آراء

عبد الحسين الطائي: الأول من أيار 1886.. حكاية كفاح

الأول من أيار/ مايو مناسبة عالمية تحتفل بها اغلبية الشعوب تكريماً للطبقة العاملة ودورها النضالي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. يوم تتوحد فيه الأصوات المطالبة بالحقوق، ويستحضر فيه التاريخ لحظات من التضحية والكفاح التي مهدت الطريق نحو بعض من قوانين العمل العصرية التي انصفت نضال العمال وأكدت القيم الإنسانية.

تعود جذور هذا اليوم إلى أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً إلى عام 1886 في مدينة شيكاغو. كانت امريكا تعيش بداية الثورة الصناعية، وكان العمال الأوروبيون المهاجرون إلى "العالم الجديد" يمثلون الشريحة الأكبر في القوة العاملة، وكانت ظروف العمل قاسية وغير آمنة مقابل أجور زهيدة وساعات عمل طويلة. تلك الظروف حفزت النقابات العمالية في امريكا في الأول من أيار 1886، بتنظيم إضراباً واسعاً شارك فيه أكثر من 300 ألف عامل. حركة احتجاجية واسعة طالبت بحقوقها، كان من بين قادة الحركة العمالية عدد كبير من الاشتراكيين والشيوعيين واليساريين الذين كانوا يؤمنون بضرورة إنهاء الاستغلال، قُوبلت الاحتجاجات بعنف من قبل السلطات، نتج عنها عدد من الضحايا.

وتبع ذلك حملة قمع واعتقالات عنيفة ضد قادة العمال، ومع استمرار الاحتجاجات السلمية، وقعت حادثة عُرِفت باسم "مجزرة هايماركت" (Haymarket Riot)، ألقى شخص مجهول قنبلة على رجال الشرطة عندما كانوا يفرقون العمال المضربين. أدى الانفجار وإطلاق النار الذي تلاه إلى مقتل (7) من رجال الشرطة و(4) من العمال. وبعد المحاكمة التي جرت بعد حادث الانفجار، تم الحكم على ثمانية من القادة النقابيين بتهمة الضلوع في الهجوم، وأعدم أربعة منهم عام 1887.

 تبلورت فكرة الاحتفال بالأول من أيار كيوم رمزي لتكريم نضال العمال عبر العالم، وفي عام 1889، كتب رئيس اتحاد نقابات العمال في أمريكا إلى المؤتمر الأول للأممية الثانية الذي عقد في باريس (وهي منظمة أممية لليسار والعمال) لتبني فكرة أن يكون الأول من أيار يوماً للاحتفال العالمي بحقوق العمال. وقد استجاب المؤتمر لهذه الدعوة عرفاناً بتضحياتهم وتوحيداً لصفوفهم في مواجهة الظلم والاستغلال. ومنذ ذلك الوقت، اصبح مناسبة رسمية تحتفل الكثير من بلدان العالم سنوياً بهذا الحدث التاريخي من خلال إقامة احتفالات ومسيرات ومهرجانات وندوات ثقافية تؤكد على حقوق العمال وضرورة تحسين ظروفهم.1411 iraq

وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، تغير مسار الخريطة العالمية، وأصبح الصراع الطبقي والانقسامات السياسية والاقتصادية أكثر حدة  ووضوحاً، وظهرت الكثير من المفاهيم الحقوقية التي تصب في تعزيز دور الطبقة العاملة في نضالها ضد الإستغلال والجشع الرأسمالي. وأخذ الأول من أيار "عيد العمال"، يحمل أبعاداً فكرية تتجاوز الطابع الاحتفالي، ليكون مناسبة لتعزيز قيم العدالة والمساواة والكرامة، وليذكرنا بأن العمل ليس فقط وسيلة للعيش، بل ركيزة أساسية للهوية الإنسانية، لتحقيق الذات والمساهمة في بناء المجتمعات، ولترسيخ فكرة التضامن الطبقي والوحدة بين مختلف فئات الشعب في مواجهة سياسات التهميش والتمييز.

وفي عالمنا المعاصر، تتعدد صور المعاناة والتحديات العمالية، التي تتمثل في تصاعد معدلات البطالة، وهشاشة العمل غير النظامي، وانتشار العمل غير الآمن، فضلاً عن التأثيرات السلبية للتطور التكنولوجي المتسارع، والاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي، ما يستدعي تأملات جادة حول مستقبل العمل وحقوق الإنسان في ظل الرقمنة. وهو أيضاً دعوة للحكومات وأرباب العمل إلى تبني سياسات عادلة ومستدامة تضمن الحقوق العمالية، وتوفير بيئة عمل آمنة، لتحقيق التوازن بين متطلبات السوق وكرامة الإنسان.

فالاحتفال بالأول من أيار يعبر عن وعي العمال في تجسيد رمزية وفكرة الصراع الطبقي (كما تحدث عنها ماركس)، حيث تتجلى علاقات القوة بين الطبقة العاملة وأصحاب رؤوس الأموال. ويسهم في بناء الهوية الجماعية للطبقة العاملة، من خلال المشاركة في الفعاليات العمالية الشعبية التي تؤكد الانتماء إلى مجموعة اجتماعية لها مصالح مشتركة، قيم مشتركة وتطلعات متشابهة. وبذلك فهو مناسبة لإبراز التضامن الاجتماعي، ليس فقط بين العمال على المستوى العالمي بل امتدت تأثيراته على الأصعدة المحلية، هذا التضامن تجاوز الأفراد ليشكل روابط اجتماعية قوية تصب في تعزيز التماسك الاجتماعي داخل الطبقة لتسلط الضوء على القضايا الحقوقية المطلبية كالمساواة في الأجور، والحماية الاجتماعية، والمشاركة في مجالات العمل النقابي وصنع القرار السياسي والاقتصادي، وبالتالي نقل هذه القيم والأعراف من جيل إلى آخر.

أولت الأحزاب الشيوعية واليسارية في أغلب دول العالم أهمية كبيرة للحركات العمالية في إعادة إنتاج القيم والرموز الثقافية للطبقة العاملة، قيم الكفاح من أجل المطالبة بالحقوق وتفعيل عمل المؤسسات الاجتماعية مثل النقابات والأحزاب اليسارية كوسائط تنظيمية، تعبوية وتفاوضية لصالح العمال. وبإضفاء الشرعية على المطالب، وخلق آفاق للاعتراف بقضايا العمال بشكل رسمي وشعبي، كفاعل اجتماعي قادر على التأثير في عملية التغيير الاجتماعي.

إحياء عيد العمال ليس مجرد تقليد سنوي، بل فعل نضالي مستمر، كحق مطلبي أساسي وقيمة إنسانية، ومصدر لتحقيق الذات والمشاركة الفعالة في مجالات التنمية، مما يتطلب من المجتمعات التمسك بقيم التضامن والعدالة، وتكريسها في السياسات والتشريعات. ويمثل هذا اليوم دعوة لتجديد الالتزام بالمبادئ التي طالما نادى بها المفكرون التقدميون والنقابيون، وعلى رأسها: قيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل عامل دون تمييز.

والغريب بالأمر أن الولايات المتحدة، مهد الحراك العمالي للأول من أيار، لا تحتفل بعيد العمال في الأول من مايو، بل تحتفل به في أول اثنين من شهر سبتمبر (عيد العمل – Labour Day)، وذلك لتجنب ربطه بجذوره الاشتراكية والاضطرابات العمالية. أما في معظم دول العالم، الأول من أيار عطلة رسمية، يتم فيه تنظيم مسيرات ضخمة يقودها النقابيون والأحزاب اليسارية. بعض الحكومات تعترف بهذا اليوم رسمياً لتفادي الغضب الاجتماعي، واحتفالات العمال بهذا اليوم هو تذكير سياسي مستمر بأن العمال ليسوا مجرد قوة اقتصادية، بل فاعلون سياسيون يطالبون بحقوقهم: الحق في التنظيم النقابي، الإضراب، المشاركة في صياغة السياسات العمالية. ويشكلون مجموعة ضغط مؤثرة في القرارات الحكومية. 

 بدأ العراق بالاحتفال الرسمي بعيد العمال العالمي في الأربعينيات من القرن العشرين، بالتزامن مع تطور الحركة العمالية والنقابية في البلاد، خصوصاً بعد تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق عام 1944. وبمرور الزمن وبعد سقوط الملكية، أصبح الأول من أيار يوماً معترفاً به، تُنظم فيه فعاليات نقابية ومهرجانات وخطب سياسية وثقافية تركز على حقوق العمال وأوضاعهم المعيشية، وقد لعبت الحركات النقابية وقوى اليسار، خاصة الحزب الشيوعي العراقي، دوراً مهماً في ترسيخ أهمية هذا اليوم داخل المجتمع العراقي بأن يكون له طابع نقابي وشعبي وإعلامي، لا سيما بعد ثورة 14 تموز 1958، التي جعلت المسيرات فرصة يتجدد فيها إحياء الذاكرة النضالية. (أرسل لي مشكوراً مؤرخ ثورة تموز الأُستاذ هادي الطائي صور مرفقة داعمة لذلك).

يواجه العراق الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية والنقابية، كارتفاع معدلات البطالة بين الشباب والخريجين، وعمالة الأطفال، وغياب الحماية القانونية للنقابيين، وانعدام الرقابة على بيئة العمل. ورغم وجود نقابات، إلا أن الكثير منها يُعاني من التسييس أو القيود القانونية التي تحدّ من القدرة على تمثيل العمال بشكل حر ومستقل. واليوم التركيبة السياسية الطائفية والمحاصصة جعلت من الملفات العمالية ملفات مؤجلة أو ثانوية أمام صراعات السلطة، وقوانين العمل غير مفعّلة ولا تواكب التحولات العصرية. ورغم ظروف اللاستقرار الأمني، يظل عيد العمال مناسبة حيوية تعبّر عن طموحات الطبقة العاملة في السعي إلى حياة معاشية كريمة. وفي كل عام، ترتفع الأصوات للتذكير بأن العدالة الاجتماعية تبدأ من احترام العامل، وحماية حقوقه، والاعتراف بدوره في إعادة بناء العراق.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

 

في المثقف اليوم