آراء
ابراهيم العبادي: بناء الدولة في العراق.. النداء السيستاني الاخير!!.
خمس وعشرون دقيقة استغرقها لقاء الممثل الجديد للامين العام للامم المتحدة في العراق الدبلوماسي محمد الحسان مع المرجع الديني الاعلى السيد علي السيستاني يوم الرابع من تشرين الثاني عام 2024، غداة اللقاء صدر بيان لخص مادار من حديث المرجع الاعلى مع الممثل الامني، بعدها بساعات توالت بيانات القوى السياسية العراقية تكرر تبنيها للمقولات الاساسية التي اشار اليها المرجع، في حين كان المعني بالعتاب اولا واخرا هي القوى السياسية ومن والاها التي ادارت وشاركت واستمرت تستثمر في العملية السياسية ولم تتمكن من تحسين احوال العراق كما ينبغي بل بقي العراق يواجه التحديات التي اقلقت وتقلق المرجع وهو الذي رعى وواكب البناء السياسي في العراق منذ التغيير عام 2003، واستمر بتوجيه الارشادات والنصائح واتخاذ المواقف ليستعيد العراق عافيته دولة مزدهرة ذات سيادة.
المفارقة الكبرى لم تكن فيما كرره المرجع الاعلى من قضايا واولويات وسياسات ينبغي العمل عليها، فقد سبق ان تحدث بنفس القضايا طيلة عشرين عاما، ووجد ان الاستجابة لها كانت لفظية بيانية وخلافها كان عمليا وعيانيا، المفارقة الجديدة كانت في البيانات والتفسيرات والتأويلات التي ذهب اليها متحدثون وكتاب كثيرون حاولوا ان يجدوا اعذارا لمواقف احزابهم والجهات التي يمثلونها أو التي يميلون اليها، فيما ذهب بعض اخر الى الهمز واللمز والتعبير عن عدم الارتياح من ما شدد عليه المرجع من اولويات في الظروف الحرجة التي يمر بها العراق خصوصا فقرات (منع التدخلات الخارجية بمختلف وجوهها)، و(حصر السلاح بيد الدولة)، و(مكافحة الفساد على جميع المستويات) و(اعتماد مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنم مواقع المسؤولية)، فجميع هذه المباديء الاساسية من مستلزمات بناء الدولة، اي دولة، فيما تشتد الحاجة للاخذ بها في العراق اكثر من اي وقت مضى، فالتيه والضياع هما الموشران الواضحان على مسار الحياة السياسية العراقية، وقد يتواصل مسلسل العزوف الجماهيري عن المشاركة السياسية، فيما تستمر حالة الانتظار والقلق التي تغلف وتغطي فضاءات المشهد السياسي مع تزايد احتمالات نمو الرفض والاعتراض وبلوغها مرحلة التصعيد، رغم جهود الحكومة الحالية في حلحلة الملفات المعقدة، الحياة السياسية تعاني من مخاطر كبيرة واحزاب السلطة والقوى التي ترتبط بها تتحرك بعيدا عن المسارات السليمة لبناء دولة مستقلة، تحقق انجازا تنمويا حقيقيا، وتصنع املا واعدا للجمهور، وتقلل مظاهر الفساد واللامساواة في توزيع الثروة، وتمنع تغول قوى واتجاهات محددة في المجتمع، لتستولي على المجالين الاقتصادي والسياسي وتؤسس دولة عميقة او دولة موازية .
المرجع الاعلى تحدث عن مخاوفه التي يشاركه فيها ملايين العراقيين، ووصفها بانها تحديات كبيرة يعاني منها العراق والعراقيون على اكثر من صعيد، لكنه لم يوجه دعوته الى السياسيين لمراجعة الاخفاقات والتعلم من دروسها، بل دعا (النخب الواعية) الى العمل بجد وبذل قصارى الجهد في سبيل تحقيق مستقبل افضل للعراق، مشترطا الاعداد لخطط علمية وعملية لادارة البلد اعتمادا على مبدأ الكفاءة والنزاهة في تسنم مواقع المسؤولية، والعودة الى النخب الواعية على لسان المرجع الديني تشير الى وعي عميق لدور النخب في بناء الدول، وحاجة العراق الى النخبة الواعية المسؤولة لتباشر هذه المسؤولية والمهمة الصعبة، فهل يتوفر العراق على هذه النخبة فعلا ؟ هل النخبة فئة مؤثرة اجتماعيا وثقافيا وقادرة على صنع رأي عام وتوجيه الجمهور وبناء النموذج البديل ؟، في ظني ان قضية النخبة تعيد الحديث مجددا الى فشل الوجودات السياسية العراقية في انتاج وتكييف واستيعاب من كان صالحا للاندراج في قوائم النخب، النخب التي تستطيع العمل لبناء الدولة وتسييرها، لسببين، الاول، عدم ايمان الاحزاب نفسها بدور النخب، لان اكثر هذه الاحزاب ايديولوجية ولم تفقه اهمية توافر النخب والعناصر البيروقراطية بالمعنى الفيبري، انما كان الذي يحظى بالعناية والاهتمام اولئك الذين يقدمون الولاء والطاعة للزعامات، وكان ذوو الفكر والعقل النقدي موضع ريبة وتجاهل، وقد استمرت الجماعات السياسية تقدم عناصرها القريبة من زعيم التنظيم على العناصر المتعلمة والقادرة على الادارة والبناء، والسبب الاخر هو هشاشة البناء الفكري والسياسي وضعف الاهتمام بقضايا الدولة وبناء مؤسساتها، اذ الاهتمام الفعلي هو الوصول الى السلطة والمشاركة فيها بصرف النظر عن الكفاءة والنزاهة، فيما بقي الوعي بالدولة ناقصا ومشوها ومضطربا، لذلك اتسم الاداء السياسي مشوبا بالضعف والفساد، مستندا على منطق الصفقات وتبادل المنافع والمصالح، بما رسخ منطق المحاصصة التي ارهقت كاهل الدولة وأعاقتها من تحقيق منجز معقول، وصار الاستحواذ على السلطة يحمل معنى الاستحقاق الانتخابي او المشاركة في الغنيمة .
المرجع الاعلى حمل النخب مسؤولية الاصلاح والتغيير وتدوير الحال السياسي بأخذ العبرة من الاخفاقات السابقة، لكن القوى التي تمسك بالسلطة وترسم السياسات لاتريد التخلي عن مكاسبها رغم الاخفاق العام، وترفض المراجعة والاعتراف، لذلك لم يجد المرجع سبيلا لتحريك الجمود سوى بدعوة النخب للتحرك، وهي دعوة تستبطن الاحباط والغضب واليأس من تحسن قريب للاوضاع باستمرار العقل السياسي يكرر نموذجه السلطوي، ولا اعتقد ان المرجع بوارد الحديث مجددا عن علل تخلف العراق عن بناء دولته العتيدة، فقد نفث ما بصدره وربما جاء هذا النداء ليكون خاتمة الاحاديث .
***
ابراهيم العبادي – كاتب وباحث عراقي