آراء

التجاني بولعوالي: أي علاقة بين إيران - الشعب وإيران -النظام؟

ما استخلصته هذه الأيام من النقاش الحامي الوطيس حول إيران هو أن أغلب من يتكلم في الموضوع، يخلط بين مصطلحات ثلاثة، وهي: "إيران"، "الشيعة" و"النظام السياسي الإيراني". ولا يقتصر هذا الخلط المسفّ على عوام الناس، بل يتجاوزهم إلى من يعتبرون أنفسهم مثقفين ومفكرين ومحللين، وهنا تكمن المشكلة!

أعتقد شخصيا أنه ينبغي أن نكون دقيقين، وفي الوقت نفسه حذرين في التعاطي مع هذا الإشكال القديم الجديد، حتى نستوعب على الأقل أولا المعركة في بعدها المفاهيمي، قبل أن نمضي إلى الأبعاد الأخرى كالعقدية والتاريخية والجيو-سياسية والعسكرية والإعلامية. وهذا لا يختلف كثيرا عما يطلق عليه إدزارد سعيد "سياسة الكلمات"، حيث تتراشق الأطراف بالكلمات، ويحاول "كل طرف إنشاء مواقف معينة، وتبرير أفعال معينة، وفرض بدائل معينة على الطرف الآخر".

ولعل استيعاب المصطلحات الثلاثة المشار إليها أعلاه من شأنه أن يخفف من درجة الشحناء والتباغض والكراهية التي تنشب بين أطراف المعركة، وغالبا ما يكونان "الشيعة" و"السنة"، ليس بالضرورة في الواقع الفيزيقي المعيش، بل المعركة أصبحت تحتدم أكثر فقهيا وإيديولوجيا وإعلاميا، وهذا ما يغذي بشكل أو بآخر التصارع السياسي والتدافع الميداني.

إن لفظة إيران أو شيعة لها حمولات مغايرة، بل ومتعارضة مع مصطلح النظام السياسي الإيراني الذي يُحبَّذ أن يستعمل في مثل هذا النقاش. إيران تحيل على الجغرافيا والتاريخ والثقافة والأدب والشعب بمختلف مكوناته العرقية والإثنية، كالفارسية والتركية والكردية والعربية والتركمانية. أما فيما يتعلق بالتركيبة الدينية، فتتّسم إيران بالتنوع حيث الهيمنة للدين الإسلامي، مع وجود أقليات دينية بهائية وزراديشتية ويهودية ومسيحية. ومن بين المسلمين يقدر عدد السنة ب 20%، أي ما بين 10 و20 مليون نسمة. وعندما نتأمل العلاقة بين إيران-الشعب وإيران-النظام نجد أن قسما مهما من الشعب (بما في ذلك الشيعة أنفسهم) غير راضين عن النظام السياسي الإيراني. لذلك، فمن اللامعقول أن نماثل مصطلح إيران بمصطلح النظام السياسي الإيراني، ونضع الجميع في سلة واحدة دون تمييز وتمحيص.

وهذا ما ينطبق أيضا على لفظة شيعة التي يتقاطع فيها ما هو عقدي وكلامي وتاريخي وسياسي وفقهي. والشيعة على مذاهب متنوعة، بل ومتشظية، حيث الهيمنة في إيران للمذهب الإثنا عشري أو الإمامي (أكثر من 90%)، ثم يليه الإسماعيلي، فالزيدي بنسبة صغيرة. وتعود هذه الهيمنة الإثنا عشرية إلى الحكم الصفوي ما بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، والذي اتخذها مذهبا رسميا للدولة. وتذكر المصادر التاريخية أن إيران ظلت سُنية طوال أكثر من ألف عام، قبل أن ينطلق المذهب الصفوي إليها من أذربيجان، لتُشيّع معظم أقاليمها، وينتقل التشيع إلى بلدان أخرى مجاورة أو نائية.

وقد تابعنا عام 2022 الاحتجاجات الشعبية في إيران ضد النظام الحاكم، والتي قُتل أثناءها حوالي 500 شخصا، واعتقل حوالي 20 ألفا، حكم على 13 منهم بالإعدام. ألا يعني هذا أن الشيعة، كمكون شعبي مهم في إيران، ليسوا على توافق كامل مع النظام السياسي الإيراني؟ فما أكثر المواطنين الشيعة الذين يعارضون النظام القائم في بلادهم، غير أنهم غير قادرين على التعبير عن ذلك. وما أكثر الإيرانيين الشيعة الذين بمجرد ما يهاجرون إلى الخارج يكشفون عن معارضتهم الشرسة للنظام السياسي في وطنهم. وهذا ما يدل على أن الشيعة بكونهم مواطنين لا يمثلون بالضرورة النظام السياسي الإيراني، ولا يمكن التعامل معكم بدونية وتنقيص، لا لشيء إلا لأنهم إثنا عشرية أو إسماعيلية أو زيدية؛ فهذا قدرٌ لم يختاروه بأنفسهم، ما دام أنهم ولدوا في بيئة شيعية وفي ظل نظام سياسي صفوي يعادي ما هو سني!

أما مصطلح النظام السياسي الإيراني، الذي تريثنا عنده أكثر من مرة في الفقرات السابقة، فذو طبيعة عقدية معقدة وأهداف إيديولوجية استراتيجية، حيث العلاقة بين الدين والسياسة تترابط وتتكامل لتمنح لنا نظاما ثيوقراطيا مطلقا. ويتذكر الجميع كيف نشأ هذا النظام تاريخيا جراء الثورة الإسلامية (أو الانقلاب الخميني) التي نشبت ما بين 7 يناير 1978 و11 فبراير 1979. وهذا لم يكن اختيارا شعبيا، أو بالأحرى لكافة شرائح الشعب الإيراني التي لم تخل من معارضين سريين أو علنيين طوال هذه الحقبة التي تمتد إلى حوالي نصف قرن من الزمن.

الخلاصة مما سبق، هي أنه ينبغي لنا أن نميز في كلامنا ونقاشنا بين المصطلحات الثلاثة: "إيران"، "الشيعة" و"النظام السياسي الإيراني"، بالإضافة إلى مصطلحات أخرى لم نناقشها كالصفوية والرافضة والملالي وغيرها. وذلك لأن كل مصطلح ينفرد بمعنى خاص به، رغم أن هذه المصطلحات تظهر للوهلة الأولى وكأنها مرادفات. ومرد ذلك إلى أننا اعتدنا على تليقها من وسائل الإعلام والفكر والسياسة  بهذه الطريقة، فترسخ المعنى المشترك الذي يتقاطع بينها في أذهاننا وواقعنا على حد سواء. ونحن لا نلوم عوام الناس على عدم التفريق بينها، بل نستغرب ممن يُنصّبون أنفسهم مثقفين وخبراء وهم لا يميزون بين معانيها المختلفة في الاشتقاق والدلالة والاصطلاح  والفكر. أن تكون إيرانيا لا يعني أن تكون بالضرورة شيعيا بالمفهوم العقدي أو الإيديولوجي المتعصب، وأن تكون شيعيا لا يعني بالضرورة أن توالي النظام السياسي القائم في البلاد؛ فما أكثر الإيرانيين الغير راضين على نظام الولي الفقيه سواء من الشيعة أو من غيرهم!

***

بقلم/ التجاني بولعوالي

في المثقف اليوم