الصهاينة أساطيرهم إلى مشاريعَ سياسية وعسكرية واقتصادية، بينما حولنا نحن حقائقنا إلى أوهام. هم يقرأون التوراة ثم يخترعون طائرات "الستيلث"، ونحن نقرأ القرآن ثم ننتظر المهدي ليُصلح لنا أمرنا!

أليس من التناقض العجيب أن نرفض "الخرافة الصهيونية" بحق، ثم نعتنق خرافاتنا بحماسٍ أعمى؟ أليس من العار أن ندرك زيف "شعب الله المختار"، ثم نعتقد أننا "خير أمة أخرجت للناس" دون جهد يثبت هذه الخيرية؟

الغيب: ملاذ أم مأزق؟

لا غنى للإنسان عن الغيب، فهو يعطي الحياة معنى، ويضفي على الوجود روحًا. لكن الغيب يصبح نقمة حين يتحول إلى عكاز نعجز عن المشي بدونه، أو إلى سجن لفكرنا. فما الفرق بين من يقول: "سيدمر الله إسرائيل بصاعقة"، وبين من يقول: "سيأتي المسيح ليقضي على الأشرار"؟ كلاهما يبرر الكسل، وكلاهما يُؤجل المواجهة.

لقد حول الغرب المسيحية – ذات الخلفية الغيبية العميقة – إلى قيم إنسانية وعلمانية تخدم الحياة، بينما ما زلنا نحن نتعامل مع الإسلام كأسطورة مقدسة لا كمنهج حياة. حتى العلم عندنا يصبح "فرض كفاية"، بينما الجدل حول "حلق اللحية" يصبح "فرض عين"!

كيف نحرر الفكر من سطوة الوهم؟

1. بفصل الدين عن السياسة: ليس بمعنى إقصاء الدين، بل بمنع توظيفه لخدمة الهزيمة. فالدين يجب أن يكون مصدر إلهام لا بديلًا عن العقل.

2. بتبني العقلانية النقدية: فليس كل قديم مقدسًا، وليس كل حديثٍ مُنكرًا.

3. باستعادة الثقة بالعلم: فالأمة التي لا تنتج علمًا، تستهلك حتى دينها بجهل.

4. بمواجهة الذات قبل الآخر: فعدونا الحقيقي ليس الصهيونية وحدها، بل ثقافة الهروب من المسئولية.

انتظار المعجزة هو بداية النهاية

إن الأمم التي تنتظر منقذًا من السماء، تعلن – دون أن تدرك – أنها قد استسلمت للأرض. فالمهدي لن يأتي لشعبٍ لا يستحق النصر، والله لا ينصر أمة لا تنصر نفسها. فهل نستفيق قبل أن يصبح انتظارنا ضربًا من العبث، وقبل أن تتحول غيبياتنا إلى نكتة يرويها الأعداء؟

"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"  لكننا للأسف نريد أن يغير الله ما بنا، دون أن نغير ما بأنفسنا!

***

د. عبد السلام فاروق

اتسم العصر الإمبريالي في الشرق الأوسط بمجموعة من الملامح الرئيسية التي أثرت بشكل عميق على المنطقة، التجزئة السياسية والحدود المصطنعة كانت من أبرز ملامح هذا العصر، ان انهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وما تلاه من تقسيم للمنطقة بموجب اتفاقيات سرية مثل اتفاقية (سايكس-بيكو) أدت إلى رسم حدود جديدة لا تعكس الواقع التاريخي أو الديموغرافي للمنطقة، مما أدى إلى ظهور دول جديدة. خلقت هذه الحدود المصطنعة توترات وصراعات إقليمية ودولية مستمرة حتى اليوم، بسبب تجاهلها للروابط العرقية والدينية والمجتمعية. شكل اكتشاف النفط في المنطقة حافزاً رئيسياً للأطماع الإمبريالية. كما سعت القوى الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا، ومن ثم الولايات المتحدة، إلى للسيطرة على موارد النفط والغاز لضمان مصالحها الاقتصادية السعي وتحويل الاقتصادات المحلية إلى مجرد مصدر للمواد الخام وسوق للمنتجات المصنعة، مما أدى إلى إضعاف الصناعات المحلية وخلق حالة من التبعية.

الخطوة الاستعمارية التالية

عملت القوى الاستعمارية على دعم وتثبيت أنظمة حكم محلية تكون موالية لها تخدم مصالحها، مما أدى إلى إضعاف الحركات الوطنية التحررية، كما قامت القوى الاستعمارية بتعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية لتسهيل السيطرة على المجتمعات المحلية، وخلق حالة من عدم الاستقرار. على سبيل المثال تم بناء النظام السياسي في لبنان على أساس طائفي من قبل الاستعمار الفرنسي، كما قامت القوى الإمبريالية بتعميق وجودها من خلال وفرض لغاتها وثقافاتها وأنظمتها التعليمية تغيير المناهج التعليمية الاستعمارية، وتكوين طبقة من النخب المحلية الموالية للقوى الاستعمارية. رغم ذلك ظهرت حركات مقاومة للاستعمار متنوعة، سواء كانت مسلحة أو سياسية أو ثقافية، سعت إلى التخلص من الاستعمار، بالتالي يمكن القول إن العصر الإمبريالي في الشرق الأوسط تميز بتفكيك الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم المنطقة، والسيطرة على مواردها، وتثبيت أنظمة موالية، وإضعاف الهوية المحلية، مما أدى إلى خلق صراعات مستمرة وصعوبات طويلة الأمد تواجهها المنطقة حتى يومنا هذا.

استراتيجيات العمل الاستعماري

الاستعماراستند إلى استراتيجيات وتخطيطات اقتصادية طويلة الأمد من قبل القوى الأوروبية، ثم الولايات المتحدة، لتحقيق أهداف محددة، بدأت جهود الاستعمار في المنطقة قبل انهيار الدولة العثمانية بوقت طويل، من خلال إضعافها اقتصادياً عبر اتفاقيات تجارية مجحفة مثل "الاتفاقية التجارية الأنجلو-تركية" عام 1838، التي فرضت على الدولة العثمانية إلغاء التعريفات الجمركية، مما أدى إلى انهيار صناعاتها المحلية وجعلها تعتمد على البضائع الأوروبية، تُعد اتفاقية سايكس-بيكو (1916) خير دليل على التخطيط الممنهج. فقد كانت اتفاقية سرية بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم مناطق النفوذ العثمانية قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى خلق حدود مصطنعة تخدم المصالح الاستعمارية وتمنع قيام كيانات عربية موحدة قوية، تمحورت الأهداف الاستعمارية حول السيطرة على النفط، حيث كان يُنظر إليه كأهم عامل استراتيجي. كانت سياسات الدول الغربية تهدف إلى تأمين وصولها إلى منابع النفط في المنطقة، وهو ما يتضح من دعمها لأنظمة حكم موالية لها، وتدخلاتها العسكرية. الطائفية لم تكن مجرد نتيجة عرضية للاستعمار، بل كانت أداة ممنهجة استخدمتها القوى الاستعمارية لتحقيق أهدافها في الهيمنة والسيطرة على المنطقة، تؤكد المصادر التاريخية أن الطائفية، التي كانت أداة استعمارية، امتدت بالفعل لتشمل الأيديولوجيات التي تدعي الثورية.  في بعض الصراعات الإقليمية، استغلت قوى إقليمية ودولية الصراعات الطائفية لتوسيع نفوذها. فمثلاً، استخدمت بعض القوى الطائفية خطاب المقاومة ضد الإمبريالية الغربية، بينما كانت في الواقع تسعى لتأكيد هيمنتها الإقليمية وتغيير ميزان القوى لصالحها، أدت السياسات الاستعمارية إلى إضعاف الدولة الوطنية وتفكيك النسيج الاجتماعي، مما مهد الطريق لبروز الهويات الطائفية كبديل عن الهوية الوطنية. هذا الأمر استغلته بعض الحركات الثورية التي فشلت في تقديم رؤية وطنية جامعة، فلجأت إلى الخطاب الطائفي كوسيلة لكسب التأييد بعد هزيمة الأيديولوجيات الكبرى، في منتصف القرن العشرين، وبرزت الأيديولوجيات الطائفية كبديل لتعبئة الجماهير. هذا الفشل سمح لبعض الحركات الدينية والسياسية بتبني خطاب طائفي حاد، مما أدى إلى تصعيد الصراعات الداخلية.

مظاهر الخنوع واللامبالاة المعاصرة

يمكن القول إن هناك علاقة مباشرة وقوية بين سياسات الإمبريالية الاقتصادية ومظاهر الخنوع واللامبالاة التي يمكن رصدها في الشرق الأوسط، حاليا اذ عملت القوى الإمبريالية على إعادة هيكلة اقتصادات المنطقة لتخدم مصالحها. لم يتم تشجيع الصناعات الإنتاجية المحلية، بل تم التركيز على استخراج وتصدير المواد الخام (النفط، الغاز، المعادن، الزراعة) إلى الأسواق الغربية. هذا الأمر أدى إلى نشوء "الاقتصاد الريعي" حيث تعتمد الدولة على إيرادات هذه الموارد بدلاً من الإنتاج الحقيقي، مما يقلل من حاجة الحكومات إلى مواطنيها كمنتجين ويجعلها أقل عرضة للمساءلة، في سياق الاقتصاد الريعي، نشأت طبقات سياسية واقتصادية مرتبطة بالأنظمة الحاكمة والقوى الأجنبية. هذه الطبقات "الكمبرادورية" تستفيد من الوضع الراهن وتعمل على إدامته، مما يعمق الفجوة بينها وبين عموم الشعب ويساهم في قمع أي حراك أو مطالبة بالتغيير، أدت السياسات الاستعمارية إلى إضعاف أو تدمير المؤسسات الاقتصادية والسياسية المحلية، مما ترك فراغًا ملأته أنظمة حكم مركزية وقمعية، مدعومة غالبًا من الخارج. هذه الأنظمة لا تعتمد على شرعية شعبية، بل على السيطرة الاقتصادية والأمنية، مما يقوض أي حس بالمواطنة الفاعلة أو المشاركة السياسية، لم يقتصر التأثير على الاقتصاد فقط، بل امتد إلى الجانب الثقافي. فُرضت أنماط استهلاكية غريبة عن المنطقة، مما أدى إلى تراجع الإنتاج المحلي وتشكيل هوية اجتماعية متجهة نحو الاستهلاك بدلاً من الإنتاج، استمرت هذه التبعية من خلال سياسات نيوليبرالية التي فرضتها مؤسسات مالية دولية. هذه السياسات أدت إلى خصخصة القطاعات العامة، وتهميش الطبقات الفقيرة، وتعميق التفاوت الاجتماعي، مما أدى إلى حالة من اليأس واللامبالاة بين فئات واسعة من الشباب. يمكن القول إن مظاهر الخنوع واللامبالاة هي نتيجة مباشرة لتراكمات تاريخية واقتصادية وسياسية، حيث أدت السياسات الإمبريالية إلى خلق بنى اقتصادية وسياسية هشة، تركت المواطن في حالة من العجز وشعور بعدم القدرة على إحداث تغيير حقيقي ما دامت المنطقة تعتمد على اقتصاد النفط والغاز، فإن القوى التي تسيطر على هذه الموارد أو تتحكم في مساراتها ستبقى هي اللاعب الرئيسي. هذا يكرس حالة من التبعية حيث لا تستطيع الدول اتخاذ قرارات مستقلة قد تتعارض مع مصالح تلك القوى.

دور الإرادة الشعبية في التغيير

الإرادة الشعبية باتت ورقة على طاولة المفاوضات بين القوى العالمية أصبح المشهد مجرد سيناريو قصير على طاولة المفاوضات بين القوى الكبرى، هذه الحالة ليست وليدة الصدفة، بل هي نتيجة طبيعية لتراكمات تاريخية وسياسية، اذ أن المؤسسات الوطنية التي كان من المفترض أن تكون صوت الشعب في المحافل الدولية، تم إضعافها على مر العقود، إما بفعل الاستبداد الداخلي أو نتيجة للتدخلات الخارجية. هذا الأمر جعل الدول عاجزة عن تمثيل الإرادة الشعبية بشكل حقيقي، وأصبحت مجرد أداة لتنفيذ برامج خارجية، كما أدت الصراعات والحروب بالوكالة إلى انعدام ثقة الشعب في أي مبادرات سياسية، سواء كانت داخلية أو خارجية. عندما يرى المواطن ان الاقتصادات الإقليمية مرهونة بالتبعية للقوى الكبرى، فإن القرارات السيادية للدول ستبقى مقيدة، القوة الاقتصادية هي التي تمنح الدول القدرة على التحرك بمرونة في الساحة الدولية، وغيابها يضعف الإرادة الشعبية ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن الإرادة الشعبية قد ماتت تماماً. إنها قد لا تكون حاضرة بشكل مباشر، لكنها تظهر بطرق أخرى، في كثير من الأحيان، تتجلى الإرادة الشعبية في المقاومة السلبية، مثل رفض المشاركة السياسية أو السخرية من الأوضاع الراهنة، وهي علامات على عدم القبول بالواقع، قد لا يظهر التغيير في قاعات المؤتمرات، لكنه ينمو في المجتمع من خلال حركات مدنية، ونشطاء، ومثقفين يعملون على تغيير الوعي وتشكيل رؤية بديلة للمستقبل. فهل يمكن للإرادة الشعبية أن تستعيد زمام المبادرة وتتحول من مجرد ورقة تفاوض إلى فاعل حقيقي على الساحة السياسية؟ وما هي الخطوة الأولى التي يجب اتخاذها لاستعادة هذه الإرادة؟.

***

غالب المسعودي

في الساعة الثامنة وخمسة عشر دقيقة صباحًا، وعلى نحو خاطف، توقّف الزمن فعليًا، وليس بالمعنى المجازي، فقد تجاوزت الحرارة أربعة آلاف درجة مئوية، والضغط حطّم كلّ شيء في محيط أكثر من كيلومترين من مركز الانفجار. ساعةٌ يتيمةٌ وُجدت على معصم أحد الضحايا، وقد توقّفت عقاربها عند لحظة الانفجار، وهو ما لفت انتباهي عند زيارتي لمدينة هيروشيما في العام 2014 ضمن وفد أكاديمي تابع للجامعة اليسوعية في لبنان.

توقفت طويلًا متسائلًا مع نفسي، كيف تمكّن اليابانيون من تحويل هذه المدينة المنكوبة إلى قصة نجاح؟ وتُعرف هيروشيما اليوم بأنها مدينة المياه والأشجار، حيث تحتضنها الجبال في لقاء مع البحر وتنتشر حولها جزر وأرخبيلات وتتداخل فيها البحيرات. وقد شهدت إزدهارًا ملحوظًا وعمرانًا متميزًا وحياةً ثقافيةً زاخرةً بالأدب والفنون بجميع أنواعها وتلك هي ميزات هيروشيما. حقًا إنها مدينة الجمال بقدر ما هي مدينة الألم.

بعد استسلام ألمانيا النازية وإعلان الحلفاء انتصارهم في 9 أيار / مايو 1945، وجّه الرئيس الأمريكي هاري ترومان إنذارًا عُرف باسم "إعلان بوتسدام" في 26 تموز / يوليو 1945، دعا فيه اليابان للاستسلام اللّامشروط، وحين تجاهلته اليابان جاءت الفرصة للمتعطشين للدم ليجربوا قنبلتهم الذريّة في هيروشيما في 6 آب (أغسطس) 1945.

كان "الطفل الصغير" الاسم السريّ للعملية، وبعد تنفيذها أعلن الرئيس ترومان إن لم يقبل اليابانيون بشروطنا، فعليهم أن يتوقعوا أمطارًا من الخراب تأتيهم من الهواء، لم يرها أحد من قبل على وجه الأرض. وفعلًا نفّذ إنذاره بأن أمطر ناكازاكي (يوم 9 آب / أغسطس 1945) بقنبلة أخرى، وأطلق عليها اسم "الرجل البدين". لكن الإمبراطور هيروهيتو أخطر الحلفاء بأن اليابان ستقبل جميع شروطهم مع بقاء صلاحياته حاكمًا سياديًا.

ثمانون عامًا تفصلنا عن ذلك الحدث المأساوي الرهيب، وما زالت الحروب تسيطر على العقول، وإذا كانت الحروب تولد في العقول، فلا بدّ من تشييد حصون السلام في العقول أيضًا حسب دستور اليونيسكو، فكيف يمكن تجنّب كارثة نووية جديدة قد لا تبقي ولا تذر؟

وإذا لم يكن بوسع البشر وضع حدّ للحروب، فإنهم عملوا على "تلطيفها" بوضع قوانين تطوّرت مع الزمن، وبشكل خاص منذ القرن التاسع عشر، واتّخذت بعدًا أخلاقيًا إزاء استخدام بعض الأسلحة، وتطوّرت هذه في القرن العشرين. ففي العام 1925 حظر بروتوكول جنيف استخدام الغازات الخانقة في ميدان القتال، لكن ما حصل في الحرب العالمية الثانية تجاوز البُعد الأخلاقي، ولاسيّما باستخدام السلاح النووي في هيروشيما وناكازاكي، بعيدًا عن أي اعتبار قانوني أو أخلاقي أو إنساني، وهي الاعتبارات التي كانت وراء انعقاد مؤتمر بطرسبورغ في العام 1868، الذي حرّم استخدام القذائف التي تنفجر عند اصطدامها بجسم الإنسان وتحدث جروحًا بليغة وتؤدي إلى موت مؤلم.

وبعد الحرب العالمية الثانية تمّ إبرام اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 وملحقيها في العام 1977 لتنظيم إدارة الحروب، وبدأت بعض الأصوات ترتفع لتحريم استخدام الأسلحة النووية والتوقيع على معاهدات لمنع انتشارها، وخصوصًا خلال فترة الحرب الباردة (1946 – 1989)، وكان آخرها توقيع 122 دولة على معاهدة حظر الأسلحة النووية ومنع تطويرها أو تجريبها أو حيازتها أو استخدامها في العام 2017، علمًا بأن بعض البلدان ما تزال ترفض إخضاع منشآتها لمنظمة الطاقة الذرية، ومنها إسرائيل، التي بنت أول مفاعل نووي في العام 1955، وتتصرّف بكلّ عنجهية خارج نطاق القانون الدولي، بما فيها حرب الإبادة التي تمارسها في غزة منذ عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

إن اعتماد الأسلحة النووية بوصفها ضمانة لحماية الدول يمثّل خطاً قاتلًا، لأن أي استخدام لها بعد التطوّر العلمي والتكنولوجي الهائل سيكون انتحارًا جماعيًا لا يسلم منه أحد. وستكون مسؤولية الدول التي تمتلك السلاح النووي دقيقة وخطيرة تجاه مصير البشرية، فأي خطأ قد يؤدي إلى ردود أفعال لا تُحمد عقباها.

كل شيء في هيروشيما يروي ما حصل، المتحف الذي زرته والكتب والوثائق والأفلام والصور والروايات تدوّن أحداثًا وتفاصيلًا ووقائعًا غير قابلة للنسيان، إنها في دائرة الضوء، وتلك هي كذلك ساحة السلام التي صممها أحد المعماريين المشهورين ويرد ذكرها في فيلمMother player، فهي لا تنظر إلى الماضي فحسب، بل تتطلّع إلى المستقبل، فتشاهد صورة المدينة الحداثية حيث الأشجار مضيئة والزهور مبتسمة والجمال أقرب إلى السحر، خصوصاً حين يتصالح الفرد مع المجتمع والدولة في الآن بالانضباط العالي والشعور بالمسؤولية.

حين صعدنا إلى جبل "فوجي" العظيم، الذي كان آخر انفجار لبركانه العام 1707، ضربتنا عاصفة ثلجية، لكن مرافقتنا ماساكو (ساكورا) اختلطت ابتسامتها الرقيقة مع حشرجة بكائية باستذكار هيروشيما، وهي تردّد "أوهايو كوزايمس" أي "صباح الخير"، ونقول على هيروشيما المدينة المحفورة في ذاكرة البشر إلى ما لا نهاية "أوهايو كوزايمس".

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

تُقدَّم الانتخابات النيابية في الفلسفة السياسية الحديثة باعتبارها آلية ديمقراطية لتحقيق الإرادة الشعبية وتداول السلطة بشكل سلمي. غير أن التجربة التاريخية والواقع المعاصر يكشفان أن الانتخابات ليست دائماً أداة لتعزيز السلم المجتمعي، بل قد تتحول، في ظروف معينة، إلى شرارة لتمزق النسيج الاجتماعي وإثارة النزاعات. هنا يثور السؤال الفلسفي: كيف يمكن لآلية يفترض أنها أداة للتوافق أن تصبح مصدراً للتفرقة؟

فمن منظور الفلسفة السياسية، يرى جان جاك روسو في العقد الاجتماعي أن الإرادة العامة هي جوهر الديمقراطية، وأن أي عملية انتخابية تنحرف عن تمثيل هذه الإرادة تتحول إلى صراع مصالح خاصة، الأمر الذي يقوّض السلم الاجتماعي¹. وعليه، فإن الانتخابات التي تُبنى على الولاءات الطائفية أو العرقية لا تؤدي إلى وحدة الإرادة العامة، بل إلى تفتيتها.

أما توماس هوبز فقد حذّر من أن المجتمع إذا غابت فيه سلطة حاكمة قادرة على ضبط التنافس السياسي، فإن هذا التنافس سيتحوّل إلى حالة "حرب الجميع ضد الجميع"². وهذا ينطبق على الانتخابات التي تجري في بيئات هشة مؤسساتياً، حيث تتحول الحملات الانتخابية إلى ساحات استقطاب حاد، يهدد السلم الأهلي.

بينما ترى حنة أرندت أن الخطر ليس في الاختلاف السياسي بحد ذاته، بل في تحويل هذا الاختلاف إلى "عداوة سياسية" تؤدي إلى نزع الشرعية عن الآخر. فالانتخابات، حين تُختزل في خطاب الكراهية والتحريض، تعيد إنتاج حدود الانقسام بدلاً من تجاوزها، مما يجعل المجتمع يعيش حالة "استقطاب دائم".

وأما في الفكر العربي المعاصر فقد أشار محمد عابد الجابري إلى أن الديمقراطية في المجتمعات العربية قد تتحول إلى "ديمقراطية عددية" لا تحترم قواعد التعددية السياسية، حيث تتحكم الهويات الأولية في التصويت، ما يجعل نتائج الانتخابات انعكاساً للخريطة الانقسامية، وليس تجاوزاً لها.

وأما من منظور الفلسفة الأخلاقية، نجد إن إيمانويل كانط يلفت إلى أن الفعل السياسي يجب أن يُحكم بمبدأ الكونية؛ أي أن يكون صالحاً لو طُبّق على الجميع⁵. فإذا كان السلوك الانتخابي قائماً على التضليل أو شراء الولاءات أو بث الخوف، فهو فعل لا يمكن تعميمه أخلاقياً، وبالتالي يفتقد المشروعية الأخلاقية، ويهدد استقرار المجتمع على المدى الطويل.

وبالمثل، يرى جون رولز في نظرية العدالة أن الانتخابات لا تحقق العدالة السياسية إلا إذا جرت في ظل شروط الإنصاف فإذا انعدمت هذه الشروط، أصبحت الانتخابات وسيلة لإعادة إنتاج السلطة والهيمنة، بدلاً من تعزيز الاستقرار.

وهنا يتضح إذن أن الانتخابات، وفي غياب مؤسسات قوية وثقافة ديمقراطية راسخة، قد تتحول من أداة للتداول السلمي للسلطة إلى مسرح لتأجيج الانقسامات، وهو ما قد يقود إلى اضطرابات، أو حتى إلى انهيار السلم المجتمعي. فالمسألة ليست في وجود الانتخابات بحد ذاتها، بل في الإطار القيمي والمؤسساتي الذي تُجرى فيه. أي إن أي إنتخابات نيابية، حين تُمارَس في ظل بيئة سياسية وأخلاقية سليمة، يمكن أن تكون أداة لتعزيز السلم المجتمعي. لكنها في بيئات الانقسام الحاد وضعف المؤسسات، تصبح عاملاً مهدداً لهذا السلم. وهذا ما أدركه الفلاسفة من هوبز إلى رولز، حين شددوا على أن السياسة ليست مجرد آلية إجرائية، بل منظومة قيمية وأخلاقية متكاملة.

***

الدكتور ابراهيم احمد شعير الجميلي/ العراق - كركوك

....................

المراجع

1. روسو، جان جاك. العقد الاجتماعي. ترجمة عادل زعيتر. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1954.

2. هوبز، توماس. الليفياثان. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام. القاهرة: مكتبة مدبولي، 1991.

3. أرندت، حنة. في السياسة. ترجمة عبد الغفار مكاوي. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2012.

4. الجابري، محمد عابد. الديمقراطية وحقوق الإنسان. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1994.

5. كانط، إيمانويل. أسس ميتافيزيقا الأخلاق. ترجمة جلال الدين سعيد. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008.

6. رولز، جون. نظرية العدالة. ترجمة ليلى الطويل. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2009.

 

قراءة تاريخية في ذاكرة الآشوريين

شهد العراق في 11 آب 1933 واحدة من أكثر الحوادث دموية في تاريخه المعاصر، حيث ارتكبت القوات العراقية مجزرة بحق الأقلية الآشورية في قرية سُمَيَّل والمناطق المجاورة لها. لم تكن المجزرة مجرد حدث عابر، بل كانت نموذجاً لممارسات قمعية تكررت في تاريخ العراق المعاصر، من جراء التنظير الايديولوجي العقائدي المغلق. المجزرة تعتبر الحدث المأساوي الأخطر، الذي رسّخ مبدأ استخدام العنف كأداة سياسية، وأسس لسابقة تاريخية في كيفية تعامل الدولة مع الأقليات، مما انعكس لاحقاً بمختلف المراحل الزمنية في العهدين الملكي والجمهوري في ممارسات مشابهة ضد المجموعات المتعايشة في مجتمعنا العراقي.

لم تأخذ مجزرة سُمَيَّل حقها من الدراسة والتقييم لاعراقياً ولاعالمياً، ويمكن اختصار أبعادها بالحديث عن طعنتين عميقتين لهذه المذبحة؛ الأولى سياسية، كانت أول إبادة جماعية حظيت بتأييد رسمي وشعبي، وعُدّ مرتكبوها أبطالاً، حيث تم إدارة السياسة على حساب القيم الإنسانية. والثانية كانت طعنة قوية في ظهر الآشوريين، لما فيها من أبعاد اجتماعية ونفسية مؤلمة ما زالت آثارها عميقة. ولهذا فإن استذكارها وتوثيق أحداثها من قِبل الجهات الرسمية والشعبية ومن النخب الواعية هو بمثابة رسالة اعتراف بأن هذه المجزرة جريمة ضد الإنسانية، ودعوة بعدم تكرارها مستقبلاً من خلال تبني قيم التعايش السلمي وحماية حقوق الجميع في إطار المواطنة المتساوية. 

الآشوريون جزء من مسيحيي العراق، يمتد وجودهم إلى ما قبل انهيار الدولة العثمانية، وأكثر الآراء المحايدة تؤكد بأن الآشوريين اليوم في العراق هم الأحفاد الناجين من الحضارة الآشورية القديمة، وهناك الكثير من الدلائل الأثرية التي تدل على وجودهم في شمال العراق.

يرى الباحث سليم مطر في كتابه "الذات الجريحة" بأن قضية السريان مرتبطة إلى حدّ كبير بالقضية الكردية بسبب التداخل الجغرافي والتاريخي بين مناطق تواجد السريان وتواجد الأكراد. وبعد الفتح الإسلامي أخذ بعض السريان يتخلون بالتدريج عن مسيحيتهم ويعتنقون الإسلام، كانت عملية الأسلمة والتعريب تحدث أولاً في المدن والحواضر بينما بقيت الكثير من الأرياف على مسيحيتها، لا سيما المناطق المرتفعة وشبه الجبلية التي تحولت إلى ملجأ للسريان وغيرهم حتى العصر العثماني. وإن بقاء السريان على مسيحيتهم جعلهم عرضة سهلة لاكتساحات القبائل التركية والكردية المنحدرة من آسيا والجبال المجاورة.

الأحداث التي حصلت قبل الحرب العالمية الأولى مهدت لحصول المجزرة، بعد أن كون السلطان عبد الحميد في أواخر القرن التاسع عشر فرقاً حربية من الأكراد سميت بالفرق "الحميدية"، قامت هذه الفرق ومعها الأغوات بدور كبير في طرد السريان من مناطقهم في الجزيرة (كذلك الأرمن في ارمينيا) وارتكاب مذابح كثيرة ضدهم وإجبارهم على الرحيل  أو التحول إلى مسلمين أكراد. وفي سنة 1895م، بدأ الاستهداف العثماني للآشوريين فيما عُرف باسم "المجازر الحميدية" نسبة إلى السلطان عبدالحميد الثاني، تعرض المسيحيون في ديار بكر وحكاري وغيرها من المناطق إلى مجازر دموية في فترات مختلفة بتحريض من بعض رجالات الإمبراطورية العثمانية.

وخلال الحرب العالمية الأولى، تحالف الآشوريون مع القوات الروسية ضد الدولة العثمانية، وتعرضوا إلى مذابح شبيهة بما عرف بـ"الإبادة الأرمنية" التي طالت أكثر من مليون أرمني وعشرات الآلاف من الآشوريين. ولما سيطرت بريطانيا خلال فترة الاحتلال على العراق، أدركت معاناة الآشوريين، طلبوا منهم التعاون معهم، وعرضوا عليهم مغريات كثيرة ووعود بأن يكون لهم كياناً مستقلاً.

وجد الآشوريون الفرصة متاحة أمامهم للتحالف مع السلطة البريطانية، اسست بريطانيا قوات "الليفي" عام 1919، من الآشوريين وبعض العرب والأكراد والتركمان، ولكن بعد تأسيس الجيش العراقي تم ضم العرب والأكراد فيه وأبقوا على الآشوريين في قوات "الليفي". هذا التصرف كان مقصوداً من السلطة البريطانية التي أرادت خلق حالة من التباعد يصب في خدمة مصالحها.

كانت أول صدمة للآشوريين في عام 1923 عندما تم عقد اتفاقية "لوزان" التي رسمت الحدود بين تركيا والعراق، حيث تبدد الحلم الآشوري بضم اقليم "حيكاري" إلى العراق، حيث بقي الاقليم ضمن الحدود التركية. ومع المعاهدة الإنكليزية- العراقية الثانية عام 1930، التي منحت العراق الاستقلال في 1932، باتت المجموعات الآشورية تشعر بأن الخطر قد بلغ الذروة، وأعلنت صراحة أن الإنكليز خالفوا الاتفاق بينهم بحماية الأقليات المسيحية أو على الأقل منحهم حقوق الإدارة الذاتية.

وبعد انتهاء عهد الانتداب البريطاني على العراق عام 1932، أصبح العراق مكبلاً ببنود اتفاقية 1930 لمدة (25) سنة، وحصلت بريطانيا في اطار المعاهدة على موقعين جويين هما الحبانية والشعيبة. كان رشيد عالي الكيلاني وحكومته تعاني من مواجهة شديدة مع المعارضة الشعبية الواسعة، فأراد تغطية مشاكله مع المعارضة بايجاد موضوع لتوجيه الرأي العام نحوه، فاستغل الاعلام العراقي الرسمي في التمهيد لتنفيذ أبشع مذبحة وإبادة جماعية. فبدلاً من أن تحترم حكومته حقوق الآشوريين العراقيين في (المواطنة الكاملة)، أوهمت العراقيين بأن الآشوريين، أعداء العراق والعراقيين ويجب إبادتهم والتخلص منهم، صورتهم على إنهم (أقلية وافدة وانفصالية) تعمل لصالح (الإنكليز).

أدرك الآشوريون بأن وضعهم بائس ومهمش وبريطانيا قد تخلت عنهم كلياً، وإن حلم الوطن قد تبدد، والتوترات مع الكرد ومع الحكومة العراقية في تصاعد، وإن الحكومة الملكية تنتهز الفرصة للإنقضاض عليهم. لذلك قرروا في اجتماع لهم في 16/06/1932، التخلي عن مطالبهم بالوطن المستقل والانخراط مع الحكومة العراقية في برنامج حكم ذاتي، وأصدروا "الميثاق القومي الآشوري" المتكون من تسعة مطالب التي تم تقديمها للحكومة العراقية.

المفاجأة جاءت برفض تلك المطالب من قبل الحكومة العراقية وبريطانيا، لوأد "القضية الآشورية" التي برزت بقوة على المشهد السياسي العراقي وطُرحت على طاولة "عصبة الأمم" بين عامي1931 و1932. ولنجاح مخطط ضرب الآشوريين، استدعت الحكومة البطريرك (مار شمعون) الى بغداد بحجة التفاوض معه بشان حقوق ومطالب الآشوريين، لكن التفاوض كان مجرد خدعة لاعتقاله ووضعه تحت الاقامة الجبرية، بهدف إثارة غضب الآشوريين ودفعهم للعصيان والتمرد، لتبرير الحملة العسكرية عليهم وسحقهم.

تناول الباحث كاظم حبيب في كتابه "مسيحيو العراق" أحداث مجزرة سُمَيَّل بحيادية مؤكداً بأن ما حصل في قرية سُمَيَّل كان مجزرة مدبرة ومعدة سلفاً من جانب الحكومة الملكية ممثلة برئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني، ووزير الداخلية حكمت سليمان، ووزير الدفاع جلال بابان، ووزير الخارجية نوري السعيد ورئيس أركان الجيش العراقي ياسين الهاشمي، ومدير عام الشرطة صبيح نجيب العزي ومتصرف الموصل تحسين علي ونائبه خليل عزمي، وقائد الحملة العسكرية ضد الآشوريين الفريق بكر صدقي. وقد تم تنفيذ الجريمة على مرحلتين، الأولى على نزع سلاح الرجال الآشوريين وتسليمه لمركز الشرطة بحجة حمايتهم من أي اعتداء، بواسطة قائمقام قضاء زاخو، والثانية تنفيذ العملية باستخدام العشائر العربية والجيش والشرطة الملكية بقيادة الضابط إسماعيل عباوي.

لقد فضلت بريطانيا الحفاظ على علاقاتها مع الحكومة العراقية على حساب التزاماتها الأخلاقية تجاه حلفائها السابقين، هذا الموقف المتخاذل زعزع ثقة الآشوريين ببريطانيا، التي كانوا يعتبرونها حامية لهم، وأدى إلى كارثة إنسانية. وكان بامكان السلطة الملكية إيقاف المجزرة ولكن وسائل العنف والتطرف بالاجرام كانت هي السائدة.

ستبقى هذه المجزرة راسخة في ضمير الانسانية كذاكرة مؤلمة والتوثيق التاريخي سيساعد في حفظ الذاكرة الجماعية لشعب عانى من الإبادة والتهجير، ويضمن للأجيال القادمة معرفة ما حدث. وهذا التوثيق يعزز من المطالبة بالاعتراف الرسمي بالمجزرة وتسليط الضوء على ضرورة حماية حقوق كل الأقليات من كل أشكال العنف المتطرف والتمييز، ويأخذ القانون الدولي المتعلق بالجرائم ضد الإنسانية في انصاف حق الآشوريين في وطنهم العراق.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

ولدت اشتراطات الانتقال من السيطرة العثمانيه الى الغربية الاوربية الاليه، حالا من التغير في مواقع القوى والمجموعات الاكثر قدرة على الفعل، دافعها الاساس شخصي، وعائد الى المكانه والموقع الممكن احرازه ضمن الشروط المستجده، من دون متغير واقعي ذاتي، خصوصا من قبل اعيان المدن ومحيطهم، استجابة نقلية بحته لما واكب ذلك من انقلابية اوربية غدت معممه على مستوى المعمورة نموذجا وتفكرا، بينما المنطقة خالية تماما مما يمكن ان يحد من الانعكاس البراني، فلا وجود في هنا لاي شكل من اشكال الاقتراب من الذاتيه، او التعرف على الخاصيات التاريخيه المجتمعية المرتكزه لقراءة التاريخ الخاص بالمنطقة وسماته المميزه، مايسمح بالقول بان منطقتنا كانت على هذا الصعيد في حال من "الامية التاريخيه" المجتمعية، حتى بما خص الديانات الكبرى الاساس التي لم تعرف اي تفسير او بحث في الخلفيات والمحركات المجتمعية الواقعية، بغض النظر عن كونها ظاهرة خاصة حصريا بهذا الموضع من العالم.

هذا يعني بان اولئك الذين تصدوا لمسالة الوعي تحت وطاة نهوض الغرب ونموذجه، ليسوا ابناء الموضع الذي يدعون التعبير عنه، ولايمتون له بصلة اذا قصدنا الانتماء اصالة وواقعية التفكير والرؤية الحية المطابقة، وليس السكن والولاده. وقد وضعوا امام اخطر لحظات الاختبار الانتمائي، مع حضور العامل الرئيسي المستحدث، وماكان يقتضيه من وثبة كبرى اعقالية، استعيض عنها بحماسة تكريس الاتباعية النقليه البحته، بعيدا عن اي اثر للابداعية التفكرية، أومجرد ملاحظة فعل الذاتيه ودينامياتها الامتناعية، بينما تحول الواقع والتاريخ الى مادة مجبرة على التماهي مع مثال جاهز خارجها، لنغدو كحصيلة امام منتج لاشي يربطه بالفكر، او المنجز التفكري العقلي، حتى على مستوى الاضافه للاصل والمصدر المستعار.

والناحية الاخيرة المشار لها هامة وفاصلة للغاية اذا ماتطلعنا الى مسار ومسلكية هذا النمط من التشبه بالفكر، على وجه التعيين حين بتعلق الامر بادراك النتائج والمحصلات، فالذين يعرفون بالحداثيين او النهضويين من الشرق متوسطيين العرب، لايملكون بالاصل وبداهة بحسب الحالة ومانتج عنها،ايه رؤية للظاهرة الغربيه ولمساراتها، ولماقد تنطوي عليه من حقائق او مثالب، لابل وحتى احتمالية الانطواء على نواقص او امراض خطرة، الامر الذي لابد من توفره بالحدود الدنيا، قبل افتراض الانتباه الى النتائج واستخلاصات التجربة التاريخيه وماقد وصلت اليه راهنا، فالعقل الذي ننوه به، غير مؤهل لانتاج ماكان بالاصل قد قفز عليه لاجئا لحمى المصدر والنموذج الاعلى، فاذا ماتردت التجربة الغربية والاوربية منها لصالح النموذجية الامريكيه المفقسة خارج الرحم المجتمعي التاريخي، وذهب العالم الى الطور المتاخر من الراسمالية المعولمه، وسقوط نموذج ( الدولة الامة) الابتدائي الاوربي، مع تجاوز وسيلة الانتاج للنمطية المجتمعية الباقية من زمن الانتاجية اليدوية، فان مايمكن للمتبقيات الحداثوية هو التكرار الايحائي الصامت للمنطلقات الاساس المعتمدة عمليا "وتنظيميا" من دون اعلان، ولا اي قدر من الادعائية التفكرية، فالاحزاب والمجاميع الحداثوية لم تعد تتعاطى الشؤون المعدوده فكرية، وماقد يمت بصله للتفكرية التي اختفت عالميا من جهة، ولم تعد تحظى بما كانت قد تمتعت به بعد القرن التاسع عشر من فعالية، فاذا بنا اليوم امام دكاكين خالية من اية بضاعه، حتى المستورد منها، لنغدو بازاء ظاهرة لها سمات "الطوائفية" الموروثة والباقيه من الماضي، بلا فعالية حيوية موصوله بالمعاش والراهن.

فالايديلوجيون الاتباعيون مازالوا موجودين من دون فعل من اي نوع، الا السلبي والمخالف لابسط ماتدعية وقامت عليه من شعارات، نقطة حساسيتهم وخوفهم تتاتى من المراجعه، او الاضطرار الى مناقشة الاسس التي بنيت عليها اسقاطيتهم المتماهية مع غيرهم، فعند هذه العتبة سوف ينتهى اجل تاريخ من الممارسة الزائفة، هي المدخل الفاصل الذي عنده تنتهي مرحله بذاتها عمليا بعد ان انتهت واقعا، مما يضيف للدور السلبي العاجز، والذاتوي المنفصل عن التاريخ والتجربة الحية للمنطقة المتميزة حضورا على مدى الطور التاريخي اليدوي من الممكنات المجتمعية.

ولنتصور لو ان نداء قد اطلق يدعو الى مؤتمر عام شامل، بهدف "المراجعه"، واعلان هزيمه الطور الزائف الحداثوث النهضوي من تاريخ الشرق المتوسطي العربي، الامر الذي من غير الممكن التفكير به، فضلا عن الاقدام عليه من توفر القاعدة او الاساس الضروري النظري الرؤيوي المضاد، الامر الذي ماعاد يحتسب اليوم وراهنا بخانة الرغبه او الميل الذاتي باي شكل كان، وقد غدت الاسباب الملحة ظاهرة وعامه عالميا، مع مسار الانحطاطية التردوية الشاملة للمعمورة، فضلا عن المنطقة الشرق متوسطية العربية، على المستويات كافة بما ينطوي عليه ماهو حاصل من دالة على مؤقتية وعرضية الظاهرة الغربية ضمن السياق التحولي المعرف من قبل الغر ب ب" الآلي" توهما ونكوصا ادراكيا، بازاء حالة تحول انقلابي تاريخي على مستوى النوع المجتمعي، مابين يدوي "ارضوي" و "تكنولوجي " عقلي تتحقق معه الغاية المضمرة في الظاهرة المجتمعية، وماهي مهيأة لبلوغه بالانتقال من الجسدية الى العقلية، اتفاقا مع قانون التحولية الكوني.

ان ماحصل مع القرن السابع عشر في الغرب مع انبجاس الالة، هو افتتاح مسار تحولي انقلابي لاارضوي، يظل تحت طائلة المعتقد الارضوي الاوربي الطبقيي ابتداء، مع العجز الموروث من تاريخ علاقة العقل البشري بالظاهرة المجتمعية، والقصور دون التعرف على الازدواجية المجتمعية، مثلما ظل ولامد طويل من غير الممكن مقاربة الازدواجية الطبقية ومايمكن ان يواكبها من قانون ارضوي، هو الاعلى بين المجتمعية الارضوية كمستوى ديناميات، مع انه ادنى بالمقابل بالازدواجية المجتمعية الاصطراعية ،الارضوية اللاارضوية ومترتباتها، وقوانين حركتها واصطراعيتها السومرية البابلية الاصل والمنطلق.

الانقلاب الالي هو انتهاء لدور وحضور الظاهرة المجتمعية الارضوية اليدوية، لصالح المجتمعية اللاارضوية العقلية التكنولوجية، العراق وارض الرافدين بؤرتها التاريخية، بؤرة الدورات والانقطاعات الكبرى الابراهيمة الكوراجينيه، القرمطية، الانتظارية، وقد دخلت اليوم زمن التحقق، بعد توفر اسبابه المادية، مع دورتها الراهنه الانبعاثية الثالثة التي تبدا في ارض سومر الحديثة ارض "المنتفك" في القرن السادس عشر، قبل انبثاق الاله في اوربا، لنتعرف من ساعتها على سياق التحولية العظمى وتتابعاته، وقد تجاوز اوربا، وهو بصدد تجاوز الوريث المفقس خارج رحم التاريخ، وعلى جثة مايزيد على ستين مليون امريكي هم اهل البلاد.

***

عبد الأمير الركاني

جدلية القمع والوعي في مصائر الشعوب

الملخص: يناقش هذا البحث الفارق الجوهري بين نمطين من الأنظمة الاستبدادية: "الديكتاتورية المظلمة" و"الديكتاتورية الوطنية"، من حيث البنية والغايات والآثار في الوعي الجمعي والفردي. يُظهر التحليل أن كلا النموذجين، وإن اختلفا في التبريرات الأيديولوجية، يشتركان في تفكيك الفرد واستلاب الوعي، لكنهما يختلفان في الرمزية والمشروع السياسي المعلن. ويعتمد البحث على تحليل مفاهيمي مدعوم بمراجع فكرية (فوكو، أورويل، فروم، الجابري، المسيري)، لتفكيك علاقة السلطة بالحرية، وإبراز أثر الاستبداد في صياغة مصير الشعوب وهويتها القومية. يخلص البحث إلى أن الوعي الفردي هو الركيزة الأساسية لمواجهة كافة أشكال القمع، وأن الاستبداد، مهما تنكّر بشعارات وطنية، يظل نقيضًا للحرية والكرامة الإنسانية.

الكلمات المفتاحية: ديكتاتورية، وعي، حرية، استبداد، قضايا قومية، قمع، خطاب سياسي.

مقدمة: في التمييز بين ظلال الطغيان

على مدار التاريخ السياسي، لم تكن الأنظمة الاستبدادية متجانسة في ممارساتها أو أهدافها، وإن اتفقت غالبًا في اعتمادها أدوات القمع والسيطرة. ينبثق من هذا الواقع سؤال فلسفي وسياسي: هل يمكن التمييز بين "الديكتاتورية المظلمة" التي تنكر الوطن والإنسان، و"الديكتاتورية الوطنية" التي تدّعي حمايتهما؟ وهل يغير الخطاب القومي طبيعة الاستبداد؟ أم أنه مجرد غطاء يُجمّل القمع؟

هذا البحث لا يسعى لتبرير أي شكل من أشكال الطغيان، بل لفهم آلياته ومآلاته، وتأثيره على البنية الوجدانية والسياسية للفرد والجماعة، عبر تحليل جدلي يتناول أربعة محاور: تعريف النمطين، موقع الحرية في كل نموذج، أثر الطغيان على القضايا القومية، وأخيرًا علاقة الاستبداد بتفكيك الوعي وقطع الذاكرة.

الفصل الأول: أنماط الاستبداد وتمثلاته

1- الديكتاتورية المظلمة: استعباد الوعي ونفي الوطن

تمثل هذا النمط أنظمة تقوم على نفي الجماعة السياسية لحساب مركز سلطوي مغلق، وتُعيد تعريف الوطن كغنيمة للسلطة. تستعمل هذه الأنظمة أجهزة الدولة لتدجين الفرد، وتجعل من الطاعة محور العلاقة السياسية. من سماتها:

تجريم الحرية وتحويلها إلى تهديد وجودي.

استبدال الهوية الوطنية بولاءات خارجية أو طبقية طفيلية.

تدمير القدرة على التفكير النقدي والإبداعي.

2 - الديكتاتورية الوطنية: القومية كسردية احتكار

رغم اشتراك هذا النموذج في الأدوات السلطوية، إلا أنه يستند إلى خطاب تعبوي قومي. تبرر هذه الأنظمة قمعها بشعارات التحرر ومقاومة الاستعمار. من أبرز سماتها:

تمجيد الوطن واختزال تجسيده في الزعيم.

بناء مشاريع اقتصادية موجهة باسم الشعب.

توجيه الوعي الفردي نحو غاية "وطنية" شمولية، تمنع النقد الذاتي.

الفصل الثاني: الحرية بوصفها وظيفة مستحيلة

1- الحرية في الديكتاتورية المظلمة: جرم الوجود الحر

تنظر الأنظمة المظلمة إلى الحرية كجريمة، لا بوصفها خطرًا سياسيًا فقط، بل كفكرة تنفي شرط الطاعة. كما يشير ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تكتفي بقمع الجسد بل تعمل على "تأديبه"، ليصبح الفرد مجرد ترس بلا صوت في آلة السلطة.

2 - الحرية في الديكتاتورية الوطنية: التأجيل الأبدي

يُؤجل هذا النموذج الديمقراطية لصالح "المعركة الكبرى"، ويُقزّم الحريات تحت شعار "الأمن القومي". يحاكي هذا المنطق ما صاغه جورج أورويل في رواية 1984، حيث تُصبح الحرب ذريعة دائمة لطمس الذاكرة وتزييف الحقيقة.

الفصل الثالث: مصير القضايا القومية بين الخطاب والواقع

1- في الديكتاتورية المظلمة: تفكيك الانتماء وتذويب الوطن

تُفرغ الأنظمة المظلمة القضايا القومية من محتواها، فتصبح الوطنية مرادفًا للولاء للسلطة. ويتم إعادة تشكيل الخطاب السياسي ليتماهى الوطن بالحاكم، مما يؤدي إلى الارتهان لقوى خارجية.

2 - في الديكتاتورية الوطنية: المشروع القومي كأداة هيمنة

رغم تبنيها خطابًا وطنيًا مقاومًا، إلا أن هذه الأنظمة تُحول المشروع القومي إلى سردية مغلقة تمنع النقد. وكما لاحظ عبد الوهاب المسيري، فإن الاستبداد الوطني قادر على تحويل مفاهيم التحرر إلى أدوات طغيان جديدة إذا غابت المشاركة الشعبية.

الفصل الرابع: الوعي والذاكرة تحت نير السلطة

1- تفكيك الوعي الفردي

في كلا النموذجين، يُمنع الفرد من التفكير خارج الإطار المرسوم. تستخدم السلطة التجهيل، الإعلام الموجّه، أو التذويب في خطاب جمعي، كما يحذر إريك فروم في الخوف من الحرية: الطاعة العمياء تُبنى على خوف داخلي من الحرية ذاتها.

2- من الوعي الفردي إلى قَطع الذاكرة الجماعية

يهدف تفكيك الوعي إلى صناعة "وعي القطيع"، وهو ما يُفقد الشعوب قدرتها على إنتاج وعي ناقد. ويُحذر محمد عابد الجابري من أن العقل العربي حين يُستلب ضمن طغيان التقليد، يعيد إنتاج الطاعة بدل المسؤولية، مما يُكرّس الاستبداد في كل تحول سياسي.

الخاتمة: من وهم القائد إلى ضرورة الوعي

إن التمييز بين الديكتاتوريتين لا يعني تبرئة أحدهما، بل يكشف كيف أن القمع، سواء بوجهه الفج أو المتوشح بالوطنية، ينتهي دوماً إلى سحق الإنسان. إن الوعي الفردي – لا الزعيم ولا الخطاب – هو أساس الحرية، وهو الضمانة الوحيدة لعدم تكرار المأساة تحت أقنعة مختلفة.

إن لم تسترد الشعوب ذاكرتها، وتحرر وعيها من وهم الطغاة، فإن الاستبداد سيعود دائمًا، بزيّ جديد، وبخطاب أكثر إقناعًا.

***

مجيدة محمدي – تونس

......................

المراجع

ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: منى أبو سنة، المركز القومي للترجمة.

جورج أورويل، 1984، ترجمة: الحارث النبهان، دار التنوير.

إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة: فؤاد كامل، دار الثقافة.

محمد عابد الجابري، نقد العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية.

عبد الوهاب المسيري، الاستعمار الصهيوني والتفكيك، ضمن الأعمال الكاملة، دار الشروق.

 

  نموذج المملكة السويدية

Har du ett skelett i din garderob?

مملكة السويد تاريخيا عرف بانتشار الأفكار الداعية إلى السلم الاجتماعي وتعايش الشعوب وحقوق الإنسان والتمتع بحرية الرأي والمبدأ والدين. لذا نرى ان المجتمع السويدي مجتمع مفتوح يحترم كل الاراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. القوانين السويدية سنت جميعا ابان سواد السلم في المجتمع خاصة إذا عرفنا ان السويد لم يدخل اي حرب خلال قرنين ونيف.

موجات الهجرة للأيدي العاملة بدات ما بعد الحرب العالمية الثانية من اوربا اولا وخاصة من اليونان ويوغسلافيا السابقة ولكنها دخلت إلى مرحلة من الهجرات الجماعية مع اندلاع الحروب في الشرق الأوسط مع بداية ١٩٨٠ اي قبل ٤٥ عاما خلت. معظم المهاجرين اليوم هم من حملة الجنسية السويدية ويزاولون أعمالهم الطبيعية مع أبنائهم وأحفادهم وهم موطنين امام القانون دون اي تمييز ولكن حدث في السنوات الأخيرة موجة من التذمر في اوربا قادها الأحزاب من حملة الفكر الناري الجديد تطالب بحماية ثقافة المجتمعات الاوربية والحفاظ على قيمها التاريخية والدينية. المهاجرين القادمين من دول الشرق يحملون معهم ثقافاتهم وعاداتهم وتقاليدهم بالإضافة آلى عقائدهم الدينية ومن الطبيعي كنا نرى بان جميع دول اوربا تحترم العقيدة الدينية وحرية العبادة وتنص على حرية العقيدة في فقرات دساتيرها الوطنية رغم عدم اعترافها رسميا ببعض الديانات. لهذا ليس من الغريب ان نجد معابد جميع العقائد الدينية منتشرة في معظم مدن اوربا.

ارتفاع وتيرة التأيد للأفكار العنصرية في المجتمعات الاوربية جاءت مسايرة لارتفاع وتيرة وسطوة الجماعات الاسلامية بكافة اتجاهاتها خاصة في افغانستان وايران ومصر وظهور حركات دينية متطرفة في معظم الدول الاسلامية مع ما سمي بالربيع العربي وحتى وصولها ديمقراطيا إلى حكم تلك الدول وهذا طبيعي لثقافة تلك الدول ولكن تصدير تلك الأفكار ادى الى دق ناقوس الخطر في المجتمعات الاوربية التي كانت قد غادرت تلك الأفكار ومنذ قرون خلت واختارت العلمانية باعتبار العبادة هي فقط يخص الأشخاص وعلاقتهم بالخالق وترك أمور الحكم والسلطة للعلم وبناء المجتمعات المدنية المفتوحة. هذا لا يعني بعدم وجود تيارات سياسية رسمية تحمل افكار دينية في التركيب الفكري للعديد من تلك الأحزاب السياسية في دول الغرب. التركيبة الدينية المسيحية الكاثوليكية انحصرت فقط في دولة الفاتكان كمقر للبابا.

أعود إلى مملكة السويد الذي شاهدت عن قرب تغير تركيبة المجتمع فيها خلال ما يقارب الأربع عقود. التغير الجذري الذي حصل كان نتيجة مباشرة لتدفق المهاجرين من مناطق الصراعات في دول الشرق. لكن وصل حدتها مع تاسيس الأحزاب القومية بدأ من الديمقراطية الجديدة ومن ثم ديمقراطي السويد والتي تحولت إلى الحزب الثاني في المملكة بعد ضعف حزب المحافظين وكذلك الأحزاب اليمين المؤتلفة جميعاً (الديمقراطي المسيحي، المركز، الحزب اليبرالي) ورغم ان معظم الأحزاب تركوا السياسات القديمة فيما تخص اللجوء في مسايرة واضحة لسياسة حزب ديمقراطي السويد.

هذا واضح في جميع القوانين التي أصدرت خلال السنوات الأخيرة من قبل البرلمان السويدي وجميعا سلبية بالنسبة للمهاجرين وحول المجتمع السويدي إلى طبقتين من المواطنين والغريب ان جميعهم يحملون نفس الجنسية ولكن هناك درجة أولى وأخرى درجة ثانية يمكن سحبها في حالات معينة ويعتبر الأجنبي مجرما إلا إذا اثبت عكس ذلك بينما مواطني الدرجة الاولى هم من الملائكة.

كيف تحول المهاجرون إلى مشكلة اوربية بعد ان كانوا جزء من حل مشكلة سوق العمل وشاركوا خلال سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية في اعادة بناء اوربا والمشاركة في الثورة الصناعية والرخاء الاجتماعي الذي واكب ازدهار تلك البلدان وزيادة الثروة الوطنية للدولة وللأشخاص. فبعد ان كان الاوربين بأنفسهم يبحثون عن قوى أيادي العمل في الدول الاخرى يستقدمونهمً للعمل في دولهم اصبحوا اليوم يطردونهم ويسنون القوانين للحد من الهجرة ونما في تلك الدول قوى السلبية في السياسة حيث يزدهر اليوم الأفكار القومية المتطرفة المنادية إلى طرد اللاجئين وإظهار الأخبار السلبية التي يقوم بها هم وأبنائهم في جميع قنوات الإعلامية والذي أدى إلى ظهور رأي عام معاد الأجانب في جميع الدول الأوربية وحتى دول كانت معروفة باعتدال كالدول الإسكندنافية أصبحت مجتمعات تعادي الإسلام واللاجئين القادمين من الشرق لعدم تمكنهم من التكامل في المجتمعات الغربية.

هنا تجدر الإشارة ان هناك العديد من اللاجئين السياسيين واخرون لجأوا أثناء الحرب إلى الدول الغربية. الجدير بالذكر كذلك ان موازيا لانتشار تلك الاخبار السلبية نرى بانً جميع سياسات والحكومية فشلت في الاندماج وتامين عمل او الاعتراف بشهاداتهم الدراسية العالية لأكثرية من المهاجرين وهذا الفشل ادى كذلك للعودة العكسية لهم لاوطانهم الأصلية او البحث عن وطنً جديد. هذه الأخبار السيئة التي تنشر في الإعلام يعتبرها المجتمعات الغربية جحود ونكران الجميل من قبل اللاجئين للدول والشعوب التي استضافتهم ورد الإحسان لا يكون بنشر الجريمة في تلك المجتمعات، حسب رأيهم . هذا ليس فقط خبر يتداول في الإعلام بل حقيقة وواقع في الأحياء التي يسكنها اكثرية من اللاجئين وخاصة على أطراف المدن الكبيرة في معظم العواصم والمدن الاوربية. تجربتي تعود إلى اكثر من نصف قرن في دول اوربا وملاحظتي للتغيرات في تلك المجتمعات تاتي من تجاربي فبعد ان كان الأجنبي عملة نادرة في السويد ويحصل على امتيازات كثيرة في بداية الستينيات اصبح اليوم مكروها ويتم معاملته بالنظر إلى هيئته وشكله وصولا إلى تميزه حتى في حالة سفره في المطارات. وقد تمً فعلا اتخاذ هذه الإجراءات مثلا في السويد حيث سن قانون "قانون المصادرة للأموال والمقتنيات للأجانب " الذي يمنح الشرطة السويدية صلاحيات غير مسبوقة لمصادرة الممتلكات الثمينة من أشخاص لا يمتلكون مصادر دخل واضحة، حتى وإن لم يكونوا مشتبهين بشكل مباشر بارتكاب جريمة. الجدير بالذكر ان ذلك يشمل مصادرة الأموال والمقتنيات كالسيارات والمصوغات والساعات الغالية حتى في الشارع أو اي مكان اخر . وفقاً للحكومة السويدية فإن هناك كذلك مقترح قانوني ينص على أن "السلوك السيئ " وليس الجريمة .. ستكون سببا كافيا لسحب إقامتك المؤقتة أو الدائمة... وطبعا ليس هناك تعريف للسلوك السئ من ناحية ومن ناحية اخرى من منا لم يخطئ وهل نحن ملائكة على الأرض.

خذ فقط مثلا وبعد دخول قانون الإهانة الشرطة الجديد وبعد ان دخل حيّز التنفيذ في السويد تقدم الشرطة أكثر من 170 بلاغًا ضد مواطنين السويديين ممن أهانوا أفراد الشرطة وذلك فقط خلال أول شهر والقانون يعاقب كل من اهان الشرطة حتى بالسباب او الشتم. أصبحت كذلك المدارس، دوائر الخدمات الاجتماعية، والرعاية الصحية، والبلديات، والمناطق، والجهات الحكومية ملزمة بتسليم المعلومات (إخبارية)– حتى تلك المعلومات التي تقع تحت بند "المحمية بالسرية "– إلى الشرطة والادعاء العام وجهاز الأمن الوطني (سپو) إذا رأت الجهات المعنية أن المصلحة العامة تفوق سرية المعلومات. كذلك تشديد لم الشمل حيث تنتظر الأوساط السياسية والاجتماعية السويدية تقريرًا مهمًا يُفترض صدوره في 25 أغسطس، ويتعلق بإعادة تقييم قواعد لم الشمل الأسري (familjeåterförening). التوقعات تشير إلى مقترحات تتضمن تقليص عدد أفراد العائلة المسموح بضمهم. هذا بالمقابل على ان يكون الشخص يعمل وله سكن وراتب يتعدى كثيرا مقداد التقاعد الشعبي العام بكثير الذي وضع كأساس لحياة محترمة لجميع مواطني السويد . علينا عدم نسيان حجم نسبةً العاطلين عن العمل في المملكة وكل هذا بالطبع سيجعل من المستحيل لم شمل الأسر وهذا ما نراه في الواقع اليوم.

كيف يمكن سن قوانين يقسم مواطني المجتمع إلى قسمين يتم التعامل معهم عن طريق انتمائهم الطبقي؟ او رؤية هولاء مجرمين حتىً دون ان يرتكبوا اي جريمة ؟ كيف يمكن لقوى الشرطة تطبيق القانون وتميز الجاني من هيئته وشكله؟ كيف تمكن الأحزاب من سن تلك القوانين التي قسمت المجتمع إلى مواطنين من طبقة "نحن " ومواطنيها من طبقة "أنتم"؟ وهل هناك تعريف شامل وقانوني للسلوك السيء أو العشائري ؟ كي تسحب جنسيات مواطنين وفقط تشمل هؤلاء ذو الأصول المهاجرة اللذين تركوا بلادهم الأصلية منذ نصف قرن؟ وتبقى التساؤلات حول كون هذه القوانين كلها من روح دستور المملكة واساس دولة القانون؟

***

 د. توفيق رفيق آلتونچي -  السويد

 

تضامن يتخطى حدود الجغرافيا والمعتقد

اليوم، السبت 9 غشت 2025، وجدت نفسي وسط سوق واسع للسلع المستعملة في مدينة خينت البلجيكية، سوق يمتد بين أكثر من عشرة أزقة وشوارع. لم تكن غايتي سوى التجوال، لكن المشهد الذي استوقفني كان أكبر من مجرد متعة النظر في البضائع القديمة. فقد حضرت فلسطين هناك، من خلال الأعلام والكوفية وغيرها من الشعارات التي ترمز إليها. هناك من يضعها على رأسه أو رقبته، وهناك من يلفها على كتفه، وهناك من يضعها على طاولات السلع المعروضة. وقد كان هذا السوق الموسمي واسعًا وممتد الأطراف، فكانت فرصة سانحة لأن أعاين هذا الحضور الرمزي للقضية الفلسطينية عن قرب، وباهتمام بالغ لا يخلو من التفكير في هذه الظاهرة اللافتة، التي ما انفكت تحضر في الآونة الأخيرة في أغلب المدن البلجيكية والأوروبية.

وقد خرجت من هذه التجربة بثلاث ملاحظات جوهرية، تتعلق بالصورة الإيجابية التي آلت إليها القضية الفلسطينية بعد العدوان الصهيوني الأخير، في المخيال الشعبي الغربي بوجه عام.

الملاحظة الأولى هي أن جل، إن لم أقل كل، الذين يلتحفون بالكوفية الفلسطينية ويضعون شعاراتها على طاولات المعروضات وفي أكشاكهم، هم من البلجيكيين/ الفلامنكيين الأصليين، أي غير مسلمين. وهذا ما يظهر من ملامحهم الخارجية ولباسهم الأوروبي، وعيونهم الزرقاء، وشعورهم الشقراء. بل إن بعضهم يتناول كأس بيرة وهو يضع على كتفه أو عنقه الكوفية الفلسطينية. وقد شدني هذا المشهد كثيرًا، وجعلني أستحضر – ربما كأي مسلم آخر – سؤال الحلال والحرام في هذه المسألة، وموقف الفقه الإسلامي من هذا الفعل العجيب الصادر من إنسان غير مسلم؛ يضع الكوفية الفلسطينية على كتفه نصرةً للقضية الفلسطينية، وفي يده كأس خمر! بينما أبناء جلدتنا من المسلمين؛ منهم من هو غارق في البحث عما يحتاجه من سلع وأوانٍ، ومنهم من يساوم حول الأسعار حتى يفوز بصفقة مربحة، وقليل منهم من يهمه حال أشقائه، سواء في فلسطين أو في غيرها من البلدان المنكوبة.

الأمر الثاني هو أن معظم من يساند القضية الفلسطينية في هذا السوق، هنّ من النساء الفلامنكيات والبلجيكيات دون الرجال. وهذه مسألة تحتاج إلى تأمل عميق، وربما إلى دراسة سوسيولوجية. ويبدو للرائي أنهن يتبنين الهم الفلسطيني دون خوف من الأجهزة الأمنية والاستخبارية، ودون اكتراث باللوبي الصهيوني المتغلغل في المجتمع البلجيكي والأوروبي. ويمارسن هذا الحق النضالي عن طيب خاطر واقتناع تام وهمة عالية، حيث يلتحفن بالكوفية بفخر واعتزاز، رغم أنهن غير مسلمات، ولا عربيات، ولا يجمعهن بفلسطين؛ لا الأرض، ولا التاريخ، ولا الثقافة، ولا المعتقد.

أما الملاحظة الثالثة، فيمكن اعتبارها نوعًا من إعادة اكتشاف للحضور الرمزي للقضية الفلسطينية، ليس في هذا السوق فقط، وإنما في مختلف الشوارع والأزقة التي وطأتها قدماي وأنا أتجول اليوم في ذلك الفضاء الشعبي المفتوح، حيث تتعانق الثقافات، وتتقاطع التطلعات، وتتقارب القلوب. وقد سبق لي في مناسبات أخرى أن لاحظت مدى الحضور الرمزي لما هو فلسطيني في مختلف الأماكن والأحياء في المدن البلجيكية والهولندية والفرنسية التي زرتها في السنوات الأخيرة. ويتنوع هذا الحضور بين تعليق راية فلسطين في النوافذ والشرفات، وارتداء الكوفية الفلسطينية، ورسم الجداريات التي تحمل خارطة فلسطين وقبة الصخرة وحنظلة وغيرها.

كنت أظن أن هذا العمل كله من صنع العرب والمسلمين المقيمين في هذه المدن والأحياء، لكنني أدركت اليوم أن جزءًا كبيرًا منه هو من فعل السكان البلجيكيين الأصليين. إنها لغة تضامن صامتة، لكنها عميقة، تعبّر عن وقوفهم مع شعب لا يعرفونه شخصيًا، ولكنهم يرونه مظلومًا، ويستحق أن يعيش في كرامة.

في الختام، إن التجربة التي عشتها اليوم تذكرني بأن القضية الفلسطينية باتت تحظى بمكانة متزايدة في الوجدان الشعبي الأوروبي، حتى بين من لا تربطهم بها صلة مباشرة. فالرموز، مهما بدت صغيرة وبسيطة، قادرة على تجاوز الحدود الجغرافية والثقافية لتصبح لغة تضامن عالمية. وربما في زمن يتسابق فيه الإعلام والسياسة على تشويه الحقائق، تظل هذه الإشارات الرمزية في الفضاء العام بمثابة شهادة صامتة على عدالة القضية الفلسطينية وامتدادها الإنساني.

***

بقلم: التجاني بولعوالي

صباح يوم 6 آب/ اغسطس تمر ذكرى الجريمة الامريكية ضد الانسانية متمثلة بقصف مدينة هيروشيما اليابانية بالقنبلة النووية، وبعد ثلاثة ايام، مدينة ناجازاكي اليابانية ايضا، والتي تحاول جهات كثيرة، وظيفتها التقليل من الجريمة او التغاضي عنها، بتقسيمها. لا .. الجريمة واحدة والمجزرة واحدة، ولم يتعظ المجرمون بعد منها.

مرت ذكرى استخدام الولايات المتحدة الأمريكية لقنبلتين نوويتين ضد مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين، دون اهتمام كبير، حيث أجريت طقوس يابانية محدودة، أصبحت مشهدا سنويا مألوفا لدى الدولة اليابانية المتحالفة مع الدولة المرتكبة للجريمة الشنعاء. استعادة للذكرى وتعاز للضحايا وخطب بعدم تكرارها ووضع الزهور على أشباح مدينتيهم. ومثلها أصداء باهتة في بلدان لم تزل تحترق من اضطهاد وظلم الحرب والعدوان والغزو والاستيطان.

كان هذا اليوم من عام 1945 موعد الجريمة الأولى، ألقت الطائرة الحربية الأميركية أول قنبلة ذرية تستخدم في تاريخ البشرية، بعد ثلاثة أسابيع فقط من امتلاك الولايات المتحدة الأمريكية لهذا السلاح وتجريبه في صحراء نيومكسيكو. وبعد ثلاثة أيام فقط ألقيت القنبلة الثانية فوق مدينة ناجازاكي. وتركت القنبلتان دمارا كبيرا وقتلى وصل عددهم إلى حوالي مائتين وخمسين ألفا من السكان المدنيين (عام 1945). وبعدها أعلن الرئيس الأميركي هاري ترومان في الرابع عشر من آب/ أغسطس استسلام اليابان بدون شروط، وفي الثاني من أيلول/ سبتمبر انتهت الحرب العالمية الثانية، وأعلنت الإدارة الأمريكية انتصارها، محتفلة باستخدام السلاح النووي ضد سكان المدينتين، وإلحاق الدمار والموت والخراب العام في اليابان والعالم.

فهل يكفي الاحتفال والتذكير بالمناسبة، أم يجب رفع شعار دائم كجرس إنذار: تذكروا دائما المأساة الرهيبة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية ضد البشرية، ولا تنسوا جريمة الحرب هذه والإبادة الجماعية التي تمت فيها، والتي لا يمكن أن تمر ذكراها بيومها فقط ويصمت العالم عليها ليفاجأ كل مرة بأمثالها وبأشكال أخرى؟!. إن ما حصل في اليابان ماضيا يتكرر بصور وبوسائل أخرى، من قبل الدولة المرتكبة، ولم تتوقف الحرب العدوانية، والمصطلحات التي أستخدمها المعتدون على الشعوب التي تحاربهم أو تدافع عن أراضيها أمام غزوهم وهيمنتهم وأفكارهم الشريرة. فكل من يقاومهم عدو عندهم ويشيعونه في إعلامهم الناطق بمختلف الألسن بما فيها لغة الضحايا، وكل من يدافع عن حقه ويقاتلهم إرهابي ومخرب ومسلح ضدهم يتوجب القضاء عليه، فردا أو شعبا، بلدا أو عالما بشريا. وما زالت هذه الدولة هي الدولة الأكثر مبيعا للأسلحة المحرمة في العالم والتي فرضت استفرادها على السياسة العالمية وتقود المذابح البشرية بنفسها أو بالريموت كونترول، في كل أرجاء المعمورة، وتضع خططها الوحشية في مسميات تعبر عن عدوانها وجرائمها المرفوضة قانونا وأخلاقا وعرفا دوليا وإنسانيا.

حين ظهر في المدينتين المنكوبتين دخان الموت والدمار والرعب وحدث ما حصل خلفه، كان المؤمل أن تتوقف تلك الشهية الدموية وتتعلم من دروس تلك الكارثة البشرية، ولكنها عمليا تزداد شراسة وجشعا ونهبا ورغبة مريضة في إشاعة ذلك الدخان القاتل بأشكال متعددة ونشر رائحة الموت والخراب بالخديعة والغش والكذب والاحتيال وكل الوسائل المدانة. وللمفارقة يعلن أمين عام الأمم المتحدة، أهمية التصدي لانتشار الأسلحة النووية ويشدد باسم منظمته الأسيرة عدم التسامح مع صنع الأسلحة النووية، اكثر من مرة. ولكن ظلت الدعوة لفظية ما دامت الولايات المتحدة هي التي تسيّر شؤون المنظمة وما يسمونه شرعية دولية حاليا، بينما يتطلب لمثل هذه الدعوة العمل العاجل على تحقيقها لحماية ملايين من البشر معرضين للإبادة بأشكال مختلفة من تلك الأنواع من الأسلحة التي تنتجها أو تخطط لها الإدارة الأمريكية وحلفاؤها. وللمفارقة المضحكة الان انتقد دونالد ترامب منذ كان المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية انتقد اليابان لعدم تسديدها ما يتوافق مع حمايتها الامريكية والقواعد والجنود الامريكيين في اراضيها!. واليوم يطالب اليابان دعوة الكيان الصهيوني للحضور في الاجتماع المقرر للذكرى، ويرفض الحضور مع حكومات غربية اخرى احتجاجاً على الموقف الإنساني الياباني.

في ذكرى المجزرة البشعة تظل صور الضحايا التي صورت وانتشرت الآن عبر وسائل الإعلام والتقنية الإلكترونية شاهدة على تلك الجريمة ومنددة بمن يواصل مسعاه لتكرارها بأساليب أصبحت واضحة لكل مبصر حقيقي. وهذه الصور المتبقية والأشخاص الأحياء منها دليل إثبات وحكم مسبق على ارتكاب جريمة الحرب والإبادة الجماعية والقتل العمد للسكان المدنيين الآمنين، كما يحصل اليوم في اكثر من منطقة من الكرة الأرضية، خاصة في غزة العزة.

كما صدرت كتب ومذكرات ومشاهدات عن المدينتين الضحيتين، وأنتجت أفلام وعروض ومشاهد سينمائية ومسرحية وتلفزيونية، ولكنها مرة أخرى ظلت محصورة في أماكنها ومناخاتها، وظلت أيدي الإدارة والمسؤولين عن الجرائم طليقة دون محاكمات وعقوبات رادعة، وما زالت كذلك رغم كل الدروس والعبر والتجارب، ورغم الحراك الشعبي والتضامن العالمي ونضالات القوى السياسية المناهضة للحروب والغزو والاحتلال. بل واصلت ادارات تلك الدول برامجها، وحتى في زياراتها لليابان او لنُصب المدن المنكوبة، لم تعتذر عن جرائمها ولم تعد بتغيير مناهجها العدوانية وحروبها المستمرة.

قالت شيغيكو ساساموري، إحدى ضحايا هيروشيما في مقابلة تلفزيونية لها في الذكرى الستين للجريمة، وهي ترى ما يحصل من جديد: "مرت كل هذه السنين على سقوط القنبلة، ستون سنة انقضت، ولم يتعلم الناس بعد من هذا الحدث لاسيما الأميركيين الذين واصلوا إلى يومنا هذا صنع القنابل النووية، (...) ما قامت به أميركا كان جرما لا يغتفر لذلك أشعر بقوة وأدعو الناس بشدة أن يفتحوا قلوبهم وأعينهم ليطلعوا على ما يجرى من حولهم اليوم، الحرب شيء مريع وعلينا أن نتعلم من الماضي بل أكثر من ذلك علينا أن نحمد الرب لأجل معارضة الكثير من الأميركيين والناس الطيبين للحرب والأسلحة النووية، لقد التقيت بنشطاء السلام وآخرين كلهم ناهضوا هذه الأمور وكل هذا يفعمني بالأمل فتراني أتوسل للناس أينما التقيتهم بأن يحاولوا جهدهم وأن يعملوا سوية لوضع حد للحرب النووية".

لم يتوقف السباق النووي وما زالت الدول "الكبرى" تنتج وتبيع أنواعا من الأسلحة النووية والفتاكة، وتجرب وتطور أسلحة جديدة ضد البشرية. ولهذا لابد من تذكر دائم لهيروشيما وناجازاكي، والاعتبار منهما وأن تمنع الضمائر الحية في هذا العالم سوية تكرارها، وتنتصر لحركات تحرر الشعوب الرازحة اليوم ضحايا لأشكال أخرى من تلك الجرائم ضد الإنسانية.

***

كاظم الموسوي

"الحداثويون" المتحدرون من تيار "النهضة الزائفة" النقلية، وبالذات منهم "الايديلوجيون" القوميون، والليبراليون، والماركسيون، لايزالون موجودين كاحزاب وتجمعات بغض النظر عن ترديها ولافعاليتها، وفي بعض الاحيان اندماجها بالمشهد الحاصل الحثالي الطائفي والقبلي الريعي كما حال مايطلق عليه اسم الحزب الشيوعي العراقي، من دون اية بادرة او اشاره الى السياقات التي افضت الى ماهو حاصل وحال على الواقع العربي عموما، وبالاساس النظر الى التاريخ الحداثوي العربي، ذلك الذي يؤرخ مع النهضة الالية الاوربيه، وبداياتها بعد القرن السابع عشر،  وماولدته من انعكاسات ببغاوية، اعتاشت على اشتراطات الانحطاطية الحالة على المنطقة ومتبقياتها منذ القرن الثالث عشر، مع سقوط عاصمة الدورة الثانية  الامبراطورية الكبرى بغداد عام 1258.

والغريب ان مايعرف بالنهضة الكاذبة المتماهية  مع الاخر، ظلت ترفع عنوانا عريضا يقول " لماذا تقدم الغرب وتخلفنا؟"، من دون اية نيه او بادرة تدل على رغبة لتجشم مغبة الاجابه، الامر الذي يثير الاستغراب، لابل التعجب مما كان غالبا وسائدا في حينه من نوع تفاعل مع التغيرات العالمية الطارئة وانعكاساتها، ما يفرض حكما التساؤل: كيف يجوز طرح سؤال كالذي ذكرناه من دون ان يجاب عنه في حينه،  بينما تغلبت الميول للا تباع ولاعتماد المتاح والمتوفر من نموذجية وتفكر غربي جاهز، وصولا الى الصيغ النقلية الحرفيه الايديلوجية، وهو ماقد شمل الدول، ومفهوم "الوطنيه" بصيغتها الزائفة التي عمت المنطقة خلال القرن المنصرم وماتزال معتمده مفهوما، بغض النظر عن مخالفة المترتب عليها للكينونه البنيوية للمنطقة واليات تاريخها، ونوع تعبيريتها.

لم يحدث على الاطلاق ان تمخضت "الحداثوية" المستعارة عن اية محاولة للتعرف "الحداثي" على الذات التاريخيه، في حين عمت الافتراضية التاريخيه والطبقية المنقولة بحسب النموذجية الغربية الاوربية، مع الحرص على اسقاط كل "خصوصية"، وقد غدت من قبيل الجريمه علما بان الحديث يجري هنا عن موضع هو مركز البدئية المجتمعية والتبلور التاريخي المجتمعي النهري النيلي الرافديني على مستوى المعمورة، وهو المعترف به من قبل الغرب نفسه بغض النظر عن طريقتة في تشويهه من منطلق الابقاء عليه منطويا تحت وطاة المركزية الاوربية  المفتعلة،  والتي صارت مبررة  اليوم بقوة مفعول الاله قبل وصولها الى بقية انحاء العالم وللمنطقة بالذات. فكان مايقرأ لهذه الجهه تحيزا لصالح طرف دخلته الاله مقابل اخر مايزال محكوما لماقبل، الى الطور اليدوي المنقضي، وهو ماقد ظل الغرب يكرسه من دون ان نسمع كمثال، عن رغبة من اي نوع لدى الاوربيين او بعضهم، تقول بان بداية الاله ومفعولها ليس نهاية، وان بقية اجزاء المعمورة مهيأة هي الاخرى لدخول هذا الطور من تاريخ المجتمعات، مع ما يمكن ان يرافق ذلك من متغيرات منتظرة حتما، ولابد من ان تحصل ضمن اجمالي عملية الانتقال  الالي التاريخي، وان بديناميات مختلفه، تلك التي لم تكن قد اكتملت اسباب تحققها وقتها، بل بدات الخطوة الاولى من ولادتها في جزء بعينه من العالم قبل غيره، له مواصفاته وتكوينه البنيوي، وما يتوقع منهما من طريقة تفاعل مع الانقلابيه الحاصلة، بما في ذلك النزوع الى المصادرة الاقرب للتملكية الخاصة،  باعتباران الاله وجدت اوربيه من قبيل الخصوصية، والاستثناء الذي لاتاريخ بعده او يترتب عليه.

فالغرب لم ينظر للحاصل في رحابه عالميا، سوى بمنطق الهيمنه والغلبة، مع التميز الموكول الى القوة والقدرة وماقد صار متاحا منها، ومثل هذا المنطلق لاشي يوصله بادعاء "العلموية" و "التقدميه" في حال اخذها بمنطق المستجد الحاصل، من منطلق المتغير الشامل على مستوى المعمورة، بوسائل مختلفة عن تلك التي اعتمدها الغرب بالهيمنه والقوة والاستعمار، تحت ذريعة مامعدود على انه " تقدم" ونموذجية من نوع " الديمقراطية التي تسمح لراسماليتها ودولتها باحتلال غيرها واستغلاله ونهبه"، والاهم الاخطر في التوهميه التي اعتمدها الغرب ابان بدايات الانقلاب الالي، هو الاحتمالية المجتمعية من زاوية مفعول وسيلة الانتاج، اليدوية الاولى، والمتوقع المفترض حلوله من هنا فصاعدا، وباي وجهة هو سائر بما يخص الحقيقة المجتمعية واحتمالات تبدلها  نوعا.

وهنا يظهر مدى جهل الغرب الذي نعرفه  بالحقيقة الالية وابعادها، وعجزه عن مواكبة ابعادها، وهو قصور اساس رافق الظاهرة الانقلابيه،  ولم يكن هنالك فيما يمكن تحرية او الاستناد اليه وقتها، مامن شانه جعل العقل الغربي يتعدى نطاق " الالة المصنعية" ومامتولد عنها في حينه على اعتباره حقبة لاحقة على اليدوية، بلا احتمالية تشكلية تتغير بموجبها الاله وماينجم عنها، من نوع التكنولوجيا الانتاجية الحالة اليوم، او مايمكن ان يتبعها من طور تكنولوجي اعلى، مايجعل من النظر الى الانقلابيه الحاصلة مختلفة كليا، وفي حال تصير على مستوى الادراكية اللازمه، قد لايكون الغرب نفسه مهيئا تكوينيا للتعامل معه  بمقتضاه، من دون استبعاد احتمالية ان يكون مثل هذا التفاعل الحي مضمرا، ومن الممكن ظهوره في مكان اخر، وفي مرحله اخرى من مراحل التشكلية الاليه، بما يجعل من الحدث مدار البحث  غير مقصور على اوربا، لابل وبعيد عنها اذا اخذنا الامر من ناحية الاكتمال وتكشف الحقيقة التاريخيه المجتمعية التحولية الحالة على البشرية كافتتاح وقتها.

من ابسط مقتضيات النظر للانقلابيه الحاصلة مع الالة، اعتماد مبدا التحولية الانقلابيه المجتمعية لا الانتاجية الصرفة، فالطور اليدوي من تاريخ المجتمعيات لم يكن طورا دخلته وسيلته الانتاجية من خارجه، او وهو كامل التشكل، بل هو قد تشكل بها واستنادا لممكناتها كتجمع بشري ارضي  وسيلته الانتاجية تحدد نوعه وطبيعته الحاجاتيه الجسدية المادية، فاذا غابت الوسيله  فان البنيه المجتمعية لاتظل هي ذاتها نوعا، خصوصا مع الانتقال من حالة المجتمعية (الكائن البشري + البيئة)، الى (الكائن البشري + البيئة + الالة)، والاخيرة عنصر مختلف من نوع وطبيعة مغايرة للاولى، معها يستحيل تصور بقاء المجتمعية او استمرارها كما كانت بنيويا، وبصورة خاصة، ارضويا.

فالى اين تسير الظاهرة المجتمعية مع الاله؟ هنا نقع تحت طائلة احدى اخطر النقائص، واكبرها قصورا عقليا ابتدائيا، لايشمل الحداثيين الشرق متوسطيين العرب  لوحدهم، فالقصور العقلي ازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، وحركتها التفاعلية ومنتهياتها، نقيصة شامله، واقعه على العقل البشري في طوره الاول "الانسايواني" الانتقالي، مع ان مسؤولية وشكل تجلي هذا النقص في اصل ومنطلق البدئية المجتمعية في هذا الجزء من المعمورة، اشد وطاة، ويتعلق بالذاتيه الباقية بلا  مقاربة، ومن دون كشف للنقاب، يتكرر الوقوع تحت ثقله الخطير اليوم متحولا الى مناسبة للتماهي مع الاخر قصورا وعجزا، باسم "النهضوية" الزائفة.

***

عبد الأمير الركابي

مع الكاتب والمحلل السياسي عبد اللطيف سيفاوي

أوراق فكرية مهربة بطابع ثوري في زمن الحصار، هي رحلة إبداعية جديدة في الوضع الاحترافي، وعندما يصل الكاتب إلى هذا الوضع فقد دق باب الخطر، هي مغامرة قلم أبي ألا يصمت، ليواصل نضاله من أجل قضية مؤمن بها، يدافع عنها مهما كانت مخاطرها أو نتائجها، تلك هي الرحلة التي خاضها رجال المواقف خاضوا معركة حاربوا فيها الغطرسة التي تمارسها أنظمة القمع الفكري والسياسي، يقول المفكر عبد اللطيف سيفاوي إنّ من أكبر تحدياتنا اليوم أن نعيد ربط النفوس بقضايا مشروعة وأهداف تتجاوز الأنا، يمكن القول ان عبد اللطيف سيفاوي مناضل ذو وزن ثقيل، له مقالات عديدة عالج فيها العديد من القضايا نشرت في مواقع إلكترونية وجريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي يعتبر من أبرز أعضائها

في أوراق الكاتب والمحلل عبد اللطيف سيفاوي نقف على مجموعة من المفاهيم وظفها الكاتب كمفهوم (الثقافة، المثقف، النخبة، الصفوة، الجماهير، التوتر الخلاق، الحداثة، النهضة، التقدمية، المشروعية، الإلتزام، التأثير، التغيير، التجديد، الفاعلية، الوعي)، وغيرها من المفاهيم التي ينبغي تحليلها وربطها بالواقع المعاش، ثم غرسها في الضمير العربي، في ظل الصراع الدولي وسباق التسلح بين الدول وما يحدث في الساحة الدولية، وتناقض الافكار والتوجهات ففي منشور له بعنوان: "حين يغيب التوتّر الخلاق" يطرح فيه سؤال: لماذا نعجز عن تجاوز أنفسنا؟، يقول أنه ثمة توتّر داخلي ضروري لكل نهضة: انشداد نفسي يولد الفعل ويشحذ الإرادة لتجاوز الذات وخدمة أهداف عليا، اليوم، يغيب هذا التوتّر في بيئتنا الاجتماعية والثقافية، فتتراجع روح الالتزام وتذوي دوافع التضحية، لم تعد البيئة الرمزية التي فشلت في أن تكون القدوة وهي تواجه رياح التغيير والحداثة وأضحت غير قادرة على بعثّ المعنى أو إلهام النفوس كما يقول هو، حيث اكتفى كثيرون بالسعي الفردي نحو مصالحهم الخاصة، ومع مشروعية هذا السعي.

لقد ظل هؤلاء عاجزون عن خلق حركة جماعية تدفع المجتمع للأفضل، ولذلك فإنّ من أكبر تحدياتنا اليوم أن نعيد ربط النفوس بقضايا مشروعة وأهداف تتجاوز الأنا، وأن ننعش ذلك التوتّر الخلاق الذي يصنع الالتزام ويؤسس لأيّ نهضة حقيقية، عن مفهوم النخبة ودورها في عملية التأثير وهو ربطٌ أثار كثير من التفاعلات لدى القراء، رغم وجهاته فهو يطرح إشكالات عديدة واضحة، حيث يُعَرِّفُ الأستاذ سيفاوي مفهوم التأثير على أنه المعيار الوحيد، يصبح العالمُ قليلُ التأثير خارج تعريف النخبة، ويصبح الجاهلُ المؤثر أو الشعبوي داخلها!، الإشكال حسبه ربما يكون ناتجا عن تصور واسع بأن "النخبة" مرادفة لـ"الصفوة" ذات الحمولة الإيجابية، بينما الواقع أكثر تعقيد، بحيث يمكن أن تكون النخبة صالحة مصلحة، كما يمكن أن تكون فاسدة مفسدة، من هنا، يصبح من الضروري ألا نكتفي بتعريف واحد للنخبة، بل ننفتح على تصنيفات ضرورية: (نخبة فاعلة وأخرى مغيبة، نخبة ملتزمة وأخرى انتفاعية، نخبة شعبوية وأخرى واعية..الخ) ونضيف نحن نخبة ثورية (ثائرة) وأخرى ذيلية (سلبية وتابعة)، وهكذا يصبح التأثير عنصرا مهما، نعم، لكنه ليس المعيار الوحيد في فهم من يكون من النخبة فعلا، يطرح عبد اللطيف سيفاوي تساؤلاته ويبقيها مفتوحة: أين نخبتنا؟ ولماذا ابتعدت عن الفعل والتأثير؟ وهل تغيّبت، أم غُيّبت، أم اختارت الانعزال؟، في الحقيقة لم يحدد عبد اللطيف سيفاوي عن أيّ نخبة يتحدث، هل عن النخبة المثقفة التي يطلقون عليها اسم " الإنتلجنسيا"؟ أم النخبة الدينية ممثلة في رجال الدين؟ أم النخبة العسكرية (الجيش)، أم الطبقة السياسية؟ أم هناك نخبٌ أخرى، التي نجدها في المنظومة القضائية وهذه الفئة لها سلطة القرار وصناعته، من خلال سَنِّهَا النصوص التشريعية (القوانين) وما إلى ذلك، هذا التنوع قد يقود إلى خلق نوع من التوتر، لدى الفرد أو المجموعة وعلى كل الأصعدة والمستويات، خاصة المستوى السياسي، باعتبار أن هذا الأخير هو حالة من عدم الاستقرار والترقب في العلاقات بين القوى السياسية المختلفة، سواء كانت داخل الدولة أو بين الدول.

نُخبٌ غائبة أم نخبة مغيَّبة؟

يجيب عبد اللطيف سيفاوي، وربما يكون ردا على تساؤلات من سبقوه من الذين يحملون في قلوبهم الألم والوجع لتراجع الأمّة، بل سقوطها في فخ القابلية للإستعمار على حد قول مالك بن نبي، بعد أن استمع إلى محاضرة مهمة حول "النخبة وضرورة التجديد"، وبالنظر لما تتميز به هذه الفئة (النخبة) من فعالية، من منطلق الأدوار التي تمارسها في المجتمع، فقد أثارت لديه ملاحظتين جوهريتين: الأولى تتعلق بمصطلح النخبة في مفهومها العملي، وإن كانت قائمة على معيار التأثير أم لا، وهل من يؤثر في مجتمعه يعدُّ من النخبة؟ ومن لا يُؤثّر هو ليس منها ولا ينتمي إليها، مهما بلغت معرفته أو شهاداته، ونحن نتابع منشوراته، نلاحظ أن عبد اللطيف سيفاوي يرفع كل التحفظات في التعريف بمفهوم النخبة، إذ يراه كاشفا عن عمق الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية، فبناءً عليه، تقصى شريحة واسعة من المتعلمين وأصحاب الكفاءات من دائرة "النخبة"، فقط لأن تأثيرها في المجتمع محدود أو غائب، وهذا لا يُدين هذه الفئة بقدر ما يطرح سؤالًا أخر وأكثر إلحاحا: لماذا فقدت النخبة قدرتها على التأثير؟ وما الذي عزلها عن الناس والواقع؟ ويصل الكاتب إلى مَخْرَجٍ وهو أنه إلى جانب التجديد، يفرض الواقع علينا أن نبحث عن أليات نعيد بها القيم التي تراجعت أو التي فقدناها بل ضيعناها: (قيم التضحية، الإخلاص، المسؤولية، خدمة الناس..الخ)، فنجده يضع عنوانا إشكاليا مناسبا لتحريك الضمير العربي وإيقاظه من سباته وهو: " دعوة النخبة إلى التجديد"، في حين أن السؤال الأوْلى هو: هل النخبة حاضرة أصلا؟، أي إثبات وجودها وإن كاان تفاعلها مع المجتمع يسمح لها بأن تؤثر وتُجدّد؟

ثقافة الحد الأدنى: كيف نخذل مشاريعنا بأيدينا؟

في هذه الورقة يطرح عبد اللطيف سيفاوي أزمة المثقف، وهو يغرق في التناقضات والضدّيّة إن صح التعبير، يقول عبد اللطيف سيفاوي: " في مشهد متكرّر على امتداد المجتمعات المتعطشة للتغيير، يبرز نمط سلوكي غريب: حماس في الخطاب، وفتور في الفعل، نعلن عن نوايانا الإصلاحية، نرسم الأهداف الكبرى، نملأ الفضاء العام بالشعارات، لكن حين يأتي وقت الفعل، نلجأ إلى الخدمة في حدها الأدنى، ذلك الحد الأدنى من الجهد الذي لا يُغير شيئا، لكنه يُسكن الضمير مؤقتا، هذه الظاهرة، التي نعيشها ونشارك فيها بوعي أو بغير وعي، تفرغ الفعل الإصلاحي من محتواه الحقيقي، فنحن لا نعمل بما يتناسب مع حجم الأهداف التي نرفعها، بل نكتفي بحركة رمزية، بادرة سطحية، أو مشاركة شكلية، وكأننا نحاول إقناع أنفسنا أننا "قمنا بالواجب"… في حين أن الواقع يبقى على حاله، أو يزداد سوءا"، ربما نقف معه في هذا الرأي، لأن المبادرات في الفضاء المدني رغم أنها تنطلق بنية حسنة، لكنها سرعان ما تُختزل إلى مظاهر أو مناسبات هي في الواقع شكلية وموسمية، تُحدَّد الأهداف لا لتتحقّق أو تكون مشروع مجتمع يتُجسَّدُ في الميدان بل لتعطينا وهم الوعي والجدية، وكما يقول هو، فقد يكون لنا إدراك بما نريد، أو نُقنع أنفسنا بذلك، لكن بعدنا عن "عالم الأشياء" يجعلنا لا نتجند فعليا لما نريد، وهنا تتكرّر المفارقة: كيف نطمح للتغيير دون أن نُغيّر ذواتنا ونطور أدواتنا؟ كيف نحلم بواقع جديد ونحن نكرر السلوك القديم؟ يشير عبد اللطيف سيفاوي إلى دور " الفاعلية"، في أبسط صورها، وهذه الفاعلية استمدها من الفكر البنّابي، لكنه أعطاها بعدا جديدا، فهي في نظره تعني أن يُبذل الجهد المناسب لتحقيق الهدف المنشود، وأن أيُّ إصلاح لا يبنى على هذا التناسب هو مجرد خداع للذات، لأننا لا نريد أن ندفع الثمن الحقيقي للإصلاح، ونحن نقود الحراك المدني، ويبقي السؤال الجوهري هو: هل نحن مستعدون لبذل الجهد الذي يتناسب مع هذا الذي نريده؟

ما هو معلوم أن الكاتب والمحلل عبد اللطيف سيفاوي من المتأثرين بفكر مالك بني، فهو عضو في الكرسي العلمي مالك بن نبي للدراسات الحضارية، وعضو بارز في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكاتب مقالات تناول فيها القضايا العربية المطروحة برؤية واقعية واستشرافية للمستقبل، وقد لقيت جدلا واسعا، لاسيما القضايا المتعلقة بالهوية والعرقية، نقرأ على سبيل المثال لا الحصر المقالة الموسومة: "الاستعمار الفرنسي والقضية البربرية"، وفي منشوراته نجده يتكلم بلغة الوجع وهو يقف على وقت مضى (ولا يزال) كانت فيه مؤلفات مالك بن نبي مُحَاصَرَة، لا تجد طريقها إلى القارئ إلا سرًّا أو بجهد مضنٍ، كانت الأسماء المروّجة حينها تُمنح أولوية العرض والانتشار، لا لقيمة ما تكتبه، ولكن لتوجهاتها الأيديولوجية المتناغمة مع السياق الثقافي الرسمي أو مع أهواء "النخبة" المتغربة، من بين هؤلاء، من رأى في إلحادِه وتنكره للإسلام ورسوله عليه الصلاة والسلام عنوانًا للتقدمية، ومن موقع هذا الادعاء حكم على مالك بن نبي بالرجعية، دون أن يكلّف نفسه عناء قراءة كتبه أو فهم مشروعه، كم هو جميل أن نعتز بفكر مالك بن نبي ونسترجع مأثره وهو ما قام بها هذا الكاتب وهذا يكفيه أن ابن نبي يرى أن نهضة الأمة لا تُستورد، بل تُبعث من داخلها، من قيمها الحضارية وروحها الدينية، ليحكم عليه بالإقصاء، إن مأساتنا يقول عبد اللطيف سيفاوي مزدوجة : مثقف صامتٌ، وجمهورٌ منصرفٌ، فحين تفقد الأمة حاجتها إلى الكلمة الهادية، وتزداد شهية الجماهير للسطحي والمثير، تصبح الكارثة ثقافية جماعية، لأن الثقافة ليست عزلة فكرية، بل مسؤولية اجتماعية، كما هي ليست انسحاب إلى الفكر، بل نزول إلى الميدان وانخراط في الواقع، وارتباط حيٌّ بقضايا الناس وهمومهم، ولو يحدث العكس حينها تصبح القرارات أدوات استفزاز، وإن ذلك يكشف أن صانعي القرار قد فقدوا الإحساس بنبض مجتمعهم.

***

علجية عيش الجزائر

يبدو أن الخوض في موضوع العلمانية من طرف بعض الفلاسفة والمفكرين والأدباء قد قاد البعض الى خلط كبير زاد المفهوم ضبابية وعاد بنا الى الدرجة الصفر من الدّراسة والتحليل ومحاولة الكشف. إذ ان كثيرا من المقالات التي تناولت الموضوع خلطت بين العلمانية واللائكية واعتبرتهما، اصطلاحا على الأقل، الشيء نفسه. وفي اعتقادي أنهما مختلفتان تماما سواء في المفهوم او حتى في زمن الظهور فالعلمانية ظهرت عند الفلاسفة اليونانيين قبل الميلاد داعية الى إعطاء الانسان حقّه في وضع نظم وقوانين وتشريعات تمكّنه من تصريف أعماله وتحديد قيم الخير والشر والمصالح والمضارّ، دون اعلان حرب مقدّسة على المقدّسات ودون صراع ضدّ الدّين الذي لا يتعارض، حسب رأيهم مع هذه الدعوة.

في اعتقادي ان الإسلام دين علماني، يتجلى ذلك من حديث  الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان من أوائل العلمانيين وسأبين ذلك بعد أن أذكّر بأن العلمانية (بكسر العين أو بفتحها) هي عقليّة (état d’esprit)  ومبدأ أو نظام سياسي أو طريقة تسيير وتسييس وليست منهجا أو دينا يدين به أتباع  وهي تعني أيضا الدنيويّة أو الدّهرية وتتلخّص في كونها طريقة تمكّن الانسان من استثمار معارفه التي جمعها وحفظها عن طريق المعرفة والعادات والتقاليد والعائلة والمجتمع والتربية المدنية والتربية الدينية واستعمالها  قصد القيام بشأن دنيوي يعني تسيير شؤون الحياة بما في ذلك أداء الشعائر الدينية. بلغة أكثر بساطة وأكثر وضوحا يحتاج المسلم الى العلمانية كما يحتاج الى المعرفة للقيام بواجباته الدينية. قال الرسول صلى الله عليه وسلّم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" ولعلّ هذا الحديث النبوي الشريف خير دليل على اللقاء الثلاثي: العلم، الدين، الشأن الدنيوي.  لهذا سمى بعضهم العلمانية بالدنيوية (secularism).

أما اللائكية (laicus) فقد ظهرت في أوائل عصور النهضة في أوروبا احتجاجا على الكنيسة التي كانت تحتكر السلطة. فجاءت لتمنع الحاكم من استخدام الدين لفرض سيطرته على الشعب شعارها: لا تحكمني باسم الدّين. وكما نرى ونفهم أن منع استخدام الدين في سياسة الشعب لا يعني انكاره أو محاربته وانما عدم العمل به في سن القوانين المنظمة للدولة ولا تعني أيضا اقصاءه من حياة الناس فالفرد حرّ في اعتناق الدين الذي يريد وفي ممارسة طقوسه وعبادة ربّه. ولعلّ في دعوة الإسلام الى العلم والعمل دعوة الى اعمال العقل والتفكير" ورد في القرآن: "اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم". و"انما يخشى الله من عباده العلماء". و"يرفع الله الذين امنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" و" قل ربي زدني علما" ونجد في الحديث: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. و" من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع". و" من سلك طريقا يلتمس به علما سهل الله له به طريقا الى الجنة".

لا يشك أحد في ان الإسلام دين علم وعمل ولا يتأتى العمل الا بالمعرفة وان الفعل في الأرض والمجتمع هو الذي ينفع الانسان وان العلم يقربه من الله وان إدارة الشأن العام بالعقل لا يتناقض مع الايمان بالله بل يزيد الامة قوة.

ألم تشكّل الصحيفة التي صاغها الرسول في المدينة اول دستور مدني وعلماني عالج من خلاله قضايا تنظيمية إدارية دون مساس بالعقيدة وأنشأ بها مفهوم الأمة والدولة المدنية وأعطى الأولوية في تسييرها الى العقل والحكمة فتعامل مع اليهود في المدينة كما يفعل رجل الدولة المتبصّر الحكيم.

أردنا في هذه السّطور دعوة الباحثين الى مزيد من الغوص في المفهومين وعدم الخاط بين اللائكية والعلمانية.

***

د. المولدي فرّوج

فتح تأسيس الصحافة الماركسية، آفاقا جديدة ادت إلى تطوير دور الإعلام، فأصبح يعبر عن مصالح المواطنين وهمومهم الحياتية وحاجاتهم الاجتماعية والثقافية وطموحاتهم السياسية، بعد أن كانت الصحف الوطنية منشغلة بالتعبير عن مصالح النخب المتنفذة والعوائل السياسية وصراعاتها من أجل السلطة، وقليلة الاهتمام بالجماهير ونضالها المطلبي. وبغية تحقيق ذلك، اعتمدت الصحافة الماركسية منذ تأسيسها أسلوب النقد والمعارضة الدائمة لسياسة السلطات المعادية لمصالح أغلبية المواطنين. وقد انتهجت لهذا الغرض أساليب متنوعة منها: ـ

1. توعية المواطنين من مختلف الفئات الاجتماعية بحقوقها وأهمية النشاط من اجل تحقيقها.

2. التعريف بالنشاطات الاحتجاجية التي يقوم بها المواطنون للضغط على السلطات الحاكمة لتلبية حقوقهم، وخاصة تغطية نشاطات منظمات المجتمع المدني، كالنقابات والمنظمات المهنية.

3. دعوة المواطنين لتنظيم أنفسهم في نقابات وجمعيات للدفاع عن حقوقهم، ومطالبة السلطات الحاكمة بتلبية مطالب الشعب في حرية التعبير والرأي والعقيدة وتكوين الأحزاب الوطنية.

4. نشرت الوعي الديمقراطي الثوري وفضحت عيوب الديمقراطية الليبرالية وكيف أن ممارستها تقتصر على النخب الحاكمة وأعوانها وتحرم عامة المواطنين من ممارسة حقهم في الوصول إلى البرلمان الذي نص عليه القانون الأساسي/ الدستور الصادر عام 1925.

5. التأكيد على وحدة قوميات الشعب العراقي والدفاع الجريء عن الحقوق المشروعة للقومية الكردية والدعوة لتعزيز النضال المشترك للقوى الوطنية.

6. التحريض ضد التدخل البريطاني في شؤون العراق الداخلية الذي اتخذ شكلاً جديداً، بعد إعلان الاستقلال الشكلي للعراق عام 1932.

7. النضال من أجل وحدة الشعوب العربية من أجل الاستقلال والسيادة الوطنية، والتحذير من مخاطر الصهيونية على حقوق الشعب الفلسطيني، وقد برزت بهذا المجال، جريدة "العصبة"، لسان حال "عصبة مكافحة الصهيونية " التي اسسها عدد من الماركسيين العراقيين في عام 1946.

8. الكتابة بأسلوب ولغة مفهومة عن هموم المواطنين ورؤية الحزب الشيوعي لتحقيقها.

وقد مثلت كتابات قادة الحزب في تلك الفترة، يوسف سلمان يوسف، فهد، و حسين محمد الشبيبي، نموذجاً جديدا في الكتابة الصحفية، التي تمزج بين الفكر والرؤية الصحفية واللغة السلسة في تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقد كان الرفيق فهد، مدرسة في العمل الصحفي الوطني بأسلوبه البسيط ولغته التي كانت تتضمن الكثير من الأمثلة الشعبية، القريبة من وعي الناس وهمومهم،  والتي غالباً ما تكون خالية من العبارات والمفاهيم النظرية المجردة، وتميزت بقوة الحجة والاقناع، لذلك تركت كتاباته أثرا تحريضياً وتنويراً، ليس في أوساط أعضاء الحزب وأصدقائه، بل بين عموم المواطنين، خاصة الكادحين منهم. وهنا أشير إلى نموذج من كتاباته عن العلاقة بين الصهيونية والفاشية حيث يقول: الفاشية بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفوضى في أنحاء المعمورة وورطت شعوبها وأولعت بهم نيران حرب عالمية لم تتخلص أمة من الأمم من شرورها. والصهيونية، بذرت الكره العنصري ونشرت الخوف والفتن والإرهاب في البلاد العربية وغررت بمئات الألوف من أبناء قومها وجاءت تحرقهم على مذابح أطماعها.. وكان من نتائج أعمالها المجرمة أن حولت فلسطيننا العزيزة إلى جحيم لا ينطفئ سعيره ولا تجف فيه الدماء" (كتابات الرفيق فهد ص 1).

إجمالاً، كانت الصحافة الشيوعية، منبرا مهما، في التوعية الاجتماعية والعمل التنويري ضد الجهل والخرافة، ومعلماً بارزا في الدفاع عن مصالح المواطنين وخاصة العمال والفلاحين والفئات الفقيرة والمهمشة.

إن هذا النهج الذي اختطته الصحافة الماركسية، بعد ظهور صحيفة كفاح الشعب في تموز 1935، ليس جديدا في النشاط الصحفي العراقي، مارسته بشكل خاص صحيفة الاهالي، التي صدرت عن جماعة الأهالي، والذي لم تكن بعيدة عن تأثيرات العناصر الماركسية الذين عملوا فيها مثل، عبد القادر إسماعيل البستاني وعبد الفتاح إبراهيم، لكنه أصبح أكثر جذرية ووضوحاً، بعد ظهور كفاح الشعب وما تلاها من الصحف الماركسية السرية. لقد ترك نهج الصحافة الماركسية في معالجة قضايا المواطنين، تأثيراً كبيراً بالغ الأهمية، على الصحافة الوطنية العراقية، التي كثيراً ما كان يجري تعطيلها، ليس بسبب نهجها المعارض فقط، بل لاتهامها بكونها صحافة يسارية شيوعية، بمجرد توجيهها النقد لسياسة السلطات الحاكمة. (مظفر عبد الله الأمين، جماعة الأهالي: منشؤها، عقيدتها ودورها في السياسة العراقية 1932ـ 1944، ص 160)

دور الصحافة الشيوعية خلال فترات النشاط العلني

بعد ثورة 14 تموز 1958 تمتعت الصحافة العراقية بحريات واسعة، ولعبت أدواراً متباينة عندما احتدم وخلال العام الأول، الصراع بين قوى الثورة، العسكرية والمدنية، حول المهام التي تواجه السلطة الجديدة، حيث ظهر اتجاهان، الأول، يريد حصر الثورة في الإطار البرجوازي الضيق، والثاني، يدفع باتجاه تطوير الثورة إلى ثورة وطنية ديمقراطية تستجيب إلى مصالح العمال والفلاحين والكادحين والفئات المثقفة والبرجوازية الوطنية. ويطالب هذا الاتجاه، بتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية والسيطرة على الثروة النفطية، لتوفير الأسس المادية للعدالة الاجتماعية، وتحقيق الاستقلال الوطني والخروج من حلف بغداد، وتوسيع الحريات الديمقراطية وما تتضمنه من حرية تشكيل الاحزاب والمنظمات الاجتماعية والمهنية وضمان حرية التعبير والنشر والتظاهر وحرية الصحافة الوطنية، وتحقيق الوحدة العربية على أسس ديمقراطية، تعزز التضامن والعمل المشترك بين الشعوب العربية وليس اتحاداً بين الحكومات، والاستجابة للحقوق المشروعة للقومية الكردية.

 لقد انعكس الصراع بين الاتجاهين السابقين على الصحافة الوطنية، فوقفت الصحافة اليسارية كاتحاد الشعب وغيرها، مع تطوير سلطة الثورة إلى سلطة وطنية ديمقراطية، أما الصحافة القومية واليمينية، فوقفت موقفاً مضاداً. وساهم الصراع السياسي والتعصب الفكري حول القضايا القومية (الوحدة العربية والقومية الكردية) في القطيعة بين التيارين الماركسي والقومي، الأمر الذي أدى إلى إعاقة التطور الديمقراطي وانفراد كبار العسكريين بالسلطة.

وبالعودة إلى الصدور العلني للصحافة الشيوعية، اتحاد الشعب، والفكر الجديد وطريق الشعب خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، نلاحظ ظهور أشكال جديدة من النشاط الصحفي، أدى إلى الارتقاء بطبيعة العمل الصحفي، وشكل اضافة نوعية للصحافة الوطنية العراقية، أشير إلى أبرز معالمها بالنقاط التالية: ـ

1. من أجل تطوير عملها الصحفي، في التوعية والتحريض، أضافت الصحافة الماركسية، تقليدا جديدا في العمل الصحفي، تمثل بظهور صفحات تخصصية أسبوعية، تتناول شؤون العمال والفلاحين، والمرأة والطلبة والشباب والتربية والتعليم وغيرها من أبواب المتابعة الصحفية.

2. اهتمت بمواهب الصحفيين الشباب من خلال نشر كتاباتهم، واشراكهم في دورات التدريب الصحفي لتعزيز مهاراتهم المهنية. وقد أدت هذه التجربة إلى رفد الصحافة العراقية بصحفيين شباب بمختلف الاختصاصات.

3. من الظواهر الجديدة التي ميزت الصحافة الماركسية كتابات، السخرية السياسية، ذات الطابع التحريضي ضد سياسة السلطات الحاكمة، ونال هذا الفن الصحفي شهرة واسعة بين القراء حيث تناول معاناة المواطنين وهمومهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بأسلوب نقدي تهكمي ساخر. وبرز بهذا النوع من الكتابة الصحفية، شهيد الصحافة الوطنية أبو سعيد ـ عبد الجبار وهبي، بعموده اليومي" كلمة اليوم" في صحيفة اتحاد الشعب العلنية، الذي يعتبر من أحسن النماذج الصحفية في تاريخ الصحافة العراقية المتخصصة بفن المقال القصير المكثف، حسب تقييم عميد الصحافة العراقية فائق بطي (الموسوعة الصحفية العراقية ص 321).  وكذلك الراحل شمران الياسري - أبو كاطع ـ الذي لم تحتمل سلطات البعث الحاكمة عموده الشهير " بصراحة أبو كاطع" والذي كان ينشره في صحيفة طريق الشعب، فهددت بإغلاقها في حالة عدم توقفه عن النشر.

4. نجحت في تجربة المكاتب الصحفية المتخصصة، التي تقوم بإعداد المقالات الصحفية لأبواب الصحيفة الأسبوعية المتخصصة.

5. ظهور شكل جديد من الفن الصحفي يتعلق بالروبورتاج الصحفي والمقابلات الصحفية المفتوحة مع عامة المواطنين، اضافة إلى الاستفتاءات الصحفية.     

6. استقطبت الصحافة الماركسية العلنية، أعدادا كبيرة من المبدعين العراقيين في مجالات الثقافة والأدب والفنون والسياسة والعلوم المختلفة، الذين أغنوا العمل الصحفي وساهمت مقالاتهم في تقريب الصحافة من المواطنين.

خلاصة

أولاً، إن الصحافة الوطنية المستقلة، رغم دعوتها للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والاستقلال والسيادة الوطنية، إلا أنها لم تتبن قضايا العمال والفلاحين والفئات الكادحة والفقيرة، لأنها تعبر عن وجهات نظر البرجوازية الوطنية الاصلاحية التي تحافظ على مصالح الفئات الغنية المالكة لوسائل الانتاج، كبار الرأسماليين والتجار ومالكي الأراضي، بينما كان هدف الصحافة الماركسية، التغيير الجذري، الذي يؤدي إلى العدالة الاجتماعية والمساواة وتلبية مصالح أغلبية المواطنين.

ثانياً، إن الآراء التي كانت تطرحها الصحافة الماركسية السرية والعلنية، كثيراً ما ينسحب على الصحف الوطنية المستقلة غير المرتبطة بالسلطات الحاكمة، والتي غالباً ما كانت تتعرض للتعطيل بسبب مواقفها السياسية المعارضة لنهج السلطات الحاكمة.

ثالثا، رفعت الصحافة الماركسية، لواء حرية التعبير والنشر وحق المواطنين في حرية تأسيس الأحزاب والمنظمات المهنية والاجتماعية. كما أعطت أهمية للدفاع عن حرية الصحافة واحترام حقوق الصحفيين وفضح ممارسات السلطات ضدهم والدفاع عنهم عند تعرضهم لاضطهاد وإرهاب السلطات.

رابعاً، لعبت الصحافة الماركسية السرية للحزب الشيوعي العراقي، خاصة خلال العهد الملكي، دورا مهما في التوعية والتحريض ضد ممارسات السلطات المعادية لمصالح الشعب، وكذلك الدعوة للاستقلال والسيادة الوطنية والتضامن المشترك بين الشعوب العربية ونصرة القضية الفلسطينية.

خامساً، من سمات الصحافة الماركسية، التمسك بأخلاقيات العمل الصحفي واحترام الأعراف الاجتماعية والتقاليد الوطنية وخصوصية المواطنين والابتعاد عن الاشاعات المضللة.

 واخيراً، ورغم ان صحيفة "كفاح الشعب" وغيرها من الصحف الماركسية، كانت في أغلب الأوقات سرية، إلا انها كانت تشكل حالة خوف وقلق دائم للسلطات الحاكمة، لما تنشره من موضوعات تحريضية ضد سياساتها المعادية لمصالح الشعب.

في الختام، شارك في تحرير الصحافة الماركسية الآلاف من الصحفيين الوطنيين، واستشهد المئات منهم وتعرض كثيرون للاضطهاد والاعتقال والسجن والنفي. وبمناسبة الذكرى التسعينية للصحافة الماركسية نوجه تحية وتقدير لجهود الأحياء منهم والذكر العطر للراحلين، والمجد والخلود للشهداء.

***

د. فاخر جاسم

جريمة ضد الإنسانية

لن أبدأ مقالي بالعبارات التقليدية عن "عراقة الحضارة العراقية"، فما عادت هذه العبارات تحمل معنى بعد أن شاهدنا العالم يقف متفرجًا أمام أكبر عملية إبادة ثقافية يشهدها القرن الحادي والعشرين. ما حدث لمكتبات العراق والمخطوطات النفيسة ليس مجرد "خسارة" كما يسميها البعض بل هو جريمة حضارية منظمة، تكررت عبر التاريخ كلما أراد الغزاة محو هوية شعب وإلغاء ذاكرته الجماعية.

لن أتحدث عن "همجية المغول" كما يفعل المؤرخون التقليديون، بل عن العقلية الإجرامية ذاتها التي تتكرر عبر التاريخ. عندما دخل هولاكو بغداد سنة 1258م، لم يكتفِ بذبح السكان، بل أحرق مكتبة بغداد العباسية التي كانت تحتوي على عصارة فكر المسلمين في أكثر من 600 عام، من علوم شرعية وطبية وفلكية وفلسفية. الفرق بين هولاكو وداعش؟ فقط في أسلحة الدمار! أما النتيجة فهي واحدة: تحويل مراكز المعرفة إلى كومة رماد.

حرق المغول المكتبات لأنهم أدركوا -بغريزتهم الهمجية- أن المعرفة هي سلاح المقاومة الأقوى. وكرر تنظيم داعش نفس الجريمة في القرن الحادي والعشرين، عندما دمر المكتبة المركزية في الموصل عام 2014، وأحرق آلاف المخطوطات النادرة بحجة أنها "تناقض تعاليم الإسلام". أي إسلام هذا الذي يحرق العلم؟ إنه إسلام المغول الجدد الذين لم يتعلموا من التاريخ إلا فنون الدمار.

بينما كان العالم منشغلاً بخطابات "تحرير العراق"، كانت القوات الأمريكية تقف متفرجة -بل وتشارك أحيانًا- في أكبر عملية نهب منظم للمؤسسات الثقافية في التاريخ الحديث. كيف يمكن لنا أن نفسر أن المكتبة الوطنية العراقية فقدت 60% من مجموعاتها، و90% من كتبها النادرة، وكل خرائطها وصورها تحت "حماية" القوات الأمريكية؟

كان نهب المتحف العراقي ومكتبة الأوقاف ودار الوثائق القومية عملية ممنهجة لسرقة ذاكرة العراق. أليست مصادفة أن نكتشف لاحقًا أن بعض الجنود الأمريكيين كانوا على اتصال بتجار الآثار قبل الغزو؟ وأليست مصادفة أن تكون أهم الوثائق التاريخية اليوم محفوظة في المكتبات الأمريكية والبريطانية؟

شارع المتنبي..

شارع المتنبي في بغداد ليس مجرد مكان لبيع الكتب، بل هو رمز حي لاستمرار المعرفة رغم كل محاولات القتل. لكن حتى هذا الشارع لم يسلم من القتل البطيء. لقد تحول من ملتقى للمثقفين إلى ساحة رعب بعد التفجيرات المتكررة التي طالت مكتباته العريقة مثل المكتبة العصرية (تأسست 1908) ومقهى الشابندر التراثي.

ما حدث لشارع المتنبي هو استعارة مصغرة لما حدث للعراق كله: تحويل أماكن الثقافة إلى ساحات للموت، وتحويل المثقفين إلى أهداف متنقلة. عندما يموت شارع الثقافة، تموت الأمة ويبقى الجسد فقط.

لماذا تحرق المكتبات؟

السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس "كيف تم تدمير المكتبات؟" بل "لماذا يتم تدميرها دائمًا؟". الإجابة بسيطة ومروعة في نفس الوقت: لأن من يحرق الكتاب يعرف أن الأفكار لا تموت بسهولة، ولأن من ينهب المخطوطات يدرك أن الهوية لا تُباد إلا بمسح الذاكرة.

لقد حاول المغول محو الحضارة الإسلامية ففشلوا، وحاول داعش محو التنوع العراقي ففشل، وحاول الغزاة الجدد سرقة التاريخ فسيفشلون. لكن الثمن دائما ما يكون دماء وأحلام أجيال بكاملها.

رغم كل هذا الدمار، تبقى هناك بصيص أمل. مبادرة دار المخطوطات العراقية الأخيرة لرقمنة وحفظ ما تبقى من 47 ألف مخطوطة تثبت أن العراق ما زال يقاوم بطريقته. لكن هذه الجهود تبقى غير كافية أمام حجم الكارثة.

اليوم، ونحن نستمع إلى محاضرات مثل التي قدمها الدكتور غازي حميد في مركز الملك فيصل مؤخرا ، يجب أن نتحول من مرحلة البكاء على الأطلال إلى مرحلة المطالبة الدولية باستعادة المسروقات، وتوثيق ما تم تدميره، وإعادة بناء ما يمكن إعادة بنائه.

العراق ليس مجرد أرض للنفط والدم، إنه أرض لأول كتابة في التاريخ، وأول مكتبة عرفها البشر. محو هذه الذاكرة ليس جريمة ضد العراقيين فقط، بل ضد الإنسانية جمعاء. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: متى سيعتبر العالم هذه الجرائم "إبادة ثقافية" تستوجب محاكمة دولية؟

هذا ليس مقالًا، بل هو صرخة غضب في وجه صمت العالم!

***

عبد السلام فاروق

أطرف رد تلقيته هذا الأسبوع، سؤال استنكاري يقول صاحبه: «... وهل المركز الصحي أو سفلتة الشارع في تلك القرية، أهم من الوحدة العربية...؟».

يتعلق هذا السؤال بكلام ورد في مقال الأسبوع الماضي، يندد بتسييس الخدمات العامة، مثل صيانة الطرق وتشغيل شبكات الكهرباء والماء... إلخ. ويزعم المقال أن تسييس الحياة وقضاياها، جعل الإصلاح مستحيلاً.

وكنت على وشك الرد بأن المركز الصحي أهم من الوحدة العربية. لكنني خشيت أن تُفهم العبارة على غير ما أردته. فاستبدلت سؤالاً معاكساً وجهته للسائل بالجواب: وهل تعتقد أن الذي لا يكترث لوضع قريته، سيهتم كثيراً بمشروع عظيم كالوحدة العربية، اهتماماً جاداً ومقترناً بوعي واستعداد للمساهمة، وليس مجرد كلام في الهواء أو تكرار لما يقال في التلفزيون؟

ويبدو أن ترددي في الجواب كان في محلّه. لأنني سألت نفسي بعد قليل: وما المانع أن يكون الشخص قليل الاكتراث بأمور قريته، لكنه عظيم الاهتمام بأمور بلاد بعيدة جداً. وقد رأينا في الواقع وقرأنا أيضاً، عن علماء لم يكتبوا حرفاً واحداً عن قراهم، ولم يعرضوا علومهم على أهلها، لكن بحوثهم أثارت اهتمام العالم شرقاً وغرباً. أردت القول إنه ليس من المستبعد أن يهتم شخص بالوحدة العربية، مع أنه لا يكترث لوحدة أهل قريته أو طريقها أو مستوصفها. ليس مستبعداً ولا معيباً أيضاً، فهموم الناس وانشغالاتهم مختلفة، كما تختلف أذواقهم وذكرياتهم.

هذه الفكرة جعلتني أتردد في الجواب. لكنها ذكَّرتني أيضاً بأن الدكتور محمد جابر الأنصاري، المفكر البحريني المعروف، عرض وجهاً آخر لهذه القصة، وأظنه جديراً بأن نستمع إليه. يقول الأنصاري إنك قد تجد شاباً في مقتبل العمر، مستعداً لهجران أهله سعياً وراء الاستشهاد في حرب حقيقية أو متوهمة. لكن هذا الشخص عينه ليس مستعداً للخروج من بيته لتنظيف الشارع أمام بابه.

- ما القاسم المشترك بين هذه القصة وتلك؟

القاسم المشترك هو الثقافة السياسية، بمعنى تصور الإنسان للشأن العام، ودوره هو بوصفه فاعلاً في المجال العام، أي إدارة البلد. الاهتمام بالطرق والكهرباء والمستوصف في مقال الأسبوع الماضي، يعادل تنظيف الشارع في المثال أعلاه، والتشنيع على رجال السياسة والدولة في المثال الأول يعادل المشاركة في الحرب، في المثال الثاني.

تحدث الأنصاري عن «النكاية» باعتبارها مضموناً لنوع من الثقافة السياسية، قائمة على أرضية الكراهية، تؤثر في السياق ذاته، على موقف الفرد أو الجماعة من القضايا العامة، ومن الفاعلين في المجال العام.

ينصرف مفهوم «النكاية» إلى تطبيق محدد، يتجلى في تركيز الفرد على المواقف التي تجسد التضاد والمعارضة والقطيعة، وإهمال المواقف التي تفسَّر بأنها لينة، أو جيدة، أو قبول بتعددية الموقف، أو وقوف عند منتصف الطريق.

رأي الأنصاري هذا، يفسر مثلاً موقف شريحة واسعة جداً من الذين تحدثوا في الشأن السوري، وكانت تعبيراتهم - وفق ما شرحت في الأسبوع الماضي - متشددة وقاسية، ضد من صنَّفوهم أعداءً، رغم أنهم مواطنون سوريون مثل الذين يناصرونهم ويدافعون عنهم.

سلوك «النكاية» يعني أن تنظر إلى الآخر المختلف، باعتباره سيئاً في الغالب، وأن تتمنى أن يكون في حال سيئ، دائماً، وأن تفسر كل أفعاله وكلامه وتصرفاته تفسيراً يسيء إلى صورته في عيون الناس.

أنت تسمع متحدثين في المجالس العامة، وكتاباً على منصات التواصل الاجتماعي، يحشدون كل مثلبة تنقل إليهم، فيلقونها على من يكرهونهم، مع أن بعضها غير معقول أو متناقض.

الكراهية - أياً كان سببها - تحجب الحقيقة عن عقل الناظر، فلا يرى الوقائع ولا يلتزم بالتسلسل المنطقي للأفكار. وهذا مسيء له أولاً، قبل أن يسيء لسامعيه. بدل النكاية في الغير، ادعُ الله لهم بالهداية، فلعل دعاءك يرتد إليك.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

حَكمَ الخليفة النَّاصر لدين الله أطول فترات بني العباس (575-622 هج)، في عهده عادت الخلافة إلى قوتها، وأمنَ النَّاسُ مِن عصابات اللُّصوص المتحكمين في الطّرقات والتّجارات، كما أنهى ازدواجيّة الخلافة والسّلطنة، مِن البويهيين الفرس إلى السّلجوقيين الأتراك، وكانت ميليشيات طائفيَّة، استغلت ضعف الخلافة فتحكمت بها لثلاثة قرون.

 قضى على السّلجوقيين، بعد انتهاء البويهيين، كما في عهده حُرر «بيت المقدس» بفلسطين مِن الإفرنج، بجهود صلاح الدّين الأيوبيّ (ت: 589 هج)، وقتها وصل مِن بغداد لوحٌ نُقش فيه بيان باسم النَّاصر، علّقه صلاح الدّين «على باب بيت المقدس» (ابن الكازروني، مختصر التَّاريخ مِن أول الزَّمان إلى منتهى دولة بني العبَّاس)، بعد أنْ عادت مصر إلى الخلافة (567 هج) ببغداد.

ربَّما لم تشتهر وقفة النَّاصر لدين الله العباسيّ بوجه التشدد والتّزمت الدّينيّ، الذي حرض على تطبيقه فقهاء عصره ضد غير المسلمين، مِن سكان بغداد وتوابعها، مثالهم كان القاضي والمحتسب ووالي الجوالي (أهل الذِّمة) محمّد بن يحيى بن فضلان (ت: 631 هـ)- غير صاحب الرّحلة أحمد بن فضلان (309 هج)-.

 كتب ابن فضلان «رقعةً» (رسالةً) إلى الخليفة النّاصر لدين الله، مطالباً بتطبيق معاملةٍ شديدةٍ على غير المسلمين، مستعرضاً ما طُبق ضدهم في عهود سابقة، كفتوى المحتسب أبي سعيد الاصطخريّ (ت: 329 هج) بقتل الصّابئة المندائيين كافة، والتّضييق على اليهود والنّصارى، لكنّ الفتوى لم تُنفذ، مذكراً بالعهود التي فرضت ما عُرف بأحكام أهل الذِّمة عليهم، كعدم بدئهم بالسّلام، ولا يرتفع بناؤهم، وغيار ملابسهم، وإهانتهم عند تسلم الجزية منهم، وهي واحد وعشرون شرطاً (الصّفدي، الوافي بالوفيات).

زاد عليها ابن فضلان إبعادهم عن الطّب والصَّيرفة والكتابة، والدَّواوين عموماً، مع وجود أطباء وكحالين (أطباء عيون) أكفاء منهم، دبروا أبدان الخلفاء، وأشرفوا على صحة النَّاس (ابن أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن جُلجل، طبقات الأطباء والحكماء، ابن حُنين، تاريخ الأطباء والفلاسفة)، إلا أنَّ ابن فضلان اعتبر ذلك حيَّلاً وأكاذيبَ، يتخذونها لدخول مجالس الخلفاء، وكنز الأموال، فأوصى باستخدامهم في أرذل المهن، وعلى أحبارهم وقساوستهم الحضور بأنفسهم لدفع الجزية بمشهد مذل، لا يُسمح لهم إرسالها بيد نوابٍ عنهم (نص رقعة ابن فضلان في كتاب الحوادث الجامعة والتَّجارب النَّافعة في المئة السّابعة).

ورد في الرّسالة، أو الرّقعة مثلما جاء اسمها، التي ملأت ست صفحات، أمور كثيرة، يُظهر فيها كاتبها ذروةَ التّعصب الفقهيّ، غير أنّ الخليفة النَّاصر أهملها تماماً. جاء في الخبر: «فلما وقف الخليفة على رقعته لم يعدّْ عنها جواباً» (المصدر نفسه).

 اتخذت الدَّولة العباسيَّة المذهب الحنفيّ في التَّطبيقات الفقهيّة، منذ عهد الخليفة المهديّ ابن أبي جعفر المنصور (158-169 هج)، وحتّى آخر الخلفاء المستعصم بالله (قُتل: 656 هج)، وفي ظل تلك المُعاملة ساهم الذين أراد ابن فضلان حجرهم عن الحياة العامة، بالترجمة التي هي أساس التَّقدم الثّقافيّ، وبالطّب، والهندسة، والفلسفة، فكان المشرف على العمران بسامراء، في زمن جعفر المتوكل بالله (ت: 247 هج)، دُليل بن يعقوب النَّصرانيّ، بما فيها «ملوية سامراء» والمكان الذي أقيم عليه المرقد العسكريَّ بسامراء، وكان أرضاً اشتراها الإمام عليّ الهاديّ (ت: 354 هج) مِن دُليَل (الطّبريّ، تاريح الرُّسل والملوك).

يتبين مِن سلوك النّاصر، مع أهل الذِّمة، أنه لا علاقة بين تدين الحاكم وشدته على غير المسلمين، وإلا فالنّاصر كان متديناً: جمع الحديث النّبويّ، وجدد المشاهد، وبنى الأربطة للصوفيّة والزُّهاد، بينما أحد أسلافه، المتوكل بالله لم يكن متديناً، بل صاحب مجالس أنس، ومشغول بالوَرْد، فهو القائل: «أنا ملك السَّلاطين والوَرْد ملك الرَّياحين فكلٌّ أولى بصاحبه» (الثَّعالبيّ، خاص الخاص)، ويلبس الملابس الموردة، وسك نقوداً موردة، ومع هذا، طبق في غير المسلمين «الشّروط العمريّة» (230 هج)، بشدةٍ (الطَّبريّ، نفسه).

فقد النّاصر بصره، لذا ترجم له صلاح الدِّين الصّفدي (ت: 768 هج) في «نَكت الهِميان في نُكت العميان»، ولرِّبنا تُعدّ تجربته في إعادة الاستقرار والتَّسامح درساً مفيداً.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

المنظر يعكس التوتر بين الحياة والموت، ويشير إلى كيف يمكن أن تؤثر الظروف الاجتماعية والاقتصادية على الأفراد والمجتمعات، يمكن اعتبار المجاعة أزمة حقيقية، حيث تؤدي إلى فقدان الحياة وإضعاف المجتمعات. تعكس المجاعات الفشل في توفير الاحتياجات الأساسية للعيش، مما يؤدي إلى معاناة كبيرة. تستخدم لهذه الغاية افكار وايديولوجيات مختلفة لتدجين الشعوب والسيطرة، حيث يتم تقديمها على أن هذه الأفكار والايديولوجيات ضرورية للحفاظ على الاستقرار. ان (تدجين) الإنسان كآلية للسيطرة على المجتمعات هو مفهوم مثير للجدل يركز على كيفية استخدامه من قبل الأنظمة لتشكيل سلوك الأفراد والمجموعات ويؤدي بالتالي إلى تكييف البشر مع الظروف القاسية، بما في ذلك المجاعة، كما يمكن أن يؤدي التدجين إلى القبول بالواقع المرير، مما يقلل من ردود الفعل ضد الظلم، يعتمد ذلك على السياق والظروف التاريخية والاجتماعية. في اغلب الاحيان تكون المجاعة نتيجة لسياسات فاشلة، صراعات، مما يعكس تعقيد التجربة الإنسانية في مواجهة التحديات ويبقى التدجين استجابة للبقاء على قيد الحياة.  في حالات الأزمات، يتكيف الأفراد والمجتمعات مع الظروف القاسية عبر قبول الواقع والبحث عن طرق جديدة للبقاء، وهنا يؤدي التدجين دوره حيث يتعلم الأفراد كيفية التأقلم مع الألم والفقد، مما يساعد على استمرار الحياة رغم الظروف الصعبة، في أكثر الأحيان يؤدي التدجين إلى شعور بالاستسلام، مما يمنع الأفراد من السعي للتغيير أو التمرد على الظروف القاسية، رغم أن التدجين آلية للبقاء، لكنه أيضاً يحد من القدرة على التغيير والنمو.

الاحياء يتأملون الموتى

تأمل (الأحياء...؟) للموتى نتيجة المجاعة يمكن أن يُعتبر أزمة في السياق الإنساني العام، ويمكن ملاحظة تأثير التدجين في كيفية استجابة المجتمعات للأزمات، المجاعة تمثل أزمة حقيقية تؤدي إلى فقدان الأرواح وتدمير المجتمعات. هذه الأزمات عادة ما تكشف عن ضعف الأنظمة الاجتماعية، الاخلاقية والسياسية، الأحياء يتأملون في الموتى يعكس عمق مشاعر الحزن. ان الدروس التي يمكن استخلاصها من هذه الأحداث والأزمات تضع الأحياء في مواقف صعبة وتتطلب اتخاذ قرارات مهمة للبقاء على قيد الانسانية تصل إلى تغير سلوكيات وقيم مجتمعات، في هذه المساحة الضيقة يلعب التدجين الأيديولوجي لعبته المفضلة ويؤدي إلى تقبل حالة المعناة كجزء من القدر أو الحظ، مما يعزز الاستسلام بدلاً من البحث عن حلول. لذا، من الضروري التفكير في كيفية التوازن بين الوعي بالأزمة وفهم تأثير التدجين على سلوك الأفراد والمجتمعات.

التدجين واصطياد الجوعى

تعتبر فكرة (التدجين واصطياد الجوعى) موضوعًا معقدًا يمكن تحليله من جوانب اجتماعية واقتصادية وثقافية. يمكن أن تُفهم هذه الفكرة على أنها تعكس بعض الخصائص التي تتعلق بالبرجوازية، يتم استخدام حالة الجوع والفقر كوسيلة للهيمنة، حيث تستفيد الفئات الأكثر ثراءً من معاناة الجوعى كوسيلة لتعزيز مكانتها الاقتصادية والاجتماعية ويمكن أن يؤدي التدجين إلى تقبل الأفراد لأوضاعهم، مما يسهل استغلالهم من قبل البرجوازية، تُعتبر حالات الجوع وسيلة للتسلية لبعض الفئات البرجوازية، حيث ترى معاناة الفقراء كعرض فني يُستخدم لزيادة الترفيه أو الاستهلاك في بعض السياقات. يمكن أن تُستخدم المجاعات كموضوعات للأعمال الخيرية ذات الطابع البرجوازي، مما يعكس نظرة سطحية تجاه معاناة الآخرين، يمكن أن يؤثر التدجين على قدرة الأفراد في الطبقات العليا على التعاطف مع الجوعى، مما يؤدي إلى فصل أكبر بين الطبقات الاجتماعية، بعض الشركات تستغل قضايا الفقر والجوع في حملاتها الدعائية، مما يعكس استغلالًا للمأساة لتحقيق الربح ،رغم ذلك هناك تحركات اجتماعية ترفض استخدام معاناة الجوعى كوسيلة للتسلية، وتدعو إلى وعي أكبر حول قضايا الفقر والجوع والظلم الاجتماعي، بعض الأفراد والجماعات يسعون لتحويل المعاناة إلى حافز للعمل الإنساني، بدلاً من التسلية بينما يمكن أن تُعتبر فكرة (التدجين واصطياد الجوعى) تعبيرًا عن بعض السمات البرجوازية، فإنها أيضًا تثير قضايا أعمق حول الأخلاق الاجتماعية ،يتطلب الأمر وعيًا نقديًا لفهم هذه الديناميكيات وكيفية تأثيرها على الأفراد والمجتمعات.

دور الاعلام الأخلاقي

تؤثر وسائل الإعلام على كيفية إدراك الناس للأزمات، حيث تقلل الرسائل الثقافية من أهمية المجاعة وتعزز التسليم بالأقدار، وتؤدي إلى فقدان الهوية، بينما تمثل المجاعة أزمة حقيقية تتطلب استجابة فورية، فإن تأثير التدجين يمكن أن يعوق الاستجابة الفعالة ويؤدي إلى استسلام الأفراد والمجتمعات. يلعب الإعلام الأخلاقي دورًا حيويًا في مواجهة ظاهرة (اصطياد الجوعى) كوسيلة للتسلية البرجوازية. كما يساهم الإعلام الأخلاقي في نشر الوعي حول قضايا الفقر والجوع، مما يساعد الجمهور على فهم الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذه القضايا، يقدم قصصًا إنسانية تركز على الأبعاد الشخصية للمعاناة بدلاً من تقديمها كمواضيع للتسلية، يلتزم الإعلام الأخلاقي بتجنب تصوير المعاناة بطريقة تفتقر إلى الإنسانية، بدلاً من ذلك يسعى لتقديمها بطريقة تحترم كرامة الأفراد كما يركز على تسليط الضوء على المبادرات والمشاريع التي تعمل على تحسين الظروف، مما يعزز الوعي بالعمل الإنساني، يقوم الإعلام الأخلاقي بانتقاد المؤسسات والشركات التي تسوّق للمعاناة، مما يساهم في محاسبتها على استغلال الظروف الصعبة ،ويحقق في الانتهاكات التي تحدث بسبب الاستغلال، مما يزيد من الضغط على الجهات المسؤولة للعمل بشكل أخلاقي، كما يتيح للأشخاص المتأثرين من الجوع والفقر التحدث عن تجاربهم، مما يعزز من قدرتهم على التعبير عن أنفسهم ومطالبهم ويعمل على تغيير السرد العام حول الفقر والجوع، بدلا من تقديمه كموضوع للتسلية ،يمثل الإعلام الأخلاقي خط الدفاع الأول ضد ظاهرة (اصطياد الجوعى) كوسيلة للتسلية البرجوازية، من خلال التوعية، نشر المحتوى الأخلاقي، تعزيز المساءلة، وتمكين المجتمعات. يتطلب الأمر التزامًا قويًا من الإعلاميين لضمان تقديم قضايا الفقر والجوع بطريقة إنسانية ومسؤولة من خلال التركيز على التنوع، تجنب الصور النمطية، وفهم السياقات، يمكن للإعلام الأخلاقي أن يتجنب الوقوع في فخ التنميط السلبي الذي يتطلب التزامًا قويًا بالمعايير الأخلاقية والابتعاد عن التبسيط المفرط للقضايا المعقدة.

تأمل الجوعى وهم يموتون في غزة تسلية استعمارية

هذه العبارة تعكس قسوة الاستعمار وتأثيره المدمر على المجتمعات. الجوع والفقر الناتجان عن السياسات الاستعمارية يمكن أن يسببوا معاناة هائلة. تأمل (الأحياء...؟) الذين يشهدون هذه المعاناة يمكن أن يُفهم كنوع من التسلية أو الترفيه عن الألم، مما يعكس اللامبالاة تجاه معاناة الآخرين، تأمل الأحياء للجوعى في غزة وهم يموتون يعكس عمق المعاناة الإنسانية نتيجة السياسات الاستعمارية.  يُظهر العالم مشاهد الجوع والمرض، لكن اللامبالاة تتجلى في عدم اتخاذ خطوات فعالة لإنهاء المعاناة، تُختزل معاناة الناس إلى صور وصوت، مما يُفقدهم إنسانيتهم ويجعل ألمهم مجرد "تسلية" للمتفرجين، تستخدم بعض وسائل الإعلام معاناة سكان غزة كوسيلة لجذب الانتباه دون تقديم حلول حقيقية، مما يجعل معاناتهم عرضة للاستهلاك الإعلامي، يُغفل الكثيرون الأسباب الجذرية للصراع، مما يعزز من الشعور بالتسليم. واقعيا تعاني المجتمعات من صدمات متكررة، مما يؤدي إلى تآكل الأمل والرغبة في التغيير، يواجه الأفراد تحديات يومية للبقاء على قيد الحياة، مما يجعل التفكير في المستقبل أمرًا شبه مستحيل، تأمل (الأحياء ...؟) للجوعى في غزة يُظهر كيف يمكن أن تصبح المعاناة الإنسانية مصدر تسلية في غياب التعاطف الفعلي والعمل الجاد، من الضروري أن نعيد النظر في مسؤوليتنا الإنسانية تجاه تلك المعاناة وأن نسعى جاهدين لتحقيق التغيير.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

من كان يتصور أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"-السياسي الليبرالي الذي طالما تفاخر بتبعية أوروبا للقيم الكونية - سيقف في قاعة الأمم المتحدة داعماً للاعتراف بدولة فلسطين، بينما كبار فلاسفة الغرب، أولئك الذين ملأوا الدنيا خطابات عن العدالة والتحرر، يختفون خلف صمت أشبه بالموافقة على المجزرة؟ أين "يورجن هابرماس" صاحب نظرية "الفعل التواصلي" الذي كان يفترض أن الكلمة يجب أن تسبق الرصاصة؟ أين منظرو مدرسة فرانكفورت الذين طالما تحدثوا عن "العقل الأداتي" ووحشية الرأسمالية، بينما إسرائيل تحول غزة إلى مختبر للدمار بأحدث الأسلحة؟ 

لقد كشف العدوان على غزة زيف الخطاب الغربي عن "القيم العالمية". فما قيمة عقل يناقش الحرية في الكتب، ثم يصمت عندما تزهق أرواح الأطفال تحت الأنقاض؟ ما قيمة فلسفة ترفع شعار "لا للعنف" ثم تبرر العنف عندما يكون صهيونياً؟ 

العقل المشلول..

في أقسام الفلسفة في جامعاتنا العربية، كنا ندرس "هابرماس" و"أدورنو" و"هوركهايمر" بقدسية تكاد توازي النصوص الدينية. كنا نعتقد أن هؤلاء الفلاسفة يمثلون الضمير الأوروبي، صوت العقل الذي يرفض التوحش. لكن غزة كشفت أن هذا "الضمير" مشروط ببوصلة السياسة. فهابرماس، الذي طالما حذر من "استعمار العالم الحيوي" - أي تحويل البشر إلى أدوات - لم يجد حرجاً في توقيع بيان يؤيد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! وكأن الدفاع عن النفس يعني ذبح 15 ألف طفل وامرأة! 

صمت الفلاسفة.. خيانة فكرية. فالفلسفة، منذ سقراط، ملزمة بأن تكون صوتاً للحقيقة حتى لو خالفت السلطة. لكن يبدو أن فلاسفة أوروبا اليوم – باستثناءات قليلة – تحولوا إلى "مثقفي بلاط"، يكتبون ما يريده النظام العالمي الجديد. لقد فضحوا أنفسهم: فمن يتحدث عن "الأخلاق الكونية" ثم يصمت أمام الإبادة، ليس فيلسوفاً، بل "ببغاء أيديولوجي". 

مدرسة فرانكفورت: نقد الرأسمالية أم تبريرها؟ 

مدرسة فرانكفورت، التي قدمت نقداً لاذعاً للحداثة والرأسمالية، تقف اليوم في مفترق طرق وجودي. فكيف تنظر عن "تحرر الإنسان" ثم تتجاهل أسوأ أشكال القمع في القرن الحادي والعشرين؟ كيف تنتقد "العقل الأداتي" - أي تحويل الإنسان إلى أداة – ثم تصمت عندما يتم اختزال الفلسطينيين إلى أرقام في تقارير الإعلام الغربي؟ 

الجواب بسيط: لأن النقد الغربي، رغم راديكاليته الظاهرة، يظل محكوماً بإطار استعماري. فهو ينتقد الرأسمالية عندما تستغل العامل الأوروبي، لكنه يتجاهل أنها نفس الرأسمالية التي تمول الصواريخ التي تسقط على بيوت الغزيين. إنه نقد انتقائي، يمارس "العدالة" في حدود الجغرافيا البيضاء، وينسى أن البشرية لا تتجزأ. 

"المعرصون" الجدد!

"العرص"- في الثقافة الشعبية - هو الشخص الذي يبيع مبادئه لمن يدفع أكثر. والفلاسفة الأوروبيون اليوم، بمن فيهم بعض اليساريين، تحولوا إلى "معرصين" بمعنى الكلمة. فهابرماس، الذي كان يعتبر وريثاً لفكر "كانط" في السلام العالمي، لم يحرك ساكناً إلا ليذكرنا بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! وكأن الفلسطينيين ليسوا بشراً لهم الحق في الدفاع عن أرضهم! 

لم يعد الفيلسوف الغربي ذلك المتمرد الذي يقف ضد السلطة، بل أصبح جزءاً من آلة التبرير. إنه يشبه ذلك الكاهن في العصور الوسطى الذي كان يبارك جيوش الإقطاع قبل إبادة القرى. الفارق الوحيد أن الكاهن كان يستخدم الدين، والفيلسوف اليوم يستخدم "النظرية النقدية" لتمرير الوحشية. 

 هل انتهى عصر الفلاسفة؟ 

ربما لا. فالتاريخ يعلمنا أن الفلسفة الحقيقية لا تموت، لكنها تنتقل إلى حيث ينتهك الإنسان. اليوم، ليست كتابات هابرماس هي التي تقرأ تحت أنقاض غزة، بل قصائد محمود درويش وخطابات فرانز فانون. الفلسفة التي تخون إنسانيتها تصبح حبراً على ورق. 

لكن الأمل يظل موجوداً. فكما أنجبت أوروبا يوماً "فولتير" و"سارتر" و"سيمون دي بوفوار"، فقد تنجب يوماً فلاسفة جدد يرفضون الانحياز إلى القوة ضد الحق. حتى ذلك الحين، علينا أن نعي أن الفلسفة ليست كتب تقرأ، إنما موقف يتخذ. والموقف الأخلاقي الوحيد اليوم هو الوقوف مع الحياة ضد الموت، مع غزة ضد آلة الحرب. 

أما أولئك الفلاسفة الذين اختاروا الصمت، فسيبقون في ذاكرة التاريخ كمن فضلوا أن يكونوا "أدوات للسلطة" بدلاً من أن يكونوا "أصواتاً للحقيقة".

في لحظات التاريخ الحاسمة، تختبر النظريات كالنار تجرب الذهب. وغزة كانت اختباراً صادماً لكثير من الادعاءات الفلسفية الغربية. فهابرماس، الذي بنى مشروعه على "أخلاقيات المناقشة" و"التواصل العقلاني"، لم يجد ما يقوله إلا تأييداً للدولة التي تقتل كل يوم العشرات من الأطفال والصحفيين والأطباء. أليست هذه مفارقة قاتلة؟ كيف لفيلسوف يدعو إلى "عالمية الأخلاق" أن يصمت حين تُنتهك أبسط قواعد الإنسانية؟ 

الجواب يكمن في أن الفلسفة الغربية، رغم كل خطابها النقدي، ظلت أسيرة المركزية الأوروبية. فـ"العقلانية" التي يتحدثون عنها هي عقلانية انتقائية، تطبق على أوروبا وأمريكا، وتعلق عند حدود العالم العربي والإسلامي. إنها أخلاقيات ذات بعد واحد: تدين القمع في أوكرانيا، وتبرره في فلسطين.  

كانت مدرسة فرانكفورت ترفع شعار "تحرير الإنسان من كل أشكال الهيمنة"، لكنها اليوم تتحول إلى أداة لهيمنة جديدة. فـ"هربرت ماركوزه"، الذي كتب "الإنسان ذو البعد الواحد"، كان يحذر من تحول الفرد إلى مجرد ترس في آلة الرأسمالية. لكن ماذا لو كانت الآلة اليوم هي آلة الحرب الإسرائيلية؟ لماذا لا يرى فلاسفة المدرسة أن الفلسطيني هو الضحية المثالية للإنسان "المستلب" الذي حذروا منه؟ 

السبب هو أن النقد الغربي، حتى في أكثر أشعاره راديكالية، لا يجرؤ على تجاوز الخط الأحمر: "القداسة اليهودية". فكما أن انتقاد الكنيسة كان تابوًا في العصور الوسطى، انتقاد إسرائيل اليوم هو التابو الجديد. حتى اليسار الأوروبي، الذي يزعم مقاومة الاستعمار، يتعامل مع إسرائيل كحالة استثنائية، وكأن الاستعمار الاستيطاني يصبح "تقدميّاً" إذا حمل شعارات غربية! 

الفلاسفة والسلطة 

لم يعد الفلاسفة اليوم، كما كانوا في عصر التنوير، صوتاً للمهمشين، بل تحولوا إلى "كهنة النظام". هابرماس، الذي يعتبر أحد آخر عمالقة الفكر الغربي، لم يعد يختلف عن سياسي محترف يختار كلماته بحسابات دبلوماسية. لقد خان الفيلسوف مهمته الأولى: أن يكون ضميراً غير مريح للسلطة. 

في المقابل، نرى فلاسفة حقيقيين خارج المؤسسة الأوروبية، مثل "جوديث بتلر" التي تجرأت على انتقاد الصهيونية، أو "نعوم تشومسكي" الذي ظل وفياً لموقفه المناهض للاستعمار. لكن هؤلاء يعاملون كـ"منبوذين" في الأوساط الأكاديمية الغربية. وهذا يكشف حقيقة مؤلمة: الفلسفة الغربية لم تعد فضاءً للتفكير الحر، بل أصبحت جزءاً من صناعة التبرير الأيديولوجي. 

 من تحت الأنقاض 

إذا كانت الفلسفة الغربية تعجز عن قول الحقيقة، فلا بد من البحث عن أصوات أخرى. ربما يأتي الجواب من جنوب العالم، من فلاسفة أمريكا اللاتينية الذين يتحدثون عن "استعمارية السلطة"، أو من أفريقيا التي تطرح سؤال "إزالة الاستعمار من العقل نفسه". أو ربما يأتي من الفلسطينيين أنفسهم، الذين يكتبون فلسفتهم بدمائهم، كما فعل "إدوارد سعيد" حين كشف زيف "الاستشراق". 

الفلسفة الحقيقية ليست نظرية مجردة، بل موقف واضح من الظلم. وإذا كان هابرماس وأقرانه قد خانوا هذه المهمة، فليس هذا فشلاً للفلسفة ذاتها، بل فشل لنموذج فلسفي أصبح خادماً للسلطة. 

أخيرا.. هل يمكن إنقاذ الفلسفة من نفسها؟ 

ربما تكون غزة قد كشفت أن الفلسفة الغربية، في جزء كبير منها، وصلت إلى طريق مسدود. لكن هذا لا يعني نهاية الفكر النقدي، بل بداية لفلسفة جديدة، أكثر شجاعة، أقل خضوعاً، وأكثر التزاماً بالضحايا. فلسفة لا تخاف من أن تسمى "منحازة"، لأن الحياد في زمن الإبادة هو تواطؤ. 

لكن التاريخ نفسه سيتذكر أن الفلسفة الحقيقية لم تمت، فقد انتقلت إلى حيث تكتب ليس بالحبر، بل بالدم. أولئك الذين اختاروا الصمت، فلن يذكرهم التاريخ إلا كحاشية في سجل الخيانة.

***

د. عبد السلام فاروق

مدخل عام: حين يُصبح الخلاص أسطورة

منذ أن بدأ الإنسان يصطدم بجدار العجز، تشكّلت في لاوعيه فكرة "الخلاص" بوصفها تعويضًا نفسيًا عن واقعٍ لا يُطاق. لم تكن الأديان وحدها من صاغت هذه الفكرة، بل تلاقت حولها أساطير الشعوب وملاحمها الكبرى: من كريشنا الهندوسي، إلى الماشيح اليهودي، إلى المسيح العائد، وصولًا إلى المهدي المنتظر في الثقافة الإسلامية.

هذا "المنقذ" هو اختزال لرغبة عميقة في العدالة، لكنه كثيرًا ما يتحول – كما يُشير المفكر ماجد الغرباوي – إلى إسقاطٍ لأوهام القوة على المجهول، وتفريغ للذات من مسؤوليتها التاريخية. في هذا المقال، نحاول أن نتأمل الفكرة لا بوصفها "عقيدة غيبية"، بل كـ"وظيفة اجتماعية وأسطرة دينية"، وأن نقرأ حضورها وتناقضاتها على ضوء نقد العقل الديني، كما طرحته أعمال فكرية مثل مدارات عقائدية ساخنة، البحث عن منقذ، نقد الفكر الديني، وغيرها من الكتب التي حاولت تفكيك الوعي الغيبي ووهم العدالة المؤجلة.

المخلّص في الوجدان البشري.. من الحاجة إلى الأسطرة

تظهر الحاجة إلى "المنقذ" حين يُفقد الإنسان ثقته بإمكانات الإصلاح الذاتي أو الجمعي. في أزمنة الانكسار، يولد المخلّص؛ لا من رحم الواقع، بل من ظلال الأمل المعزول. إن فكرة "الخلاص المؤجل" تعبّر عن عجز الجماعات عن المواجهة، فتحتمي بالوهم كدرعٍ نفسي.

وفي هذا السياق، تنمو الأسطورة لتلبي حاجة داخلية، لكنها سرعان ما تُختطف سياسيًا، ويُعاد إنتاجها كأداة هيمنة.

اللاهوت الشعبي، بحسب ماجد الغرباوي في مدارات عقائدية ساخنة، يميل إلى تهريب الإلهي نحو الخارج، نحو الزمان المؤجل، أو المخلّص الغيبي، لا ليعبده بوعي، بل ليُبرر عجزه المزمن. وهنا، يتحوّل "المنقذ" إلى مسكِّن روحي ووسيلة تأجيل للمواجهة، يكرّس القبول بالواقع بدل مقاومته.

يرى مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجية الإنسان المقهور أن المجتمعات المقهورة نفسيًا تطور آليات دفاعية من ضمنها التعلّق بصورة مخلّص خارجي يتولى عنها ما تعجز هي عن فعله. يقول: "حين تعجز الذات عن الفعل، تبحث عن خلاص خارجها، وتعيد تشكيل وعيها ليكون معلقًا بالأمل لا بالفعل."

ويضيف كارل يونغ في الإنسان ورموزه أن صورة "المنقذ" تمثل أركيتايبًا نفسيًا جماعيًا، لكنه حين لا يُقترن بالتحول الداخلي، يتحوّل إلى عبء على الوعي، لا إلى وسيلة للخلاص.

المهدوية في الإسلام: من النص إلى الأيديولوجيا

في السياق الإسلامي، تبلورت عقيدة "المهدي المنتظر" ضمن مناخات سياسية واجتماعية مضطربة. لم يرد اسم المهدي في القرآن الكريم، ولم ترد عقيدته بنص قطعي. ورغم ذلك، بُني حوله تراثٌ ضخم من الروايات، شكّل لاحقًا ركيزة لمشاريع سياسية كبرى.

في التشيع الإمامي، ارتبطت المهدوية بعقيدة "الإمام الثاني عشر الغائب"، بينما توسّعت الفكرة في الخيال السني أيضًا، عبر تصور ظهور مهدٍ من آل البيت في آخر الزمان.

يرى أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي أن فكرة "الإمام الغائب" لم تكن عقيدة أصيلة، بل جاءت كضرورة لتجاوز الفراغ السياسي بعد الإمام الحسن العسكري. ويؤكد: "المهدي ليس حقيقة تاريخية مثبتة، بل ضرورة عقائدية فُرضت بعد أزمة الغيبة.". كما يُظهر التاريخ أن المهدوية لم تبقَ حكرًا على الفقه والعقيدة، بل تحوّلت إلى أداة سياسية كبرى:

الديانة البهائية: تأسست نتيجة تأويلات الشيخية للمهدوية، خصوصًا عند أحمد الإحسائي والباب.

حادثة جهيمان في الحرم المكي (1979): تم اقتحام الكعبة بزعم أن المهدي المنتظر قد ظهر.

جماعات عراقية مثل جند السماء وأنصار المهدي واليماني: جميعها استثمرت المهدوية في العنف والسلطة.

ويؤكد فالح مهدي في كتابه البحث عن منقذ أن هذا النمط من التدين المهدوي يعكس حالة انكسار جمعي، تُغذى بأسطورة تسكّن الألم، لكنها لا تغيّره.

وظيفة الأسطورة: الكهنوت والسياسة

وفقًا لماجد الغرباوي، فإن الدين حين يُختزل إلى طقوس ورموز، يفقد بعده الوجودي ويتحول إلى أداة تخدير. وهنا، تصبح المهدوية نموذجًا مثاليًا: عقيدة غيبية لا تتطلّب فعلًا، بل انتظارًا.

تاريخيًا، استُخدمت هذه العقيدة لتبرير السكون. كلما اشتد الظلم، قيل للناس: اصبروا، فالمهدي قادم. وهكذا، تُنتزع من الإنسان إرادته، ويُعاد تشكيل وعيه ليكون تابعًا، لا فاعلًا.

يصف عبد الله القصيمي هذه الظاهرة قائلًا: "المنقذ ليس من سيأتي، بل من لن يأتي، لأنه ضرورة سياسية لا ضرورة إنسانية."

ويحذر صادق جلال العظم من "تجميد الزمن التاريخي" عبر أسطرة الزمن الغيبي، حيث يتحوّل الإنسان من فاعلٍ إلى منتظر، ومن حرٍّ إلى مرهون بوعد لا يُسائل.

ويرى فالح مهدي أن الشعوب التي جُرّدت من القدرة على الفعل، غالبًا ما تُلقّن فكرة المنقذ لتبرير ضعفها، لا لتحريرها.

نقد عقلي وفلسفي للفكرة

1. التناقض مع المسؤولية الإنسانية

إذا كانت العدالة لا تتحقق إلا عبر كائن خارق، فما جدوى التكليف؟ وما وظيفة الضمير؟ يقول ماجد الغرباوي:

"كلما علّقنا نجاتنا على غائب، فرّغنا أنفسنا من المسؤولية، وعلّقنا العدالة على احتمالٍ مجهول لا يمكن محاسبته."

ويؤكد صادق جلال العظم أن هذا الإيمان يعفي الإنسان من المساءلة، ويُحوّل الدين إلى تسويف زمني.

2. الخلل المنطقي في الفكرة

المهدي، بحسب الروايات، غائب منذ أكثر من ألف عام. فهل يُعقل تعطيل التاريخ بانتظار فرد؟

يرى ميرسيا إلياد في أسطورة العود الأبدي أن هذه العقلية تدور في زمنٍ دائري، لا تاريخي، تُجمّد الفعل وتؤبد الوهم.

3. إزاحة الفاعلية إلى الخارج

يقول فالح مهدي: "الشعوب التي تنتظر المنقذ، لا تتحرر، بل تغيّر نوع القيد فقط." ويضيف في تاريخ الخوف: المنقذ حين يُستدعى للهروب من الخوف، لا يصنع خلاصًا، بل يُعيد إنتاج العجز.

والقرآن ذاته يعلن المبدأ المضاد تمامًا: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم."

تحرير الوعي من وهم الخلاص الغيبي

فكرة المنقذ تُبقي الناس في دائرة الانتظار، وتُنتج نوعًا من العبودية الرمزية. يقول ماجد الغرباوي: "حين يصبح الانتظار دينًا، يُعاد تشكيل الوعي ليتناسب مع الطاعة لا مع النقد."

ويضيف أحمد الكاتب: "حين يعلق الناس خلاصهم على شخصية خفية، يصبحون جزءًا من لعبة الوهم، لا من معادلة الإصلاح."

في البحث عن منقذ، يوضّح فالح مهدي أن الشعوب التي تعوّدت على القهر تميل إلى الخلاص الغيبي، بدل بناء مشروعها التحرري. حتى كارل يونغ يحذّر من هذه الصورة، إذا لم ترتبط بالتحوّل الداخلي، فتحوّل الأمل إلى عائق.

وهكذا، لا يمكن تحرير الفعل إلا بنقد بنية الانتظار نفسها، وفهم الخلاص كمسار ذاتي–اجتماعي، لا كـ"معجزة غائبة".

خاتمة: حين يتحرر الإنسان من سرداب الخلاص

ليست المشكلة في الأمل، بل في تأبيد الانتظار. وليست الخطورة في المهدي كرمز، بل في المهدي كقيد.

حين تتحوّل فكرة "المنقذ" من أفق أخلاقي إلى نظام تبريري للجمود، يفقد الإنسان سيطرته على مصيره، ويعيش خارج التاريخ.

لقد أظهر النقد المعرفي والديني أن "المهدوية" ليست مجرد عقيدة، بل بنية نفسية–سياسية تتغذى من الخوف وتُستخدم لتعليق الفعل. والمخلّص الحقيقي ليس من يهبط من الغيب، بل من ينهض من القاع. والمهدي ليس هو الذي يُنتظر، بل الذي نصنعه في وعينا، في تمرّدنا، في رفضنا للظلم. فالتحرر لا يبدأ بظهور فرد، بل بقرار جماعي ألا ننتظر أحدًا.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

.....................

قائمة المراجع والمصادر

1. ماجد الغرباوي، (مدارات عقائدية ساخنة)

2. صادق جلال العظم، (نقد الفكر الديني)

3. فالح مهدي، (البحث عن منقذ: دراسة مقارنة بين ثماني ديانات)

4. فالح مهدي، (تاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري)

5. عبد الله القصيمي، (هذا هو الإنسان)

6. مصطفى حجازي، (سيكولوجية الإنسان المقهور)

7. أحمد الكاتب، (تطور الفكر السياسي الشيعي: من الشورى إلى ولاية الفقيه)

التقيت يوماً دبلوماسياً من هولندا، عمل في لبنان وتزوج فيه، فصرفنا معظم الوقت في نقاش عن ذكرياته وتأملاته فيما رأى هناك. وذكر لي نقطة كنت قد لاحظتها أيضاً، وهي التسييس الشديد لكل مسألة، حتى رسوم الكهرباء وتنظيف الطرقات وتشجيع السياحة، وأمثالها.

وكان مما أخبرني أنه التقى قريباً بأهل زوجته، فدار الحديث كالعادة عن أهل السياسة ونزاعاتهم، فسألهم: لماذا لا يتحدثون عن أمور قريتهم: عن البلدية، والنظافة، والمركز الصحي، والمدرسة... إلخ، فقالت له إحدى السيدات: إن المشكلة كلها في الرؤوس، فإذا صلحت صلح كل شيء. ثم عادوا لحديثهم المعتاد. وفي اليوم التالي سألهم إن كانوا قد توصلوا إلى شيء، فأخبره أحدهم أنهم يتحدثون في ذلك الأمر وغيره، على سبيل التسلية وقتل الوقت، لا أكثر ولا أقل.

قال لي الرجل إن الوضع هناك يستحيل إصلاحه؛ لأن السياسة ابتلعت كل شيء. السياسة –بطبعها– عالم متأزم؛ لأن موضوعها الرئيس هو التسوية بين المصالح المتباينة، وتهدئة النزاعات التي تتولد عن اختلاف التوجهات والمشارب. أما حياة الناس اليومية فتديرها الأجهزة المكلفة بالخدمات العامة، مثل صيانة الطرق وتشغيل شبكات الكهرباء والهاتف والمرافق الصحية والتعليم، وغيرها. فإذا دخلت هذه الأجهزة في بطن السياسة، أو أُلحقت بالدوائر السياسية، انقلب دورها من خدمة الجمهور إلى الأغراض السياسية للجماعة الحاكمة أو شركائها، أو حتى المعارضة.

إذا أردت أن تعرف كيف تبتلع السياسة كل شيء، وكيف يجري تسييس كل شيء، فاقرأ ما تنشره الصحافة من تقارير وأخبار عن سوريا اليوم. واقرأ تعليقات الناس على مواقع التواصل الاجتماعي؛ السوريين وغيرهم من العرب على حد سواء. انظر لمواضيع جدلهم، هل تجد فيها شيئاً عن الزراعة وإعادة بناء القرى التي هُجرت أو خُربت؟ هل يتحدثون عن تأهيل الجرحى والمتضررين في المعارك السابقة؟ وهل تسمع عن ترتيبات لإعادة ملايين السوريين الذين هجروا بلادهم إلى دول الجوار، وبعضهم ما زال يعيش في مخيمات بائسة؟ هل تسمع عن مشاريع تأهيل شبكات الماء والكهرباء والهاتف والمراكز الصحية... إلخ؟

هناك بالتأكيد خبر أو اثنان عن كلٍّ من هذه المسائل. ولكنها لا تكاد تُرى. المواضيع التي تحتل المساحة الأوسع هي المنازعات، من تخوين وتكفير وتدليل على وجوب القتل والتدمير وإفساد الحياة. إن أردت معرفة الروحية العامة التي تهيمن على هذه النقاشات، فانظر إلى لغتها الخشنة، انظر إلى مقدار الشتائم التي يستعملونها في وصف من يعدُّونهم اليوم أعداء، مع أنهم كانوا وسيبقون شركاءهم في الوطن وشركاءهم في القرار، سواء أحبوهم أم أبغضوهم.

ماذا يستفيد شخص يعيش في حلب أو دير الزور، أو في الكويت أو القاهرة أو بيروت، أو في لندن أو استوكهولم، من شتم الناس المقيمين في السويداء أو درعا أو حماة أو إدلب، حتى لو كانوا مخالفين له في السياسة أو الدين؟ بل لماذا ينشغل بالجدل حول مشكلة السويداء أو درعا أو القنيطرة أو غيرها، وهو عاجز عن المشاركة في الحل؟ أي إن كلامه سيكون مجرد تأجيج للمشاعر، وتشجيع للكراهية، بدلَ أن يكون مقولة خير أو دعوة للخير.

إذا كان حريصاً على ذلك الجزء من سوريا (أو أي بلد آخر) فليدعُ إلى حقن الدماء أولاً، وليفكر في الأعمال التي تعين على التسالم، وتحسين الحياة والمعايش لعامة الناس، بخاصة أولئك المحتاجون للإرشاد والمساعدة، بدل أن يصرف طاقته في توزيع الأحكام والتهوين من قيمة الناس هنا أو هناك.

قبل نحو 30 عاماً، سأل أحد الصحافيين المرحوم محفوظ النحناح، السياسي الجزائري، عن الحل الذي يقترحه للنزاع الأهلي الذي كان ناشباً في بلده يومئذ، فتلى الآية المباركة: (كُفُّوا أيديَكُم وأقيموا الصَّلاة). وأنا أقول لهؤلاء الذين سيَّسوا كلَّ شيء فأفسدوا السياسة ولم يصلحوا شيئاً: «كُفُّوا ألسنتكم... سكوتكم هو الغنيمة»... أصلحكم الله.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

أطلق اللغويون على مجموعة لغوية تضم الشعوب التي يسكن متحدثوها حاليا في الشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا. وبالتحديد (بلاد الشام، العراق، شبه الجزيرة العربية، اليمن، أثيوبيا واريتريا). وهي تضم اللغات (الأكدية) بفرعيها الآشورية والبابلية) والكنعانية والاوغاريتية والفينيقية والآرامية والعبرية، والمندائية، والسريانية والعربية، والسبئية، والجيزية بفرعيها (الأمهري والتغريني) بالسامية وشعوبها بالساميين.

وأول من اطلق اسم (اللغات السامية Semetic Languages) على هذه الأسرة؛ هو المؤرخ واللغوي الألماني أوغست لودفيغ فون شلوزرSchlzer  البعض يسميه شولتز (1735- 1809) وهو أحد أعضاء مدرسة غوتنغن الألمانية للتاريخ وذلك في عام 1781م نسبة الى سام بن نوح اعتمادا على كتاب العهد القديم كون هذه المجموعة تشترك بخصائص مشتركة.

إلا أن زميله الالماني يوهان غوتفريد آيكهورن (1752-1827) – أحد أعضاء المدرسة - أستخدم مصطلح (السامية) للإشارة إلى المجموعة (العبرية والعربية والآرامية السريانية) التي لها أوجه التشابه استنادا للتحليل المقارن للغات (العبرية والعربية والآرامية والسريانية) الذي نشره المستشرق الفرنسي غيوم بوستل (1510- 1581) في عام 1538 باللاتينية، ومن بعده وصف المستشرق هيوب لودولف (1625 - 1704) عالم لغويات ألماني والذي يعتبر أول وأشهر من اهتم باللغة الجيزية من خلال العلاقة التي نشأت بينه وبين راهب غريغوري من إثيوبيا (من مناطق قبيلة الأمهرا)، ومن خلال هذه العلاقة، حصل من الراهب على معرفة وافية عن اللغة الجيزية حيث تبين له وجود أوجه التشابه بين هذه اللغات الثلاث واللغة الجيزية، ومع ذلك لم يطلق أي من الباحثين آنذلك على هذه المجموعة وصف (سامية).

وأقول ان كان لا بد من الاعتماد على العهد القديم كان على شلوزر استخدام التسمية البابلية (الأكدية/ الآرامية) لان العهد القديم يعرف كلمة بابل بمعنى بلبلة اللغات أي كانت هناك لغة واحدة أثناء بناء برج بابل وحيث عاقب الله العاملين في البناء بـ بلبلة لغاتهم كي لا يتسنى لهم التفاهم واكمال مشروع برجهم، هذا يعني كانت هناك لغة واحدة مستخدمة في بابل والمنطقة سواء أكانت الأكدية أو الآرامية أثناء كتابة العهد القديم وتجزأت الى لغات عدة.

وبعد ذلك واستنادا الى النظرية التي طرحت من قبل بعض المستشرقين على أعتبار جميع الاقوام (الاكديين، الاشوريين، الكلدانيين، الاراميين، ...) نزحوا من الجزيرة العربية فسميت هذه اللغة بالجزرية إلا أنهم لم يستطيعوا اثبات ذلك فالآثار الموجودة في بلاد النهرين هي الأقدم ولم يعثر في الجزيرة على ما يثبت ذلك، لذا لا أتفق مع هذه النظرية ايضا وأعتقد الاصح ان نسمي هذه المجموعة بالارامية لحين بيان المشترك مع الاكدية لننتقل الى التسمية الاكدية والتي هي الأصح.

ولكون الآرامية أصبحت لفترة ما لغة الامبراطوريات (الاشورية، الكلدانية، الاخمينية) وبسبب توسع نفوذ هذه الامبراطوريات وحكمها في المنطقة لذا انتقلت الكتابة الآرامية من خلالهم الى هذه الدول التي سمي شعبها بالساميين، بمعنى كانت اللغة المستخدمة والتي كانت تسهل عملية الانتقال والتعايش فيما بينهم هي مزيج من الأكدية والآرامية وتلاقحها مع اللغات المحلية، وإلا كيف لي أن أقرأ النقوش الموجودة في الصومال وأرتيريا وأثيوبيا واليمن والسعودية وأترجمها رغم كونها مدونة بخط آخر فضلا عن نقوش بلاد الشام والعراق وفلسطين والاردن وربما لاحقا نقوش أخرى في دول الخليج. ويقول الأب أميل أدة1:

(أن جميع الهجائيات التي تستحق هذا الاسم، قديمة كانت أم حديثة، تنتسب الى حد ما، الى الهجائية الكنعانية الفينيقية. فآراميو سوريا وبلاد النهرين الذين نقلوا لغتهم الى هذه الهجائية، أسهموا في نشرها بواسطة تجارتهم، حتى الصين والبلاد العربية. وبفضل الهجائية، إحتلّت اللغة الآرامية مركز الأكادية البابلية كلغة دبلوماسية وتجارية في الشرق المتوسط، ومن ثم كلغة وطنية في مجمل بلاد الهلال الخصيب).

***

نزار حنا الديراني

................

1- الأب أميل أده / أقوال المؤرخين وعلماء الآثار – من الأنترنيت

 

برز اسم طائفة الدُّروز، أو الموحدين، أو بني معروف، بقوة هذه الأيام، بما يُقدم مِن على الشّاشات مدحاً وقدحاً، لِما حصل بالسُّويداء السُّوريّة، حيث وجودهم، قبل ذلك، مَن لم يعرف الإيزيديّة بهذا الشّيوع بعد واقعة بالموصل (2014)؟ وهكذا تبرز الطّوائف بالحوادث والوقائع. يجد الفرصة، مَن يريد «التّكفير» و«التّشهير»، فيذهب إلى الأُصول، ويُنسى الواقعة وتفاصيلها. ليس هناك ذنبٌ لمنتمٍ لهذه الطَّائفة أو تلك، وجد الأبناء الآباء فساروا على تقاليدهم. كذلك لا توجد عقيدة تبقى كما هي، فالعقائد قابلة للانشطار، إنَّها سُنن الحياة، وأعيد وأذكر بما نُسب لمعاوية بن أبي سُفيان (ت: 60هج)، وأجده يغني عن المقال في ما قصدنا إليه: «معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان قد بقي» (البلاذريّ، جمل من أنساب الأشراف).

فما تأسّس قبل ألف عام له ظروفه وأسبابه، عندما تبلور وصار مذهباً، فاختلط وتعايش، والدُّرزيَّة أعطت مجتمعاتها ما أعطت، وتحملت ما جرى عليها. كانت ظاهرة الحاكم بأمر الله الفاطميّ (ت: 411هج)، غير منفصلة عن النّزاع بين الدّول والعقائد، فالدَّولتان متقابلتان (العباسيَّة والفاطميَّة)، والفاطميون يريدون بغداد، والخليفة العباسيّ القادر بدين الله (ت: 422هج)، عدَّ العدة للمواجهة العقائديّة بسنيته، فشدّد الحاكم الفاطمي مِن العقيدة الإسماعيليَّة، باتخاذ ما يحمل النّاس على التمترس حولها، فهو لم يكن مبدعاً للعقيدة الدُّرزيّة، إنما وجد دعوة جاهزة فاحتضنها، وكانت البداية الفعليّة (407هج)، عندما وصل حمزة بن عليّ الزَّوزني حاملها له، فرَّسمها عقيدةً للدّولة، واتخذ التّوحيد وفقاً لمقالتها. هذا، ولو فتشت لوجدت مئات المؤلفات عناوينها «التَّوحيد»، فكلُّ مذهب يوحد الله بعقيدته.

أثار اتخاذ أفكار حمزة بن عليّ عقدةً رسميَّةً حسد الدَّاعي الآخر نشتكين الدّرزيّ، فتعرضت الدَّعوة إلى حرب داخليّة، اضطر الحاكم إلى تجميدها، للخلاص مِن الدّرزيّ، لكنَّ الاسم سارت به الرّكبان، وعلى الرّغم مِن أنهم يصيحون نحن «الموحدون» و«بنو معروف»، لكنْ هيمن لفظ «الدّروز» فسكتوا، وقبلوا بـ«الموحدون الدّروز» (أبو صالح ومكارم، تاريخ الموحدين الدُّروز).

قام الخليفة العباسي، لمواجهة الدّعوة الجديدة والإسماعيليّة، بإصدار محضر فقهي طعن بنسب الفاطميين. أمضاه رؤساء المذاهب ببغداد، بينهم العلويون الشّيعة، والشّيخ المفيد (ابن الجوزي، المنتظم). بقدر ما تعصّب الحاكم تشدّد القادر، فصنّف كتاباً كفَّر فيه المعتزلة وغيرهم، يُقرأ في الجمعة (البغدادي، تاريخ بغداد)، وعلا الأمر بالحاكم إلى فرض التَّوحيد، بالدَّعوة التي تبناها.

إذا كان القادر بالله منفيّاً مِن قبل ابن عمَّه، والأزمة في البيت العباسيّ شديدة، كانت أخت الحاكم «ست المُلك» وابنه ضده، فبعد غياب الأب أعلن الابن اضطهاد الدُّروز، بتقتيلهم وملء الحبوس بهم. قيل: «كانت مِن أعقل النّساء وأحزمهنَّ»، وخشية مِن خراب البيت الفاطميّ بسلوك أخيها، عملت ضده (تغرى بردى، النّجوم الزَّاهرة). فجُمدت الحركة «الدّرزيّة»، ولم تعد رسميّة، وظلّت بحدود الشّام: سورية ولبنان وفلسطين. يقرّ الدُّروز بالوحدانيّة، ويعتقدون، كغيرهم مِن الملل: في آخر المطاف «ستعتنق البشريّة بكاملها الدّرزيّة» (أوبنهاتم، الدُّروز).

لديهم وصايا سبع، أبرزها: صدق اللِّسان، حفظ الإخوان، ترك عبادة البهتان، البراءة مِن الأبالسة والطّغيان (أبو عزّ الدِّين، الدُّروز في التّاريخ). أرأيتم، كيف أنَّ أبناء مذاهب اليوم لا شأن لهم بالتأسيس وصياغة العقيدة، فالعقائد موروثات، ولولا النّزاع العباسيّ الفاطميّ ما تبنى الحاكم الدُّرزيَّة، التي قمعها نجله الظّاهر لإعزاز الله (ت: 429هج)، ولا طُلب مِن أبي حامد الغزاليّ (ت: 505هج) تصنيف «فضائح الباطنيّة»، الذي لم يعفِ الأطفال مِن اختبار العقيدة، ولا جلس القادر يرمي التَّكفير مع صلاة الجمعة.

مرّت المنطقة بدورات عصيبات، والضَّحايا أبناء الطّوائف، يأتي السّياسيّ يتسيّد بطائفته مضطهداً الآخرين، ولما يرحل تُحسَبُ أفعاله على طائفته، لأنه جعلهم أدواته، فيجري الثَّأر منهم. لذا، اعصموا الطَّوائف مِن الحزبيّة، فإذا كان الغرور بالسُّلطة، فالدّهرُ لا يغفل، والكلام يُنسب لأبي العَتاهيَة (211هج): «سكتَ الدَّهرُ زماناً عنهم/ ثم أبكاهم دماً حين نطق» (سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزَّمان).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

وأنا أتابع ما يجري في سوريا، إذ تتآكل البنية الوطنية وتقترب من حافة التفكك، لا يسعني إِلَّا أنَّ أستحضر المشهد العراقي ما بعد سقوط نظام صدام، حين بلغت المحنة ذروتها: بلد ينهار، وخراب يمتد من الجغرافيا إلى الذاكرة، وجراح تفيض على طوائفه جميعًا. ذلك أنّ المحنة العراقية– بشهادات التاريخ لا الانفعالات– كانت أعمق، والخراب أشمل والجراح أكثر اتساعًا. ومع ذلك، بقي العراق قائمًا رغم ما فيه.

كان في عمق هذا التماسك رجل يسكن النجف، اسمه السيد علي السيستاني، آلت إليه زعامة التشيّع، رجل صاغه العلم وهذّبته الروحانية، فعاش بمنأى عن غواية السلطة وظهورها الزائف. لم يرضخ لردود الأفعال، ولم يفتح باب الدم حين استُدرج إليه مرارًا. رأى أتباعه يُذبحون على أعتاب كل حسينية ومسجد، فاختار الصمت المسؤول، والاتزان الذي يعلو على الغريزة.

لكن حين شارف الوطن على الحذف التام عام 2014، وحين بدا أنّ الذبح لن يستثني أحدًا، نطق بكلمة كانت أثقل من الحرب نفسها، وأصفى من الانفعال: فتوى الجهاد الكفائي. لم تكن دعوة للقتل، بل إعلانًا عن الحد الأخير لمسؤولية الوجود. لذلك يقول الدارسون: إن هذا النوع من الفتوى هو ما جعل علماء الدين الشيعة قادةً للشعب، ومنها اتسعت سلطاتهم السياسية والاجتماعية، المضافة إلى سلطتهم الروحية. [1].

يرى فالح عبد الجبار-عالم الاجتماع العراقي- أنّ الهوية الشيعية قوتها تعتمد في ثلاثة عناصر أساسية: أولًا، وفرة الرموز الدينيَّة التي تتيح بناء سردية جمعية متجددة. ثانيًا، كثافة الشعائر الدينية- الشعبية، ولا سيَّما زيارة الأربعين بوصفها طقسًا جماعيًا هائل الحضور. وثالثًا، وجود مرجعية دينية جامعة تمتدّ في عمقها التاريخي لأكثر من ألف عام، بما يوفّر استمراريةً مؤسسيةً نادرة في السياقات الإسلاميَّة [2].

إن قراءة فالح عبد الجبار لقوة التشيع من خلال ثلاثية (الرمز– الشعيرة– المرجعية) تفتح الباب لفهم التشيّع كمنظومة ثقافية- تاريخية تمتلك قدرة نادرة على إنتاج الذات وإعادة توليدها عبر الزمن.

1. فالرموز: الدينية الشيعية لا تشتغل فقط كجسور تواصل بين الماضي والمقدّس، بل هي أيضًا بنى إنتاج للمعنى في الحاضر. فالإمام الحسين، مثلًا، لم يبق رمزًا لمأساة تاريخية، بل تحوّل إلى مفهوم أخلاقي- سياسي يتجاوز شرطه التاريخي. الرمز هنا يُعاد تأويله مع كل سياق جديد. وهذه القدرة على "تجديد الرمز" هي ما يجعل التشيّع حيًّا في بنيته وشعاراته.

2. في الشعيرة: الزيارة، العزاء، اللطم، المواكب.. هي أشكال لإنتاج "جسد جمعيّ" له إحساسه الخاص بالزمن، والعدالة، والانتماء. إنها شعائر لمقاومة النسيان. وبذلك تتحوّل الشعائر إلى آلة سردية كبرى تعيد حياكة الذات الشيعية باستمرار، إذ يكون الجسد الشعائري بمثابة نصّ يتحرك على الأرض.

3. أما المرجعية: فهي بنية تراكمية تمارس وظيفة تأويلية وزمنية؛ إنَّها "ذاكرة حية" تحتفظ بتوازن الجماعة، وتمنحها القدرة على مقاومة التفتت والانزلاق نحو العدمية أو التطرف. قوّتها لا تكمن في سلطتها الفقهية فحسب، بل في كونها تمثّل نوعًا من "العقل الجماعي المتراكم"، القادر على إدارة التعارضات دون تمزيق البنية.

ما يقدّمه فالح عبد الجبار هو أكثر من توصيف اجتماعي– إنَّه تشخيص لأنثروبولوجيا التماسك الشيعي. فهذه الثلاثية تُنتج ما يمكن تسميته بـ"الهوية الدينامية"، أي هوية قادرة على أنَّ تكون وفية لذاكرتها دون أنَّ تتجمد فيها.

ومن ثَّم، ليس من العبث أنّ تتجلّى مواقف السيد السيستاني الحاسمة، فهي امتداد لتقليد مرجعي في ساعات مفصلية، تعاملت فيها النجف مع التحولات الكبرى بوعيٍ وطني وديني بالغ. ففي عام 1918، عند اجتياح الاحتلال البريطاني للعراق، اتخذت المرجعية موقفًا يطالب بالعدالة وخروج المحتل، معلنةً بداية حضورها السياسي في مواجهة القوى الأجنبية. وفي عام 1920، أطلق المرجع الشيخ الشيرازي شرارة الثورة ضد الاحتلال عبر فتوى شهيرة، أصبحت منطلقًا لثورة العشرين العظيمة، ومهّدت لقيام نظام ملكي دستوري عام 1924.

وانشغلت المرجعية في النجف بقضايا الإقليم، فساندت عام 1948 القضية الفلسطينية، ودعت مرجعية السيد محسن الحكيم المنابر الدينية لدعم نضال الشعب الفلسطيني، وأفتت بدفع الحقوق المالية الشرعية له، متجاوزةً الانقسامات المذهبية والدينية. وفي عام 1956، عبّرت المرجعية عن تضامنها مع مصر إبان أزمة السويس، وصدرت عنها بيانات واضحة تُجسّد هذا الموقف التضامني.

وفي عام 1968، حيث صعود حزب البعث إلى السلطة، ارتكز المشروع السلطوي الجديد على رؤية أمنية تُعيد ترسيم خريطة التهديد الوطني. فبينما شُيطن الأكراد بوصفهم التهديد الإثني الأبرز، نُظِر إلى الأحزاب الشيعية على أنَّها تشكيلات فكرية أولية، محدودة الانتشار، وغير قابلة – في تصور النظام – للتحول إلى قوى سياسية فاعلة، مما أبقاها في البداية خارج دائرة القمع المباشر، كأنها لا تزال في طور التكوين غير المثير للقلق. لكن في الفترة ما بين عامي 1980 و1988، وخلال الحرب مع إيران، اندفعت الدولة في أتون حرب طويلة أنهكت البنية المجتمعية والسياسية، وأعادت إنتاج "الشيعة" كهوية متهمة ومخترقة. واتّسم خطاب السلطة بازدواجٍ فادح: إذ حُمِّل بعض الشيعة تهمة الخيانة، فلاحقهم السجن والنفي والإعدام، فيما جرى استيعاب فئات أخرى في أجهزة الدولة، لا بوصفهم شركاء، بل كوسائط في معادلة ضبط ومراقبة الطائفة من الداخل.

وفي عام 1991، عقب الانتفاضة الشعبانية، أصبحت السلطة تنظر إلى التشيع كجسم متمرّد على منطق الدولة ذاتها. تحوّلت العلاقة إلى قطيعة قمعية، إذ جُرِّدت الطائفة من أي شرعية سياسية أو وطنية، وتمت معاملتها كعدو داخلي تجب محاصرته، لا محاورته[3].

أما في المرحلة ما بين 1991 -2003، في ظل الحصار وما بعده، ومع التآكل التدريجي لهيبة الدولة تحت وطأة العقوبات الدولية، انفتحت الثغور أمام فواعل شيعية كانت حتى ذلك الحين تعمل في الظل. تحرّكت هذه الكيانات من الهامش إلى المركز المجتمعي، لتعيد إنتاج الفعل الديني بوصفه فعلًا اجتماعيًا ومؤسساتيًا قادرًا على ملء الفراغ كما حصل مع التجربة الفريدة للسيد محمد محمد صادق الصدر. فكانت تلك لحظة التحول التي مهّدت لصعود النفس الشيعي المؤسسي بعد عام 2003، كتحقّق تاريخي متراكم.

(ما بعد 2003): أحدث سقوط النظام لحظة انكسار جذري في معادلة الدولة والطائفة، إذ انتقل الشيعة من الهامش المعارض إلى مركز الفعل السياسي، من خلال إعادة صياغة لشرعية الدولة من جديد. وهذا التحول جاء كولادة مؤلمة لعلاقة مأزومة بين الإرث الديني وسنوات السحق وضرورات الدولة الحديثة وسلطة الاحتلال الأمريكي، بين المرجعية كمركز رمزي للشرعية، والدولة كمؤسسة سيادية تتطلب إنتاجًا دنيويًا للسلطة.

لقد كانت فاعلية الشيعة كامنة في حضور المرجعية الدينية، كقوة رمزية عميقة أعادت تنظيم حركة الفعل داخل المجتمع. فقد شكّلت المرجعية نقطة اتزان وسط الفوضى، ودَفعت المجتمع دفعًا نحو الدولة كأفقٍ ضروري وضامن لتفادي الانهيار. ومع أنّ المرجعية لم تُخفِ مآخذها الجوهرية على مسار العملية السياسية، فإنها– وبلغة الصمت المدوي– أوصدت الأبواب في وجه الطبقة السياسية، عن موقف أخلاقي ناقد، يُضمّن العتب والمعارضة معًا.

بعد هذه الجولة المكثّفة، ينهض السؤال بطبيعته دون استدعاء، ويقفز إلى الذهن بحدة: ما الذي تفتقر إليه التجربة السورية، إذا ما وُضعت في مقابلة– وإنْ بشروط تاريخية مغايرة– مع نظيرتها العراقية؟ في تقديري، يكمن الجواب في جملة من العناصر العميقة، ومنها:

أوَّلًا: الافتقار إلى مرجعية اجتماعية دينية عقلانية جامعة، تتجاوز الحزبية والطائفية تتسع للبلد ككل.

ثانيًا: تفتّت البنية المرجعية: فالساحة السورية خضعت لتنازع المرجعيات منذ سنوات: الإسلام السياسي والسلفي، القوميين، الليبراليين، والعسكرة الخارجية.

ثالثًا: غياب مركز وطني- أخلاقي يجتمع حوله أغلبية السوريين يضبط البوصلة عند اللحظات الحدّية. في التجربة العراقية، حتى مع غياب الدولة كانت النجف دائمًا "حدٌّ رمزيّ" للانهيار، لا يُسمح بتجاوزه. ومن ثَّم، ما الذي يمكن أن تستفيده سوريا من النجف بوصفها مرآة للاستلهام لا للاستنساخ فهذا الأمر متعذر بالضرورة؟

أن تُؤسّس سوريا الجديدة على عقلانية غير انتقامية، عابرة للطوائف، تراهن على الإنسان لا على الجماعة.

أن تشتغل على إنتاج مرجعيات فكرية وأخلاقية تشبه دور النجف لا في تديّنها، بل في حكمتها التاريخية.

أن يُفهم أن إنقاذ الدولة لا يعني بالضرورة استنساخ الدولة، بل استرداد المجتمع أولًا.

فسوريا في وضعها الراهن بأمسّ الحاجة إلى مثل هذه الحكمة والعقلانية المتجاوزة لا لصدّ العنف بالعنف، بل لمنع سقوط البلد نفسه وحذفه نهائيًا من الخارطة. سوريا بحاجة إلى حكمة السيستاني لا إلى ارتهان حكمت الهجري بالخارج والتقوي بإسرائيل. سوريا اليوم ليست بحاجة إلى استدعاء الخارج ولا إلى تبرير الاحتماء بمشروع استيطاني يمزّق روحها، بل إلى صوت بعقل السيستاني وروحه، يُنقذها من السقوط ويعيد بناء الضمير الجمعي، وإيقاف النزيف بالمسؤولية لا بالمزايدة. سوريا لا تحتاج إلى مزيد من الحلفاء بل إلى حكمة تحفظ لها الحق في البقاء. سوريا اليوم في قلب مأزق معقّد ومتشابك؛ فهي معلّقة بين نظام يحكمها وتثقله جماجمُ القتلى، ومحتشد بجنود عابرين لفظتهم أوطانهم الأصلية لتطرّفهم، لا يحملون من لغة العالم سوى السلاح، ولا من الثقافة سوى منطق الرصاصة. ومن جهة أخرى، ثمَّة إسرائيل لا ترى في الجغرافيا السورية إلَّا رقعةً يجب تفكيكها، وتركيا تحوّل المأساة السورية إلى منصّة لتوسيع ظلّها وبسط خطابها.

وفي هذا الفضاء المتداخل من الطوائف والولاءات والسوق السياسي المفتوح على الخارج، ستعيش سوريا لسنوات من التيه- مع الأسف- لا تعود الحلول الكلاسيكية كافية، ولا تُجدي المعالجات المؤقتة. ما يُنقذ سوريا لا هو انتصار فريق ولا هزيمة آخر، بل ولادة عقل يتجاوز الاصطفاف ومشروع يؤمن به أهله لأنَّه يلامس حقيقتهم لا مصالح وكلائهم.

نكمل توسعة الفكرة وإنضاجها في المقالة القابلة.

 ***

أ.م.د حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله

....................

[1] ينظر: عبد الأمير زاهد، الدور الديني لمرجعية النجف المعاصرة في صناعة السلام، بحث منشور كتاب " نحو ثقافة الحوار بين الأديان، وهو جزء من وقائع أعمال المؤتمر الدولي الأول، بيروت 12-13 أيلول، سبتمر- 2017، 208.

[2] ينظر: فالح عبد الجبار، صراع الأمة والدولة، ضمن كتاب الصراع المذهبي، تحرير: حسن ناظم، إياد العنبر، الناشر: كرسي اليونسكو للحوار- جامعة الكوفة، الطبعة الأولى- 2018م، 49.

[3] ينظر: عبد الأمير زاهد، الدور الديني لمرجعية النجف المعاصرة في صناعة السلام، 208.

 

في كل أمة تُختبر هويتها، تكون اللغة أول الحصون المُستهدفة، وأول الأسوار المُراد إسقاطها. وعلى أرض مصر، التي تنطق بالحياة منذ فجر التاريخ، يتجدد الجدل: هل ما نتحدثه في شوارعنا ومقاهينا "لهجة عربية" أم "لغة مستقلة"؟!

هي ليست معركة أصوات وكلمات، بل معركة انتماء وذاكرة. فاللهجة العامية ليست غريبة   عن العربية، بل فرع نابت في شجرة واحدة، يحمل نكهة الأرض وطين النيل، لكنه يرتوي من نبع الضاد.

في هذا المقال، نكشف الزيف، ونردّ الحكاية إلى أصلها.. حيث تبدأ الكلمة من الجذر، لا من الوهم.

لغتنا هويتنا ومعركتنا الأبدية

لم تسلم اللغة، كغيرها من مظاهر الهوية، من محاولات التشويه والتفكيك. فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أصوات تدّعي أن العامية المصرية "لغة مستقلة" عن العربية، وكأنها نشأت من فراغ، لا جذور لها ولا تاريخ.

هل من المنطقي الزعم بأننا لا نتكلم العربية؟ أو أن اختلاف بعض المفردات واللهجات يعني القطيعة التامة مع اللسان العربي؟ إنها محاولة مفضوحة لضرب الانتماء وتزييف الهوية الثقافية، تكرار لادعاءات قديمة أرادت أن تفصل المصريين عن عروبتهم، بزعم أنهم "فراعنة فقط"، وكأن العروبة والإسلام يتناقضان مع الخصوصية المصرية!

اليوم تعود هذه المحاولات بثوب لغوي، بادعاء أن ما نتحدثه في مصر ليس له علاقة بالعربية، بل هو "لغة مصرية حديثة". وهذا عبث علمي لا يصمد أمام أي قراءة جادة في التاريخ أو في علم اللغة. إن القول بأن العامية المصرية تمثل "لغة مستقلة" يحتاج إلى استقراء هادئ يستند إلى أدوات العلم، لا إلى الأهواء والأجندات. اللغة كائن حي، تتغير وتتطور، لكن تطورها لا يعني بالضرورة أنها تنفصل عن أصلها.

سنناقش هنا أبرز المزاعم المثارة على منصات التواصل، عبر مراجعة علمية دقيقة لأهم المصادر التي يُستند إليها في ترويج هذه الفكرة الضالة. كما سنبرهن ببراهين دامغة أنها فكرة لا تستحق حتي مجرد النظر أو إعادة تدويرها على الذهن!

أكذوبة مكشوفة

أحد أبرز الادعاءات تقول إن الدكتور إبراهيم أنيس أثبت أن المصريين لا يتحدثون العربية. لكن هذا الادعاء يفتقر للدقة. أنيس، أحد أعمدة علم اللغة في العالم العربي، درس اللهجات العربية، ومن ضمنها العامية المصرية، ضمن الإطار العام للغة العربية.

دراسته رصدت الخصائص الصوتية واللهجية، لكنها لم تقل يومًا إن العامية لغة منفصلة. تمامًا كما تختلف لهجات بلاد الشام أو الخليج، تظل العامية المصرية جزءًا لا يتجزأ من المشهد العربي العام.

آراء فردية شذت عن الإجماع

في كتابه "حاضر الثقافة في مصر" طرح بيومي قنديل رؤيته بشأن خصوصية العامية المصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال التعبير الثقافي المستقل.

لكننا أمام رأي فردي، لا يستند إلى إجماع علمي ولا إلى دراسات مقارنة كافية. خصوصية اللهجات لا تعني الانفصال، بل التنوع داخل الوحدة. والفيصل دائمًا هو إمكانية الفهم المشترك، وهي قائمة بوضوح بين المصريين وبقية الشعوب العربية.

توظيف ناقص

محاولة الربط بين اللغة المصرية القديمة والعربية عبر قاموس أحمد كمال باشا تحتاج إلى إعادة تمحيص؛ فالقاموس في ذاته محاولة رائدة، لكنه لا يقدم دليلاً على وحدة الأصل بين اللغتين. فاللغات ـ كما هو معروف في اللسانيات ـ تتأثر ببعضها بفعل التراكم والاحتكاك، دون أن يعني ذلك انحدارها من مصدر واحد. ثم إن المنهجية التي اعتمدها كمال باشا لم تحظَ بقبول واسع، بل واجهت تساؤلات علمية من متخصصين في اللسانيات التاريخية.

الدليل الأول: الديجلوسيا

هناك أدلة كثيرة أسوقها إليكم للبرهنة على ما لا يحتاج لبرهان: أن الفصحي واللهجات العامية، ومنها المصرية، لهم أصل واحد مشترك هو القرآن، مهما زعم الزاعمون غير ذلك.

إن العربية، عالمياً، تُصنّف كلغة "ثنائية اللسان"(diglossic):  لها لغة رسمية (الفصحى) وأخرى محكية (اللهجات العربية) تُستعمل في الحياة اليومية. وهناك لغويون مثل "محمود البدوي" يقسمون استخدام اللغة إلى خمس درجات، من "الفصحى التراثية" إلى "عاميات غير متعلمة"، وهذا يؤكد ترابط مستويات مختلفة ضمن نظام لغوي واحد .

ثم إن اللهجات تُستخدم حسب الدرجة الاجتماعية والسياق: العامية للحديث اليومي، والعربية الفصحى للأغراض الرسمية والفكرية. ولم يقل أحد من علماء اللسانيات فى كل العالم أن اللغات ثنائية اللسان تنم عن لغات منفصلة، فلماذا نتبرع نحن بادعائها؟ ولماذا الآن؟!

الدليل الثاني: البنية المشتركة

من حيث "الصوتيات"؛ فإن اللهجات العربية جميعها واللغة العربية الفصحي تستخدم نفس النظام الصوتي الجذري، رغم بعض التغييرات (مثل تحول القاف إلى همزة أو غين في العامية..إلخ). وإذا كانت العامية المصرية تستبدل القاف بهمزة/جيم غنة، لكن النظام الصوتي لا ينفصل، بل يُحوَّل وفق قواعد لهجوية متسقة.

ومن حيث "الصرف والنحو"، فإن العامية رغم تبسيطها نطقاً واستخداماً إلا أنها تحتفظ بالبنية الصرفية والنحوية العربية الأصلية: أفعال ثلاثية، ضمائر، أدوات استفهام... إلخ. وهناك دراسات كثيرة؛ مثل: Arabic Dialects and Classical Arabic Language"" تظهر بوضوح وجلاء أن الهيكل العام بين الفصحي واللهجات العامية متطابق إلى حد كبير فى المجمل، لكن مع اختلافات سطحية لا ترقي إلى حد النظرية العامة.

ومن حيث "المفردات" فإن المفردات الأساسية فى العامية تنحدر بلا خلاف من الجذور العربية، مع كلمات دخيلة هي خليط من التركية والفارسية والإنجليزية والقبطية والفرنسية، وكما هو واضح أن التأثر هنا لا يعود إلى الجذور الفرعونية كما يزعمون، وإنما للاستعمار. وهو تأثر يشبه تأثير التوابل فى الطعام، لا يغير ماهية الطعام، وإنما يزيده شهية!

ودعونا نتساءل هنا: إذا كانت نية الزاعمين حول انفصال العامية المصرية عن لغتنا العربية الفصيحة نية سليمة لا تشوبها شائبة، فلماذا تمسكوا بقاموس أحمد باشا كمال، وهو ليس دليلاً على شئ، ولم يذكروا شيئاً عن معجم اللغة العامية لأحمد تيمور، رغم تأكيده الدامغ على الصلة الطبيعية بين العامية المصرية وبين العربية الفصحي؟!!

الدليل الثالث: دليل تقني

هناك نظم تقنية وأبحاث خاصة بالشبكة العصبية للذكاء الاصطناعي، استطاعت الربط بين اللغة العربية الفصيحة المكتوبة وبين العامية،وجرب بنفسك أن تتحدث مع شات جي بي تي باللغة العربية الفصحي فسيخاطبك بها تلقائياً، وإذا غيرت لهجتك للعامية المصرية فسوف يغير لهجته بالتبعية؛ لأن النظامين اللغويين لديه مرتبطان بنظام لغوي واحد.

وهنك أبحاث لغوية كثيرة قامت وكُتبت حول هذا الأمر، منها:

-    دراسة دكتور خالد شعلان، بالجامعة البريطانية فى دبي 2007: عرضت نظامًا لتحويل العامية المصرية إلى فصحى آليًّا، مما يدل على وجود علاقة معجمية ونحوية مباشرة.

-    دراسة أشرف النجار بالشارقة 2021: لاحظت الدراسة أن الفصحى والعامية كلتاهما تشتركان في الشكل اللغوي، لكن الاختلاف واضح في التفصيلات؛ ورغم اختلاف اللهجات جداً، إلا أن دراستها موحدة ضمن المنظومة العربية.

المنطق والسياق التاريخي

بعيداً عن مهاترات التريند، دعونا نلجأ للسياق التاريخي لتطور اللهجة المصرية؛ فبعد الفتح الإسلامي، دخلت العربية مصر وانتشرت بالتدريج، واثرت وتفاعلت مع القبطية. لبثت عدة قرون قبل أن تتبلور إلى العامية المعروفة اليوم. هذه التطورات تعكس نمط تطور طبيعي داخل اللغة، لا انفصالاً كاملًا. فالمعروف ثقافياً أن اللغة كائن حي متجدد.

الآن نلاحظ أن اللهجات المصرية مفهومة في غالبية العالم العربي نظرًا لانتشار الإعلام المصري: أفلام، مسلسلات، موسيقى. ألا يؤكد لنا الفهم المشترك بين اللهجات (مثل المصرية، الشامية والخليجية) أن النبع لهذه اللهجات هو نبع واحد مشترك؟! هذا بديهي، وهو فهم يعزز وجود "لسان عربي مبين" وهو لسان مشترك متعدد اللهجات وأساليب النطق.

كالشمس أو كالنجوم

هي حقيقة مؤكدة كالشمس الساطعة فى يوم صائف. لكنهم يريدون، لغرض فى نفوسهم، ليّ عنق الحقائق. وإذا أردتم دلائل إضافية، عالمية هذه المرة، فدعوني أوضح لكم حقائق مستقرة فى عرف المسلمات الأكاديمية حول بنية اللغات:

1.  البنية اللغوية: اللهجات تشكل امتداداً للفصحى، لا كيانات مستقلة.

2.  الأساس المشترك: اشتراك اللهجة واللغة بنيوياً يحول دون انفصالهما بداهةً.

3.  إمكانية الترجمة: نجاح عمليات التحويل الآلي بين اللهجة واللغة المرتبطة بها يعني بالتبعية أنهما من أصل واحد.

4.  الإجماع العلمي: أغلب الدراسات الأكاديمية تعتمد على الفرضية الرحبة بوجود تنوع لهجي محفوظ ضمن نسق لغوي موحد. لا يوجد دليل على استقلال تام للهجات.

إن العامية المصرية ليست “لغة منفصلة”، بل إحدى لهجات العربية، تشترك معها في الجذور، والقواعد، والكثير من المفردات. والتنوع اللهجي يعزز ثراء اللغة، ولا يقلل من انتمائها إلى العربية الفصحى، بل يضفي عليها طابعًا محليًا يثريها ثقافيًا ولا ينفي شمولها الحضاري.

إنني أقولها بوضوح: كفى تضليلًا! كفى عبثًا بلغة هي وعاء حضارتنا، ولسان تراثنا، وجسر تواصلنا مع إخوتنا العرب!

***

عبد السلام فاروق

ماذا لو انهار الدولار؟

سؤال يبدو بسيطا، لكن إجابته تعني زلزالًا اقتصاديًا سيهز عروش القوى العظمى، ويقلب موازين العالم رأسًا على عقب. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يترك مجالًا للشك عندما أرسل تحذيرًا صارخًا: "من يريد أن يجرب فعل ذلك، فليجرب.. لكن عليه أن يكون مستعدًا لدفع الثمن". كلمات تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا، بل وعريضًا، لكل من يجرؤ علي تحدي الهيمنة الأمريكية عبر استبدال الدولار بعملة أخرى. 

فهل نحن أمام بداية نهاية الهيمنة المطلقة للدولار؟ أم أن أمريكا، بقوتها العسكرية والاقتصادية، قادرة على سحق أي محاولة لزعزعة مكانته؟ ومن يقف خلف هذه المحاولات؟ هل هي مجموعة "بريكس" بقيادة روسيا والصين، أم أن العالم كله بدأ يئن تحت وطأة الدولار كسلاح سياسي قبل أن يكون عملة تبادل تجاري؟ 

الدولار.. هو الإمبراطورية 

الحديث عن الدولار لا ينفصل عن الحديث عن القوة الأمريكية. منذ اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، أصبح الدولار هو العمود الفقري للنظام المالي العالمي، مرتبطًا بالذهب أولًا، ثم بالنفط لاحقًا عبر صفقة البترودولار مع السعودية في السبعينيات. لكن الأهم من ذلك كله هو أن الدولار تحول إلى أداة سياسية بامتياز. 

الولايات المتحدة تستخدمه كسلاح لفرض العقوبات، لإخضاع الدول المتمردة، ولإرهاب أي نظام يحاول الخروج عن الطاعة. إيران وفنزويلا وسوريا وغيرها شهدت كيف يمكن لعقوبات مالية أن تحول اقتصاد دولة من الازدهار إلى الانهيار في سنوات قليلة. لكن السؤال الآن: هل بدأ هذا السلاح يفقد حدّه؟ 

بريكس.. محاولة كسر القيد الذهبي 

مجموعة "بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تحولت في غضون سنوات إلى نادي للدول التي تريد الهروب من هيمنة الدولار. في قمتها الأخيرة بالبرازيل، كانت الرسالة واضحة: البحث عن بدائل نقدية تقلل الاعتماد على العملة الأمريكية. 

روسيا، بعد عقوبات الغرب القاسية عليها، أصبحت أكثر حماسًا لتعويم الدولار. والصين، بقوتها الاقتصادية الصاعدة، تدفع بعملتها "اليوان" لتكون منافسًا جديًا. بل إن بعض الصفقات بين هذه الدول أصبحت تتم بعملات محلية، متجاوزة الدولار تمامًا. لكن ترامب يرد بتحذيره: "ثمن ذلك باهظ جدًا". فماذا يعني هذا التهديد؟ 

الثمن الباهظ..

الولايات المتحدة الأمريكية، بالتأكيد لن تسمح بتآكل هيمنة الدولار، لأن ذلك يعني انهيار أحد أهم أركان قوتها العالمية. التاريخ يقول إن أمريكا مستعدة لخوض حروب من أجل الحفاظ على هذه الهيمنة. فهل ننسى كيف تم تدمير العراق وليبيا جزئيًا بسبب محاولاتهم التخلص من الدولار في صفقات النفط؟ 

اليوم، روسيا والصين هما الهدف الأكبر. العقوبات على روسيا ليست فقط بسبب أوكرانيا، بل لأن موسكو تمثل تحديًا مباشرًا للنظام المالي الأمريكي. والصين، باقتصادها العملاق، قد تكون اللاعب الأقدر على قلب الطاولة. لكن هل ستجرؤ على خوض معركة مفتوحة مع العملة الخضراء؟ 

 معركة العملات..

التحذير الأمريكي ليس كلامًا في الهواء. إنه إعلان واضح صريح بأن معركة العملات هي الجبهة الجديدة في الحرب الباردة بين الشرق والغرب. لأن الدولار هو درع أمريكا ورمحها. أي محاولة لإسقاطه ستواجه برد قد يكون اقتصاديًا، سياسيًا، أو حتى عسكريًا. 

لكن السؤال الأهم: هل العالم مستعد لدفع الثمن؟ وهل الدول المتمردة على الهيمنة الأمريكية قادرة على تحمل العواقب؟ المستقبل سيخبرنا، لكن ما نعرفه الآن هو أن المعركة بدأت، وأن ترامب قد أطلق أول رصاصة تحذيرية.

 هل نشهد ميلاد نظام نقدي عالمي جديد؟ 

لم يعد الدولار مجرد عملة لتبادل السلع والخدمات، بل تحول إلى أداة للهيمنة والابتزاز السياسي. لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن القوة المفرطة للدولار قد تكون سببًا في بداية أفوله. فالعالم لم يعد يقبل أن يكون رهينة للسياسة النقدية الأمريكية، خاصة عندما تتحول هذه السياسة إلى سيف مسلط على رقاب الدول التي تخرج عن النهج الأمريكي. 

ترامب، في تصريحه الأخير، كان ينطق بلسان الإمبراطورية الأمريكية التي تدرك أن فقدان الهيمنة النقدية يعني بداية النهاية لقوتها العالمية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل يمكن لدول "بريكس" وغيرها أن تنجح في تحدي هذا النظام، أم أن أمريكا قادرة على سحق أي تمرد نقدي قبل أن يكتسب زخمًا؟  

 روسيا.. من الانهيار إلى التمرد 

بعد العقوبات الغربية القاسية التي أعقبت الغزو الأوكراني، وجدت روسيا نفسها في موقف لا تحسد عليه: إما الاستسلام للضغوط المالية الأمريكية، أو البحث عن بدائل جذرية. واختارت الكرملين الخيار الثاني. 

أولا : التجارة بالروبل حيث فرضت موسكو على الدول "غير الصديقة" دفع ثمن الغاز والنفط بالروبل، في خطوة غير مسبوقة لتجاوز الدولار. 

ثانيا : التحالف مع الصين إذ أن أكثر من 70% من التبادل التجاري بين البلدين يتم الآن بالروبل واليوان، متجاوزًا الدولار تمامًا. 

ثالثا : ضاعفت روسيا من احتياطاتها الذهبية، في إشارة واضحة إلى استعدادها لعصر ما بعد الدولار. 

لكن هل يكفي ذلك؟ الروبل لا يزال عملة هشة، والاقتصاد الروسي منكمش تحت وطأة الحرب. التمرد على الدولار يحتاج إلى أكثر من إرادة سياسية؛ يحتاج إلى قوة اقتصادية وعمق مالي قد لا تملكه روسيا وحدها. 

 الصين.. التنين الذي يتربص

بينما تخوض روسيا معركتها بالغاز والذهب، تلعب الصين لعبة أطول وأذكى. 

- اليوان الرقمي: بكين تطور نظامًا نقديًا رقميًا قد يصبح بديلًا عالميًا لـ"سويفت"، النظام الذي تتحكم فيه أمريكا. 

- القروض باليوان: في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، تقدم الصين قروضًا تنموية باليوان، مما يوسع نطاق استخدام عملتها. 

- تحالفات اقتصادية: من خلال مبادرات مثل "الحزام والطريق"، تخلق الصين شبكة اقتصادية موازية تقلل الاعتماد على الدولار. 

لكن الصين توازن بحذر. فهي لا تريد صدامًا مفتوحًا مع أمريكا، لأن مصلحتها تقتضي الاستمرار في التصدير إلى السوق الأمريكية. هل نستطيع إذن أن نقول إن بكين تريد إضعاف الدولار، لا إسقاطه؟ 

 دول البريكس.. بين الوحدة والانقسام 

المجموعة التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تطرح نفسها كمنافس للنظام الغربي، لكنها تعاني من تناقضات داخلية: 

- الهند: تخشى من هيمنة اليوان مثلما تخشى من الدولار، وتفضل نظامًا متعدد الأقطاب. 

- البرازيل: تتعامل بحذر، فهي لا تريد إغضاب واشنطن التي تبقى شريكًا تجاريًا رئيسيًا. 

- جنوب إفريقيا: اقتصادها ضعيف لقيادة أي تحول نقدي. 

إذن، فكرة إصدار "عملة بريكس موحدة" تبدو بعيدة المنال حاليًا. لكن مجرد وجود هذا التحالف يرسل رسالة واضحة أن العالم لم يعد راضيًا عن هيمنة الدولار الأحادية. 

الحرب الاقتصادية.. وما بعدها 

الولايات المتحدة لن تتخلى عن سلاحها المالي دون قتال. وسنرى على الأرجح: 

1. عقوبات أكثر قسوة: كما حدث مع روسيا، أي دولة تحاول التخلي عن الدولار قد تواجه تجميد أصول وحظرًا مصرفيًا. 

2. ضغوط دبلوماسية: واشنطن ستستعمل نفوذها في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي لعرقلة أي تحالفات نقدية منافسة. 

3. حروب بالوكالة: كما في أوكرانيا، قد تشعل أمريكا نزاعات إقليمية لإضعاف الدول المتمردة. 

لكن الخطر الأكبر على أمريكا هو أن يصبح التمرد على الدولار ظاهرة عالمية، لا مجرد سياسة لعدد قليل من الدول. فحتى الحلفاء التقليديون مثل السعودية بدأوا يتحدثون عن قبول اليوان في صفقات النفط. 

 هل هذه نهاية الهيمنة الأمريكية؟ 

المعركة الحقيقية ليست بين الدولار وعملة أخرى، بل بين نظام عالمي أحادي القطب يقوده الغرب، ونظام متعدد الأقطاب تتصارع فيه القوى الكبرى. 

إذا نجحت أمريكا في قمع التمرد النقدي سنشهد مزيدًا من الهيمنة الأحادية، ولكن مع عداء متزايد من بقية العالم ، أما إذا نجحت روسيا والصين في تعويم الدولار فسوف ندخل عصرًا جديدًا من الفوضى المالية، تتصارع فيه العملات على الزعامة، وتنهار الثوابت الاقتصادية التي حكمت العالم منذ 80 عامًا. 

ترامب قالها بوضوح "من يجرؤ على تحدي الدولار، عليه أن يدفع الثمن". لكن السؤال الأصعب: هل أمريكا نفسها مستعدة لدفع ثمن الحفاظ على هذه الهيمنة؟ لأن التاريخ يعلمنا أن كل إمبراطورية ظنت نفسها خالدة.. سقطت في النهاية.

***

عبد السلام فاروق

مقدمة توضيحية: هذا المقال ليس جديداً، إذ نشرته قبل أربع سنوات وتحديداً يوم 31/12/2021 على مواقع الانترنت، كتعليق على مقابلة تلفزيونية مع الدكتور علي علاوي، وزير المالية الأسبق في حكومة السيد مصطفى الكاظمي (7 أيار 2020 حتى 13 أكتوبر 2022)، وموقفه السلبي من ثورة 14 تموز، وخاصة عن قيام قيادة الثورة بحل مجلس الإعمار، ومنجزات الثورة  الكثيرة في عمرها القصير. وكان مقالي بعنوان (مستقبل العراق المظلم)، وهو، كما يلاحظ الأخوة القراء، وكما اكتشفتُ أنا أيضاً فيما بعد، أنه غير موفق، وفيه نوع من الانفعال والتسرع، إذ كما تفيد الحكمة: (الكتاب أو المقال، يعرف من عنوانه). وهذا العنوان: "مستقبل العراق المظلم" رغم أنه يدل على جزء من محتوى المقال بسبب المشاكل البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه العراق، ولكن ليس على المحتوى الرئيسي. وقبل أيام أردت مراجعة هذا المقال بمناسبة الذكرى 67 لذكرى الثورة، فلم أتذكر العنوان! وأخيراً عثرت عليه، ولكن بعد جهد جهيد وبمساعدة غوغل. لذلك أرى من الضروري أن يكون العنوان يدل على المحتوى، ويساعد على معرفة مكان المقال في الآرشفة الحاسوبية. لذا عدت إليه وراجعته، ووضعت له عنواناً جديداً يساعدني على معرفة مكانه عند الحاجة في المستقبل، وهو المثبت أعلاه. وبمناسبة ذكرى الثورة رأيت من المفيد إعادة نشره لفائدة الجيل الجديد في معرفة التاريخ والحقيقة.

***

العودة للمقال الذي نشر في 31/12/2021

بمناسبة مئوية تأسيس الدولة العراقية، أجرت فضائية (العراقية) شبه الرسمية، مقابلة مع السيد وزير المالية الدكتور علي عبدالأمير علاوي، دامت ساعة و 21 دقيقة، استعرض فيها المراحل المهمة التي مر بها العراق منذ التأسيس عام 1921 و إلى يومنا هذا.(رابط الشريط رقم 1 في الهامش).

ونظراً لأهميتها، نالت تصريحات السيد الوزير اهتمام الإعلاميين والمعلقين السياسيين. فقد أشار إلى المشاكل الكبرى التي تهدد وجود العراق ومستقبله كدولة وسماها بحق (المشاكل الوجودية)، مثل اعتماد العراق شبه الكلي على النفط لنحو 90% من موارده المالية، وخطر الاستغناء عن النفط بعد حوالي عشر سنوات من الآن، حيث هناك توجه عالمي لحماية البيئة من انبعاث ثاني أوكسيد الكاربون، والاحتباس الحراري ومخاطره على البشرية، و الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة البديلة مثل الطاقة الشمسية والرياح والشلالات والأمواج البحرية وغيرها. ولذلك فمصير النفط كمصير سلفه الفحم، سيتحول إلى بضاعة بائرة في باطن الأرض، وبالتأكيد سينهار سعر البرميل إلى أدنى ما يمكن، وهذا يعني إفلاس العراق مالياً.

وجواباً على سؤال مقدم البرنامج، الاعلامي السيد كريم حمادي، حول أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية، ركز الضيف على السنوات الأخيرة من العهد الملكي، وأشاد بدور مجلس الإعمار، الذي تم حله في عهد ثورة 14 تموز 1958 دون أن يوضح مبررات هذا الحل. كذلك لتبخيس دور قائد المثورة في إنجاز الكثير من المشاريع، قال أن أغلب المشاريع التي انجزها عبدالكريم قاسم، كانت مخططة من قبل مجلس الإعمار إبان العهد الملكي مثل مدينة الثورة (الصدر حالياً) وغيرها، وأن قاسم أخذ الفخر الـ(credit) له أي نسب الفضل لنفسه في تنفيذ هذه المشاريع !

لا أريد أن أناقش كل ما صرح به السيد الوزير، فأغلبها صحيحة، وخاصة مخاطر الاعتماد الكلي على النفط في الموارد المالية، لأن هذا يعني انهيار الدولة العراقية في المستقبل القريب. ولكني أود في هذا المقال أن أوضح بعض الأمور التي مر عليها السيد الوزير دون أن يفيها حقها، وكذلك المخاطر الأخرى التي تهدد وجود العراق كدولة ولم يشر إليها. فهناك الكثير من المخاطر إن لم يتخذ المسؤولون إجراءات وقائية ضدها فمستقبل العراق في مهب الريح، ويكون مظلماً ومرعباً وربما سيكون غير قابل للبقاء كدولة. وقد يرى البعض أن هذه نظرة تشاؤمية، ونقد مبالغ به...الخ، فالجواب أن من واجب المثقف تشخيص مواطن الخطأ، ودق ناقوس الخطر قبل فوات الأوان، وتجنب سياسة النعامة في دفن رأسها بالرمال.

أولاً، مرحلة الإزدهار الاقتصادي:

يشهد التاريخ أن أهم مرحلة تحقق فيها ازدهار اقتصادي هي مرحلة ثورة 14 تموز(1958-1963) بلا أي شك، وذلك لإعتماد قائد الثورة ورئيس الحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم على خيرة الكفاءات الوطنية المخلصة، والمتحمسة لخدمة الوطن عملاً بمبدأ: (الشخص المناسب في المكان المناسب)، بدون أي تمييز. ويشهد بذلك باحثون أجانب مثل حنا بطاطو الذي قال: "ومما له مغزى أن أصحاب المصانع لم يعرفوا ازدهاراً كالذي عرفوه في عهد عبد الكريم قاسم (1958-1963)، الذي كانت سياساته الاقتصادية والمالية موحى بها - إلى درجة غير قليلة- من الوطنيين الديمقراطيين [يقصد الحزب الوطني الديمقراطي]، وبدقة أكبر، من محمد حديد الذي كان له في تلك السنوات نفوذه في الحكومة حتى عندما كان خارجها" (حنا بطاطو، تاريخ العراق، ج1، ص346). وللمزيد للإطلاع على منجزات ثورة 14 تموز 1958، في التنمية الاقتصادية، - الإنتاجية والخدمية-، والتنمية البشرية في عمرها القصير، يرجى فتح الرابطين 2 و3 في الهامش.

ثانياً، مَنْ خطط لهذه المشاريع ولمن الفضل في تنفيذها:

بعد أكثر من نصف قرن على الثورة، وللانتقاص من دور حكومتها، وزعيمها في تحقيق أكبر ما يمكن من منجزات للشعب العراقي من مشاريع وقوانين تقدمية مثل (قانون الأحوال الشخصية رقم 181 لعام 1959) الذي أنصف المرأة، وقانون الإصلاح الزراعي، وقانون إلغاء حكم العشائر، و(قانون رقم 80  لسنة 1961) الذي استرجع بموجبه 99.5% من مساحة العراق من الشركات النفطية، وغيرها كثير... قالوا أن جميع هذه المشاريع والقوانين كان قد خطط لها في العهد الملكي، مثل بناء ميناء أم قصر، ومد الخط العريض بين بغداد والبصرة، وبناء مدينة الثورة، ومدينة الطب، ومعمل الأدوية في سامراء، والزجاج في الرمادي، وتعليب الفواكه في كربلاء، ومضاعفة عدد المدارس والطلبة والمعلمين والمئات غيرها، أقول ولو افترضنا جدلاً أن جميع هذه المشاريع والقوانين قد خطط لها في العهد الملكي، فما قيمة هذه المخططات التي كانت حبراً على ورق، وحبيسة الأدراج لسنين طويلة في العهد الملكي، إلى أن جاء عبدالكريم قاسم، وحولها إلى مشاريع حقيقية قائمة على أرض الواقع، وبتلك الإمكانيات المالية المحدودة في ذلك الوقت العصيب حيث المؤامرات الداخلية والخارجية لوأد الثورة؟ هذه المشاريع ستبقى نصباً تاريخية شامخة على مر السنين تذكر بوطنية وإخلاص الزعيم عبدالكريم قاسم وثورة 14 تموز المجيدة.

فالعبرة ليست بالتخطيط، ومن الذي خطط فحسب، بل بالتنفيذ ومن نفذ. فبعد 2003 هناك المئات من المشاريع التي خُطط لها، وحتى دُفِع الكثير من تكاليفها بالعملة الصعبة لجهات أغلبها وهمية، ولكن لم يتم تنفيذها، بل سُرقت تلك الأموال الهائلة وبقيت المشاريع بلا تنفيذ. كذلك هناك الألوف من المعامل المعطلة مثل معمل الورق في البصرة، وغيره، ترفض حكومات ما بعد 2003 إعادة تأهيلها بضغوط من أتباع دول الجوار مثل إيران وتركيا، لإنعاش اقتصاديات هاتين الدولتين، إضافة إلى ما يحصل عليه التجار من أرباح فاحشة، وإبقاء العراق بلداً مستهلكاً يستورد حتى الغاز من إيران ويترك غازه الطبيعي يُحرق في الجو ويدمر البيئة العراقية.

ثالثاً: حل مجلس الإعمار:

هذا المجلس تأسس بناءً على اقتراح المرحوم عبدالكريم الأزري، الوزير المخضرم في العهد الملكي، كما أشار الدكتور علي علاوي، وكما جاء في مذكرات الأزري. وفعلاً قام المجلس ببناء السدود مثل سد سامراء لحماية بغداد من الغرق ولأغراض زراعية أيضاً. وبالمناسبة، هذه السدود وغيرها من المشاريع الإروائية الكبيرة لم تكن من تخطيط مجلس الإعمار، بل كانت من تخطيط خبير الري البريطاني المعروف (ويليم ويلكوس)، في أواخر العهد العثماني كما درَّوسنا في مرحلة تعليمنا الابتدائي عن هذه المشاريع المنجزة وغير المنجزة.

لماذا تم حل مجلس الإعمار؟؟؟

والآن نأتي إلى بيت القصد! لماذا تم حل مجلس الإعمار بعد ثورة 14 تموز في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم؟، علينا أن نرجع إلى الشخصية الوطنية الفذة، والخبير الاقتصادي الراحل محمد حديد الذي تبوأ منصب وزارة المالية في حكومة الثورة. وهو بالمناسبة، أول عراقي خريج جامعة لندن للاقتصاد (London School of Economics)، والذي شهد بحقه الباحث حنا بطاطو كما أشرنا أعلاه.

يقول الراحل محمد حديد في مذكراته عن أسباب حل مجلس الإعمار ما يلي:

(حول تخصيص 70% من واردات النفط لوزارة الإعمار و 30% فقط للشؤون الأخرى، المشاريع الاجتماعية والخدمات مثل الصحة والتعليم ...الخ: أن حكومة الثورة غيرت المعادلة فجعلتها 50% للإعمار، و50% للميزانية الاعتيادية لسببين:  أولاً، إن هذه المشاريع الاجتماعية لا تقل شأناً ومركزاً في الأسبقية عن المشاريع الاقتصادية العمرانية، ذلك أن التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية المعنية بالإنسان، ربما تكون أكثر تحقيقاً لمصلحته من المشاريع العمرانية الاقتصادية، أي أن الاستثمار في الإنسان لا يقل أهمية عن الاستثمار المادي في المشروعات الاقتصادية مع الاعتراف بأهميتها بالنسبة للتنمية الاقتصادية. والسبب الثاني هو أن الـ 70 في المائة من واردات النفط، التي كانت تخصص للخطة الاقتصادية كانت لا تنفق جميعها بسبب عجز الجهاز الفني والإداري عن تنفيذ الخطة الاقتصادية، وتبقى مبالغ كبيرة منها مجمدة في الميزانية، وتنعكس في أرصدة نقدية إما في حسابات البنك المركزي، وإما الأرصدة الإسترلينية المودعة في بريطانيا وغيرها من الأقطار الأوربية. ولذلك كان من غير المعقول لأن يبقى المجتمع محروماً من الخدمات التي يحتاج إليها، في الوقت الذي تبقى واردات الدولة معطلة في حسابات مجمدة.)) (محمد حديد، مذكراتي، الساقي، ط1، 2006، ص339).

وكما ذكرنا آنفاً أن حكومة الثورة قد حققت منجزات في مختلف المجالات من مشاريع اقتصادية وتنمية بشرية في اربع سنوات ونصف السنة وبدون مجلس الإعمار، حققت ضعف ما حققه العهد الملكي خلال 38 سنة. فإعمار البلاد لا يعتمد على وجود أو عدم وجود مجلس الإعمار، بل بتوافر النزاهة و الاخلاص الوطني، والضمير والشرف لدى القيادات السياسية المتنفذة في الحكومة. علماً بأن حكومة الثورة " أسست وزارة التخطيط في العراق عام 1959 تم استحداثها بعد إلغاء وزارة الاعمار. أول وزير للوزارة كان الدكتور طلعت الشيباني." (ويكيبيديا). فوزارة التخطيط يا سادة يا كرام، لا تقل أهمية عن مجلس الإعمار، إن لا تفوقه، كما هو السائد في معظم دول العالم المتقدم والمتخلف!

رابعاً، قانون الإصلاح الزراعي وهجرة الفلاحين إلى المدن

وعن هجرة الناس من الريف إلى المدن وخاصة بغداد، (سكان خلف السدة والشاكرية...الخ)، حاول السيد الوزير أن يلقي اللوم على قانون الإصلاح الزراعي، ولكن بعد قليل تراجع واعترف أن الهجرات بدأت في أوائل الخمسينات، أي في العهد الملكي، وقبل الثورة بسنوات. وهنا أود أن أشير إلى أن سبب الهجرة ليس قانون الإصلاح الزراعي، بل ظلم الاقطاعيين، وقانون حكم العشائر الذي سنه الإنكليز بعد احتلالهم للعراق، حيث وزعوا عليهم الأراضي الزراعية الأميرية كرشوة لكسب شيوخ العشائر، وتحويلهم من شيوخ ووجهاء لرعاية أبناء عشائرهم إلى إقطاعيين ظالمين لهم، وحولوا أبناء عشائرهم إلى أقنان وعبيد يباعون مع الأرض، يعانون من الجوع والجهل والمرض. وهذا كان سبب الهجرة، وليس قانون الإصلاح الزراعي. وهذه الظاهرة لم ينفرد بها العراق، بل كانت ومازالت متفشية في معظم بلدان العالم الثالث، خاصة في مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952.

المخاطر التي تهدد مستقبل العراق

1- الاعتماد الكلي على النفط المعرض للزوال بعد عقد أو عقدين من الزمن، وعدم الاعتماد عليه في إنتاج الطاقة والموارد المالية.

2- شح المياه: جميع منابع مياه الرافدين وشط العرب هي في تركيا وإيران، وهاتان الدولتان مستمرتان في بناء السدود وحجز المياه عن العراق وهلاكه عطشاً، ولذلك فبعد عقد أو عقدين ستجف الأنهر العراقية. أما شط العرب، وأنهر البصرة فقد تحولت بعد 2003 إلى مستودعات لمياه الصرف الصحي، التي تسبب في تفشي الأمراض.

3- اتساع التصحر، وهو نتيجة لشح المياه،

4-الانفجار السكاني، كان تعداد نفوس العراق عام 1920 نحو 1.4 مليون نسمة، وبعد مائة سنة قفز العدد إلى 40 مليون، أي حوالي 28 ضعفاً. إذ تفيد الدراسات أن هناك زيادة في السكان بنحو مليون نسمة في السنة في مستواه الحالي. وهذا يعني أن العراق يواجه مشكلة الزيادة في السكان، ونقص في موارد المعيشة وغيرها من الموارد الضرورية لإدامة الحياة.

5- الصراع الطائفي والأثني بين مكونات الشعب العراقي، وتغلب نزعة الولاء للانتماءات الثانوية (الدينية، الطائفية، الأثنية، والمناطقية)، على الولاء الوطني العراقي، بل وضعف الشعور بالانتماء لهذا الوطن، وعدم حرص المواطن على ممتلكات الدولة، بل ويسعى إلى تخريبها عمداً. وهناك معلومات كثيرة في هذا الشأن لا مجال لذكرها.

6- تفتت النسيج الاجتماعي، وعودة البداوة، والقبلية والعشائرية وما يرتبط بها من تخلف، وصراعات وحروب داخلية فيما بين العشائر، كلها بدأت في عهد حكم البعث الصدامي الساقط،

7- تفشي وباء الإسلام السياسي ومليشياتهم المنفلتة، وعدم اعتماد السياسيين الإسلامويين على العلوم والتكنولوجيا وفن الممكن في حل المشاكل، بل الاعتماد على الغيبيات والدعاء بالنصر من عنده تعالى، وشيطنة المعارضين لهم لتصفيتهم بشتى الوسائل،

8- انهيار التعليم في جميع مراحله، وتفشي البطالة، والفقر، والاعتماد الكلي على الدولة في التعيينات،

9- تفشي الفساد الإداري والرشوة في جميع مفاصل الدولة، فالمواطن العراقي الذي يراجع دوائر الدولة لأي سبب، لا تُحل مشكلته ما لم يدفع رشوة للموظف،

10- عدم التزام المواطنين بالقوانين وواجباتهم إزاء الدولة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، وكما ذكر السيد الوزير، لم يدفع أغلب المواطنين فواتير الكهرباء، وأن هناك 13 تريلون دينار بذمة المواطنين لوزارة الكهرباء، أي ما يعادل 10 مليار دولار. وهذا يعتبر سرقة للمال العام لم يحصل في أي بلد في العالم غير العراق.

11- محاولات دول الجوار، وخاصة إيران وتركيا لإضعاف العراق وإنهاكه وتدميره. إذ تحاول تركيا احتلال نحو 100 ألف كم مربع من شمال العراق بحجة أن هذه كانت أراضي عثمانية، والآن لتركيا قوات عسكرية في بعشيقة بدعوى محاربة حزب العمال الكردي (PKK).(شاهد فيديو في الهامش رقم 4). ولهذه الدول مثل إيران أنصار على شكل أحزاب سياسية متنفذة، ومليشيات مسلحة في العراق، تأتمر بأمر الولي الفقيه الإيراني على حساب وطنهم وشعبهم، لأن الإسلام السياسي لا يعترف بالوطن ولا بالوطنية.

ولا شك أن هناك مشاكل كثيرة أخرى، ولكن نكتفي بهذا القدر.

ما العمل؟ مقترحات لتحويل العراق إلى دولة صناعية، وزراعية وسياحية

لذلك، وإزاء هذه المشاكل المتراكمة وتصاعدها نحو الأسوأ، ولا شك أن كل منها يكفي لقصم ظهر البعير كما يقول الأعراب، فهل يمكن لهذا العراق أن يعيش كدولة عصرية متحضرة بحدوده الجغرافية الحالية، تتكيف مع ما يتطلبه العصر الحديث؟

أنا أشك في ذلك، وأعتقد أن هذا شبه مستحيل، ولذلك فمستقبل العراق مظلم ومرعب، ومعرض للإنهيار ما لم يعي المسؤولون في الدولة حجم المشكلة، ويتخذوا التدابير اللازمة لدرأ الكارثة، وهذا ممكن فقط لو توافرت النوايا الصادقة، والنزاهة والشرف والاخلاص للوطن، يعني شخصيات وطنية مثل الزعيم عبدالكريم قاسم وأعضاء حكومته النجباء (حكومة ثورة 14 تموز)، وحقاً ما قاله الشاعر:

سَيَـذْكُـرُني قـومي إذا جَـدَّ جِـدُّهُـمْ.... وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.

السؤال هنا: هل يمكن منع كارثة انهيار الدولة العراقية عند الاستغناء عن النفط وغيره من المشاكل؟

الجواب: نعم ممكن إذا حاول المخلصون تلافي الكارثة بصدق ونزاهة، وهناك اقتراحات وحلول كثيرة طرحها العديد من الزملاء الأفاضل في مقالاتهم، ومناقشاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن كما يقول المثل الإنكليزي: (القول اسهل من الفعل Easier said than done).

فحكومات الدول المصدرة للنفط كانت تعلم بنضوب النفط والغاز يوماً، ولكن اليوم ظهر سبب آخر، وهو ترك النفط والغاز كمصدر من مصادر الطاقة وذلك للحفاظ على سلامة البيئة من التقلبات المناخية، وظهور البدائل النظيفة المتجددة للطاقة.

وقد اهتمت حكومات الدول الخليجية منذ بداية نهضتها الاقتصادية في منتصف القرن الماضي، بإيجاد البدائل عن النفط والغاز كمصدر للموارد المالية، والحفاظ على حصة الأجيال القادمة من هذه الثروة الناضبة، وذلك بتخصيص نسبة معينة من الموارد النفطية في الاستثمار في مختلف المجالات الاقتصادية وفي مختلف دول العالم. وقد نجحت الدول الخليجية أيما نجاح في هذا المضمار، بحيث صارت الموارد المالية من هذه الاستثمارات تعادل الموارد النفطية وربما تفوقها في المستقبل. لذلك فعندما يصبح النفط ثروة بائرة، يكون لدى هذه الدول البديل الدائم، ويتحملون الصدمة، وكأن شيئاً لم يكن.

أما في حالتنا العراقية، فأفضل فرصة ذهبية توفرت للاستثمار في المشاريع غير النفطية، ودعم القطاعات الاقتصادية الإنتاجية في الصناعة والزراعة والثروة الحيوانية والقطاعات الخدمية، والسياحية، توفرت في عهد حكم البعث، حيث بلغت الواردات النفطية أرقاماً فلكية للدولة، ففي عام 1979 كان رصيد الدولة نحو أربعين مليار دولار. وهذا مبلغ ضخم في ذلك الوقت، كان بإمكان حكومة البعث أن تحذو حذو الدول الخليجية في الصناعة والزراعة والتنمية البشرية وغيرها، ولكن بدلاً من ذلك، راحت الحكومة، وخاصة في فترة رئاسة صدام حسين، بتبديد هذه الثروة واستدان عليها نحو 120 مليار دولار، وصرفها على عسكرة المجتمع، وشراء ذمم الاعلاميين في العالم لتجميل وجه الدكتاتور، وحكاية كوبونات النفط باتت معروفة للجميع، وتم تبديد هذه الثروات على شن الحروب العبثية على إيران ومن ثم احتلال الكويت...و(حرب تلد حرباً أخرى) إلى آخره من قائمة كوارث الدمار الشامل. وكما أشار الوزير علاوي، أن الحروب الصدامية العبثية كلفت العراق نحو 400 مليار دولار.

ثم جاءت مرحلة ما بعد 2003، وخلال الـ 18 سنة الماضية فشلت الحكومات المتعاقبة في التخلص من تركة البعث، بل زادوا عليها بالفساد، والأنانية، وسرقة أموال الشعب، وفقدان الشعور بالوطنية والمسؤولية، إلى أن وصلنا إلى هذا الوضع المأساوي المزري، وضع اللادولة، والدولة الرديفة، والدولة الفاشلة وغيرها من المسميات..

لست خبيراً بالاقتصاد، ولكن اعتماداً على الحس العام (commonsense)، فمن واجب الدولة القيام بتشكيل لجان من الخبراء الوطنيين النظيفين في مختلف المجالات، وبالأخص الاقتصاديين والصناعيين والماليين، والمفكرين وغيرهم، وما أكثرهم، والحمد لله، لدراسة الأزمة، وإيجاد الحلول الواقعية لها، ولكن حسب تقديراتي كمواطن متابع للقضية العراقية ومهتم بها، أطرح النقاط أدناه قابلة للتعديل والإضافات. فلو توفرت النوايا الصادقة، والنزاهة والاخلاص للشعب والوطن، لأمكن إخراج العراق من مأزقه وأزمته المالية وغيرها وذلك كالتالي:

1- من الممكن الإسراع في الاستثمار الاقتصادي بمختلف مجالاته بما هو متوفر من الواردات النفطية، وحذو الدول النفطية وغير النفطية في هذا المجال.

2- التخلص من المحاصصة الطائفية في مؤسسات الدولة، واعتماد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب،

3- مواجهة الانقسامات المجتمعية بحملة تثقيفية مكثفة، ومستدامة، ومنع أي تمييز: ديني، أو طائفي، أو أثني أو مناطقي..الخ

4- منع ذكر الانتماء الديني والطائفي والأثني في بطاقة الهوية الوطنية العراقية،

5- حل المليشيات المسلحة السائبة وحصر السلاح بيد الدولة فقط،

6- حملة تأهيل جميع المعامل المتوقفة عن العمل، إذ هناك آلاف المعامل الصغيرة المتوقفة عن العمل، يجب الاسراع في تأهيلها، لتوفير العمل لملايين العاطلين، فهناك عشرات الجامعات والمعاهد، وألوف المدارس الاعدادية وغيرها تخرج سنوياً مئات الألوف من الخريجين الشباب يبحثون عن عمل،

7- تشجيع القطاع الخاص، إذ لا يمكن للدولة وحدها أن تكون هي المصدر الوحيد لإيجاد العمل للعاطلين، أما التعيينات بدون عمل فهي بطالة مقنعة تؤدي إلى تضخم جهاز الدولة، وترهله، والكسل والخمول في أداء الواجب،

8- تشجيع الأفراد على المبادرات الشخصية، في خلق أعمال حرة لهم مع مساعدة الدولة لهم مادياً في أول الأمر.

9- تشجيع الاستثمارات الخارجية في جميع المجالات في العراق،

10- الاستثمار في إنتاج الطاقة من المصادر البديلة المتجددة مثل الطاقة الشمسية حيث تتوفر أشعة الشمس في العراق في جميع فصول السنة. وفي هذا الخصوص يجب إقامة علاقات اقتصادية مع الصين الشعبية المعروفة بقدرتها في صناعة الألواح الشمسية ونصبها، وذلك بفتح معامل لصنع الألواح الشمسية في العراق، وتشجيع شركات أهليه عراقية، وتدريب العراقيين في هذه الصناعة، وحث الناس على استخدام هذه الطاقة النظيفة والمجانية عدا تكاليف نصب الألواح على سطوح بيوتهم، كذلك قيام الحكومة بتجهيز جميع أبنيتها بالطاقة الشمسية. فهناك دول تخطط للاستفادة من صحاريها لإنتاج الطاقة الكهربائية الشمسية وتصديرها إلى دول أخرى.

11- في قطاع السياحة: العراق بحكم موقعه الجغرافي، وتاريخه العميق والعريق، وكونه مهد الحضارة البشرية، وغزارة الآثار التاريخية، والمواقع الدينية، مؤهل ليكون أفضل دولة سياحية لمختلف أنواع السياحة، الترفهية، والثقافية، والدينية لأتباع مختلف الديانات والمذاهب. إضافة إلى إمكانية تحويل منطقة الأهوار، وشط العرب إلى مشتى والرياضة المائية.

12- الاهتمام بالصناعات البتروكيماوية، وتطويرها بحيث توفر مواداً تستخدم في الصناعات المختلفة،

فطالما عندنا النفط كمادة أولية يمكن التقدم في هذا المجال، وكذلك صناعة الأسمدة الكيمياوية،

13- تقليص العطل بشكل عام، فهناك من يستغل المناسبات الدينية، وأغلبها ليست عطل رسمية، ولكن هؤلاء البعض يستغلونها للتهرب من العمل. وإذا ما أضفنا إليها يومين في كل أسبوع، إضافة إلى العطل الرسمية، فالوقت المهدور بالعطل يساوي ما يقارب نصف سنة تكون دوائر الدولة والمؤسسات الاقتصادية والتعليمية وغيرها معطلة. وهذا لا يوجد إلا في العراق.

14- الاهتمام بالثروة الزراعية والحيوانية، وبالأخص زراعة النخيل، إذ كما جاء في الحديث: "أكرموا عمتكم النخلة". فقبل الحروب الصدامية العبثية كان العراق أكبر بلد مصدِّر للتمور، حيث كان فيه نحو 40 مليون نخلة، وعند سقوط الصنم الصدامي كان في العراق نحو 8 ملايين نخلة فقط. كذلك يجب تشجيع إنشاء أحواض لتربية الأسماك، والاهتمام بتكاثرها في الأنهر والبحيرات، وسن قوانين تمنع استخدام السموم والمتفجرات لصيد الأسماك بالطرق الهمجية التي تؤدي إلى نفوق أعداد كبيرة من الأحياء المائية، وهذه جريمة لا تغتفر،

15- الإهتمام بقطاع النقل: يتميز العراق بموقعه الجغرافي فهو الطريق الرابط بين آسيا وأوربا، وعليه يجب التركيز على شبكة النقل بمختلف أنواعه، الجوي والبري والبحري، وهذا يحتم الاهتمام بالنقطة الأخيرة وهي:

16- الإسراع في بناء مشروع ميناء الفاو الكبير، وبذلك يمكن تحويل الفاو إلى أكبر مصدر يدر على العراق في الموارد المالية، كما هونكونغ ودبي وغيرهما من الموانئ. ولذلك تحاول دول الجوار قتل هذا المشروع لكي لا ينافس موانئها.

لا شك أن هناك وسائل أخرى كثيرة يمكن أن تساهم كبديل عن النفط في تمويل الموازنة العراقية وحل الأزمة المالية ودرأ خطر انهيار الدولة العراقية بعد النفط.

وكل عام وأنتم وعراقنا الحبيب والعالم بألف خير

***

د. عبد الخالق حسين

...........................

روابط ذات علاقة

1- تغطية خاصة مع كريم حمادي | الضيف: علي علاوي .. وزير المالية | العراق والدولة.. مئة عام من التقلبات

https://www.youtube.com/watch?v=McTBsH8HfY4

2- عبد الخالق حسين: منجزات ثورة 14 تموز 1958

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277

3- منجزات الزعيم عبدالكريم قاسم خلال فترة حكمه

http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html

4- فيديو قصير: متحدث عراقي يؤكد أن تركيا تتأهب للسيطرة على أراض عراقية غالية وضمها لها وتبلغ مساحتها 100 ألف كم بحجة أنها كانت يوما تابعة لها

https://www.facebook.com/abdulkhaliq.hussein.1

5- د. حميد الكفائي: استعادة الدولة أولى من الاحتفال بذكراها المئوية

https://akhbaar.org/home/2021/12/289956.html

5- أ. د. عادل شريف: العراق في مئويته الأولى، سياسات مستوردة وانقسام مجتمعي

https://almasalah.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=220434

 

القلم: من فضلك يا صديقي أعد عليا حديثك عن العولمة التي حلم بها الرواقيون والفيلسوف الفرنسي (هنري دو سان سيمون) (1825:1760) الذي كان ينشد نشر السلام والمحبّة وإزالة كل الموانع التي تفصل بين الشعوب؛ فيصبح المجتمع كله كوكب متعاون لخدمة البيئة والبشرية.

الكاتب: عفوًا يا رفيقي إنك تخلط بين ذلك الحلم الذي تصوره الفلاسفة والواقع الذي أرست قواعده الديانات السماوية التي نبذت العنصرية والعصبيات العرقية والفروق الجنسية وجعلت معيار التفاضل بين الشعوب والأمم هو التراحم والتعاون من أجل خير البشريّة.

أمّا العولمة التي تروج لها القوة الاستعمارية فهي تقدم النفعية على دونها من القيم الروحية وهي متعارضة بطبيعة الحال مع القول بعالمية الإسلام تلك التي تعبر ثوابتها عن الشريعة الربانية والمقاصد الشرعية التي تتفق مع الفطرة الإنسانية لذا أعيد حديثي ثانيةً الذي لم أكمله، حيث غابت عن مداركك الخديعة التي صبغها الغرب بصبغة مثالية. فالعولمة الغربية الصهيوأمريكية: خدعة وهمية يصعب تحقيقها في زمن العقول الغبية وبين الدول غير المنتجة التي اكتفت بتجارة الموارد الطبيعية.

ورغم ذلك نجد البرجماتيين النفعيين يروّجون لها باسم الوحدة الإنسانية في الثقافات الآسيوية والأفريقية، وبين الأقطار العربية وغرضهم هو تفكيك القوميات والعصبيات وأصحاب الديانات حتى لا تهدد مصالح السادة الذين يخططون في الوقت نفسه لتفريقهم وإعادة تقسيمهم لفرق ومذاهب وطوائف يتعذر تآلفها واجتماعها. أمّا تشكيل الاتحادات وعقد الاتفاقيات والتناغم في الآراء والتكامل في المصالح، وتوقيع التحالفات فلا يصلح في نظرهم إلا للأكابر المنتجين أصحاب الثروات والمخترعات وقادة العالم الراشدين.

وأضاف كُتاب قاموس العالم الجديد: إنّ هذه المعاني والدلالات منبثقة من نظرية التداولية، وأنهم صاغوها بدقة واحترافية لحماية مصالحهم وثقافتهم التي لا تدين للولاء إلا للنفعية، - كما قلت - بعيدًا عن المُثل العقلية والقيم الروحيّة والأخلاق الدينية. لذا أضحى لزامًا عليّ مناشدة القراء لغربلة الوافد من المصطلحات والنظريات والمعارف والشائعات والمواقع والقنوات والتطبيقات الالكترونيّة وما تقدمه من معلومات، لفضح الأكاذيب وكشف المكائد والمخططات التي دُست بين النصائح والشعارات، وحسبي أن أفسّر لك وأوضح لقرائنا طبيعة الفلسفة المعاصرة التي انطلقت منها الحروب الدائرة.

فنظرية التداولية - في طورها الثاني - أضحت مستغرقة في الضبابية، وذلك لأنها لم تقف عند الألفاظ والإحالات والدلالات الأسلوبية، بل اجتازت ذلك كله لتنفذ إلى الأفكار والمشاعر والأحاسيس والضمائر، لتبدل ثوابتها وتفككها من روابطها، وجعلت الأكاذيب والمغالطات المنطقية من أوائل أسلحتها الخفية، المدعومة بالدعاية والإعلانات الموجهة بأساليب علمية وتقنيات تكنولوجيّة ذلك فضلًا عن تأسيسها جمعيات دولية وعقدها دورات تدريبية لصناعة المشاهير في كل المجالات لغرس القيم والأخبار، في بنية ثقافات الأمم الساذجة، بداية من الأطفال والحرفيين والعمال والطلاب والساسة وانتهاء بالشيوخ والقساوسة والأحبار.

أمّا السلاح الثاني؛ الذي أود أن أحدثك عنه حتى لا تنخدع فيه وتستند إليه في معارفك ومعتقداتك، وفي دراساتك للتاريخ الذي زوروه، فهو يختص ببنية الخطاب الشيطاني، الذي صبغوه بالمسحة العلمية والتصورات الأسطورية، وبالتقنيات التكنولوجية سبكوه. فقد أضافوا لفلسفة حروبهم مبحثين بل قل كارثتين: أولهما مبحث ميتافيزيقا العلوم الأسطورية الذي يهتم بتحديث الأساطير الكلاسيكية في ثوب بريق أخاذ يفوق التصورات الخيالية، اعتمادًا على ما أطلقوا عليه: الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المبهرة، فتتحدث عن العفاريت والجن في نظرية البوابات الأرضية والكائنات الرمادية والروبوتات المحاكية للصورة البشرية، وعالم يأجوج ومأجوج، وهاروت وماروت، والمدن المسحورة، وعجلة التاريخ، والكائنات المخفية غير المرئية، والمهدي الذي آن أوانه، والمسيح والشيطان والإنجيل المفقود، ونسخ القرآن، وسكان الكواكب الفضائية وظهور بعضهم في الواقع بصورة بشريّة. كما أعادوا طبع كتب السحر والاتصال بالكائنات الغيبية مثل كتاب (العزيف) وقاموس (الشيطان) وكتاب (شمس المعارف) وكتاب (مخطوطة نيكروميكون)، ودفعوا معظم مواقع التواصل للحديث عن الأماكن المهجورة التي يخشاها البشر هربًا من قبائل الجن الذين سكنوها، وأحاطوا العرافين والمتنبئين المعاصرين بهالات من التبجيل باعتبارهم علماء العصر وأرباب الكرامات التي تصدق تنبؤاتهم وعلى الجدران محفورة، وذلك كله بالإضافة إلى ابتداع ديانات عبثية وفوضوية جديدة وإحياء الهرطقات القديمة، وادعاء أن مكتبة الفاتيكان تحوي عشرات الكتب والمقدسات المحظورة، التي ينبغي إعادة نشرها للوقوف على حقائقها الملية التي ما زال المتدينون يعانون من تحريفها وضياع أصولها.

وثانيهما: مبحث كيمياء الفكر: الذي يسبك الواقع بالخيال ويخلط الحق بالباطل والعلم بالخرافة بنسب ومقادير أقرب للمعادلات الكيميائية لكي يتمكن هذا النهج من خداع الذهن وإرباك أحكامه العقلية والمشاعر النفسية والقضاء على البصيرة الروحية. ذلك المبحث الذي يقوده كبار المتخصصين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللغات الكلاسيكية، والآثار والتاريخ والتمثيل والموسيقى والإخراج السينمائي والديانات والملاحم الأسطورية  بالإضافة إلى المتخصصين في تكنولوجيا الصور وتزوير المخطوطات وتزييف الوثائق وخبراء في الحروب السيبرانية لتدمير البرامج الإلكترونية؛ وذلك كله لحبك الأكاذيب وتدعيم الشائعات بحجج تلفيقية تؤيد المحتوى الذي يروجون له في الثقافة العالمية.

ولا ننسى يا صديقي أن دستور هذه السفسطة الشيطانية محمول على قاعدتين أولهما: أن قوة الأكاذيب ليست في براعة حبكتها بل في انتشار مزاعمها، وذيوع أخبارها، لكي تصبح شائعة تلوكها الألسن وتعتادها المسامع فتحسبها الأذهان واقعات من فرط تكرارها حتى تُمسي حقيقة ومرجعية تساندها ادعاءات لها مسحة علمية وتصورات ميتافيزيقية وأصول تاريخية.

أما القاعدة الثانية: فتتمثل في احتكار المقومات المهيمنة على الحروب العصرية وآلياتها من المعارف العلمية وتطبيقاتها وتصنيعها، وقدرتها على الاستئثار بها وقنوات التحكم في الاتصال والإعلان والإعلام ذلك فضلًا عن أخذ الحيطة والتدابير لإخفاء المحركات الفاعلة والعقول المخططة والمصادر الداعمة وأخيرًا : التلويح بالقوة العسكرية التقليدية لردع المخالفين وتصفية المنشقين ومحاصرة المعترضين.

أمّا الحديث عن النوادي الماسونية والجمعيات والمؤسسات التابعة لها والتطبيقات الإلكترونية التي تدار تحت إشرافها، والمواقع الإجرامية التي تحميها، مثل: (الدارك ويب)، والمخدرات الرقمية (i-doser)، والأفلام الإباحيّة وعوالم المتعة التي تروج لها، والمثلية الجنسية التي تدافع عنها، ناهيك عن حفلات الشواذ والملحدين، وغير ذلك من نهوج الشياطين؛ فجميعها تدرج ضمن الحروب الموجهة ضد الإنسانية العاجزة عن المشاركة في الأحداث الجارية أو دفع الأخطار والشرور القاسية تلك التي لم يبق منها سوى اليأس والانهزامية، وانتظار الموت على يد جبابرة العنف والنفعية والشيفونية.

القلم: أيها الكاتب، هذه نهاية مأساويّة لا تليق بمثلك، وأنت من دعاة المقاومة ومساندة النفوس الأبية التي لا ينقصها سوى الوعي والعلم والعمل الجاد وإخلاص النية، فالتنقيب عن النفيس المنشود، وتحسس مكمن العزيز المفقود، والتجسس على الغامض والقابع وراء الأبواب والسدود، وتبين حقيقة الخبر الشائع والمشهود. وذلك لصد هذه الهجمة الشرسة ليستحق لنا العيش في هذا الوجود ونعيد الحق لأهله ويتحقق وعد الله الوارد في الكتاب المعبود.

واعلم أن هذه الحكمة ليست غربية ولا محاكية لتعاليم أجنبية؛ فقد قالها الثعالبي ورفاقه من عباقرة فقه اللغة العربية.

وبهذه الإشارات تمت المقامة؛ فالاستفاضة في الحديث عن الحروب العصرية ليس متاحًا لأن الكاتب ينقب عن المجهول والاجتهاد والتخمين في هذا الموضوع ليس مباحًا.

***

بقلم: د. عصمت نصار

كانت ردود الأفعال الغربية، لا سيما البريطانية والأمريكية على ثورة 14 تموز 1958 في العراق صادمة أصابت صانعو القرار الغربي بـالذهول فور إعلان نجاح الثورة ومقتل بعض أفراد العائلة المالكة، لأنه لم تكن لديهم معلومات استخباراتية كافية تتنبأ بحدوث انقلاب بهذا الحجم، حيث وصفت الحدث بأنه "زلزال". تلقت العواصم الغربية هذا التحول المفاجئ بانزعاج كبير جعلها تعيد صياغة حساباتها في الشرق الأوسط، لأن حِراك تموز شكل نقطة تحول فارقة من صدمة فقدان النفوذ، سواء من الناحية السياسية أو الإعلامية أو الاستراتيجية.

لم تكن ثورة 14 تموز، من المنظور الغربي، مجرد انقلاب عسكري داخلي، بل زلزال جيوسياسي هدد مصالحهم في المنطقة، لا سيما في ظل أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة في تلك الفترة. فوجئ الغرب بسرعة وسهولة الإطاحة بالنظام الملكي، الذي كان حليفاً استراتيجياً ضمن "حلف بغداد". أسهمت الثورة المقرونة بالحِراك الشعبي في تقويض الحلف الغربي بالمنطقة بحيث أعاد رسم خريطة تحالفاته في الشرق الأوسط، بفعل الخوف الحقيقي لديهم من تمدد النفوذ السوفيتي واحتمالية انجراف العراق نحو المعسكر الشرقي.

كانت الرؤية البريطانية للنظام الملكي العراقي بأنه أحد أبرز أذرع نفوذها في الشرق الأوسط، من بوابة حلف بغداد الذي كان جزءاً من استراتيجيتها لاحتواء دول المعسكر الاشتراكي. شعرت بريطانيا بخيبة كبيرة بفقدان نفوذها بخسارة أحد أعمدة "حلف بغداد"، ولذلك حاولت التأثير لاحقاً عبر قنوات غير مباشرة بمراقبة النظام الجمهوري الجديد بحذر، ولم تندفع إلى مواجهة مباشرة خشية الانجرار إلى صراعات مفتوحة.

وبحكم معرفة الغرب بدول المنطقة، أدركوا بأن القوة الناعمة لوحدها لم تعد كافية لإعادة الهيمنة على العراق، مما دفعهم إلى تنويع أساليب وأدوات التدخل من خلال الدعم الاستخباراتي والتعاون مع بعض الانظمة الإقليمية الموالية. فعملت على دعم هذا التوجه الذي دعاها إلى التمسك بإعادة تقييم البعد الاستراتيجي بحلفائها في المنطقة خشية أن تنتقل العدوى الثورية إليهم.

وبعد أن وصفت الوثائق البريطانية الأحداث بأنها "كارثة دبلوماسية"، رأى الغرب في ثورة 14 تموز لحظة خطيرة، ليس لأنها أطاحت بنظام حليف، بل لأنها فتحت الباب أمام مرحلة من القومية العربية والتقلبات السياسية التي لم تكن منسجمة مع المصالح الغربية. ومع مرور الوقت، انتقل الغرب من الصدمة إلى محاولة التأقلم مع النظام الجديد ومحاولة فهم طبيعة التحولات في العراق والمنطقة.1678 newspaper

وباستكشاف وثائق أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، ووزارة الخارجية البريطانية، بالإضافة إلى ما كشفته (CIA،MI6) عبر وثائق منشورة، ندرك مصداقية هذا التوجه من خلال البرقيات الفورية الصادرة من السفارة البريطانية في بغداد إلى لندن التي وصفت الأحداث بأنها: "إطاحة دموية مفاجئة ومدمرة، قلبت التوازن الإقليمي الهش في الشرق الأوسط". إحدى المراسلات المؤرخة في 15 تموز 1958 أوردت: "لم يعد بالإمكان اعتبار العراق دولة صديقة في الوقت الراهن... المصالح البريطانية النفطية في خطر، ويجب تقييم الوضع الأمني في الخليج والأردن فوراً". وهناك برقية من السفير الأمريكي في بغداد إلى واشنطن بتاريخ 14 تموز 1958: "نحن بصدد تطور خطير، الحكم الملكي انتهى. الضباط الجدد لا يُظهرون ميولاً شيوعية مباشرة، لكن علينا مراقبتهم عن كثب." ومذكرة من "جون فوستر دالاس"، وزير الخارجية الأمريكي إلى الرئيس أيزنهاور: "إذا انجرف العراق إلى دائرة النفوذ السوفيتي، فستكون ضربة استراتيجية تماثل فقدان إيران عام 1953... لكن علينا أن نتحلى بالحذر في التدخل."

مراسلات تعكس مدى عمق الصدمة المفاجئة، وهناك الكثير من التقارير التي نشرت لاحقاً أكدت بأن استخبارات (MI6) بدأت على الفور بمتابعة الوضع الأمني والسياسي داخل العراق، وناقشت العديد من السيناريوهات التي تصب في دعم الضباط القوميين المعادين للثورة، وتنسيق مع بعض الأطراف في داخل الجيش العراقي لشن انقلاب مضاد، وتمويل بعض الصحف العراقية الصفراء المعارضة داخل العراق. وساهمت بعض وسائل الإعلام الغربية في شيطنة توجهات الثورة من خلال التركيز على العنف وتسليط الضوء على مقتل الملك فيصل الثاني، والأمير عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد، معتبرة أن استخدام العنف في عملية تغيير السلطة شكل صدمة حضارية.

قامت الاستخبارات البريطانية (MI6) بمحاولات لزعزعة النظام الجديد أو التأثير عليه من الداخل، بما في ذلك تقديم الدعم لبعض الفصائل المعارضة بشكل سري. دعمت بشكل مباشر الأنظمة الملكية في الأردن والسعودية ودول الخليج، وعززت العلاقات مع شاه إيران، وكثفت الوجود العسكري والاستخباراتي في الخليج العربي.

وعلى الرغم من الموقف الأمريكي الداعم لحلف بغداد، إلا أنه كان أقل انخراطًا من بريطانيا، لم ترتبط بنفس العمق التاريخي أو النفوذ المباشر في العراق. كان موقف الولايات المتحدة مضطرباً، اعتبرت الثورة تهديداً للتوازن الاقليمي وضربة قوية للمصالح الأمريكية بالمنطقة. اكتفت امريكا بإنزال قوات المارينز في لبنان بناءً على طلب الرئيس اللبناني "كميل شمعون" الذي خشي أن تمتد آثارها إلى لبنان. أخذت أمريكا تراقب الأحداث بحذرعلى ضوء حساباتها المتعلقة بالحرب الباردة، وتوجسها بأن يستغل الاتحاد السوفيتي الثورة لتوسيع نفوذه في الشرق الأوسط.

تعاملت إدارة الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" مع الحدث كأزمة إقليمية تحمل تداعيات استراتيجية في إطار الحرب الباردة، وجرى التداول في البنتاغون حول إمكانية التدخل العسكري لحماية المصالح، لكن القرار النهائي كان الامتناع عن التدخل المباشر، وفضّلت العمل عبر القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية، وبتنسيق مع بريطانيا. وفيما بعد بدأت (CIA) محاولات لاختراق النظام الجديد أو التأثير فيه أو الانقلاب عليه. بعد عام 1959، بدأ التنسيق السري مع عناصر من بعض القوميين والبعثيين الناقمين على الزعيم عبدالكريم، واحدة من تلك المحاولات التخطيط لعملية اغتيال الزعيم عام 1959. أثمرت الخطوات التآمرية الداعمة للقوى المناهضة للثورة بانقلاب 1963، الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة.

كانت تعليقات البعض من النواب البريطانيين في مجلس العموم على حِراك 14 تموز 1958، متباينة، بعضهم أشار إلى أن الذي حصل في العراق كان تمرداً داخلياً ضد تصاعد وتيرة القمع الداخلي. وأشار أحد النواب إلى أن السلاح الذي استُخدم في الثورة كان من مخزون الجيش العراقي المدعوم من بريطانيا، والثورة كانت حركة حقيقية وشعبية ولكنها تفتقد إلى الشرعية الدستورية، لأنها جاءت عن طريق انقلاب عسكري. وغياب العمليات المسلحة والجيش الذي تبع الثورة، أكد بأن الثورة لم تكن مدفوعة من قوى خارجية، بل كانت فعلاً داخلياً من نخبة من الضباط العراقيين، وبقيادة وتفويض شعبي، وأسبابها كثيرة أبرزها الفقر، التفاوت الطبقي، وتراكم الثروة بيد نخبة ضئيلة من رجال السلطة، إضافة إلى حساسية تبعية النظام الملكي إلى الجهات الأجنبية.

نقلاً عن صحيفة "الحوادث" اللبنانية العدد (151) الصادرة بتاريخ 14 تموز 2021، التي ذكرت بأنه أثناء تأبين مجلس العموم البريطاني، ضحايا العائلة المالكة في العراق، وقف أحد أعضاء حزب العمال البريطاني يتساءل في سخرية مريرة يوم اعلنت بريطانيا الحداد على عملائها الذين مُزقت جثثهم في بغداد قائلاً: اهكذا تنهار في ساعة واحدة كل القواعد التي بنيناها طيلة أربعين عاماً في العراق. ويتساءل: أمن المعقول أن ينتهي كل شيء في طرفة عين. أرجو أن لا أكون مغالياً إذا قلت أن الكثير من المؤرخين سيذهبون إلى أن الثورة الفرنسية تعتبر تافهة بجانب الثورة العراقية. كان في فرنسا سجن باستيل واحد ولكن في العراق عشرات السجون التي لا يُعد سجن الباستيل بجانبها شيئاً يذكر. ويكفي تسليط الضوء على السجن المشهور باسم "نقرة السلمان".

وفوق كل هذا كان في العراق كل الأجهزة الغربية وحلفائها بالمنطقة في إطار حلف بغداد، وهناك السفير البريطاني "مايكل رايت" حاكم العراق الفعلي الذي كان يعتقد أن طيراً لا يجرؤ على التحليق في سماء بغداد قبل أن يستأذن من السفارة البريطانية. كل هذه الأجهزة كانت تكتم أنفاس العراقيين ولكنها عجزت عن معرفة ما كان يجري في ضمائر الأحرار الذين كانوا يعدون العدة وينتظرون ساعة الصفر.

ملاحظة: مصدر صحيفة "الحوادث" من مؤرخ ثورة 14 تموز الأُستاذ هادي الطائي، علماً هو من شارك مع نخبة من المواطنين الوطنيين صبيحة الثورة، وله صور توثق ذلك أمام مبنى السفارة، في اسقاط تمثال الجنرال مود قائد الحملة البريطانية لاحتلال بغداد عام 1917.

***

د. عبد الحسين الطائي - أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

أولاً: العهد الملكي

سأضع وجهات نظري وأفكاري وانطباعاتي في ثورة تموز وفيما جرى بعدها حتى إنقلاب الثامن من شباط عام 1963 ومقتل عبد الكريم قاسم ورفاقه الثلاثة في دار الإذاعة العراقية في الصالحية من بغداد.. أضعها في نقاط مركّزة ولا أقول إنها القول الحق:

ما كان العهد الملكي دمقراطياً أبداً فلا حرية رأي ولا أحزاب ولا جرائد ومجلات حرّة مستقلة سوى جريدتي البلاد والزمان وهما بيضاوان وكالماء لا لونَ لهما ولا طعم ولا رائحة. لا أجواء دمقراطية ولا صحافة يسارية علماً أنَّ في كل من بريطانيا وأمريكا حزب شيوعي عَلَني. أعدم نوري السعيد أوائل علم 1949قادة الحزب الشيوعي العراقي الثلاثة بعد إعادة محاكمتهم وعلّق جثثهم في ساحة أو في شارع. وقبل ذلك أمر الوصي عبد الأله بتعليق جثة العقيد صلاح الدين الصبّاغ (أحد قادة حركة الأول من مايس عام 1941) في باب وزارة الدفاع العراقية لأكثر من يوم. من هنا بدأت كارثة تعليق الموتى شنقاً كتقليد أما َ ظاهرة سحل الجثث فهي قديمة إذْ سُحلت جثّة مسلم بن عقيل بعد قتله في دروب الكوفة بأمر أمير العراق عُبيد الله بن زياد ابن أبيه [ابن عم الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان]. كان الحل الأفضل إحالة العقائد الأربعة إلى وظائف مدنية أو نفيهم إلى خارج العراق بدل أعدامهم. عدد من أصدقائي ومعارفي كانوا في سجون العهد الملكي لأنهم شيوعيين.

كم كان عدد كبار الإقطاعيين العراقيين أعضاءً في مجلس النواب العراقي في المتوسط وعلى الدوام؟ عاصرت مهزلة الإنتخابات عهدذاك عام 1948 وشهدت كيف يتم التزوير والإحتيال وشراء الذمم والأصوات تمارسها الشرطة الملكية لضمان فوز مرشحي النظام الملكي وشهدت بأمي عيني كيف قُمعت فعاليات التمهيد لإنتخابات عام 1954 وكيف تم حلّ مجلس النواب بعد أنْ فاز بعضويته بعض رجال العراق الأحرار المعارضين لنوري السعيد والأستعمار البريطاني.

صحيح.. لم يجبرنا أحدٌ على حمل أو تعليق صور رجالات العهد الملكي ولم يطلبوا منّا تعهدات بالولاء للسلطة القائمة مقابل منحنا شهادتي عدم المحكومية وحسن السلوك الضروريتين لدخولنا إحدى الكليات أو إشغال إحدى الوظائف الحكومية. في الحقيقة كان طلب هاتين الشهادتين وصمة عار في جبين نوري السعيد [رأس الحكم الملكي المدبر] وكل العهد الملكي! وإلاّ فهما يعنيان أنَّ البرئ متهم حتى يُثبت براءته! وأنَّ الشاب خريج الدراسة الثانوية مطعون في سلوكه حتى يثبت العكس أي انَّ الشباب العراقي مستقبل العراق كله متهم وعليه علامات استفهام!؟ أي عار هذا أي عار!

حين تظاهر العراقيون خريف عام 1956 إنتصاراً لمصر وشجباً للعدوان الثلاثي على مصر قابلتهم الحكومة الملكية بالنار فسقط قتيلاً من سقط وكان أحدهم زميلي في دار المعلمين العالية الشهيد ناجي نعمة (من أهالي السماوة). وحين تضامنت نخبة من أساتذة الكليات مع مصر جرى فصلهم من وظائفهم وكان أحدهم عميد كلية دار المعلمين العالية الدكتور خالد الهاشمي وأساتذة آخرون منهم يوسف عبود ويوسف العطار وجابر عمر. وأكثر.. سجن نوري السعيد الشخصية الوطنية الدمقراطية المعروفة الأستاذ كامل الجادرجي ثلاث سنوات. أين دمقراطية العهد الملكي إذاً؟ وما سندها الدستوري؟ أرسى أسس نظام الحكم في العراق رجلُ غير عراقي جاء به الإنكليز من الحجاز ونصبوه ملكاً فعلامَ استند النظام دستوريّاً؟ لا سندَ له بتاتاَ سوى مستعمر أجنبي إحتل العراق وكبّله بالمواثيق والمعاهدات الجائرة ومن ثمَّ جعله طرفاً في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل وهي الحرب العالمية الثانية حيث أُجبر العراق أنْ يكون مع الإنكليز في الحرب ضد دول المحور ألمانيا وإيطاليا واليابان. وفي هذا السياق أدخل نوري السعيد وعبد الأله أوائل عام 1955 أدخلا العراق في حلف بغداد المكون من بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان وهو حلف موجّهٌ أساساً ضد الإتحاد السوفيتي.

خُلاصة: (1) كانت ثورة تموز 1958 حتمية ضرورية لإنهاء الملكية وتأسيس النظام الجمهوري (2) الوصي ونوري السعيد يستحقان القتل الفوري (3) ما كان الملك فيصل الثاني يستحق القتل لا هو ولا باقي أهل بيته. كان المفروض الحفاظ عليه حيّاً وإبقاءه في العراق تحفظاً حتى تثبّت الجمهورية ركائزها وحينذاك يُخيّر بين البقاء في العراق محايداً ومستقلاً وبراتب مُجزٍ أو ترك العراق لأي بلد يشاء.

ثانياً: ثورة 14 تموز 1958

ما حدث صبيحة يوم 14 من شهر تموز عام 1958 هو ثورة قام بها الجيش العراقي بتخطيط وتنفيذ نُخبة من الضباط الوطنيين العراقيين هم خلاصة الوطنية العراقية ورمز معاناة الشعب العراقي طوال فترة حكم النظام الملكي للفترة 1921 حتى 14 تموز 1958 عاصر بعضهم إنتفاضات الجيش العراقي (أو ساهم فيها) في 1936 بقيادة الفريق الركن بكر صدقي أو حركة رشيد عالي الكيلاني في مايس 1941 وما تلا ذلك من إنتفاضات الشعب العراق ووثباته واحتجاجاته وشهدوا ما تعرض له هذا الشعب من عسف وجور وتسلط وعنف وقمع وسجون. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير نكبة فلسطين وما جرى خلال حرب 1948 / 1949 بين العرب وإسرائيل من خيانات وتواطؤ علني بين ملوك يحكمون العرب وكلٍّ من بريطانيا وإسرائيل وتم تقسيم فلسطين وضاعت فلسطين. الضباط العراقيون الأحرار كانوا من بين القادة الذين ساهموا في تلك الحرب ـــ المهزلة وعانوا ما عانوا من خيانات الملك عبد الله ملك شرق الأردن وصديق بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل! كان هذا الملك القائد الأعلى للجيوش العربية المقاتلة في فلسطين وكان القائد العام لهذه الجيوش ضابط بريطاني هو (كلوب باشا، أبو حنيك) فأية نتيجة تُرتجى لصالح فلسطين؟ برز من بين الضباط العراقيين الذين قاتلوا في فلسطين ببسالة وبطولة اسم عبد الكريم قاسم الذي سيقود ثورة 14 تموز 1958 ويكون رئيساً لوزراء العراق لأربعة أعوام ونصف تقريباً.

الضباط العراقيون الأحرار هم رمز الوطنية العراقية لكنهم جميعاً تأثّروا بعبد الناصر ثائراً ثم سياسياً قاد مصر نحو الإستقلال ثم الحياد الإيجابي مع نهرو وتيتو. كانوا ناصريين بشكل أو بآخر متفاوتين من حيث الحس القومي والعروبي وكانوا جميعاً متمسكين بالإسلام ديناً بهذا العمق أو ذاك بلا إستثناء. هم بأغلبيتهم عراقيون.. مسلمون.. قوميون ـــ ناصريون. وكان فيهم يساريون أو متعاطفون مع الشيوعيين.

النكبة الأولى: الخلاف مع عارف

بالخلاف مع عبد السلام عارف وإعفائه من كافة مسؤولياته ثم تجريمه والحكم عليه بالإعدام (لم يُنفّذ هذا الحكم ثم أعفى عبد الكريم قاسم عنه وأطلق سراحه) حلّت النكبة الأولى والكبرى بثورة 14 تموز ومثّلت الشرخ الأكبر بين الضباط الأحرار أنفسهم ثم في أوساط الشعب العراقي. ما كان لائقاً أبداً معاملة أول مَن دخل بغداد يقود فوجاً عسكريا فجر14 تموز 1958 وأمّن العاصمة أمام الثورة وسمع العراق صوته يُبشر بالثورة  فأحبّه العراقيون من كافة الأطياف دون معرفة سابقة به. قال لي صديق عسكري ما يلي: نجحت ثورة 14 تموز بقيادة ثلاث جهات هي /  لواء قاده الزعيم عبد الكريم قاسم وفوج قاده العقيد عبد السلام محمد عارف وسريّة من سرايا اللواء الأول في المسيب قادها الرئيس الأول عبد الجبار عبد الكريم الظاهر ثم توالت التأييدات من قبل وحدات عسكرية وضباط متفرقين بين الفرق والألوية والأفواج.

كان ضرورياً الإبقاء على عبد السلام عارف قائداً ورمزاً لثورة 14 تموز وعدم المساس به لكنَّ قاسم اقترف الخطأ الأكبر الذي أدّى (من بين أسباب أخرى) إلى نهايته قتيلاً أمام الملأ وبحضور... محمد عبد السلام عارف نفسه!!

في أواخر العام 1958 شرع البعثيون يفكرون ويخططون للتخلص من عبد الكريم قاسم. سألتُ أحدهم لماذا يريدون التخلص من قاسم أجاب: إنه حجر في الطريق لا بدَّ من إزالته للمضي إلى أمام. حصل هذا أواخر عام الثورة، 1958.

النكبة الثانية: تمرّد الشواف وإعدام الضباط الأحرار

خطأ عبد الكريم قاسم القاتل الآخر هو موافقته على تنفيذ حكم الإعدام بحق رفاقه في تنظيمات الضباط الأحرار بتهمة إشتراكهم بتمرد الشوّاف وفيهم برئ لا علاقةَ له بهذا التمرد غيرَ أنَّ الشوّاف أذاع اسمه باعتباره مؤيّداً لحركته وكان هذا الضابط البرئ قائدَ فرقة في كركوك هو الزعيم (العميد) ناظم الطبقجلي. كذلك إعدام العقيد مدحت الحاج سرّي ــ وهو من أوائل الضباط الأحرار وكان مديراً للمخابرات العسكرية حينذاك ــ  كان إعدام هذا الرجل خطأ وخطيئة معاً إذ كان الحاج سرّي ضابطاً وطنياً شجاعاً مقداماً نكلَّ به نوري السعيد بتحويله إلى ضابط تجنيد!

رأيي الشخصي: بدل إعدام هذه الكوكبة من خيار ضباط الجيش العراقي والتنكل بآخرين.. بدل ذلك كان من الأليق بقاسم إحالتهم على التقاعد أو تنسيبهم إلى وظائف مدنية أو تعيين كبارهم رُتبةً سفراء أو ملحقين عسكريين أو إحالتهم إلى إمرة الإدارة وعفا الله عمّا سلف. كيف عفا قاسم عمّن حاول اغتياله في شارع الرشيد ولم يفكرْ بالعفو عن رفاقه في السلاح وفي تنظيمات الضباط الأحرار؟

حدث مفصلي: الأول من مايس (آيار) 1959

سارت إحتفالاً بأعياد عيد العمال العالمي في شوارع بغداد الرئيسة مظاهرة مليونية كان طابعها ومظهرها العام عماليين ثوريين مع لافتات عريضة تحمل شعارات ثورية سابقة لأوانها وفيها [تطرّف يساري طفولي] من قبيل (عاش زعيمي عبد الكريمِ حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ) وشعارات أخرى مكرّسة لتعظيم وتمجيد قاسم وهو فرد. في مظاهرات أخرى ومناسبات أُخر رُفعت شعارات أو نادى بها متظاهرون من قبيل (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة).. حبال مسلم بن عقيل في الكوفة! أو (إعدمْ إعدمْ جيش وشعب يحميك من كل خائن) وأضاف الشاعر عبد الوهاب البياتي فقال في إحدى قصائده (سنجعل من جماجمهم منافضَ للسجائر) وقرأ الجواهري قصيدة في محفل جماهيري قال في بعض أبياتها (فضيّق الحبلَ  واشددْ من خناقهمو.. فربما كان في إرخائه ضررُ.. تصوّر الأمرَ معكوساً وخذْ مثلاً / مّما يجرّونه لو انهم نُصروا.. أكان للرفقِ ذكرٌ في معاجمهمْ / أو عن كريمٍ وعن أصحابهِ خبرُ) وقد صدقت هنا نبوءة وصدق تحذير الجواهري فلقد حدث في الثامن من شباط عام 1963 ما سبق وأنْ حّذر منه علناً وعل رؤوس الإشهاد وأمام حشد جماهيري كبير وكنتُ أحد الحضور. لم يرفقْ خصوم قاسم به ولا بكل الموالين له من شتى الأحزاب والفئات. في مساء الأول من مايس وبعد إنفضاض المظاهرات الصاخبة التي عمّت بغداد إحتفالاً بهذا اليوم جمع قاسم أركان وزارة الدفاع كافةً المرافقين ورؤساء الوحدات وضباط سرايا الإنضباط العسكري والحاكم العسكري وطه الشيخ أحمد وخطب فيها خطاباً مطوّلاً إنفعالياً متوتراً وكان قاسم في غاية التوتر والعصبية أنهاه بتوجيه سؤال واحد محدد إلى جميع الحضور وبإسمائهم: فلان (مع ذكر الرتبة العسكرية) هل أنا شيوعي؟ فلان وأنت فلان هل عبد الكريم قاسم شيوعي؟ ثم وفي غاية العصبية توعد حزباً سياسياً محددا وبالإسم بالويل والثبور! لم يكشف أحدٌ هذا اللقاء وما جرى خلاله أبداً وكانت تلك أُمسية تأريخية حاسمة أنهت مرحلة ودشّنت بداية مرحلة جديدة وصفحة جديدة في مسيرة ثورة  14 تموز 1958 ثم تشتيت وبعثرة الضباط الموالين للثورة وللزعيم ونقل بعضهم إلى وظائف أخرى أو كملحقين عسكريين أذكر منهم غضبان السعد وسليم الفخري والزعيم داوود الجنابي وعدداً كبيراً من صغار الضباط ومن طلبة الكلية العسكرية وتم تسريح دورة ضباط إحتياط بكاملها والأكثر إيلاماً: إشتداد ظاهرة الإغتيالات وقتل اليساريين في الشوارع وقتل وتهجير الكثير من أهالي الموصل. وفي مدينة الحلة قتل الشقي ناجي الدليمي المرحوم رزوقي منجي الشمعوني في الشارع العام ليلاً وكان يتمشى مع الرياضي حساني كاظم الموسوي وصديقه الآخر الحاج مهدي حميد طخّة الذي أُصيب بطلق ناري ثم جرى حبسه وهو الجريح بحجة إهانته لأحد أفراد الشرطة! أصبح ناجي الدليمي بعد إنقلاب تموز 1968 ضابط شرطة أمن تحت إمرة ناظم كزار وتمت تصفيته سويةً مع هذا إثر محاولة كزار قتل البكر في مطار بغداد عام 1973.

(مصدر المعلومات حول إجتماع عبد الكريم قاسم بضباطه في مقره في وزارة الدفاع: ضابط قريب لي يثق بي يعرف إنتمائي السياسي كان حاضراً في ذلك الإجتماع.. وحذّرني من مغبّة ما سيأتي وطلب مني الإنسحاب من عالم السياسة لكني بالطبع لم أفعلْ).

بعد خطاب قاسم في كنيسة مار يوسف في كركوك في تموزعام 1959 أخذت أمور العراق سياقاً آخر ومنحىً آخر أدّى إلى سقوط ثورة 1958 ومقتل قاسم نفسه ونزول العراق إلى الهاوية التي يتردى فيها الآن. كانت مؤامرة كبرى استهدفت أسس ومرتكزات الوطنية العراقية بالدرجة الأولى. ضاعت الوطنية وحلَت محلها شعارات فضفاضة تجاوزت آفاق الوطنية المحددة والمعروفة. حلّت محل الوطنية أفكار غائمة طوباوية فات زمانها غي قابلة للتحقيق جعلت الكثير من الناس يؤمن بها حُلُماً عزيزاً لمّاعاً جذّاباً للعواطف والمظاهر (القومية والوحدة العربية)؟ وأخيراً ضاعت الوطنية وحلّت العولمة والإبراهيمية محلها وضاعت القومية والوحدة العربية وصار نداء المنادين [العروبة لا القومية العربية]! أنا لا أرى فرقاً بينهما. عن أية قومية ووحدة عربية يجري الكلام وهذا حال العرب اليوم وهذا وضع البحرين والإمارات وقطر والسودان والمغرب جماعات التطبيع مع إسرائيل بالإبراهيمية أو بغيرها: بالمبادلات السلعية الترامبيّة: للمغرب الصحراء الغربية مقابل التطبيع ورفع البند السابع عن السودان مقابل التطبيع وحماية إسرائيل للبحرين والإمارت مقابل التطبيع وهكذا مشى سوق السلع الرأسمالي. يواجه العراق اليوم تحديات مصيرية كثيرة داخلية وخارجية ستستغلها أمريكا (الحليف الستراتيجي للعراق؟) ذات يوم وتعرض على حكومة بغداد (أيّاً كانت) صفقة تجارية متبادلة فحواها بقاء الحكومة في دست الحكم مقابل التطبيع والإعتراف بإسرائيل! بدأت المشاكل تتصاعد منذ الآن وما قبل الآن في العراق منها: التخلص من النفوذ الإيراني.. حل الفصائل.. سلاح ووضع الحشد الشعبي.. رواتب موظفي إقليم كردستان (أين تذهب نسبة 17 % من ميزانية العراق المخصصة لحكومة الإقليم؟).. ميناء الفاو وخور عبد الله.. تركيا وأزمة مياه دجلة والفرات.. علاقات العراق مع  سورية ونظامها الداعشي الهزيل الجديد المنحني أمام غطرسة إسرائيل وقصفها المستمر لسورية.. 

***

د.عدنان الظاهر

  تموز 2025

كان فزع وزراة التعليم العالي بدخول ثمانية جامعات عراقية ضمن قائمة العلم الأحمر فزعا غير مبررا ومفتعلا بل أنه شكل استجابة كاذبة لوضع مزري حيث تورط تلك الجامعات في تزوير البحوث وانتهاك النزاهة العلمية والتجاوز على تقاليد النشر الأكاديمي، والجامعات المتهمة بذلك هي:

جامعة بغداد.

جامعة البصرة

جامعة الموصل

جامعة المستنصرية

الجامعة التكنولوجية

جامعة بابل

جامعة الكوفة

كلية المستقبل الجامعة

ماذا يعني تصنيف Research Integrity Risk Index وماذا يؤشر:

مؤشر RI² غير معني بقياس جودة البحث العلمي، ولكنه مؤشر أو معيار يؤشر التزام المؤسسة بمبادئ النزاهة فيما يخص البحث وفيه أسوأ معيار وضع العلم الأحمر Red Flag وهناك قبلها وضع المؤسسة أو الجامعة بفئة الخطر العالي High Risk وعلى وفق ما يلي:

معدل سحب البحوث (Retraction Rate): أي نسبة الأبحاث التي يجري سحبها بعد نشرها لأسباب التوصل لحقيقة تزوير و-أو انتحال و-أو اكتشاف أخطاء جسيمة. في الورقة العلمية المنشورة..

معدل النشر بدوريات محذوفة (Delisted Journals Rate): وهي مجلات خرجت من قواعد بيانات Scopus أو Web of Science بسبب عدم التزامها بالمعايير الأكاديمية المعمول بها دوليا.

أن تشكيل وزارة التعليم والبحث العلمي العراقية لجنة لتحقق من ذلك هو أمر مضحك مبكي وكأن الوزارة تسبح في برج عاجي لا تعلم ما يجري في الجامعات العراقية من انتهاك فج وصريح لكل التقاليد الأكاديمية، وأن سلوك افتعال الصدمة والأستغراب من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي هو سلوك ليست بجديد لأمتصاص ٱثار عمق الأزمات التي تعاني منها الجامعات ومؤسسات البحث العلمي.

وللأسف الشديد أن الجامعات العراقية كانت تتمتع بسمعة عالمية في عقود خلت سابقة للعام 2003 إلى جانب سمعتها الإجتماعية الطيبة وكفاءة خريجها ولكن الحروب العبثية للنظام السابق وسياسات التبعيث وسقوط النظام لاحقا وما رافق ذلك من انهيار لمؤسسات الدولة أسهم كثيرا في ألحاق الأذى بسمعة المؤسسات العلمية العراقية.

وفي وقت يتجه فيه العالم إلى تعزيز استقلالية الجامعات لما في ذلك من تدعيم مناخات صناعة المعرفة، ولتحريرها من الأطر البيروقراطية باتجاه المزيد من الحريات الجامعية المؤطرة بقيم الرصانة العلمية والانضباط الأكاديمي، فإن ما تفعله النخبة السياسية هو تصدير أزمتها الحزبية والسلطوية إلى الجامعات العراقية.

أن أسباب تخلف البحث العلمي وتدهوره هو جزء من تخلف الحياة العامة الذي يعكسها تخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والذي ينعكس بدوره على تخلف المنظومة التربوية والتعليمية والتي يرتبط بها العلم والبحث العلمي والقناعة به كمنهج للحياة وحل المشكلات. وتتضح ابرز أسباب ملامح ضعف البحث العلمي وكفاءته فيما يأتي:

هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي، ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر، ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته، فيعتبر ما عنده صالح لكل الأزمان والأمكنة، وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة، ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا إلى قمة النظام السياسي، التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه، وتحول الكيان الاجتماعي إلى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية، تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا، حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

ويرتبط بالعوامل المذكورة أعلاه غياب ثقافة أهمية البحث العلمي والاكتشافات العلمية والرغبة في الإبداع والاختراع في الوعي والتفاعل الاجتماعيين، وبالتالي يغيب التفكير والتشجيع والدعم عن المسار البحثي والعلمي وعن العلماء والباحثين والمكتشفين في المجتمع، وترتبط جذور ذلك أصلا في غياب القيمة البحثية في مناهج التعليم بمراحله المختلفة والقائمة أصلا على الحفظ والتلقين والاستذكار التقليدي، وهذا النظام التعليمي التلقيني لا يحتاج إلى كفاءات عالية ولا إلى مستلزمات تقيم متطور لقياس مهارات الطلاب في الفهم والتفكير وحل المشكلات، إلى جانب كونه نظام يدفع إلى الكسل والاتكالية والخمول العقلي، ولا يستثير في الطالب فكرا أو تساؤلا بل يقتل فيه ملكة التفكير، وتنتفي في هكذا نظم تعليمية القدرة على صناعة الباحثين في الخطط التعليمية عبر التراكم المعرفي في مراحل التعليم المختلفة.

ضئالة الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي وللباحثين في الجامعات العراقية بصورة عامة بسبب من غياب إستراتيجية واضحة في هذا المجال وتخلف النظرة إلى الإنفاق باعتباره إهدارا واستهلاكا للأموال غير مجدي، وليست استثمارا طويل الأمد يأتي أضعاف ما ينفق عليه، الى جانب ما حملته كورونا وأزمة النفط العالمية من شحة في المال والانفاق.

الفساد الإداري والمالي وضعف معايير الكفاءة والأهلية المهنية والعلمية في انتفاء الكادر القيادي لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، واللجوء إلى معايير الحزبية والمذهبية والطائفية والموالاة في انتقاء الكوادر الإدارية، وغالبا ما تكون هذه القيادات بعيدة كل البعد عن مفهوم الاستقلالية والنزاهة، بل هي أطراف أساسية في صراعات مصلحيه ضيقة مع غيرها، بل هي أطراف في الفساد بمختلف مظاهره، مما يحرم هذه المؤسسات من الاستقرار والنزاهة والحيادية التي هي شروط لازمة للارتقاء بالعلم والبحث العلمي. ويرتبط بذلك ويرافقه سياسات أبعاد الكوادر العلمية عن مواقعها العلمية والبحثية من خلال التهجير ألقسري والإحالة على التقاعد وانتهاء بالتصفيات الجسدية ومسلسل الاغتيالات للكوادر في مختلف التخصصات العلمية.

أن غياب إستراتيجية شاملة للبحث العلمي في العراق تتضح آثاره جليا في ما يسمى بالفوضى البحثية، والتي تتضح أبرز معالمها في العمل البحثي الفردي لأغراض فردية وذاتية بحتة، سواء لأغراض الترقية العلمية فقط أو للحصول على المال في أمكنة النشر، وعدم وجود فرق بحثية تتكامل بين أفرادها، وهو سمة مهمة من سمات تطور وارتقاء البحوث في عالمنا المعاصر، وعدم التنسيق بين المراكز البحثية المنتشرة في البلد الواحد، وانفصال البحوث عن المشكلات الاجتماعية واحتياجات المجتمع، مما أدى بدوره إلى تكرار واجترار البحوث السابقة، فهي لا تخدم في معظمها قطاعات صناعية أو زراعية ولا تواكب حاجات المجتمع في ميادينه الناشئة الحديثة كتقنية المعلومات والتكنولوجيا المتطورة، وكان ذلك سببا في إنتاج كم هائل من المجلات والدوريات ذات الموضوعات المتكررة في البلد الواحد بل وفي القسم والكلية والجامعة الواحدة في البلد المعني، واغلب هذه الدوريات غير معروف عالميا ولا يضيف قيمة علمية للبحوث العالمية .

عدم وضوح فكرة أن الجامعات هي جزء من آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يجب أن تكون بحوثها على تماس مع مشكلات المجتمع بمختلف قطاعاته، وبسبب غياب الرؤى في هذا المجال نرى أن اغلب بحوث الماجستير والدكتوراه تستهدف تهيئة وتدريب الكادر على طرائق ومنهجية البحث العلمي، وهي بهذا بعيدة كل البعد عن المساهمة في البحث عن الحلول للمشكلات الاجتماعية المختلفة، وبسبب من ذلك تأتي اغلب الأبحاث سواء الأساسية منها أو التطبيقية تكرارا لسابقتها، إن لم يكن تكرارا مملا فهو تكرارا بحلية شكلية ترضي المشرف عليها، وقد تبدو لصاحبها أصيلة وهي بعيدة كل البعد عن الأصالة.

غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها، حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك، ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث، ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث، وضعف القاعدة المعلوماتية، وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية، وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي، وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.

تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة، أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية، بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي، وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ضعف البنية التحتية للأبحاث النظرية والتطبيقية من مختبرات وأجهزة ومكتبات علمية، فالمختبرات وأجهزتها وصيانتها ونقص المواد الأساسية لها بمختلف التخصصات ونقص الكادر الفني ذات الصلة بذلك هو سمة بارزة لأغلب ما تعانيه الجامعات العراقية وتشكو منه، إلى جانب ضعف قاعدة المعلومات الحديثة، سواء من مطبوعات ودوريات علمية عالمية أو غياب المكتبات الرقمية أو الالكترونية وقواعد البيانات البحثية وغبرها من أدوات التعليم الالكتروني للتواصل مع العالم البحثي.

اما الجامعات الأهلية فهي مشاريع ربحية لمالكيها وتعاني من تردي المعايير وضعف الرقابة وضعف مخرجاتها التي تفوق حاجة سوق العمل واحد منابع بطالة الخريجين، إلى جانب تغلغل مستثمري الجامعات الأهلية في قرارات وتوجهات وزارة التعليم العالي وتشكل عوامل ضغط على الوزارة واغلب مالكيها من احزاب السلطة ويملكون دعما سياسيا بل اصبح العديد من هذه الجامعات امكنة لغسيل الأموال والفساد، كما انها من البيئات الضاغطة على الأستاذ الجامعي من خلال تحالف خفي بين المستثمر وبين الطالب الذي يدفع الأجور له والأحساس لدى الطالب يجب أن ينجح مقابل ذلك وليست بأمكانياته العلمية تجسيد لشعار " ادفع قسطا تنجح سنة دراسية".

أن معالجة أزمة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق تكون عبر معالجة الأزمة بقمة هرم السلطة في النظام السياسي، أي أزمة التوجّه العام للحكومات المتعاقبة في ظل نظام المحاصصة؛ فلا نهوض للتعليم نحو الجودة والجدوى، أو للبحث العلمي نحو الجدّة والجدّية، ولا للمجتمع نحو التجدد الحضاري في دولة تعاني من التفكك في رؤيتها السياسية، والضبابية في نظرتها إلى نفسها والمجتمع، والفوضى في إداراتها والعشوائية في سياساتها، والتي تتعامل مع المناصب الحكومية والوزارات كغنائم وليست لخدمة المجتمع.

***

د. عامر صالح

يشغل السّياسة والإعلام هذه السَّاعة سلاح الميليشيات؛ أما الاسم عندها فهو «سِلاح المقاومة»؛ وحسب خطابها أنَّها جماعات عقائديَّة، لا يبدو أمرها بيدها، يظهر الانتماء في ما ترفعه مِن رايات ومصورات وشعارات، فهي مسألة غير مخفية، حتّى «مبدأ التّقية»، الذي مِن المفروض تؤمن به؛ لم يعد له وجود، لأنها القوة، و«التّقية» للضعيف أمام سلاحها. سمعتُ أكثر مِن قائد يقول: «لا نتخلى عن سلاحنا، والانضمام إلى الجيوش الرّسميَّة، لأنَّ هذا السّلاح ما سلحنا به الإمام المنتظر، فلا نسلمه إلا له وبأمره». فهو الذي أسسهم تمهيداً لظهوره، في أيّ لحظة.

يؤيد ذلك خطباء، مِن على منابرهم، يرسمون خرائط تحرك جيش المنتظر، وما الجماعات إلا بمثابة طلائعهِ. يضغط الأميركان، وتضغط الحكومات المبتلية، لنزع السّلاح وتوحيده بيد الدَّولة، وهذا هو الطّريق إلى إنعاش الاقتصاد وتطوير التعليم، لكن بسبب الجماعات مهددة تلك الدُّول بالحرب، وعقوبات مؤذية، وأيّ جماعة تستقل بالسّلاح تُشكل نداً، بحالٍ مِن الأحوال، للدولة. لا اعتراض على العقائد، مهما كانت، لا وجود المهدي ولا غيرها، مع أنَّ المصدر الأساس المفروض في العقائد والتشريع الدّيني هو كتاب القرآن، والقرآن لم يذكر شيئاً. ذكرتُ الكتاب الكريم، لا للنقض، فكلّ العقائد لها احترامها، ما زال هناك بشر يؤمنون بها، إنما لتوضيح أنّ الاختلاف في هذه العقيدة موجودٌ حتّى داخل المذهب نفسه، فالقرآن بالأخير برهان قاطع.

أنجز الباحث العِراقي القدير فالح مهدي، (1972) ببغداد، كتاباً قيماً عنوانه «البحث عن منقذ- دراسة مقارنة بين ثماني ديانات»؛ بينها العالمية المشهورة؛ وغيرها شرقاً وغرباً، لم يكن منقذ أحدها مسلحاً، ولا ظهرت منها جماعة تقول: سلاحنا هو سلاح المنقذ؛ وكذلك لم يقلها كبار المذهب الذي تؤمن به الجماعات المسلحة؛ فهي مجرد عقائد النّاس لا الدُّول، فلا الزَّرادشتيّة ولا البوذيّة، في التاريخ الغابر والحاضر، ولا غيرها مِن التي شملتها الدِّراسة، ادعت ذلك. مِن حقّ قادة الجماعات المسلحة اتخاذ عقيدة المنقذ لنفسها، الذي تراه، لكن وماذا عمَن يشاركهم الوطن، وهو لا يقرّ بهذه العقيدة؟ كذلك لا اعتراض على العجائبيَّة التي يطرحونها عبر الإعلام، إذا لم تتحول إلى سياسة مباشرة بقوة السّلاح، وهذا خراب للأوطان.

لا نلجأ إلى حُججِّ الآخرين لنقض هذا المنطق، إنما نلجأ إلى كبار مشائخ العقيدة المؤسسين أنفسهم، ولنرى ماذا يقولون في هذا الخِطاب؟ ينقل شيخ الطّائفة أبو جعفر الطُّوسي(تـ: 460هج)، وصية المهدي لنائبه الأخير عليّ السّمريّ(تـ: 329هـج): «عظم الله أجر إخوانك فيك؛ فإنّك ميتٌ ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك؛ فقد وقعت الغيبة التَّامة؛ فلا ظهور إلّا بإذن الله»(كتاب الغيبة). أقول: فأي أذن مِن الله في سلاح الجماعات وخطابهم؟ كذلك نقل الصَّاحب ابن عباد(تـ: 385هج) الآتي: «إن كلّ رايةٍ قبل راية قاعدهم الذي يسمَّونه قائماً، راية ضلالة»(كتاب الزَّيدية). ربّما لاختلاف المذهب لا يقرون برأي الصَّاحب الزَّيديّ المعتزليّ. لكن ماذا يقولون لأبرز رواة الحديث عندهم الشّيخ محمَّد الكُلينيّ(تـ: 329هج)، الذي عاش إرهاصات تشكيل العقيدة؟

قال: «كلُّ رايةٍ ترفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت، يعبد من دون الله»(الكلينيّ، كتاب الكافيّ). فيا أخوتنا نُقدر حماسكم وخيالاتكم، وأفتونا مأجورين، هل أنتم جادون بخطابكم هذا أمّ تكابرون؟ على حساب شعوبكم، التي تنشد أبسط مقومات الحياة ولم تجدها؛ والضَّغوط كما ترون على أشدها، فلا تجعلوا العقائد مشاجب لسلاحٍ أعيا النَّاس وأذلهم. عودوا إلى الواقع؛ صحيح أنَّ الخيالَ جميلٌ ومغرٍ، لكنَّ لا صِلة له بعمران الأوطان وكرامة الإنسان. أخذُ مِن أبي العلاء المعريّ(تـ: 449هج): «إذا قلتُ المحال رفعتُ صوتي/ وإنْ قلتُ اليقينَ أطلتُ همسي»(لزوم ما لا يلزم)؛ وأنتم يا سادة سفهتوا العقول بالمحال.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في زمن تتسارع فيه الخطى، وتترنّح فيه الثوابت، لم يعد بالإمكان أن نقرأ العالم بذات العيون التي قرأت الماضي. لقد دخلنا قرنًا لا يكتفي بتبديل الوجوه، بل يعيد صياغة قواعد اللعبة، ويهزّ ركائز النظام العالمي من جذورها. ولم تعد الأحداث تمضي على هامش التاريخ، بل باتت تكتبه من جديد... بأقلام من نار، وبحبرٍ من دماء الشعوب المغلوب على أمرها.
في خضم هذا التحوّل العاصف، يقف الضمير الإنساني حائرًا، يبحث عن صوته وسط ضجيج القوة، ويطرح السؤال الذي لا يموت: ما الذي يصنع مستقبل الأمم؟ أهي القوة؟ أم العدالة؟ أم المعرفة؟ أم خليط تتصارع فيه المصالح والمبادئ؟

منذ مطالع الألفية الثالثة، والعالم يتقلب على صفيح ساخن من التحولات، يشهد النظام الدولي اضطرابات متتالية وولادة مشهد عالمي جديد تتنازع فيه القوى، وتتعدد فيه الأقطاب. لم تعد الهيمنة حكراً على قطب أوحد، بل تكسّرت الأحادية وتوزعت مراكز القوة على خارطة جديدة تتشكل بأنفاس الصراع وتحت وقع المتغيرات الجذرية. في أفق هذا التحوّل الزاخر بالتقلّبات، تلوح في الأفق ملامحُ نظامٍ عالميٍّ جديد، تتقدّمه قوى بارزة تشقّ طريقها بثباتٍ نحو الصدارة؛ فها هي الصين تنهض كعملاقٍ لا يلين، وروسيا تعود بثقل التاريخ وجموح الطموح، بينما تسير الهند، وإن بخطى أهدأ، وتكتلاتٍ تتحدى المألوف مثل منظمة بريكس، إلى جانب نفوذ مؤثر لقوى إقليمية صاعدة كإيران والبرازيل …

في هذا السياق يقول المفكر السياسي بريجينسكي:” إن القوة الجيوسياسية الحيوية تتغير، وتوزيع القوة الاقتصادية والسياسية في العالم يتغير بسرعة كبيرة“ وهو ما بات واضحًا بعد عام 2023، الذي لم يكن مجرد سنة على التقويم، بل علامة فارقة تهاوت فيها أعمدة القانون الدولي، وتصدعت قواعد المنظومة الإنسانية. لقد تعرضت القيم التي طالما تغنى بها الخطاب الغربي ـ من حقوق الإنسان إلى الأعراف الدولية ـ لهزات عميقة، تمثّلت في مشاهد مروّعة في غزة، حيث ارتفعت راية القوة المجردة، وسقطت الرايات الأخلاقية تحت أقدام الحسابات العسكرية والسياسية.

هنا تتردد أصداء كلمات نعوم تشومسكي التي تصف الحقيقة بلا رتوش:” القانون الدولي يُستخدم كسلاح فقط عندما يخدم مصالح القوى الكبرى، أما حين يتعارض معها، يتم تجاهله بلا خجل."، وكأنما صدى جون لوك الذي قال: "أينما ينتهي القانون، يبدأ الاستبداد. “

لقد بات العالم ساحة يمتزج فيها الخير بالشر، وتضيع فيها الحدود الأخلاقية بين الظالم والمظلوم بين الطاغية والمستضعف. وكما عبّر الفيلسوف جان بودريار:” لقد أصبحنا نعيش في عالم لم يعد فيه الخير والشر يختلفان، بل أصبحا يمتزجان“ وهكذا، لم تعد الحروب تُخاض فقط على الأرض، بل في الضمير الإنساني نفسه.

لكن برغم قتامة المشهد، فإن الحقيقة تفرض ذاتها، القوة ضرورة لا مهرب منها للجميع، لبقاء الإنسان والمجتمع والدولة، لا سيّما في عصر تتزايد فيه التهديدات، وتضيق فيه فسحات الأمان. غير أن القوة اليوم لم تعد مقصورة على جيوش جرّارة ولا على خزانة عامرة بالذهب، بل أصبحت تتمثل في عنصر واحد يتجاوزهما: المعرفة.

لقد سبق أن قال المفكر ألفين توفلر:” المعرفة هي القوة. “ وأيده في ذلك بيتر دراكر حين أعلن أن:” القرن الحادي والعشرون سيشهد أن الموارد الإنتاجية الرئيسية ستكون المعرفة والمعلومات“- غير أن هذه الرؤية الحديثة، بكل ما فيها من بصيرة، قد لامسها قبل قرون ضمير النبوة حين نطق الإمام عليّ عليه السلام بالحكمة الخالدة:” العلم قوة والجهل ضعف“ عبارة قصيرة تحمل في طيّاتها خلاصة قرون من الصراع بين النور والظلمة، بين البناء والهدم، بين الأمم التي ارتفعت بسلّم العلم، وتلك التي انهارت تحت أثقال الجهل.

ولهذا، لم يكن غريبًا أن نشهد في الحرب الأخيرة التي اشتعلت في الشرق الأوسط، كيف أصبحت العقول هدفًا للرصاص، والعلماء مشاريع اغتيال في إيران. إن استهداف المفكرين والباحثين، ومطاردة كل من يمتلك قدرة على التفكير أو التأثير، لم يكن مجرد هامش في الصراع، بل هو جوهره الخفي. فالقوة المعاصرة لا تُواجه فقط في ميادين القتال، بل تُجهَض في مهدها حين تُستأصل البذور التي قد تُنبت غدًا وعيًا وكرامة.

وهكذا، لم تعد القوة تُقاس بما تمتلكه الدول من أسلحة، بل بما تحوزه من عقول. فالعقول هي من تبني الاقتصادات، وتبتكر التكنولوجيا، وتعيد رسم حدود النفوذ.

وهنا يبرز المفهوم الأعمق للقوة كما طرحه عالم السياسة جوزيف ناي:” إن السياسة العالمية ليست مجرد لعبة أحادية القطب، إنها توزيع معقد للقوة الصلبة والناعمة“ فنحن في عالم لم يعد فيه القتال بالسيوف وحدها، بل بالأفكار، ولم يعد الردع يُصنع في مصانع السلاح فحسب، بل في مختبرات الذكاء والتخطيط والاستبصار.

وهكذا، يتطلب بناء القوة الحقيقية إرادة مجتمعية لا تعرف الخوف، وعقلًا استراتيجيًا يقيس بعين الحكمة لا بردود الأفعال، ويستند إلى البصيرة لا إلى العاطفة المنفعلة. فهذه هي القوة القادرة على الحماية، وعلى ردع الظلم والطغيان، وصياغة مستقبل لا تُفرَض فيه الحلول والقيم بالقوة، بل تُكتسب بالقناعة والعدل والمعرفة.

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم ليس سوى مرآةٍ مشروخة لحقائق متشابكة، تتداخل فيها أطياف الطموح والخوف، المعرفة والقوة، المبادئ والمصالح. وما بين انهيار القانون وصعود العقول، يبدو أن مستقبل البشرية لن يُرسم بمنطق الهيمنة وحدها، ولا بالعاطفة العابرة، بل بعقل راجح يزن الأمور بميزان الحكمة، وإرادة تصنع من المعرفة سلاحًا، ومن القيم جدارًا، ومن القوة وسيلةً لا غاية.

لقد ولّى زمن البساطة في فهم القوة، فإما أن نُدرك تعقيد هذا العصر، ونتهيّأ له بعقلٍ حُرّ، ورؤية بعيدة، وقيم راسخة… أو نُترك نُقاد كما يُقاد العاجزون، في عالم لا يرحم الضعفاء ولا ينتظر المترددين.

فهل البشرية على قدر التحدي؟

***

حميد علي القحطاني

تمر الذكرى ال 67 لثورة 14 تموز التي قادها مجموعة من الضباط الكبار وفي مقدمتهم قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم والتي أسقطت االحكم الملكي في العام 1958، وأسست للحقبة الجمهورية،ويتفهم القارئ او المحلل السياسي جوهر التقيمات المختلفة للحقب التاريخية في العراق وخاصة في حقبتي الملكية والجمهورية الأولى وتداعيات كل منهما على الآخر وقد عبر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العراق عن نضوج العوامل الذاتية والموضوعية في أحداثه إلا أن نقل الثورة إلى مسارات مستقرة بما يفضي إلى نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة سلميا و ديمقراطيا قد تعثر وفشل بسبب القصور الفكري والسياسي لبعض من قيادات الثورة وتكالب الأعداء عليها في الداخل والخارج مما سهل عملية الأنفراد في الحكم وانحراف مسار الثورة لاحقا،

قراءة الثورة اليوم تختلف عن قرائتها قبل 67 عاما

 بفعل تراكم المعارف النظرية والممارسات والخبرات العملية في التغير السياسي وجوهره والكيفية التي يتم بها حل أزمة الحكم والنظام السياسي, حيث ان القراءة الفردية بعيدا عن تأثيرات العقل الجمعي او الهبات السيكولوجية الجماهيرية يضفي بعدا منصفا عادلا لثورة تموز بعيدا عن المزاج المضر والمنحاز, الأمر الذي يحرم تقييم تلك الحقبة بديناميات العقل غير المتحيز والمتأثر " بسيكولوجيا الجماهير "،

الهبات الجماهيرية الفاقدة للتفرد والعقلانية هي من  افسد مسارات الثورة وحراكها المشروع صوب التغير المنتظر للخلاص من نظام قوامه الأقطاعية والقبلية والطائفية في نظام يقف على قمته ملك ليست عراقي, فكان الشارع العراقي لا ينصاع إلا بتوجيهات من الراعي السياسي او الديني لأحداث خراب في مختلف الاتجاهات وكانت الأندفاعات الضارة ليست دفاعا عن الثورة بل من حيث لا يعلم الجمهور هو حفر في العمق لتسهيل سقوطها بيد اعدائها.

وللأسف ان الحقبة انذاك هي حقبة سايكوـجماهيرية قوامها العزف على الأنفعالات بعيدا عن التأثر الحقيقي بالفكر التقدمي ومشروعه الكبير في تحقيق العدالة الأجتماعية وطموحاته في تحقيق السعادة المجتمعية للخلاص من الفقر والبطالة والفاقة وتحرير العراق وثرواته من السيطرة الاستعمارية، قيادة الثورة بفعل محدودية تفكيرها وهذا ليست عيبا فيها بل بأنتمائها العسكري المعروف الذي من الصعب عليه ان استلم السلطة بواسطة الدبابة ان يسلمها لاحقا الى القوى المدنية, وكانت قوى قيادة الثورة وخاصة جناحها العسكري مغرمة بالخطابات الرنانة التي تتدغدغ العواطف وتقصي العقل من دائرة الفعل, وكان الأنفراد وعدم الأصغاء من قبل القيادة العسكرية للقوى المحركة للثورة بل العداء لها هنا وهناك احد اسباب انحرافها وفشلها لاحقا, فالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم في لحظات كثيرة لم يفرق بين خصومه وانصاره فكان بالنسبة له الجميع سواسية وكان اخطرها تحت شعار " عفى الله عما سلف " الذي اودى بحياة الزعيم النزيه وكان خاتمتها الأنقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963عند استلام البعث للسلطة،

نظام الحكم اليوم في العراق وفق الدستور ما بعد الأحتلال هو جمهوري أي يفترض ان يكون امتداد طبيعي للجمهورية الأولى ولا يفهم من نظام المحاصصة كيف يتم اغفال ولادة الجمهورية الأولى في العام 1958 او تهميش ذكراها باختلاف الرؤى والتقيمات لها حيث يفترض ان يجري التركيز عليها في إطار شكل الحكم وليست تفاصيل الأحداث التي قد نتفق او نختلف معها بعيدا عن ارضاء بعض قيادات الأحزاب الطائفية السياسية والصفقات المشبوهة التي تستهدف تزوير التاريخ واحتكار الحقائق وتوظيفها لخدمة مصالح ضيقة فالعراق جمهوريا شئنا أم أبينا ويفترض ان يكون الدستور هو وثيقة العقد الأجتماعي التي أتفق عليها لا مزاج العداوة والكراهية،

ولتكن ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز درسا في قيمة التداول السلمي للسلطة واحترام ارادة الشعب العراقي في اختيار ممثليه عبر ممارسة ديمقراطية نزيه لا يكون فيها للسلاح مكانا في أكراه الشعب على الأختيار،

***

د. عامر صالح

يحتفل الكثير من العراقيين هذا العام في الذكرى (67) لانطلاق ثورة 14 تموز، الحدث المحوري في تاريخ العراق السياسي المعاصر، الذي جسد الإرادة الوطنية للكثير من شرائح المجتمع العراقي. الاحتفال بذكرى الثورة يتيح لنا فرصة للتفكير النقدي حول الكثيرمن النتائج، ورسالة تذكير للأجيال الجديدة بأهمية فهم التاريخ من أجل بناء مستقبل أفضل، وتجنب تكرار أخطاء الماضي. الاحتفال بها يمكن أن يكون جسراً رابطاً بين الماضي والحاضر، بعيداً عن مخاطر التوظيف السياسي المغلق، وأن تُستثمر في تحفيز الوعي التنويري والتثقيف بأهمية الحوار الوطني البناء الذي يعترف بالحقوق والتعددية واحترام الآخر المختلف.

تحمل ثورة  تموز أهمية رمزية وتاريخية ولحظة انتقال حاسمة سواء من الناحية السياسية والوطنية والثقافية، حدث محوري أنهى النظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية العراقية، وفتح الباب أمام متغيرات جذرية في بنية الدولة العراقية، شملت النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلاقات الخارجية والهوية الوطنية. ورغم الجدل حول طبيعة الحدث، وما تلاه من اضطرابات شكل نقلة جذرية في بنية الحكم والسلطة.1658 July

ورغم التحديات الداخلية والخارجية، يرى الكثير من الباحثين بأن ثورة تموز مثلت حركة تحرر من الهيمنة الأجنبية بكل صورها، وشكلت رمزاً فاعلاً لمقاومة النفوذ الأجنبي وبداية لاستقلال القرار الوطني المرتبط بحزمة إنجازات مثلت طموحات الفئات الشعبية المسحوقة. احتلت المكانة الأبرز في الذاكرة الجمعية العراقية، سواء بالنقد أو التأييد، فهي لحظة تَشكُّل مفصلية ما زال الجدل قائماً حول آثارها، والحديث عنها تجاوز السياسة ليصل إلى الأدب والفن والأغاني الوطنية والشعبية التي خلدها الشعب بأكثر فئاته.

كان العراق جزءاً من منظومة إقليمية متمثلة بحلف بغداد ومرتبطة بالغرب، وفي ذروة تصاعد المد الايديولوجي القومي واليساري في الشرق الأوسط، وتنامي السخط الشعبي حيال التفاوت الطبقي والاحتكار الاقتصادي وهيمنة الإقطاع، حدثت ثورة 14 تموز بعد سلسلة ضغوطات سلطوية بالضد من إرادة الجماهير، بفعل استئثار النخبة الملكية الحاكمة بالثروات، وتهميش اغلبية الشعب، مقرونة بتزايد شعور التململ بين صفوف الجيش العراقي، الذي رأى في ذاته حاملاً لمشروع التغيير. وتفاقم نقمة شرائح مجتمعية واسعة من العمال والفلاحين والمثقفين العراقيين، اسهم في نضوج الظروف الموضوعية والذاتية التي دفعت نخبة من الضباط الوطنيين الواعين، الذين أغلبهم من أبناء الطبقات المتوسطة أو الفقيرة، بالتفكير بتغيير النظام بعد محاولات عديدة.

افلحت المحاولة الثامنة في قيام الثورة التي دشّنت مرحلة جديدة في الحكم قائمة على النظام الجمهوري، بعد إسقاط النظام الملكي الذي كان يُعد امتداداً للهيمنة البريطانية في الشرق الأوسط. وكان انسحاب العراق من حلف بغداد، وابتعاده عن سياسة المحاور بمثابة رسالة واضحة المعالم لمدى استقلالية العراق الجديد في قراراته الوطنية، وبالتالي انفتاحه على دول العالم الحرّ.1659 July

يُشار إلى هذا الحدث الذي حصل في تموز 1958، باسم "ثورة 14 تموز"، لكن في بعض الأدبيات الأكاديمية كثيراً ما يُدرج كـ "انقلاب عسكري ذو نتائج ثورية". إذا عَرّفنا مفهوم الثورة في الإطار الأكاديمي المجرد بأنها حركة تحرر قام بها نخبة من العسكر لاسقاط النظام الملكي، بالتأكيد تصنف "انقلاب عسكري"، ولكن إذا نظرنا إلى نتائجها بتحليل واقعي، نجد بأنها قد أجرت تغييراً بنيوياً شاملاً في المجتمع العراقي على الأصعدة كافة، تستحق مكانتها الحقيقة كثورة، رفعها التأييد الجماهيري الكبير الذي استمر لأيام عديدة في كل مدن العراق، جماهير من مختلف شرائح المجتمع العراقي لم تكن مؤدلجة بل دفعها اليأس من النظام الملكي وتماديه في الممارسات القمعية في تعليق الحياة السياسية وتحجيم الحريات. 

هناك الكثيرمن الباحثيّن يرى بأن إسقاط النظام الملكي وإنهاء الحكم الوراثي الذي كان أداة بيد الاستعمار البريطاني، وإعلان الجمهورية وتحرير البلاد من الهيمنة البريطانية، وتحويل العراق إلى قوة مناهضة للاستعمار بانسحابه من حلف بغداد. وقيام الحكم الجديد بإصدار حزمة قوانين إصلاحية تلامس حياة الناس كـ "قانون الإصلاح الزراعي، قانون الأحوال الشخصية، قوانين اسهمت في تعزيز وتقوية القطاع العام"، وفق هذا المنظور وبالمعاييرالموضوعية يُعد حدث 14 تموز 1958، "ثورة" لأنها غيّرت بنية النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي تغييراً جذرياً.

المؤرخ الفلسطيني المحايد حنا بطاطو، المتخصص بتاريخ العراق، في كتابه "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية"، لا ينكر دور العسكر في اندلاع الثورة، لكنه يركز على نتائج الحدث أكثر من أسلوب التنفيذ، يرى بأن حدث 14 تموز يُعد ثورة لأنه أدى إلى تحولات جذرية، أنهى النظام الملكي والإقطاعي، وجرى توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين على ضوء قانون الإصلاح الزراعي. وتم تعزيز دور الطبقات الفقيرة والعمالية، وتصفية النفوذ البريطاني، وأكد بأن الجيش كان أداة لتنفيذ الثورة، أحدث تغييراً بنيوياً عميقاً في بنية الدولة والمجتمع. ويشاطره الرأي المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية"، بأن الحدث ثورة شاملة مكتملة الأركان وليس مجرد انقلاب. وأكد بأن الجيش لم يكن طامعاً بالسلطة، بل تحرّك بفعل معاناة الشعب، والنتائج جعلت الحدث ثورة فعلية.1660 July

آراء بعض من المؤرخيّن المحايدين، تؤكد الحدث بأنه ثورة تحرر وطني ضد الهيمنة الغربية، وتتويجاً لحراك شعبي طويل ضد الاحتلال البريطاني والحكم الملكي. تم وصفه انقلاباً عسكرياً لكنه أدّى إلى ثورة سياسية واقتصادية، والجيش هو مَنْ حرك التغيير، لكن التحولات التي تبعت الحدث جعلته ثورة فعلية بمعايير التغيير الاجتماعي والاقتصادي، أي الحدث بدأ انقلاباً عسكرياً، لكنه تحوّل إلى ثورة بتأثير نتائجه. ولم يكن الحدث حركة عسكرية عابرة، بل شكل لحظة فارقة أعادت صياغة مسارات الدولة والمجتمع، وصداه يتردد في الذاكرة الوطنية العراقية لما نتج عنه من إنجازات لامست نبض الشارع العراقي. وفي قراءة علمية متزنة لهذا الحدث، تبرز الحاجة إلى استجلاء خلفياته، وتحليل أهدافه، وتقييم مخرجاته وفق معايير رصينة تراعي التعقيد البنيوي للمجتمع العراقي.

وهناك من يرى الحدث بأنه انقلاباً عسكرياً تقليدي في دولة نامية، نفذه ضباط جياع للسلطة، احتكروا الحكم لأنفسهم، ونجحوا في تغيير النظام لكنه لم يكن ثورة جماهيرية شعبية، بل الجماهير تحركت بعد نجاح الانقلاب، والحدث لم يأتِ بتفويض جماهيري وبدون مشاركة مدنية أو انتخابات، ودون التشاور مع الشعب، بل فُرِض النظام الجديد بقوة السلاح، ومن ثماره مقتل أفراد العائلة المالكة بطريقة دموية أثارت جدلاً كبيراً. وسيطرة العسكراستمرت في فرض مشروعهم السلطوي بالقوة، مما أدى لاحقاً إلى انقلابات عسكرية متتالية.

ورغم تلك الإنجازات الكبيرة، لم تخلُ الثورة من أخطاء جوهرية أفضت إلى تراجع زخمها وانكفاء أهدافها، لا سيما بعد تكريس الحكم الفردي وإقصاء بعض القوى السياسية وتعزيز التوجهات في إطار عسكرة السياسة، مما أدى إلى ضمور الحياة السياسية المدنية، وإرتفاع وتيرة الصراع السياسي الذي قاد إلى بداية لحلقة طويلة من عدم الاستقرار السياسي والتدهور الأمني الذي انعكس على مجالات الحياة كافة. وبالتالي انكفاء التجربة إلى دائرة الحكم الفردي، بفعل اتساع حجم التآمر على منجزاتها، أدى إلى تفاقم السخط الاجتماعي، والتآمر الذي قاد إلى العديد من الانقلابات والاضطرابات التي استنزفت الدولة والمجتمع في العقود اللاحقة.

ثورة 14 تموز مثّلت لحظة اشتباك عميقة بين التوق الوطني إلى التحرر والتغيير وبين معضلات الإدارة ومسارات التنمية في بناء الدولة. وإذ يُسجَّل لها ما أنجزته في قطيعة العراق مع الاستعمار والتبعية، فإن تقييمها علمياً يفرض الإقرار بكونها في المحصلة ثورة حقيقية، تظل ذكراها درساً بليغاً في الوطنية العراقية، وفي أهمية المواءمة بين التحولات السياسية والاستعداد لبناء دولة عادلة ومستقرة.

***

د. عبد الحسين صالح الطائي

اكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

....................

ملاحظة: الصور المرفقة من أرشيف مؤرخ ثورة تموز الأُستاذ هادي الطائي.

كأداة قمع سياسي متدرج وعميق، في خدمة هيمنة الرأسمالية المعاصرة!

الرقابة والسيطرة الرقمية

تعمل الشركات الرقمية، بالتعاون مع الدول الكبرى، على مراقبة تحركات الأفراد عبر الأجهزة الذكية ووسائل الاتصال المختلفة، حيث تخضع جميع الأنشطة الرقمية، بما في ذلك الاجتماعات المغلقة التي يفترض أنها آمنة، للمتابعة وللتحليل المستمر. في الواقع تقريبا، لا توجد أي مساحة رقمية محصنة بالكامل 100%؛ إذ تجمع البيانات بشكل منهجي، ثم تستخدم لتقييم الأفراد والمجموعات وتصنيفهم وفقًا لأنماط سلوكهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية.

إضافةً إلى ذلك، تحولت الرقابة الرقمية إلى أداة مركزية لرصد التوجهات الفكرية والسياسية للمستخدمين والمستخدمات، مما يمكن الشركات والحكومات من متابعتهم واستهدافهم عبر حملات تضليلية منظمة، أو فرض عقوبات رقمية تحدد وتقلص تأثيرهم في الرأي العام. تطبق هذه الاستراتيجيات بشكلٍ ممنهجٍ وخفي ضد التنظيمات العمالية، والتنظيمات اليسارية، والمؤسسات الحقوقية والإعلامية المستقلة، حيث تواجه هذه الجهات تضييقًا متزايدًا يقيد انتشار أفكارها في الفضاء الرقمي العام عبر أساليب ناعمة غير مباشرة ويصعب رصدها. حيث توظف الخوارزميات بشكلٍ دقيق لتقييد وصول المنشورات السياسية اليسارية والتقدمية دون حذفها بشكل مباشر، مما يجعل القمع الرقمي أكثر تعقيدًا وخطورة وغير مرئي. إذ يبدو التفاعل المنخفض مع المحتوى التقدمي وكأنه استجابة طبيعية من الجمهور، بينما هو في الواقع نتيجة خوارزميات معدة مسبقًا لتقليل انتشاره، مما يخلق انطباعًا زائفًا لدى الناشطين والناشطات بأن أفكارهم لا تحظى باهتمام، وأنها تفتقر إلى الشعبية، ومن ثم يستنتجون ضرورة إعادة النظر فيها!

الاحباط الرقمي

الإحباط الرقمي أداة جديدة ومتطورة للهيمنة الطبقية، حيث تستخدم الخوارزميات والذكاء الاصطناعي بشكل ممنهج وغير محسوس، وعلى مدى طويل وبشكل تدريجي، لنشر محتوى يعزز الشعور بالعجز والاستسلام، خاصةً بين المستخدمات ومستخدمي المنصات الرقمية من التوجهات اليسارية والتقدمية. تعمل هذه الآلية على تضخيم فشل وضعف التجارب الاشتراكية والتنظيمات اليسارية، وإبراز الرأسمالية كنظام أزلي لا يقهر، مما يرسخ فكرة استحالة التغيير. كما يتم تعزيز الفردانية، والترويج لحلول فردية كالاستهلاك وتطوير الذات، مما يعزل الأفراد عن أي فعل سياسي جماعي منظم.

إلى جانب ذلك، توجه النقاشات داخل التنظيمات اليسارية نحو صراعات هامشية وتبرزها، مما يشتت الجهود ويضعف القدرة على المواجهة. تعتمد الشركات الكبرى على تحليل السلوك الرقمي لاستهداف المستخدمين والمستخدمات والمجموعات، بمحتوى يولد الإحباط، ويجعلهم يشعرون باستحالة أو صعوبة التغيير الاشتراكي. هذه السياسات والاساليب ليست عفوية، بل أداة علمية واعية لإجهاض أو إضعاف روح التغيير وضمان بقاء النظام الرأسمالي دون تحدٍ حقيقي ومؤثر.

الاعتقال والاغتيال الرقمي

يعد الاعتقال الرقمي مرحلة أكثر خطورة من الرقابة والسيطرة الرقمية، حيث لا يقتصر على تقييد وصول المحتوى، بل يمتد إلى فرض قيود تعسفية على حسابات الأفراد والمجموعات، وتعليقها مؤقتًا ولفترات مختلفة، أو حذفها نهائيًا فيما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاغتيال الرقمي، يتم دون أي شفافية أو معايير واضحة أو قوانين محلية أو عالمية تدافع عن حقوق المستخدمين والمستخدمات. غالبًا ما تستخدم ذرائع مثل "انتهاك المعايير المجتمعية" أو "الترويج للعنف" كحجج لحجب هذه الأصوات، رغم أن المحتوى الذي ينشره النشطاء يكون في الكثير من الأحيان توثيقًا لجرائم الرأسمالية كدول وشركات أو انتهاكات حقوق الإنسان.

مثال على ذلك هو القمع الرقمي الذي تمارسه منصات التواصل الاجتماعي ضد المحتوى الفلسطيني الذي يوثق الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين. خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، قامت شركات مثل فيسبوك، إنستغرام، وتويتر وغيرها بحذف وحظر عدد كبير من الحسابات والمنشورات التي توثق جرائم الاحتلال تحت مزاعم «مخالفة المعايير المجتمعية» أو «الترويج للإرهاب»، رغم أنها كانت توثيقًا دقيقًا لجرائم حرب مثبتة وثقتها منظمات حقوق الانشان. كما جرى استهداف وكالات إعلامية مستقلة من خلال تقييد وصول منشوراتها أو حذف حساباتها بالكامل، في محاولة واضحة لإسكات الأصوات التي تكشف حقيقة الانتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين.

المراقبة الذاتية الطوعية

يتزامن القمع الرقمي وتقييد وصول المنشورات مع ظاهرة "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد وحتى المجموعات بفرض رقابة على أنفسهم، أو تعديل خطابهم السياسي، أو حتى تغيير محتواه، والتحول إلى قضايا نظرية عامة، والابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، خوفًا من تقييد وصول منشوراتهم أو التعرض للحظر خلال الاعتقال الرقمي، أو الاغتيال الرقمي من خلال إغلاق حساباتهم من قبل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في المنصات الرقمية. يؤدي هذا الخوف إلى تقويض حرية التعبير، ويصبح عاملًا مؤثرًا في إعادة تشكيل وضبط الخطاب العام حتى قبل فرض القيود الفعلية، مما يعزز الهيمنة الفكرية للرأسمالية، ويقلص مساحة المقاومة الرقمية، ويحول الإنترنت إلى فضاء مضبوط ومؤطر ذاتيًا وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.

 على سبيل المثال، خلال فترات الاحتجاجات الجماهيرية في بلدان مختلفة ضد سياسات الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، بشكل عام وبدرجات متفاوتة، لاحظ العديد من المستخدمين والمستخدمات أن منشوراتهم التي تحتوي على كلمات مثل "إضراب عام"، "عصيان مدني"، "ثورة"، أو نصوص تكشف الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، لم تحقق الانتشار المعتاد، في حين أن المنشورات ذات الطابع التحليلي العام حول الاقتصاد والسياسة لم تتأثر بنفس القدر. دفع ذلك العديد من الناشطين والناشطات إلى تجنب استخدام مصطلحات تصنفها المنصات على أنها "تحريضية"، مما أدى إلى تحوير الخطاب العام نحو محتوى أقل حدة وثورية، وبالتالي تقليص مساحة التعبير الحر وإضعاف دور وسائل التواصل الاجتماعي كأداة للتعبئة والحشد السياسي والتغيير الجذري.

تآكل الديمقراطية باستخدام الذكاء الاصطناعي

بعد السيطرة على العقول والوعي البشري من خلال الرقمنة، لم يعد الأمر مجرد وسيلة لتعظيم الأرباح الرأسمالية، بل تحول ايضا إلى أداة رئيسية لإضعاف وحتى تقويض الديمقراطية البرجوازية النسبية بدلًا من تعزيزها أو تطويرها، رغم محدودية مصداقيتها في العديد من البلدان، حيث تخضع هذه الديمقراطية لتأثير المال السياسي، والقوانين الانتخابية المجحفة المصاغة لخدمة مصالح معينة، إلى جانب عوامل أخرى. فبدلًا من دعم المشاركة الشعبية الواعية في الحياة السياسية، يجري تسخير الرقمنة والذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل والتلاعب بالرأي العام بما يتوافق مع مصالح الطبقات الحاكمة، عبر التأثير في الانتخابات، وتضييق مساحة النقاش الحر، وتوجيه الخطاب السياسي والإعلامي لخدمة القوى الرأسمالية المسيطرة.

إن السيطرة الطبقية على الذكاء الاصطناعي تعني أن هذه التكنولوجيا، التي يفترض أن تكون أداة لتعزيز الشفافية والديمقراطية، تستخدم فعليًا لإنتاج وترويج السرديات التي تحافظ على النظام الرأسمالي القائم. يتم استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات السياسية بما يخدم المؤسسات الرأسمالية، والأنظمة والتنظيمات اليمينية والفاشية الجديدة، والقوى الاستبدادية، مما قد يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.

في ظل النظام الرأسمالي، لا يستخدم الذكاء الاصطناعي لتمكين الجماهير أو تعزيز القرارات الواعية والشفافة، بل كأداة مساهمة لتشويه الحقيقة، وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي، والتضليل الإعلامي الذي يضعف جوهر الحقيقي للديمقراطية القائم على الشفافية وحرية الوصول إلى المعلومات والتعددية الفكرية والسياسية. يتم ذلك عبر استهداف فئات محددة بمحتوى موجه استنادًا إلى تحليل سلوكهم الرقمي، مما يؤدي إلى خلق رأي عام مصطنع يكرس الهيمنة الطبقية ويعمق الاستقطاب السياسي والاجتماعي. لا يقتصر الأمر على تضليل الناخبين والناخبات، بل يمتد إلى إعادة تشكيل بيئة النقاش السياسي، بحيث تفرغ من مضامينها الحقيقية وتشبع بدعاية تخدم الرأسمالية وافكارها اليمينية.

يتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي مجرد التلاعب بالمعلومات، ليصبح أداة مركزية في إعادة إنتاج السلطة السياسية الرأسمالية. فمن خلال توظيف الخوارزميات في إدارة الحملات الانتخابية، وتصميم الخطاب السياسي وفقًا لمصالح رأس المال، والتأثير على خيارات الناخبين والناخبات عبر تقنيات الاستهداف الدقيق، يتم تحييد الأصوات المعارضة وإضعاف البدائل اليسارية والتقدمية - الديمقراطية.

ومثال على ذلك، تدخل الملياردير اليميني إيلون ماسك في الانتخابات الألمانية لعام 2025 عبر منصته "إكس" (تويتر سابقًا)، حيث دعم بشكل مباشر حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، من خلال ترويج محتوى موجه بالذكاء الاصطناعي على منصته، مما أثر على الرأي العام وأعاد إنتاج الاستقطاب السياسي لصالح القوى اليمينية والنازية الجديدة.

في هذه البيئة، لم تعد الانتخابات تعكس الإرادة الشعبية حتى بشكلها النسبي، حيث تحولت إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى والقوى الاحتكارية والطغم المالية، التي تستخدم الإنترنت والذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة السياسية والفكرية. يؤدي ذلك إلى تشويه التعددية السياسية وإفساد الآليات الديمقراطية النسبية القائمة، حيث يتم إما إضعاف الأصوات التقدمية أو دفع الجماهير نحو بدائل زائفة تعيد إنتاج النظام الرأسمالي نفسه، وفي أقصى الحالات إحداث تغيير سطحي فقط.

بدائل القوى اليسارية والتقدمية والحقوقية لمواجهة ذلك:

الذكاء الاصطناعي كأداة لتحرير حقوق الإنسان

 الذكاء يجب أن يتم توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون أداةً لتحرير واحترام حقوق الإنسان، لا لتقييدها أو انتهاكها. ولتحقيق ذلك، لا بد من اعتماد مبادرات يسارية تقدمية تضمن الشفافية، الرقابة، واستخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تعزز العدالة والمساواة، بدلًا من أن يكون وسيلةً بيد الأنظمة الاستبدادية والدول والشركات الكبرى لمراقبة الأفراد وتقليص وقمع الحريات. ينبغي النضال من اجل إنشاء أطر قانونية دولية ومحلية صارمة تجرم استخدام الذكاء الاصطناعي في انتهاك حقوق الإنسان، سواء من خلال المراقبة، أو استهداف المعارضين والنشطاء، أو فرض الرقابة الرقمية التي تؤدي إلى الاعتقال والاغتيال الرقمي وتقييد حرية التعبير.  يجب مراعاة العدالة وحقوق الإنسان الأساسية التي كفلتها المواثيق الدولية. كما يجب إخضاع جميع التطبيقات الأمنية للذكاء الاصطناعي لمراجعة قضائية مستقلة، مع إشراك منظمات المجتمع المدني في تقييم مخاطرها على الحريات، وتشكيل شبكات تضامن عالمية لرصد انتهاكات الذكاء الاصطناعي، ومقاطعة الشركات التي تبيع تقنيات المراقبة للأنظمة الاستبدادية، ووضعها في قوائم سوداء.

 لضمان ذلك، لا بد من دعم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي وبرامج مفتوحة المصدر تدار من قبل هيئات مستقلة تضم ممثلين عن المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية، بحيث تكون خاضعة لرقابة ديمقراطية تمنع إساءة استخدامها من قبل الحكومات والشركات الاحتكارية والأنظمة الاستبدادية. يمكن لهذه الأنظمة أن تستخدم لتعزيز حقوق الإنسان من خلال الكشف عن الانتهاكات، ومراقبة أداء الحكومات، وتحليل البيانات لكشف الممارسات القمعية.

تعزيز دور التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية في مراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية، إذ يمكن بناء تحالفات دولية تضغط لإيقاف استغلال هذه التكنولوجيا في تكريس الهيمنة والسيطرة والقمع الرقمي. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لمكافحة الرقابة الرقمية من خلال تطوير تقنيات تشفير البيانات وتأمين الاتصالات لحماية النشطاء والمعارضين، إضافةً إلى رصد أنشطة الحكومات الدكتاتورية وكشف خروقاتها لحقوق الإنسان. كما ينبغي تعزيز الوعي المجتمعي بخطورة الرقابة والسيطرة الرقمية وسبل مواجهتها عبر تشريع قوانين محلية ودولية تمنع انتهاك الخصوصية، وتوفير أدوات تقنية تساعد الأفراد على حماية بياناتهم وضمان حرية التعبير في الفضاء الرقمي.

الذكاء الاصطناعي لدعم الديمقراطية والمشاركة الشعبية

من الضروري تحويل الذكاء الاصطناعي من أداةٍ تساهم في تآكل الديمقراطية النسبية إلى وسيلةٍ لتعزيزها وتطويرها. يجب أن تكون التكنولوجيا عاملًا مساعدًا في تمكين الجماهير، وتعزيز المشاركة السياسية على أسس المساواة، وضمان الشفافية والنزاهة في العملية الديمقراطية. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير منصات حوار وتصويت إلكترونية آمنة وشفافة تتيح للمواطنات والمواطنين التعبير عن آرائهم والمشاركة بشكل مباشر وفعال في اتخاذ القرارات على مختلف المستويات، مما يعزز الديمقراطية التشاركية وتكون القوة والسلطة في أيدي الجماهير. كذلك، يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تحلل وتكشف الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة تلقائيًا، مما يحمي الجماهير من حملات التضليل التي تهدف إلى تقويض قدرتهم على اتخاذ قرارات مبنية على الحقائق. كما يمكن استخدام هذه الأدوات بشكلٍ واسع وحر ضمن مشروع عام يهدف إلى تعزيز الشفافية الإعلامية ومواجهة الهيمنة الإعلامية الاحتكارية. يتطلب ذلك أيضًا النضال من أجل تشريع قوانين دولية ومحلية واضحة تمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالرأي العام، وتضمن أن تكون المعلومات المقدمة للجمهور صحيحةً وموضوعية، وتعكس الواقع دون أي تحيز يخدم مصالح طبقية أو أيديولوجية محددة.

***

رزكار عقراوي

...........................

* مقاطع من كتابي” الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟” الرابط المجاني للكتاب: https://rezgar.com/books/i.asp?bid=3

من المؤسف حقّا أن تدخل مكان عبادة ككنس أو كنيسة أو مسجد أو مكان عبادة الأديان غير الإبراهيميّة، أو ممارسة لطقوس لها خصوصيّتها في دين أو مذهب كضريح أو حسينيّة، وتشعر بعدم الأمان نتيجة ما نراه من تحفظات وتفتيش، هذا التّشديد هو أمر طبيعيّ نتيجة لما حدث في العقدين الماضيين خصوصا من تفجير لكنائس ومساجد وحسينيّات، وما رأيناه قريبا من تفجير كنيسة مار إلياس في ضواحي دمشق، وما قامت به وزارة الدّاخليّة الكويتيّة في إقامة الشّعائر الدّينيّة العاشوريّة في المدارس بُعدا عن الحسينيّات لتحفظات أمنيّة، وهناك نماذج أخرى في أماكن مختلفة.

تعايشت المجتمعات العربيّة في خطّها الأفقي فيما بينها لقرون على مستوى جميع مكوّناتها، فطبيعيّ أن تجد تعانق الكنيسة مع المسجد في مصر والعراق وبلاد الشّام والسّودان، فعاش المسيحيون بتنوعهم مع المسلمين، يشتركون في أفراحهم وأتراحهم وتجارتهم ومعيشتهم، فألف المسلمون أجراس الكنائس، وشاركوهم أعيادهم ومناسباتهم، كذلك ألف المسيحيون أذان المساجد، وشاركوا إخوانهم المسلمين أعيادهم وأفراحهم، ولم يجدوا حرجا حتّى اليوم أن تكون مفاتيح كنيسة القيامة، وهي من أكثر الأماكن المسيحيّة قدسيّة في العالم، وإليها يحجّون؛ أن تكون مفاتيحها بيد عائلتين مسلمتين، ولم يفكّر المسلمون وهم الأكثرية أن يخربوها، أو يضايقوهم فيها، بل أسهموا في إحيائها وبقائها وصلاح عمارتها، هذا لا يعني عدم وجود حوادث سلبيّة في التّاريخ، لأسباب سياسيّة أو دينيّة أو مذهبيّة، لكن لا يلغي هذا وجود تعايش في الخطّ الأفقيّ في المجتمعات العربيّة طيلة التّأريخ.

ولمّا كنتُ في جربة بتونس، وفيها يتعايش الإباضيّة والمالكيّة مع اليهود؛ زرت الشّيخ محفوظ دحمان في مخبره المعنيّ بالتّجليد والتّرميم، ووجدتُ في مخبره مخطوطا باللّغة العِبريّة فسألته عنها فقال: «عندنا يهود في جربة يحتاجون إلى نسخ من كتبهم في صلواتهم وأدعيتهم، ويأتون إلينا لنسخها وتجليدها، والّذي تراه هو نسخ من مزامير داود، وميزة هذا الكتاب أنّ نصفه مكتوب بالعربيّة بخطّ عِبريّ، والنّصف الآخر مكتوب بالعِبريّة خطّا ونطقا، وعمر المخطوط هذا حوالي مائة وخمسون سنة تقريبا، واليهود جالية كبيرة في جربة يصلون إلى ألف وخمسمائة شخص، ومتعايشون مع المسلمين إباضيّة ومالكيّة بشكل كبير، أي في حدود مائة وخمسين إلى مائتي عائلة تقريبا، ويوجد تعامل كبير بينهم عشائريّا وماليّا مع الإباضيّة في جربة، فهناك علاقات تجاريّة وزراعيّة وصناعيّة بينهم، ولكلّ حرّيّته في معتقده وطقوسه».

وأخبرنا السّيّد مريوان النّقشبنديّ مدير العلاقات والتّعايش في وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة بإقليم كردستان العراق، أنّه أثناء «حرب داعش لليزيديين أو الإيزديين في بلدة سنجار بكردستان العراق، واليزيديون من الطّوائف الموحدة، الّتي تتخذ من الطّاووس رمزا لها، وهي أقليّة تنتشر خصوصا في العراق وسوريّة، ولهم طقوسهم الخاصّة، فلمّا حدث اضطهاد لليزيديين من قبل داعش؛ كان من كردستان جنديّ مسلم طلعت قرعته للحجّ، وقد دفع أربعة آلاف دولارا للحجّ، وقبل أربعة أيام من ذهابه؛ هاجمت داعش بلدة اليزيديين، فترك الحجّ، وذهب لنصرة اليزيديين حتّى استشهد في المعركة»، وذلك أنّهم ألفوا بعضهم، وتعايشوا بفطرتهم وسجيّتهم الإنسانيّة.

وقد رأيتُ بنفسي مصاديق أفقيّة عمليّة متنوعة للتّعايش في عالمنا العربيّ اليوم، لا أريد الإطالة لذكرها، بيد هناك أيضا نماذج تراثيّة في أدبيّاتنا العربيّة والإسلاميّة، وإن كان بعضها سلبيّا، بيد أن هناك مصاديق إيجابيّة، تعطي إضاءات يمكن الالتفاتة إليها، منها قوله تعالى: « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» -الحج: 40- أي لولا سنّة التّدافع لهدّمت الصّوامع وهي دير الرّهبان، والبيع وهي الكنائس، وأخبرني الأب المارونيّ حنّا إسكندر أنّ «البيع هي الكنيسة لها قبّة دائريّة، وفي السّريانيّة البيعة يعني البيضة، أي أعلاها على شكل بيضة، وهنا بمعنى الكنيسة بالشّكل البنائيّ»، والصّلوات كنس اليهود، والمساجد معروفة، وسنّة التّدافع تؤدّي إلى حفظها لا إلى خرابها، ونشر الخوف فيها، وفي الأدبيّات عن أبي بكر الصّديق (ت: 13هـ): «لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصّوامع».

فأصبح من المستقرّ حفظ عبادات النّاس ولو وقت الحرب، فكيف بحالة السّلم، وأصبح مستقرّا عقلا واجتماعا أنّ الّذي يدخل أيّ دور عبادة يشعر بالأمان والاطمئنان فيها، وأنّ الاقتراب منها تخويفا أو فسادا جرم كبير، ولو اختلفوا مع دائرة المجتمع الأفقيّة عقائديّا أو طقوسيّا، فهذا لا يرفع حريّة المعتقد وممارسة الطّقوس، وحريّة أن تكون لهم أماكن عبادتهم، لها حرمتها ومكانتها، فما نراه اليوم في عالمنا العربيّ من حين لآخر من تفجير وخراب لكنائس ومساجد وحسينيّات ودور عبادة، وإرهاب من فيها؛ يقف المرء أمامها حيران، أهو تخطيط سياسيّ مسبق لإثارة الفوضى الدّينيّة والطّائفيّة في عالمنا العربيّ، أم هو انحراف فكريّ ومعتقديّ تؤمن به بعض الجماعات المتطرّفة، وتبرّر له فكريّا وعقائديّا، أم هو نتيجة خطاب سلبيّ أدّى إلى مثل هذه النّماذج الأليمة، والّتي تؤثّر سلبا في التّعايش السّلميّ، وتقضي على التّعدّديّة في العالم العربيّ، فنحن بحاجة إلى مراجعات أكبر ليس لحفظ المقدّسات التّعبديّة فحسب؛ بل لحفظ حريّات النّاس، وأنّ جميع أوطاننا العربيّة تسع اختلافاتهم وتوجهاتهم، وتتعامل معهم إنسانيّا، وتترك ما عدا ذلك لاختياراتهم، ليشعر الجميع أنّ الأمن والانتماء يأتي من داخلهم كأمّة واحدة، لا أن يكون معلّقا بجهات معيّنة يظهر خلافه عند أدنى اضطراب أمنيّ وسياسيّ.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

(في الأكاذيب المُخادعة، والمعارف المضللة، والمكور المُهلكة)

القلم: كنت قد اعتدتُ التجسس على وحي أفكار صديقي الكاتب كيما أتعرف على طبيعة المداد الذي يسكبه في أحشائي حتى أسطر به الأوراق التي تحوي الكلمات والجمل المعبرة عن المقاصد والمآرب، تلك التي تستقبلها الأذهان فتقود بدورها المدركات والمشاعر وتولد آليات الفصل بين الأخطاء والصوائب، فبصرتُ إلهامات علوية تقود كاتبنا للكشف عن مخاطر الأضاليل والأكاذيب والمكائد التي باتت عُدة المخططين المعاصرين للحروب ومخترعي الأسلحة ومفتعلي الكوارث والمصائب، وفطنت أن الدلالات والمعاني وألفاظ الكلام ما هي إلا أجراس تنبّه الأيقاظ وتوقظ النيام، وتأكد لهم أن حروب هذا العصر لها أساليب شيطانية فالوسوسة وإفساد الأفكار، أقوى من البارود والقنابل في هدم الحضارات وتفكيك المجتمعات وإحداث الدمار.

وتذكرت لحظتها سفسطة الكذب التي ابتدعها إبليس، وصنع منها سيف المخادع وخنجر الخائن وسم المتآمر الخسيس.

وأدركتُ كذلك حكمة فلسفة الكذب التي حوتها أقوال الفلاسفة والحكماء لمناهضة وساوس الشيطان الماكر، وتيقنت أيضًا من صدق نية كاتبنا الذي أزمع أن يحدثنا عن تلك المخاطر وآليات الإنقاذ من شرورها الخفي منها والظاهر.

الكاتب: مهلًا أيها الرفيق، في زمن غاب فيه ود الصديق وحنان الشقيق؛ فلما العجلة فقد اخترقت الحجاب المستور، الكامن في السرائر من الأفكار والأمور. وقادتك ظنونك أني أهملت أسئلتك واستفساراتك التي شغلت بالك وبدلت أحوالك. واعلم أني وضعتها في بؤرة الشعور والاهتمام، وهي قيد البحث والتحري حتى تسلم جوائبها من التدليس والأوهام والإيهام.

فسؤالك عن كيفية استحالة الكلمات والمعاني والدلالات إلى قنابل وألسنة من اللهب، وصواريخ تنطلق من جوف الأرض، فتبدد سكينة الأمنيين إلى دمار تعجز عن وصفه كتب التاريخ، ذلك فضلًا عن تحول الحوارات إلى صراع وعراك بين الدول والحضارات، وانقلاب رؤساء البلاد القوية، إلى نهيبة وبلطجية، وقطاع طرق لسرقة أرزاق المستضعفين والمسالمين والمغفلين والمخدوعين بأكاذيب النخب المأجورة، والجماعات المدسوسة المفطورة على الغش وبصناعة الفتن وبالخيانة مأمورة.

ولما العجب يا صاحبي فقد سطر معجم الدروس، ومفردات القاموس عصبة من المحتالين واللصوص. فعرّفوا الحرية، بأنها لعبة مخفية، يتاجر بها في المجتمعات الرجعية وأصحاب الديانات السماوية؛ تارة باسم العقلانية والعلوم والمدنية، وأخرى من أجل المساواة وحقوق الأقلية.

وللحرية دلالة أخرى لا يعيها إلا أبناء الأمم الراقية، من الأوربيين والأمريكان وأصحاب البنوك والشركات والأقمار والاتصالات التي تجوب الآفاق السارية.

وقالوا عن العدالة: أن ميزانها من صنعهم الذي لا يقضي إلا بأحكامهم؛ فمن أبى وعصى جزاءه السجن والشنق والعصى، وإن كان مظلوماً ..

أمّا الكريم من أصحاب المعالي؛ فهو المستبد الذكي الحصيف الذي يفتح خزائنه ليعطيهم؛ فجرائمه تستحق الحماية وأنين شعبه يحتاج للأدب والرباية.

وقالوا عن العولمة: أنها خدعة وهمية يصعب تحقيقها في زمن العقول الغبية، إذ ذاك أمكن أن يكون للحديث بقيّة.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم