آراء

آراء

كنت نشرت اصبوحة عن مائدة نزهت، هذا نصها: (كنت أريد أن أبدأ لقائي الصحفي معها لمجلة الإذاعة والتلفزيون باغنيتها "على دربنا يحوم جذاب الاسمر" فخرجت لابسه أبيض بابيض وقالت: انا ذاهبة للحج، ورجتني أن اتوسط لدى الصحاف" لرفع أغانيها من الإذاعة والتلفزيون مع أن زوجها الفنان " وديع خوندة" هو الأقرب.

ما سر حج الفنانات بيت الله؟

وقبل ان نبدأ بالتحليل، اليكم نماذج من اجابات اكاديميين ومثقفين واعلاميين، كما هي:

 السر واضح لكل متابع.. هناك فهم جمعي مغلوط اخذ عن طريق الشيوخ ورجال الدين ان الذي يعمل بالفن بشكل عام والغناء بشكل خاص قد ارتكبوا خطايا ومعاصي،،، ولذا من الواجب التوبه من خلال الذهاب إلى الحج ليمحي ما سلف من أعمال وأفعال غير صحيحه، ولكن رأيي ان التوبه ليس شرطا ان تكون في الحج بل قبله أيضا، كما أن الغناء والموسيقى ليس محرما في ديننا فلم يرد ضمن المحرمات ال ١٤.

 دكتور الانسان بفطرته يركن للتقرب الى الله، احيانا بالصلاة الكثيرة او الزكاة او الصوم او الحج.. وفنانة مشهورة مثل المرحومة مائدة نزهت وجدت ان العمر تقدم بها، ناهيك عن شعور الفنانين انذاك بقسوة النظام واجبارهم على الغناء لتعظيم صدام والبعث وفقدان الفن لهويته بفعل اجواء الحرب مع ايران والتوجه للاغاني التعبوية.. كل تلك الضغوط ربما ساهمت بقرار نزهت، وانها ادخلتك كوسيط لشعورها بالخوف من ردة فعل الصحاف. حقظكم الله دكتور

 بضاعة بارت، وعمر يفنى، وجسد أكلته السهرات والمساحيق، وقد يكون الخوف من الآتي الاني والبعيد.

 الركون الى التدين، يأتي بعد الشعور بضعف بدني او نفسي نتيجة التقدم بالعمر أو" الفقر على الأغلب، " أو الشعور بالذنب بعد طول ترك طقوس الدين.. (فالله غفور عفوررحيم).

 لأن بعد ما يتقدمن بالعمر يتولد لديهن شعور بأن الغناء حرام، وبالتالي يتولد لديهن الشعور بالذنب وأن الله غاضبا عليهن لأنهن امتهنن الغناء في الشباب وسيحرمن من دخول الجنه.

 الانسان بطبعه حينما يكبر يميل الى الاستقرار،،، بعد ان اخذته الحياة والتفت به في مشاربها ومساربها المختلفه وتعبت ارجله وقله عزمه وتراخت قواه وتورمت اجفانه وأينعت ذاكرة النسيان ووسوست له نفسه ان الامتحان قريب، عاد ليمني النفس بكثبان ماجرى وما حل، ويصغي ايضاً لندائها الخفي اذ لابد من الهچوع والركون وتجاوز الضعف الى ربوع العزله وتقنين كل شيء حتى الاصدقاء ثم الانحدار الى مستويات الشفقه والبحث عن بوصلة الطقس المغترب او الركن غير المؤثث ليمسك بعصى الطاعة والايمان والتفكير الجدي بأن هذا الركن المبعثر ليكن حمالة التدين وشفيف العبادات وربما الطقوس بدلاً من ان يكون حمالة الحطب في نار وقودها الناس والحجاره.

 الانسان يولد على الفطرة وينشأ ويتربى في مجتمع اسلامي ؛ وعندما يكبر ويدرس ويخالط ناس اخرين فقد يتأثر بهم سلوكيا وفكريا، وبما انه يمر بظروف حياتية مختلفة فأنه يبدأ بالتفكير بأنه ميت لا محالة وانه ذاهب الى عالم اخر، فيبدأ بالتراجع عن افكاره الالحادية، فتجده يعود الى الصلاة والصوم وكل الشعائر الاسلامية. وهذه الحالة وصفها القرن الكريم بقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

 احد المطربين الكبار قال مرة :انا لست آسف على ما قدمته من غناء لترسلني الدولة للحج وانا اتوب. لم ترسله الدولة ولم يتب.

 ما بالك بمن تذهب للحج وترجع تتعرى وترقص كما بعض الفنانات!

ومن جميل ما قرأت انه في العام 2017 (وقبله ايضا) ذهب عدد من الفنانين والفنانات للحج، اليكم نماذج عنها من التعليقات.. معظمها ساخرة:

 آيمه حسين الجسمي راح يفخخون الكعبه

 لا هو مبين رح يتقبل اذا يرحون ويرجعون نفس ما همه. مع الاسف يمثلون الاسلام بهالطريقه.

 جان. اخذتو معاكم اليسا وهيفا ونانسي حتى تكمل!

 والله الحج للفنانيين اوبن تكت، واحنا نناضل صار عشر سنيين بدون فائده.

 كلهم على راسي بس ديانا كرزون وين مول الحارثية وين اللبس الفاضح خره بعقلج شكد نغلة قطت المول 110 مليون راحت بيهن للحج ام اللفيح!

 هيى خربانه ناس كلها معاصي شلون يصير تروح للحج حتى فلوسهم حرام!

 والله يا ربي لو تشيله لبيتك احسلك.. راح تجيك سمعه وين ماكو رقاصه تجيك!

 لج باوعي كولهم رايحين بس لا راح يسوون حفله بالسعوديه

 حتى الي يروح للحج ما راضين عليه على منو ترضون حتى رب العالمين، حار وياكم ياشعب!

 الظاهر ان الذهاب الى مكة هذا هو ليس للحج وانما لاخذ الصور وارسالها الى مواقع التواصل الاجتماعى. اهكذا هو الحج يا امة محمد. اهكذا علمكم رسول الله. الحج تفرغ للعبادة فى ايام معدودات. ما ادري ليش يحجبون نساءهم بمكة وخارجها يدافعون وبشراسة عن السفور وان الله لم يفرض الحجاب ويتحدونك بان تأتي بديل وانه رمز للحرية الشخصيه؟

 يتصورن الحج يكفر عن الذنوب !!!! اليوم اصبح الحج مثل باب الأغا.. يتسابق اليه كل من هب ودب.

التحليل

لست متخصصا في الدين، ما اقتضى ان اراجع اطاريح دكتوراه ومقالات علمية رصينة عن الحج والتوبة تمكنني من تحليل الحج بقصد التوبة. فوجدت ان للحج والتوبة مفاهيم متعددة، لكننا سنحددها بالتعرف على سيكولوجيا التوبة من المنظور الأسلامي، برغم تعدد الآراء الأسلامية فيها ايضا!

سنعتمد هنا تعريف التوبة من المنظور الاسلامي بأنها: عملية نفسية يقوم فيها الفرد بالتوقف عن سلوك مرفوض (إسلاميا) ؛ بعد معرفته لضرره، وندمه عليه ؛ مصحوبا بنية خالصة في عدم العودة إليه، والتخلص من الشعور بالذنب والعيش بقية عمره بهدوء بال وراحة نفسية.

وللتوبة ثلاثة شروط : الأول.. الأقلاع عن المعصية وعلامته مفارقة الذنب فورا، والثاني.. الندم على فعلها، وعلامته طول الحزن على ما فات، والثالث.. العزم على أن لا يعود إلى معصية أبدا، وعلامته التدارك لما فات وإصلاح ما يأتي.. فان فقد احد الشروط فأنه لم تصح توبته.

اما الحج فهو في المنظور الاسلامي يعد الركن الخامس من اركان الأسلام، وهو واجب مع الأستطاعة، اما العاجز فلا حج عليه، فيما يعني الحج في منظور علم النفس الأجتماعي بأنه سلوك او فعل او حدث يقوم به الفرد وينجم عنه راحة نفسية ودينية وروحية ويحقق له مكانة اجتماعية واعتبارية تتجسد بمخاطبة الآخرين له بلقب (الحاج او الحاجة).. يحصل فيها على احترام الناس ان كان سلوكه وتصرفاته تلتزم بقيم الدين، ويعيبون عليه، او يسخرون منه، ان كانت مخالفة لها.

والتساؤلات:

 هل الحج يلزم التوبة؟

الجواب: نعم.. دينيا، ولا.. عمليا

 وهل الغناء او التمثيل.. حرام؟

الجواب:

لم يرد نص ديني صريح بذلك، لكن علماء المسلمين يعدونه حراما اذا كان فيه فاحشة، وعاديا ان خلا منها، ومباركا ان كان يبتغي مرضاة الله.، فيما ترى الأغلبية الأجتماعية ليس حراما.

 وهل تقبل حجة الفنانة، الفنان.. من مال هو بمنظور الدين.. حرام؟.

الجواب: بمنظور اجتماعي.. لا تقبل، وبمنظور علماء الدين.. تختلف المواقف، لكنها تتفق اذا كانت متبوعة بتوبة نصوحة.. لأنك ان قلت لا تقبل فهذا يعني ان التوبة لا تقبل حتى لو كانت نصوحة.

 وماذا اذا عادت الفنانة ( الحاجة) تغني سافرة، والفنان يقبل هذه وتلك في ادائه لأغنية او مشهد تمثيلي؟

الجواب: لا تقبل توبته دينيا ولا اجتماعيا.

ختاما

ان الفنانة او الفنان.. حاله حال اي فرد في المجتمع في حقه ان يحج متى أراد، ولكن الأشكالية التي يتعرض لها انه عليه ان يلتزم بالقيم والاخلاق الدينية التي اشترطتها فريضة الحج. فلا يصح، او من غير اللائق، او غير المقبول ان تعود الفنانة التي ادت فريضة الحج سافرة، بل ان تبقى محجبة الى يوم تودع الدنيا، والألتزام نفسه ينطبق على الفنان.. وليس بالضرورة أن يطيل لحية.

وامران مطلوبان من الفنانين والناس.. ان لا يكون من اهداف حج الفنان الترويج لنفسه عند الناس، وان يتعامل المجتمع مع ظاهرة حج الفنانيين والفنانات على انه حق مشروع، وليس من حقه السخرية منهم الا من عاد بعد الحج كما كان قبله!

وتبقى حالة (مشابهة) نصوغها بتساؤل:

 وهل تقبل توبة الشيوعيين الذين كانوا في شبابهم ملحدين، اذا حجّوا؟

نلتقيكم معهم في موضوع قادم.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

ذكرتُ في مقال «فلسفتنا.. ردود لا فلسفة»(الاتحاد: 26 أبريل 2016)، قصة كتاب محمّد باقر الصّدر(أُعدم: 1980)، كيف صنفه رد فعل لطغيان اليسار، وكيف أنَّ مدير الأمن العام فاضل البراك(أُعدم: 1993)، زار مؤلفه كي تقوم مؤسسات الأمن العامة بإعادة طباعته، لمواجهة مد اليسار الثقافيّ، بالاتفاق مع الصدر نفسه، وطُبع الكتاب (النّعمانيّ، سنوات المحنة وأيام الحصار)، كان ذلك في بداية قيام الحزب الحاكم، بإنهاء وجود الحزب الشّيوعي العراقيّ(1977 وما بعدها).

كان راوية الخبر شاهد عيان، فهو الملازم للصدر في تلك الأيام، ثم استفسرتُ من قيادي في «الدّعوة»، وكان وكيلاً للصدر، فصادق على صحة ما رواه النُّعمانيّ. لم يبق الصَّدر ضمن حزب «الدّعوة»، إلا فترة وجيزة جداً، خرج منه بعد الوصول إلى دليل عدم صحة قيام نظام إسلامي، وفق ما جاء في سورة «الشّورى»، قبل ظهور المهدي، وبهذا لا فائدة مِن وجود تنظيم إسلاميّ، إذا لم يكن قيام دولة إسلاميَّة هدفه(أمالي السيد طالب الرِّفاعي. الحكيم، النظرية السّياسية عند الشهيد الصّدر).

كان الصّدر يُقدم الفصول التي ينجزها، محاضرات على طلبة الحوزة في جامع الهنديّ بالنّجف، «لكن طلبة الحوزة الدِّينية والحاضرين أخذوا بالانفضاض، بعد أن كانت قاعة المسجد مملوءة بالمعممين، فعاد إلى الدَّار، وأوقف تلك المحاضرات»(أمالي السيد طالب الرّفاعيّ). قبل ذلك كان العضو في حزب «الدّعوة» محمّد هادي السبيتي(أُعدم: 1988)، ينقل فصول الكتاب إلى صحيفة «الحرية» ذات التوجه القومي «البعثي»، وتنشرها باسم الصّدر(1959-1960).

عموماً، لا يرتاح الإسلاميون مِن أن يكون حراكهم ردَّ فعلٍ، فـ«الإخوان المسلمون» لم يتشكلوا إلا ردِّ فعل لإلغاء نظام السلطنة ثم الخلافة العثمانيّة(1924 انتهت رسمياً)، كي يملأوا الفراغ (1928)، وأنَّ حزب «الدّعوة» الإسلاميّ، وهو نسخة «الإخوان»الشّيعيّة، لا يريد الكوادر المتأخرة الاعتراف بالحقيقة أنَّ حزبهم تأسس(1959)، ردّ فعلٍ على قوة اليسار آنذاك، بشهادات مؤسسيه وكوادره الأوائل، وكذلك سيعترضون على القول بأنَّ كتاب فلسفتنا كان ردَّ فعل أيضاً.

بعد إعدامه ظهر اسم الصَّدر مقدساً، لا يُردّ على كتبه، ولا يُنتقد كلامه. أتذكر أحدهم، قيادي في «الدّعوة»، اعترض على الباحث جورج طرابيشيّ(ت: 2016)، وكنتُ حاضراً، لأنه لم يذكر في محاضرته- كانت عن الفلسفة الأوروبيَّة- اسم الصَّدر، وحسب المعترض: الصّدر «أذهل المناطقة الأوروبيين بفكره»، وآخر قال: ليموت الجميع بعد الصّدر، وغير هذا كثير. لذا واجهني أحدهم باستنكار عندما قلتُ هناك ردود على كتاب «فلسفتنا»، وأقصد، في حياته، قبل «التقديس»، وكان يعني لم يُخلق بعد مَن يرد على الصّدر.

أقول: لو لم يكن كتاب «فلسفتنا» مهماً للتيار الدّينيّ، في وقته، ما حاول نقضه أديب له باع في الكتابة والفكر العلميّ، الذي سنتناوله في مقال قادم، وقد تحرك الصّدر ورّد عليه. ثم صار الكتاب أيقونة عند الإسلاميين، وفي زمن الصَّحوة، فبعض الدراسات العليا أخذت تدرسه لطلابه الصحويين، بعد نزع غلافه، كذلك المحسوبون على التيار «الإخواني»، اعتبروه كتاباً عبقرياً، لكن هؤلاء لم ينظروا له ككتاب وفيه أفكار، إنما نظروا إليه شعاراً وهتافاً.

يغلب على الظَّن، لو لم يُعدم الصّدر، واعتبره النّظام السّابق متعاملاً مع نظام أجنبي، لوجد العراقيون كتاب «فلسفتنا» خلال الحملة الإيمانيَّة الكبرى(1993 وما زالت مستمرة)، على طاولات المدارس وفي الدوائر، فالكتاب ممكن اعتباره، على الرغم مِن بساطته، مِن أهم مناهج الصَّحوة الدّينيّة، فلا يجد الصحويون أفضل منه في المجال التّثقيفي، مثلما اعتقد «البعث»، لأن كاتبه رجل دين شيعي، ينفع في التأثير على الشيعة اليساريين، ففي الوقت الذي به كان العمل الإسلامي ممنوعاً، وتم إعدام كوادر مِن الدّعوة الإسلاميَّة(1974)، إلا أنَّ «فلسفتنا» كان يباع ويتداول علانية.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بالمصادفة وحدها، ونحن نعيش أجواء القمة العربية الثالثة والثلاثين التي عقدت نهاية الأسبوع الماضي 16 مايس/ آيار2024 في المنامة، وقع بين يديَّ وأنا ارتب مكتبتي من فوضاها الخَّلاقة على عدد قديم من مجلة " المصور" المصرية، وهو عدد خاص بالجامعة العربية، صدر لمناسبة انعقاد القمة العربية الثالثة في القاهرة يوم 13 يناير/ كانون الثاني 1964، وكان علي أمين وقتها رئيساً لتحرير المجلة مع فكري اباظة، وقد كتب كلمة افتتاحية حماسية متفائلة جداً، تحت عنوان " العرب سنة 2000 "سجل فيها توقعاته للعرب "خلال الستة والثلاثين سنة القادمة، وكيف سيرى ان أحلامهم تتحقق حلماً بعد حلم" !.

عدد المصور الصادر في مارس/ آذار 1964 بعد حوالي أربعين يوماً من اختتام قمة القاهرة، سلط الأضواء على الملوك والزعماء والرؤساء العرب الذين حضروها. وأولهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر" من قرية بني مر محافظة أسيوط ولد في سنة 1918 "، والملك الأردني حسين بن طلال " أصغر الثلاثة عشر في لقاء القمة سناً، فهو في التاسعة والعشرين من عمره"، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة " ولد في 3 أغسطس سنة 1903، وتخرج في كلية الحقوق بباريس"، والرئيس الجزائري أحمد بن بيلا " ولد في قرية مغنية أقرب القرى الجزائرية لحدود المغرب"، والرئيس السوداني إبراهيم عبود " ولد في قرية محمد كول، بالقرب من بور السودان على ساحل البحر الأحمر عام 1900"، والرئيس العراقي عبد السلام عارف " صاحب الثلاث ثورات! "، والملك السعودي سعود بن عبد العزيز" من مواليد الكويت في 15 يناير سنة 1902 "، والرئيس اليمني عبد الله السلال " من مواليد صنعاء، تخرج في ثانوية الحديدة، وأتم علومه العسكرية في كلية بغداد العسكرية عام 1934 "، والرئيس السوري أمين الحافظ " كان ضابطاً في الجيش السوري برتبة عميد أركان حرب "، وأمير الكويت عبد الله السالم الصباح " يطلقون عليه في دولة الكويت اسم الأمير العود"، والرئيس اللبناني فؤاد شهاب " ولد في نفس العام الذي ولد فيه الملك سعود، وهو عام 1902 في قرية غزير بقضاء كسروان في لبنان"، والملك الليبي ادريس السنوسي " أناب عنه ولي عهده الأمير الحسن الرضا، فإن الملك لا يستطيع السفر بالطائرة، أما طريق البر فقد قطعته السيول بعد الأمطار الغزيرة التي هطلت على ليبيا "!، وأخيراً الملك المغربي الحسن الثاني " من مواليد الرباط في 9 يوليو سنة 1929 ".

نعود إلى علي أمين وتوقعاته التي فاتت عليها ستة عقود بالتمام والكمال حتى يومنا هذا، من قمة القاهرة إلى قمة المنامة، فالرجل كان يتوقع أن يرى في السنوات القادمة سوقاً عربية مشتركة تتحكم في أسواق العالم، وأن يعم الرخاء من الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي، وأن يرتفع مستوى المعيشة في كل بيت، وأن تختفي الأمية من كل بلد عربي مع اختفاء كل الحواجز الجغرافية والجمركية!. ويمضي أمين في توقعاته بأن تتحول الدول العربية إلى ولايات عربية متحدة، ويتم انشاء جيش عربي واحد، وأن يعود كل لاجئ عربي إلى بيته القديم! وأن يسترد العرب فلسطين، وتبدأ في إسرائيل حركة هجرة ضخمة من اليهود الذين يأسوا من تحقيق فكرة انشاء الوطن القومي،  وتوقع أن تصبح البلاد العربية منار الحرية في العالم، فيلجأ إليها كل أحرار الدنيا. وأن تضرب الأمة العربية مثلاً في التسامح والعدالة والحرية واحترام حقوق الإنسان. ويختتم توقعاته بالقول: اننا سنرى العجب في الستة والثلاثين سنة القادمة!، فإن ما سيحققه العرب في هذه الفترة، لم يحققه شعب آخر في 360 سنة!." أتوقع أن يصدر المصور سنة 2000 عدداً خاصاً من ألف صفحة يتحدث عن الانتصارات التي حققها العرب في السياسة والفن والعلوم! ".

سامحك الله أستاذنا علي أمين، اطمئن فتوقعاتك بالحفظ والصون منذ ستين عاماً، من قمة القاهرة إلى قمة المنامة. نم قرير العين في قبرك فقد تحققت توقعاتك كلها، وأكثر!.

ملاحظة : اضطر علي أمين للخروج من مصر، بعد الحكم بالسجن عشر سنوات على شقيقه التوأم مصطفى أمين بتهمة التخابر لصالح الـ ( CIA ) بعد أقل من عام ونصف على هذه التوقعات ! .

***

د. طه جزّاع

 

في تداعيات عملية "طوفان الأقصى"

منذ أن نعت دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق في إدارة بوش الإبن  ثم دونالد ترامب الرئيس الأمريكي السابق،  أوروبا ب" القارة العجوز " وهما يقصدان عدم قدرتها على الدفاع عن نفسها وعلى حاجتها إلى أمريكا في ذلك،  فإن العجز والشيخوخة تخطيا الجانب العسكري – الإستراتيجي للغرب في كليته ( أوروبا وأمريكا) ولامس الأصول القيمية التي إنبنت عليها الحضارة الغربية والتي هيمنت بها على العالم وجعلت منها نموذجا قابلا للإحتذاء والترويج. فيما يعرف بالمركزية الأوروبية  euro-centrisme  وهو ما أعطى للخلفية العقائدية لهذه الحضور اليهو-مسيحية Judéo-christianisme  التفوق الديني الذي تقاسمته الدولة – الوطنية Etat-nation  في الغرب. جاءت عملية " طوفان الأقصى " في السابع من أكتوبر 2023 لتعري زيفا تاريخيا إمتد لقرون ولتكشف قيما كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءا حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. لقد ترهلت تلك المبادئ ثم تكلست حتى أضحت أقرب للشوفينية منها إلى أي شيء آخر. يحتكرها الرجل الأبيض لنفسه دون سواه وهي في قناعة أصحابها ولاسيما أصحاب القرار منهم وبعض " مثقفيهم " تملكا مرضيا خالصا لهم ، رغم أن التاريخ الإنساني يشهد أن ما بلغته الحضارة الغربية إنما هو إرث بشري ساهمت فيه حضارات متعددة ومسارات تاريخية متنوعة منذ ظهور الإنسان على وجه البسيطة .( آنظر رضوان السيد ، الغرب : الصورة والهوية الحضارية وتداعيات الحرب،  صحيفة الشرق الأوسط اللندنية ،  بتاريخ يوم الجمعة 01 جمادى الآخر 1445 هج/ 15 ديسمبر 2023 ) . لقد كانت عملية طوفان الأقصى بكل تداعياتها نوعا من أوجاع الإفاقة على التاريخ العاصف على حد عبارة أستاذنا توفيق بكار رحمه الله ، إنها وهي تفعل فعلها في الواقع / الحاضر تتوالى إرتداداتها لتعيد طرح  إستفهام كبير حول ما راكمه الموروث الإنساني من مفاهيم وتصورات ؟ هل هناك مفهوم واحد لل" إنسان " أم هنا إنسانات بصيغة الجمع  !!؟؟ . لقد فضحت طوفان الأقصى المفاهيم والنظريات الخلابة والمخاتلة حول الإنسان وحول قيم الحق والعدل وكشفت زيفها ودعت نخبنا الذين أصبحوا سدنة لتلك المنظومة وحراسا لمعابدها أن يراجعوا أنفسهم. لنتذكر ما حصل مع المفكر محمد أركون (1928 – 2010) عندما أثبت في أطروحة الدكتوراه " الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري،  مسكويه مؤرخا وفيلسوفا " أن العرب والمسلمين قد عرفوا النزعة الإنسانية منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلادي وحتى قبله مع الجاحظ ثم مع التوحيدي ومسكويه أي إنهم تحدثوا عن الإنسان في معناه المطلق بقطع النظر عن دينه وعرقه وجنسه،  ثارت ثائرة المستشرقين وإحتجوا على ذلك بدعوى أن الإنسية l'Humanisme هي مفهوم غربي محض (أنظر مقالنا: " المثقف العربي والمركزية الأوروبية: محمد أركون وإدوارد سعيد نموذجين،  صحيفة المثقف،  06 كانون الأول/ ديسمبر 2023 ) يقول أركون: " يبدو طبيعيا الحديث عن إنسية إسلامية un humanisme musulman  وتحديدا في نطاق الفلاسفة ومن حذا حذوها من أصحاب العقول الحرة الذين فوضوا للعقل الإنساني مهمة رسم المراحل العقلية المؤدية إلى هذه الحقائق الكبرى المعروضة على عقيدتنا من قبل الوحي، مثلما هو الأمر في كل الإنسيات كما حددها الغرب – الإنسان هو مركز كل البحوث الفلسفية والعلمية ، نتساءل حول مصيره وأصوله ومكانته في الكون ووضعه البيولوجي والروحي وسلوكه المطابق لنزوعه الإنساني نريد من خلال هذه الدراسة بيان إنتصار هذه النزعة في القرن الرابع الهجري/ العاشر ميلاديا. " ( آنظر محمد أركون " الإنسية العربية في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي من خلال كتاب " الهوامل والشوامل " لأبي حيان التوحيدي ومسكويه " ضمن كتاب محمد أركون Essais sur la pensée islamique, ed Gallimard, Paris ,1977 pp 87-100 ترجمة رمضان بن رمضان  ،مجلة الحياة الثقافية تونس العدد 234 / أكتوبر 2012 ،ص33)   حين يقدم الكيان الصهيونى نفسه بآعتباره قاعدة متقدمة حاميا لقيم الحضارة الغربية في وجه البربرية والظلامية وهو يرتكب حرب إبادة يقصف البيوت والمربعات السكنية والمستشفيات والمدارس ويدمرها على رؤوس أصحابها ويقتل النساء والأطفال في ظل دعم لا محدود من قبل أنظمة غربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية التي هي الداعم الأساسي للكيان الغاصب ، هذا من شأنه أن يعري الغرب أمام شعوبه فهؤلاء الذين وصفوا حركة حماس ومن ورائها الشعب الفلسطيني بالوحوش الآدمية فهل هؤلاء هم كذلك لأنهم يخوضون حرب تحرير تبررها كل شرائع الأرض والسماء ، هل لأنهم يريدون حياة كريمة في ظل دولة حرة مستقلة ، هل لأنهم يرغبون في إسترجاع حقوقهم المسلوبة أرضهم ومقدساتهم منذ ما يزيد عن سبعة عقود يصبحون وحوشا آدمية ! لقد كذبت المقاومة الفلسطينية ممثلة خاصة في حركة حماس كل تلك الإفتراءات وأثبتت تشبعها بقيم الدين الإسلامي الحنيف وهي في جوهرها قيم إنسانية  ، تجلت في تعاملها مع الأسرى والمخطوفين في الوقت الذي كان الأسرى  - النساء والأطفال - من الفلسطينيين يلقون سوء المعاملة ويمنع أهاليهم من إظهار الفرح بتحريرهم  وقد تداولت مختلف وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي مما أصاب السردية الإسرائلية في مقتل، لقد كان لذلك السلوك الذي أتته المقاومة أثره في الرأي العام الدولي ولاسيما شعوب البلدان الغربية التي أدركت أن الرواية الإسرائيلية حول فلسطين وحول شعبها  " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " وهو ما كانت تروج له الصهيونية،  رواية كاذبة ، زائفة لطالما لوثت الفكر الأوروبي الذي بدأ يتعافى من أدران الإعلام المتصهين ولوبياته التي ظلت لعقود تمارس الوصاية على الشعوب وعلى ثقافاتها.

إن عملية طوفان الأقصى هي في جوهرها حركة تحرير وطني ومن تداعياتها أنها حركة تحرر لنا ولشعوب الأرض قاطبة من صهينة الوعي القائم على لوبيات المال والإعلام التي عملت على تزييف الفهم وأتاحت للشعوب العربية والإسلامية إمكانية الإستئناف الحضاري للأمة من جديد والمساهمة مع أحرار العالم - الذين يقفون اليوم مع الحق الفلسطيني وفي وجه الغطرسة الصهيونية والأمريكية - في بناء منظومة قيم تقوم على الحق والعدل والمساواة والحرية.

***

بقلم رمضان بن رمضان : باحث في الحضارة العربية الإسلامية

بين حين وآخر، تُطلق في سماء بغداد مذنبات حارقة، وكأن «مدينة السّلام»، يعوزها سَعير الحرب. خرج مَن دعا إلى اعتبار «الغدير» عيداً، وزاد بوصفه وطنياً، بعد أنْ كان يلوم مَن دعا إليها مِن قَبل، لأنه، حسب تصريحاته، عدَّ نفسه صمام أمان العِراق، بينما اعتبار مناسبة تخص طائفة، عيداً في الدّولة تعسفاً للآخرين، بل لفريق مِن الشّيعة، مِن أهل الوئام والسّلام، الذين لا ينتصرون لمثل هذه الدَّعوة. لكن العِراقَ «ومِن عجبِ أنَّ الذين تكفلوا/ بإنقاذ أهليه هم العثراتُ»(الجواهري، الرَّجعيون 1929).

يُثار السؤال: هل احتفل عليّ بن أبي طالب بالغدير عيداً، وكان حاكماً(35-40هجرية)، وأنتم تعتبرونه «تتويجاً إلهيّاً»، وهو بحاجة لتكريسه، أكثر مِن حاجتكم، بسبب النّزاع بالبصرة(36هجرية)، وصفين(37هجرية)، ناهيك عما كان بينه و«الخوارج»، وقد أعلنوا خلعه، وكانوا رجاله؟ كما لم يذكره لا اسماً، ولا مناسبةً، في أدبه المجموع في «نهج البلاغة»، الذي تعتبرونه «أخو القرآن» (الطَّهراني، الذريعة)، ولا في القرآن نفسه. حتّى «فدك» التي تحولت إلى فضائيات للكراهية لم تكن تعنيه، «وما أصنع بفدك وغير فدك والنفسُ مظانها في غدٍ»(النهج).

كيف يكون التّتويج سياسياً إلهيَّاً، وحفيده زيد بن عليّ بن الحُسين(قُتل: 122 هجرية)، اعتبر ما أصطلح عليه بالوصية، إمامة فقه، حتَّى أتته الخلافة (ابن المرتضى، المُنية والأمل).

هذا وعليٌّ نفسه، لا يقر بسلطة إلهية، ذلك في ردَّه على شعار «لا حكم إلا لله»: «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر»(نفسه)، فحكم الله ليس الإمرة السِّياسية، إنما القضاء والقدر(ابن أبي الحديد، شرح النهج). أخيراً إذا كان تتويجاً إلهيّاً فيكون مِن تدبير الله، لا يمنعه أحدٌ مِن البشر! أليس هذا هو المنطق المعقول؟!

ذُكرت خطبة الوداع (10 هجرية)، عند غدير خُم، بين مكة والمدينة، ومنها: «فمَنْ كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ مَنْ والاه وعاد مَنْ عاداه»(اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي). أما الطَّبري(ت: 310هجرية) فسماها «حِجَّة الوداع» و«حِجَّة البلاغ»، وأورد فيها وضع الدِّماء التي كانت على الجاهلية، ووصية بالنِّساء، والالتزام بالأشهر الحُرم، دون ذكر الموالاة. لكنها موجودة، في كتب السُّنة والشِّيعة، والقصد منها العلم، حسب التفسير الزّيدي والصوفيّ، وتأنيب مَن تهجم على عليٍّ عندما كان باليمن، حسب المصادر الأُخر(الآلوسيّ، روح المعاني).

ليس المراد من تكريس الوئام الاجتماعي، حجب الاحتفال بهذه المناسبة أو تلك، فكثرة الأفراح تعمر الأوطان. لكن، ألا تكون سبباً لعاصفةٍ «طوى لها النَّسرُ كشحيه فلم يطرِ»! بمسألة الإمامة التي قال فيها إخوان الصفا(الرَّابع الهجري): «كثر فيها القيل والقال، وبدت بين الخائضين العداوات والبغضاء...»(الرِّسالة الأولى من الآراء والديانات).

أقول: ماذا لو استعادت الطَّائفة الأخرى، ما حدث السَّنة (389هجرية)، وأعلنت يوم «الغار» عيداً مثلما جعله أتراك الزَّمن الماضي (السلاجقة)! مواجهةً «للغدير»(ابن الأثير، الكامل في التّاريخ)، مثلما سنه عيداً صفويو الزَّمن الماضي أيضاً(البويهيون)! والطَّرفان يعرفان جيداً أنه لا شأن للغدير ولا الغار بسياسة الأمس واليوم، فإذا كان السّاسة يتبارون بالمناسبات الطّائفيّة، لم يبق غير القول: «كنا رأينا النُّور في أحلامنا/لو أطبقت جفوننا على المُقل/أظلمت الآفاق في وجوهنا/حتَى ولا بارقة مِن الأمل»(الخاقانيّ، شعراء الغري). ها وقد عدمتم، خلال العقدين والنصف الماضيين بارقة الأمل، ونشأ جيلٌ مشوهٌ باستدراج الماضي، فأخذ الشَّباب يعيشون أحداثه بحذافيرها، عبر المنابر، مفخخات العقول.

ختاماً، لو خرج عليٌّ، وشاهد ما شاهد باسمه، لخصف نعله، وكررها على ساسة اليوم، وهم يسنون «الغدير» عيداً: «والله لهي أحب إلى مِن إمرتكم، إلا أنْ أقيم حقاً، أو أدفع باطلاً»(النهج)، فأي حقٍّ أقمتم، وباطلٍ دفعتم؟!

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم : لورين ديلوناي ميلر

ترجمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لقد تغير نهج الولايات المتحدة في التعامل مع اللجوء عبر تاريخها - العرق أولاً، ثم السياسة التي تسيطر عليها الأيديولوجية السياسية فيما بعد

في الثاني من يوليو عام 1951، دخل مندوبون من 26 دولة إلى إحدى القاعات في جنيف بسويسرا. هناك، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أمضى الرجال 23 يومًا في مناقشة كلمة كان لها، حتى ذلك الحين، تعريف عامي مشترك ولكن لم يكن لها تعريف قانوني محدد.

وقد ساعد هذا التجمع، الذي أطلق عليه رسمياً اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، في ترسيخ دور مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين المنشأة حديثاً من خلال تحديد من سيحظى بالحماية على وجه التحديد كلاجئ.

وبحلول نهاية الشهر، سيوافق 19 من المندوبين على هذا التعريف، مما يلزم بلدانهم بفهم مشترك لما يعنيه أن تكون لاجئاً. ومع ذلك، وعلى الرغم من حضورها القوي في المداولات، إلا أن الولايات المتحدة لم تكن واحدة منها. وبدلاً من ذلك، اختارت إنشاء تعريف خاص بها، وقد يستغرق الأمر عقودًا قبل أن يصبح متوافقًا مع التعريف المحدد في الاتفاقية.

لقد تغير تعريف اللاجئ في الولايات المتحدة مع المصالح الجيوسياسية للبلاد في جميع أنحاء العالم، مثل تصرفاتها المحسوبة خلال الحرب الباردة التي تشجع المنشقين وترحب بهم. وقد أثر هذا التعريف المتغير على حياة الملايين؛ إن الكلمات التي نستخدمها لوصف الأشخاص الذين غادروا ديارهم - من المهاجرين إلى اللاجئين، وطالبي اللجوء، والمفرج عنهم لأسباب إنسانية - لها عواقب قانونية مهمة بالنسبة لأولئك الذين تم تكليفهم بهم، وتؤثر بشكل كبير على كيفية النظر إليهم والترحيب بهم.

في يونيو/حزيران 2023، أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن عن خطته لقبول 125 ألف لاجئ في البلاد في ذلك العام، وهو عدد أكبر بكثير مما تم قبوله في عام واحد منذ عقود. وفي نهاية البيان قال: "إن الترحيب باللاجئين هو جزء من هويتنا كأمريكيين - لقد تأسست أمتنا على يد أولئك الفارين من الاضطهاد الديني".

لكن هل كان المستوطنون الذين أشار إليهم بايدن لاجئين بالفعل؟ ولم يكن مثل هذا التصنيف موجودا في ذلك الوقت. وبينما ركز هو وغيره من السياسيين من قبله على المستعمرين الأوائل لأمريكا وسعيهم إلى ممارسة شعائرهم الدينية بشكل علني وحر، فإنهم غالبًا ما يهملون الإشارة إلى أن المستعمرين في بحثهم عن ملجأ، شردوا عددًا لا يحصى من الآخرين. هل أفعالهم جعلت الأمريكيين الأصليين لاجئين بالفعل؟ (الآن، في الوقت الذي أصبح فيه المشرعون من كلا الحزبين منشغلين بإحصاء عدد القادمين الجدد على وجه التحديد، يبدو من الواضح أنه لا توجد أرقام لعدد الأشخاص النازحين بسبب الاستيطان في الولايات المتحدة).

علاوة على ذلك، بالنسبة لأولئك الذين يصلون إلى القارة، فإن فكرة سيادة الدولة لا تنطبق على الأراضي التي تحتلها مجتمعات الأمريكيين الأصليين، لذلك لم يكن هناك شعور بتلقي "الملاذ" من الدولة، وهو الأساس الحديث للمعنى. سوف تتشكل هذه الأفكار ببطء مع مرور الوقت مع تشكل الولايات المتحدة، وانفصالها عن الإمبراطورية البريطانية، وبدأت في نهاية المطاف في إدارة وتتبع وتقييد تدفق المهاجرين. تم وضع أول تعريف قانوني أمريكي للاجئ مع وضع المنشقين في الاعتبار، وخاصة أولئك الذين يمكن أن يثبتوا تعرضهم للاضطهاد الشخصي من قبل الاتحاد السوفييتي. ولكن مع تغير الهجرة، تتغير أيضًا الطريقة التي يشعر بها الناس بالحاجة إلى تجميع الأشخاص المتنقلين وتحديدهم. لقد تم تحديد سياسة الهجرة الأمريكية في القرنين العشرين والحادي والعشرين على أساس الإقصاء المحسوب.

إن التعريف المقبول دولياً للاجئ اليوم يرتكز على الفهم المشترك للسيادة، والذي بموجبه يحق للدول إبقاء أشخاص معينين خارج حدودها حسب تقديرها. ويشكل اللاجئ الاستثناء من هذه القاعدة، وهي مبدأ أساسي في اتفاقية عام 1951 وهو "عدم الإعادة القسرية"، أي الحق في عدم الطرد. وبالتالي فإن تعريف اللاجئ يشكل تصنيفاً مهماً لا يخبر البلدان فقط بالأشخاص الذين ينبغي لهم أن يسمحوا بدخولهم، بل أيضاً بمن يمكنهم بدورهم استبعادهم.3917 اللاجئون

يتوجه الناس إلى جزيرة إليس لإلقاء نظرة على تمثال الحرية وهو يقف في ميناء نيويورك وسط الثلوج في 31 يناير 2017 في مدينة نيويورك. (تصوير سبنسر بلات / غيتي إيماجز)

حصر قانون التجنيس الأمريكي لعام 1790 المواطنة في الأشخاص البيض الأحرار، وهذا يعني عمليًا أولئك القادمين من أوروبا الغربية. كان هذا بمثابة بداية لسياسة الاستبعاد الرسمي. وبعد ثماني سنوات، واصل قانون الأجانب والفتنة هذا النهج من خلال سن أول قوانين الترحيل في الدولة الجديدة. ومن هنا اتخذ الاستبعاد أشكالاً مختلفة. في عام 1803، حظر الكونجرس هجرة السود الأحرار على أمل تهدئة المشاعر المناهضة للعبودية في أعقاب الثورة الهايتية، على الرغم من أن قانون التجنس لعام 1870 من شأنه أن يوسع الحق في التجنيس ليشمل "الأجانب من أصل أفريقي والأشخاص المنحدرين من أصل أفريقي". وفي عام 1882، تحركت الولايات المتحدة نحو موقف تقييدي من خلال قانون استبعاد الصينيين.

واتخذ الكونجرس إجراءات أخرى لتقييد الهجرة أيضًا، بدءًا من حظر الوافدين الجدد الأميين إلى استهداف الفوضويين والراديكاليين. لكن العرق كان بلا شك الطريقة الأكثر أهمية ووضوحًا للإقصاء. ولا شيء قد يجعل هذا الأمر أكثر وضوحا من قانون الحصص الطارئة لعام 1921 وقانون الهجرة لعام 1924، والمعروفين باسم قانون جونسون-ريد، اللذين أنشأا معا حصصا عددية للوافدين على أساس جنسيتهم. وبموجب هذا النظام الجديد، يُطلب من المهاجرين المحتملين التقدم للحصول على تأشيرات قبل أن يشقوا طريقهم إلى الولايات المتحدة.

قُدّم  نظام الحصص في قانون عام 1921 كوسيلة لدعم الهجرة من البلدان المرغوبة، وسط قلق متزايد بشأن الهجرة من شرق وجنوب أوروبا. كانت الحصص الأولية، التي كان المقصود منها أن تكون تدبيرا مؤقتا، تحدد الهجرة بحيث لا تتجاوز 3% من عدد الأفراد الذين يحملون جنسية معينة في الولايات المتحدة اعتبارا من التعداد السكاني لعام 1910. ومع ذلك، ظل مبدأ الحصص قائما. حدد قانون 1924 الهجرة بنسبة 2% من عدد كل جنسية المسجلة في تعداد 1890 حتى عام 1927، عندما أعيد حساب الحصص باستخدام تعداد 1920 وتم تحديد كل جنسية بنسبة إجمالية قدرها 150.000 نسمة. ولم يقتصر تأثير تفاصيل التشريع على الحد بشكل كبير من الهجرة الإجمالية فحسب، بل كان أيضًا يحد بشدة من دخول الأفارقة والآسيويين.

حتى هذه اللحظة، كانت القيود مبنية على البلد الأصلي للشخص، وليس على الغرض من هجرته. لم يكن هناك نظام منفصل للأشخاص الفارين من الاضطهاد - أولئك الذين نسميهم غالبًا لاجئين اليوم. فالمهاجرون كانوا مهاجرين، بغض النظر عن دوافعهم. ورغم أن كلمة لاجئ استخدمت بالتأكيد، بمعنى مماثل لما هو موجود اليوم، إلا أنها لم يكن لها أي معنى قانوني ولم تمنح أية فوائد إضافية. لكن هذا النظام أصبح موضع تساؤل خلال الحرب العالمية الثانية والسنوات التالية، عندما كانت الحكومة الفيدرالية تبحث عن وسيلة للالتفاف على الحصص لتعزيز مصالحها الجيوسياسية في الخارج. وسرعان ما ستحل الأيديولوجية محل العرق باعتباره النقطة المحددة التي تدور حولها سياسة اللاجئين.

في الفترة من 23 أكتوبر إلى 4 نوفمبر 1956، تناثرت زجاجات المولوتوف والدبابات والجثث في شوارع بودابست. لمدة 12 يوما، تمرد المجريون ضد الاتحاد السوفياتي، ولكن في النهاية تم خنقهم. وقد مات الآلاف، وبدأ عشرات الآلاف في الفرار، معظمهم سيراً على الأقدام، عبر الحدود إلى النمسا.

هناك، تم الاعتراف بالهنجاريين كلاجئين. وعلى النقيض من الولايات المتحدة، كانت النمسا طرفاً في اتفاقية عام 1951. ولكن النمساويين كانوا في حاجة إلى المساعدة. ومن خلال طلب المساعدة من الأمم المتحدة والبلدان في جميع أنحاء العالم، رأى الرئيس دوايت د. أيزنهاور الفرصة.

ولطالما ظلت الحصص قائمة، حاول الساسة والناشطون إيجاد سبل للتحايل عليها، وبالتالي تعزيز مصالحهم الجيوسياسية من خلال السماح بدخول المزيد من أنواع المهاجرين الذين يريدونهم. في عام 1940، أنشأ الرئيس فرانكلين روزفلت برنامجًا منفصلاً عن حصص الهجرة لاستيعاب 2000 لاجئ "سياسي ومثقف" من ألمانيا، على الرغم من أنه من المحتمل أن تكون إدارة روزفلت قد اختارت هؤلاء اللاجئين بعناية. كان الطلب على اللاجئين خلال الحرب العالمية الثانية هائلا، كما كان الخوف في الولايات المتحدة من أن المهاجرين قد يهددون الأمن القومي. وقد لعب السياسيون على هذا الخوف من التخريب من الداخل. وحتى روزفلت، في مؤتمر صحفي في يونيو 1940، قال: "الآن، بالطبع، يجب فحص اللاجئ لأنه، لسوء الحظ، يوجد بين اللاجئين بعض الجواسيس". وردا على ذلك، نُقلت المسؤولية عن ضوابط الهجرة من وزارة العمل إلى وزارة العدل، وزادت وزارة الخارجية من العقبات البيروقراطية أمام القادمين الجدد المحتملين.

ومع نهاية الحرب، كان عدة ملايين من الناس في جميع أنحاء أوروبا قد نزحوا. دعم الرئيس هاري إس ترومان البرنامج الذي أصبح فيما بعد قانون الأشخاص النازحين لعام 1948. لقد استمع إلى نداءات المدافعين عن اللاجئين، لكنه كان يعتقد أيضًا أن مثل هذا الفعل سيكون مفيدًا في أعقاب تدهور العلاقات مع الاتحاد السوفيتي. يذكرنا المؤرخان جيل لوشر وجون سكانلان أن عصر سياسة اللاجئين هذا تم تحديده من خلال فكرة مفادها، كما لاحظ روبرت س. ماكولوم، المتخصص في شؤون اللاجئين بوزارة الخارجية في عام 1958، أن "كل لاجئ من الفلك السوفييتي يمثل فشلاً للنظام الشيوعي". ". يعرّف لوشر وسكانلان سياسة اللاجئين هذه في فترة ما بعد الحرب بأنها "اللطف المحسوب"، وهي السياسة التي يتم من خلالها مساعدة اللاجئين فقط إذا كان ذلك مفيدًا أيضًا لأهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

على مدى السنوات الأربع التالية، وبموجب قانون الأشخاص النازحين، سمحت الولايات المتحدة بدخول أكثر من 350 ألف شخص، ووسعت تعريف اللاجئ ليشمل ليس فقط أولئك الذين يضطهدون من قبل نظام معين، ولكن أيضًا أولئك الذين نزحوا "لأسباب تتعلق بالعرق، الدين أو الجنسية أو الرأي السياسي. كتب كارل بون تيمبو في كتابه «الأميركيون عند البوابة: الولايات المتحدة واللاجئون خلال الحرب الباردة» أن هذا كان له ثمنه. في حين أن معظم الأشخاص الذين دخلوا بموجب قانون النازحين كانوا ضحايا الحرب، فقد تمكن بعض النازيين السابقين والمتعاطفين مع النازية من الدخول كلاجئين. على الرغم من أن قبولهم تم تنظيمه من قبل المخابرات الأمريكية على أمل تحويلهم إلى عملاء مناهضين للشيوعية، إلا أن المدافعين عن اللاجئين كانوا غاضبين من منح أماكن مرغوبة لهؤلاء الأشخاص.

وبينما استمر البرنامج في قبول اللاجئين حتى عام 1952، كان معارضو هذه الاستراتيجية يزدادون صخبًا. وقاد السيناتور بات ماكاران من ولاية نيفادا حملة فرض القيود، ودفع إلى تشديد إجراءات الأمن والفحص، ومهّد الطريق لمعركة أكبر حول الهجرة. وبينما كان المدافعون عن اللاجئين يأملون في إلغاء نظام الحصص، قال مكاران إن القيام بذلك من شأنه أن "يغير التركيبة العرقية والثقافية لهذه الأمة".

ولكن إذا كان هناك أي شيء يفوق نفور مكاران من المهاجرين، فهو كراهيته للشيوعية. وكتب بون تيمبو أن قانون الأمن الداخلي الذي أصدره عام 1950 "ربط بشكل واضح المهاجرين بالشيوعية وحذر من أن قبول الوافدين الجدد يدعو إلى التخريب الشيوعي والتجسس". وقال مكاران إن الحصص كانت حاسمة بالنسبة للأمن القومي.

تم تمهيد الطريق للمعركة، وفي عام 1952، تم تقديم مقترحات الهجرة الليبرالية والمحافظة. سادت تلك المقيدة .أقر مجلس النواب ومجلس الشيوخ مشروع قانون مكاران، الذي رعاه في مجلس النواب النائب فرانسيس والتر من ولاية بنسلفانيا. ولكن عندما وصلت إلى مكتب ترومان، تم نقضها بسرعة. " وقال الرئيس: "الفكرة وراء هذه السياسة التمييزية، بصراحة، هي أن الأميركيين الذين يحملون أسماء إنجليزية أو أيرلندية هم أشخاص ومواطنون أميركيون أفضل من الأميركيين الذين يحملون أسماء إيطالية أو يونانية أو بولندية". وقال إن اللاجئين الفارين من الشيوعية هم الذين يجب أن تكون لهم الأولوية على وجه التحديد. وبدون حماية إضافية للاجئين، رفض ترومان دعم مشروع القانون، لكن الكونجرس تجاوز حق النقض الذي استخدمه وأصبح التشريع قانونًا.

وعندما تولى أيزنهاور منصبه في العام التالي، استجاب لمخاوف المدافعين عن اللاجئين بشأن قانون مكاران-والتر بإصدار قانون إغاثة اللاجئين لعام 1953، والذي أعطى الولايات المتحدة أول تعريف قانوني رسمي لمن يمكن أن يكون لاجئا. سمح القانون بثلاث فئات من النازحين: اللاجئين والهاربين والمطرودين الألمان. تم تعريف اللاجئين على أنهم أولئك الذين يغادرون البلدان غير الشيوعية، والفارون هم أولئك الذين يفرون من المناطق السوفيتية أو الشيوعية في أوروبا، وكان المطرودون الألمان هم أولئك من "الأصل العرقي الألماني" الذين تم ترحيلهم من البلدان التي يسيطر عليها السوفييت. ولأول مرة، أصبح تعريف من يمكن أن يكون لاجئاً مرتبطاً قانونياً بأهداف أميركا المناهضة للشيوعية.

وقد خصص قانون إغاثة اللاجئين أكثر من 200 ألف تأشيرة، ولكن بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الثورة المجرية، كان البرنامج قد انتهى. سُمح لأقل من 800 مجري بدخول الولايات المتحدة بموجب نظام الحصص، ولكن إذا تمكنت إدارة أيزنهاور من إيجاد طريقة للالتفاف حول الحصص، فيمكنها في الوقت نفسه تقديم المساعدة للهنجاريين المحتاجين مع إصدار بيان علني قوي ضد الاتحاد السوفيتي، من الذي كان المجريون يفرون من قبضته.

بدأت الإدارة في البحث عن أداة تشريعية أو إدارية، أي شيء من شأنه أن يسمح لها بالبدء في قبول المجريين بسرعة، وقد وجدت ذلك في مكان غير متوقع: قانون ماكاران-والتر. وكان معظم النقاش حول مشروع القانون يدور حول دعم نظام الحصص، ولم يتم إيلاء سوى القليل من الاهتمام لما أصبح يعرف باسم سلطة الإفراج المشروط. يمنح القانون الرئيس الحق في الإفراج المشروط أو السماح مؤقتًا بدخول الأشخاص إلى الولايات المتحدة طالما أن ذلك يعزز المصلحة الوطنية. وما الذي يمكن أن يكون أفضل بالنسبة للبلاد من اتخاذ موقف قوي ضد الاتحاد السوفييتي؟

وبموجب سلطة الإفراج المشروط، قبلت إدارة أيزنهاور عشرات الآلاف من اللاجئين المجريين، وفي هذه العملية، شكلت سابقة للطريقة التي سيتم بها التعامل مع قبول اللاجئين لعقود من الزمن. عندما صدر قانون الهجرة والجنسية عام 1965، تم حل نظام الحصص وظهر تعريف قانوني جديد للاجئين، وهو تعريف يمزج بين أولئك الذين يخشون الاضطهاد بسبب العرق أو الدين أو الرأي السياسي مع أولئك الفارين على وجه التحديد من البلدان الشيوعية - أو الشرق الأوسط. وتعرف بأنها "المنطقة الواقعة بين ليبيا من الغرب، وتركيا من الشمال، وباكستان من الشرق، والمملكة العربية السعودية وإثيوبيا من الجنوب". ولا يزال من غير الواضح سبب حدوث هذا الشمول الشامل للمنطقة. وكما هو موضح في عام 1975 في مقالة نشرتها مجلة كليفلاند ستيت لو ريفيو، فإن "التاريخ التشريعي صامت بشأن سبب الإشارة إلى هذه المنطقة من العالم باعتبارها مصدر قلق خاص". ربما، كما كتب المؤلف نيكولاس ب. كاب، كان هذا نتيجة للقلق المستمر بشأن أزمة السويس في مصر عام 1956، على الرغم من أنه من غير الواضح سبب استمرارها.

وفي عام 1967، أصدرت الأمم المتحدة بروتوكولها المتعلق بوضع اللاجئين، لتحديث اتفاقية عام 1951، وأخيراً أضافت الولايات المتحدة اسمها كدولة موقعة. وكان تعريف عام 1951، المصمم لمعالجة تأثير الحرب العالمية الثانية، ينطبق فقط على الأوروبيين الذين نزحوا قبل ذلك العام. واعترافاً بالأزمات المستمرة حول العالم، تم تعديل التعريف لرفع تلك القيود. ولكن على الرغم من التزام الولايات المتحدة بقبول اللاجئين بموجب قانون الهجرة والجنسية، إلا أنه لا تزال هناك قيود، واستمر الرؤساء في الاعتماد على سلطة الإفراج المشروط لمساعدة النازحين وتعزيز المصالح الجيوسياسية باسم مكافحة الشيوعية.

في عام 1980، بعد استخدام حقوق الإفراج المشروط لقبول عشرات الآلاف من اللاجئين من جنوب شرق آسيا في أعقاب حرب فيتنام، اعترف المشرعون على جانبي المناقشة المتعلقة بالهجرة بأن النظام يحتاج إلى تحديث. وأخيرا، اعتمدت الولايات المتحدة رسميا تعريف الأمم المتحدة للاجئ في القانون وأنشأت نظام استقبال جديدا خصيصا للاجئين. هذا التعريف، الذي لا يزال مستخدمًا حتى اليوم، يُعرّف اللاجئ بأنه شخص خارج وطنه ولا يستطيع أو لا يريد العودة بسبب "الاضطهاد أو الخوف المبرر من الاضطهاد بسبب العرق أو الدين أو الجنسية أو العضوية في فئة اجتماعية معينة أو الرأي السياسي."

لقد اختفت اللغة المناهضة للشيوعية، ولكن في الممارسة العملية، استمر اللاجئون من البلدان التي تسيطر عليها الشيوعية في السيطرة على قبول اللاجئين. ومع ذلك، مع مرور الوقت، مع انتهاء الحرب الباردة، تلاشت فكرة أن الأشخاص الفارين من الشيوعية كانوا أكثر استحقاقًا للقبول من أولئك الفارين من الأزمات الأخرى. وما ظهر كان نظاماً جديداً كان فيه بلد المنشأ أقل أهمية من الدافع. وقد ساعدت الحاجة إلى إثبات حالة المرء حتى يتم تصنيفه كلاجئ في تعزيز نظام التفكير الثنائي حول المهاجرين واللاجئين: أولئك الذين اختاروا المغادرة مقابل أولئك الذين أجبروا على ذلك. ويعتقد البعض أن التمسك بهذا الثنائي أصبح محور التركيز الأيديولوجي الجديد لنظام الهجرة في الولايات المتحدة، مدعوما بالخوف السائد في كل مكان من أن القادمين الجدد ليسوا كما يزعمون.

كما كتبت الباحثة ريبيكا هاملين في كتابها لعام 2021، "العبور: كيف نصنف الأشخاص المتنقلين ونتفاعل معهم"، "اليوم، يحتل مفهوم "اللاجئ" كشخصية متميزة عن المهاجرين الآخرين مكانًا مهمًا". وأوضحت أن مصطلح "مهاجر"، على عكس مصطلح "لاجئ"، ليس له تعريف قانوني، مما يزيد من الالتباس المتزايد حول ما يشكل الفرق بين الاثنين.

تستنكر هاملين وآخرون في مجال دراساته النقدية المتعلقة باللاجئين هذه الطريقة الثنائية في التفكير. وتشير إلى أنه على الرغم من أن كلمة لاجئ كانت تشير بشكل صارم إلى المنشقين السياسيين من الدول الشيوعية الذين كانوا مهددين بشكل مباشر وواضح في بلدهم الأصلي، فإن هذا الوضع أصبح اليوم أقل شيوعًا. يتحرك معظم الناس بسبب عدد لا يحصى من الأسباب والتأثيرات المتداخلة.

توضح هاملين أن الحصول على الوضع القانوني كلاجئ في الولايات المتحدة اليوم هو، في بعض النواحي، وضع متميز. تأتي هذه الحالة مع بعض الحقوق والحماية التي لا توفرها الحالات الأخرى، مثل حالة الحماية المؤقتة. بسبب تسييس الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، لا تزال ثنائية اللاجئين وطالبي اللجوء مقابل المهاجرين تحتل مركز الصدارة. تكتب هاملين: "لا يقتصر تصنيف المهاجرين على إضفاء الشرعية فحسب؛ بل هو أيضًا «صنع للمكانة» لأن فعل التصنيف يضفي مكانة على الأشخاص."

لكي يتم اعتبار الشخص لاجئًا من الناحية القانونية، يجب أن يتم فحصه والموافقة عليه، في أغلب الأحيان من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، قبل وصوله إلى الولايات المتحدة. اللاجئون، بموجب هذا التعريف، هم الأشخاص الذين نزحوا من بلدهم الأصلي ولكنهم ما زالوا يبحثون عن الحماية وإعادة التوطين. بالنسبة للعديد من اللاجئين، فهي عملية معقدة تنطوي على مقابلات عديدة، وأوراق لا نهاية لها، وعادة ما تكون سنوات من الانتظار في مخيمات اللاجئين. إذا تمت الموافقة على طلب اللجوء الخاص بهم، فيمكنهم بعد ذلك الدخول إلى الولايات المتحدة بشكل قانوني.

ومن ناحية أخرى، فإن طالبي اللجوء هم الأشخاص الذين يعتقدون أنهم مؤهلون كلاجئين ولكن لم تتم الموافقة عليهم بعد. وكما كتبت هاملين، "يميل مؤرخو الهجرة إلى الولايات المتحدة إلى التركيز إما على اللاجئين أو المهاجرين، وكثيرًا ما تقع قصة طالبي اللجوء بين الشقوق". وبدلاً من التقدم بطلب للحصول على وضع لاجئ في الخارج، فإنهم يأتون أولاً إلى الولايات المتحدة ويقدمون طلباتهم من الداخل. وبموجب القانون الأمريكي، فإن الحق في طلب اللجوء محمي، سواء تم طلبه في ميناء الدخول أو بعد الدخول دون تفتيش. ولكن على الرغم من حقيقة أن طالبي اللجوء (المصطلح القانوني الذي يطلق على طالبي اللجوء الذين تمت الموافقة على طلباتهم) واللاجئين يحصلون على نفس الحقوق والحماية، إلا أنه لا تزال هناك تصنيفات قانونية أخرى للنازحين لم يوافق عليها.

وعلى الرغم من الحد الأقصى السنوي للاجئين الذي حدده بايدن، فإن برنامج القبول الذي تم إنشاؤه في عام 1980 لم يكن قادرًا على التعامل مع المواقف المتغيرة بسرعة. لا شيء يجعل هذا الأمر أكثر وضوحًا من استيلاء حركة طالبان على أفغانستان في عام 2021. وفرار عشرات الآلاف من الأشخاص بعد ذلك من البلاد، و جلب الكثير منهم إلى الولايات المتحدة. على السطح، كان هؤلاء الأفغان النازحون يلبيون الفهم اليومي للأميركيين لما يعنيه أن يكون لاجئا، وبالتالي كان يشار إليهم في كثير من الأحيان على هذا النحو في وسائل الإعلام، ومن قبل السياسيين، وغالبا من قبل الأفغان أنفسهم. لكن عدداً قليلاً جداً من الأفغان حصلوا على وضع اللاجئ القانوني، وكان وضعهم المشروط لأسباب إنسانية يعني أنهم يتمتعون بحماية أقل بكثير من اللاجئين.

يحق للمفرج عنهم الحصول على بعض المزايا، مثل التأمين الصحي، ويمكنهم العمل والالتحاق بالمدرسة، ولكن بدون وضع دائم. إنهم غير مؤهلين للحصول على الرسوم الدراسية داخل الولاية في العديد من الولايات أو للحصول على مساعدات مالية فيدرالية. ولا يمكنهم التقدم بطلب لم شمل الأسرة.و لعل الأمر الأكثر أهمية هو أنه يتعين عليهم أن يتحملوا عبء محاكم اللجوء المتراكمة على أمل الحصول على وضع قانوني دائم. من المفترض أن يكون الإفراج المشروط مؤقتًا، ولكن بالنسبة للأفغان الذين ما زالوا غير قادرين على العودة إلى ديارهم، فإن الحد الأقصى لوضعهم لمدة عامين جاء بسرعة مخيفة. ولم يحصل سوى عدد قليل من الأشخاص على حق اللجوء حتى الآن، في حين يعتمد عشرات الآلاف على تمديد البرنامج لمدة عامين. سيتم منحها في أوائل عام 2023. ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كان البرنامج سيستمر بعد تاريخ انتهاء الصلاحية في عام 2025. وبدون حماية دائمة، يعيش الخاضعون للمراقبة تحت سيف ديموقليس: فبوسعهم أن يتمتعوا بحماية نسبية مؤقتة، ولكن ليس من دون التعرض لخطر اختفاء هذه الحماية.

وعلى نحو مماثل، أصبحت فكرة "لاجئي المناخ" شائعة على نحو متزايد، ولكن لا يوجد في أي مكان في الخطاب القانوني الدولي أو الأميركي ما يجعل هؤلاء الفارين من الكوارث الطبيعية مؤهلين للحصول على وضع اللاجئ القانوني. بالنسبة للعديد من العلماء والناشطين والسياسيين، تعتبر هذه الأمثلة مادة للحجة القائلة بأن التعريف الحالي لكلمة لاجئ لم يعد كافيا. وتضيف هاملين أنه ربما لم يكن الأمر كذلك على الإطلاق. وتجادل بأن التعريف كان دائمًا صارمًا عن قصد، لذا فإن المناقشات حول من يجب السماح له بالدخول هي أيضًا، بالضرورة، مناقشات حول من يجب عدم السماح له بالدخول.

إن التساؤل "من يستطيع أن يكون لاجئا؟" يعني أيضا التساؤل: "من لا يستطيع؟" على الرغم من الضغوط اليوم لتصنيف القادمين الجدد إما كمهاجرين أو لاجئين، تحثنا هاملين على أن نتذكر بدلًا من ذلك أن هذا التصنيف جديد نسبيًا: ففي حين أن الناس، بطبيعة الحال، يبحثون دائمًا عن ملجأ، إلا أنهم لم يضطروا دائمًا إلى التوافق مع أحد هذه الصناديق.

ولا تحتاج البلدان اليوم إلا إلى إجراء هذا التمييز لأنها تواصل محاولة إبعاد الوافدين الجدد. مستفيدة من التهديد الدائم بالتخريب (أولاً من الشيوعية واليوم من الإرهاب)، عملت الولايات المتحدة، بل ودول في مختلف أنحاء العالم، على الحفاظ على هذه الثنائية التي تجبر النازحين على تعريف واضح لشيء معقد بطبيعته .

بينما نواجه مناخًا متغيرًا بدأ بالفعل في إجبار أعداد لا حصر لها من الأشخاص على الهجرة إلى أماكن أكثر مضيافة حول العالم، كيف سنفسر لغة الملجأ؟ إن قبول ما يسمى بلاجئي المناخ بموجب قوانين اللاجئين الدولية يعني الترحيب بقبول العديد من القادمين الجدد في وقت حيث أصبحت الهجرة محل نزاع كما كانت دائم.

في كتابه "كل من كان هنا رحل"، كتب جوناثان بليتزر أنه بينما كان المقصود من قانون اللاجئين توحيد إدارة قانون اللجوء من قبل دائرة الهجرة والجنسية، "فمن المفارقة أنه زود الحكومة أيضًا بذريعة قانونية لإصدار حالات الرفض" ". ويوضح أن العنف المعمم لم يعد كافيا، إذ يحتاج اللاجئون إلى إثبات تعرضهم للاضطهاد الفردي. ويقتبس من أحد مفوضي الوكالة شرحه لهذا الأساس المنطقي: "في الأساس، سيكون كل شخص في العالم أفضل حالًا في الولايات المتحدة".

ويبقى أن نرى كيف ستستمر الولايات المتحدة في استخدام هذه اللغة لتحديد الأشخاص المرحب بهم. ومع اقتراب الانتخابات بين المرشحين الذين لا يمكن أن تختلف مواقفهم بشأن القادمين الجدد بشكل كبير، فإن مستقبل أولئك الذين يبحثون عن اللجوء أصبح غير واضح أكثر من أي وقت مضى. وعلى الرغم من الترويج لسقف مرتفع للاجئين، يفكر بايدن في تقييد الوصول إلى اللجوء من أجل تأمين الدعم للمساعدة لأوكرانيا وإسرائيل. وتتناول هذه المفاوضات إحياء برنامج الرئيس السابق دونالد ترامب المسمى "البقاء في المكسيك"، الأمر الذي يشكك في أساس القانون الدولي للاجئين: عدم الإعادة القسرية. إذا تم تقويض هذا المفهوم القائل بأن أولئك الذين يحتاجون إلى ملجأ لا يمكن إبعادهم، فماذا سيبقى؟

تكتب هاملين: "التصريحات العامة بأن بعض الأشخاص "لاجئون" يمكن أن يكون لها معنى رمزي هائل، حتى عندما يظل الناس بالمعنى القانوني غير مصنفين. إذا تخيل الجمهور مجموعة ما على أنها لاجئون بدلاً من المهاجرين، فإن استعدادهم لاستيعاب الوافدين يتبدل". باختصار، الكلمات التي نستخدمها لوصف القادمين الجدد تشكل الطريقة التي نرحب بهم بها.

عندما فر المجريون من الاتحاد السوفييتي، أشار إليهم الأمريكيون عادة -بتحريض من الساسة ووسائل الإعلام- باسم "المقاتلين من أجل الحرية" للمساعدة في تبرير وصولهم. وبعد ما يقرب من 70 عاما، يشبه ترامب اللاجئين بالثعابين. خلال فترة رئاسته، قامت خدمات المواطنة والهجرة الأمريكية بإزالة اللغة من بيان مهمتها والتي عرفت أمريكا بأنها "أمة من المهاجرين .

إذا كانت سياسة اللاجئين، حتى عام 1980، تحددها "من"، فإنها أصبحت بعد 45 عاماً تحددها "لماذا". والآن، مع تصاعد الضغوط على بايدن للتوصل إلى اتفاق بشأن الهجرة، يتم تعريف سياسة اللاجئين أيضًا من خلال "كيف". وبينما تروج إدارة بايدن لزيادة قبول اللاجئين لأولئك الذين يتقدمون عبر قنوات الأمم المتحدة خارج الولايات المتحدة، فإنها تحد أيضًا من الوصول إلى طالبي اللجوء على الحدود الجنوبية.

وكما أوضحت المراسلة نادية ريمان مؤخرًا في برنامج "هذه الحياة الأمريكية"، "بدلاً من النظر في سبب مجيئك إلى الولايات المتحدة والحكم على ذلك بناءً على مزاياه، سنقوم الآن بحظرك بسبب الطريقة التي أتيت بها إلى الولايات المتحدة". وكما أفادj ريمان، فإن قاعدة جديدة تسمى "التحايل على المسارات القانونية" تتطلب من طالبي اللجوء إثبات أنهم تقدموا بالفعل بطلب للحصول على اللجوء في بلد مروا به في طريقهم إلى الولايات المتحدة - وتم رفضهم.

ولكن ربما يكون المثال الأكثر وضوحًا على سعي إدارة بايدن للحد من اللجوء بناءً على كيفية سعي المرء للحصول عليه هو تطبيق CBP1. يمكن لطالبي اللجوء التحايل على قاعدة التحايل على المسارات القانونية إذا تقدموا بطلب من خلال التطبيق، على الرغم من أن استخدام التطبيق كان مليئًا بالتحديات. يزداد الطلب على التطبيق لدرجة أنه يتعطل بشكل متكرر، وحتى عندما يتمكن طالبو اللجوء من الحصول على موعد، فإنهم غالبًا ما يحتاجون إلى الانتظار شهورًا حتى يصل هذا التاريخ.

إن سياسات اللاجئين اليوم، وأدوات مثل تطبيق CBP1، كانت غير مفهومة بالنسبة لواضعي اتفاقية عام 1951، الذين توقعوا أن منصب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين سوف يستمر لمدة ثلاث سنوات فقط. ومن المؤكد أنهم سيشعرون بالذهول إزاء وجود أكثر من 117 مليون نازح في جميع أنحاء العالم بعد مرور 73 عامًا. وكما كتب هاملين: "لم يتوقعوا الدرجة التي سيستمر بها البشر في الاختراع وإلحاق الفظائع ببعضهم البعض في العقود القادمة". ويبقى أن نرى ما إذا كانت السياسة المعاصرة قادرة على تعلم كيفية التكيف مع المتطلبات المتغيرة للجوء.

(تمت)

***

........................

المؤلفة: لورين ديلوناي ميلر/ Lauren DeLaunay Miller  كاتبة وصحفية حائزة على جوائز من كاليفورنيا. تركز تقاريرها على الصحة والبيئة والهجرة. وهي مؤلفة كتاب "وادي العمالقة: قصص من نساء في قلب تسلق يوسمايت".

 

عبد الرزاق عبد الواحد مثالا

القارئ للعلاقة بين السلطة والشاعر من بدء الدولة الأموية الى الآن يجد انها تتمحور في موقفين: اما ان تغدق على الشاعر ليكون مداحّها واذاعتها واعلامها الجماهيري، واما ان تضطهده اقتصاديا ونفسيا، وان تطلب الأمر قطعت رأسه الذي فيه لسانه.

قليل من الخلفاء والسلاطين والأمراء في امتنا تصرفوا مع الشعراء والفنانين تصرفا حكيما وانسانيا و(براغماتيا) كما تصرف الملك (فيليب) مع الفنان (فيلاسكس). فقد كان هذا الفنان مشتركا في مؤامرة ضد الملك الاسباني فيليب، فاعدم المتآمرين جميعهم الا فيلاسكس فقد جعله فنان البلاط. كان قتله سهلا كالآخرين، غير ان الملك فكّر بذكاء بأن الموهبة تكون في العادة نادرة، وأنه يمكن ان يستثمرها.. وكان له ما اراد. فلقد انتج فيلاسكس لوحات فنية رائعة خلدت الملك فيليب، والأهم انها شكلّت انعطافة جديدة في تطور الفن الاسباني، على العكس تماما من موقف سلطة فرانكو التي اعدمت شاعر اسبانيا العظيم الشاب (لوركا).. فخسرت اسبانيا والانسانية موهبة وعبقرية لا تعوّض.

وعبد الرزاق لم يفعل اكثر مما فعله شاغل الدنيا (المتنبي) الذي مدح حاكما وضيعا مغتصبا للسلطة ليوليه على امارة ولو بسعة مدينة حلب. ولما لم يستجب كافور لطلبه هجاه المتنبي بافضع ما في قاموس لسان العرب من مفردات بذيئة!. ولم يفعل اكثر مما فعل شاعرنا الخالد الهائل العظيم (الجواهري) الذي كان سكرتيرا للملك فيصل الأول ومدحه بقصائد كثيرة.. ومدح ملك المغرب وملك الاردن (يبن الملوك وللملوك رسالة.. من حقها بالحق كان رسولا).. ونوري السعيد ايضا: (أبا صباح وأنت العسكري..).. واحمد حسن البكر وصدام حسين: (نعمتم صباحا قادة البعث واسلموا... ) ثم هجاهم شرّ هجاء بعد انقلاب 14رمضان 1963:

(أمين لا تغضب وان اغرقت.. عصابة بالدم شهر الصيام،

وان غدا العيد وافراحه.. مأتما في كل بيت يقام).

ومع ذلك بقي الجواهري، صاحب الروائع الخالدات (أخي جعفرا، قف بالمعرّة، دجلة الخير.. )، والساكن في قلوب العراقيين.. والتاريخ.

ثم، ألم يكن (عبد الرزاق) افضل من شعراء (كبار) يتنفسون الآن هواء الوطن الذي حرموه منه؟.

ومن من هؤلاء الشعراء نظم قصائد وجدانية غاية في الرقة والمشاعر الانسانية الراقية كالتي نظمها عبد الرزاق؟. ومن من شعراء الاسلام، والشيعة تحديدا، نظم قصائد في (الحسين) كالتي تدفقت بها عبقريته، وهو الصابئي اصلا وفصلا؟!.

انا شخصيا (وبيننا لقاءات وجلسات سمر) اكره في عبد الرزاق عبد الواحد سلوكه، وأدين مدحه للطغاة والطغيان، واساءاته لعدد من المثقفين.. غير اننا لا نختلف بشأن عبقريته، بل نكاد نضع موهبته فوق منارة لا تقل علّوا عن منارات المتنبي والمعري والجواهري.. فلماذا ضحينا بعبقرية شاعر في عصر صار فيه ميلاد شاعر معجزة؟!

لقد تساءل الكاتب يوسف ابو الفوز في مقالة طويلة بالمدى (هل ينفع العراقيين اعتذار شاعر سلطوي: كيف سيكون اعتذار عبد الرزاق عبد الواحد، وبماذا سينفعنا ؟ وما قيمته؟)

ومع ان هذا الموقف يحمّل الشاعر مسؤولية جرائم الطاغية، الا انه مشروع، شرط ان يكون مبدأ " ينطبق على جميع الشعراء الذين امتدحوا الطاغية ونظامه. فالواقع يشير الى ان عددا من الشعراء الذين امتدحوا صدام بقصائد وصفوها ب(العصماء) وكانوا يتباهون بها امام طلبتهم.. تولوا الآن مسؤوليات ثقافية وعلمية عالية (الشاعر محمد حسين الياسين الذي لا علاقة له بالبحث العلمي)، ويحتفى بهم في اتحاد الأدباء.. ما يعني ان عبد الرزاق افضل منهم لأنه لم يتلوث برذيلة النفاق.. التي اشاعها شعراء وأدباء وفق مبدأ (عفا الله عما سلف!).. ولخاصة!!

والتساؤل لحضراتكم:

من الأفضل.. اخلاقيا.. الشاعر الذي يمدح الحاكم ولا ينافق، أم الشاعر الذي يمدحه وينافق؟

وهل كان موقفا صحيحا اننا تركنا شاعرا عبقريا يموت في الغربة، و نحرمه من رغبته في ان يدفن في وطن احبه بصدق وشفافية:

(ياعراق هنيئا لمن لا يخونك، هنيئا لمن اذ تكون طعينا يكونك،

هنيئا لمن يلفظ آخر انفاسه تتلاقى عليه جفونك).

اعرف ان بين المعنيين بشؤون الثقافة من صاروا يديرون اوجههم عن من يجهر بالحقيقة امامهم، ويتقصدون في ان لا يوجهوا له الدعوة بمؤتمراتهم ومناسباتهم الثقافية!

والأشكالية..

انهما سيبقيان جبلان لا يلتقيان!.

وهم الرابحون لمتع الدنيا.. وهو الخسران!

***

د. قاسم حسين صالح

بقلم: سوربي جوبتا

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يحمل أبهيجيت بهاتاشاريا الشهير تشابهًا صارخًا مع الرئيس الراحل الذي أطيح به بعد الاحتجاجات في عام 2011

في يناير/كانون الثاني، كان المغني الهندي أبهيجيت بهاتاشاريا ضيفًا خاصًا في إحدى حلقات برنامج "Indian Idol"، وهو البرنامج التلفزيوني الشهير لمسابقة الغناء. بهاتاشارياهو أحد مطربي التشغيل الذين يقدمون أصواتهم للممثلين في الأفلام الهندية. لقد غنى بعضًا من الأغاني الأكثر شهرة في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين في بوليوود، ويُعرف شعبيًا باسم صوت النجم شاروخان، حيث قدمه في أكثر من 30 أغنية. أولئك الذين لا يعرفون تقليد الغناء، حتى في الهند، غالبًا ما يكونون في حيرة من أمرهم لأن صوت بهاتاشاريا يناسب تمامًا شخصية خان - يبدو كما لو أن خان نفسه يغني.

نظرًا لأن موسيقى الأفلام هي العنصر السائد في موسيقى البوب في الهند، فإن مغنيي التشغيل في البلاد يتمتعون بشعبية مماثلة لتلك التي يتمتع بها نجوم البوب في الغرب. ومن ثم، ليس من غير المعتاد أن تتم دعوة مغنيي التشغيل للتحكيم في العروض الموسيقية، والتي غالبًا ما تشيد أيضًا بالمغنين والملحنين والممثلين في صناعة السينما. كان الظهور في برنامج "Indian Idol" بمثابة عمل معتاد بالنسبة لـ بهاتاشاريا ومن خلال مقاطع الفيديو الخاصة بالحلقة على وسائل التواصل الاجتماعي، انغمس المشجعون الهنود في بعض الحنين إلى الماضي حيث غنى المتسابقون بعض الأغاني التي لا تنسى للمغني المخضرم.

ومع ذلك، انتشر أحدها على نطاق واسع ودفع بهاتاشاريا إلى نوع مختلف من النجومية - داخل مصر. بالنسبة للهنود، لم يكن هذا شيئًا غير عادي. كان بهاتاشاريا يدلي بتعليقاته لأحد المتسابقين، الذي غنى إحدى أغانيه الشهيرة من فيلم خان الموسيقي الرومانسي الشهير عام 1995، ("القلوب الشجاعة ستأخذ العروس"). لكن ما لاحظه المصريون هو أن المغني الهندي كان يحمل شبها لافتا بالرئيس المصري الراحل حسني مبارك، مما جعله يثير ضجة كبيرة في البلاد.

انهالت التعليقات على مقاطع الفيديو الخاصة به عبر منصات التواصل الاجتماعي. قال واحد:  "يا رئيس مصر السابق، ماذا تفعل هناك؟" وقال آخر: "أرجو الهند أن تعيد رئيسنا، شعبك في انتظارك". وسأله ثالث: مش هتزور مصر قريب؟

لم توقف وفاة مبارك قبل أربع سنوات الحماس تجاه الرئيس السابق. وقال آخر مازحا إن الهند نجحت في استنساخ مبارك. اقترح بعض الناس أيضًا أن بهاتاشاريا له نفس الصوت وأسلوب المشي. وقال بهاتاشاريا لصحيفة نيو لاينز في مكالمة هاتفية من مومباي: "لقد امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بي بالتعليقات في الأسابيع الثلاثة الماضية". "في البداية، اعتقدت أنني أتلقى رسائل غير مرغوب فيها. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع فهم اللغة العربية، إلا أنني غارق في الحب والاستجابة من المجتمع العربي بأكمله.

وكان نجلا مبارك، وهما من محبي لاعب كرة القدم محمد صلاح، قد اكتشفا أن المغني قد انتشر بشكل كبير في البلاد.

وقال بهاتاشاريا: "أفهم أن الناس لديهم شعور بأنه بعد وفاة الزعيم السابق، جاء إلى الهند وحلفى  إلى جسدي". "لذا فهم يعتذرون له ويريدون منه أن يعود لمساعدتهم في حل المشاكل التي تواجهها البلاد، مثل ارتفاع التضخم، وأنهم سوف يستمعون إلى كل ما يقوله".

وقد تلقى المغني دعوات من شركات السفر لتسهيل رحلته إلى مصر. وقال: "لقد دعاني أحدهم لافتتاح مطعمه الجديد".

منذ الإطاحة بمبارك في انتفاضة عام 2011 التي بشرت بحركات شعبية أخرى في جميع أنحاء المنطقة فيما أصبح يعرف باسم الربيع العربي، كان المصريون متناقضين بشأن إرثه. وعندما تمت محاكمة الرئيس المريض بعد أشهر قليلة من عزله من منصبه، تجمعت مجموعات صغيرة من المتظاهرين خارج قاعة المحكمة حاملين لافتات كتب عليها: "نحن آسفون، سيدي الرئيس".

قد تنامت هذه المشاعر على مر السنين عندما أعقب الانتفاضة حكم إسلامي وثورة شعبية 30 يونيو أتت بالرجل القوي عبد الفتاح السيسي إلى السلطة – حيث خلص الشعب منحكم الأخوان المسلمين ،وأعاد لمؤسسات الدولة هيبتها فى الداخل والخارج على الرغم من الصعوبات الاقتصادية فى الفترة الاخيرة ، خاصة بعد الحرب الروسية الاكورانية ، وهجوم إسرائيل الإجرامي على غزة .

هذه الصعوبات، كما هي الحال في بلدان أخرى في المنطقة شهدت انتفاضات سلمية وعنيفة، جعلت المصريين يتساءلون ما إذا كان من الأفضل لهم لو لم يفعلوا شيئا على الإطلاق في عام 2011. كما ساعدت في تغذية صناعة وطنية من صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الوردية التي تمجد ماضي البلاد، حتى أنها تعود إلى النظام الملكي الذي أطيح به في عام 1952.وقد أدى هذا الحنين إلى الأيام الخوالي إلى زيادة افتتان وسائل التواصل الاجتماعي المصرية بالمغني باتاتشاريا والمطالبات (شبه) المزاحية بأن تعيد الهند مبارك.

وهناك تشابه غريب بين بهاتاتشاريا ومبارك، من ملامح وجهه المربعة وجبهته البارزة إلى تسريحة شعره.

أثار التشابه سيلًا من القصص ومقاطع الفيديو القصيرة على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المحلية، مما سلط الضوء بشكل خاص على تعصب بهاتاشاريا تجاه صلاح ورضاه عن المصريين الذين انتبهوا إليه فجأة، بما في ذلك الوعد بتخصيص أغنية باللغة العربية للبلاد. وكانت الردود على وسائل التواصل الاجتماعي في معظمها  تشوبها روح الدعابة. وفي حين أعرب البعض عن أسفهم لمعاناة البلاد في السنوات التي تلت الإطاحة بمبارك، أبدى آخرون ابتهاجاً بالتشابه. أطلق أحد مقاطع الفيديو على إنستغرام اسم خطاب مبارك على فيديو بهاتاشاريا، وقال أحد المعلقين مازحا: الآن بعد أن حصلت على مظهر جديد، يرجى العودة. بدونك نحن مثل الأيتام الذين يعيشون مع زوجة الأب الشريرة.

ونظرًا لشعبية بوليوود وخان في الشرق الأوسط، فهو منفتح على فكرة إقامة حفل موسيقي في مصر.

وقال المغني: "الناس يتعرفون على الأغاني لكنهم يدركون الآن من هو المغني لأننا نبقى في الغالب في الخلفية... لكن دعونا نرى ما إذا كان بإمكاني زيارة البلاد".

ولكن في العقد الماضي، مع قيام حزب بهاراتيا جاناتا القومي الهندوسي بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، بتجميع السلطة، أدت السياسة والتعبيرات المتزايدة عن القومية الراسخة إلى انقسام الناس بشكل متزايد، خاصة في صناعة السينما الهندية، التي كانت تاريخياً بوتقة تنصهر فيها جميع الأديان. والمناطق والخلفيات الثقافية. بدأ الناس يتساءلون عن التعاون بين الفنانين الباكستانيين وبوليوود في أعقاب الهجمات الإرهابية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، أصبح الزواج بين الأديان بين الممثلين تحت المجهر العام، كما هو الحال مع حقيقة أن الممثلين المسلمين يهيمنون على الصناعة على مدى العقود الثلاثة الماضية.

في هذه البيئة السياسية شديدة الاستقطاب، أثار بهاتاشاريا في كثير من الأحيان الجدل بسبب عدم موافقته على الفنانين الباكستانيين في الصناعة والتصريحات الهجومية التي أدلى بها ضد المسلمين، الذين يشكلون، كما هو الحال في باكستان، الأغلبية الساحقة في مصر. لقد تم تعليقه بالفعل من X (في ذلك الوقت على تويتر) لإدلائه بتصريحات متحيزة ضد ناشطة هندية.المشاهير الذين اضطروا في السابق إلى الاعتماد على الصحف والمجلات لبث آرائهم، يمكنهم الآن مشاركتها مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي، الأمر الذي غالبًا ما يضعهم في مشاكل. لا يزال يتعين علينا أن نرى كيف قد يكون رد فعل المعجبين المسلمين الجدد بهاتاتشاريا عندما يكتشفون تعليقاته المثيرة للجدل.

وفي وقت كتابة هذا التقرير، أعرب المغني عن سعادته بالظهور على نطاق واسع باعتباره شبيهًا لمبارك فقط من خلال منشور على إنستغرام، حيث وضع صورته بجوار صورة مبارك والسطر الأول من أغنيته الشعبية " نحن "  عام 1994، والتي تترجم تقريبًا إلى "كلانا مختلف وفريد من نوعه." سيكون من المثير للاهتمام مشاهدة رد فعل بهاتاشاريا على شعبيته المفاجئة في مصر.

***

...............................

سوربي جوبتا/ Surbhi Gupta: سوربي جوبتا محررة جنوب آسيا في مجلة ناي لاينز.

 

يُتحفنا شمس الدين الذهبي(ت: 748 هـ) في «سير أعلام النبلاء»، ثم ابن العماد شهاب الدِّين الحنبلي(ت: 1032هـ) في «شذرات الذهب» بأسماء أشراف الدِّين وشموسه وتُقاته، عُرفوا بـ«الصَّهاينة»، مثل شرف الدِّين عبد القادر الصّهيوني، وشمس الدِّين محمد بن عبد الرَّحمن الصُّهيوني (ت: 949هـ)، وتقي الدِّين أبي بكر بن محمد الصهيوني(ت: 993هـ) وغيرهم، نسبة إلى جبل صهيون بفلسطين، لكن ما أن نسب تيودور هرتزل(ت: 1904) عقيدته إلى الجبل، صار اللقب مرفوضاً، لا يقبل مِن صاحبه، في مجتمعات ودول عديدة، حتى نُسي اسم الجبل نفسه.

كذلك على مدى التّاريخ تسمى الطائفة اليهوديّة بالعراق: الطّائفة الإسرائيليّة (الدليل العراق 1936)، لكن بعد (1948) صار هذا اللقب سلبياً، فتحول اسم الطَّائفة إلى الطائفة الموسوية، وظل هكذا(الدليل العراقي 1960).

كان السواد في العصر العباسي مقدساً، أو صار هكذا، بعد تعميمه شعاراً للثورة العباسيّة، ثم لباساً رسميّاً، في دوائر الدولة، فرضه أبو جعفر المنصور(ت: 158هجرية)- من القفطان إلى العمامة، ثم استبدلت الخضرة بالسواد، بأمر عبد الله المأمون(ت: 218هجرية)، بعد تعيين عليّ الرضا(ت: 203هجرية) ولياً للعهد، فالخضرة كانت شعار العلويين، ومازال، إلى يومنا هذا، المنتسبون للعلويين أو الهاشميين، ثيابهم تجمع بين السواد والخضرة، العمائم السُّود على رؤوسهم، والشّالات الخُضر حول رقابهم.

بيد أنَّ الخليفة المأمون، خشية مِن الانقلاب، سرعان ما عاد إلى السّواد، فاستبدل الموظفون السواد بالخضرة(الطَبريّ، تاريخ الأُمم والملوك)، ومِن المؤكد، بعد اجتياح المغول بغداد، صار السّواد يقتل صاحبه، على أنه نية لإعادة العباسيين إلى السّلطة.

أثرت السّياسة في الفقه ومسائله في الألوان، فكان الإمام أبو حنيفة النُّعمان(ت:150هـ) يعتبر صباغة الثَّوب المُغتصب بالسّواد ينقصه، لأنه يعد السَّواد نقصاناً في زمنه (الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشَّرائع). لكن بعدما أصبح المذهب الرَّسمي للدولة في زمن تلميذي النُّعمان قاضي القُضاة أبي يوسف(ت:182هـ)، وصاحب ديوان المظالم محمد بن الحسن (ت:189هـ) «اعتبرا السَّواد وسائر الألوان سواء» (نفسه).

كذلك، يغلب على الظَّن أنه لو عاش أحفاد المحدث إبراهيم بن مسيرة الطَّائفيّ (ت: 132 هـ)، والإمام أبو زكريا يحيى بن سُليم الطَّائفي (ت: 195 هـ) إلى اليوم، ما سلموا من المضايقة والمعارضة، لأنه تحول إلى «نبز»، مع أنَّه كان لقباً، نسبة إلى الطَّائف المدينة، ولا أظن النَّاس، الذَّائقين مرارة الطائفية، سيلتذون بالعنب الطائفي، مع أنه «عناقيده متراصفة الحَب» (الزَّبيديّ، تاج العروس). هذا، وقد تجد كلّ عقيدة وجماعة مَن يفتخر باسمها، إلا الطّائفيّة، تمارس بقوة، ويتبرأ الجميع مِن لفظها.

ليس أكثر مِن السّياسة الحزبيّة تلاعباً بالعقول، خصوصاً عندما تصبح بيد جماعات لا هم لهم غير تحشيد الأعوان، واجتماعهم بالألوان. ما نتذكره مِن تاريخ العراق القريب، بعد (1963) وطغيان التّيار القومي صار اللون الأحمر تهمةً، حتّى بائعي «الرقي»، امتنعوا مِن مناداتهم «أحمر شرط السكين»، ولا يُقال للطماطم حمراء، بالمقابل عند طغيان التيار اليساري الشيوعيّ، كان النّاس يتغنون باللون الأحمر.

سأختم، بفضيحة ما فعلته تلك السَّياسات بعقول النّاس، وهي واقعة وليست حديث قصاصين، كان صاحب دكان بالبصرة، بشرته تميل إلى الاحمرار، فأُتهم أنه مِن التنظيم الشّيوعيّ، بسب بعض زبائنه المنتظمين، والرجل كان بسيطاً، ليس له في حزب أو نظرية، فأخذ رجل الأمن يعذبه كي ينتزع منه اعترافاً، ولما عجز، صرخ بوجهه: «كيف أنت مو(ليس) شيوعي ووجهك أحمر جنه(كأنه) وجه خروشوف»! كان نيكيتا خورشوف حينها زعيم الاتحاد السُّوفييتي(1953-1964).

هكذا، لعبت، وما زالت تلعب، بنا الأهواء الحزبيَّة، صناعة هواة السّياسة، فكان يُحبس أو يُعدم مَن ينال صدام بكلمة، واليوم يُسجن مَن يطري اسمه، وكلتا الحالتين وفق المعاملة بشرع «الألوان والألقاب».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في اَذار الماضي زار العراق المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية ( IAEA) رافائيل غروسي، وإلتقى برئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني،وكان من بين برنامجه: تفقد موقع التويثة الملوث بالإشعاع، وزيارة مستشفى متخصص بأمراض السرطان، والوقوف على إحتياجاته ذات العلاقة بالوكالة الدولية. وهي زيارة تفقدية عادية. وقد غطى الزيارة وما دار أثناءها المكتب الإعلامي لرئيس مجلس الوزراء.

أبرز ما نشر عنها ان الحكومة العراقية تسعى للحصول على موافقة الوكالة الدولية بالسماح لها بإنشاء مفاعل نووي للطاقة السلمية. وان رئيس مجلس الوزراء قد أعلن خلال استقباله للسيد غروسي: "عزم العراق على مزاولة نشاطه النووي للأغراض السلمية". ولهذا الغرض " أودع في نهاية العام الماضي لدى الوكالة الدولية متطلبات انضمامه إلى اتفاقيات الأمان النووي. وهو يتطلع للدخول مجدداً في مضمار التطبيقات السلمية للطاقة النووية ". وعبّر السوداني عن رغبة العراق أن يزاول نشاطه السلمي في مجال الطاقة الذرية. وهو يتطلع لمساعدة الوكالة الدولية في وضع البرامج والمشاريع ذات العلاقة بالتطوير في مجال التطبيقات النووية للأغراض السلمية ".

من جهته، أكد السيد غروسي اًنه " سيتم طي صفحة الماضي بشأن رغبة العراق بالاتجاه نحو الطاقة النووية السلمية، وان هذا من أولويات العمل مع العراق، والبدء بوضع خطة لتطبيق الاستخدام السلمي للطاقة في مجال الصحة المستدامة والأورام والطاقة النظيفة في العراق.."

الى هنا والحديث الرسمي العراقي دار حول رغبة العراق وتطلعه بشأن الطاقة النووية السلمية. بيد ان الغريب ان يبالغ مسؤولون عراقيون ويختلقوا أموراً لم تحصل لحد الآن.وتحدثوا وكأن المشروع قريب الإنجاز، ناسين أو متناسين المتطلبات والضمانات الأساسية التي تطلبها الوكالة الدولية لإنشاء مفاعل للطاقة النووية السلمية، والتي لن تمنح رخصة الإنشاء والتشغيل، قبل التأكد من تنفيذها.

والوكالة الدولية تؤكد ان إنشاء المفاعل وحده يستلزم 10 أعوام على الأقل.وتنبه الى إنشاء المنشأة/ المفاعل/ المحطة، ووسائل السلامة والأمان النووي لعملها وإنتاجها، وتوفير المعدات والتكنولوجيا، الى جانب الكوادر العلمية والفنية،الخ، تتطلب أموالآ طائلة لابد من أخذها بالحسبان..

في هذا الشأن نسأل: من أين ستؤمن الحكومة العراقية المبالغ المطلوبة وقد نهبت الطغمة الحاكمة ومافياتها أموال الدولة حتى وصل الحال بمؤسسات رسمية،كوزارة البيئة، إستجداء مبالغ تافهة - مليونين و 4 ملايين دولار لتمشية أعمالها  من حكومات ومؤسسات أوربية..

خلال مؤتمر صحفي مع السيد غروسي في بغداد أعلن رئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية نعيم العبودي، أن العراق لا يريد الطاقة النووية لأغراض الحرب والسلاح، وإنما للقضايا السلمية فقط،وهذا من حقه. وذلكم يعتبر ان العراق يلتزم ببنود الاتفاقية الدولية لحظر انتشار الأسلحة النووية ،كأحد متطلبت المشروع.

وقبل هذا، تم في 22/11/2023 إنضمام العراق لـ " إتفاقية الأمان النووي"، و" الاتفاقية المشتركة بشأن أمان التصرف في الوقود المستهلك، وأمان التصرف في النفايات المشعة "، استجابة لأحد شروط موافقة الوكالة الدولية على المشروع المطروح.

المفارقة، أنه قبل إنجاز هذه الخطوة الإلزامية (إيداع صك الأنضمام) بـ 6 أسابيع، أعلن السيد العبودي: "إستحصال الموافقة الأصولية على إنشاء مفاعل نووي صفري"، ولم يوضح متى إستُحصِلت هذه الموافقة، التي لم يأت على ذكرها - حسب متابعتنا- أحد غيره ، لا قبل زيارة مدير عام الوكالة الدولية لبغداد، ولا أثناءها، ولا بعدها..

وكذا بالنسبة لتصريحه بـ " البدء بإنشاء " مفاعل ومحطات نووية صغيرة للأغراض السلمية . فهذا الكلام ليس صحيحاً، لأنه لم يبدء في العراق بعد إنشاء ما ذكره. وكلامه هذا يتعارض كلياً مع تقديم العراق للوكالة الدولية للطاقة الذرية خطته للفترة من 2023 إلى 2030، والتي تضمنت نيته إنشاء مفاعلات نووية، ومنظومات تحت الحرجة، ومحطات كهرونووية، تسمى دورة الوقود النووي.

وعدا هذا، للعبودي تصريح خطير يقر فيه بأن موقع المفاعل المرتقب ملوث بالاشعاع، وسيتم تنظيفه..سنتناوله لاحقاً..

كما ولا يستند لواقع ما ذكره بشأن المفاعل النووي الصفري أو الصغير، الذي " سيوفر مساحة علمية للتدريب وإنجاز الأبحاث التعليمية التخصصية في الجامعات العراقية، مما يسهم في تطوير قطاع البحث العلمي في البلاد"..

ويبدو ان وزير التعليم العالي والبحث العلمي والعلوم والتكنولوجيا،ورئيس هيئة الطاقة الذرية العراقية، الذي هو مهنياً لا علاقة له بعلوم الطاقة والفيزياء النووية والبحث العلمي، وان السياسة، وليست الكفاءة العلمية، جعلته يتبوء كل هذه المهمات (وهذه مفارقة أخرى)، أراد ان يوحي بان المنظومة السلطوية لطبقته السياسية المهيمنة على مقدرات العراق "مهتمة" بالتعليم والبحث العلمي والباحثين، وان عراق اليوم تحت إدارتها "مواكب" لمثل هذه التوجهات، معتقداً بأن مثل هذا الادعاء  ينطلي على المتلقين الواعين، ساعياً للتغطية على الواقع التعليمي الكارثي، وما أحدثته منظومته السياسية الفاشلة، المهيمنة على الجامعات وكلياتها، من تدمير ممنهج للتعليم ،حتى أوصلته للحضيض، ومن مسخ للعلوم والمعرفة العلمية والبحث العلمي، ومن تشويه للوسط الأكاديمي الوطني الحريص، من خلال إغراقه بـ " المجاهدين" من تجار الدين والفاسدين والفاشلين والجهلة والمتخلفين والظلاميين، وشرعنة شهاداتهم "الأكاديمية" المزورة، والمشتراة من سوق مريدي، ومن الحوزات في إيران ولبنان، وإحلال أصحابها من المحسوبين والمنسوبين محل العمداء والأساتذة والخبراء في الجامعات والكليات من ذوي الكفاءات والمعرفة والخبرة الطويلة.

هذا الواقع المخجل لن يستطيع أحد إخفاءه. مثلما لن يستطيع التغطية على غياب مناهج العراق التعليمية الحالية،على مستوى التعليم العالي والبحث العلمي، لمواكبة التوجهات الحقيقية، العلمية والتكنولوجية، المخصصة للبحوث العلمية والتعليم لصالح الطلبة والباحثين في الجامعات. وقد قضت الإدارة المتسلطة منذ عقدين على الأمكانات الفعلية التي أسهمت في تطوير قطاع البحث العلمي في البلاد.

علماً بان هذه المسألة الخطيرة ستؤثر على المشروع العراقي المطروح، إذ ان أحد المتطلبات الأساسية لمنحه الموافقة هو توفيره للقوى البشرية المالكة للإمكانات المطلوبة، مثل أن تكون مدربة جيدا ومؤهلة علمياً وتكنولوجياً وفنياً، لعمليات إنشاء وتشغيل المفاعل النووي، ولتطبيق معايير الأمان النووي، والسلامة الإشعاعية، وفق إشتراطات الوكالة الدولية. ويشمل ذلك التأهب والإستعداد للطوارئ، وإجادة الممارسة العملية للإجراءت والمعالجات الفورية المطلوبة .

وإرتباطاً بذلك، ولضمان تحقيقة، يفترض وجود جهة وطنية معتمدة، تأخذ على عاتقها مسؤولية إدارة المشروع، والسعي توفير متطلباته، ومنها القوى البشرية المطلوبة، وضمانات الأمان النووي والسلامة الإشعاعية والإستعداد للطوارئ..

في هذا الشأن، توجد في  كل بلدان العالم التي تمتلك الطاقة النووية للأغراض السلمية، وبضمنها مصر والسعودية والأردن والأمارات، وغيرها، هيئة وطنية واحدة، معتمدة رسمياً، وهي متخصصة مهنياً، وكفوءة لمسؤولية إدارة المشروع، والنهوض بمهماته المرسومة.وتكون كمؤسسة حكومية تابعة لمجلس الوزراء، أو للبرلمان. ولعل الأهم هو إلتزام الدولة وسلطاتها بتوفير كافة المستلزمات المطلوبة لنجاح الهيئة، من تشريع قانوني خاص بها، ونظام داخلي لعملها، وادارة مهنية كفوءة علمياً وإدارياً، ومديريات متخصصة تابعة لأنشطتها، وكوادر وكفاءات علمية وفنية، ومعدات وتكنولوجيا حديثة، الى جانب الميزانية المطلوبة. وهي كمؤسسة وطنية مهمة لها دورها الكبير في المجتمع، وتحضى بإحترامه، وتتمتع بالدعم والإسناد الحكومي والشعبي ..على ان كل هذا لا يمنع من خضوع هذه الهيئة ، كأي مؤسسة أو جهة أخرى، للمراقبة، والمتابعة، والتقييم، والمحاسبة...

فهل ستتأسس للمشروع العراقي المطروح هيئة وطنية معتمدة واحدة، كفوءة ومؤهلة وحريصة، وتكون بعيدة عن هيمنة الأحزاب المتنفذة، وعن المحسوبية والمنسوبية؟

نطرح هذه التساؤلات المشروعة، وفي العراق حالياً توجد العديد من الهيئات الرسمية ذات العلاقة، كهيئة الوقاية من الاشعاع ، ومركز الوقاية من الاشعاع ، والهيئة الوطنية للسيطرة على المصادر المشعة، ومديرية السلامة الاشعاعية والنووية، وهيئة الطاقة الذرية العراقية، والهيئة الوطنية للرقابة النووية والإشعاعية والكيميائية والبايولوجية، ودائرة الإتلاف والمعالجة، ومديرية التطبيقات النوويـــة، ومديرية النفايات المشعة.، ومركز تصفية المنشات والمواقع النووية، ومديرية السلامة الإشعاعية والنووية، الخ. ولكل واحدة منها العديد من المديريات والأقسام، ولديها مئات الموظفين، وتكلف الدولة أموال طائلة..

بالمناسبة، أغلب هذه الهيئات تعمل منذ سنوات، وليس واضحاً ما الذي جناه العراق من وجودها ومن تعددها وكثرتها.

***

د. كاظم المقدادي

"شيء من وقاحات المدنيّة وبذاءاتها"

 قد يتذكر البعض من القرّاء ممن يتابع ما جرى في القرن التاسع والقرن العشرين عند تمدد الهجرات الاستعمارية في الامريكتين  إذ ما زالت في ذاكرتي تلك الصورة لرجل وامرأة وطفلهما، من هنود السيلنام الأصليين في أمريكا اللاتينية، أثناء نقلهم عن طريق البحر للعَرض فى أوروبا فى حدائق حيوان بشرية " أؤكد بشرية " فى نهاية القرن التاسع عشر شأنهم شأن الحيوانات المتوحشة

حيث التقطت هذه الصورة سنة 1899، لكن نقل مجموعات من هنود السيلنام بدأ في سنة 1889، بإذن من الحكومة التشيلية وقتذاك لنقل أحد عشرَ شخصاً للعرض فى أوروبا

كان شعب السيلنام  المسالم، يعيش فى منطقة بتاغونيا المعزولة، بين الأرجنتين وشيلي، واكتشف الأوروبيون شعب السيلنام، من خلال نار مخيماتهم، التي كانت تظهر من بعيد .

كان عددهم صغيرا لا يزيد عن ثلاثة آلاف نسمة، حسب إحصائيات سنة 1896، وكانوا يتكلمون لغة تسمى «تشون» ويعملون بالصيد، وجمع المحاصيل، ويتمتعون بطول القامة، والقوة البدنية، والقدرة على التكيّف، وتجنبوا الاتصال أو التعامل مع المستعمرين الأسبان الذين استولوا على الكثير من مواردهم الغذائية وقتلوا الكثير من الحيوانات التي كان يتغذى عليها السيلنام، كما أقاموا مزارع خراف واسعة لأنفسهم على أراضي السيلنام .

ولم يستطع هنود السيلنام، فهمَ مسألة الملكية الخاصة التي فرضها الأسبان على مزارعهم، فكانوا يصطادون الخراف من أجل الغذاء ومواصلة العيش  ليس إلاّ، وهو الأمر الذي رآه الأسبان قطعا للطريق، فبدأوا يهاجمونهم ويرسلون إليهم العصابات المسلحة لتقتلهم، وتأتي بآذانهم ويقطعونها كدليل على القتل .3871 حديقة حيانات بشرية

وفى الربع الأخير من القرن الـتاسع عشر  تم إرسال ثلاث مجموعات من هنود منطقة بتاغونيا إلى أوروبا، حيث تم عرضهم فى حدائق الحيوان البشرية حالهم حال الحيوانات البرية والمتوحشة حينما تُعرض امام الاطفال والزائرين  في الحدائق بعد وزنهم وقياسهم وتصويرهم ؛ وكان يتم عرضهم على الجمهور من 6 إلى 8 مرات يوميًا، وكانت الرعاية الصحية سيئة، ولهذا لم يستطع بعضهم التحمّل فماتوا قبل الوصول إلى أوروبا

في العام 1919 كان عدد هنود سيلنام 297 شخصًا وبسبب التنكيل والتحقير والقتل والاستهانة وبذاءات المستعمر الاسباني  انخفض العدد إلى 25 فرداً فقط بحلول سنة  / 1945

وفي العام 1974 توفيت "أنجيلا لويج" آخر هندية من هنود سيلنام، وانقرضت لغة تشون تماما وأعدادهم كلهم ولم يبق ايّ أثر لديهم على كوكبنا .

شكرا للديمقراطية وسعة الصدر التي تملكها .

تلويحة محبة واعتزاز الى المدنية الغازية لأنها أفنت شعبا صغيرا مسالما لا عدوانيا  .

هكذا جعلناكم شعوبا وقبائل ليتمّ تصفيتهم  لا ليتعارفوا بل لينقرضوا تماما من وجه أديم الأرض .

فما حلّ ببقية الهنود الحمر في أرض اليانكي وقتذاك أهون بكثير مما حلّ بشعب سيلنام بأعداده القليلة وتمّ فناؤه وإبادته تماما على يد الرجل الأبيض حينما تتوحش.

***

جواد غلوم

 

لا شك أن هناك علاقة بين العنف والسياسة، فالعنف يعني استخدام القوة بغض النظر عن شرعية استخدامها، والسياسة هي علاقة بين حاكم ومحكوم وهي السلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية وتحظى هذه السلطة بالشرعية حيث السلطة السياسية تعني القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل أشياء سواء أراد أو لم يرد.

 تعتبر السياسة إحدى أهم ادوات إدارة الازمات وحل المشاكل سواء على المستوى الوطني او العالمي هذا وتعتبر السياسة إحدى ادوات الوصول الى السلطة وبأي ثمن من خلال حملات التضليل والترويج لسياسة معينة او استعمال اسلوب التخويف من سياسة الخصم او العدو.

في أستراليا وقعت هذا العام عدة حوادث عنف وهناك ظاهرة العنف المنزلي او الأسري والتي ذهب ضحيتها قرابة 30 امرأة منذ بداية العام اي بمعدل امرأة كل 4 ايام وهذه الظاهرة ليست جديدة وإن ازدادت حدة هذا العام.

 الحكومة الفيدرالية الحالية ومنذ عامين كانت  قد رصدت مبلغ أكثر من 2 مليار دولار بقليل للحد من هذه الظاهرة وزادت عليهم قرابة المليار مؤخراً بعد اجتماع المجلس الوزاري الوطني الذي يضم حكومات الولايات والمقاطعات الى جانب الحكومة الفيدرالية، ولن ادخل في تفاصيل كيف صرفت او ستصرف هذه الأموال ولكن مقاربتي للمشكلة هي من الجوانب السياسية للعنف سواء الذي يصنف جرائم إرهابية او جنائية او عنف اسري.

بالنسبة للعنف الأسري كثرت الدعوات لتشكيل لجنة تحقيق ملكية عارضتها الحكومة الفيدرالية وايدتها المعارضة، وبنت الحكومة موقفها على ان  تحقيقات اللجنة تحتاج لسنوات لإعطاء توصياتها، والملفت ان المعارضة والتي حكمت البلاد منذ  عام 2013 حتى العام 2022 لم تحرك ساكناً لوضع حل جذري لهذه المشكلة الإجتماعية المزمنة.

وكانت المفاجأة التي فجرتها اليوم 5/5/2024 الوزيرة كاتي غالاغر وزيرة شؤون المرأة وزيرة المالية وزيرة الخدمات العامة على تلفزيون أي بي سي برنامج "انسايدر" عندما قالت أنه من أصل 500 وظفية خصصت لمكافحة العنف الأسري فان الحكومة لم توظف الا 30 موظفاً.

بالإضافة الى جرائم العنف الأسري وقعت في سدني في نيسان الماضي جريمتين الاولى كانت الاعتداء على المتسوقين في مجمع بونداي جانكشن التجاري والذي ذهب ضحيته 6 أشخاص معظمهم من النساء ونفذها نويل كوتشي الذي قتلته الشرطة ولم تصنف الشرطة العملية بالإرهابية وقالت ان المنفذ  كان يعاني من مشاكل نفسية.

بعد 3 أيام على جريمة بونداي وقع حادث إعتداء على رجل الدين القس مار عامانوئيل وبعض المصلين في كنيسة الراعي الصالح في منطقة ويكلي وقد اصيب بعضهم بجراح ولم يقتل أحد في هذه العملية التي صنفتها الشرطة بالإرهابية لان دوافع المهاجم عقائدية حسبما قالت الشرطة.

سببت هذه المعاملة التفضيلية قلقاً من ازدواجية المعايير لدى مجموعتين هما الناشطون في مجال العنف المنزلي وبعض مجموعات المجتمع الإسلامي، فأعرب الناشطون في مجال العنف المنزلي عن غضبهم أن الهجوم الوحشي الذي وقع في بوندي، والذي تعترف الشرطة أنه كان يستهدف النساء على وجه التحديد، لا يعتبر عملا إرهابيا. وثانيًا، بين بعض مجموعات المجتمع الإسلامي التي تشك في أن مرتكب الجريمة المسلم سيُعتبر إرهابيًا، ولن يعتبر غيرالمسلم إرهابيًا حتى لو فعل الشيء نفسه.

بالعودة الى السياسة والسياسيين والاعلام والتصدي لمشاكل العنف ففي الوقت الذي فتحت الحكومة معركة مع صاحب منصة أكس ايلون ماسك على خلفية الطلب الذي تقدمت به الحكومة من أكس بعدم بث صور الهجوم في الكنيسة والتي رفضها ماسك مع انه وافق على وقف بثها في أستراليا فقط.

فعلى الرغم من ذلك  نجد ان السياسيين الاستراليين ولأسباب سياسية يتغاضون عن دور الإعلام التقليدي في أستراليا والذي يحرض بشكل أو بآخر ضد فئات معينة، مثل طالبي اللجوء على سبيل المثال حيث يتم إلغاء الصفة الإنسانية عنهم، وكأنهم يشكلون خطراً على الأمن القومي ولأسباب سياسية بحث، وهذا التخويف والإستغلال تتشارك فيه كل من الحكومة والمعارضة وبأساليب مختلفة خدمة لاجنداتهم السياسية وهذا ما حصل بعدما اتخذت المحكمة العليا في تشرين ثاني 2023 قرارها باطلاق سراح بعض طالبي اللجوء الذين كانوا محتجزين بدون سقف زمني، ومع ان القرار صدر عن أعلى هيئة قضائية في البلاد فقد تم تقاذفه ككرة سياسية بين المعارضة والحكومة فاتهمت المعارضة الحكومة بعدم الاستعداد لاطلاق هؤلاء المحتجزين المدان بعضهم بجرائم سابقة.

وأفضل من يصف هذه الحقيقة هو سكوت موريسن رئيس الوزراء الفيدرالي السابق (أحرار) الذي يصف نفسه بالمؤمن ولم يستطع ان يتبع توصيات السيد المسيح حيث يقول: "ان العالم الذي خدمت فيه كسياسي لم يكن يفكر إلا في السلطة، كيفية اكتسابها، وكيفية التعبير عنها، وكيفية استخدامها (غالبًا ضد الآخرين)، وكيفية التمسك بها. لم يكن أمراً سهلاً أن يكون لديك نفس موقف السيد المسيح، وأعترف أنني فشلت في بعض الأحيان"

وعن جذور العنف يقول الكاتب وليد علي في مقالة له في الهيرالد 3/5/2024  بعنوان :إن تحميل جميع الرجال المسؤولية عن أقلية عنيفة فشل في الحفاظ على سلامة النساء.

يقول علي: لأن عملي الأكاديمي كان يدرس جذور العنف، حيث تحدد الأبحاث بأغلبية ساحقة عوامل مثل الإذلال والعار والشعور بالذنب كدوافع محفزة، وليس قلة الاحترام. عندما تذكر أدبيات الاحترام ، فإن الأمر لا يتعلق بعدم احترام مرتكب الجريمة للضحية: بل يتعلق الأمر أكثر بشعور مرتكب الجريمة بأن شخصًا ما لم يحترمه.

ويقارن علي بين تحميل كل الرجال المسؤولية عن العنف بين النساء وتحميل كل المسلمين المسؤولية عن الارهاب،  ويقول:"فكلما سمعت هذا الخطاب أكثر، كلما ذكّرني بان الأمر متروك للمسلمين لتحمل مشكلة الإرهاب والتعامل بجدية مع حلها. وأن على المسلمين الطيبين أن يضعوا حداً للمسلمين السيئين ، وأن المسلمين بحاجة إلى البدء في تحدي الإسلام المتطرف؛ وأن الإرهاب كان نهاية سلسلة متصلة بدأت بالخطاب المناهض لأميركا، أو بالنساء اللواتي يرتدين الحجاب. ويضيف الكاتب بأن هذه المقاربة كان لها مردود سلبي لانه أشعر المسلمين يالغربة وفي كثير من الحالات أصبحوا دفاعيين".

إن أولويات الشعب الأسترالي هي وضع حد لغلاء المعيشة وتوفير المساكن وحل مشكلة الإسكان والعنف واتخاذ المواقف المحايدة في ما يتعلق بالقضايا الخارجية وخصوصا القضية الفلسطينية.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو  ما هي خطة الحكومة وخطة المعارضة لحل هذه القضايا التي تشكل هاجس لكل مواطن أسترالي؟

 وقد يكون أفضل جواب على هذا السؤال العنوان الذي عنونت به الكاتبة نيكي سافا مقالتها في صحيفة الهيرالد 2/5/2024: إن السردية السائدة عن البانيزي "الضعيف" وداتون "السيء" أصبحت راسخة .

وتعتقد سافا انه إذا استمرت الأمور على ما هي عليه فإن الأحزاب الكبرى ستتراجع شعبيتها ووتتدنى نسبة التأييد لها وتعرض الكاتبة في مقالاتها لاسباب ذلك التراجع سواء كانت الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وإداء كل من رئيس الوزراء وزعيم المعارضة.

أخيراً، برز عنصر جديد في الأشتباك بين الحكومة والمعارضة على خلفية تعديل قوانين الكفالة حيث بدأت الاتهامات تتطاير بينهما على خلفية أخر جريمتين وقعتا ضد النساء لان المنفذين خرجوا من السجن بكفالة، ولا يقتصر الامر هنا على الحكومة والمعارضة الفيدرالية  بل يتعداها الى دور حكومات الولايات والمقاطعات وما هو المطلوب منها في هذا الخصوص.

***

عباس علي مراد - سدني

 

أعاد مشهد وضع الاصفاد في يدي الأستاذة نويل ماكافي رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري في مدينة اتلانتا بولاية جورجيا، خلال التظاهرات المتصاعدة التي اندلعت في أغلب الجامعات الأميركية، إلى الأذهان تلك التظاهرات المشهودة التي قادها الفيلسوف الانكليزي برتراند راسل في ستينيات القرن الماضي احتجاجاً على الجرائم المروعة التي شهدتها حرب فيتنام. ولم يكتف بذلك إنما عمل مع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على تشكيل محكمة دولية " راسل – سارتر " لمحاكمة الولايات المتحدة على ممارستها الإجرامية في تلك الحرب. وقبل وفاته عام 1970 بأربع سنوات أنتهى من مسودة كتابه "جرائم الحرب في فيتنام" الذي تُرجم لاحقاً إلى اللغة العربية، وفيه تناول فظائع الحرب في فيتنام، ووحشية العالم الحر، وموجهاً من خلال صفحاته نداءً إلى الضمير الأميركي للاحتجاج على تلك الفظائع والجرائم والممارسات البشعة التي أرتكبت باسمه ضد الشعب الفيتنامي.

نويل ماكافي التي بدت في لقطة فيديو هادئة شجاعة بين يدي رجل الشرطة وهو يجرها للاعتقال، كان كل ما يشغلها أن تُعَّرِف نفسها لشخص قريب من مكان اقتيادها وتطلب منه الاتصال بمكتب كلية الفلسفة ليخبرهم أنه تم اعتقالها، إنها تواصل من دون قصد طريق راسل، طريق الفلسفة التي تأبى إلّا أن تكون مع الحرية والحق والعدالة والسلام، ومع الانسان في مواجهة آلة الحرب البشعة، ورفض كل أشكال الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين الأبرياء، وكل أشكال العدوان على الشعوب. وبفضول الصحفي، وبمساعدة ابن أخي السينمائي زياد تركي الذي يتابع من واشنطن تلك التظاهرات بحكم عمله، حاولت التعرف أكثر على هذه المرأة التي لفتت انتباه الناس واعجابهم في كل مكان، قمتُ بالدخول إلى الموقع الإلكتروني لقسم الفلسفة بجامعة إيموري حيث تشير سيرتها الشخصية إلى أنها  حاصلة على الماجستير في السياسة العامة من جامعة ديوك 1987 وهي من أقدم الجامعات الأميركية، وعلى ماجستير ثانية في الفلسفة من جامعة ويسكونسن ماديسون العريقة 1990، وعلى الدكتوراه في الفلسفة من جامعة تكساس 1998، فضلاً عن كونها أستاذة الطب النفسي والعلوم السلوكية، ومديرة برنامج دراسات التحليل النفسي في جامعة إيموري. وتؤكد سيرتها الشخصية أيضاً على أنها منظرة نقدية تعمل وفق تقليد مدرسة فرانكفورت "وهي مدرسة فلسفية اجتماعية نقدية نشأت في جامعة غوته بمدينة فرانكفورت الألمانية"، وقامت بتأليف خمسة كتب، وكتبت أكثر من ثمانين مقالاً، وقد فاز كتابها المعنون " الخوف من الانهيار : السياسة والتحليل النفسي" بجائزة " كتاب الشجاعة من أجل الحلم " لعام 2020 من الجمعية الأميركية للتحليل النفسي، وتتركز اهتماماتها البحثية الحالية على النظرية النقدية، والتحليل النفسي، والفلسفة النسوية، والنظرية السياسية.

وبالعودة إلى برتراند راسل، فقد أعلن في مقدمة كتابه عن جرائم الحرب في فيتنام عن يقينه من " أن الأجيال الأمريكية المقبلة التي ستكون على درجة عالية من الوعي ستجد ان الجذور التاريخية ليقظة الضمير الأمريكي ترجع إلى ثورة فيتنام التي امتدت عبر ربع قرن". وقد تحققت نبوءته في العديد من المواقف التي جسدت يقظة الضمير الأمريكي، وآخرها ما فعلته الأستاذة نويل ماكافي وزملائها وطلبتهم في تظاهرات الجامعات الأمريكية المناهضة لحرب الإبادة الجماعية الصهيونية في غزة التي أيقظت " الضمير الأمريكي " بقوة هذه المرة .

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

 

النظرية المثالية الوحيدة في منظومة قيم الإعلام، التي تتأبى الخضوع لبروبغندا السياسات الموجهة، أو الملغومة، هي نظرية "الأخلاق التاريخية" و"أنسنة المعرفة الإعلامية". فما دام المثال النابض لصيرورة هذه المعرفة واستمرارها في الوعي الجماعي العالمي، يلتقي مع الفطرة البشرية السليمة، والاحتذاء بمقومات العمل والسلوك الحضاري والعمراني السليم، فإن جزءا كبيرا من نظام الشكية حتما يسقط تحت ضغط القلة، مهما كان حجم عطائها وتواصلها. إنها ديمقراطية الأقلية، التي تعدل في مسلكياتها، وتبتغي الرسوخ والتجذر في تربة المستقبل.

مناسبة هذا القول، لا تخرج عن دائرة تعاطينا مع منظومة تغطيات الإعلام الغربي لأحداث الحرب الوحشية على غزة. وأمثلة ذلك متعددة، حاصرتنا طيلة 200 مائتي يوم ونيف من القتل والتدمير والحرق والتهجير والتجويع ..إلخ، ولم يكن آخرها ثورة الجامعات الغربية في كل بلدان أوربا والولايات المتحدة الأمريكية.

 كانت لهذه الفورة الأخيرة، ردات أفعال متقدمة من قبل نخب أكاديمية وطلبة العلم وبعض مديري الجامعات والمعاهد الكبرى، وكان لذلك، أثر حاسم في إعادة تأويل أحداث غزة وتصنيفاتها في وسائل الإعلام المغيبة أو الغائبة، بفعل قوة السلطة الغربية واختياراتها الأيديولوجية والسياسية، وتأسيساتها التاريخية والوجدانية والدينية والقومية.

وقاوم الطلبة والأساتذة المحتجون المناهضون للحرب في غزة وللدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، كل التهديدات انطلاقا من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، لتتسع رقعة الحركة الاحتجاجية والتي اندلعت بعد اعتقال أكثر من 100 شخص في جامعة كولومبيا، حيث باتت تشمل جامعات تكساس وأتلانتا وبوسطن.

وعلى مدار الأسبوعين الماضيين، اعتقل مئات من المتظاهرين من كاليفورنيا وتكساس إلى أتلانتا وبوسطن أثناء قيامهم بمحاكاة المخيمات التي استخدمها طلاب جامعة كولومبيا للفت الانتباه إلى الأزمة الإنسانية في غزة. كما هو الأمر بالنسبة لفرنسا في السوربون وإسبانيا والسويد ...

تحت عيون كاميرات الهواة ومواقع التواصل الاجتماعي، بدا الإعلام الغربي خارجا عن السياق، متخرصا لا يلوي على أثر، أصابت ديمقراطيته لوثة الكيل بمكاييل، والنظر بمهماز التحايل والمؤامرة والاستقواء؟، حيث انتقلت "الديمقراطية الإعلامية" من مجرد خرصة في أيدي مدبري "البروبجندا المعكوسة" إلى بوصلة غير شفيفة، تحيق بنظارات دركي العالم الذي ينظر لكل ما يحصل في غزة بلون واحد هو الأسود الداكن؟.

نفس أدوات الدعاية التي وصفها غوستاف لوبون في إحدى نظرياته الاجتماعية، لا تتناسب البتة مع حالات غير مناسبة من الأسلحة القيمية الهدامة، تصير الدعاية بمثابة تواطؤ وعقيدة مصطنعة، مثلما هي الأقفاص المهيأة لاستحضار أبطال في عالم موهوم بالديمقراطية، وغريب عن منطقها وتدافعها ..

قرأت مؤخرا خبرا مهما، يصلح أن يكون نموذجا لإشكالية توجيه الأخبار وتقييدها بالأحداث، على مسار سياسات الدولة الحاضنة. حيث أشرفت شبكة الأخبار “بريكينغ بوينتس” الأمريكية على موقع يوتيوب، على دعم وتمويل استطلاع، ينطلق من فكرة أن "تويتر ليس واقعا حقيقيا" أو "لا أحد يشاهد أخبار القنوات الفضائية"، ويسأل عن "من أين يحصل الناس على معظم أخبارهم".

الاستطلاع الذي شمل 1001 من البالغين الأمريكيين ، قال إن هؤلاء المستطلعون قد حصلوا على أخبارهم من القنوات التلفزيونية، وهم الأشخاص الوحيدون الذين يعتقدون أن إسرائيل لا ترتكب إبادة جماعية في غزة، وفقا لما تم رصده في مسألة "العلاقة بين المواقف تجاه الحرب وعادات استهلاك الأخبار". كما وقدم الاستطلاع أرقاما حول التوجهات التي أصبحت واضحة بشكل متزايد، وهي أن مشاهدي القنوات الإخبارية هم أكثر دعما للمجهود الحربي الإسرائيلي، وأقل احتمالا للاعتقاد بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب، وأقل اهتماما بالحرب بشكل عام.

في حين أن الأشخاص الذين يحصلون على أخبارهم من وسائل التواصل الاجتماعي أو اليوتيوب أو نشرات البودكاست، يقفون عموما إلى جانب الفلسطينيين، ويعتقدون أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب وإبادة جماعية، ويعتبرون القضية ذات أهمية كبيرة.

القراءة الأولية لمخارج هذا الرصد الاستطلاعي، يثير مسألتين هامتين، في سياق الحديث أبعاد وخلفيات تنميط الإعلام:

الأولى، استحقاقات قيم الإعلام وإوالياته المعرفية والأخلاقية، على الرغم من حدوث قطائع وارتدادات في طرق استعمال أدواته وتوظيفها.

الثانية، استئثار وسائل التواصل الاجتماعي أو اليوتيوب أو نشرات البودكاست، بواجهة المتابعة والصدقية، لدى جمهرة عريضة من المتتبعين، وهو ما يؤشر حتما على انتقال الوعي بالإعلام واتساع سلطاته الرمزية، من مجرد موقع للتشاكي والافتئات والمراوغة، إلى هوية ثقافية تتمأسس على مختلف تمفصلات المجتمع وقضاياه المختلفة. وهنا يمكن التنبيه، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي، تتعلق بعلم الاجتماع وعلم النفس أكثر من تعلقها بالتقنية والتكنولوجيا (بريان سوليس).

***

د. مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان

كتب:

ESKANDAR SADEGHI- BOROUJERDI

ترجمة: علي حمدان

**

في السابع عشر من فبراير من عام،1979 فقط بعد ستة أيام من انتصار الثورة الإيرانية، قام ياسر عرفات بزيارة غير مجدولة الى طهران حيث قام بمخاطبة جمهور من المبتهجين والمعجبين.  " باسم الثوار والمناضلين الفلسطينين اعاهدكم  باننا بقيادة الامام الأكبر الامام الخميني سوف نحرر فلسطين معا اننا نخوض نفس النضال، نفس الثورة، كلنا مسلمون، كلنا ثوريون مسلمون". مع كاميرات الاخبار كانت مركزة عليه، عرفات دخل السفارة الإسرائيلية في طهران حيث تم نصب العلم الفلسطيني من بلكونتها امام جمهور واسع الذي اخذ يهتف عرفات، خميني، والحرية لفلسطين. ترددت أصداء هذه اللقطات في جميع انحاء العالم العربي. للحظة، بدا ان ايران تفتتح حقبة جديدة من الثورة المناهضة للاستعمار، حيث سيكون تحرير فلسطين في المقدمة والمركز. من الصعب اليوم فهم النهج الذي تتبعه الجمهورية الإسلامية تجاه الدولة الإسرائيلية وحملتها القاتلة في غزة دون العودة الى تلك الفترة.

يمكن ارجاع هذه العلاقات التي تربط بين المسلحين الفلسطينيين والإيرانيين الى أوائل الخمسينات من القرن الماضي. ومع ذلك، لم يكن الامر حتى نهاية الستينات، حيث بدا الثوار المرتبطون بما سيصبح في النهاية بالفصيل الماركسي اللنيني فدائي خلق، ومجاهدي خلق بالإضافة الى ضباط المستقبل في الحرس الثوري الإسلامي بالسفر الى مخيمات الفلسطينيين في لبنان للحصول على التدريب في فنون حرب العصابات. وفي عام 1970، قامت مجموعة أخرى من الشباب الإيراني المثالي، والتي أصبحت فيما بعد تعرف باسم مجموعة فلسطين، قامت بالتدرب في المعسكرات الفلسطينية بهدف شن حرب تحرير وطنية في بلادهم. في نهاية المطاف تم القبض عليهم من قبل جهاز السافاك، جهاز امن الشاه المخيف، وتم تقديمهم امام محكمة عسكرية. حيث جلبت لهم قضيتهم شهرة دولية وصلت الى صفحات مجلة الأزمنة الحديثة والهمت جيل من الناشطين الذين اطاحوا بالنظام في نهاية العقد.

كانت قضية تحرير فلسطين مكونا أساسيا في الحركات السياسية والفكرية، بدءا من الماركسية اللينينية ووصولا الى الإسلاميين والشعبويين الدينيين والتي شكلت العملية الثورية  في ايران خلال فترة السبعينات الطويلة. لقد رات الجماهير الفلسطينية والايرانية نفسها انها تواجه عدو مشترك ليس فقط لان الشاه و اسرائيل مدعومتان  من قبل الولايات المتحدة : كان ينظر الى الموساد على نطاق واسع على انه دعم ودرب السافاك، مما جعله مسؤولا بشكل غير مباشر عن استشهاد عدد لا يحصى من الثوار الإيرانيين. وبعد. مرور أربعة عقود، لاتزال اثار هذا الإرث واضحة. تواصل ايران الاحتفال بيوم القدس، وهو مناسبة سنوية" للضعفاء والمضطهدين في مواجهة قوى الاستكبار، والعديد من شوارع طهران وساحاتها ودور السينما تحمل اسم فلسطين، ممثلة رمزا للتضامن العالم الثالثي والإسلامي. "الموت للاسرائيل" من الصيحات الرسمية التي تطلق بعد صلاة الجمعة، ولا يزال اية الله علي خامنئي يتشح بالكوفية اثناء ظهوره العلني. ومع ذلك فقد تغير الكثير منذ فبراير 1979.  لقد مرت أيام الحماسة الثورية والاحتمالية، واصبح عالم الحياة التاريخي هذا ظلا لما كان عليه في السابق.

ولم يستمر ذلك بعد الحرب مع العراق من عام 1980 حتى عام 1988، حيث بدا ان حركة المقاومة العالمية الإيرانية العابرة للحدود الوطنية والمناهضة للاستعمار قد تحولت تدريجيا وبشكل غير متساو- الى مشروع دولة إسلامية مجردة من التعددية الايديولوجية التي ميزت العقود السابقة. وكان هناك عدد من الأسباب لهذا التحول: توسع الوجود  البحري الأمريكي في الخليج الفارسي والذي بدا في عهد كارتر وتكثف في عهد ريغان، العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحظر الأسلحة، والدعم الاقتصادي والدبلوماسي والعسكري والاستخباراتي الذي قدمه الغرب لصدام حسين، بالإضافة الى محاولات الجمهورية الإسلامية احتكار العنف، وهو ما يستلزم قمعا شديدا ضد المعارضة الداخلية. وقد أدى كل هذا الي خلق دولة كانت معزولة دوليا ومحاصرة حقا. فضلا عن كونها عرضة لنوبات من جنون العظمة والاستبداد الشديد باسم الامن القومي. لقد الحقت الحرب بين ايران والعراق اضرارا جسيمة على الطرفين ووصلت الى حدد التنديد الخسيس عندما أدى اعلان النصر مثل " تحرير القدس يمر عبر كربلاء" مما أدى على مضض بقبول قرار مجلس الامن رقم 598.

لقد تعلم الإيرانيون من الصراع ان تصدير الثورة تحت رعايتهم من شانه ان يدفع اعدائهم الكثرين الى توحيد صفوفهم، ولم تتمكن الدولة من ضمان امنها من خلال الوسائل العسكرية التقليدية وحدها. وسوف تحتاج بالضرورة الى اتباع استراتيجية غير متماثلة، وهي العملية التي بدأت بالفعل خلال الثمانينات. حيث تعرضت الجمهورية الإسلامية لعقوبات وحصار شديدين، ولم تكن لديها الرغبة او القدرة على شراء طائرات مقاتلة من طراز F-14 Tomcat من راعيها الامبراطوري السابق. وبدأت في ضخ الموارد في برنامج الصواريخ الباليستيه وغيره من القدرات غير المتماثلة. وكان الجزء الأكبر أهمية في هذه الاستراتيجية، والذي نشأ من جدلية الثورة والحرب وتعزيز الجبهة الداخلية والتطويق الامبريالي، هو تنمية العلاقات العضوية العميقة مع الجماعات السياسية والعناصر الشعبية التي تسعى الى مقاومة الهيمنة الامريكية والإسرائيلية.

وكان من بينها حزب الله الذي اصبح الان اقوى قوة شبه عسكرية غير حكومية في العالم، والذي ظهر بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، عندما استجابت الجمهورية الإسلامية وحرسها الثوري لدعوة الناشطين والمسلحين على الأرض للحصول على الدعم. بعد عقدين من الزمن، سمح الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق والاطاحة بصدام حسين بالتسلل الى البلاد، وإقامة علاقات مع الجماعات السياسية المتحالفة والتي كانت ترغب في خروج القوات العسكرية الغربية من البلاد. وقد تم تعزيز هذه العملية في عام 2014 عندما هزم تنظيم الدولة الإسلامية الجيش العراقي في الموصل، مما أدى الى تشكيل وحدات الحشد الشعبي بناء على طلب من اية الله العظمى علي السيستاني، والتي استمدت الدعم من ايران في القتال ضد المتمردين. وهكذا تبلور "محور المقاومة": من خلال سلسلة من التحالفات الطارئة، والتي غالبا ما تمكنها من خلال التوسع الامبراطوري والمعارضة التي تثيرها حتما. لقد اثبت جهاز الدولة الإيراني مهارة ملحوظة في استغلال الفراغ السياسي والامني للعمل مع الجهات الفاعلة التي تشترك في مجموعة من الأهداف كما يتضح من برقيات ايران التي نشرتها انترسبت:

"ايران او بشكل اكثر تحديدا فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني لا" يسيطر" ببساطة على هذه القوى الأجنبية، على الرغم مما تقوله وسائل الاعلام الغربية، ويختلف مدى تأثيرها تبعا للسياق والمنظمة المعنية. وعلاقتها بحزب الله تختلف اختلافا عميقا عن علاقتها بأنصار الله في اليمن او كتائب سيد الشهداء في العراق، كما ان علاقتها بحماس اكثر تعقيدا. (ايد كل طرف أطرافا متنازعة مختلفة في الحرب الاهلية السورية مما وضع ضغوطا  شديدة على علاقتهم). فلهذه الجماعات دوافعها الخاصة لمقاومة الاختراق الامبريالي الأمريكي او الاحتلال الإسرائيلي او الهيمنة السعودية. انهم بعيدون كل البعد عن كونهم وكلاء لطهران".

وتتضمن رؤية المرشد الأعلى للشرق الأوسط، والتي تم تكليف الحرس الثوري الإيراني بتحقيقها: انهاء الوجود العسكري الأمريكي وتفكيك الحامية الاستعمارية الاستيطانية في إسرائيل. ويشكل الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه ايران لحلفائها جزءا أساسيا من هذه الاستراتيجية، ومع ذلك يتعين على الجمهورية الإسلامية ان تسير على خط رفيع بين تحقيق هذه الأهداف السياسية وتجنب حرب إقليمية مستنزفة يكاد يكون من المؤكد ان تلعب الولايات المتحدة دورا قياديا فيها. وهذا بتطلب نهجا عقلانيا وبرجماتيا. ويعنى ذلك الحفاظ على العمق الاستراتيجي مع حلفاء ايران في الخارج مع تجنب ردود فعل معاكسة في الداخل. ان هذا النهج يلقى قبولا لدى البعض في هذه البلدان الأجنبية ويثير استياء شديدا لدى الاخرين.

حتى الان ما يسمى" حرب الظل" بين ايران وإسرائيل مستمرة منذ عقود، ويتم شنها غالبا بوسائل غير مباشرة. قبل ثورة 1979 كان بين البلدين تاريخ طويل من التعاون الاستخباراتي والعسكري والاقتصادي، وبعد ذلك، ظلت إسرائيل تأمل في ان تتمكن من اصلاح العلاقات مع حليفتها السابقة كجزء من عقيدة " بن جوريون الطرفية"، والتي تهدف الى إقامة علاقات استراتيجية مع دول غير عربية تحيط بالعالم العربي كإيران وتركيا واثيوبيا. بعد اتفاق أوسلو، تبنى السياسيون الإسرائيليون، من شمعون بيريز الى بنيامين نتنياهو، على تحو متزايد خطاب الفوبيا من ايران وسط ذعر أخلاقي بشان نفوذها المتزايد. ومنذ ذلك الحين، بذلت قصارى جهدها لتأجيج هستيريا بشأن ايران لتبرير مشروعها المستمر للاحتلال العسكري والاستيطان الاستعماري. يمكن للمرء القول بان لو لم تكن ايران موجودة لإخترعتها إسرائيل كتهديد مفيد سياسيا. هذا لا ينفى ان الجمهورية الإسلامية تشكل مشكلة حقيقية للنظام الإسرائيلي التوسعي الذي يسعى الى الهيمنة الإقليمية. ولكن الساسة الإسرائيليون الخبثاء، واكثرهم نتنياهو، يستغلون هذه الحجة ويبالغون فيها بشكل روتيني لتحقيق أهدافهم في الداخل وفي الأراضي المحتلة.

العلاقة بين ايران وإسرائيل  هي علاقة يتمسك فيها الجانبان بقوانين اللعبة غير المكتوبة. وتمثلت طريقة عمل إسرائيل في اغتيال العلماء النوويين الإيرانيين، وافراد من الحرس الثوري الإيراني وحلفائه، وتخريب المنشأت النووية واهداف صناعية اخرى، وشن هجمات بطائرات بدون طيار على مواقع عسكرية متنوعة، وشن غارات جوية ضد اهداف مزعومة تابعة للحرس الثوري الإيراني في سوريا. ومن جانبها، واصلت ايران دعم حلفائها على طول الحدود الإسرائيلية، على امل ردعها عن مهاجمة الدول المجاورة وتأكل عزمها علي مواصلة مشروعها الاستعماري في فلسطين.

وفي الأشهر الستة التي تلت طوفان الأقصى، كانت تصرفات ايران متسقة مع هذه العقيدة الأمنية. مباشرة بعد الهجوم اكد خامنئي ان ايران لم يكن لديها علم مسبق به ولا يد لها في التخطيط له. " بالطبع نحن ندافع عن فلسطين والنضال الفلسطيني...لكن من يقول ان عمل الفلسطينيين نابع من قوى غير فلسطينية لا يعرفون الامة الفلسطينية ويقللون من شأنها. وهنا مكمن الخطأ، وقد اخطأوا في حساباتهم". أدت هذه المداخلة العلنية النادرة الى رغبته في تجنب محاولة الدولة الإسرائيلية تحميل ايران المسؤولية وبالتالي اشعال حرب أوسع نطاقا. وكانت القيادة الإيرانية وحزب الله حذرين من الوقوع في هذا الفخ. الامر الذي قد يصرف الانتباه عن الكارثة التي حلت بغزة، ويجرهم الى مواجهة مع الولايات المتحدة. وبدلا من ذلك فانهم يمارسون سياسة أطول نفسا بكثير: الحفاظ على توازن الردع مع إسرائيل، مع الامتناع عن القيام بأي عمل يمكن ان يسبب حربا إقليمية.

ان ضبط النفس في ايران يتحدد جزئيا بوضعها السياسي الداخلي، الذي لا يرال هشا وتسوده التناقضات. لقد نشأ شعور واسع النطاق بالقلق، وسط انخفاض مستوى المعيشة، وفضائح الفساد ونوبات من القمع الوحشي ضد الاضطرابات الاجتماعية- وهو ما ظهر بشكل دراماتيكي خلال الانتفاضة التي قادتها النساء في خريف 2022. وتعانى البلاد من الجمود السياسي مع عدم اليقين بشأن خليفة خامنئي، مما يغذي الاقتتال الداخلي بين النخب المتنافسة. بالنسبة للعديد من الإيرانيين، يبدوا ان التهديد الأمني الأكثر خطورة يأتي من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية داخل حدود البلاد، وليس خارجها. ونظرا لعدم الاستقرار هذا، كان هناك جدل عام مكثف حول تكاليف الدخول في صراع مع القوى الامبريالية، وما اذا كانت البلاد قادرة على تحمل تكاليف ذلك الصراع. صحيح أيضا ان الشعب الإيراني يشاهد برعب جرائم إسرائيل ضد الفلسطينيين، الا ان محاولة الدولة لتحويل معاداة الصهيونية الى عنصر من هويتها الإسلامية قد أدت الى استياء كبير لدى بعض شرائح المجتمع، وربما يكون ذلك اكثر وضوحا لدى جيل الشباب الغاضبين من السياسات الثقافية المتزمتة وأجهزة الرقابة الدينية والاجتماعية.

ومع ذلك، كانت إسرائيل تختبر مدى تردد ايران في الانخراط في اعمال عدائية مباشرة. وكان هجومها الجوي الأخير على المجمع الدبلوماسي الإيراني في دمشق، والذي اسفر عن مقتل العديد من كبار قادة فيلق القدس وانتهاك الأعراف الدبلوماسية الأساسية هو نوع من التصعيد الذي لا تستطيع طهران السكوت عليه، كما كان الحال مع اغتيال قاسم سليماني في يناير عام 2020. كان لابد لها من اتباع عقيدة الردع. اطلقت القيادة عملية الوعد الصادق في 14 ابريل مما أدى الى اول عملية عسكرية إيرانية من أراضيها على إسرائيل: هجوم سرب معقد ومتعدد بما في ذلك  ثلاثمائة مسيرة منتجه محليا وصواريخ باليستية وصواريخ كروز، والتي اظهرتها وسائل الاعلام الحكومية وهي تحلق فوق كربلاء في العراق والمسجد الاقًصى في القدس. وقد أعطت ايران تحذيرا مسبقا عن العملية للدول المجاورة والأميركيين. وبدعم من الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا والأردن، زعمت السلطات الإسرائيلية انها اسقطت 99 ٪ من جميع المقذوفات القادمة، على الرغم من هذا الرقم تم خفضه لاحقا.

ولحسن الحظ، كان لهذه المواجهة غير المسبوقة " مخرج" لجميع الأطراف المعنية. لم يقتل أي مواطن إسرائيلي واحد في الهجوم، مما قلل الحاجة الى انتقام كبير من تل-ابيب، ومع ذلك ظلت الجمهورية الإسلامية قادرة على الادعاء، بانها اعادت التأكيد على خطوطها الحمراء، واستعادت قوة الردع. وقبل ان تنتهي العملية، أعلنت بعثة ايران لدى الأمم المتحدة ان " المسألة يمكن اعتباراها منتهية". وقال قائد القوات الإيرانية اللواء محمد باقري، ان " العمليات انتهت ولا نية لدينا لاستمرارها". ومع ذلك، اصر أيضا على انه اذا قررت إسرائيل الرد فان ايران ستشن هجوما اكبر بكثير دون إعطاء انذار مسبق".

في حين ان الهجوم الإيراني كان يهدف في المقام الأول الى إعادة تأكيد خطوط الاشتباك السابقة، فان حقيقة ان حوالي تسعة من اصل ثلاثين صاروخا باليستيا (الأرقام الدقيقة لا تزال موضع خلاف) كانت قادرة علي اختراق دفاعات القبة الحديدية الإسرائيلية وتحقيق ضربات مباشرة على قاعدتين عسكريتين، بما في ذلك ومن المؤكد قاعدة نيفاتيم الجوية- وهي نفس القاعدة التي انطلق منها الهجوم على القنصلية في دمشق- سوف يؤثر على حسابات القيادة الإسرائيلية في المستقبل.  لا يزال مدى الضربة الإسرائيلية المضادة في 19 ابريل بالقرب من مدينة أصفهان غير واضح،  ولكن من الواضح انها كانت محسوبة لتجنب اثارة المزيد من الانتقام من جانب ايران. ورغم  تبادل الهجمات الأخيرة فانه من غير المرجح ان تؤدي الى حرب شاملة، الا ان ذلك سلط الضوء على ضعف إسرائيل في لحظة سياسية حاسمة.

وكما أظهرت عملية طوفان الأقصى حماقة تجاهل المحنة المستمرة التي يعيشها ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحصار والاحتلال ونظام الفصل العنصري، فان عملية الوعد الصادق قد شكلت سابقة جديدة، تجاهلها من قبل إسرائيل وحلفاؤها الغربيين سوف تكون له مخاطر كبيرة. وقد أظهرت ايران انها بالفعل مستعدة للانتقام من أراضيها اذا قررت إسرائيل تصعيد القتال بشكل متهور وقلب قواعد الاشتباك الراسخة. والسؤال هو ما اذا كانت الدولة الإسرائيلية ستتعلم الدرس وتتراجع عن سياسة حافة الهاوية. رغم ان "بايدن" رفض في هذه الحالة دعم رد قوي من إسرائيل، فقد لا يكون الامر كذلك في المستقبل او في ظل إدارة مستقبلية. ما دامت إسرائيل مستمرة في حربها الشاملة على الفلسطينيين، فان شبح الصراع الإقليمي يظل احتمالا حقيقيا.

***

نيولفت ريفيو. 25  ابريل 2024.

تألف مجموعة الدول الصناعية الكبرى عام 1978 من كل من كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة واليابان. ثم انضمت روسيا إلى اجتماعات رؤساء الدول (مجموعة الثمانية)، دون أن تشاركهم اجتماعات وزراء المالية . سرعان ما أظهرت هذه المجموعة أن التحديات الاقتصادية الكبرى بحاجة إلى تعاون قوى صاعدة في آسيا وفي غيرها. وعليه تأسست مجموعة العشرين وفيها عشر دول صناعة (مجموعة السبعة واستراليا وروسيا ورئيس المجموعة الأوروبية) ، يقابلها عشر دول تمثل الأسواق الناشئة وقد اجتمع وزراء مالية الدول العشرين وانضم إليهم رئيس منظمة التجارة العالمية للتباحث في سبيل تنشيط التجارة العالمية.

لكن أين الدول العربية من هذا؟

من الأسباب التي جعلت الدول العربية مجرد دول مستهلكة لا تصنع نجد أسبابا كثيرة: منها طريقة إدارة دولنا العربية.. في كل دول العالم المتقدم الحكومات تعمل عند الشعب.. في دولنا (عدا مثال او اثنين نعرفهما جميعا) أنظمة الحكم الشمولية لا تستهدف تقدم الدولة لكن تركز على البقاء في السلطة وكل ميزانية الدولة تتجه لخدمة هذا الهدف، دولتان عربيتان توفرت لهما ثروات تكفي لتضعهما في مصاف دول العالم الصناعي هما عراق صدام وليبيا القذافي..ماذا فعل هذان بثروات بلادهما؟ شخصان عسكريان لا يفهمان إلا بالبندقية.

هذا دون أن ننسى أنّ الحكومات هي التي توجه الصناعات.. لكن لا تديرها.. الصناعة تنتج بضائع..هذه البضائع يحكم على نجاحها المستهلك النهائي.. هو من يقرر اي شركة تكبر وتستمر.. لذا يجب ان تحكمها رغبة وطموح في النجاح لا تتوافر إلا عند صاحب الصناعة ودور الحكومة دعمه ومساندته وليس وضع العراقيل وتشذيب طموحاته بمقص الفساد والبيروقراطية.

فالحكومات في الدول الصناعية تستثمر في البحث العلمي وتشارك نتائج البحث مع شركاتها الكبرى للحفاظ على تفوقها.. أما ميزانية البحث العلمي في دولنا محدودة جدا جدا.

علاوة على ذلك، الأسباب النفسية، فالانهزام الداخلي الذي سيطر على الدول العربية وغيرها من دول إفريقيا وآسيا التى خضعت للاستعمارات الغربية ، حيث زرع هذا الحكم الظالم في نفوس الناس ومجتمعاتهم النقص والدونية والاعتماد على الغرب، إضافة إلى التقسيم الذي شتت المنطقة إلى كيانات صغيرة، وتعيين ناخب لقيادة هذه الدول الذي يضع عليها شروطه لضمان استمرار نفوذه وسيطرته على هذه النخب وعلى دولهم.

فقد راعت القوى الاستعمارية في التقسيم السياسي لهذه المناطق ترك مناطق خلاف حدودية وعرقية ودينية بين هذه الدول لتبقى أدوات إثارة الفتن والحروب والاضطرابات في أيديهم، إذ تم إقناع قادة المنطقة أن جيرانهم من الدول الاخرى هم أعداؤهم، وكل دولة تخطط لإسقاط الدولة الجارة لها مما جعل أي مشروع تعاون أو اتحاد بين دول المنطقة صعبا وإن حدث واجتمع الجيران على مشروع تعاوني يتم تسليط كل الأدوات لزعزعته وتفرقته وإفشاله، أقول كل الأدوات حتى لا تعتقد أنّ الغرب فقط، بل أبناء البلد وقادته يتم تسخيرهم لإفشال أي نجاح في المنطقة، كما يحصل الآن بين المغرب والجزائر. مثال ذلك أيضا، زرع الكيان الصهيوني لتبقى هذه المنطقة واقعة تحت تأثير التهديد بالحروب، مما أدى الى استنزاف طاقات هذه الدول وشعوبها في سباق تسلح له الأولوية على كل طريق لتقدم تلك الدول من تعليم وصناعة وصحة، ولذلك تجد دول المنطقة لم تضع أهدافا تصب في خدمة شعوبها وتطويرها وبقيت كل الاهتمامات في الجيوش التي تحمي القادة من شعوبهم وليس من عدوهم الرئيس.

نتكلم عن صناعات مهمة غير موجودة بالدول العربية، أو وجودها ضعيف جدا: الصناعات الميكانيكية كالسيارات والمحركات والآلات، كذلك الصناعات الكيماوية (موجودة فقط في السعودية)، الصناعات الإلكترونية كالكمبيوترات والرقائق والبرمجيات، أيضاً الصناعات الطبية كالأجهزة الطبية والأدوية، الصناعات الثقيلة كالصلب والفولاذ، الصناعات الغذائية ( موجودة عندنا بشكل خجول)، الأدوات المنزلية الكهربائية، الألبسة والمفروشات (موجودة على نطاق صغير وبجودة سيئة).

ما الحل إذن؟ طيب إتفقنا على أنّ دعم الحكومات هو طريق مسدود.. ماذا عن الدعم الشعبي؟؟ نحن لا نشتري مدفوعين بنخوة وطنية بل من مبدأ أنانية شخصية، ربما صوتنا أعلى من غيرنا عندما يتعلق الموضوع بالوطنيات لكن يخف كثيرا عندما نصل للكاشير، صحيح منتجاتنا المحلية خجولة جدا بمقياس الجودة مقارنة بالمستورد لكن إن لم ندعم المنتج المحلي لن يتطور ويكبر ويصبح صالحا للمنافسة، هذا الشعور القومي موجود في كل الدول الغربية وبعصبية كبيرة جدا.. نادرا ما ستجد سيارة غير إيطالية في شوارع إيطاليا وليرحمك الله إن إستعملت زيت زيتون إيطالي في مطعم بإسبانيا أو ماكينة نسيج غير تركية في مصنع بتركيا، لا توجد علاقة مباشرة بين المستهلك والمنتج لكن المستهلك يعرف أن دعمه لمنتج بلده سيعود بالنفع يوما ما عليه وعلى أبنائه.

وقد أشير إلى نقطة مهمة جدا، وهي الجامعات العربية، وإلى المحتويات الدراسية التي نقدمها لطلابنا، هل تشجع على الصناعة والخلق والإبداع؟

ربما ينبغي علينا أن نتوقف لوهلة عن اتباع أوامر الأجيال السابقة والاستماع لمحاضراتهم التي تقدس الجامعة وتخبرنا بأهميتها اللانهائية، فإن أمعنا النظر بعدد خريجي الجامعات اليوم وعدد الوظائف المتاحة لهم، سوف نلاحظ تلك الفجوة التي لن تتوقف عن الاتساع إلى أن يدرك أولئك الجامعيون أن قيمتهم الوظيفية تقل بمرور الوقت، وأنهم إن أرادوا حقًّا النجاة بالمنافسة الشرسة بينهم، فعليهم أن يتعلموا المزيد من المهارات ويحصلوا على خبرات أكثر بجانب الدراسة.

ومن هنا يبدأ العراك أيضاً، حيث تجد إصرار الأجيال السابقة على تطبيق خططهم على أجيالنا الحالية، ظنًّا منهم أنها سوف تصيب النجاح كما أصابوه هم حينما درسوا بالجامعة. لكنهم أغفلوا تمامًا وجود ذلك الفارق المهول بين عدد خريجي الجامعات في الماضي، وعدد خريجي الجامعات الآن. ففي الماضي نجد أن عدد الوظائف التي تحتاج إلى دراسات جامعية تكفي الخريجين، لكن الآن لم يعد الوضع كالسابق، حيث تفوق عدد الخريجين على عدد الوظائف المتاحة، وتفوقت الآلات على الخريجين ما تسبب بتقليص الحاجة إلى العدد المهول من خريجي اليوم، وهو ما صنع الفجوة. فيا أولياء الأمور، ربما حان الوقت كي تتوقفوا عن إلقاء أبنائكم بتلك الفجوة التي تبتلع آمالهم وسنوات عمرهم… ربما حان الوقت كي تساعدوهم على تجنبها من خلال التفكير بطرق جديدة للخوض في الحياة كأن يتعلموا تأسيس مشاريعهم الخاصة بجانب الجامعة، وليس ترك أفكارهم عن مشاريعهم الخاصة بسبب الجامعة.

الجامعات العربية لا تحب الإبداع، فمن منا لم يتم إخباره يومًا بأن عليه أن يجيب في الامتحان بما هو مكتوب بالكتب فقط؟

حساباتك، حيث أصبحوا مجرد موظفين يقومون بإلقاء المعلومات المقررة بهدف مجاراة الجدول الدراسي والحصول على الراتب آخر الشهر، غير واضعين في الاعتبار ما إذا كان أولئك الطلاب سوف يقدرون على ملاحقتهم أم لا.

حينها لن تجد غير مئات الصفحات التي يتطلب منك حفظها بأسرع وقت ممكن، والعشرات من الواجبات المطلوب منك إنهاؤها كل أسبوع كي تحصل على أكبر قدر من الدرجات أنت أيضًا آخر العام، من ثم تقوم بنسيان المناهج كأن شيئًا لم يكن.

الخبرة الوحيدة التي ستحصل عليها عندما تذهب إلى الجامعة، -حرفيًا- هي خبرة ذهابك إلى الجامعة لا أكثر . لا تتوقع غير ذلك إن كنت على شفا الالتحاق بها، حيث إنك لن تتعلم سوى الاعتماد على نفسك إن كنت طالبًا مغتربًا يقيم بمدينة جامعية، أو طرق أفضل لتوفير أموالك من خلال استخدام المواصلات العامة كل يوم. أما بالحديث عن الخبرة العملية التي ستحتاجها بعد أن تتخرج من الجامعة كي تعمل، فلن ترى أيًّا منها طوال سنواتك الدراسية ببساطة؛ لأن الجامعة لا تعرف كيف تعلم الطلبة ذلك الأمر. لذا إن كنت ما تزال طالباً بالجامعة أو أوشكت على الالتحاق بها في خلال السنوات القادمة فحاول قدر الإمكان أن تتعلم بجانبها كيف تتعلم وكيف تفكر، لتتعلم بعض المهارات الجانبية أيضًا أو لتصنع عملك الخاص إن شئت، فقط لا تترك أفضل سنوات عمرك تضيع بذلك النظام التعليمي العقيم.

فرص الصناعة لايمكن استغلالها دون قلب أنظمة التعليم رأسا على عقب بحيث يتم تعميم التأهيل المهني وتغيير ثقافة العمل بشكل راديكالي. ومما يعنيه ذلك التخلص من خرافة أن هناك أعمالا لا تليق بجميع الباحثين عن عمل مهما اختلفت خبراتهم وأخرى تليق بهم.

***

ذ. فؤاد لوطة

 

اهتزت مدينة عدن، صبيحة 29 يناير 1992، لاغتيال الشَّابة لينا مصطفى عبد الخالق(1973-1992)؛ فكان فاجعةً لأسرتها وللعدنيات كافة، بعد نشر صحيفة «صوت العمال»، في اليوم التالي، القصة كاملةً. كانت هاربة مِن بيت الشيخ الإخواني عبد المجيد الزَّندانيّ(1942-2024)، وبعد التحقيق ظهر أنها قُتلت برصاص مسدس ابنته. اعترف إعلام الإخوان، أنها كانت في الدَّار، لكنها خطفت المسدس وانتحرت به، والسؤال هل تدربت لينا عندهم على السّلاح، فقد عهدها مَن يعرفها لا شأن لها بذلك.

بعد قيام الوحدة(مايو 1990)، أظهر الإخوان المسلمون قوتهم بعدن، بتأسيس معسكرات للتدريب قُرب محافظة لحج، وكان الزَّنداني الخطيب، والمجند للشّباب في التنظيمات المسلحة، مثلما كان يُجند ويرسل أمثالهم إلى أفغانستان، وإعلامياً كانت صحيفة الإخوان «الصّحوة» مهيمنة بعدن، تهدد إعلاميين وكُتاب، بجرعات مِن التّرهيب، رداً على ما كانوا ينشرون في «صوت العمال»، الصَّحيفة، التي ظلت تواجههم بشراسة، لذا عمدوا إلى حرقها صيف 1994.

كانت لينا طالبتنا في ثانوية الجلاء، تجلس في المقدمة، هادئة وذكية، تجادل في درس الفلسفة، عضوة في اتحاد الطلبة «أشيد» التابع للحزب الاشتراكيّ، كبقية الطلبة آنذاك، وبعد الوحدة أخذت تتغير، حتّى ارتدت النقاب الإسلامي، الذي كان يفرضه «الإخوان» والعائدون مِن أفغانستان على منتسباتهم، مِن الذين كان «الإخوان» يشرفون على إرسالهم في الثمانينيات، وبعدها تأسست جامعة الإيمان بصنعاء برئاسة الزّندانيّ، التي أخذت تُخرج كوادر للعنف الدّيني.

غابت لينا عن أهلها، بعد عجزهم مِن نصحها، وأخذت تعاملهم ككفار، ضمن ما تلقته مِن غسل الدّماغ، كان والدها القاضي مصطفى عبد الخالق، رئيس المحكمة العليا بعدن قبل الوحدة، ثم مسؤول تنظيمات الاشتراكي بصنعاء، بعد الوحدة.

تلقى اتصالاً هاتفياً، مِن داخل صنعاء، أنَّ ابنته موجودة، والمتصل يطلب موافقته على زواجها مِن أحد «المؤمنين». يقول، وقد جمعنا به لقاء في بناية «صوت العمال»، بعد الحادث، أنه أجاب المتصل: «هل مِن عاداتنا الزَّواج بهذه الطريقة؟ ومَن الزَّوج»؟ لكن المتصل طلب الموافقة الفورية. خمن الأب أن يكون الزواج لأحد مشايخهم.

بعد بفترة أُعلن العثور على لينا مقتولةً، قرب دار الزَّنداني، وكان المسدس مرمياً بقربها، وكأنها انتحرت به، ولما أصر الأب على فحص جثة ابنته؛ ومكان الحادث فوراً، ظهر له أنَّ الرَّصاصات(كان قاضي تحقيق) أصابتها من الخلف، ونعليها متفرقان، ما يُشير إلى أنها كانت راكضة هاربة، فكيف انتحرت؟

رفض الأب دفن ابنته، وغلق التّحقيق، وعدم الاعتراف بقصة انتحارها كأمر واقع. لذا؛ ظلت محفوظة في ثلاجة المستشفى لشهور، والوفود تتردد عليه، لحل الموضوع بالترضية، فسمعته يقول: «إنَّ القضية ليست معه، إنما تراجعت عما دخلت فيه، ورفضت التزويج، فهربت». ولأنها اطلعت على خفايا، في تنظيماتهم وما يدور فيها، كان الخيار تصفيتها، وتلفيق قصة انتحارها. دفنت لينا، ولم تُدفن قضيتها، فطوال التسعينينات، كان الزندانيّ وإخوانه جزءاً مِن السُّلطة، فلم يُفتح التحقيق.

في حينها اعتبر حادث اغتيالها موجهاً لبنات عدن ونسائها، فاحتشدت تظاهرات نسائية، على اعتبار قضية لينا قضيتهن. اشتد الحال خصوصاً بعد الفتوى التي أصدرها مشايخ الإخوان؛ وبينهم الزّنداني، في شرعية الحرب ضد الجنوب؛ فإذا كانت هناك محاولات لفتح التحقيق بالقضية، إلا أنها ألغيت تماماً بعد سقوط عدن(1994)، وإعلان الانتصار عليها بالإخوان والجماعات الإسلاميّة؛ فصار الجنوب كافة، قصته تشبه قصة لينا.

كلما ظهر الزّندانيّ خطيباً مبشراً بالخلافة- حَدد تاريخ إعادتها(2022)- تطل لينا بخيالها صارخةً: «أين حقيّ» في هذه الخلافة؛ والعبارة كانت عنوان قصيدةٍ لمحمد صالح بحر العلوم(تـ: 1992)، قالها في حوادث ضاعت فيها الحقوق، باسم الدّين، كحقّ لينا بالقصاص.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

المطلوب تهيئة متطلباته وتحديد الجهة المسؤولة عن إدارته

خلال لقاء جمع رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني بالمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، في 18 اَذار الماضي، أُثيرت رغبة العراق في مزاولة نشاطه السلمي في مجال الطاقة النووية، وهي رغبة ليست وليدة اليوم- بحسب خبراء ومعنيين. وقد أرسل العراق للوكالة الدولية خطته من 2023 إلى 2030، التي تتضمن إنشاء مفاعلات نووية ومنظومات تحت الحرجة ومحطات كهرونووية، تسمى دورة الوقود النووي، فيما تحتاج البلاد من 5 إلى 6 سنوات لإنشاء مفاعل جديد.

وكان وزير التعليم العالي، نعيم العبودي، أعلن، في 11/10/ 2023، عن الموافقة الأصولية على إنشاء مفاعل نووي صفري مخصص للبحوث العلمية والتعليم لصالح طلبة الجامعات، مبينا أن المفاعل سيقدم الدعم للطلبة والباحثين في الجامعات، مما يسهم في تطوير قطاع البحث العلمي في البلاد.

مزاولة الطاقة النووية للأغراض السلمية طموح مشروع لبلدنا، لكن ثمة تساؤلات مشروعة أيضاً تطرح نفسها عن مواكبة التعليم العالي في العراق لمثل هذا المشروع الكبير، وعن الجهة الحكومية التي ستديره في ظل التعدد الحالي للجهات ذات العلاقة.

بشأن مواكبة التعليم العالي في العراق لهذه التوجهات، أكد المستشار السابق في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق واليونسكو، البرفسور محمد الربيعي،لـ " طريق الشعب"،في 26/3/2024، "ان العراق ومن خلال مناهجه التعليمية على مستوى التعليم العالي، إضافة الى تجاربه المختبرية، لا يواكب هذه التوجهات، وان الحديث في مثل هذا الموضوع يقتصر على الأغراض الإعلامية لا اكثر".وأضاف الربيعي ان “هذه التوجهات (اعتباطية) الغرض منها اعلامي، لا سيما اننا منذ اكثر من عقد ونحن نسمع عن رغبات من هذا القبيل”.

وفيما يتعلق بالجهة الرسمية التي ستدير المشروع، فان العراق في ظل منظومة المحاصصة وتقاسم المغانم ، يتميز بظاهرة لا مثيل لها في أي بلد اَخر، ألا وهي تعدد الجهات الرسمية التي تقوم بمهمة واحدة، وتعدد المسؤولين، ضمن الصراع على النفوذ والأمتيازات. ومن المسؤولين من ليس له علاقة بالمهمة .

والواقع ان المشروع المطروح يقع ضمن مهام المؤسسات التالية:

أولآ- الوقاية من الاشعاعات المؤينة (القانون رقم (99) لسنة 1980). تألفت بموجبه (هيئة الوقاية من الاشعاع)، التي ترتبط برئيس (مجلس حماية البيئة). وتأسس بموجبه أيضاً (مركز الوقاية من الاشعاع ) الذي يرتبط برئيس هيئة الوقاية من الإشعاع. ويُعتبر الذراع التنفيذي لهيئة الوقاية من الإشعاع، احد تشكيلات وزارة البيئة. وفي إطار مهام الوزارة كجهة رقابية فهو مركز رقابي استشاري بموجب القانون ، حيث يتولى ألرقابة على إستعمال مصادر الإشعاع في الاستخدامات السلمية، والسيطرة على حركة المصادر المشعة داخل العراق، ومراقبة البيئة العراقية من الناحية الإشعاعية، وتحديد المناطق الملوثة إشعاعيا-- بحسب توضيح معاون المدير العام للمركز مها حميد نافع.

ثانياً- الهيئة الوطنية للسيطرة على المصادر المشعة (قانون النظام الداخلي للرقابة على إستخدام مصادر النشاط الإشعاعي في العراق، رقم (1) لسنة 2006.). تهدف الى تحديد القواعد والإجراءات الرقابية اللازمة للسيطرة على المصادر الإشعاعية الممارسة في العراق، بما فيها حيازة وتداول المصادر الإشعاعية المستخدمة للأغراض الطبية والبحثية والتعليمية والصناعية أو أية أغراض أخرى لضمان أمنها وأمانها، بما يحقق أمن المجتمع وسلامة البيئة ووقاية العاملين والأفراد والمرضى من مخاطر التعرض للإشعاع.

ثالثاً- مديرية السلامة الاشعاعية والنووية التابعة لوزارة العلوم والتكنولوجيا (دُمِجت فيما بعد مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي)، تقوم بالوقاية الاشعاعية والنووية والسلامة من المصادر المشعة.

رابعاً- هيئة الطاقة الذرية العراقية (القانون رقم (43) لسنة 2016).بموجبه تأُسست (هيئة الطاقة الذريــة العراقية)، تتمتع بالشخصية المعنوية، وترتبط بمجلس الوزراء. يكون مقرها في بغداد، ولها فتح فروع في الأقليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم .

تتكون تشكيلات الهيئة من مديرية السياسات والبرامج العلمية.، مديرية التطبيقات النوويـــة.،مديرية البحث والتطوير،مديرية النفايات المشعة.، مديرية تصفية المنشات والمواقع النووية، مديرية المختبرات المركزية،مديرية السلامة الإشعاعية والنووية.،  مديرية المشاريع والإسناد الفني.، مديرية الشؤون القانونية والادارية.،مديرية الشؤون المالية والتجارية، قسم التدقيق والرقابة الداخليةـ قسم ادارة الجودة.،مكتب رئيس الهيئة.

الأسباب الموجبة: شرع القانون لغرض تأسيس هيئة متخصصة بالعمل  في مجال الإستخدامات السلمية للطاقة الذرية والإشعاعات المؤينة في الصناعة والزراعة والصحة وتوليد الطاقة الكهربائية وإدارة الموارد المائية وتطبيق تقنياتها ومواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية  الموجهة لغرض دعم عملية التنمية المستدامة والحفاظ على الإنسان والبيئة العراقية وفق اَلية عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ويهدف قانون الهيئة الى ما يأتي:

أـ ضمــــان استخدام الطاقـــــــة الذرية وتطبيقاتها في المجالات السلمية وجميـــع الأعمال المتعلقة بها وتداول المواد النووية وإدارة او خزن النفايات المشعة بصورة آمنة وفقا للقوانين والتعليمات الرقابية.

ب ـ مواكبة التطور العلمــي والتكنولوجي في العالم في هذا المجال بما يسهم في ترسيخ المقومات الأساسية للتنمية في العراق وإرساء إطار قانوني لها.

وتسعى الهيئة المؤسسة بموجب هذا القانون الى تحقيق أهدافه بالوسائل الآتية:

أ ـ اقتراح السياسات والبرامج الوطنية في مجالات الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية الى مجلس الوزراء للمصادقة عليها.

ب ـ تطوير وبناء البنى التحتية والمختبرات واعداد الموارد البشرية.

ج ـ أنشاء وتشغيل وادارة المنشآت والمرافق النووية ذات الاستخدام السلمي ومنها مفاعلات البحوث والدراسات، وانشاء مفاعلات القدرة لانتاج الطاقة الكهربائية وتحلية المياه، بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة.

د ـ حصر مسؤوليـــــة ادارة وتشغيل المرافق النووية بالهيئة المؤسسة بموجب هذا القانون ويجوز للقطاعات الاخرى الاستخدام السلمي للطاقة الذرية بموافقة الهيئة.

ويذكر، ان قانون الهيئة ينص بان يكون رئيسها حاصلا على شهادة الدكتوراه في الأقل في الاختصاصات العلمية او الهندسية وله عدد من البحوث المنشورة في المجلات العالمية والمؤتمرات في مجال اختصاص الهيئة. ويكون نائبيه حاصلين على شهادة جامعية أولية في الأقل في الاختصاصات العلمية او الهندسية. ولرئيس الهيئة ونائبيه خبرة لا تقل عن (20) سنة في مجال اختصاص الهيئة.

ألمفارقة، ان رئيس الهيئة حالياً هو نعيم العبودي- وزير التعليم العالي، الذي قام بزيارات رسمية لدول أخرى بشأن المشروع، وحضر  أعمال النسخة الـ 13 من منتدى) "Atomexpo 2024 " المنصة المهمة للمؤتمرات والمعارض المختصة في الصناعات النووية العالمية) المنعقد في مدينة سوتشي الروسية للفترة من 25-26/3/2024، وهو لا علاقة له بهذه المؤتمرات ولا بمهمات الهيئة..

رابعاً- الهيئة الوطنية للرقابة النووية والإشعاعية والكيميائية والبايولوجية (القانون رقم (1) لسنة 2024)، والذي يحدد مهمات الهيئة بمايلي:

* تحقيق الأمن والأمان في مجال الإستخدامات السلمية للطاقة الذرية وفق مبادئ الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

* تأمين الرقابة على الإستخدامات السلمية للطاقةالذرية وللأشعة المؤينة والمواد الكيماوية والبايولوجية ومعالجة النفايات الإشعاعية ومنع الإستخدامات غير السلمية لها.

* حماية العاملين والمجتمع والابيئة من المخاطر الناتجة عن تطبيقات الأنشطة الخاضعة للرقابة.

* منع إستخدام أراضي العراق والمياه الأقليمية والفضاء الجوي الذي يعلوها وكل مكان يخضع لإختصاصها لأي أنشطة محضورة بموجب لإلتزام جمهورية العراق بالمعاهدات والأتفاقيات ذات الصلة.

مما ورد يتضح بجلاء ان الجهات المذكورة لها نفس المهمة. وهي مثال صارخ على التعددية غير المبررة للمؤسسات العراقية. ويبدو ان من سن قوانينها فـاتـه المثل الشهير: "السفينة إذا كثرت ملاحيها غرقت"!

من جهة أخرى، الملاحظ ان مركز الوقاية من الإشعاع ،ومديره العام د.صباح الحسيني، بارز في هذا المشروع، مع ان مهمة مركزه بالدرجة الأساس رقابية إستشارية وتحديد المناطق الملوثة إشعاعيا.

فقد صرح الحسيني لـ"الصباح" في 23/4/2024 ان مركز الوقاية من الإشعاع في وزارة البيئة يعمل على تطوير الاستخدامات السلميَّة للطاقة الذريَّة.، وإنَّ هذا التطوير يأتي عن طريق التوسّع في مجال بناء المنشآت والمفاعلات البحثيَّة والمحطات النوويَّة للأغراض السلميَّة.

وقبل ذلك بإسبوعين أعلن الحسيني لـ " شفق نيوز":هناك دعماً دولياً لدعم ملف استعادة العراق لمكانته الدولية في مجال الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، برز من خلال زيارة مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية ولقائه رئيس مجلس الوزراء وعدد من المسؤولين رفيعي المستوى وتأكيده على حرص الوكالة لتوفير الدعم المطلوب لامتلاك العراق للتكنولوجيا النووية وإنشاء المفاعلات للأغراض البحثية وإنتاج الطاقة الكهربائية.

فهل مركز الوقاية من الإشعاع هو المسؤول الأول عن المشروع العراقي للطاقة النووية للأغراض السلمية؟.

***

د. كاظم المقدادي

تعيش الجامعات الأمريكية منذ أيام حراكا طلابيا واسعا مساندا للقضية الفلسطينية ومناهضا للمجازر والمذابح التي ترتكبها العصابات الصهيونية في حق أهلنا في غزة، ولم تقتصر الاحتجاجات على الولايات المتحدة الأمريكية بل سرعان ما امتدت لباريس وكندا وغيرها من الدول خاصة بعد اقتحام الشرطة الأمريكية للحرم الجامعي واستخدام الخيول ومسدسات الصعق الكهربائي والغاز المسيل للدموع بغاية قمع هذه التحركات عبر اعتقال مئات من الطلبة والأساتذة والاعتداء عليهم أمام عدسات كاميرات الصحافة المحلية والعالمية . إن هذه التحركات تؤسس لانتقال نوعي في مستقبل القضية الفلسطينية إذ أن هذا الجيل من الشباب الطلابي شهد على جرائم الإحتلال وتواطئ سلطات بلدانهم في التعتيم عليها وتدوير الزوايا لتبريرها إضافة إلى اهتزاز السردية التي كانت سائدة طوال عقود والتي شكلت الوعي الغربي إذ لطالما تم اعتبار اسرائيل كضحية للإرهاب الفلسطيني مقابل استعدادها للسلام وإيمانها بالحق الفلسطيني.

تعكس الاحتجاجات والتحركات الأخيرة وعيا جديدا يتشكل انطلاقا من مفاهيم واصطلاحات صاغها طوفان الأقصى على أنقاض أجندات ومشاريع وأطماع وسرديات نراها تتهاوى كأعمدة الدخان يوما بعد يوم. إن هذا الجيل الطلابي يقدم تمثلا حقيقيا للقيم الكونية التي جاء بها كبار الفلاسفة والعلماء إذ أن شباب الجامعات متحرر من ثقافة القصور والنخب السياسية التي تحكمه - والتي اختارت أن تتمثل قيم الحداثة إنطلاقا من تعريف محدد للإنسان يعكس تمركزا حول الذات وعنصرية تجاه الآخر - واختار أن يتمثل قيمه التي يؤمن بها كما يراها من منظور كوني وإنساني واسع متخفف من وطأة الثقافة الإستعمارية التي لازالت تحكم الفعل السياسي والقرار الاستراتيجي الغربي الأطلسي إلى الآن.

إن هذا الانتقال في الوعي والاستعداد للاشتباك دفاعا عن المبدأ والفكرة هو أهم ما يمكن رصده في هذه التحركات، إذ أن الجامعات التي تمثل طليعة هذه " الإنتفاضة الطلابية " هي التي تخرّج الأطر والكوادر ليتصدروا بعد ذلك قوائم النخب الفكرية والأكاديمية التي تُعنى بسياسات الدولة من تخطيط وتنفيذ وبتسييرالشركات والمؤسسات الكبرى  إضافة إلى الرصيد الرمزي الذي سيُضاف إلى تاريخ هذه الصروح العلمية على أن طلبتها وجزء كبير من أساتذتها ينحازون للقضايا الإنسانية بكل مبدئية وشجاعة ويناضلون من أجل ذلك. وأمام هذه الديناميكية الواسعة وجدنا أنفسنا أمام سؤال لا يخلو من الحيرة : أين هي الجامعات التونسية من كل هذا ومن القضايا الكبرى عموما؟ ونحن نشهد فتورا في  حركتها وتأثيرها وقد انقسم الرأي إلى فسطاطين، فئة تتحسر على أيام الجامعة في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي وفئة تدافع عن نموذج فعل طلابي منته منذ عقود وتحاول إحيائه دون جدوى.

وعودا على ما سبق، فقد تعددت الإجابات والتعريفات حول السؤال الآنف طرحه، بين أول متحسر على أيام الجامعة في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي وثان مدافع عن نموذج فعل طلابي منته منذ عقود ويحاول إحيائه دون جدوى.، وثالث داع للنظر والفهم والتشخيص وهو موضوع ما أطرحه في هذه الورقة، إذ ليس القصد جرد ادعاءات وحجج كل توجه على حدة، بقدر ما هو تفكيك للأفكار علها تفتح نقاشا جديا عن حاضر ومآلات الجامعة التونسية . ولمّا كان التشخيص الدقيق بوابة للإجابة عن السؤال الملح، وحتى نظل بمنأى عن المماحكات السياسوية وحتى لا نقع في فخ التعويم والتعمية فان أسئلة أراها جوهرية  تفرض نفسها في هذا السياق لندخل بذلك المدخل الطبيعي الذي يفرضه التفكير النقدي :

هل نموذج الجامعة في السبعينات والثمانينيات يمكن الإستعانة به الآن للقياس أو حتى الاستحثاث ؟ هل تمثل الجامعة في ذلك الوقت نموذجا مرجعيا ؟ هل الجامعة هي الفضاء الوحيد الذي يمكن أن يتحرك فيه الطلبة ؟

ألا يمكن أن تكون سنوات الركود داخل الجامعة جعلت الطلبة يصنعون فضاءات بديلة ؟ لماذا فقدت اتحادات الطلبة تأثيرها وجماهيريتها ؟ هل فعلا طلبة الجامعات في حالة قعود سلبي أم أنهم يتحركون في دوائر أخرى استطاعت أن تستوعبهم وتلبي حاجاتهم النفسية والمادية؟

جامعة الثمانينات والتسعينات : حالة متجسدة في زمانها وشبح يجوب الجامعة عشية الثورة

عاشت الجامعة التونسية  منذ أواسط  السبعينات من القرن العشرين حالة نضالية وحركية كبيرة تنافس فيها مختلف التيارات الفكرية من إسلاميين ويساريين وقويميين ورافقتها ظروف صاغت ملامحها وحددت مزاج الفاعلين فيها أهمها الاستبداد السياسي وغياب التعددية واضطرار كل الاحزاب والتنظيمات للعمل في السرية بعيدا عن أعين الدولة ومراقبيها من أعوان الحزب الحاكم ساعية بذلك لممارسة شكلا من أشكال السلطة في فضاء غير فضاء الدولة واتخذت ساحة نضالها الجامعة والمعاهد إذ كان الرصيد البشري لأهم التنظيمات السياسية مرتكزا على الشباب التلمذي والطلابي. خلقت هذه السياقات حالة من التكثيف والتركز المادي والرمزي داخل الجامعة التونسية وأصبحت هي الفضاء الوحيد للعمل السياسي وللضغط على السلطة أمام انسداد كل الفضاءات الأخرى الممكنة للتنافس السياسي وسطوة الحزب الواحد / الرجل الأوحد. ولم تكن تلك الحالة مقتصرة على الصراع بين السلطة والمعارضة بل كانت أيضا مجالا للصراع بين مكونات المعارضة المتنافرين ايديولوجيا والمشحونين نفسيا نتيجة " الطقس السياسي " الحار واختزال العالم في ثنائيات الحق والباطل والخير والشر والتوهم بحيازة الحقيقة المطلقة. سادت هذه الحالة طيلة عقدين من الزمن أو أكثر وانتهت بحملة أمنية واسعة قادتها السلطة الحاكمة في تونس ضد الجامعة فساقت الآلاف للسجون وأحبرتهم على قضاء  الخدمة الوطنية بالصحراء بل واغتالت العشرات من الطلبة داخل حرم الجامعات وأخضعت البقية بالترهيب والترغيب.

عاشت الجامعة التونسية بعد هذه الأحداث حالة من التدجين ووأد كل حركة ممكنة من شأنها أن تزعج السلطة أو تهددها إلى أن بدأت ملامح ارتخاء قبضة النظام وانتعاش الحركة الديمقراطية في تونس أول الألفينات وصولا إلى تشكيل جبهة 18 أكتوبر 2005 التي جمعت كل القوى المعارضة ضد نظام بن علي ومثلت انتقالا نوعيا في مسار النضال ضد الاستبداد في تونس وانعكس هذا على الجامعة فبرز مجموعة "الطلبة المستقلون"  المعارضة للنظام إضافة إلى الإتحاد العام لطلبة تونس (المحسوب على التيار اليساري) والذي استعاد ألقه ونجح في احتضان أبناء مختلف العائلات السياسية. بقي العمل الطلابي في تلك السنوات التي مرت بها الجامعة حكرا على الطلبة المهتمين بالسياسة والمعارضين تحديدا والمستعدين لدفع ضريبة مواجهتهم للنظام في حين أن المشهد الطلابي في عمومه كان فاقدا للعرض الإدماجي القادر على الفعل والتغيير. إن هذا الفراغ داخل الفضاء الجامعي فتح مجالا لثقافة النوادي الجامعية كملجأ للطلبة يتحركون ضمنه دون تهديد أمني يلحقهم أو ضغط يسلط عليهم، حيث مثلت ثقافة النوادي تغييرا جوهريا في علاقة الطالب بالمؤسسة الجامعية وبتمثله لدوره في فضاء بديل يعبر فيه عن ذاته، وتوسعت هذه الثقافة لتأخد معنى آخر بعد الثورة تحت مسمى جمعيات المجتمع المدني والتي نجحت في إدماج واستيعاب عدد هائل من الطلبة والتلاميذ بل إنهم مثلوا قوام هذه الجمعيات. في المقابل، رافق السنوات الأولى للثورة محاولة لاستعادة صورة متخيلة عن "جامعة الحقبة البورقيبية والنوفمبرية"، تلك الجامعة التي توقف نضالها بسفك الدماء والضحايا هم اليوم قادة سياسيون يأثثون المشهد السياسي عشية " ثورة شعبية ". خيم شبح تلك الصورة على " جامعة  الثورة " وأعيد إنتاج مربعات الايديولجيا من جديد وشحنها وتكرار صراعات قديمة بأيادي الأبناء، لم تكتمل المعركة لذلك وجب إكمالها ولو بأيادي أبناءنا وعلى حسابهم ! تلوثت الجامعة بالمعارك الهووية الصفرية وشهدت حالة جارفة من العنف بين تعبيرات نقابية طلابية مشحونة بالايديولوجيا وبمعارك الآباء فأعيد إنتاج الخلافات القديمة بعناوينها المفوّتة وإهدار فرصة تاريخية كان من الممكن أن تجعل الجامعة التونسية جامعة مواطنية ترافق ثورتها ولا تقع في حبائل العمى الايديولوجي والثارات القديمة. بعد مرور السنوات الأولى للثورة، بدأ هذا المشهد في الفتور متأثرا بالصراع في الساحة السياسية أولا إذ دخلت تونس " مرحلة التوافق السياسي " وتحول مع ذلك العمل الطلابي إلى فرصة للترقي الاجتماعي ولتحسين الظروف المادية للطلبة مما صنع شبكة من الانتهازيين والوصوليين الساعين للإستفادة ولتحسين شروط العيش.

الفضاءات البديلة : الطلبة يتحركون بعيدا عن مربعات الشحن النفسي والايديولوجي

إن حالة الانفتاح السياسي بعد الثورة ونشوء المجتمع المدني خلقت فضاءات بديلة للفعل والتأثير إستمالت عددا كبيرا من الطلبة الذين أصبحوا فاعلين ومسؤولين في هذا الجسم التنظيمي الممتد والمتنوع. لم تعد المنظمات النقابية الطلابية هي العرض الوحيد للطلبة بل شكلت النوادي الجامعية بمختلف اختصاصاتها (ثقافية واجتماعية ومؤسساتية وعلمية) عرضا جديدا ذو مقبولية لدى عموم الطلبة يلبي شعور الانتماء عندهم ويستجيب لشكل جديد من الفعل مؤسس على الصورة والمهارات الذاتية soft skills والقدرات التواصلية إضافة لكونه يمثل فضاءا هادئا خال من التوترات والشحنات النفسية والتنافر الأيديولوجي. في المقابل بقي عدد قليل من المؤسسات الجامعية يحافظ على الصراعات المفوّتة بحكم الخلفية التاريخية الخاصة بتلك المؤسسات (أكبر المحطات التاريخية في الحركة الطلابية كانت ضمن هذه المؤسسات) إضافة إلى مساهمة جزء من الأساتذة في تغذيتها واستعمالها كورقة ضغط للحفاظ على قلاع الأكاديميا التي يعتبرونها مجال نفوذهم دون غيرهم.

لقد أفقدت السنوات الأخيرة كل المنظمات النقابية الطلابية جماهريتها وحدت من تأثيرها بشكل كبير بل وصنعت لها سقف فعل مقتصر على تلبية حاجاتهم ومطالبهم على غرار تعديل روزنامة الامتحانات والتأجيل، استخراج وثائق من الإدارة، وساطة بين الطالب ودواوين الخدمات الجامعية لنقل المعلومة… ليصبح الفعل الطلابي مستغرقا في التفاصيل المطلبية ونضال تمديد آجال الترسيم وإصدار البيانات لرفع الحرج بعيدا عن كل قدرة لمرافقة المجتمع في قضاياه الاجتماعية والاضطلاع بدور طلائعي في مناقشة مضامين إصلاح منظومة التعليم العالي كقوة اقتراح وترجيح مضموني أمام محاولات إصلاح ترقيعي لا يعالج منظومة إنما يحاصر نتائجها ويقلل من خسائرها. لقد مثلت حالة الفراغ الفكري والضعف المضموني داخل المنظمات النقابية أحد أهم أسباب تراجع تأثيرها وألقها بل دفعها لمجاراة ثقافة النوادي في طبيعة الأنشطة بهدف استقطاب الطلبة وزيادة عدد المنخرطين.

أمام هذا المشهد، غاب العرض الطلابي الذي سيجمع الطلبة ويذكرهم بدورهم ومسؤوليتهم تجاه أنفسهم أولا ثم المجتمع ثانيا إذ غابت العناوين التي من شأنها أن تكون منسجمة مع سياق تعاني فيه البلاد تبعية سياسية واقتصادية تغيب فيها الرؤية الوطنية والمشروع الوطني بما يعنيه من أشواق تحرر وانعتاق وطاقة فعل وتغيير، فالحركة الطلابية من المفترض أن تصوغ مطلبيتها بمضامين التحرر الاقتصادي والدفاع عن السيادة الوطنية بما تعنيه من تماسك داخلي وفعل سياسي واع ومسؤول، هكذا يكون دورها كقوة دفع ومرافقة لمرحلة مهمة في تاريخ بلادنا. لكن هذا العجز عن إنتاج تعبيرة طلابية تترجم هذه المعاني جعل جزءا كبيرا من طلبة الجامعات يتمثله بأشكال مختلفة:

- القيام بأعمال خيرية ضمن جمعيات طلابية أو مدنية ( زيارات للأرياف وتقديم مساعدات للمعوزين، أغلب المسؤولين في الهلال الأحمر التونسي في الفروع الجهوية والمحلية هم من الطلبة ).

- جمعية الأطباء الشبان في تونس تتنقل للأرياف في شكل قوافل طبية وتقدم الخدمات الطبية مجانا لكل من يحتاجها وتنقل المرضى إلى المستشفيات وتشرف على رعايتهم وقوام هذه الجمعية هم طلبة الطب.

- في فترة وباء كورونا أغلب المساهمين في تقديم الخدمات في دور إيواء المرضى والحجر الصحي هم من الطلبة.

- أكبر تحرك جماهيري داعم للقضية الفلسطينية من حيث العدد والمدة كان تلمذيا طلابيا دام يوما كاملا بأعداد لم يقدر على جمعها أي طرف سياسي أو نقابي في البلاد.

- التسويق لحملات المقاطعة والتعريف بالقضية الفلسطينية وتاريخها بالكتابة والصورة والفيديو هو من إنتاج أو تقديم الطلبة.

- أغلب المسابقات العلمية في اختصاصات مختلفة (من العلاقات الدولية إلى الروبوتيك والذكاء الاصطناعي) سواء أن كانت وطنية أو عالمية يشارك فيها الطلبة بشكل واسع.

إن الأشكال المذكورة آنفا هي جزء من الأدوار التي يقوم بها الطلبة للتعبير عن التزامهم تجاه مجتمعهم ضمن تمثل معين لقيم التحرر والعدالة والتي تعبر عن جينات ثقافية أصيلة مكتنزة بالخير والصلاح تحتاج من يتلقفها ويشتغل عليها لتترشد وتتحول إلى حركة وعي وفكر ذات فاعلية أكبر وتأثير أوسع.

إضاءات من أجل المستقبل: عن جامعة مواطنية ترافق التأسيس لمشروع وطني

على عكس كثيرين، فإني أرى أن الحالة التي تعيشها الجامعة التونسية هي أكثر حالة متناسبة مع منطق اللحظة الذي تمر به بلادنا وهي ليست حالة ركود بقدر ماهي حالة ترقب واستعداد في آن واحد لاستيعاب المبادرات العقلانية والمسؤولة التي تفتح لنا آفاقا للمستقبل. لا أعتبر "الحركة " الدائمة علامة صحية في كل السياقات بل هناك لحظات تتطلب منا وقوفا للفهم والتفكير وهضم أحداث سابقة بتعقيداتها وصوابها وخطئها لنستفيد منها كتجربة معاشة شكلت واقعنا في مرحلة ما وتساعد على إيجاد إمكانيات جديدة للفعل والنظر.

إن الجامعة كقطب هـام في الهيكـل التعليمي تمثل الرصيد الاستراتيجي الذي سيضخ إطارات بمهارات فكرية ٕوإمكانيات علمية وبحثية وعملية من شأنها قيادة حركة التنويروالتجديد في المجتمع من خلال تكوين الكفاءات القادرة على قيادة دواليب الدولة في الاقتصاد والتجارة والتقنية والأكاديميا، من هذا المنطلق يكون لزاما البدء بقياس هذه الوظيفة على واقعنا ومحاولة رصد مدى التطابق بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، فالشجاعة في التشخيص ومساءلة المنظومة بكل مكوناتها كفيلان بتجاوز كثير من المحاولات التي ترغب في معالجة جزئية لحقيقة عنيدة ومتشعبة ولا تستقيم معها الحلول الاختزالية.

إن ما يجب أن ننتبه إليه أن حالة الفراغ هي فرصة للبناء لمن يتلقفها ويتعامل معها جيدا فكما يمكن أن تكون فرصة في اتجاه الأفضل يمكن أن تشكل انتكاسة تزيد الأمر تعقيدا ورسوخا في آن واحد وتصعب آنذاك المعالجة. لذلك من الضروري النظر لمشروع التأسيس لجامعة مواطنية كمدخل لبناء المشروع الوطني والتفكير فيه والذي من شأنه أن يعيد الأمل للناس أولا ويحيي فيهم قدرتهم على الحلم ببلادهم وفيها وهي في واقع أفضل يتوفر على شروط التغيير والارتقاء. يمكن للجامعة التونسية أن تستعيد ألقها وتضطلع بدور مركزي في تأطير الجهود وتوجيهها كأحد مجالات السلطة المهمة في إنتاج المعرفة وإبداع الأفكار ومسائلة المشكلات والقضايا التي تواجه المجتمع وبذل الجهد للإجابة عنها والمساعدة في هندسة حلولها. من هذا المنطلق وبهذا الملمح ستنتج الجامعة حراكها الطلابي الذي يليق بها ويستجيب لحاجياتها وحاجيات مجتمعه التي يعايشها فكرا ومعنى داخل الجامعة ويرصدها في محيطه الاجتماعي ودوائر فعله خارجها. في هذه الحالة من الممكن أن يصبح الفضاء الجامعي متكاملا ومنسجما مع بقية فضاءات الفعل المجتمعي التي يقدم عليها الطلبة وتكون أحد روافد التأسيس للوعي المواطني الذي ينقض فكرة "الإنسان النصف" الذي يعرف حقوقه ولا يعرف واجباته ويؤسس للمواطن الذي يرعى حقوقه ويقوم بواجباته كضمانة ونضال دائم لاستمرار تمتعه بحقوقه.

ختاما، إن الواقع البائس الذي يخيّم على بلادنا حد كثيرا من مساحات الأمل على حساب مساحات اليأس والخوف من مستقبل غائم وإذا اتضحت معالمه بدا معدوما لذلك مبتدأ ترميم الثقة هو بناء سردية وطنية يكون فيها للعمل والجهد معنى وللحلم جدوى. لا يمكن تحسين واقع الناس بشكل آني لكن كل ما يحتاجونه في هذه اللحظة شيء من الأمل وكثير من الثقة والصدق لذلك لا يمكن الحديث عن مشروع وطني قبل الحديث عن سردية وطنية هي أشبه ما تكون ب" الحلمة الجماعية " تُستدعى فيها الثقافة والتاريخ وكل ما يشكل ذاكرتنا الجماعية وخيالنا كعوامل اعتزاز وشعور بالذات من جهة وتنوع وتعدد من جهة أخرى ليستعيد المجتمع ثقته في قدرته على التغيير والبناء إضافة إلى بسط مشاكلنا بكل صدق ودون تلبيس والإعتراف بكل الأخطاء السابقة مع تقديم أسس للإنطلاق في المعالجة والإصلاح والتحلي بالصبر الاستراتيجي في سبيل ذلك. إن هذه المعاني على كثافتها يمكن أن تكون منطلقنا نحو مستقبل نرغب فيه جميعا ونكون فيه شركاء مشروع. يجب أن نفكر معا وبشجاعة، هذا كل ما نحتاجه.

***

أحمد السنوسي

 

تختلف اشكال الإهانة بالضيوف الغير المرحب بهم مع أي شخص أو بلد، بمقدار الذنب الذي اقترفه الضيف تجاه مضيفه، وتخيل حجم الذنوب التي اقترفها وزير الخارجية الأمريكي انطوني بلينكن، أو بلاده تجاه الصين، سواء خلال زيارته لها او قبلها، حتى تتخذ بكين موقفا متشددا حياله، ولم ترسل أي مسؤول صيني رفيع المستوى الى المطار لتوديع ضيفها الأمريكي .

ومثل هذه الخطوة تجاه الوزير الأمريكي، بالطبع تركت انطباعا مؤكدا، بأن مباحثات المسئول الأمريكي خلال زيارته للصين التي استمرت ليومين، ولقاءاته مع المسئولين فيها مع نظيره الصيني وانغ يي، وكذلك الرئيس الصيني شي جين بينغ، لم تنال رضى المضيفين، وبالتالي فشل بلينكن في الحصول على ما جاء به، وهنا قد يتولد سؤالا لدى المراقبين، لماذا انتهت أهم المفاوضات بالنسبة لواشنطن بالفشل أساساً؟ ماذا طلب بلينكن من الصين فيما يتعلق بالعلاقات مع روسيا - وما هي المشاكل التي تمنع الولايات المتحدة من الضغط على الصين؟

وعشية زيارة أنتوني بلينكن للصين يومي 24 و26 أبريل/نيسان، استمرت واشنطن في الإدلاء بتصريحات حول ما يثير غضب الجانب الأمريكي في سلوك الصين وكيف تنوي الولايات المتحدة التعامل معه، ولكن مع بدء اللقاء المباشر في بكين بين وزير الخارجية الأميركي ونظيره الصيني وانغ يي، بدا أن الجانبين قد تبادلا الأدوار، فقد أسمع الوزير وانغ، في افتتاح المفاوضات في مقر إقامة دياويوتاي، ضيفه مالا يتمناه، وقال مخاطبا له " لا تزال العوامل السلبية في العلاقات تتزايد"، ثم انتقل بعد ذلك إلى الاتهامات، وإن حقوق التنمية المشروعة للصين يتم قمعها بشكل غير معقول، وتتعرض مصالح بلاده الأساسية للتحدي، وقال بحزم  "يجب على الولايات المتحدة ألا تتدخل في الشؤون الداخلية للصين، وتقمع تنمية الصين، وتتجاوز الخطوط الحمراء عندما يتعلق الأمر بسيادة الصين وأمنها ومصالحها التنموية".

ونتيجة لذلك توصل الطرفان وفقا لوزارة الخارجية الصينية، إلى توافق على خمس نقاط، ويشمل ذلك الالتزام بالعمل الجاد لتحسين العلاقات، ومواصلة التواصل وإجراء المناقشات والحوارات حول مختلف القضايا، وتوسيع التبادلات الثقافية وتعزيز العلاقات بين المبعوثين الخاصين للبلدين، وهذه تعابير دبلوماسية " ملطفة " تؤكد ان الجانبين واشنطن وبكين، لم تتفقا على أي شيء جدي، لأنه أولاً وقبل كل شيء، الولايات المتحدة ليست في مزاج يسمح لها بالتفاوض مع الصين، كما ان المشكلة الرئيسية في العلاقات الصينية الأمريكية، وبحسب صحيفة غلوبال تايمز الصينية، هي أن الولايات المتحدة لا تزال لديها فكرة خاطئة عن الصين وكتبت: "إنهم ينظرون إليه كمنافس وعدو، وليس شريكًا".

كما أن الصين ووفقا للمراقبين، عرضت مسارا مختلفا، واقترحت أن يكون الاحترام المتبادل والتعايش السلمي، والتعاون المربح للجانبين هي المبادئ الثلاثة الشاملة، وقال شي جين بينغ، "هذه دروس مستفادة من الماضي وإرشادات للمستقبل"، وأوضح أنه بخلاف ذلك لن ينجح شيء، لأن الولايات المتحدة والصين "يمكنهما التحرك بثبات في الاتجاه الصحيح، أي إلى الأمام، أو العودة إلى دوامة العلاقات الهابطة"، حتى أنه أظهر ذلك قليلاً - من خلال اختبار صاروخ باليستي قبل وقت قصير من الزيارة .

ومثل هذه الإشارات لا يقرأها الامريكيون، فهم ببساطة لا يستطيعون التعامل مع الصين بشكل مختلف، وهم لا يعرفون كيف، وإذا حكمنا من خلال إصرار الإدارة الحالية على قضية الحفاظ على عالم أحادي القطب، فإنهم لا يريدون أن يفعلوا ذلك، وهم ينظرون إلى الصين باعتبارها منافساً يحتاج إلى احتوائه وترويضه، وفي الواقع، جاء بلينكن إلى الصين بالتهديدات على وجه التحديد، ووجه تحذيرًا خطيرًا آخر إلى بكين، وكرر تهديد وزيرة الخزانة جانيت يلين الخطير السابق مؤخراً، وهو فرض عقوبات اقتصادية ومالية جديدة، إذا لم تتخلص بكين من “القوة الفائضة” التي تزيح الولايات المتحدة، من مكانتها المهيمنة في الصناعة والتكنولوجيا والتجارة.

وكذلك طالب بلينكن، بكين بالتوقف عن مساعدة موسكو، وقال "إننا نرى الصين تتقاسم الأدوات الآلية وأشباه الموصلات وغيرها من العناصر ذات الاستخدام المزدوج التي ساعدت روسيا على إعادة بناء قاعدتها الصناعية الدفاعية"، ووفقا له، فإن مثل هذه التصرفات من جانب بكين تؤدي إلى تهديدات "لأوكرانيا وللسلام والأمن الدوليين على حد سواء"، والغريب انه لم يُذكر بالضبط ما أجابه الرئيس شي، ولكن بعد اجتماع مع نظراءه الصينيين، قال وزير الخارجية إنه "إذا لم تتخذ بكين إجراءات لحل هذه المشكلة، فإن واشنطن ستفعل ذلك"، فقد فرضت بلاده بالفعل عقوبات على أكثر من 100 شركة صينية - من خلال ضوابط التصدير وما إلى ذلك، كما كان من قبل، " ونحن مستعدون لاتخاذ إجراءات إضافية، وقد أوضحت ذلك بشكل واضح في الاجتماعات ”، ومع ذلك، فمن غير المرجح أن يحدث أي شيء من هذا، وقد ذكرت بكين مرارا وتكرارا أن القضية الأوكرانية لا ينبغي أن تصبح مشكلة بين بكين وواشنطن، وأوصت الأمريكيين "بعدم تشويه سمعة العلاقات الطبيعية بين الصين وروسيا أو إثارة مواجهة بين الكتلة، ناهيك عن التشهير وجعل الصين كبش فداء"

واستنادًا إلى كلام وزير الخارجية، فإن الولايات المتحدة والصين لم تتفقا أيضًا على هذه القضية، ومن هنا يمكن الاستنتاج، أن بكين لن تحل "مشكلة" دعم روسيا، وبالتالي وكما لخص عالم الصينيات الروسي نيكولاي فافيلوف "فقد انحدر بلينكن علنًا إلى حالة هستيرية"، وأشار الى انه يمكن تفسير فشل المفاوضات، من بين أمور أخرى، بشخصية وزير الخارجية، فزيارات بلينكن مبالغ فيها، وهو " مفاوض ضعيف، وكل نوابه في شؤون الصين هم مفاوضون ضعفاء بنفس القدر "، وإنهم لا يعرفون كيفية الضغط على الصين، وليس لديهم تعليمات واضحة ولا يفهمون المنطقة، ولكن بالإضافة إلى ذلك، فإن الفشل يمكن تفسيره بجوانب أخرى من العلاقات الصينية الأمريكية.

ويبدو أن الخلفية التهديدية للزيارة، كان ينبغي أن تكون في صالح بلينكن، فقد أصدرت الولايات المتحدة للتو قوانين لمساعدة تايوان، وإمكانية حظر شبكة تيك توك الصينية (إذا لم يبيعها الصينيون لشركة غربية)، وبطبيعة الحال، فإن الصين متهمة ببيع الفنتانيل، وهي مادة اصطناعية تستخدم في إنتاج المخدرات، لعصابات المخدرات المكسيكية، ولكن في طريقها إلى تنفيذ التهديدات،ـ بما في ذلك العقوبات ضد الصين، الا ان الولايات المتحدة تواجه ثلاث مشاكل على الأقل، أولها ً، يشكل تهديد الصين بعقوبات اقتصادية خطراً على الولايات المتحدة نفسها، فإن اقتصاد البلدين متشابك بشكل وثيق، والصين هي صاحبة أكبر أصول الديون الأميركية، وإن محاولات بدء حروب تجارية مع بكين عادة ما تؤدي فقط إلى مشاكل، وليس إلى حلول.

وثانيا، من غير المربح للغاية أن يواجه بايدن مشاكل اقتصادية في الأشهر الستة المقبلة - عندما تجري الحملة الانتخابية في الولايات المتحدة، وتظهر استطلاعات الرأي أن المرشحين الجمهوري والديمقراطي متقاربان، وأن الناخبين الأميركيين يركزون دائماً في المقام الأول على الاقتصاد في تفضيلاتهم الانتخابية، وإذا حدثت أزمة اقتصادية في الولايات المتحدة بسبب قطع العلاقات مع الصين، فلن يغفر الناخب لبايدن على ذلك، في الواقع، ليس لدى الجانب الصيني أي فكرة عما إذا كانت الإدارة الحالية ستبقى في السلطة خلال الأشهر الستة سيئة السمعة.

اما ثالثًا، فأن الرفيق شي ينظر إلى كل من بلينكن وبايدن على أنهما بطة عرجاء، ومن غير المجدي إبرام أي اتفاقيات طويلة الأمد معهم، وعلى العكس، على سبيل المثال، فان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أعيد انتخابه للتو لفترة ولاية أخرى ومن المقرر أن يسافر قريبا إلى بكين في زيارة لها، وبالتالي سيكون من السذاجة أن تأمل واشنطن في الحصول على فهم كامل من جانب بكين لقضية علاقتها مع موسكو، وكذلك لحل المشاكل الملحة الأخرى في العلاقات الثنائية، علاوة على ذلك، بدا الخطاب الترحيبي الذي ألقاه وزير الخارجية الصيني وانغ يي للسيد بلينكن أشبه بتوبيخ قاس، ومع ذلك، وعلى خلفية سلسلة كاملة من الإجراءات المناهضة للصين، والتي يبدو أن الولايات المتحدة قد وقتتها على وجه التحديد، لتتزامن مع زيارة وزير الخارجية، كانت هذه النتيجة متوقعة تماما، وبالتالي غادر بلينكن الصين يتيما، ولم يودع أي من المسؤولين المحليين وزير الخارجية - فقط السفير الأمريكي نيكولاس بيرنز، بابتسامة قسرية، صافح رئيسه على درجات سلم الطائرة.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

يأخذ عليَّ بعض الأصدقاء تزايد كتاباتي في الفترة الأخيرة عن الوضع الفلسطيني الداخلي وانتقادي لقيادة السلطة الفلسطينية والمقاومة وخصوصا حركة حماس، وفي نظرهم أن خطورة المرحلة تتطلب تجاوز الخلافات الداخلية وجلد الذات والتأكيد بدلا من ذلك على الوحدة الوطنية. مع احترامي لهذا الرأي إلا أن هناك بعض الأمور يجب توضيحها.

يمكن للكاتب أن يقارب الواقع الفلسطيني أو العربي بخطاب ملتبس ومجامِل للأنظمة والطبقة السياسية ليكتسب رضا الجميع ويحقق من خلال رضاهم مصالح شخصية أو على الأقل يتجنب شرهم، ولكن هذا النهج يُفقد الكاتب مصداقيته لأنه يصبح شريكا في تضليل الجماهير و مساهما في تقديس الحكام وأفراد الطبقة السياسية وتسيدهم على الشعب.

في حالة كالحالة السياسية الفلسطينية الراهنة، عندما تكتب أو تتحدث بعقلانية وواقعية منتقدا أوجه الخطأ في النظام السياسي وفي سلوك الأحزاب بعيدا عن الشعارات والأيديولوجيات والحسابات الحزبية الضيقة، ستجد كثيرين يُقدِرون ما تكتب ويتقبلون الانتقادات، ولكن في نفس الوقت ستفتح على نفسك نار جهنم من بعض مكونات الطبقة السياسية بكل أطيافها، سلطة ومعارضة، يمين ويسار، متأسلمون وعلمانيون، ومن يدور في فلكهم من المثقفين والكَتبة عندما تكشف نفاقهم وأكاذيبهم وتهدد انتقاداتك مصالحهم ومواقعهم.

وبالتالي فإن الحكم على مصداقية وموضوعية أي كاتب أو مثقف أو مفكر سياسي يتأتى من خلال تجاوز مربع المجاملات وتلمس الاعذار للحاكمين والطبقة السياسية حتى تحت مبرر أن المرحلة تتطلب توحيد الجهود في مواجهة عدو يهدد وجودنا الوطني، أو أن الطبقة السياسية ترفع شعارات المقاومة وتمارسها، أو أنها تمثل الشعب وعلى رأس المشروع الوطني ولا يجوز الإساءة لها أمام العالم.

التهديد الوجودي للقضية الوطنية، مع حرب الابادة التي يشتها العدو في غزة ومتواصلة في الضفة، يشكل الحافز الأكبر للمطالبة بتغيير طبقة سياسية ثبت فشلها طوال عقود في وقف هذا التهديد أو حتى التوافق على استراتيجية وطنية لمواجهتها.

ومن هنا كانت انتقاداتي الحادة للطبقة السياسية، فإن لم يأخذ الشعب وقواه الحية والوطنية داخل الاحزاب والمفكرين والمثقفين المبادرة لإصلاح النظام السياسي فإن أطرافا خارجيا ستصنع لنا قيادتنا ونظامنا السياسي حسب أجندتها ومصالحها في المنطقة، وعملية صناعة قيادة من الخارجية تجري بالفعل.

انتقادنا القاسي للطبقة السياسية والمطالبة بالتغيير والإصلاح من خلال العودة للشعب لا يعني عدم وجود فروقات بين الطبقة السياسية في حماس والطبقة السياسية في منظمة التحرير، ولكن الأزمة ومظاهر الفشل تعم الجميع وحتى لو اقتصرت انتقاداتنا على حركة حماس فهذا لا يعني أنه من الممكن المراهنة على المنظمة وحركة فتح والسلطة في وضعهم الراهن للخروج من الأزمة وإنقاذ المشروع الوطني التحرري.

انطلاقا من ذلك ومع إيماني بأن خطورة التحديات الخارجية تتطلب توحيد المواقف والجهود والبحث عن نقاط الالتقاء وتعظيمها والعمل على استراتيجية وطنية تجمع ما بين الحق بمقاومة الاحتلال والعمل السياسي والدبلوماسي، وتطبيق النظرية التي تقول بتجاوز الخلافات الداخلية في حالة وجود خطر مصيري يهدد الأمة، وهي نظرية المفكر الفرنسي هنري لوفيفر والتي استخلصها من تجربة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية، وقد تطرقنا للموضوع  سابقا في عدة مقالات منها مقال نشرته يوم 23 سبتمبر 2018  يحمل عنوان (تجاوز الخلافات الداخلية لمواجهة العدو المشترك) وهو منشور في أكثر من صحيفة وموقع ...، إلا أن ما لاحظناه أن التهديد الوجودي لقضيتنا أرضا وشعبا لم يؤدي لوحدة النظام السياسي بل تزايدت الخلافات الداخلية، وحدث الانقسام وزاد تَدخُل الأطراف الخارجية في شؤوننا الداخلية وتراجعت الحصانة الداخلية للمجتمع وأصبحت مصلحة الأحزاب أهم من المصلحة الوطنية، حتى حرب الابادة الأخيرة لم تخرج النظام السياسي من ركوده أو تدفع لتجاوز الخلافات الداخلية بل تفاقمت حتى حوارات المصالحة العبثية وصلت لطريق مسدود وحلت محلها مفاوضات تقودها حماس منفردة حول غزة فقط ومستقبلها بعد الحرب! .

آنذاك أصبحت متخوفا بأن تضحيات الشعب وحوالي مائة ألف ما بين شهيد ومفقود وضعفهم من الجرحى والأسرى وحالة التأييد الشعبي العالمية المتزايدة لقضيتنا الوطنية واكتساب الرواية الفلسطينية مزيا من الأنصار والمؤيدين ... قد تذهب هباء منثورا ان استمر النظام السياسي على حاله والطبقة السياسية سادرة في غيّها واستمر غياب حاضنة وطنية جامعة، ولن تنفع كل الكتابات التي تتغنى بالمقاومة وبطولاتها أو تشيد بالمنظمة ورئيسها.

اليوم وبعد الحرب على غزة ومحاولة تصفية القصية الوطنية، يمكن القول بأن الطريق لمواجهة مخطط التصفية تمر من خلال تغيير الطبقة السياسية الحاكمة في الضفة وغزة، أما السعي لتحقيق مصالحة الآن بين الأحزاب – كالمحاولة العبثية وغير المفهومة التي تقوم بها الصين لرفع العتب-فلن يؤدي إلا لشرعنة طبقة سياسية فاشلة وتقاسم المغانم وإدارة الانقسام بين السلطتين، وحتى على هذا المستوى فشلوا وما زال كل طرف يتخندق في موقعه وينتظر هزيمة وانهيار الطرف الثاني ليزعم أنه كان على صواب.

مثلا لو سكتنا عن الوضع الداخلي واستمرينا في مدح وتمجيد القيادة والأحزاب وبطولات المقاومين فهل يمكن للطبقة السياسية الراهنة المنقسمة على نفسها و المتصارعة مع بعضها البعض أن تحقق أي نصر أو تحمي الشعب مما يتعرض له من حرب إبادة؟ وإن لم يكن الوقت مناسبا للانتقاد والمطالبة بعمل مراجعات لكل الأحزاب والطبقة السياسية، فمتى سيكون الوقت المناسب وقد صبر الشعب على الأحزاب أكثر من ثلاثين سنة لعمل مصالحة وإنجاز وحدة وطنية بدون فائدة؟ أيضا إذا كان حتى الآن لا يوجد أي توافق على مستقبل غزة بعد الحرب، فكيف لو تم تجاوز الفيتو الأمريكي واعترف العالم بالدولة الفلسطينية فما هي الخطوة اللاحقة؟ هل ستقوم الدولة في الضفة وغزة التي تصر حماس على استمرار سيطرتها عليها؟ وهل ستفوض حركة حماس منظمة التحرير مهمة استكمال الإجراءات العملية لتجسيد هذا المُنجز؟ أم تنسب الفضل لها ولمقاومتها؟ وهل السلطة الوطنية في وضعها الراهن تستطيع مد سلطتها إلى غزة وتجسيد سيادة الدولة عليها؟ ما نخشاه أن يُفسد الانقسام هذا المنجز حتى وإن كان معنويا وسياسيا ويتم الصراع حول من يقود عملية التفاوض اللاحقة ممثلا للشعب وصراع على من يحكم هذه الدولة الوليدة.

وأخيرا، كثيرون في الطبقة السياسية الفلسطينية أصبحوا على درجة من الكلاحة السياسية تستفز كل صاحب ضمير حي لأن أضرار ممارساتهم لا تقتصر على الفساد والإفساد بل تتعدى ذلك لتمس بالمصالح الوطنية العليا و لأن وجودهم واستمرارهم في السلطة يشكل إهانة واحتقارا الشعب الفلسطيني العظيم، ولا نبالغ إن قلنا إن الطبقة السياسية الفلسطينية الحالية هي الأسوأ في التاريخ الفلسطيني المعاصر.

***

ابراهيم ابراش

 

استخدام روسيا في مجلس الأمن الدولي حق النقض (الفيتو)، ضد مشروع قرار الولايات المتحدة واليابان،  حول عدم نشر أسلحة الدمار الشامل في الفضاء،، وامتناع الصين عن التصويت، وصوتت 13 دولة لصالح المشروع، خطوة لها مبرراتها ، وليس كما جاء في ردود الأفعال الغربية على هذه الخطوة الروسية، فقد رفضت هذه الدول التعديلات التي طلبتها الصين و تجاهل التعديلات المقترحة من روسيا.

وكما هو معروف فان مشروع القرار لمجلس الأمن الدولي، أعدته واشنطن وطوكيو، يدعو الدول إلى عدم تطوير أسلحة نووية أو غيرها من أنواع أسلحة الدمار الشامل، المعدة لوضعها في مدار حول الأرض أو في الفضاء بأي طريقة،  في حين اقترحت روسيا والصين تعديلا يدعو جميع الدول إلى "اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي بشكل دائم والتهديدات باستخدام القوة في الفضاء، ومن الفضاء نحو الأرض، ومن الأرض نحو الأجسام الموجودة في الفضاء"، ولكن لم يتم قبوله.

أن التعديلات الأساسية التي اقترحتها روسيا تم تجاهلها، رغم انها قد نصت على تضمين النص، أحكاما بشأن ضرورة اتخاذ تدابير للحفاظ على الفضاء الخارجي خاليا من كل أنواع الأسلحة (وليس فقط أسلحة الدمار الشامل)، وضمان عدم استخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة ضد الأجسام الفضائية، واستخدامها في الفضاء أو منه أو كل ما يتعلق به، وأهمية الإسراع بوضع صك دولي مناسب ملزم قانونا.

كما  ان روسيا عارضت مشروع القرار، بسبب محاولة الولايات المتحدة إنشاء التزامات قانونية دولية جديدة  (من خلال استخدام مجلس الأمن الدولي)، في مجال أمن الفضاء تتجاوز إطار المعاهدات والاتفاقات القائمة، (وفي المقام الأول معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967)، ومتجاوزة منصات "نزع السلاح" المتخصصة ودون دراسة مناسبة من قبل الخبراء، وأن تبني القرار بحسب الخارجية الروسية، من شأنه أيضا أن يمنح الولايات المتحدة "أيدي طليقة"،  لإضفاء الشرعية على أي آراء في قضايا الأمن الدولي تكون في صالحها، ومن وجهة نظر موسكو فإن "المهمة الرئيسية في مجال ضمان أمن الفضاء تظل منع حدوث سباق تسلح في الفضاء، وضمان الظروف الملائمة لاستكشاف واستخدام الفضاء الخارجي للأغراض السلمية.

وروسيا باستخدامها حقها في مجلس الامن الدولي ( الفيتو )، أرادت منه التشديد على بقاءها ملتزمة بشكل صارم بالالتزامات القانونية الدولية في مجال قانون الفضاء، بما في ذلك معاهدة الفضاء الخارجي، وهي مستعدة دائما للاتفاق الفوري وإبرام اتفاق دولي شامل "ملزم قانونا"، لمنع سباق التسلح في الفضاء الخارجي، وبالتالي لا ينبغي تحويل انتباه المجتمع الدولي عن التهديدات الحقيقية في الفضاء التي خلقتها الولايات المتحدة بدعم من أقمارها الصناعية.

كما أن الغرض من مشروع قرار الولايات المتحدة واليابان،  هو تسييس القضية، لدعم اتهامات الولايات المتحدة التي لا أساس لها ضد روسيا، ومحاولة وضعها وكما عبر عنه المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا ، " في موقف غير مريح"،  لأن الولايات المتحدة تريد تتجنب أي التزامات من شأنها أن تمنعها من القيام بما تفعله الآن، وهو تطوير أنظمة الأسلحة التي يمكن نشرها في الفضاء الخارجي، على الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح علنا بأن روسيا لا تنوي نشر أسلحة نووية في الفضاء.

وكبادرة حسن نية فإن روسيا أعربت عن استعدادها  لإجراء حوار متكافئ  مع جميع الدول للحفاظ على الفضاء خاليا من أي نوع من الأسلحة، كشرط من شروط ضمان السلام والأمن الدوليين، ولكن ليست كل الدول مستعدة لإجراء محادثة مسؤولة في هذه القضية، لذلك لفتت  المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، الانتباه إلى تصريحات مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الفضاء جون بلوم، بأن مشروع المعاهدة الروسية الصينية بشأن منع نشر الأسلحة في الفضاء، أو استخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة ضد الأهداف الفضائية "ليس أكثر من مجرد "حيلة سياسية"، زاعما أنه لا يمكن التحقق من تنفيذها".

بالتأكيد ان الولايات المتحدة تحاول تضليل الجميع بنواياها تجاه هذه القضية المهمة والحساسة، وتسعى الى، تحميل روسيا مسئولية عدم الاتفاق على مثل هكذا قرار، وقد ادعى مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جيك سوليفان، في بيان له نشره البيت الأبيض،  أن روسيا تعمل على تطوير أسلحة فضائية قادرة على حمل شحنة نووية، وان استخدام روسيا حق " النقض "  في مجلس الأمن الدولي، على مشروع القرار الذي اقترحته الولايات المتحدة واليابان حول عدم نشر الأسلحة النووية في الفضاء ، ان الولايات المتحدة تعتبر أن روسيا تعمل على تطوير قمر صناعي قادر على "حمل شحنة نووية"، دون ان يقدم الجانب الأمريكي أي ادلة على وجود مثل هكذا مشاريع لدى روسيا  .

وليس غريبا أن تقوم الدول الغربية بترويج ادعاءات عن وجود خطط روسيا "خبيثة" تتعلق بالفضاء، لتبرير تطويرها لمنظومات تسلح فضائية، وترى ان هناك ادعاءات يجري نشرها في وسائل الاعلام، عن ثمة خطط روسية تتعلق بالفضاء، وفي الواقع ينظر الغربيون للفضاء الخارجي باعتباره المجال الأهم للحرب، وعلى هذه الخلفية تطوَّر برامج طموحة تهدف لإنتاج أنظمة تسليح لاستخدام القوة ، او التهديد باستخدام القوة في الفضاء الخارجي.

ان الضجة التي تصاعدت مؤخرا في الغرب، بما في ذلك في الولايات المتحدة، فيما يتعلق بنشر الأسلحة النووية في الفضاء، لا تتناسب وموقف روسيا الواضح الذي عبر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اكثر من مناسبة، وهو ان روسيا كانت ولاتزال دائما ضد نشر الأسلحة النووية، والآن ضد نشر الأسلحة النووية في الفضاء، لكن موسكو تؤكد  أنها  تفعل في الفضاء فقط ما تفعله الدول الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، وقال بوتين في هذا الصدد  "فيما يتعلق بالفضاء، فإننا في نفعل فقط ما تفعله الدول الأخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة"، مشيرا  إلى أن الولايات المتحدة لن تكون قادرة على الدعوة في نفس الوقت إلى هزيمة روسيا الاتحادية، وإجراء حوار حول الاستقرار الاستراتيجي " لأنهم كقاعدة عامة يريدون تحقيق مزايا أحادية،  وهذا لن يحدث".

التصريحات الغربية هنا وهناك لا تجتزأ من السياسة الخارجية الأمريكية، ولهذا فإن تصريحات مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الفضاء، جون بلام، الذي اتهم روسيا بأنها تخطط لنشر أسلحة نووية مضادة للأقمار في الفضاء، واعتباره تصريحات روسيا والصين بشأن عدم نشر الأسلحة في الفضاء هي مجرد "خدعة سياسية"،  وتعليقات الممثلين الأمريكيين، بشأن منع سباق التسلح في الفضاء، وكذلك نشاطهم الحالي حول شؤون الفضاء في مجلس الأمن، هي جزء من سياسة واشنطن الرامية إلى تقويض الجهود المتعددة الأطراف، للحفاظ على السلام الدولي وتعزيزه.

***

بقلم: الدكتور كريم المظفر

هناك توجه مجتمعي جديد ومحموم وهو كره المتدينين، واعتبارهم يقينا محض مدعين للتدين، لاسيما المعممين منهم، بالطبع هم يستندون في هذه القناعة إلى ما آلت إليه الأمور في العراق سياسياً، حيث كانت الأحزاب المتصدرة للحكومات المتعاقبة بعد ٢٠٠٣ هي أحزاب تحت مسميات دينية بارزة، وقع على عاتقها تشكيل حكومات، يرى الشعب عموماً أنها لم تنجح في إدارة البلد، لنقل ولو بنسبة مُرضية مع ما توفر لها من مقومات النجاح، حيث الموارد المالية الهائلة، ومساحة الحرية الكافية، كل هذا ألقى بظلاله على نظرة الجماهير إلى الدين والمتدين العراقي، وبالأخص المعمم، فبعد أن كانت رؤية المعمم في الشارع تثير في نفوس الناس نوعاً من احترام وتبجيل، صارت تثير الإشمئزاز، لأن شكله فوراً يقترن بسرقة أموال الناس وحتى التورط في دمائهم، حتى لو كان ذاك المعمم يعيش ذات الظروف التي يعيشها الإنسان العادي تماماً.

يعبّر الناس عن هذه الكراهية بلا حرج على مواقع التواصل. هناك كمية كبيرة من مقاطع ساخرة وصور مضحكة، فضلاً عن قصص وأخبار يتم تداولها حول أشخاص متدينين ومعممين، مثلاً يتم عرض صورة إمرأةً فقيرة معدمة، بجانبها رجل معمم يقود سيارة فارهة، وقصص أخرى من هذا النوع تضعهم في خانة المتهمين دائماً، كل هذه الممارسات على مواقع التواصل خلقتْ وعياً جديداً في أذهان الناس، يقوم على كره الأشخاص الذين تبدو عليهم السمات الدينية، سواءً كانوا معممين أو خطباء، أو شعراء دينيين أو غيرهم ممن يُظهِرون تدينهم، فهم يرون فيهم وجه الدولة التي سرقتهم، وأخفقت في إسعادهم.

في الأدب أيضاً ذات الأمر، إذ لايوجد روائي أو قاص يقدم نموذجاً دينياً إلّا حسب المزاج الشعبي العام، هكذا لن يعرض الكاتب نفسه لتهمة أنه متواطئ، فيما أن الأديب يعرف جيداً بصفة أنه مثقف، أن الوعي العام هو عاطفي وانفعالي عموماً، وإن الكاتب وهو شاهد عصره عليه أن يكون متوازناً وموضوعياً، فهو أشبه بخالقٍ مواز، يقدم جميع الإحتمالات، ولا ينقاد للوعي السائد، وليست رواية (ألف شمس مشرقة) ببعيدةٍ عنا، وهي رواية عالمية للكاتب الأفغاني الأمريكي خالد حسيني، ورغم إني لست متيقنةً من توجهات الكاتب الشخصية-وهي لا تعنيني كثيراً-إلّا إنني لمست توازناً ملحوظاً في تقديم شخصياته في مجتمع مسلم منغلق مثل المجتمع الأفغاني، فهناك (رشيد) وهو زوج الشخصية الرئيسية (مريم)، إنه شخص متدين، لكنه عدواني، سيء الخلق، فيما قدم لنا ايضاً ( الملا فايز الله)وهو رجل متدين، أراده حسيني رمزاً إسلامياً نقياً، فضلا عن شخصيات أخرى تندرج بين هذين النموذجين. لفتت انتباهي موضوعية الكاتب في خلق شخصيات طبيعية من لحم ودم، ذات قناعات دينية أملتها ثقافة بلده أفغانستان، ولم يكن متجنباً الخوض في تلك القناعات رغم الجنسية الأمريكية التي يحملها فضلاً عن ميوله العلمانية الواضحة.

برأيي أن الشعب له مبرراته في انفعالاته المتطرفة تجاه الدينيين (وأعني الإسلاميين خاصة والمعممين غالباً) لأنها ناجمة عن خيبة أمل كبيرة، وإن كانت تلك الإنفعالات غير موضوعية في تعميمها، لكن ما عذر المثقفين والكتاب في مجانبتهم الواضحة للموضوعية؟

المثقف العراقي، والأديب تحديداً لايقدم لنا شخصيات ذات خلفيات ورؤى دينية جيدة، لأنه يعرف أن سمة الأدب في العراق هي ليبرالية، أو وجودية أو ماركسية أو علمانية، عدا ذلك لا يُعد أدباً. برأيي أنها وجهة نظر لها ما يسوّغها، لكن يفوتهم أن الأديب البارع قادر حتماً على تقديم النماذج، الدينية الجيدة منها والرديئة، مع إبقاء النص في مساره الطبيعي البعيد عن العاطفة والإنحياز كما فعل (خالد حسيني) في روايته، فهي رواية واقعية، لم يفكر فيها الكاتب بردود الأفعال في أميركا مثلاً، ويا للمفاجأة عندما حققت الرواية ذلك النجاح العالمي المدوّي مع كثرة المحمولات الدينية.

الأدب لا ينقاد للمزاج العام، بل هو يخلق مزاجاً موضوعياً جديداً، وينتج وعياً بالحقيقية، حقيقة أننا يجب أن نكون منصفين وموضوعيين في نظرتنا للأفراد والأحداث.

***

تماضر كريم

 

يستغرب كثيرون كيف تمكن دونالد ترامب، وهو من خارج النخبة السياسية المهيمنة من الوصول إلى السلطة (2016)، وحتى بعد خسارته في انتخابات العام 2020، فإنه بقيَ في المشهد السياسي، وكما يقول عن أنصاره أن ثلاث أرباعهم يعتقدون أنه فاز في الانتخابات، وهو ما يدعوه اليوم إلى رفع صوته عاليًا للثأر من خصمه اللدود في الانتخابات المقبلة، التي ستجري في شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2024.

كان فوز ترامب مفاجئة كبرى، حيث كانت جميع الاستطلاعات ترجّح فوز منافسته هيلاري كلينتون، لكنه بحكم نجوميته وعلاقاته بعالم المال والأعمال والإعلام، تمكن من إحراز النصر عليها، واستطاع قلب المشهد السياسي، وظلّ متشبثًا بأحقيته حتى حين خسر أمام بايدن.

لم يهمل ترامب وسيلة لمقارعة بايدن، سواء كانت شخصية أم مالية أم قانونية أم إعلامية أم شعبوية، إلّا واستخدمها لتحقيق مآربه والوصول إلى مبتغاه، مستندًا إلى كارزميته وقوّة شخصيته وتمكّنه من الحصول على دعم الحزب الجمهوري، وهكذا أخذت تتشكّل "الترامبية" ويتجمّع حولها الأنصار، لا باعتبارها ظاهرة عابرة، بل بوصفها وليدة تشابك العديد من المصالح والتوجهات والروافد، التي التقت في تيارها.

وكانت فترة رئاسة أوباما واحدة من أسباب ظهورها، وبالتالي حصولها على قاعدة شعبية أوسع من القاعدة التي يهيمن عليها الحزب الجمهوري تاريخيًا، فإضافة إلى أصحاب المصالح والمهن المرتفعة الدخل، فإن الاتجاهات العنصرية التي رفعت لواء الحمائية ومناهضة الهجرة غير الشرعية وتجاوز البيروقراطية الحكومية، كانت خلفية فكرية لها، وهكذا حاول ترامب اللعب على عدد من الشعارات الشعبوية التي شكّلت إطارًا عامًا للتيار الترامبي في السياسة الأمريكية، على المستويين الداخلي والخارجي، بما فيه العلاقة مع روسيا، وما يزال هناك من يعتقد أن فوز ترامب في الانتخابات المقبلة سيوقف الحرب في أوكرانيا، وخصوصًا بالامتناع عن تقديم المساعدات لها.

وإذا كان ترامب يسعى لتجديد الحزب الجمهوري وتوسيع قاعدته الاجتماعية، فإنه اشتغل حتى قبل تولّيه دست الحكم على ما عُرف ﺑ "فن الصفقة"، وهو عنوان كتابه الصادر في العام 1987، وكان المال، وما يزال، عنصرًا أساسيًا في توجهه، فقد استعان به على شحّ خبرته السياسية والحكومية والعسكرية، ويمكن الاستدلال على ذلك، بتصريحاته المثيرة للجدل وسلوكه الغريب أحيانًا، سواء خلال حملته الانتخابية أو بعدها، بما فيه خلال فترة رئاسته، ناهيك عن بعض تصرفاته التي تنمّ عن مسحة استعلائية ضدّ المرأة، فضلًا عن محاولات التفافه على القانون للتخلّص من عبء الضرائب، وركّز على الإعلام لمواجهة خصومه وعشرات الدعاوى القانونية، إضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وقد تمكّن من إزاحة منافسيه من الحزب الجمهوري، حتى بدا هو الأول في مواجهة بايدن الديمقراطي.

ثمة أسباب عديدة لظهور "الترامبية"، لاسيّما في ظلّ تعمّق التوجهات المحافظة، وهي موجودة في المجتمع أساسًا، وانعكست على السياسة بالطبع، وهكذا أخذت تنشأ بالتدرّج ما يمكن أن نطلق عليه "الترامبية"، وهذه الأخيرة يمكن تلمّسها عبر عدد من المجسّات الأساسية التي شكّلت سداها ولحمتها؛

أولها – سلوك طريق الشهرة، من خلال علاقته بالمشاهير، سواء كانوا نجومًا سينمائيين أو كتابًا أو صحفيين، وقسم منهم اضطّلعوا بأدوار في السياسة الأمريكية، ومن أبرزهم الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وهكذا تمكّن من تقديم نفسه باعتباره صاحب قرار ويمتلك إرادة قوية ويستطيع أن ينفّذ ما يضعه كبرنامج دون تردّد أو خشية، بالرغم من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها، سواء خلال فترة حكمه أو في حملاته الانتخابية.

ثانيها – إثبات فشل السياسيين التقليديين، الذين لم يحسنوا إدارة الحكم، حسب رأيه، لذلك سار على خطى ريغان، الذي كان يردد أنه مواطن عادي وغير سياسي، وأن لديه اعتقادًا راسخًا بأن السياسيين هم الأكثر إزعاجًا للمواطن، وما مكنّه من التبجّح بذلك أكثر، هو كونه "مليارديرًا" وليس بحاجة كبيرة إلى جماعات الضغط كما يحتاجها غيره.

ثالثها – إعلاء النزعة القومية المعادية للمهاجرين، وموقفه الاستعلائي من الأجانب بشكل عام، ووفقًا لشعار "أمريكا أولًا"، و"إعادة عظمة أمريكا"، عمل على بناء جدار على طول الحدود المكسيكية، وسعى إلى ترحيل المهاجرين غير الشرعيين، بل أنه قرّر منع مواطني عدد من البلدان الإسلامية من دخول الولايات المتحدة، واضعًا عقبات جديّة أمام حصولهم على الفيزا، فضلًا عن انسحابه من العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

رابعها – الشعبويه، التي جذبت إليه أتباعًا حتى من خارج الحزب الجمهوري، وقسم من هؤلاء كانوا ساخطين على النخب السياسية التقليدية، فاستغلّ استياء العديد منهم ليحقق حضورًا كبيرًا على الساحة السياسية من خارجها، لدرجة أصبح ظاهرة جديدة في السياسة الأمريكية.

ولعلّ المعركة الانتخابية المقبلة بين الترامبية والبايدنية ستكون هي الأكثر سخونة في تاريخ الولايات المتحدة، وأنها أول انتخابات رئاسية، منذ فوز دوايت أيزنهاور في 1956، تشهد إعادة منافسة، خصوصًا أن ثمة اختلافات وخلافات جوهرية بين الاتجاهين فيما يتعلّق بالاقتصاد والسياسة الخارجية والقضايا الدولية، وفي جزء منها اختبار جديد للديمقراطية الأمريكية، التي يعتقد البعض أنها تحتاج إلى المزيد من إعادة النظر بجوانبها المختلفة ومعالجة نواقصها وثغراتها وعيوبها، بل وحتى أُسسها، ويتوقف على حسمها جزء مهم من مستقبل العلاقات الدولية من جهة، ومستقبل الولايات المتحدة من جهة أخرى.

***

عبد الحسين شعبان

اليوم، ونحن نعيش ذكرى الجلاء في سورية؛ علينا أن نعود بالذاكرة إلى أزيد من مئة عام، لنتذكَّر ونُذكِّر بأول استقلال لسورية في العصر الحديث في 8 آذار 1920، وربما يكون هو الأول بتاريخ سورية منذ أن عُرفت بهذا الاسم! والذي يستحق التوقف عنده. والتعرف على تلك المرحلة الفاصلة؛ بين تاريخ من الجور والظلم والجهل والامتهان، في نفق الدولة العثمانية المظلم! ومرحلة جديدة تَعِد بعهدٍ جديد عُقدت عليه الآمال، بعد طول انتظار. ونريد أن نُذكِّر بقائد ذلك الاستقلال، الأمير فيصل ابن الحسين، والذي خرج من مكة على رأس جيش كبير، متعقباً فلول العثمانيين الذين أُخرجوا من بلادنا بعد أربعة قرون! فيصل الذي اختار سورية لإقامة أول "حكومة عربية في دمشق" تكون أساساً لبناء عقد اجتماعي لسورية الكبرى، يكون صالحاً لتعميمه على مختلف أقطار العرب وشعوبها.

ويُظهر الأمير فيصل أبن الحسين شريف مكة، في كل مناسبة، تأكيده على المبدأ القومي ففي خطابه أمام مؤتمر السلم في فبراير (شباط) 1919 حين قال: "ان هناك فرقاً كبيراً بين حكومة تركية وأخرى عربية تقام في هذه المنطقة". يقول جورج أنطونيوس في كتابه: يقظة العرب.. "ومن العدل أن نذكِّر نقاد الفكرة العربية الذين يأخذون على الأكثرية العربية أنها لا تستطيع أن تفرق بينها وبين الفكرة الإسلامية، أنه كما لا يحق لنا ان ننتظر من الأقلية العربية ان تتخلى عن نصرانيتها حتى تصبح قومية، كذلك لا يحق لنا ان ننتظر من الأكثرية ان تتخلى عن اسلامها حتى تصبح اهلاً لحمل لواء الفكرة القومية. وللمغفور له فيصل الأول الكبير القول الفصل في ذلك عندما قال: "الدين لله والوطن للجميع". هذا الشعار المُوحد لأبناء الشعب، الذي أطلقه فيصل، وعمل على تحويله إلى برنامج عمل ملموس على أرض الواقع؛ منذ أن وطأت قدميه أرض سورية، على مبدأ الوطنية، والمواطنة الحقة، الذي يتساوى الجميع من خلاله، لا فضل لأبناء منطقة ما، أو طائفة، أو مذهب؛ على غيرهم إلا بما يقدمونه من خدمات لرفعة شأن أمتهم، وازدهار دولتهم ورفاه شعبهم، من خلال ما يمتلكونه من خبرة، وعلم ومعرفة.

واستغل فيصل كل مناسبة سواء في لقاءاته الداخلية مع الفعاليات الوطنية بمختلف مكوناتها، أو بالمحافل الدولية؛ للتأكيد على مساواة العرب في الحقوق والالتزامات، بقوله: العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمد. وهذا ما يُظهر تأكيده على فصل الدين عن السياسة، في مذكرته الى داوننج ستريت في سبتمبر (أيلول) 1919 التي ذكر فيها "رغم أني من أعرق الأسر الإسلامية فقد حملت السلاح ضد الخلافة إلى جانب الحلفاء لتحقيق أمل الوحدة".

وعرف الزعماء السياسيون ان الفروق الدينية يجب ازالتها قبل اتخاذ أي خطوة نحو الوحدة. ولو كان الوضع في سورية قد ترك لتطور طبيعي لاختفى الانقسام الديني والإقليمي تماماً على مسرح السياسة السورية.

دخلت جيوش الثورة العربية وقوات الحلفاء دمشق في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1918، بعد خروج الجيش التركي منها في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر. وفي اليوم التالي لدخوله دمشق، أصدر الأمير فيصل بلاغاً إلى الشعب باسم والده الشريف حسين، يعلن فيه تأسيس حكومة عربية في دمشق، وبدأ من فوره العمل مع فريقه، بالاتصال بالعلماء ورؤساء الدين والوجهاء العاملين في الحقل الوطني، وكان أول اجتماع من هذا القبيل عُقد في منزل الوجيه الدمشقي الكبير محمود بك البارودي، الذي تجلت فيه وحدة الفكرة العربية بين الأمير وتلك النخبة التي تعتبر ممثلة الشعب في الإفصاح عن رغبته في الوحدة والاستقلال.

وتابع فيصل تواصله مع الهيئات الفاعلة من أبناء الوطن بزيارة قام بها إلى مدن الشمال حمص وحماة وحلب، واستقبل بها بمنتهى الحفاوة والترحيب، التقى فيها بمختلف فعاليات المدن الثلاث، وفي حلب محطته الأخيرة، ألقى على الأهلين خطاباً أَبَان فيه جهود والده الحسين وحلفائه توصلاً لإنقاذ العرب من النير التركي وجمع كلمتهم وضمان حريتهم واستقلالهم. وحث الأمير في ختام خطابه الأهلين على اختلاف مذاهبهم على السعي بكل عزم وهدوء لتحقيق أمنيتهم الغالية بواسطة حكومة وطنية حائزة على ثقتهم، في سبيل خدمة الشعب وترقيته واستقلاله ورفع شأنه في نظر الحلفاء والعالم أجمع.

لم يكن الأمير فيصل والحاكم العسكري الركابي واخوانه العاملون في الحقل الوطني ولا زعماء الفكرة العربية والجمعيات السياسية، راضين عن تقسيم البلاد العربية إلى مناطق نفوذ للاستعمار الأوربي الفرنسي والبريطاني. فعمدوا على مقاومته باتباع سياسة الأمر الواقع بجميع الطرق السلمية. لذلك ضمت حكومة الفريق الركابي، المعيَّن من قبل القائد العام للقوات الحليفة الجنرال "اللنبي"، رجالاً من سورية ولبنان وفلسطين والعراق والأردن والحجاز دون أي التفات إلى المناطق التي ينتسب إليها كل منهم، ولا تبعاً لمذهبه وأسرته وعشيرته. فكان الأمير عادل أرسلان (جبل لبنان) معاوناً للحاكم العسكري، ونوري باشا السعيد وجعفر باشا العسكري وياسين باشا الهاشمي، من القادة العراقيين، في أهم المناصب، أولهم مستشاراً سياسياً للأمير فيصل والثاني مستشاراً عسكرياً والثالث رئيساً لميرة الجيش، وسعيد باشا شقير (بيروت) مديراً للمالية، واسكندر بك عمون (جبل لبنان) مديراً للعدلية، ورشيد بك طليع (جبل لبنان) مديراً للداخلية، وسليم باشا موصلي (دمشق) الجنرال السابق في الجيش البريطاني مديراً للشؤون الصحية، وساطع بك الحصري (حلب) مديراً للمعارف (التربية والتعليم).

 واتبعت نفس الخطة في مجلس الشورى ومحكمة التمييز (النقض) وفي ديوان الأمير، وباقي الإدارات التي لا يتسع المكان لذكر تفاصيلها.  

حسب يوسف الحكيم، صاحب كتاب: سورية والعهد الفيصلي، بقوله: „يدعونا الانصاف إلى التصريح بأن المسيحيين ناولوا من الوظائف الهامة في الجامعة كما في سائر دوائر الحكومة أكثر مما تفرضه النسبة العددية بينهم وبين إخوانهم المسلمين، مما دل على أن هدف الجميع الأسمى هو الوطن العربي وأن الاخاء العربي يسود جميع أبنائه ويحول دون كل تفرقة يتمناها ويسعى اليها الطامعون في استعمار البلاد".

في جلسة للمؤتمر السوري عُقدت في الثالث من حزيران سنة 1919 وانتخب هاشم الأتاسي نائب حمص رئيساً له، ومرعي باشا الملاح نائب حلب، ويوسف الحكيم نائب طرابلس نائبي للرئيس.

وفي ختام الجلسة، وجه الرئيس كلمة شكر إلى النواب على ثقتهم.. وطلب بأن يرفع المؤتمر واجب الشكر لسمو الأمير فيصل على ما قام به في سبيل سورية.. وانتخب المؤتمر لجنة من بين أعضائه لتنظيم عريضة الشكر والتأييد.

وفي الجلسة التالية، حين تليت عريضة الشكر على المجلس من أجل إقرارها، اعترض السادة المشايخ من النواب على خلوها من البسملة التي يجب أن يُبدأ بها. فقابلهم النواب التقدميون، وكلهم من الأدباء، خريجي المعاهد الحقوقية والعلمية العالية، بأن الأمة تتطلع إلى فجر جديد تتجلى فيه فكرة تأسيس حكومة تتفق وروح العصر، لا دخل فيها للدين، فتبقى الأديان السماوية في حرمتها وقداستها وتسير السياسة في انطلاقها حسبما تقتضيه مصلحة الوطن، أسوة بالأمم الراقية في أوربا وأميركا. فعاد المشايخ إلى المعارضة واحتدم الجدال بين الفريقين ووصل حداً ينذر باحتمال انقسام الأمة وراء نوابها شطرين، تقدمي ومحافظ مما يهلل له الاستعمار ويضر باستقلال البلاد.

يقول يوسف الحكيم: لذلك نهضت معلناً رأيي، بأن التقدمية التي يرغب فيها الشعب ولا سيما الطبقة الواعية لا تتناقض مع الاعتقاد بالله العلي العظيم، وأمامنا الأمة البريطانية العريقة في الحكم النيابي تُظهر في كل مناسبة تمسكها بالدين دون أن تدخله في السياسة وإدارة شؤون المملكة ودون أن يكون سبباً للتفرقة بين أبنائها في الحقوق والواجبات الوطنية. واقترحتُ في ختام كلامي، للتوفيق بين فريقي النواب، أن تتوج العريضة بكلمتين فقط هما "باسم الله" فصفق النواب جميعاً ووافقوا على العريضة.

هنا يمكننا القول؛ ونحن نقلب صفحات مضيئة من تاريخنا، أن سورية كانت قاب قوسين أو أدنى من فصل الدين عن السياسة قبل أزيد من مئة عام؛ لو تسنى لتلك الفرصة النجاح! كانت تجربة علمانية، من دون أن توضع العلمانية كعنوان لها.. تجربة، كانت العلمانية تُقرأ في كل سطرٍ من وثائقها، وخاصةً في قانونها الأساسي الذي لم تُتَح الفرصة لتطبيقه.. كانت تجربة ثمينة.. وفرصة ضائعة! فهل نستطيع التعلم منها؟

***

سمير البكفاني - كاتب سوري 

 

جرت محاولة اغتيال للرّاهب العِراقيّ- الأستراليّ مار ماري عمانوئيل، خلال موعظته في كنيسته «المسيح الرّاعيّ الصالح»(15 /4/ 2024)، الكائنة بمدينة وايكلي، غرب العاصمة الأستراليّة. فاجأه مراهق عمره من 15-16عاماً، بطعنات، نُقل على أثرها إلى المستشفى. صرحت الشّرطة، بأنه «عمل متطرف مدفوع بدوافع دينيَّة».

كان الرّاهب منفرداً، في مواعظه، على خلاف طبيعة خِطاب الرّهبان الوعظي. تجده يتناول السّياسة، ويرد على ما يُثار في شبكة الإنترنت، مِن المقارنة بين الأديان، وبين الأنبياء، فيدخل في خلاف دينيّ، مصرحاً لماذا يعتقد بالإنجيل دون غيره، بمعنى كان إشكالياً في خطبه. لذا، أنشأ كنيسته الخاصة. هاجر مِن العراق قبل دخوله الخدمة الكنسية، وترسيمه أسقفاً، ضمن أبرشية أستراليا ونيوزيلندا، التابعة للكنيسة الشَّرقيَّة.

كان حاضراً بقوة في المواقع الإلكترونيَّة، هَدَده صاحب موقع تحريضي، بعبارة: «انتظر ما يسوءك»(مارس 2023)، مُذكره بمصير راهب قبله، مع مناقشة جارحة لأفكاره، وبالتالي وضعه أمام النّاس مستحقاً التّصفية الجسدية.

حسب تاريخ موقع هذا المحرض، أنه كان ضمن إعلام جماعة «الإخوان المسلمين»، في غمرة التظاهرات ضدهم، وبعد زوالهم مِن الحُكم (2013). اتخذ هذا المحرض، مِن موقعه منصة ضد المسيحيين، بالمقابل توجد منصات مسيحية تقوم بالرّد، فتشتد المواجهات، كثفتها حادثة طعن الرّاهب، فظهرت التحريضات السابقة ضده، خلال البحث عن مقدمات محاولة الاغتيال.

هذا، والإنترنت ومواقعه، جمعت العالم، وحولته إلى قرية، يطفح حولها الشّرُ والخيرُ. تابعتُ ما قدمته تلك المواقع، عن القضية، وهي تدق طبول حرب عقائديّة دينيَّة، خارج ما يعبرون عنه بـ «الرّأي والرّأي الآخر»، فتلك برامج زعيق، واعتداء، وتسقيط، فلا نتصور حواراتها كالتي كانت بين الخليفة المهدي بن المنصور العباسيّ (158-169هجرية) وجاثليق الكنيسة الشَّرقية طيمثاوس الكبير ببغداد، ولا هي بحدود ما عُرف بالمباهلة (المواجهة الحواريّة)، أو ما يُعبر عنه بالمناظرة، إنما جدل، يحضره المتجادلون، للرّد والمواجهة النّاريّة، التي تُمهد لحروب ومقاتل، داخل البلد الواحد، وبين البلدان.

أكثر هذه المواقع، على المستوى الديني أو المذهبي، تبث مِن بلدان الحرية الاعلامية والفكريّة، مع أنها لا تنتمي لعمل إعلامي، ولا خلاف فكريّ، بل بيانات معارك. ومعلوم أنَّ «الْعَدَاوَةُ عَلَى الدِّينِ، الْعَدَاوَةُ الَّتِي لَا زَوَالَ لَهَا، إِلَّا بِانْتِقَالِ أَحَدِ الْمُتَعادِيَيْنِ، إِلَى مِلَّةٍ الْآخَرِ مِنْهُمَا»(الطَبريّ، جامع البيان)، أخطر العداوات، إمَّا القتل وإمّا دخول دِين عدوك. فكم تكون إشاعة الإخوة الإنسانيَّة مهمة، بها وحدها يتحقق منطوق الآية: «لكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ»، الآية التي لم تسلم مِن النّسخ، نسخها فقهاء «النّاسخ والمنسوخ» بآية السّيف(البغداديّ، النَّاسخ والمنسوخ).

أرى أنّ طعن الرّاهب، واحدة مِن موجبات دعم الأخوة الإنسانية، ولا مناصَ مِن تبنيها عالميّاً، وكانت البادرة بأبوظبي «وثيقة الأخوة الإنسانيّة» (4 فبراير2019)، لخلق ثقافة تبعد شبح القتل بسبب دينيّ، أو الإكراه، وفق تأكيد الآية: «لَا إِكراهَ فِي الدّين».

أقول: مهما كانت حدة الجدل، بين أهل الأديان، لا تكون حياة الإنسان ثمناً، فهذا المراهق الذي حاول قتل الرّاهب مأخوذاً بخطاب العنف، التي تبثه الفضائيات والمواقع، وطعن الرّاهب اليوم سبقه قتل العشرات في مساجد نيوزيلندا (15 مارس 2019).

بروح السَّيد المسيح، قال الرّاهب لطاعنه بتسجيل بثه بالإنجليزية: «أنت ابني وأنا أحبك، وسوف أُصلي مِن أجلك، وأسامح مَن أرسلك لهذا الفعل».

أقول: ما كانت «وثيقة الأخوة الإنسانيّة» يوقعها حَبر المسيحيين وشيخ المسلمين، على أرض الإمارات، لولا أنّ «بلغ السَّيل الزّبى»، بالعنف الدِّيني.

لعلَّ محمد مهدي الجواهري(ت: 1997) حسب، قبل أكثر من مئة عام، حساب هذه الوثيقة الإنسانيّة، وحساب العنف بين الأديان، أهل الشّرق خصوصاً، عندما قال: «وقد خبروني أنّ في الشرقِ وحدةً/كنائسه تدعو فتبكي الجوامعُ»(النَّجف 1921).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

قبل أكثر من عشر سنوات تداولت الأوساط السياسية الشيعية موضوع الأغلبية في العراق وطرحت مجموعة أفكار أو رسائل مفادها يتطابق مع فكرة الأخ الأكبر والراعي الأبوي لبقية المكونات، بل ذهب بعض المتشددين إلى أن المكون الأكبر يحق له الرئاسات الثلاث، وما منح لهم ويقصد المكونين السني والكردي فهو (كرمٌ) سياسي لتجميل مشهد الحكم، ورغم أن تلك الأفكار لم تجد بيئة صالحة لتطبيقها ولا صدى بين الناس حتى في أوساط المجتمع الشيعي إلا أنها بقيت تراود كثيراً من الساسة والنواب المتشددين والمدعومين من فصائلَ مسلحة تتحدث دائماً نيابة عن كل العراق في بياناتها، خاصة بعد انسحاب التيار الصدري (الفائز الأول) من العملية السياسية وتركه 72 كرسياً في مجلس النواب ليستحوذ عليها الإطار التنسيقي (الخاسر الكبير) الذي هُزم في انتخابات 2021، حيث عادت مرة أخرى نغمة الأغلبية وبتكتيكات جديدة استخدمت فيها كثيرٌ من ممارسات النظام السابق في شقّ وتضعيف الأحزاب القوية لدى المكونين الكردي والسني، وصنع شخصيات وأحزاب كارتونية كخطوة أولى في إضعافهما للوصول الى تطبيق فرضية الأغلبية الشيعية بتحالفات تجميلية على غرار الجبهة الوطنية ابنة حقبة النظام السابق.

إن طبيعة تكوين العراق التي أشار اليها الملك فيصل الأول حينما توج ملكا على العراق في وصفه لمكونات مملكته قائلا: (لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة..) وقد فشلت كل الأنظمة السياسية المتعاقبة طيلة قرن من الزمن في بلورة مفهوم جامع للمواطنة وعابر للأديان والاعراق، لا تسمح بقيام نظام أغلبية على شاكلة ما تطرحه بعض القوى المتطرفة، حيث دفع العراقيون ثمنا باهضا بسبب تسلط ما يسمى بالأغلبية القومية تارة او الدينية المذهبية تارة أخرى، حتى وإن كانت من الناحية العددية تتفوق أو تتجاوز على المكونات الأخرى، فالعراق يتكون وواقع حاله منذ تأسيسه من الناحية الدينية بأكثرية عددية مسلمة شيعية سنية، يعقبها المسيحيون والإيزيديون والصابئة واليهود، ينتمون في أصولهم وقومياتهم إلى العرب والكرد وبقية المكونات الأخرى من الكلدان والتركمان والسريان والأشوريين والأرمن، حيث أظهرت السنوات الماضية ونتائج الانتخابات العامة اصطفافات واضحة جدا تكثفت فيها ثلاث تكتلات مذهبية وقومية رئيسية هي: القوى الشيعية والسنية والكردستانية، وهذه هي حقيقة المكونات الرئيسية للبلاد سياسيا وجغرافيا؛ الشيعية التي تتوزع جغرافياً جزء في العاصمة بغداد وغالبية في الجنوب والفرات الأوسط، والسنية جزء في العاصمة واغلبية في الغرب، وبعض من الشمال والشرق، والكرد جزء في بغداد واغلبية في كوردستان مع بعض من الغرب والشرق، لتكون اقاليماً جغرافية وتاريخية متناسقة ومتجانسة، تتوحد جميعها حول عاصمة تاريخية لا تقبل ثقافتها إلا أن تكون ملكاً لكل المكونات والأديان والمذاهب، تلك هي بغداد التي تتقاسم فيها اليوم المكونات الرئيسية مواقعها الاتحادية في السلطات الثلاث بطواقم مترهلة ومتداخلة بغياب إعلان الفيدراليتين الأخريين في كل من الجنوب والفرات الأوسط والغرب مع التلكؤ في حل مسألة المناطق المتداخلة بين إقليم كوردستان ومحافظات نينوى وديالى وصلاح الدين.

وللأسف كما ذكرنا فشلت كل الأنظمة التي حكمت العراق منذ تأسيسه كمملكة في بلورة مفهوم المواطنة، كما فشلت في إيجاد حلول ادارية وسياسية لإشكالية المكونات في مجتمع هذه الدولة وتركها مهملة ومهمشة، مما أدى الى نشوء صراعات واحتراب، حيث لم يك حكامها عقلاء الى الدرجة التي يدركوا فيها بلد متنوع المكونات، لكي يؤسسوا بموجبه دولتهم العتيدة، التي تآكلت بسبب الحروب البينية او الخارجية حتى انهارت وتم احتلالها وتغيير نظامها بالقوة، مما أتاح  فرصة لإعادة بناء دولة عصرية حديثة بدستور دائم يضمن حقوق كل المكونات في دولة اتحادية فيدرالية ديمقراطية تعددية، لكن للأسف تم اهمال الدستور بعد سنوات قليلة بتغول قوى مذهبية انتابها شعور العظمة والغرور على خلفية افتراض المكون الأكبر، فأغرتهم السلطة والمال والنزعة المذهبية المدعومة خارجياً حيث بدأوا بمركزة الدولة ومنع قيام فيدراليات بادعاء انها ستقسم البلاد وتنهي وجودها، متهمين أي دعوة للفيدرالية بالانفصالية مستخدمين القمع والإرهاب في قمعها.

واليوم تطرح وسائل دعاياتهم مفهوم الأغلبية الطائفية التي تحاول استنساخ سلوكيات ونهج الأنظمة السابقة في إذابة المكونات الأخرى في بوتقة الأغلبية، وبدلاً من الركون الى ارقى النظم الإدارية والسياسية في العالم ألا وهو النظام الفيدرالي وتحويل العراق الى ثلاث فيدراليات جغرافية كما أراد له الله وطبيعة تكوينات مجتمعاته في غرب البلاد وفي الفرات الأوسط والجنوب وفي إقليم كوردستان، كثفوا جهودهم وما في أيديهم من سلطة ومال على إفشال النظام الديمقراطي والفيدرالي بإنشائهم دولة عميقة وأذرع مسلحة وفتاوى دينية وشعارات مخدرة تسوق البلاد إلى دوامة الحروب والاحتراب، حيث غدت البلاد خلال عقدين من الزمان واحدة من افشل النظم السياسية وأكثرها فسادا وارهابا وتخلفا قياسا مع امكانياتها وثرواتها وتنوع مكوناتها.

***

كفاح محمود

 

كيف شن مسلمو الهُوي الحرب المقدسة لصالح الصين في الحرب العالمية الثانية؟

بقلم: ستيفن تشو

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان ولاؤهم الوطني يعتمد على قرون من التقاليد، وهو التاريخ الذي أصبح الآن منسياً إلى حد كبير.

***

في منتصف الثلاثينيات، كانت هناك عاصفة تختمر فوق الصين. لسنوات عديدة، اتبعت الإمبراطورية اليابانية سياسة التدخل الاستعماري في الشؤون الصينية. وفي عام 1934، سعت إلى السيطرة الكاملة وأعلنت أن جارتها الأكبر حجماً "محمية" غير قادرة على الحكم الذاتي. غزت القوات اليابانية واحتلت جزءًا كبيرًا من البلاد، وتغلبت على القوى الإقليمية المتعاقبة في مشهد ما بعد الإمبراطورية الممزق.

أدى هذا إلى وحدة جديدة بين الصينيين. فقد وضع الحزب القومي الصيني، أو الكومينتانج، بقيادة الجنرال شيانج كاي شيك، والحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونج ــ الأعداء في حرب أهلية صينية مريرة ــ خلافاتهما جانباً لتشكيل تحالف موحد مناهض لليابان. بدأت المواجهة الشاملة مع اليابان، والتي تُعرف الآن باسم الحرب الصينية اليابانية الثانية، في عام 1937 واحتلت مركز الصدارة في مسرح الحرب العالمية الثانية الدموي في المحيط الهادئ.

في عام 1939، شنت الجبهة المتحدة أول هجوم مضاد كبير لها، أطلق عليه اسم هجوم الشتاء، وهو عبارة عن سلسلة من الإجراءات التي أبطأت التقدم الياباني حتى وصلت إلى طريق مسدود. وكانت إحدى نقاط التحول هي انتصار الصين في معركة غرب سوييوان، في منطقة يسكنها العديد من مجموعات الأقليات في الصين والتي أصبحت الآن جزءًا من منطقة منغوليا الداخلية ذاتية الحكم.

وفي غرب سويان، خسر اليابانيون أمام الجنرالات الصينيين الذين عرّفوا أنفسهم بأنهم مسلمو الهوي، وهم أقلية عرقية دينية كبيرة في الصين يبلغ عددهم الآن أكثر من 8 ملايين شخص. وساعد جنرالات الهوي في كتابة فصل منسي من تاريخ الصين ـ حيث سلط الضوء على الدور الذي تلعبه الأقلية المسلمة في الصين في تحديد مستقبل البلاد في بوتقة الحرب.

خلال هذه المقاومة المناهضة لليابان، حشد القادة المسلمون الصينيون الدعم للنضال   باعتباره حربًا مقدسة محرمة دينيًا ضد غازٍ أجنبي لا يرحم. لكن الهوي رأوا أيضًا نضالهم من أجل الصين جزءًا من نضال وطني أوسع. لقد رأوا أن تعزيز مجتمعهم جانب من جوانب بناء صين أقوى في العصر الحديث.

وهذا بمثابة تذكير بأن المسلمين الصينيين لعبوا منذ فترة طويلة دورًا مهمًا في تاريخ البلاد. يعود وجودهم في الصين إلى مئات السنين، إلى العصور الوسطى. لقد كانت الصين موطناً لقبيلة الهوي لأجيال لا حصر لها، وكان إخلاصهم واضحاً في الوقت الذى كانت البلاد فيه تحت تهديد غير مسبوق.

كان الاستراتيجيون اليابانيون في ذلك الوقت على دراية أيضًا بشعب الهوي. لقد أمضوا سنوات في مغازلة الزعماء المسلمين في الصين بوعودهم بالحكم المستقل تحت رعاية اليابان. ومع ذلك، رفض جنرالات وزعماء الهوي هذه التطورات، واختاروا البقاء مخلصين لوطنهم. إن إلقاء نظرة فاحصة على تاريخ وفكر الهوي يكشف أن هذا الولاء يتجاوز بكثير القومية البسيطة أو الراحة اللحظية في أوقات الحرب.

وربما كانت المقاومة المناهضة لليابان هي الحدث الأكثر تكويناً في الذاكرة الوطنية الصينية. ارتكزت مشاركة الهوي فيها على فلسفات التعايش والبقاء والوئام الاجتماعي التي تعود إلى قرون مضت وساعدت في ترسيخ وجود الهوي الدائم في الصين. تشكلت هذه الفلسفات من خلال مجموعة واسعة من التأثيرات، بدءًا من الأفكار الروحية للفيلسوف المسلم الأندلسي والصوفي ابن عربي، وحتى الاتجاهات التحديثية للنهضة الإسلامية التي اجتاحت أواخر الإمبراطورية العثمانية.

وظّف زعماء الهوي هذه الأفكار للمساعدة في تحديد التقدم الديني والمجتمعي من خلال حب   الوطن، في هذه الحالة الصين، وخاصة خلال الحرب مع اليابان. وقد نجح هؤلاء القادة، أو "آه هونغ" (من الكلمة الفارسية "أخوند"، وهو تكريم إسلامي علمي)، في حشد الدعم للمقاومة المناهضة لليابان من خلال تأطيرها بمصطلحات تتجاوز مجرد الحفاظ على الذات بشكل عملي. لقد أشاروا صراحة إلى المجهود الحربي ضد اليابان باعتباره "جهادًا" نبيلًا لحماية وطنهم وإرساء الأساس لوجود الهوي المستقبلي في الصين الحديثة. وتستمر هذه الهوية الصينية الإسلامية، المتجذرة بعمق في التاريخ والتقاليد الصينية، حتى يومنا هذا في مواجهة العداء المستمر من النظام الاستبدادي في بكين.

يغطي سكان الهوي المسلمون جميع مقاطعات ومناطق الصين. يمكن العثور على تركيزات عالية في مقاطعات قانسو ونينغشيا وتشينغهاي الشمالية الغربية. إن أصول وجود الهوي في الصين محل خلاف، لكن الرواية الأكثر شيوعًا، المدعومة بإجماع علمي كبير، هي أنهم ينحدرون من نسل مسلمين من آسيا الوسطى وبلاد فارس وما وراءهما الذين هاجروا شرقًا خلال عهد أسرة تانغ (618-907) ويوان (1279-1368). أُنشئت الأخيرة عندما تولى الإمبراطور المغولي كوبلاي خان (حفيد جنكيز) منصب أول حاكم أجنبي للصين. بحلول ذلك الوقت، كانت أعداد كبيرة من السكان المسلمين قد اندمجت بالفعل في مناطقهم الصينية من خلال الزواج المختلط. وسرعان ما أصبحوا يشاركون في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك في أوقات الحرب.

ووفقاً لمؤرخ الإسلام الصيني ماتسوموتو ماسومي، كان على المفكرين المسلمين الذين وضعوا إطاراً لوجودهم في الصين أن يتعاملوا مع كيفية التوفيق بين الإخلاص الإسلامي لله والولاء تجاه إمبراطور غير مسلم. كانت الإمبراطورية الصينية تُحكم منذ عهد أسرة تشو القديمة (1046-256 قبل الميلاد) بموجب الإطار الكونفوشيوسي لـ "ولاية السماء". في هذا النظام، منحت السماء نفسها الحق في الحكم للإمبراطور، "ابن السماء". وهكذا كان الإمبراطور امتدادًا للألوهية. كان على المسلمين في الصين أن يوفقوا بين الإخلاص لله، الإله الحقيقي الواحد، والولاء للإمبراطور الذي كان يعتبر نفسه نصف إله حي.

واليوم، لا يواجه المسلمون الذين يعيشون كأقليات داخل الدول القومية العلمانية، بما في ذلك الديمقراطيات، تناقضات كبيرة بين كونهم مواطنين وممارسة الإسلام. إن اتباع قوانين بلد ما لا يشكل عادة أي تهديد خطير (مع بعض الاستثناءات التي يمكن مناقشتها في مجتمع مفتوح) للحفاظ على الولاء لله. لكن في الصين القديمة، ادعى الإمبراطور وجود بُعد خارق للطبيعة عزز موقعه الملكي فوق عامة الناس. لقد كان الممثل الوحيد للسماء، يحكم حسب تفويضها ونظامها. ويختلف هذا الإطار عن الإطار الإسلامي الذي يؤكد على إله واحد دون أنداد من أي نوع، ناهيك عن أنصاف الآلهة. وكان على علماء الدين المسلمين الصينيين أن يجدوا طريقة للتوفيق بين هاتين الرؤيتين.

وكما يشير ماسومي، فإن الإلهام لهذه المهمة جاء من مصدر بعيد جدًا عن الصين. منذ قرون مضت، تأثر المسلمون المهاجرون إلى الصين من آسيا الوسطى وخارجها بأفكار الفيلسوف المسلم في العصور الوسطى ابن عربي، الذي يشار إليه عادة باسم "محيي الإيمان". إن أفكار هذا المتصوف الأندلسي، بمفهومه الميتافيزيقي الشهير عن "وحدة الوجود"، من شأنها أن تساعد المسلمين في الصين على الحفاظ على علاقات جيدة مع جيرانهم غير المسلمين والولاء للحكام غير المسلمين، كل ذلك مع بقائهم مخلصين للإله الواحد.

ترى فلسفة"وحدة الوجود" عند ابن عربي أن كل الوجود والظواهر هي انبثاقات للوجود الأسمى والوحيد: الله. هو فقط يمتلك "الوجود في ذاته" والكائن الذي هو أيضًا جوهره. البشر وجميع الكائنات الحية الأخرى، من الملك إلى الفقير إلى الحيوانات، لا يمتلكون كائنًا مستقلاً. يعتمدون على الله في وجودهم. جميع الأفعال والظواهر تنبع من الله. فكل شيء في الكون، بحسب أحد الأوصاف، هو إذن "تجلي ووحي" وإعلان" لجوهر الله الإلهي.

وعند فهم هذه الدعوة إلى الوحدة وممارستها بشكل حقيقي، فلابد أن تعمل على تعزيز العلاقات الودية والتفاهم بين المسلمين وغير المسلمين ــ وهو نفس الشعور "بالانسجام" الذي يتجلى بشكل مركزي في قسم كبير من الفكر السياسي الصيني. بحلول القرن السابع عشر، استخدم علماء مسلمون مثل وانغ دايو، وليو تشي، وما تشو المصطلحات الكونفوشيوسية ليقولوا إنه وفقًا لوحدة الوجود، كان الإمبراطور الصيني، وكذلك النظام الذي يحكم من خلاله، مثل أي شيء آخر. ، مجرد انبثاق دنيوي آخر لله.

ووفقًا لماسومي، فإن هؤلاء العلماء المسلمين "اعترفوا بالسادة غير المسلمين، بما في ذلك ولاية السماء، على أنهم تدفقات من الله، واعتبروهم مؤتمنين على أنهم السلطة الحاكمة من الله". ومن خلال طاعة قواعد النظام الاجتماعي والانسجام ضمن ولاية السماء، كان المرء يحقق أيضًا إرادة الله في المجال الاجتماعي للصين الإمبراطورية. ومن ثم، فإن القول بأن تفويض الإمبراطور بالحكم جاء من السماء كان مجرد طريقة أخرى للقول أنه جزء من الله نفسه.

أصبح هذا معروفًا باسم "نظرية الإيمان المزدوج". فإذا عاش المسلم حياة طيبة تحت أمر السماء، فإنه كان أيضًا يحقق مطالب الله ويساهم في الوقت نفسه في التعايش والوئام في المجتمع الصيني. وقد وضعت فكرة الاستقرار هذه الأساس لما سيصبح شكلاً أكثر كثافة من قومية الهوي خلال الحرب العالمية الثانية، عندما شهدت ضغوط الحرب اختلاط الدعوات للدفاع عن الوطن بالدعوات إلى الحرب المقدسة.

انتهت ولاية السماء في عام 1911،عندما انهارت الإمبراطورية الصينية أخيرًا وظهرت القومية الحديثة مكانها. لقد أدى خليط من الاضطرابات السياسية والتدخل الأجنبي والاضطرابات الأيديولوجية الحديثة إلى هز النظام القديم الذي عاش في ظله المسلمون الصينيون لعدة قرون.

لقد ذهب الامبراطور. وتم تفكيك البيروقراطية التي كانت تدير الإمبراطورية. وسعت الإمبريالية الغربية والقومية الجمهورية والشيوعية وأمراء الحرب وغيرها من القوى إلى التفوق على بعضها البعض في الصراع من أجل الهيمنةكان على علماء وقادة الهوي، آه هونغ، أن يجدوا إطارًا جديدًا يمكن من خلاله متابعة مصالح مجتمعهم في خضم هذا التغيير الفوضوي.

وفي خطوة جعلت مستقبل مسلمي الهوي يعتمد على الولاء الدائم للصين، استبدل آل آه هونغ / قادة الهوي ببساطة الولاء لتفويض السماء بالولاء للدولة القومية المزدهرة في الصين. وفي هذا الإطار، فإن تعزيز المجتمعات الإسلامية لن يؤدي إلا إلى تغذية النهضة الوطنية للصين في عالم تهيمن عليه القوى الغربية. وقد عُرفت هذه الفترة بفترة "النهضة الإسلامية" في تاريخ الصين الحديث.

وسعيًا إلى استجابات مستنيرة إسلاميًا للتحديات الجديدة، سافر العديد من الأئمة إلى مصر والمملكة العربية السعودية خلال عشرينيات القرن العشرين، بما في ذلك جامعة الأزهر الشهيرة في القاهرة. وقد ساعدت هذه التجربة في تشكيل قوميتهم ووطنيتهم المتزايدة، لا سيما عندما استعاروا فكرة "حب الوطن من الإيمان" من القوميين المسلمين في مصر.

كانت القومية المصرية تنمو في أوائل القرن العشرين عندما بدأت الإمبراطورية العثمانية، التي كانت مصر ولاية تابعة لها لعدة قرون، في الانهيار. وكان المصلحون المسلمون في الجامعات المصرية الشهيرة مثل الأزهر وأماكن أخرى يصوغون أفكارهم الخاصة حول كيفية إعادة تشكيل العقيدة الإسلامية في مواجهة عالم سريع التغير. على وجه التحديد، في أعقاب الزحف الأوروبي، وخاصة بعد الحرب العالمية الأولى (التي اتخذ فيها العثمانيون الجانب الخاسر)، ركز المثقفون المسلمون على كيفية جعل أوطانهم أقوى في عالم الدول القومية الجديد، ولكن من خلال عدسة الدولة القومية. "الصحوة الإسلامية" الخاصة بهم. لقد تم تأطير حب المرء لوطنه والدفاع عن استقلاله تدريجيًا باعتباره شيئًا قريبًا من جوهر الإيمان. هذا الخلط بين القومية والإسلام ذى الدوافع السياسية شق طريقه أيضًا إلى الصين من خلال كلمات هوي آه هونغ.

وفقًا لماسومي، كان العالم المسلم الصيني وانغ جينغزاي أول من قام بنشر مفهوم "حب الوطن من الإيمان" باللغة الصينية. وقد تمت ترجمته بشكل فضفاض إلى شعار "ai guo ai jiao" أو "حب الأمة، حب الإيمان"، وأصبحت دعوة منتشرة في كل مكان لحشد الوطنية الصينية من قبيلة الهوي. العبارة العربية، بحسب ماسومي، تم تصويرها بشكل خاطئ في هذه السنوات على أنها حديث صحيح - قول أو اقتداء بلنبي محمد - مما يمنحها مصداقية كتابية. وقد تكرر هذا الشعار في كثير من الأحيان خلال صلاة الجمعة، مما يدل على أن القادة المسلمين ينظرون إلى إحياءهم الديني باعتباره ركيزة ضرورية لنجاح الصين.

أصبح هذا الدافع القومي أقوى خلال حرب المقاومة ضد اليابان.. كان غزو الصين واحتلالها يعني أنه كان على قادة الهوي أن يضعوا أخلاق “ai guo ai jiao” موضع التنفيذ. وإذا أرادوا المساهمة، كان عليهم حشد شعوبهم. لذا، بمرور الوقت، تولد عنها: "ai guo ai jiao" "jiu guo jiu jiao" أو "أنقذ الأمة، أنقذ الإيمان". ومن وجهة نظر المسلمين الصينيين، لم تكن هذه مجرد حرب خلاص وطنية. كانت الصين موطن شعب هوي؛ وكانت مسؤولية الدفاع عنها ترقى إلى مستوى الحرب المقدسة أو "الجهاد".

وقام الأدباء المسلمون في الصين بنشر هذه الدعوة على نطاق واسع في مجتمعاتهم. ويشير ماسومي إلى أن هؤلاء القادة رأوا أن التحديات التي يواجهونها تنعكس في التحديات التي تواجهها المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم الإسلامي، بما في ذلك مصر وغيرها من الأراضي العثمانية سابقًا. كانت هذه تحديات مثل السيطرة الأجنبية، وعدم الاستقرار السياسي، والإصلاح التعليمي، والبداية العامة للحداثة الصناعية. كما رأوا كيف أن الدوريات الإسلامية ــ مجلات مثل المنار، التي أسسها العالم محمد رشيد رضا، أو مجلة الأزهر التي تنشرها الجامعة المصرية الشهيرة ــ كانت بمثابة منصات لحجج وأفكار جديدة تتمحور حول الإصلاح.

وسرعان ما بدأ المسلمون الصينيون في إنشاء منشوراتهم الخاصة. بدأ انتشار عدد كبير من الدوريات، أحيانًا بالآلاف، خلال المجهود الحربي. ومن عام 1910 حتى عام 1949، تم طباعة وتوزيع أكثر من 60 دورية جديدة للمسلمين في الصين. لقد تطرقوا إلى موضوعات دينية مثل تفسير القرآن الكريم، لكنهم ركزوا أيضًا على دور المجتمعات المسلمة الصينية عندما يتعلق الأمر بموضوعات مجتمعية أكثر إلحاحًا مثل الحرب والتعليم وبناء الأمة.

وكانت المجلة الأبرز هي مجلة يو هوا، التي بدأت في عام 1929 كنشرة منتظمة لمدرسة تشنغدا العادية لشباب هوي. وتُظهر الدراسات المكثفة التي أجراها ماسومي حول المجلة أنه بعد عام 1931، اتخذت الدورية هيكلًا أكثر رسمية وأصبحت أقرب إلى منفذ فكري لوضع أجندة لمسلمي الصين. وكان هدفها الترويج للإسلام في الصين من خلال تعزيز هوية الهوي القوية القائمة على القومية والإصلاح، وبالتالي المساعدة في تحسين وضع الصين كأمة.

ومن غير المستغرب أن يصبح يوي هوا سريعًا منفذًا رئيسيًا للزعماء المسلمين في الصين لحشد الدعم للجهود المناهضة لليابان مثل الحرب المقدسة النبيلة “ai guo ai jiao” and “jiu guo jiu jiao” التي كان لا بد من تفعيلهما لحماية موطن الهوي. كتب شيويه وينبو، أحد قادة آه هونغ في مدرسة تشنغدا، كتب نصا شعريًا في عام 1938 بعنوان "Zhongguo Huizu Kangzhange" أو "أغنية مقاومة الهوي"،والذي يضع الجهاد الحربي في مصطلحات شعرية باعتباره التزامًا مقدسًا:

جياد العدو تشرب النهر الأصفر، والجهاد المقدس يرتفع في موجات غاضبة؛

شعب الهوي مليئون بالشجاعة، والحياة العبثية مخزية - من النبل القتال؛

أصبح هيكل العبادة الآن أرضًا محروقة، والنساء والأطفال الأبرياء ملطخون بالدماء.

لقد نجحت هذه الدفعة العاطفية من قبل أدباء الهوي لشعبهم لدعم المجهود الحربي. لقد جاء ليقابله مساهمات محورية في ساحة المعركة. كانت فرق كاملة من الجيش الصيني مكونة بشكل شبه حصري من المسلمين، بينما قاد جنرالات الهوي بعضًا من أهم المعارك في الحرب ضد اليابان.

بالنسبة للصين، بدأت الحرب العالمية الثانية قبل وقت طويل من سبتمبر 1939. وبحلول ذلك الوقت، كانت المقاومة الموحدة للغزو الياباني قد دخلت عامها الثالث بالفعل. وكانت الإمبراطورية اليابانية نفسها تنتهج استراتيجية فرق تسد في الأراضي الصينية الشاسعة منذ عام 1931. وكانت الفكرة تتلخص في تقسيم الصين المتعثرة في مرحلة ما بعد الإمبراطورية إلى مناطق وجيوب خاضعة، جميعها تابعة لطوكيو في نهاية المطاف.

وكان الجانب الرئيسي لهذه الرؤية هو تأجيج المشاعر المعادية للصين بين الأقليات في البلاد، بما في ذلك المسلمين. وفقًا للباحث الشهير في تاريخ هوي، وان لي، فإن معاملة الغزو الياباني للمسلمين الصينيين تنوعت طوال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، بدءًا من العنف الصريح مثل مذبحة نانجينغ سيئة السمعة، حيث امتلأت المساجد بالجثث، إلى الحرمان الاقتصادي المنهجي والإذلال الناجم عن الإسلاموفوبيا، مثل فرك دهن الخنزير على جدران المساجد.

ولكن كانت هناك أيضًا استراتيجيات علنية لاستمالة مجتمعات الهوي وقادتها. وربما كانت المحاولة الأكثر طموحا لتقويض ولاء الهوي للصين هي الاقتراح المنسي الآن بإنشاء "دولة الهوي" المنفصلة في شمال غرب الصين ــ نظام سياسي مستقل لمسلمي الهوي، يدار في نهاية المطاف تحت رعاية وسيطرة اليابان.

ويضع وان هذه الإستراتيجية جنبًا إلى جنب مع نجاح اليابان في تنفيذ دولة مانشوكو العميلة في شمال شرق الصين، وهو النموذج الذي حاولوا تكراره في الغرب. وفي عام 1937، أنشأت اليابان أيضًا (في منطقة منغوليا الداخلية الحالية) "حكومة مينغجيانغ الفيدرالية المغولية"، وهي دولة عميلة بقيادة الأمير المغولي ديمشوجدونجروب.وكانت هناك أيضاً "الحكومة الوطنية" سيئة السمعة في نانجينج، وحكومة فيشي الصينية التي يرأسها رئيس وزراء جمهورية الصين الأسبق وانج جينجوي، أو مارشال بيتان في تاريخ الصين.

حاول الاستراتيجيون اليابانيون إقناع زعماء الهوي بالتخلي عن مقاطعة نينغشيا لتشكيل جزء كبير من الدولة الإسلامية المستقبلية، ووعدوهم بمستقبل غير مرتبط بأغلبية الهان. وضع اليابانيون أنظارهم أولاً على ما هونغ كوي، وهو جنرال من قبيلة الهوي شغل منصب حاكم نينغشيا في عهد حزب الكومينتانغ. كان ما هونغ كوي جزءًا من "جماعة ما" الشهيرة، وهي مجموعة كبيرة مكونة من ثلاث عائلات من مسلمي الهوي (جميعهم يستخدمون اللقب ما) والتي تشكل واحدة من أقوى عشائر أمراء الحرب في الصين في مرحلة ما بعد الإمبراطورية. كان والد ما هونغ كوي المؤثر، ما فوكسيانج، هو الذي قام بتمويل مجلة يو هوا في مدرسة تشنغدا هوي.

كانت جماعة ما مجرد مجموعة واحدة من أمراء الحرب من بين العديد من الإقطاعيات التي حكمت إقطاعيات مستقلة في سنوات الفوضى التي أعقبت الانهيار النهائي للصين الإمبراطورية. وتفككت الإمبراطورية الشاسعة بعد ذلك، حيث قام هؤلاء الحكام الإقليميون الأقوياء بإدارة جيوشهم المستقلة. وكان أمراء الحرب هؤلاء منظمين بشكل فضفاض في "مجموعات"، تتنافس كل منها على المنصب والسلطة بينما واجهت الصين الفشل ككيان متماسك. حكم أمراء الحرب من قبيلة (ما كليك ) المقاطعات الشمالية الغربية لنينغشيا وقانسو وتشينغهاي. "ما" هو الحرف الصيني الذي يستخدمه العديد من المسلمين في الصين كرمز لاسم محمد.

شكلت زمرة ما شريحة مهمة من المقاومة المناهضة لليابان، وكانت تابعة لقيادة الكومينتانغ. كان ما هونغ كوي أحد أهم جنرالاته. وفقًا لوان، دعاه المسؤولون اليابانيون في أكتوبر 1937 ليصبح رئيسًا لمجموعة تسيطر عليها اليابان تسمى جمعية شمال غرب هويجياو (جمعية دين شمال غرب هوي). رفض (ما هونغ كوي) وفي العام التالي، حاول المسؤولون اليابانيون إرسال أحد عملائهم الصينيين إلى نينغشيا لبيع ما على فكرة دولة الهوي. ولم يسمح الجنرال حتى للرسول بالدخول إلى نينغشيا. حاول اليابانيون أيضًا إقناع أحد أقارب ما، ما هونغ بين، وهو زميل من أمراء الحرب والجنرال، من خلال عرض عليه منصبًا في الدولة العميلة المستقبلية. وقد رفض عرضهم .

وهكذا توقف اليابانيون عن الجزرة الممدودة وتوجهوا إلى مزيد من الغزو. هاجموا مقاطعة سويوان في عام 1940، أسفل نينغشيا مباشرة. معركة غرب Suiyuan قادها كل من ما هونغ بن و ما هونغ كوي ، اللذين هزما اليابانيين في غضون أسابيع قليلة. وبعد شهر، تلقت الرؤية اليابانية لدولة الهوي ضربة قاضية عندما خسرت قواتهم معركة ويوان، الواقعة أيضًا في منطقة سوييوان. شكلت هذه الدفاعات الناجحة عن سويوان ونينغشيا حصنًا ضد أي خطط لبناء دولة إسلامية عميلة في الصين.

بسبب براعتهم في ساحة المعركة ضد الغزاة اليابانيين، أُطلق على ما هونغ بين وما هونغ كوي وجنرال آخر يُدعى ما فوبانج لقب "شي باي سان ما" أو "ماس الشمال الغربي الثلاثة".

وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية، استأنف حزب الكومينتانغ والحزب الشيوعي الصيني حربهما الأهلية، وانتصر الشيوعيون في عام 1949 لتأسيس جمهورية الصين الشعبية اليوم. وما تلا ذلك كان عقوداً من الفوضى، بما في ذلك المجاعة الجماعية، والإصلاحات الزراعية، والتعصب السياسي خلال الثورة الثقافية (1966-1976). ولقد نجت قبيلة الهوي من كل ذلك لتظل جزءًا مهمًا من النسيج الاجتماعي في الصين.

ومع ذلك، إلى جانب قمع الأويغور في غرب الصين، تواجه مجتمعات الهوي اليوم تحدياتها الخاصة في مواجهة بكين المتزايدة العداء. وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا الهدف الرئيسي لحملة القمع التي شنتها الحكومة على الإسلام، إلا أنهم مع ذلك موضع شك كبير. ويتجلى هذا الشك الآن بشكل واضح وبأدلة مادية. وقد خلص تحليل أجرته صحيفة "فاينانشيال تايمز" لأكثر من 2300 مسجد في جميع أنحاء الصين إلى أن حوالي ثلاثة أرباعها إما جُردت من سماتها "غير الصينية" أو دمرت بالكامل.

وقد عدّ النظام الحالي الرمزية الإسلامية تهديدا للصين. ومع ذلك، فإن تاريخ تكامل الهوي كان تاريخ السعي إلى التعايش من خلال تبرير الولاء للقيادة الإمبراطورية والوطنية. لقد كان الوجود الإسلامي الصيني موجودًا منذ ألف عام تقريبًا، وهي فترة أطول بما لا مجال للمقارنة  بتاريخ وجود  الحزب الشيوعي الصيني. يتضمن هذا التاريخ التضحية بحياة الهوي خلال المقاومة ضد اليابان، حيث تم نشر الحجج الدينية بقوة من قبل القادة المسلمين الصينيين لتعزيز مشاركة الهوي ضد اليابانيين.

ويبدو أن كل هذا أصبح منسياً في الصين اليوم، حيث تحكم الأغلبية القومية العرقية. لم يمض وقت طويل حتى كان يُنظر إلى المجتمع الإسلامي القوي على أنه جزء مهم من بناء الأمة في الصين. والآن هناك موجة متزايدة من القمع تضع أغلبية الهان في الصين في مواجهة "الضواحي" المسلمة في البلاد، والتي يعد ولاؤها موضع شك. ويبدو أن مستقبل الأقليات المسلمة في الصين، بما في ذلك الهوي، غامضا على نحو متزايد. ولكن دروس الماضي القريب، المليئة بحلقات من ولائهم وتضحياتهم من أجل الصين، تظل واضحة لكل من يرغب في رؤيتها.

***

.........................

الكاتب: ستيفن تشو / Steven Zhou صحفي وكاتب مقيم في كندا.

رابط المقال على  New Lines  Magazine بتاريخ 29 مارس 2024:

https://newlinesmag.com/essays/how-hui-muslims-waged-holy-war-for-china-in-world-war-ii/

لعبت الثورات الملونة على مر التاريخ، دورا هاما في إحداث التغيير الاجتماعي والسياسي في جميع أنحاء العالم. وأحد أنواع الثورات التي اكتسبت الاهتمام في العقود الأخيرة هي الظاهرة المعروفة باسم الثورات الملونة. وقد لعبت هذه الانتفاضات اللاعنفية، والتي تتميز عادة باستخدامها للاحتجاجات السلمية والعصيان المدني، دورا فعالا في إسقاط الأنظمة القائمة وتعزيز الإصلاحات الديمقراطية في بعض البلدان.

تشمل أمثلة الثورات الملونة الثورة الوردية في جورجيا عام ، والثورة البرتقالية في أوكرانيا عام التي حدثت عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤. وقد أثار نجاح الثورات الملونة مناقشات بين العلماء وصناع السياسات حول مدى فعاليتها وشرعيتها. والتأثير المحتمل على السياسة العالمية. ويرى البعض أن هذه الثورات أحدثت تغييرات إيجابية من خلال تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد في الدول الاستبدادية. ومع ذلك، أعرب آخرون عن مخاوفهم بشأن دور الجهات الخارجية، مثل الحكومات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية، في التأثير على هذه الحركات ودعمها. ومن خلال دراسة الحالة الخاصة بالثورات الملونة والأدبيات العلمية حول هذا الموضوع، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل ديناميكيات هذه الانتفاضات وآثارها على مستقبل السياسة العالمية.

يشير مصطلح "الثورات الملونة" إلى سلسلة من الانتفاضات الشعبية التي شهدتها بلدان مختلفة حول العالم خلال العقود القليلة الماضية. وتتميز هذه الثورات بطبيعتها اللاعنفية واستخدام الاحتجاجات السلمية والعصيان المدني وغيرها من أشكال التعبئة الجماهيرية لتحقيق التغيير السياسي. وقد شاع مصطلح "الثورات الملونة" بين وسائل الإعلام والمحللين السياسيين لوصف هذه الحركات، التي غالبا ما تستخدم لونا محددا كرمز لأهدافها وغاياتها. وعادة ما تشتعل شرارة هذه الثورات نتيجة لعدم الرضا على نطاق واسع عن الفساد الحكومي، أو الحكم الاستبدادي، أو تزوير الانتخابات، أو انتهاكات حقوق الإنسان. غالبا ما تبدأ كاحتجاجات صغيرة النطاق، ولكنها سرعان ما تتصاعد إلى حركات أكبر وأكثر تنظيما تجتذب شريحة واسعة من المجتمع، بما في ذلك الطلاب والمثقفين والعمال والمهنيين من الطبقة المتوسطة. وقد لعب استخدام وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من أشكال التكنولوجيا دورا حاسما في نجاح هذه الحركات، مما سمح بالتواصل السريع والتنسيق وتعبئة المؤيدين.

ومن أشهر الأمثلة على الثورات الملونة "الثورة الوردية" في جورجيا عام ٢٠٠٣، و"الثورة البرتقالية" في أوكرانيا عام ٢٠٠٤، و"الثورة الخضراء" في إيران عام ٢٠٠٩. وأدت هذه الثورات إلى تغييرات سياسية كبيرة. في كل بلد، بدءاً من الإطاحة بالقادة السياسيين إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وفي حين لم تكن كل الثورات الملونة ناجحة في تحقيق أهدافها المعلنة، إلا أنها كانت بمثابة تذكير قوي بإمكانية الحركات الشعبية السلمية لإحداث التغيير حتى في البيئات السياسية الأكثر قمعية.

- ماهية الثورات الملونة وأهميتها في التاريخ السياسي الحديث.

الثورات الملونة هي سلسلة من الانتفاضات اللاعنفية التي حدثت في بلدان مختلفة حول العالم، وتتميز باستخدام لون معين كرمز للحركة. وقد لعبت هذه الثورات دورا هاما في تشكيل التاريخ السياسي الحديث من خلال إظهار قوة الاحتجاج السلمي والعصيان المدني في إحداث التغيير الديمقراطي.

اكتسب مفهوم الثورات الملونة مكانة بارزة لأول مرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وكانت الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام ٢٠٠٤ واحدة من أبرز الأمثلة. وكان المقصود من استخدام اللون البرتقالي كرمز للحركة إيصال رسالة الوحدة والأمل، حيث خرج آلاف الأوكرانيين إلى الشوارع للمطالبة بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة. وكان نجاح الثورة البرتقالية في إلغاء نتائج الانتخابات والبدء بعصر جديد من الديمقراطية سببا في إلهام حركات مماثلة في دول مثل جورجيا، وقيرغيزستان، وأرمينيا. وقد أظهرت الثورات الملونة أهميتها في التاريخ السياسي الحديث لأنها أظهرت أن التغيير يمكن تحقيقه من خلال الوسائل السلمية، دون اللجوء إلى العنف أو الصراع المسلح. ومن خلال حشد الاحتجاجات الجماهيرية والعصيان المدني، تمكنت هذه الحركات من تحدي الأنظمة القائمة، والمطالبة بإصلاحات سياسية، ومحاسبة الحكومات على أفعالها. ومن خلال قيامها بذلك، أظهرت قوة النشاط الشعبي في تشكيل مسار المستقبل السياسي للأمة. في عالم تشيع فيه الاضطرابات السياسية والاضطرابات، تعد الثورات الملونة مثالا لكيفية اجتماع المواطنين العاديين لإحداث تغيير إيجابي في مجتمعاتهم. ومن خلال تسخير قوة العمل الجماعي والمقاومة اللاعنفية، حققت هذه الحركات إصلاحات دائمة ومهدت الطريق لمزيد من الحريات السياسية وحقوق الإنسان. وعلى هذا النحو، تقف الثورات الملونة بمثابة شهادة على روح الديمقراطية الدائمة وقدرة الروح الإنسانية على الصمود في مواجهة الشدائد.

أمثلة على الثورات الملونة:

كانت هناك أمثلة عديدة للثورات الملونة عبر التاريخ والتي شكلت المشهد السياسي للبلدان في جميع أنحاء العالم. ومن بين الأمثلة الأكثر شهرة الثورة البرتقالية التي اندلعت في أوكرانيا في عام ٢٠٠٤. ففي أعقاب الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها، نزل الآلاف من الأوكرانيين إلى الشوارع للاحتجاج على النتائج والمطالبة بإعادة التصويت. وأدت الاحتجاجات السلمية في نهاية المطاف إلى إلغاء نتائج الانتخابات وانتخاب رئيس جديد.

ومن الأمثلة البارزة الأخرى الثورة الوردية في جورجيا في عام ٢٠٠٣. فبعد انتشار الاتهامات بتزوير الناخبين في الانتخابات البرلمانية، احتشد الجورجيون في احتجاجات سلمية أدت في النهاية إلى استقالة الرئيس وانتخاب حكومة جديدة ملتزمة بالإصلاح الديمقراطي. تعتبر الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا عام ١٩٨٩ مثالاً آخر على الثورة الملونة الناجحة. أدت الاحتجاجات والإضرابات الجماهيرية إلى انهيار الحكومة الشيوعية والانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي. تسلط هذه الأمثلة الضوء على قوة الاحتجاج اللاعنفي والحركات الشعبية في إحداث التغيير السياسي. ومن خلال تعبئة المواطنين والمطالبة بالمساءلة من حكوماتهم، أظهرت الثورات الملونة أن التغيير ممكن حتى في مواجهة الأنظمة الاستبدادية الراسخة.

- الثورة البرتقالية في أوكرانيا (٢٠٠٤)

كانت الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام ٢٠٠٤ لحظة محورية في تاريخ البلاد، فضلاً عن كونها حدثاً مهماً في السياق الأوسع للثورات الملونة في جميع أنحاء العالم. بعد مزاعم بتزوير الانتخابات الرئاسية، نزل ملايين الأوكرانيين إلى الشوارع في عرض غير مسبوق للاحتجاج السلمي. ودعت الحركة، التي سميت على اسم لون حملة المرشح فيكتور يوشينكو، إلى إجراء انتخابات نزيهة وشفافة ووضع حد للفساد داخل الحكومة. استخدم المتظاهرون مجموعة متنوعة من الأساليب لإسماع أصواتهم، بما في ذلك المظاهرات الحاشدة والإضرابات والعصيان المدني. وقد بعث تصميمهم وصمودهم في مواجهة القمع والترهيب الحكومي برسالة قوية على الصعيدين المحلي والدولي. وفي نهاية المطاف، أسفرت جهودهم عن إعادة الانتخابات المتنازع عليها، والتي فاز بها يوشتشنكو، الأمر الذي عزز نجاح الثورة وأشعل الأمل في مستقبل أكثر ديمقراطية في أوكرانيا. تعد الثورة البرتقالية بمثابة مثال رئيسي على قدرة الحركات الشعبية على إحداث تغيير إيجابي في مواجهة الاستبداد والظلم. وانتشر تأثيرها في جميع أنحاء المنطقة، وألهم حركات مماثلة في دول مثل جورجيا، وقيرغيزستان، وبيلاروسيا. ومن خلال دراسة التكتيكات والاستراتيجيات التي يستخدمها المتظاهرون الأوكرانيون، يمكننا اكتساب رؤى قيمة حول قوة العمل الجماعي وأهمية دعم المبادئ الديمقراطية.

- الثورة الوردة في جورجيا (٢٠٠٣)

انت الثورة الوردية في جورجيا عام ٢٠٠٣ مثالا قويا للثورة الملونة التي أحدثت تغييرا سياسيا كبيرا في البلاد. وكانت الثورة، التي غذتها مزاعم الفساد، وتزوير الانتخابات، والانتهاكات الحكومية المنهجية، بقيادة جبهة موحدة من جماعات المجتمع المدني، والأحزاب السياسية المعارضة، والمواطنين المحبطين. وكان العامل المحفز للثورة هو الانتخابات البرلمانية المثيرة للجدل التي جرت في كانون الثاني ٢٠٠٣، والتي اعتبرت على نطاق واسع مزورة لصالح الحزب الحاكم. وعندما أُعلنت النتائج، اندلعت احتجاجات واسعة النطاق في جميع أنحاء البلاد، حيث نزل الآلاف من الجورجيين إلى الشوارع للمطالبة بإجراء انتخابات نزيهة وشفافة. وفي نهاية المطاف، أجبرت الاحتجاجات السلمية الرئيس إدوارد شيفرنادزه، الذي ظل في السلطة منذ عام ١٩٩٢، على الاستقالة. وخلفه، ظهر زعيم المعارضة الكاريزمية ميخائيل ساكاشفيلي رئيسا جديدا لجورجيا. وتحت قيادته، خضعت البلاد لإصلاحات ديمقراطية وتحديثية كبيرة، مما مهد الطريق لتوثيق العلاقات مع الغرب والانضمام في نهاية المطاف إلى عضوية حلف شمال الأطلسي. إن نجاح الثورة الوردية في جورجيا يشكل مثالا ساطعا لقوة الاحتجاج السلمي ونشاط المجتمع المدني في إحداث التغيير السياسي. كما يسلط الضوء على أهمية الوحدة بين قوى المعارضة، فضلا عن دور الدعم الدولي في تشكيل نتائج الثورات الملونة. إن الثورة الوردية في جورجيا، وفقا للمؤرخين الغربيين، تقف شاهدا على صمود وتصميم الشعب الجورجي في سعيه من أجل الديمقراطية والحرية. إنه بمثابة مصدر إلهام للبلدان الأخرى التي تواجه تحديات مماثلة وتذكيرا بالإمكانات التحويلية للحركات الشعبية في تشكيل مسار التاريخ.

يقال في الغرب أن الثورات الملونة أثبتت أداة قوية لتعزيز التغيير الديمقراطي في بلدان العالم. ومن خلال تسخير قوة التعبئة الجماهيرية، والاحتجاج السلمي، ووسائل الإعلام الاجتماعية، تمكن المواطنون العاديون من تحدي الأنظمة القمعية والمطالبة بمزيد من الحريات السياسية. إن أمثلة الثورة البرتقالية في أوكرانيا، والثورة الوردية في جورجيا، والثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا تثبت الإمكانات التحويلية لهذه الحركات. وبينما نواصل نشهد النضال المستمر من أجل الديمقراطية في الدول في جميع أنحاء العالم، فمن الضروري أن نعترف وندعم جهود أولئك الذين يناضلون من أجل الحرية والمساواة والعدالة. ومن خلال التعلم من نجاحات الثورات الملونة وتحدياتها، يمكننا العمل من أجل عالم أكثر عدلا وشمولا للجميع.

حقائق لا يمكن انكارها:

لقد اتى اسم الثورات الملونة وألوانها في الغرب.

تم تسويق الثورات الملونة اعلاميا في الغرب.

تم دعمها لوجستيا وماليا ومعلوماتيا من الغرب.

التقت رغبات الغرب في زعزعة استقرار بعد بلدان الكتلة الشرقية واختطافها ودمجها مع حلف الأطلسي مع رغبة المعارضة السياسية في هذه الدول بالسيطرة على الحكم والتشكيك في كل ما فعلته الأنظمة ونعت جميع خطوات الاصلاح بأنها لا تكفي.

كانت رغبة الغرب من اقامة الثورات الملون وادخالها إلى حلف الأطلسي هو منعها من العودة تحت أي ظرف نحو ما كانت عليه .

***

محمد عبد الكريم يوسف

..........................

المراجع

- Bunce, V., & McFaul, M. (2007). Democracy and autocracy in Eurasia: A framework for analysis. Cambridge University Press.

- Levitsky, S., & Way, L. A. (2010). Competitive Authoritarianism: Hybrid Regimes after the Cold War. Cambridge University Press.

- McFaul, Michael. (2006). "The Color Revolutions." Foreign Affairs.

- Bunce, Valerie. (2010). "Protest Waves in Authoritarian Settings: Colored Revolutions in Comparative Perspective." Perspectives on Politics.

- Chenoweth, Erica and Maria J. Stephan. (2011). "Why Civil Resistance Works: The Strategic Logic of Nonviolent Conflict." International Security.

- "The Role of Civil Society in Ukraine's Orange Revolution" by Taras Kuzio

- "The Orange Revolution: How Peaceful Protest Can Bring About Change" by Alexander Motyl

- "From Dictatorship to Democracy: A Conceptual Framework for Liberation" by Gene Sharp.

حفل نهاية الأسبوع الماضي بقرارات مهمة لمجلس النواب الأميركي، فبعد فوضى ونقاش مطول، ومشادات كلامية بين الجمهوريين والديمقراطيين أثناء التصويت على حزمة المساعدات لأوكرانيا، بسبب الأعلام الأوكرانية التي بدأ ممثلو الحزب الديمقراطي بالتلويح بها، وافق المجلس على مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا، بقيمة 60.8 مليار دولار، وفي تصويت بين الحزبين، صوت 210 ديمقراطيين و101 جمهوري بنعم، بينما صوت 112 جمهوريًا ضده كما سمح بمصادرة الأصول الروسية، والتي يجب موافقة مجلس الشيوخ عليها، وبعد ذلك سيتم إرسالها إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن للتوقيع عليها، والسؤال هو ما الذي أقنع مجلس النواب باتخاذ قرار لصالح أوكرانيا؟ كيف يمكن أن ترد روسيا على مصادرة الأصول؟

وقالت شبكة "فوكس نيوز" إنه قرب نهاية التصويت، بدأ الديمقراطيون بالتلويح بالأعلام الأوكرانية، ولهذا السبب اتهمهم الجمهوري مارك مولينارو، الذي ترأس التصويت، بانتهاك البروتوكول،وأطلق اليساريون الهتافات عندما وصل توقيت التصويت إلى الصفر، وهو ما وبخهم مولينارو عليه، وقال إن التلويح بالأعلام مخالف للقواعد ووصفه بأنه "غير ملائم"، ورد عليه الديمقراطيون بالسخرية "، وأشارت إلى أن النائبة الجمهورية عن ولاية فلوريدا آنا بولينا لونا تقدمت إلى الميكروفون قائلة: "أنزلوا تلك الأعلام اللعينة"، مما أثار المزيد من ردود الفعل اللفظية من جانب الديمقراطيين.

وفي المجمل، ومنذ بداية العملية الروسية الخاصة، أرسلت الولايات المتحدة إلى أوكرانيا أسلحة ومعدات ومساعدات إنسانية وأنواع أخرى تبلغ قيمتها حوالي 111 مليار دولار، ومن إجمالي الحزمة الجديدة، سيتم استخدام حوالي 23 مليار دولار لتجديد الاحتياطيات العسكرية، و14 مليار دولار أخرى ستذهب إلى مبادرة المساعدة الأمنية لأوكرانيا، والتي بموجبها يشتري البنتاغون أنظمة أسلحة متقدمة للقوات المسلحة الأوكرانية مباشرة من مقاولي الدفاع الأميركيين .

كما سيتم تخصيص أكثر من 11 مليار دولار لتمويل العمليات العسكرية الأمريكية الحالية في المنطقة، وزيادة إمكانات القوات المسلحة الأوكرانية وتطوير التعاون بين المخابرات الأمريكية والأوكرانية، ويتم توفير حوالي 8 مليارات دولار أخرى للدعم غير العسكري، على سبيل المثال، مساعدة السلطات الأوكرانية في "الروتين"، بما في ذلك دفع الرواتب والمعاشات التقاعدية، ومن الجدير بالذكر أن 10 مليارات دولار من إجمالي الحزمة، تم تعريفها على أنها قرض قابل للسداد، تم ذلك لإقناع بعض الجمهوريين بقبول الوثيقة، وسينظر مجلس الشيوخ في مشروع القانون يوم الثلاثاء وسيجري عدة تصويتات أولية بعد الظهر، ومن المقرر أن تظهر النسخة النهائية للقانون بحلول نهاية الأسبوع المقبل، وسيتم إرسالها إلى رئيس البيت الأبيض للتوقيع عليها.

وقد حذر الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي مؤخرا، من أن بلاده "ستخسر الحرب" دون مساعدة الولايات المتحدة، وأعرب الآن عن امتنانه لجميع مؤيدي المساعدات لكييف "وشخصيا لرئيس مجلس النواب مايك جونسون على القرار الذي يبقي التاريخ على المسار الصحيح"، في حين قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ إن الحزمة الجديدة تظهر "استمرار الدعم الحزبي" لكييف، وقال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إنه "بمثل هذا الدعم، تستطيع أوكرانيا أن تفوز، وسوف تفوز"، ومع ذلك، انتقد العديد من السياسيين الغربيين هذا القرار بشدة .

وفي المقابل هاجمت مارغوري تايلور غرين، المتشددة الجمهورية ضد كييف، جونسون على شبكات التواصل الاجتماعي، ووصفته بأنه "خائن" للولايات المتحدة، وأشارت إلى “أننا بحاجة إلى رئيس جديد لمجلس النواب”، بدورها قالت الجمهورية الأوكرانية فيكتوريا سبارتز، وهي من مواطني أوكرانيا، التي تعارض المساعدة أيضًا، "لا يوجد وعد بأمن الحدود الأمريكية في التصويت "، كما انتقدت حقيقة أن 13.8 مليار دولار فقط من إجمالي "الصندوق القذر" للمساعدات لأوكرانيا هي "نوع من المساعدة العسكرية المباشرة"، في حين أكد الملياردير الأمريكي المؤثر ديفيد ساكس، إن انهيار أوكرانيا لا يزال أمرا لا مفر منه، ويؤكد أن «61 مليار دولار هي الحد الأدنى للتخصيص السنوي للأموال في حرب جديدة لا نهاية لها»، واتفق معه إيلون ماسك، وقال: "إن خوفي الأكبر هو عدم وجود استراتيجية لإنهاء الصراع، فهي مجرد حرب لا نهاية لها".

وعلق الملياردير الأمريكي ديفيد ساكس على موافقة مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون حول تخصيص مساعدات إضافية لأوكرانيا، قائلا: "إن أوكرانيا ستنهار على كل حال"، وكتب على منصة "إكس": "مشاهد الاحتفال هذه ستبدو غبية بشكل خاص عندما تنهار أوكرانيا على أي حال، ويمكن للحكومة الفيدرالية طباعة المزيد من النقود، و(لكن) لا يمكنها ببساطة طباعة المزيد من قذائف المدفعية وصواريخ الدفاع الجوي"، وأضاف أن كييف ستحتاج إلى "ضخ نقدي سنوي ضخم" لمنع الهزيمة الكاملة، ولذلك فإن مبلغ 61 مليار دولار هو نقطة البداية للتخصيص السنوي للأموال "في حرب جديدة إلى الأبد"، وقال "انتبهوا إلى أن الحروب في العراق وأفغانستان بدأت أيضا بتمويل سنوي قدره 60 مليار دولار، وانتهت هذه الحروب بإنفاق تريليونات الدولارات".

أما في روسيا فقد أدانت السلطات الروسية بشدة المساعدات العسكرية الجديدة لكييف، وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، إن تخصيص المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، يعد رعاية مباشرة للأنشطة الإرهابية، ووصف النائب الأول للممثل الدائم للاتحاد الروسي لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي أوكرانيا بأنها "شركة عسكرية خاصة" مناهضة لروسيا، وقال إن الوضع لن يؤدي إلا إلى زيادة عدد الضحايا .

ووصف نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف في قناته على تلغرام، القرار بأنه معادٍ للروس وتمنى للولايات المتحدة أن تغرق بسرعة في حرب أهلية جديدة، ستؤدي إلى انهيار البلاد، وأكد رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين من جانبه، إن الولايات المتحدة تجبر أوكرانيا على القتال حتى آخر أوكراني، وفي غضون ذلك كتب المدون الأوكراني المستقل أناتولي شاري، على قناته تلغرام، أن زيلينسكي قدم هذا باعتباره "نصرًا عظيمًا"، وأضاف: "الآن لن يتمكن زيلينسكي من القول: لقد خسرنا لأنكم لم تصوتوا"، فقد تم التصويت للحزمة الأخيرة قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية. ربما يكون الأخير.

ومع ذلك، أفادت رويترز، نقلاً عن مسؤول في البيت الأبيض لم يذكر اسمه، أن إدارة بايدن تضع اللمسات الأخيرة على حزمة المساعدات التالية لأوكرانيا حتى تتمكن من الإعلان عن شريحة جديدة من المساعدات بعد فترة وجيزة من أن يصبح مشروع القانون الحالي قانونًا، ومن الجدير بالذكر أن شرط إمدادات الأسلحة الجديدة إلى كييف من قبل دول الناتو كان اعتماد أوكرانيا لقانون صارم بشأن التعبئة لتعويض خسائر قواتها المسلحة، حسبما ذكرت تاس نقلاً عن مصدر دبلوماسي في بروكسل.

ووفقا للمراقبين فان الحزمة الجديدة لن تغير بشكل جذري مسار المنطقة العسكرية الشمالية أو عرقلة روسيا من تحقيق أهدافها النهائية لجميع الأهداف، فقد تم تخصيص المزيد من الأراضي لأوكرانيا منذ بداية المنطقة العسكرية الشمالية، لكن روسيا لا تزال تتقدم بثبات وتحرر المزيد والمزيد من الأراضي، وقال كونستانتين دولغوف، نائب رئيس لجنة مجلس الاتحاد للسياسة الاقتصادية، والنائب السابق للممثل الدائم للاتحاد الأوروبي، "لن يؤدي هذا إلا إلى إطالة أمد الصراع بشكل طفيف، والذي ستخسره أوكرانيا نفسها في المقام الأول، وسيظل مواطنوها في ساحة المعركة"، والجانب الثاني: لا شك أن جزءًا كبيرًا من هذه المساعدة سيبقى داخل الولايات المتحدة.

ولهذا السبب، دعم العديد من الجمهوريين هذه الحزمة في واقع الأمر، وهذه أوامر إضافية للمجمع الصناعي العسكري الأمريكي، للشركات الكبرى وموظفيها، الذين يحتاج الديمقراطيون إلى "تزويدهم" قبل الانتخابات الرئاسية من أجل محاولة إبقاء بايدن في منصبه، وسيتم "قطع" جزء من هذه المساعدة في واشنطن، والجزء الآخر في كييف، ولذلك من الناحية العملية، سيصل جزء صغير نسبيا إلى خط المواجهة، لكن في الواقع، لا يوجد شيء جيد في تخصيص المساعدة أيضًا، وهذا يظهر مرة أخرى أن الولايات المتحدة، تدعو إلى مزيد من المواجهة مع روسيا، ولهذا السبب على روسيا وكما يوضح دولغوف ان المساعدة مخصصة للعام ونصف العام المقبل، وقال وهذا يعني أنه خلال هذا الوقت تحتاج روسيا الى الإسراع في حل المهام العسكرية العملياتية في منطقة المنطقة العسكرية الشمالية، بطريقة تحييد تمامًا، تأثير توريد الأسلحة إلى القوات المسلحة لأوكرانيا.

أما بالنسبة للمصادرة المحتملة للأصول، فقد صوت مجلس النواب على مشروع قانون آخر، وهو سيسمح بمصادرة الأصول الروسية المجمدة في الولايات المتحدة لصالح أوكرانيا، والحديث هنا عن خمسة مليارات دولار، وصوت لصالح هذه المبادرة 360 عضوا في الكونجرس، فيما صوت 58 ضدها، وستكون الولايات المتحدة مسؤولة عن قرار مصادرة الممتلكات الروسية، وستتخذ موسكو إجراءات تلبي مصالحها دون حد زمني، كما وعد السكرتير الصحفي الرئاسي ديمتري بيسكوف، وقد اعتبرت موسكو هذه الخطوة بأنها لصوصية اقتصادية من جانب الولايات المتحدة، وقد تم بالفعل اتخاذ إجراءات انتقامية فيما يتعلق بأصول الشركات الأمريكية والغربية الأخرى في روسيا، وسترد موسكو بالتأكيد بشكل كاف وهادف، في حين أكد السيناتور "أحذركم: الأعمال الغربية بالتأكيد لن تستفيد من هذا الوضع".

والمتتبع للوضع الحالي، فإنه في كلا الحزبين الأمريكيين، الأغلبية في أيدي أشخاص يخشون أن التهديد بحدوث كارثة جيوسياسية يخيم بالفعل على أوكرانيا ونظام زيلينسكي، ولا يمكن الاحتفاظ بها إلا بدفعات جديدة، وبالإضافة إلى ذلك، فإن التهديد بحدوث كارثة جيوسياسية واسعة النطاق يلوح في الأفق فوق الولايات المتحدة على ثلاث جبهات، أوكرانيا، و"إسرائيل"، وتايوان، وأوضح فلاديمير فاسيلييف، كبير الباحثين في معهد الولايات المتحدة الأمريكية وكندا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أن هذا هو السبب وراء الجمع بين هذه الحالات لمنع مشاريع السياسة الخارجية لواشنطن من الانهيار، وفي هذه الحالة، أصبح الوضع السياسي الداخلي رهينة للسياسة الخارجية .

وإذا تمكنت الولايات المتحدة على الأقل من الحفاظ على موقفها أو تحسينه على الجبهات الثلاث، فإن ذلك سيمنح إدارة بايدن ورقة رابحة قوية للغاية في الانتخابات، وأن الديمقراطيين يعتزمون الانتقال مرة أخرى إلى البيت الأبيض هذا الخريف، ولهذا السبب لن يتخلى الغرب عن أوكرانيا، على الأقل ليس الآن، ولسنا متأكدين من وجود خطط لتقديم دعم هائل، أو محاولات لدفع القوات الروسية إلى العودة إلى داخل حدود أوكرانيا عام 1991، ولكن من الواضح أن ضخ الأموال النقدية سوف يستمر، بالإضافة إلى ذلك، يتعين على روسيا ان تكون مستعدة لتوسيع المشاركة الغربية في المواجهة مع روسيا، وأنه ليس من قبيل الصدفة أنهم يزيدون عدد المدربين العسكريين في أوكرانيا.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

تصريحات وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف لوسائل الاعلام الروسية، حملت الجديد من تطورات الازمة الأوكرانية، فقوله استعداد بلاده للمفاوضات حول أوكرانيا، كانت مشروطة بكلمة " لكن "، لتؤكد ان روسيا لن " تلدغ من ذات الجحر مرتين"، وهي تعني عدم وقف العمليات العسكرية خلال فترة المفاوضات، وانه وبحلول عام 2024، أصبحت الحقائق على الأرض "مختلفة بشكل كبير"، ومن المستحيل عدم أخذها بعين الاعتبار.

هذه التصريحات للوزير الروسي اعادتنا الى تلك المفاوضات التي جرت في إسطنبول عام 2022، واقدمت روسيا في حينها الى اتخاذ مبادرات منها الانسحاب من عدة مناطق كانت قد دخلتها القوات الروسية، " كمبادرة حسن النية " من روسيا تجاه هذه المفاوضات، لإنجاحها وتجنب إراقة الدماء على جبهات القتال، وتبين أن روسيا، وعلى عكس الولايات المتحدة، كانت وكما أوضح الوزير الروسي مستعدة لتزويد كييف بضمانات أمنية واسعة النطاق على غرار المادة الخامسة من معاهدة الناتو، وفي مثل هذه النتيجة، ستخسر أوكرانيا شبه جزيرة القرم و دونباس، وتصبح دولة محايدة عسكريا، لكنها ستحتفظ باقتصادها وسكانها.

ولوحظ أن الأطراف لم "تكرر حرفيا" نص وثيقة حلف شمال الأطلسي، لكن الدبلوماسيين تمكنوا من الاتفاق على "عدة صيغ مماثلة"، واتفق المفاوضون أيضًا على أن الضمانات الأمنية لن تؤثر على شبه جزيرة القرم و دونباس، ولا يمكن "المساس" بهذه الأراضي، وتضمنت المعاهدة التي نوقشت في إسطنبول أيضًا حظرًا على إنشاء قواعد عسكرية في أوكرانيا، بالإضافة إلى ذلك، تم فرض قيود على إجراء الدراسات مع دول ثالثة دون الحصول على موافقة مسبقة من جميع الدول الضامنة، ومع ذلك، وفي وقت لاحق، اقترح ممثلو مكتب زيلينسكي تعديلات على الوثيقة، وعلى وجه الخصوص، اقترحوا استبدال العبارة المتعلقة بموافقة جميع الضامنين بالأغلبية، وأضاف لافروف "لقد كانت مكالمة من هذا القبيل، إما أنهم كانوا قد حظروا بالفعل في الليلة السابقة، أو قال أحدهم: دعونا ننسف رؤوس هؤلاء الروس"، بالإضافة إلى ذلك، انتهكت القيادة الأوكرانية الحالية للبلاد مرارا وتكرارا الاتفاقات التي تم التوصل إليها، ولهذا السبب اليوم "ليس لديهم أمان".

وبالعودة الى اتفاقات إسطنبول، فمن الواضح أن هذه الاتفاقيات ستوفر لأوكرانيا شبكة واسعة من الدول الضامنة، وستتصرف روسيا والدول الرائدة في حلف شمال الأطلسي على هذا النحو، وقال فاديم كوزيولين، الخبير العسكري الذي يرأس مركز IAMP التابع للأكاديمية الدبلوماسية لوزارة خارجية الاتحاد الروسي: "بطبيعة الحال، فإن شروط ضمان حماية البلاد ستكون تجريد أوكرانيا من السلاح ووضعها المحايد"، وبعد الموافقة على النسخة الأولية، كان مكتب زيلينسكي سيضمن مستقبلًا سلميًا مع اقتصاد مستقر، ومن المحتمل أن تستمر مرافق الإنتاج الخاصة بها في عملها، ومع ذلك، بسبب تعنت أوكرانيا ورغبتها في إرضاء الغرب، رفضت الشروط المقترحة - واستمر الصراع.

ان مجرد مناقشة الضمانات المستندة إلى المادة الخامسة من معاهدة واشنطن، يدمر أسطورة خطط روسيا للاستيلاء على أوكرانيا أو تصفية دولتها، وكان هذا ملحوظًا أيضًا خلال المرحلة الأولى من العملية العسكرية الخاصة SVO ، واستخدمت موسكو وحدة صغيرة للغاية، وتجنبت توجيه ضربات إلى الأهداف المدنية، وكان أمام روسيا مهمة ثانية وهي إجبار المعارضين على التعايش السلمي، كما وافقت موسكو بالفعل على تقديم أوسع الضمانات الأمنية لأوكرانيا، كما يوضح عالم السياسة فلاديمير كورنيلوف، ومن نواحٍ عديدة، تجاوز هذا الخيار المادة الخامسة من ميثاق الناتو، وأضاف "بالطبع في المقابل طالبنا بنزع السلاح، وأوضح أنه كان من الممكن ضمان تحقيق المصالح المتبادلة حصرا بطريقة مماثلة وفقا له، وهذا يدحض مرة أخرى الأسطورة القائلة بأن "المعتدين الروس أرادوا الاستيلاء على أوكرانيا بأكملها".

"  أما اليوم ووفق المعطيات التي حدثت على الأرض، فهناك برزت متطلبات روسية أكثر صرامة، لذلك، حكم زيلينسكي نفسه على نفسه بموقف أسوأ بشكل واضح، بالإضافة إلى ذلك، لدى موسكو احتياجات جديدة، على سبيل المثال، توفير منطقة صحية بالقرب من مدينة بيلغورود الروسية، وإذا وافق مكتب زيلينسكي على شروط موسكو، فإن مئات الآلاف من الأوكرانيين المجندين في القوات المسلحة اليوم سيكونون على قيد الحياة، وسيبقى الملايين في منازلهم، كما وستبقى مناطق نوفوروسيا، باستثناء شبه جزيرة القرم وLPR وDNR، تحت سيطرة أوكرانيا، وبالإضافة إلى ذلك، ستحصل البلاد على ضمانات أمنية أكثر جدية من المادة الخامسة من ميثاق الناتو.

ومع ذلك، حتى في ذلك الوقت، والآن، هناك سؤال يطرح نفسه، حول مدى أهمية أوكرانيا كمفاوض، وكما هو معروف، لعب رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون دورًا نشطًا في فشل اتفاقيات اسطنبول، والذي بدلاً من دعم المفاوضات قال لزيلينسكي "دعونا نقاتل"، ولكن، كما تبين مؤخرا، لعبت الولايات المتحدة دورا لا يقل أهمية في هذه القضية، وفي الأسبوع الماضي، نشرت النسخة الرسمية لمجلة فورين أفيرز، مقالا بعنوان "المفاوضات التي يمكن أن تنهي الحرب في أوكرانيا"، ففيه يعترف المؤلفون فعلياً، بصواب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تحدث عن الوثيقة التي وقع عليها الطرفان بالأحرف الأولى (وحتى أنه عرضها على السفراء الأجانب)، وتشير المجلة، الى انه وفي مرحلة ما "كاد الروس والأوكرانيون أن يضعوا اللمسات النهائية على اتفاق من شأنه أن يضع حداً للحرب ويزود أوكرانيا بضمانات أمنية متعددة الأطراف، ومن شأنه أن يمهد الطريق للبلاد إلى حيادها الدائم، وفي مستقبل العضوية في الاتحاد الأوروبي. ، ويعترف الأميركيون بحكم الأمر الواقع بأن روسيا أرادت بصدق حل المسألة من خلال الدبلوماسية.

إن مناقشة اتفاقيات اسطنبول، كانت بالفعل الخطوة الأخيرة لموسكو، من أجل منع المأساة الحالية مع آلاف الضحايا والدمار الهائل، وربما كان هذا طريقًا خاطئًا، بحسب نيكيتا ميندكوفيتش، رئيس النادي التحليلي الأوراسي، الذي قال " من الصعب إلقاء اللوم على حكومتنا لأنها حاولت حتى النهاية تجنب الأعمال العدائية الكبرى"، لأنه كان هناك مزاجاً آخر ساد في لندن وواشنطن ، ونقلت المجلة عن مسؤولًا أمريكيًا سابقًا، كان مشاركًا في أوكرانيا في ذلك الوقت، قوله إن الأوكرانيين لم يتشاوروا مع واشنطن قبل نشر بيان المفاوضات، وجاء في البيان أن الولايات المتحدة ستصبح إحدى الدول التي تضمن حياد أوكرانيا وسيادتها، وطبعا للوهلة الأولى، من الصعب تصور شيئا من هذا القبيل، نظرا لدرجة اعتماد أوكرانيا على الولايات المتحدة، ومع ذلك، يجب الافتراض أن زيلينسكي الخائف في بداية عام 2022 كان مستعدا لتسوية الأمر سلميا، وقد أراد التوصل إلى اتفاق في تلك اللحظة، وكان هناك سؤال حول بقاء النظام على هذا النحو وأوكرانيا كدولة بالشكل الذي تم تشكيله بعد عام 2014.

وبما ان المعاهدة لم تكن مربحة لواشنطن، ولم تكن الولايات المتحدة مستعدة لتزويد أوكرانيا بأي ضمانات صارمة سواء في ذلك الوقت أو الآن ولهذا السبب، وإن واشنطن تستبعد لنفسها مخاطر الصدام العسكري المباشر مع موسكو، وليس من قبيل الصدفة أن الولايات المتحدة هي واحدة من الدول الغربية القليلة التي لم توقع أي اتفاقية مع كييف بشأن التعاون طويل الأمد في مجال الأمن ، لذلك عطل الأميركيون مسار السلام ، وبدلاً من قبول بيان اسطنبول ودعم العملية الدبلوماسية اللاحقة، زاد الغرب المساعدات العسكرية لكييف وزاد الضغط على روسيا، بما في ذلك من خلال نظام العقوبات المتزايد باستمرار، وانتقلوا إلى محاولة سحق روسيا، من خلال إلحاق هزيمة استراتيجية بها، بما في ذلك في ساحة المعركة، ولم تفكر واشنطن في مصالح أوكرانيا، وكانت البلاد مهمة لأمريكا فقط وبشكل حصري كأداة للضغط على روسيا،

وبالنظر إلى هذه الحقائق، فإن الاتحاد الروسي لا يرى أي منطق في إجراء المفاوضات مع زيلينسكي، فهي، كما قال لافروف، لا معنى لها، فضلاً عن ذلك، فإن الإدارة الأوكرانية، المدللة بالاهتمام الغربي، والتي لا تخجل من إحساسها بأهميتها الذاتية، ما زالت عازمة على القتال حتى آخر أوكراني، والشيء الثاني هو المفاوضات المحتملة مع الولايات المتحدة، لكن واشنطن لم تظهر بعد استعدادها لبناء علاقات نظامية ومتساوية مع موسكو، لذلك، عندما يقول كاتبا المقال في مجلة فورين أفيرز إن أحد أسباب فشل عملية اسطنبول هو رغبة الأطراف في "وضع عربة نظام ما بعد الحرب أمام حصان إنهاء الحرب"، فهم مخطئون.

***

بقلم الدكتور كريم المظفر

الإرهاب لاحدود له، ومَن يظن أن أستراليا القارة البعيدة في مأمن من الإرهاب فهو خاطيء، وما يٌبرهن ذلك أن تنظيم داعش أستقطب عام 2012 أكثر من 230 شخص اكثرهم من الشباب واليوم الإرهاب يضرب أستراليا، مدينة سيدني من جديد، وهذا ما يثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب والتداعيات.

شهدت مدينة سيدني عملية إرهابية داخل مجمع "ويستفيلد بوندي جانكشن" المزدحم يوم السبت 13 أبريل 2024، عملية طعن نفذها شخص بمفرده راح ضحيتها ثمانية أشخاص بينهم طفل رضيع إضافة الى عدد من الجرحى . وقالت السلطات إن الهجوم كان على الأرجح "مرتبطا بالصحة العقلية".

وبعد أيام من هذه العملية جاءت عملية إرهابية أخرى يوم 16 أبريل 2024، أي بعد ثلاثة أيام فقط، عندما هاجم شاب يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً الأسقف في كنيسة المسيح الراعي الصالح في غرب سيدني في إحدى كنائس نيو ساوث ويلز. ومهما كانت الأسباب والدوافع، فإن مثل هذه الأعمال من شأنها أن تثير الكثير من المخاوف وتؤثر على أمن واستقرار المجتمع الأسترالي.

العمليات التي شهدتها أستراليا جاءت بالتزامن مع حالة التأهب الأمني حول العالم، حيث شهدت بعض عواصم أوروبا خلالها عدد من عمليات الطعن وبالتوازي مع العملية الإرهابية التي شهدتها موسكو يوم 24 مارس 2024 عندما نفذ أربع من مقاتلي تنظيم داعش ولاية خراسان أو المرتبطين به بتنفيذ عملية إرهابية واسعة في احد مجمعات التسوق الروسية راح ضحيتها أكثر من 140 شخص

وهنا يتوجب الإشارة إلى حقيقة وهي تأثير وترابط الحروب والنزاعات الدولية على واقع التطرف والإرهاب والأمن المجتمعي للشعوب. هنا نتحدث عن حرب أوكرانيا وحرب غزة، الصور المروعة  من غزة على سبيل المثال وحتى من أوكرانيا من شأنها أن تدفع الكثير من الشباب وحتى البالغين نحو التطرف والإرهاب لتنفيذ عمليات إرهابية.

الأمن المجتمعي في استراليا ليس بعيداً عن ما يحدث حول العالم من حروب ونزاعات، في زمن التواصل الاجتماعي والأنترنيت والعولمة، وهذا يعني أن الإرهاب والتطرف لايعرف الحدود ولا المسافات. الخطاب المتطرف عبر الأنترنيت وعبر المنصات وحتى عبر المنابر من شأنه أن يدفع الشباب نحو التطرف.

الأمن المجتمعي هو الأساس في أستراليا وكذلك لبقية الشعوب والمجتمعات، وهذا لايعني عسكرة الأمن ونشر الشرطة في الشوارع، بقدر ما تكون هناك سياسات تعمل على الدمج الاجتماعي والتكامل الاجتماعي وبالتوازي مع برامج  خاصة تعتمدها الحكومة والمنظمات المعنية لمنع التطرف ومعالجته، ناهيك عن ضرورة تبني برامج وتطبيقات نزع التطرف العنيف خاصة الى العناصر الخطرة أو الى العائدين من القتال بصفوف الجماعات المتطرفة.

استراليا معروفة بأنها بلد يضم العديد من الأصول والأعراق، وسياسات الحكومة الأسترالية في الغالب اعتمدت أساسا في برامجها وهو التكامل الاجتماعي وعمل البرامج وعقد المنتديات والمناسبات من قبل البلديات التي من شأنها تعمل على تعزيز المواطنة والأنتماء إلى هذا البلد.

***

علا بياض – رئيسة تحرير مجلة عرب استراليا

أدرج أدناه فقرات من مقالة قديمة نسبيا  العالم الاثاري الاسرائيلي زئيف هرتسوغ، ترجمها عن الانكليزية وارسلها لي الصديق ماجد علاوي وقبلها أسجل أن مضامين هذه النصوص خضعت لقراءات متعسفة وغير أمنية علميا من قبل بعض الباحثين العرب حيث وجد فيها القائلون بيمنية أو عسيرية التوراة حجة  ودليلا على فرضياتهم الفنطازية هذه  والتي تحتكم لنسخة عبثية من القراءة التأثيلية بعد ان تم تحويل علم التأثيل (الايتمولوجيا) والفيلولوجيا (علم النصوص القديمة وفقه اللغة) الى لعبة تشبه حل الكلمات المتقاطعة تتحول بموجبها قرية (آل شريم) السعودية في إقليم عسير وهواسم لفخذ من عشيرة معاصرة، الى أورشليم الفلسطينية الكنعانية كما فعل الراحل كمال الصليبي في كتابه "التوراة جاءت من جزيرة العرب". إن ما يرفضه هرتسزوغ هنا وقبله فنكاشتاين هو القصص التوراتي في نماذج محددة رئيسة ولا يرفض أبدا قصة بني إسرائيل ووجودهم في فترة محددة بفلسطين الكنعانية  القديمة وتحديدا في منطقة التلال الوسطى من فلسطين الكنعانية والتي كان يتجاذبها طرفا الهيمنة الجيوسياسية الدولية آنذاك وهما مصر والعراق القديم (بلاد ما بين نهرين). لنقرأ هذه الفقرات من مقالة هرتسزوغ " تدمير أسوار أريحا" مع التعليق عليها عند الضرورة:

* بعد 70 عاما من الحفريات المكثفة في أرض إسرائيل، اكتشف علماء الآثار: أن أعمال الآباء الأوائل أسطورية، لم يقيم الإسرائيليون في مصر أو يهاجروا، ولم يغزوا الأرض. لا يوجد أي ذكر لإمبراطورية داود وسليمان، ولا لمصدر الإيمان بإله إسرائيل. هذه الحقائق معروفة منذ سنوات، لكن إسرائيل شعب عنيد ولا أحد يريد أن يسمع عنها.

* لم يكن الإسرائيليون أبدا في مصر، ولم يتجولوا في الصحراء، ولم يغزوا الأرض في حملة عسكرية ولم ينقلوها إلى أسباط إسرائيل الإثني عشر. ربما يكون من الصعب تقبل حقيقة أن الملكية الموحدة لداود وسليمان، والتي يصفها الكتاب المقدس بأنها قوة إقليمية، كانت على الأكثر مملكة قبلية صغيرة.

(ملاحظة: ان الباحث لا ينبفي هنا وجود بني إسرائيل في فلسطين بل يقول انهم كانوا مجرد مملكة قبلية صغيرة (مشيخة) وليس قوة اقليمية كبيرة كما يبالغ الكتاب المقدس في وصفها. ع ل).

* وستكون صدمة غير سارة للكثيرين أن إله إسرائيل، يهوه، كان له قرينة (زوجة) أنثى وأن الديانة الإسرائيلية المبكرة تبنت التوحيد فقط في الفترة الأخيرة من نظام الملوك وليس في جبل سيناء.

(هنا أيضا نجد تأكيدا لكون الديانة اليهودية تطورت من الوثنية الكنعانية إلى التوحيد بالتدريج وظلت بعض آثار الوثنية فيها، ولم تكتمل توحيديتها إلا في بابل خلال الأسر المعروف.ع.ل).

* ومعظم أولئك الذين يشاركون في العمل العلمي في المجالات المتشابكة للكتاب المقدس وعلم الآثار وتاريخ الشعب اليهودي - والذين ذهبوا ذات مرة إلى الميدان بحثا عن دليل لتأكيد قصة الكتاب المقدس - يتفقون الآن على أن الأحداث التاريخية المتعلقة بمراحل ظهور الشعب اليهودي تختلف اختلافا جذريا عما ترويه تلك القصة.

* اختراع قصص الكتاب المقدس: تطور علم الآثار في فلسطين كعلم في وقت متأخر نسبيا، في أواخر القرن 19 وأوائل القرن 20. وكان المنقبون الأوائل في أريحا وشكيم (نابلس) باحثين متخصصين في الكتاب المقدس، وكانوا يبحثون عن بقايا المدن المذكورة في الكتاب المقدس.

الأزمة: وببطء، بدأت الشقوق تظهر في الصورة. ومن المفارقات أنه نشأ موقف بدأت فيه وفرة النتائج تقوض المصداقية التاريخية للأوصاف التوراتية بدلا من تعزيزها. ويتم الوصول إلى مرحلة الأزمة عندما تكون النظريات في إطار الأطروحة العامة غير قادرة على حل عدد متزايد من الحالات الشاذة. وتصبح التفسيرات ثقيلة وغير أنيقة، ولا تقفل القطع معا بسلاسة. وفيما يلي بعض الأمثلة على كيفية انهيار الصورة المتناغمة.

عصر الآباء: وجد الباحثون صعوبة في التوصل إلى اتفاق بشأن الفترة الأثرية التي تتطابق مع عصر الآباء. متى عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب؟ متى تم شراء مغارة مكبيلا (الحرم الإبراهيمي في الخليل) لتكون بمثابة مكان دفن للآباء والأمهات؟

* مع ذلك، لم يتم اكتشاف أي دليل يمكن أن يدعم هذا التسلسل الزمني. جادل أولبرايت في أوائل ستينيات القرن العشرين لصالح تعيين تجول إبراهيم إلى العصر البرونزي الأوسط (القرنين 22 و 20 قبل الميلاد). رفض آخرون تاريخية القصص واعتبروها أساطير الأجداد التي رويت في فترة مملكة يهودا. وعلى أي حال، بدأ توافق الآراء في الانهيار.

الخروج من مصر والتجوال في الصحراء وجبل سيناء: الوثائق المصرية العديدة التي لدينا لا تذكر وجود بني إسرائيل في مصر وتلتزم الصمت أيضا بشأن أحداث الخروج.

* الغزو: أحد الأحداث التشكيلية لشعب إسرائيل في التأريخ التوراتي هو قصة كيفية غزو الأرض من الكنعانيين. ومع ذلك، ظهرت صعوبات خطيرة للغاية على وجه التحديد في محاولات تحديد الأدلة الأثرية لهذه القصة.

* أثبتت الحفريات المتكررة التي قامت بها بعثات مختلفة في أريحا وعاي، المدينتان اللتان تم وصف غزوهما بأكبر قدر من التفصيل في سفر يشوع، أنها مخيبة للآمال للغاية. على الرغم من جهود المنقبين، ظهر أنه في أواخر القرن 13 قبل الميلاد، في نهاية العصر البرونزي المتأخر، لم تكن هناك مدن في أي من التلال، وبالطبع لم يكن من الممكن إسقاط الأسوار (التي لا وجود لها اصلا).

 وتبين أن الأماكن المعنية (التي ورد ذكرها في التوراة) ماتت أو تم التخلي عنها ببساطة في أوقات مختلفة، تم تعزيز الاستنتاج بأنه لا يوجد أساس واقعي للقصة التوراتية حول غزو القبائل الإسرائيلية في حملة عسكرية بقيادة يشوع.

المدن الكنعانية: يعظم الكتاب المقدس قوة وتحصينات المدن الكنعانية التي غزاها شعب إسرائيل، فإن الوصف التوراتي لا يتفق مع الواقع الجيوسياسي في فلسطين. كانت فلسطين تحت الحكم المصري حتى منتصف القرن 12 قبل الميلاد. وكانت المراكز الإدارية المصرية تقع في غزة ويافا وبيت شاان. كما تم اكتشاف اكتشافات مصرية في العديد من المواقع على جانبي نهر الأردن. لم يتم ذكر هذا الحضور اللافت للنظر في الرواية التوراتية، ومن الواضح أنه لم يكن معروفا للمؤلف ومحرريه.

* تتناقض الاكتشافات الأثرية بشكل صارخ مع الصورة التوراتية: لم تكن المدن الكنعانية "عظيمة"، ولم تكن محصنة ولم يكن بها "جدران عالية إلى السماء".

*هوية بني إسرائيل. إذا لم يكن هناك دليل على الخروج من مصر ورحلة الصحراء، وإذا كانت قصة الغزو العسكري للمدن الكنعانية المحصنة قد دحضها علم الآثار، فمن هم هؤلاء الإسرائيليون إذن؟ أكدت الاكتشافات الأثرية حقيقة مهمة: في أوائل العصر الحديدي وهي المرحلة التي تم تحديدها مع "فترة الاستيطان"، تم إنشاء مئات المستوطنات الصغيرة في منطقة التلال الوسطى، يسكنها مزارعون عملوا في الأرض أو قاموا بتربية الأغنام. إذا لم يأتوا من مصر، فما هو أصل هؤلاء المستوطنين؟ اقترح إسرائيل فينكلشتاين أن هؤلاء المستوطنين كانوا الرعاة الذين تجولوا في منطقة التلال هذه طوال العصر البرونزي المتأخر (تم العثور على قبور هؤلاء الأشخاص، بدون مستوطنات).

* ووفقا لإعادة بناء أواخر العصر البرونزي حافظ الرعاة على اقتصاد مقايضة اللحوم مقابل الحبوب مع سكان الوديان. ومع تفكك النظام الحضري والزراعي في الأراضي المنخفضة، اضطر البدو إلى إنتاج الحبوب الخاصة بهم، وبالتالي نشأ الحافز للمستوطنات الثابتة.

*تم ذكر اسم "إسرائيل" في وثيقة مصرية واحدة من فترة مرنبتاح، ملك مصر، يعود تاريخها إلى عام 1208 قبل الميلاد. يشير مرنبتاح إلى البلاد باسمها الكنعاني وتذكر العديد من مدن المملكة، إلى جانب مجموعة عرقية غير حضرية. وفقا لهذا الدليل، تم إعطاء مصطلح "إسرائيل" لإحدى المجموعات السكانية التي أقامت في كنعان في نهاية العصر البرونزي المتأخر، على ما يبدو في منطقة التلال الوسطى، في المنطقة التي ستنشأ فيها مملكة إسرائيل لاحقا.(كنت  تطرقت الى هذا الموضوع في مقالتي عن المقابلة بين فاضل الربيعي واشرف عزت قبل بضعة ايام ووثقت ان كلمة ازرايل في اللغة المصرية القديمة الميدونتروا كانت تعني مجموعة من الناس بلا وطن أي ربما كانوا من البدو الرحل).

مملكة لا اسم لها..الملكية الموحدة: كان علم الآثار أيضا المصدر الذي أحدث التحول فيما يتعلق بإعادة بناء الواقع في الفترة المعروفة باسم "الملكية الموحدة" لداود وسليمان. يصف الكتاب المقدس هذه الفترة بأنها ذروة القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية لشعب إسرائيل في العصور القديمة. وفي أعقاب فتوحات داود، امتدت إمبراطورية داود وسليمان من نهر الفرات إلى غزة. تظهر الاكتشافات الأثرية في العديد من المواقع أن مشاريع البناء المنسوبة إلى هذه الفترة كانت ضئيلة في نطاقها وقوتها.

تم حفر المدن الثلاث حاصور ومجدو وجازر، المذكورة بين مشاريع بناء سليمان، على نطاق واسع في الطبقات المناسبة. في جازر لم يكن هناك على ما يبدو سوى قلعة محاطة بجدار يغطي مساحة صغيرة.

ولم يتم العثور على بقايا المباني من فترة الملكية الموحدة، فقط عدد قليل من شظايا الفخار.

* من الواضح أن القدس في زمن داود وسليمان كانت مدينة صغيرة، ربما مع قلعة صغيرة للملك، ولكن على أي حال لم تكن عاصمة إمبراطورية كما هو موضح في الكتاب المقدس. وهذه المشيخة الصغيرة هي مصدر لقب "بيت داود" المذكور في النقوش الآرامية والمؤابية اللاحقة.

* كانت إسرائيل ويهودا منذ البداية مملكتين منفصلتين ومستقلتين، وفي بعض الأحيان كانتا في علاقة عدائية (الباحث هنا يرفض نظرية الملكة اليهودية الموحدة والتي انقسمت لاحقا الى مملكتين). وهكذا، فإن الملكية الموحدة العظيمة هي خلق تاريخي خيالي، تم تأليفها خلال فترة مملكة يهودا على ابعد تقدير. ولعل الدليل الأكثر حسما على ذلك هو حقيقة أننا لا نعرف اسم هذه المملكة!

يهوه وقرينته: كم عدد الآلهة، بالضبط، كان لدى إسرائيل؟ إلى الشكوك جانب في الجوانب التاريخية والسياسية، هناك أيضا شكوك حول مصداقية المعلومات حول الإيمان والعبادة. نشأ السؤال حول التاريخ الذي تم فيه تبني التوحيد من قبل مملكتي إسرائيل ويهودا مع اكتشاف نقوش باللغة العبرية القديمة تذكر زوجا من الآلهة: يهوه وعشيرة. وكان المؤلفون على دراية بزوج من الآلهة، يهوه وقرينته عشيرة.

ولكن في الوقت نفسه، نشهد ظاهرة مدهشة يتم فيها تجاهل كل هذا ببساطة من قبل الجمهور الإسرائيلي.

 * قبل حوالي عام، نشر زميلي، المؤرخ البروفيسور نداف نئمان، مقالا في قسم الثقافة والأدب في صحيفة هآرتس بعنوان "إزالة الكتاب المقدس من رف الكتب اليهودية"، ولكن لم يكن هناك احتجاج عام. أي محاولة للتشكيك في موثوقية الأوصاف التوراتية ينظر إليها على أنها محاولة لتقويض "حقنا التاريخي في الأرض" وتحطيم أسطورة الأمة التي تجدد مملكة إسرائيل القديمة. وتشكل هذه العناصر الرمزية عنصرا حاسما في بناء الهوية الإسرائيلية بحيث تواجه أي محاولة للتشكيك في صحتها العداء أو الصمت. ومن المثير للاهتمام أن مثل هذه الميول داخل المجتمع العلماني الإسرائيلي تسير جنبا إلى جنب مع النظرة المستقبلية بين الجماعات المسيحية المتعلمة.

* اتضح أن جزءا من المجتمع الإسرائيلي مستعد للاعتراف بالظلم الذي لحق بالسكان العرب في البلاد ومستعد لقبول مبدأ المساواة في الحقوق للمرأة - لكنه لا يصل إلى تبني الحقائق الأثرية التي تحطم الأسطورة التوراتية. يبدو أن الضربة التي تلقتها الأسس الأسطورية للهوية الإسرائيلية تشكل تهديدا كبيرا، ومن الأنسب التعامي عنها. (من الملفت للانتباه الجرأة والتي يكتب بها الباحثون في الكيان الى درجة الاستفزاز للمتدينين كالدعوة "لازالة  التوراة من رف الكتب اليهودية" بعد ان وجه علم الآثار ضربات مدمرة لتأريخيته وحولته الى كتاب أسطوري ليس إلا، والغريب أننا نجد من يقول هذا الكلام وينسف الرواية التوراتية يبقى متمسكا بتعبيرها السياسي متمثلا في الحركة الصهيونية ودولتها العنصرية القائمة على الاربارتهايد. وهذا بحد ذاته يؤكد ان الحركة الصهيونية ودولتها خرافة سياسي رجعية مستمرة بفعل القوة العسكرية والاحتيال  والتمويل الغربي لا غير. ع.ل).3753 خريطة

علاء اللامي

........................

الصورة: خريطة قديمة فلسطين باسم أرض كنعان في عهد الأباء ابراهيم واسحق ويعقوب... كما تسميهم التوراة.

* نشرت هذه المقالة ويبدو انها قديمة نسبيا في جريدة هارتس و أعيد نشرها سنة 2020/ النسخة الانكليزية وقد ترجمها الصديق ماجد علاوي ... فله الشكر الجزيل.

بعد أن ساعدت حركة حماس إسرائيل، بوعي أو بدون وعي، على تحقيق بعض أهدافها وأهمها الانقسام وفصل غزة عن الضفة وإبعاد الأنظار عما يجري في الضفة والقدس وإثارة الفتنة الداخلية وإضعاف منظمة التحرير، وبعد ستة أشهر من حرب الإبادة على كل القضية الوطنية وانكشاف عجز العالم عن كبح جماح الكيان الإرهابي وإجباره على وقف الحرب، وبعد انكشاف وهم محور المقاومة والأنظمة التي كانت تراهن عليها حماس كحلفاء استراتيجيين: تركيا وقطر وإيران، وانحيازهم لمصالحهم القومية ولو على حساب القضية الفلسطينية... فإن حركة حماس،ومعها الجهاد السلامي، تُصر على منح العدو مزيداً من الوقت لاستكمال حرب الإبادة باستمرارها بإطلاق الصواريخ من غزة وحديث قادتها في الخارج بأن المقاومة بخير ومستعدة للقتال لسنوات حتى تحقيق الانتصار!.

في بداية الحرب ومع نشوة (انتصار طوفان الأقصى) حددت حماس النصر الذي تسعى له بتحرير القدس والمسجد الأقصى، تبييض السجون، انسحاب العدو من كل القطاع ورفع الحصار وفتح المعابر وعن ميناء بحري. وإعادة الإعمار تحت اشرافها. مع اشتداد حرب الإبادة ومحدودية ردة فعل محور المقاومة الذي كانت تراهن عليه لتحقيق الانتصار العظيم والنهائي على دولة الكيان اليهودي، باتت قيادتها في الخارج تسعى لصفقة تبادل أسرى ودخول مساعدات إنسانية ووقف إطلاق النار. مع رفض الاحتلال لكل شروط ومطالب حماس لإنجاز صفقة هدنة ولو إنسانية بل وتعطيله المقصود للمفاوضات بهذا الشأن قلصت حماس شروطها لتقتصر على ما ذكر إسماعيل هنية، مع بدء جولة جديدة من المفاوضات في القاهرة 7/4، على انسحاب الجيش ووقف إطلاق النار وعودة سكان الشمال إلى بيوتهم، أي باتت مطالبها عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل مصيبة طوفان الأقصى مع ضمان استمرارها في حكم قطاع غزة، وكل ذلك مصحوباً باستمرار الحديث عن الإنجازات والانتصارات التي تحققها المقاومة وخصوصاً حركة حماس في الميدان.

والسؤال الذي يفرض نفسه ما معنى النصر أو الانتصار الذي كانت حركة حماس تتحدث عنه بعد كل حرب على غزة وتتحدث عنه الآن بعد كل هذا الخراب والدمار لغزة وأكثر من مائة ألف بين شهيد ومفقود ومثلهم من الجرحى؟ وعلى مَن ستنتصر؟ وهل استجابة العدو لشروط حماس الأخيرة يُعد انتصاراً؟

لا أحد يريد استمرار العدوان على غزة والجميع يريد وضع حد لحرب الإبادة، وبعد ذلك لكل حادث حديث، ولكن وبعد كل ما جرى أن تعتبر حركة حماس أن مجرد وقف حرب غزة وإعادة تمركز جيش الاحتلال إلى الأماكن التي كان فيها قبل 7 أكتوبر مع اجترائه لمناطق حدودية تحت مسمى مناطق عازلة، وحتى مع سماح العدو بعودة أعداد من المهجرين في الجنوب الى الشمال، أن تعتبر ذلك انتصاراً للمقاومة وإفشالاً لمخططات العدو فهذا ما لا يمكن السكوت عنه.

إن أخطر ما في المشهد أن حركة حماس باتت تتحدث عن وقف الحرب مع العدو في حالة وقف الحرب على غزة متناسية أن غزة ليست فلسطين وأن الصراع والحرب ليس ضد غزة فقط ولم يبدأ مع طوفان الأقصى بل ضد القضية الفلسطينية ومحاولة تصفيتها وما يجري في الضفة والقدس لا يقل خطورة عما يجري في غزة، ومجرد وقف حرب الإبادة على غزة لا يعني نهاية الحرب والصراع إلا إذا كانت حماس ترى في استقرار الأمر لها في القطاع نصراً ولا تريد أكثر من ذلك، أما القدس وبقية فلسطين فليس من اختصاصها و(للبيت رب يحميه). والأمر هنا لا يقتصر على حركة حماس بل نسمع من إيران وحزب الله والحوثي نفس الرأي فكلهم يقولون إن حربهم مع إسرائيل ستتوقف في حالة وقف الحرب على غزة! أما القدس والضفة وكل القضية الوطنية فخارج حساباتهم، وبعد مسرحية قصف إيران لإسرائيل قال المسؤولون الإيرانيون أنهم لا يريدون التصعيد وستتوقف المواجهة عند هذا الحد إن لم ترد إسرائيل!

لأن حركة حماس مصرة أنها حركة ربانية والربانيون لا يخطؤون لأن خطأهم من وجهة نظرهم تشكيك بالذات الإلهية، ومصرة أنها وحدها المقاومة وهزيمتها يعني هزيمة المقاومة وبالتالي ضياع فلسطين، فإن اعترافها بالخطأ غير وارد وستستمر بالمكابرة والمعاندة والحديث عن (إنما النصر صبر ساعة).

وفي حقيقة الأمر فإن معالم الانتصار الذي تسعى له بات واضحاً ومكشوفاً ولا علاقة له بتحرير فلسطين أو القدس ولا بإطلاق سراح الأسرى، النصر الذي تسعى لتحقيق حركة حماس ولو على أنقاض غزة وجثث آلاف الشهداء هو:

1- الانتصار على منظمة التحرير وتنصيب نفسها ممثلاً على ما تبقى من أرض وشعب. وهذا الهدف الرئيسي لقيامها منذ تأسيس المجمع الإسلامي في سبعينيات القرن الماضي.

2- الاحتفاظ بسلطتها في قطاع غزة حتى في ظل الاحتلال كما كان الأمر طوال السبعة عشر عاما الماضية.

ونعتقد أن العدو مستعد للقبول بهذا النصر لحماس بعد تطويعها حتى يحافظ على الانقسام وتعزيز الفتنة الداخلية، وهذان الهدفان ليسا جديدين بل كانا حاضرين منذ أن تأسس المجمع الإسلامي في السبعينيات ثم قيام حركة حماس في الثمانينيات من خارج منظمة التحرير الفلسطينية، آنذاك كثُرت التساؤلات حول سبب قيامها ومناهضتها لمنظمة التحرير وممارستها العمل السياسي والمقاوم بعيداً عن الإجماع الوطني، في الوقت الذي كانت فيه المنظمة محل تقدير واحترام وطني ودولي وتحقق إنجازات سياسية في المنظمات الدولية وعند الرأي العام العالمي وعدد الدول التي تعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً يفوق المائة دولة، وكانت إسرائيل وواشنطن يناصبان المنظمة العداء و يسعيان لتدميرها؟

لقد سبق وكتبنا مقالا تحت عنوان (حروب غزة خارج السياق الوطني) وبالفعل كانت، حيث كان للأجندة الخارجية وخصوصاً إيران دور فيها كما أنها حولت القضية من وطنية فلسطينية لقضية غزاوية، وقد أنجرت حركة حماس إلى لعبة الأمم في فلسطين والشرق الأوسط، وهي لعبة أو جملة مخططات تهدف لتصفية القضية الفلسطينية ومواجهة قوى التحرر العربي التقدمية وتدمير المشروع القومي العربي.

لقد زعمت حركة حماس أنها حررت قطاع غزة من الاحتلال الإسرائيلي بينما في حقيقة الأمر (حررت) القطاع من سيطرة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وليس من الاحتلال حيث استمر الاحتلال قائماً يضاف له الحصار، فهل إن (وحدة الساحات) وتشكيل (محور المقاومة) في مواجهة الاحتلال يتطلب نجاحه أولاً كسب المعركة في مواجهة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وحركة فتح؟ وهل تُغني هذه المحاور عن الوحدة الوطنية؟

والآن وبعد اتضاح محدودية ما يمكن أن يعمله محور المقاومة، وبعد أن قامت فصائل المقاومة في غزة بما تستطيع، وبعد كل هذا الخراب والدمار والموت الذي حرك العالم لنصرة الشعب الفلسطينية واستعادة حضور القضية دولياً، ما زالت الفرصة سانحة لتعيد حركة حماس حساباتها في المراهنة على الأجندة الخارجية، وتُعيد القيادة الفلسطينية أيضاً حساباتها في المراهنة على تسوية سياسية تقودها واشنطن، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من غزة والقضية كلها.

***

د. إبراهيم ابراش

 

ظهرت  مؤخراً جماعة مِن قبيلة بني أسدٍ، تُطالب بإدارة العتبتين، الحُسينية والعباسيّة بكربلاء. تلا أحدهم رسالةً موجهةً إلى المرجعية، المشرفة عليهما، وهما كيان اقتصادي، وإداري مستقل عن الدَّولة، إذا لم يكن أكبر منها، إدارة ضريح الإمام الحُسين وأخيه العباس. ادعت الجماعة بوجود عقد شراء(العام 60-61هجرية) بين الحُسين وأجدادهم، سكان كربلاء، شُرعت لهم وفقه، القوامة على قبره، وبموجبه مِن حقّهم التّصرف بالأموال، التي تدر عليه نذوراً وهدايا. في ما سبق، الدّولة تشرف على تلك الأموال(قبل 2003)، وتُصرف على تعمير العتبات نفسها، وما يخص كربلاء. كانت ثياب العاملين، في عدّ الأموال، خالية مِن الجيوب، درءاً للسرقة، كواحدة مِن أساليب مكافحة الفساد، ليتها تشاع، وليكن بدل الجيوب الحسابات البنكية مثلاً.

يذكر بنو أسد أنّ لهم شرفَ دفن الحُسين، وفي كل عام بعد ثلاثة أيام مِن (10 محرم/عاشوراء)، تمثل مراسم الدّفن، ويحضر مَن يمثل بني أسد موشحاً بحمائل سيفه، ليشرف على الدّفن، بوجود الإمام علي بن الحُسين(ت: 94هجرية)، الذي ظل حياً مِن بين أعمامه وأخوته، وقصة المقتل تقول حال انتهاء المعركة حصل السّبي، وتم الترحيل إلى الكوفة، ومنها إلى الشّام، مع رؤوس القتلى، وفي زحمة هذه الروايات لا يُسأل: وكيف حضر زين العابدين، وتولى الدّفن بعد ثلاثة أيام؟!

مثلما لا أحداً يسأل كيف فكر الحُسين في اللَّحظة الحرجة شراء أرض، وتوقيع عقدٍ، وكيف يسمح له، ويسمح لسكان كربلاء بيع الأرض لعدو السُّلطة آنذاك، وهو، حسب قصة المقتل المقرؤة سنوياً، طلب العودة، مِن حيث أتى، والقوم حالوا دونه؟ صار المثيرون لهذه الأسئلة يرمون بالجهل، ففي الأجواء القاتمة القائمة، ينقلب الوهم حقيقةً، والحقيقة وهماً، «إذا قُلتُ المُحالَ رَفَعتُ صَوتي/وَإِن قُلتُ اليَقينَ أَطَلتُ هَمسي»(المعريّ، لزوم ما لا يلزم).

فعلى المشككين بالرّوايات، وسط كثافة الوهم، إطالة الهمس، فالسؤال يعني عدم اليقين، وعدم اليقين كارثة على صاحبه. فهل لك اليوم الاعتراض على ما ورد في كتاب «قصص العلماء»، وهو يروي لقاءات عشرات رجال الدِّين بالمهدي المنتظر، بعد غيابه بألف عام، وهل لك الاعتراض، في المجلس الذي يتحدث به قارئ المنبر عن عجائب المعجزات، مثل الأئمة خلقوا قبل آدم، أو هذا المستشفى وهذه المدينة يُديرهما صاحب الزّمان، ورئيس مؤسسة علمية كبرى، مِمَن اعتقدناهم محصنين، خرج متحدثاً عن كرامات أسرته! ما تقدم به الأسديون، لم يكن غريباً ولا عجيباً، فإذا مسوا الكنز المقدس، الذي يسمن كلما سمن الوهم، لم يبدعوا وهماً، وربّما كان عقد الحُسين معهم أرحم الأوهام، وأقل الرُّوايات عجائبيّة. غير أنَّ ما يمكن تسجيله لبني أسد، أنهم الأقل طائفيّة، والأقل طائفيّة هم الأكثر عراقيّة، والمقال لا يسع للتبسط بتاريخ عدم اكتراث زعمائهم بالطّائفيّة.

أُتهم أسديون بفاجعة شاعرين عظيمين، قتل علياء الأسدي الملك حجر والد امرئ القيس(جواد علي، المفصل)، وأنَّ فاتكاً الأسديّ قتل المتنبي(354هجرية)، بعد قدومه مِن فارس إلى بغداد(ابن الجوزيّ، المنتظم). مع أنَّ أبا الطّيب أثنى على بني أسد: «سِنانٌ في قناةِ بني مَعدٍ/ بني أسدٍ إذا دَعوا النّزالا»(العرف الطّيب). فإذا كان لهم ثأر فمع أبي نواس(ت: 195هجرية): لقوله: «قالوا ذَكَرتَ دِيارَ الحَيِّ مِن أَسَدٍ/ لا دَرَّ دَرُّكَ قُل لي مَن بَنو أَسَدِ»(ابن يدمر، الدُّر الفريد). إذا صح ارتكاب أسديين فاجعتي الضَّليل والمتنبي، فمَن لم يبتل باغتيال وقتل؟ وإن توهموا العقد مع الحُسين، فمَن لم يتاجر بالوهم؟! والإجابة مِن ابن بُرد(قتل:166هجرية) «إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى/ ظمئتَ وأي النَّاسِ تصفو مشاربه»(الحمويّ، معجم الأُدباء). في كل الأحوال، الأسديون ليسوا أول الواهمين!

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

يتعرض شعب إقليم كوردستان وقيادته الى هجمة إعلامية مبرمجة وموجهة من الخارج عبر محطات تلفزة وصحف ووكالات خبرية ممولة من أجهزة مخابرات أجنبية تستهدف الإقليم المزدهر، الذي كشف الغطاء عن الكم الهائل من فساد الأحزاب المهيمنة على مدن البؤس الجنوبية والوسطى من البلاد، حيث تنتشر الصراعات القبلية والفساد المريع وفقدان الأمن وسيطرة الأذرع الإيرانية من الميليشيات على مقدرات البلاد، حيث أسست دولة عميقة واستحوذت من خلالها على كل مصادر المال والجباية من المعابر الحدودية والموانئ وفرض الاتاوات والضرائب على الداخل والخارج، ناهيك عن شبكات المخدرات التي تنشر سرطانها بين الشبيبة وعمليات تهريب العملة من خلال واجهات مصرفية انهكت الاقتصاد العراقي ودمرت العملة الوطنية في بلد يصدر اكثر من خمسة ملايين برميل يوميا.

هذه الهجمة التي يتعرض لها شعب كوردستان المسالم أشاعت موجات من الأحقاد والكراهية، وشكلت خطرا كبيرا على النسيج الوطني والاجتماعي، بل وتسببت في فرض حصار اقتصادي ظالم على الإقليم بقطع حصته من الموازنة لخمس سنوات متتالية (2014- 2018) كما تم تخفيض نسبتها خارج الاتفاق المبرم من 17% الى اقل من 13%، وحرمان موظفي الإقليم من معاشاتهم لسنوات طويلة، ناهيك عن منع منتوجات الإقليم الزراعية والصناعية من الوصول الى الأسواق العراقية تارة بفرض الضرائب وتارة أخرى بالإتاوات او المنع المطلق، كما منعت حصته من الادوية والقروض الدولية ومن تعويضات ضحايا الانفال مقارنة بما خُصص لضحايا النظام السابق في الجنوب والوسط.

ورغم أن الإقليم يتصرف بحكمة وعقلانية باعتبار هذه التصرفات والحملات الدعائية العدوانية لا تمثل رأي عامة الشعب، بل هي في غالبيتها تقتصر على مجموعات من العنصريين والطائفيين وتجار الأزمات وبدعم من خارج الحدود الذي طالما يصدر أزماته الى العراق ومكوناته، هذه الهجمة المنظمة شجعت بل وفتحت طريقا لارتكاب حماقات مبررة بالقصص المفبركة والاتهامات الباطلة والتشويهات التي تنشرها وتبثها أجهزة دعاية هذه الأحزاب او الميليشيات، حيث شهدنا جميعا هجماتهم الصاروخية وطائراتهم المسيرة، والتي يزعمون فيها انها تستهدف مقرات إسرائيلية أو قواعد أمريكية في الإقليم حسب ادعاءاتهم التي دحضتها لجان تقصي الحقائق التي أرسلها البرلمان العراقي ومستشارية الأمن الوطني.

لقد أهمل الإقليم وحكومته كل هذه الادعاءات والهجمات بصبر وتأني، حفاظا على اللحمة الوطنية والاجتماعية والسلم الأهلي، لإدراكه بأنها لا تمثل الا أصحابها القلة الممولين من دولة اجنبية لأغراض تتعلق بمجالها الحيوي، ولا علاقة لها بالعراق وقضيته الوطنية، خاصة وان الخلافات مهما كانت معقدة مع الحكومة الاتحادية او مع الأحزاب الوطنية العراقية لا ترتقي إلى مستوى العدوانية التي تمثلها هذه الميليشيات او الأحزاب او بعض البرلمانيين لأهداف لا تخدم بالمطلق مصالح العراق العليا.

واليوم يمرُ العراق بواحدة من أدق مراحل حياته في منطقة ملتهبة عند حافات حرب عبثية تشعل اوارها مجموعات دينية وطائفية متطرفة تحت عباءة شعارات عاطفية انفعالية نتائجها بانت في بحر من الدمار والخراب الذي تعرضت له غزة، ودفع مئات الالاف من سكانها ثمناً باهضاً لتلك العنتريات الفارغة، والأنكى من كل ذلك أن ايران ومن خلال دعمها وتمويلها لتلك المجموعات بالأسلحة والعتاد والأموال دونما توريط عسكرها في أي عملية مواجهة حقيقية مع من تدعي مقاومته، نشرت بواكير حرب في كل من اليمن وسوريا والعراق ولبنان من خلال اذرعها الميليشاوية والتي تسببت في تدمير هذه البلدان وإشاعة الفتن والخراب فيها.

إن إقليم كوردستان المزدهر اثبت خلال أكثر من ثلاثة عقود بأنه كيان سياسي دستوري إيجابي اعتمد في علاقاته مع جيرانه على عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام خيارات جيرانه  وتبادل المصالح بكل أنواعها الاقتصادية والاستثمارية والسياسية، بما يفيد الطرفين رغم ما تتركه التدخلات العسكرية التركية والإيرانية من آثار سلبية على تلك المصالح، الا أن الإقليم يصر دائما على الحوار والحل السلمي بديلا عن العنف بين الدولتين ومعارضيهما، كما انه نجح في أن يكون واحة لكل العراقيين على مختلف مشاربهم ومكوناتهم في تعايش سلمي قل نظيره اليوم في المنطقة عموماً، ناهيك عن استقباله لأكثر من مليون نازح عراقي ولاجئ من ايران وسوريا وتركيا، حيث يشعر الجميع بالأمن والسلام تحت سيادة القانون.

انهم يريدون اشعال المنطقة في حروب عبثية لتحقيق مجال حيوي لمشروعهم السلطوي، بينما ينشد شعب العراق عامة وكوردستان خاصة السلام والبناء لتعويض ما فاتهما من فرص ذهبية ذهبت ادراج عواصف حروب الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية طيلة أكثر من ستين عاما، وقد اثبتت الاحداث وصفحات التاريخ انه ليست هناك عداوة بين الشعوب، بل هناك أفراد وأحزاب وأنظمة تعادي بعضها!

***

كفاح محمود

 

تعتبر أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 على نطاق واسع واحدة من أكثر المواجهات حدة في عصر الحرب الباردة، مما دفع العالم إلى شفا حرب نووية. تكشفت هذه الأزمة على مدى فترة متوترة دامت ثلاثة عشر يوما في تشرين الأول عام 1962، عندما اكتشفت الولايات المتحدة أن الاتحاد السوفييتي كان يزرع صواريخ نووية في كوبا، على بعد 90 ميلا فقط من ساحل فلوريدا. سيقدم هذا المقال لمحة شاملة عن القصة الكاملة لأزمة الصواريخ الكوبية، مع دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية وتأثير هذا الحدث الحاسم.

حدثت أزمة الصواريخ الكوبية على خلفية العداء طويل الأمد بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، المعروف باسم الحرب الباردة. انخرطت القوتان العظميان في منافسة مريرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تسعى كل منهما إلى توسيع مجال نفوذها وتعزيز أيديولوجياتها السياسية. أقام الاتحاد السوفييتي علاقة وثيقة مع كوبا في أعقاب الثورة الكوبية عام 1959، بقيادة فيدل كاسترو، الذي تحالف مع الكتلة الشيوعية.

لعبت العديد من الشخصيات الرئيسية أدوارا حاسمة خلال أزمة الصواريخ الكوبية. كان الرئيس جون ف. كينيدي رئيس الولايات المتحدة ورئيس وزراء الاتحاد السوفييتي نيكيتا خروتشوف صانعي القرار الأساسيين على كل جانب. غالبًا ما يُنسب الفضل إلى قيادة كينيدي الهادئة والثابتة خلال الأزمة، إلى جانب استعداده للانخراط في مفاوضات دبلوماسية، في منع نشوب حرب نووية. من ناحية أخرى، كان خروتشوف عدوانيًا في البداية في نشر الصواريخ في كوبا، لكنه تراجع في النهاية في مواجهة الضغوط المتزايدة من الولايات المتحدة.

كان لأزمة الصواريخ الكوبية تأثير دائم على السياسة والأمن العالميين. أدت تجربة الاقتراب من الحرب إلى فترة من الانفراج بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، حيث أدرك الجانبان مخاطر حافة الهاوية النووية. كما سلط الضوء على الحاجة إلى تحسين آليات الاتصال وإدارة الأزمات لمنع صراعات مماثلة في المستقبل. بالإضافة إلى ذلك، كان للأزمة آثار كبيرة على كوبا، حيث شعر كاسترو بالخيانة بسبب قرار السوفييت بسحب الصواريخ دون استشارته، مما أدى إلى توتر العلاقات بين الحليفين الشيوعيين.

ساهم العديد من الأفراد المؤثرين في فهمنا لأزمة الصواريخ الكوبية. لقد قدم المؤرخون مثل روبرت ف. كينيدي، الذي عمل كأقرب مستشار لأخيه خلال الأزمة، رؤى لا تقدر بثمن حول عملية صنع القرار والمفاوضات التي تجري وراء الكواليس. كما قام باحثون مثل جراهام أليسون بتحليل الأزمة من خلال عدسة نظرية اللعبة، موضحين كيف يمكن للجهات الفاعلة العقلانية أن تقود إلى حافة الكارثة في المواقف عالية المخاطر.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن الدروس المستفادة من أزمة الصواريخ الكوبية تظل ذات أهمية في عالم اليوم، حيث لا يزال الانتشار النووي والصراعات الإقليمية يشكل تهديداً للأمن العالمي. إن الحاجة إلى التواصل المفتوح والمشاركة الدبلوماسية والالتزام بتجنب التصعيد في المواقف المتوترة لا تقل أهمية الآن عن ما كانت عليه في عام 1962. ومن خلال دراسة القصة الكاملة لأزمة الصواريخ الكوبية، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل تعقيدات العلاقات الدولية والعمل. نحو مستقبل أكثر سلاما واستقرارا.

في الختام، كانت أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 بمثابة لحظة فاصلة في تاريخ الحرب الباردة، وكانت لها آثار بعيدة المدى على الأمن العالمي والدبلوماسية. من خلال دراسة السياق التاريخي والشخصيات الرئيسية والتأثير والأفراد المؤثرين المرتبطين بهذه الأزمة، نكتسب رؤى قيمة حول تعقيدات السياسة الدولية وأهمية إدارة الأزمات. وبينما نفكر في هذا الحدث الحاسم، يجب علينا أن نظل يقظين في جهودنا لمنع نشوب صراعات مماثلة وتعزيز الحلول السلمية لمواجهة تحديات المستقبل. وليست الأزمة الأوكرانية إلى ترجمة أخرى  لما حدث في أزمة الصواريخ الكوبية بفارق معكوس في الأدوار وهو اقتراب حلف الناتو غير المسموح به من العاصمة الروسية موسكو . هناك تغير في أدوار اللاعبين فقط.

***

محمد عبد الكريم يوسف

"شيء من تجارب الشعوب"

ان المعركة ضد الفساد تحتاج إلى "النضال الطويل والمكلف والمؤلم من أجل النجاح"، هكذا يرى برتراند دو سبيفيل صاحب كتاب "OVERCOMING CORRUPTION" الذي يعد مرجعا أساسيا في مجال محاربة الفساد؛ بمعنى آنه لا يمكن الحصول على نتائج ذات أهمية ناجعة ومثمرة دون " تحمّل وصبر" من مختلف المتدخلين خاصة المواطنين الذين يشكلون الضحية الأولى للفساد.

ويشبّه (دو سبيفيل) الفساد بالداء المزمن والمستفحل الذي يحتاج علاجه إلى تضحيات جسام ليس أقلها الصبر للعلاج الكيميائي، ويضيف بأن مكافحة الفساد تحتاج إلى ستراتيجية وطنية ذات أهداف واضحة وقابلة للتحقيق تتأسس على ثلاثة مرتكزات تسند بعضها بعضا هي " التحقيق والملاحقة، والوقاية " بشكل جاد جدا عبر تطوير المساطر والأنظمة، ثم تليها التربية والتوعية باعتبارهما ضروريتين لمحاربة الفساد لدى الأجيال الناشئة، وتغيير النظرة المجتمعية المتسامحة معه أو التي تجعل منه شرّا لا بد منه أو واقع حال يستحيل او يصعب زواله . 

ولدينا مثال عملي نقدمه للمعالجة هو دولة سنغافورة التي تعد انموذج الدولة الخالية من الفساد باعتمادها اجراءات بدأتها باستهداف قيادة الدولة حدد اهمها السيد "سوه كيى هيين" مدير مكتب التحقيق السنغافوري أيام حكم " لي كوان " لحالات الفساد، نورد اهمها في الاتي:

1- عدم السماح للمفسدين بالتمتع بما حصلوا عليه من مكاسب غير مشروعة أو تبييض أموالهم بأي شكل من الاشكال، وفضْحهم إعلامياً وشعبياً ونشر غسيلهم القذر من خلال جعل الناس تنظر لهم بوصفهم وصمة عارٍ على المجتمع .

2 - يفضي التعامل بجدية مع التقارير الخاصة بحالات الفساد الى جعل الناس يرصدونه بأنفسهم ويكشفون عنه إعلاميا وشعبيا وليس السلطة وحدها، ويفتح الطريق الى نجاحات متتالية في القضاء على الفساد والمفسدين .

3- لا توجد ممارسات الفساد معزولة عن غيرها، انما تتداخل مع نشاطات وممارسات مشبوهة اخرى .

4- ان الهدف من الاجراءات والوسائل الخاصة بمنع الفساد هو النظر اليه بانه ممارسة قذرة مدمرة للمجتمع تحفّ بها مخاطر كبيرة دون أي مكسب حتى ولو كان ضئيلا .

5- تهدف محاربة الفساد في الحكومة الى المحافظة على ان تكون الجهات المحاربة للفساد والمفسدين نظيفة تماما منه .

 6- تعدّ محاربة الفساد في القطاع الخاص ضرورة كبرى كما في القطاعات العامة لتأمين نظافة النشاطات الاقتصادية المتنوعة في الدولة.

7- الاسراع بتشكيل محكمة من قضاة مستقلين نزيهين تماما وتبدأ بمحاسبة الحيتان الكبيرة دون خوف او حرج، ويأخذ فيها كل فاسد ومفسد جزاءه بالعدل، وتسترد أمــوال الناس والوطن بكاملها دون تجزئتها أو تأجيل ردّها .

إضافة الى ما ذكرناه أعلاه فالمسؤولون السنغافوريون قد وضعوا خطةً محكمة لجلب المستثمرين وحمايتهم من خلال تسوية كافة الاجراءات التي يحتاجها المستثمر في مكان واحد فقط أي بمعنى ان تكون صيغ واجراءات الاستثمار تكتمل في بناية واحدة بدءا من تسجيل وإعداد خطط المشروع المزمع تنفيذه وتسجيله واحتساب ضرائبه وكل ما يتعلق به بدءا من تنفيذه وحتى اكتماله في مكان واحد وبناية معيّنة واحدة حتى تنجز الاجراءات تماما ويوجد به ممثل الشركات وممثلو كافة الوزارات والبنوك ومختلف المؤسسات ذات العلاقة باستثمار وانجاز المعاملات الكترونيا بحيث لا يضطر المستثمر بالانتقال من مكان الى اخر في اماكن متباعدة فيتعرض للابتزاز والاحتيال والمساومة ؛ بل تتم كافة معاملاته في نفس الموقع او البناية وتنجز كافة الخدمات في سقف زمني قصير وهذه تجربة رائدة حقا منذ تسعينات القرن الماضي... عسى ان يستفيد منها الساسة المعنيون ان خلصت نواياهم في بناء موطنهم .

ان اعتماد ما ورد في التجربة السنغافورية وما تقدمنا بها من معالجات سابقة يمكن صياغتها في برنامج عمل تتفق عليه القوى السياسية وممثلو المتظاهرين ومنظمات المجتمع المدني ..وبدونها تبقى التظاهرات لا تجدي نفعا،لأن الحكومة والبرلمان لن يستجيبا لمطالب المتظاهرين لسببين وهما : لشعورهم بالأمان في منطقة محصنة ومحمية بأكبر قوة من الدرك والقوات المسلحة التي قد تكون حامية للمفسدين .

 وثانيا لأن الغاء الرواتب التقاعدية غير السليمة واللامنصفة لا يتم الا بتشريع قضائي صارم مثل قانون رفحاء ومباذله عندنا في العراق وضخامة رواتب الساسة المسؤولين ممن كانوا في رأس السلطة وتقاعدوا الان حيث يجازون حاليا برواتب تقاعدية ذات أرقام فلكية.

وللتذكير أقول ؛ هناك حالةً سيكولوجية سائدة عندنا قد يغفل عنها البعض وهي: أن الفقير في غالب الاحيان اذا استغنى واستمكن واستوزر ونال جاهاً وحظوة ومركزا مرموقا انعدم ضميره وسال لعابه طمعا وجشعا وهذه سمة الكثير من ساستنا الان .

***

جواد غلوم

 

نغتنم فرصة زيارة رئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة المهندس محمد شياع السوداني لواشنطن والتقائه والوفد المرافق له بالقيادة الأمريكية، والتفاوض معها بشأن ملفات مهمة وساخنة، من بينها تفعيل اتفاقية الإطار الستراتيجي ودعم إصلاحات الحكومة الاقتصادية، لنطالبه بما طالبنا به، وغيرنا، الحكومات  العراقية المتعاقبة، وهو مطالبة الإدارة الأمريكية وربيبتها إسرائيل بتعويضات مالية لما سببتاه للعراق من تدمير وخراب وتلوث إشعاعي مميت، إنتهاكاً للقانون البيئي الدولي ولسيادة العراق.علماً بان تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم..

وأدناه ما يفيد الوفد  في مطالبته بحق العراق هذا:

أولآ- قصف المقاتلات الإسرائيلية لموقع التويثة:

في 7 حزيران 1981 قام الطيران  العسكري الإسرائيلي بالهجوم على مركز هيئة الطاقة النووية العراقية في التويثة،مدمراً مفاعل تموز النووي ومختبرات علمية سلمية عن بكرة أبيها، قاتلآ مدنيين أبرياء، وملوثاً المنطقة وما حولها بإشعاعات خطيرة، هددت حياة المواطنين الذين كانوا يعيشون هناك، ولم تقتصر أضرار القصف على منطقة التويثة، بل وتعدتها الى مناطق المدائن وجسر ديالى ومعسكر الرشيد، وغيرها، والتي ومات المئات من سكانها بالسرطان.

علماً بان مجلس الأمن الدولي كان قد أصدر القرار رقم 487 الذي اعتمده بالإجماع في 19/6/ 1981، الخاص بالهجوم الإسرائيلي على مفاعل تموز النووي، والذي نص على أنه "من حق العراق الحصول على تعويضات عن الهجوم".وأدان المجلس بشدة الغارة العسكرية الإسرائيلية، وطالب إسرائيل بالامتناع في المستقبل عن القيام بأعمال من هذا النوع أو التهديد بها"..فلابد ان تحتفظ وزارة الخارجية العراقية بكافة الحيثيات.

ثانياً- تلويث البيئة العراقية بالسموم القاتلة:

إستخدمت القوات الأمريكية وحليفاتها في حربين مدمرتين على العراق، في عامي 1991 و 2003، أحدث أسلحة الدمار والفتك المصنعة من نفايات نووية خطيرة، سميت "اليورانيوم المنضب"،وهي تسمية خبيثة ليقولوا، وفعلآ قالوا، بأنها "ليست خطيرة" على البيئة والصحة.,وقصفت بها حتى المناطق السكنية المكتضة بالسكان، ونشرت الإشعاع الناجم عن إستخدامها في كافة أرجاء العراق، والذي سبب كوارث بيئية وصحية لا مثيل لها.

لقد قدر خبراء ومؤسسات مختصة كمية ما إستخدمته القوات الأمريكية وحليفاتها من ذخائر اليورانيوم على العراق بنحو 3000 طنا مترياً ، وهو ما يعادل 250 قنبلة ذرية من القنابل التي أُلقتها أمريكا على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية.

وعدا أسلحة اليورانيوم إستخدمت القوات الأمريكية أسلحة الفسفور الأبيض المحرمة دولياً.

وخلفت قوات التحالف ضد العراق في الأراضي العراقية اكم هائل من المعدات الحربية المضروبة بقذائف اليورانيوم، وكذلك اَلاف القنابل والصواريخ غير المنفجرة،بالأضافة الى ملايين الألغام الأرضية.

وعدا هذا، خلفت وحدات الجيش الأمريكي في البيئة العراقية شتى الملوثات الخطرة، حيث جاء في تقرير دولي خاص بالبيئة العراقية، اصدره  فريق من الباحثين الاميركيين في "مركز دراسات الحرب" في نيوبورت بالولايات المتحدة، ونشرت صحيفة "USA Today"  مقتطفات منه في عام 2011، ان الغبار في العراق يحتوي على (37) نوعا من المعادن ذات الثأثير الخطير على الصحة العامة، فضلا عن  (147) نوعا مختلفا من البكتيريا والفطريات التي تساعد على نشر الأمراض[1]. وأكد خبراء بيئيون إن الجيش الاميركي لم ينقل معه عند رحيله من العراق مخلفاته الخطرة، وإنما طمرها في الأراضي العراقية [2].

وهكذا، تحولت البيئة العراقية الى إحدى اكثر بيئات المنطقة تلوثا من جراء الحروب ومخلفاتها،وأكد علماء البيئة ان تأثير استخدام ذخائر اليورانيوم والطائرات الحربية والدبابات والقذائف المضادة للدروع والقنابل الخاصة باختراق الملاجيء تسببت في آثار خطيرة على البيئة وعلى صحة وحياة العراقيين.

ثالثاً- -دراسات أثبتت إنتشار التلوث الإشعاعي الخطير

أثبتت دراسات علمية عراقية ودولية إنتشار التلوث الإشعاعي في أرجاء العراق، ومنها، على سبيل المثال:

1- في عام 1996 أُجريت دراسة تقييم المخاطر الصحية لمنطقة مكتظة بالسكان تبلغ مساحتها نحو 1200 كم2، وتشمل مدن صفوان والزبير وغرب البصرة، والتي تعرضت لجرعات إشعاعية عالية بسبب تلوث اليورانيوم المنضب. وأوضحت نتائجها أن أهم مصدر للتعرض الإشعاعي في منطقة الدراسة هو استنشاق هباء اليورانيوم المنضّب وأكاسيده خلال الأشهر الأولى من العمليات العسكرية لعام 1991. ووُجد أن قيمة الجرعات السنوية الفعالة الناتجة من هذا المسار بلغت 435 ملّي سيفَرت تعرّضت لها القوات المسلحة العراقية في هذه المنطقة، وقرابة 167 ملّي سيفَرت تعرّض لها السكان في مدينة صفوان. كما بلغ إجمالي الجرعة الفعالة السنوية التي تعرض لها السكان في مدينتي الزبير وغرب البصرة بحدود 268.6 ملّي سيفَرت[3].

2- في اَيار 2003 فحص الأمريكي سكوت بترسون بأجهزة حديثة وحساسة جداً دبابات عراقية مضروبة بذخيرة اليورانيوم المنضب في بغداد، ووجد تلوثها بالإشعاع بمستوى 1000 الى 10 اَلاف مرة عن الحد المسموح به دولياً [4].

3- في أيلول- تشرين الأول 2003 ،أي 5 أشهر عقب توقف العمليات العسكرية لغزو العراق، أجرى فريق علمي متخصص بالإشعاع والطب الذري، تابع لـ"مركز أبحاث طب اليورانيوم" (UMRC)[5]، دراسة إشعاعية ميدانية واسعة شملت بغداد وضواحيها وكافة مدن وسط وجنوب العراق الى أطراف البصرة.

وقد وجد الفريق العلمي برئاسة العالم الكندي تيد ويمان وعضوية العالم الألماني سيغفرت- هورست غونتر والعالم العراقي محمد الشيخلي والعالم الألماني شوط ، إنتشار الإشعاع في أرجاء العراق وبسمتويات تعدت المستوى المسموح به دوليا بـ 10- 30 ألف مرة. ووجد الإشعاع في الهواء والتربة وفي جثث الجنود المطمورة تحت الأنقاض وفي معمل ثلج وفي الأشجار،إضافة الى الدبابات والمدرعات والمركبات والمدافع والدشم التي قصفت بأسلحة اليورانيوم.وقد أصيب أثنان من العلماء بأعؤاض التلوث الإشعاعي الحاد رغم أنهما لم يمكثا بالمنطقة أكثر من إسبوعين[6][7][8].

4- في عام 2005، وجد المهندس خاجاك وارتانيان في مدينة البصرة أكثر من 100 موقعاً ملوثاً بإشعاع اليورانيوم المنضب، ضمت حديد سكراب لمعدات عسكرية مضروبة وذخائر حربية مستخدمة، وغيرها. وحذر بشدة من إحتمال إنتقال الأشعاعات الى المواطنين في مناطق أخرى عبر نقل وإستخدام السكراب[9].

5- أكدت صحيفة "بيبليت" الفرنسية بالأستناد الى خبراء ان كمية الذخيرة المشعة الملقاة من قبل القوات الاميركية على العراق تفوق تلك المرمية على هيروشيما في الحرب العالمية الثانية..ولفتت الصحيفة الى ان احتواء الاسلحة المستخدمة في العراق على اليورانيوم المنضب  سيؤدي الى  سقوط ضحايا حتى بعد 20 عاما من الهجمات[10].

6- خلفت الحرب أطلال من أكداس الحديد السكراب (الخردة)، التي هي عبارة عن بقايا آليات ومدرعات ومدافع ودبابات ومعدات عسكرية أخرى، مختلفة الأحجام، وقد تم قصفها بأسلحة اليورانيوم في حربي عامي 1991 و 2003، وكانت تنتشر في أرجاء العراق لسنوات عديدة،وتم جمعها في أماكن بعيدة عن المناطق السكنية، لكنها مكشوفة، فنقلت الرياح إشعاعاتها الى المناطق المجاورة وسكانها وتنفسوا جزيئاتها. وأكد العلماء ان تأثيراتها ليست محدودة في المناطق المنشرة فيها، وإنما تطال المناطق البعيدة عنها.

خلاصة القول: أحدث إستخدام أسلحة اليورانيوم تهديداً كبيراً للبيئة العراقية والسكان.ومرد التهديد هو التلوث الناتج عن استخدام تلك الاسلحة ذات السمية العالية وبكميات هائلة، وهي ذخائر مصنعة من نفايات نووية خطيرة، من أنواع اليورانيوم ومواد أخرى شديدة الإشعاع، يولد انفجارها في الهدف(الدبابة مثلآ) سحابة  في الهواء مكونة من ترليونات دقائق أوكاسيد اليورانيوم الصغيرة جداً، التي تنتقل للبشر عبر التنفس وتناول الأغذية الملوثة بها، فتدمر الجسم بكامله، وهي التي تصهر الحديد والصلب وتجعل جسم الإنسان متفحماً عند التأثير المباشر.

وثمة حقيقة معروفة وهي أثناء المعارك , وفي خضم ما يتعرض له المجتمع من معانات وخسائر , غالباً ما تنسى التأثيرات البيئية الناتجة من هذه المعارك , ولكن هذه التأثيرات ستبقى مستمرة لسنين بعد انتهاء المعارك [12].

رابعاً- أبرز تداعيات الحرب:

سبب إستخدام القوات الأمريكية وحليفاتها لأسلحة اليورانيوم المنضب والفوسفور الأبيض والسموم الأخرى إنتشار الملوثات والسموم الإشعاعية والكيميائية الخطيرة في أرجاء العراق، والتي سببت بدورها أضرار بيولوجية رهيبة، حيث أُصيب  أكثر من مليون و 200 ألف عراقي وعراقية بالسرطانات، وتوفي منهم أكثر من 300 ألفاً.عدا  ما سببه من مئات اَلاف الولادات الميتة والتشوهات الخلقية الرهيبة والإسقاطات المتكررة والعقم (حتى وسط الأسر التي أنجبت قبل الحر)، وغيرها من العلل المرضية العضال غير القابلة للعلاج.

ونشير الى بضعة أمثلة، يعرفها الأطباء جيداً:

* إرتفعت الأصابات السرطانية في البصرة 8 – 10 أضعاف، والتشوهات الخلقية- 23 ضعفاً.

* وفي الفلوجة يولد حتى يومنا هذا نحو 147 من بين كل ألف مولود جديد بعيوب ولادية شديدة.

* وفي بغداد أصيب نحو 800 ألف نسمة بالسرطان.وأوضح مصدر في وزارة الصحة بإن أغلب حالات السرطان التي يتم اكتشافها في مستشفيات بغداد تصيب أشخاصاً يسكنون أطراف العاصمة، ولا سيما الشرقية منها.وقد تم تسجيل مئات حالات الإصابة بالسرطان في الأشهر الأخيرة في بلدات جسر ديالى، والمدائن، ومعسكر الرشيد.وأن منطقة جسر ديالى القريبة من موقع التويثة تعاني من تدهور صحي خطير، وتسجل أعلى حالات الإصابة بالسرطان.وأكد عضو نقابة الأطباء العراقيين الدكتور محمود صالح إن الكوادر الصحية العراقية رصدت أكثر من 40 نوعاً من السرطان في بلدة جسر ديالى وحدها، مبيناً أن بقية مناطق شرق بغداد تشهد انتشارا لأنواع أخرى من السرطانات[13].

ولسوء الأوضاع البيئية حذرت وزارة البيئة من مخاطر التلوث البيئي على انخفاض متوسط عمر الإنسان العراقي. وقال وكيل الوزارة كمال حسين لوكالة " شفق نيوز" إن "متوسط عمر الإنسان في العراق وصل إلى 60 عاما وفق دراسات وبحوث أجرتها الوزارة منذ عام 2006، وهو بانخفاض مستمر.

على صعيد اَخر، أشار تقرير حديث للبنك الدولي بعنوان:" المناطق الملوثة جراء الحروب في العراق: معالجات تلوث الارض لاسترجاع الحياة فيها"، صدر  في كانون الثاني 2024، الى ان الخسائر والأضرار التي لحقت بالقطاع النفطي والزراعي والصناعي جراء الحروب المتعاقبة التي شهدها العراق، قُدِرت بنحو 3.5 تريليون دينار عراقي، مع تدمير 47% من مساحات الغابات الطبيعية في البلد وتلوث 2.4 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة بالألغام مما يحول دون سهولة استغلالها.

وشمل التقرير مناطق معينة تعرضت لأضرار الحرب في كل من محافظة بغداد والانبار وبابل وديالى وكركوك ونينوى وصلاح الدين. وأشار الى ان الحروب المتعاقبة كانت متميزة باستهدافها إلحاق اضرار بممتلكات البلد النفطية والصناعية. وقد سبب ذلك ليس فقط خسائر اقتصادية، بل وتلوث الهواء والأرض والتربة والمياه على نطاق واسع جدا لم يشهد له مثيل.

وحذر البنك الدولي انه من دون إجراء أي تدخل لمعالجة هذه المشاكل فانه من المتوقع ان يكون لتلوث الأرض عواقب و آثار طويلة الأمد على سلامة وصحة و معيشة مجاميع سكانية، مع عواقب شديدة على الفئات المتضررة من أبناء المجتمع الذين يستمرون بالتواجد في هذه المواقع الملوثة لأغراض زراعية وتربية الحيوانات وانشطة محلية أخرى. ويُقدرُ تعداد هذه المجاميع السكانية المعرضة لتبعات التلوث بنحو 3 ملايين نسمة من نازحين داخليين بضمنهم نساء وعوائل تعيلها نساء وأطفال وشباب.

وبالإضافة الى المناطق الملوثة في المحافظات التي شملها التقرير في وسط وشمالي العراق فان هناك بعض المناطق الملوثة الأخرى في جنوبي البلاد. ويتعلق الأمر أيضا بالأراضي الملوثة بالألغام والمخلفات الحربية المتفجرة[14].

خامساً- الأستناد الى مبادئ القانون البيئي الدولي:

يُعرفُ "القانون البيئي الدولي" بأنه:  مجموعة القواعد و مبادئ القانون الدولي العام التي تنظم نشاط الدول في مجال منع و تقليل الأضرار المختلفة، التي تنتج من مصادر مختلفة من المحيط البيئي أو خارج حدود السيادة الإقليمية.

أحد مبادئ القانون البيئي الدولي هو مبدأ "الملوث الدافع"، والمقصود به ان الموث ملزم بتنظيف ما لوثه. ويوضح أن كل شخص تسبب نشاطه بضرر بالبيئة أو يمكن أن يسبب في إلحاق الضرر البيئة، يتحمل بمقتضاه نفقات كل تدابير تنظيف العامل المسبب للضرر والوقاية من التلوث و التقليل منه و إعادة الأماكن و بيئتها إلى حالتها الأصلية.

وضمن القانون الدولي مبدأ التعويضات كالتزام ناتج عن ارتكاب دولة عملاَ ما غير مشروع إزاء دولة اخرى من اجل أصلاح ذلك الضرر من خلال التعويض المالي لذلك العمل اير المشروع[15].

وهكذا، وفقاً للقانون الدولي فان إسرائيل والقوات الأمريكية وحليفاتها ملزمة بدفع تعويضات عن الأضرار التي ألحقتها ببيئة العراق وشعبه.وكان لزاماً عليها ان تسلم العراق خرائط إستخدام الأسلحة، وكذلك الألغام الأرضية والسموم التي دفنتها في الأراضي العراقية.

سادساً- مطالبات لم تنفذ.. للعلم

لم يطالب النظام البعثي بحقوق العراق بالتعويضات بشأن قصف مفاعله النووي للأغراض السلمية رغم قرار مجلس الأمن السالف والذي إعتمده بالإجماع،والذي نص على أنه "من حق العراق الحصول على تعويضات عن الهجوم على مفاعله النووي".

ولم تكن ذرائع النظام المقبور مقبولة، بل وظل النظام البعثي يتستر على تداعيات العدوان بذريعة أنه " لا يريد إثارة الذعر" بين المواطنين، وكأنه كان " حريصاً" على حياة وصحة ونفسية العراقيين، وهو الذي خاض الحروب الداخلية والخارجية العبثية ضمن منطلق نهج التسلط والهيمنة. والكل يعلم أنه سكت عن المطالبة بحق العراق ليغطي على عاره وجبنه وعنجهياته الفارغة.

وإتخذت الحكومات المتعاقبة التي جاءت بعد سقوطه ذات الموقف،مع الفارق كثرة الكلام الخالي من الأفعال. فلم تتجرأ ولا واحدة منها على مطالبة إسرائيل بالتعويضات لقصفها مفاعل تموز، ولا من الإدارة الأمريكية وبريطانيا وغيرها لإستخداما الأسلحة المشعة في أعوام 1991 و 1998 و 2003 و 2004،فلوثت العراق بإشعاعات تعادل أشعاعات 250 قنبلة ذرية من قنابل هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين..

لكنه جرى كلام كثير من قبل العديد من المسؤولين، وأطلقت وعود عديدة في هذا المضمار، ولم تنفذ.

ففي عام 2005 أعلنت  د.مشكاة المؤمن وزيرة البيئة ان وزارتها  تسعى وبكل الوسائل الى رفع دعوى قضائية وجرمية على من تسبب في تلوث البيئة العراقية على مدى السنوات السابقة[16]. لكنها ليس فقط لم تف بذلك، وإنما تراجعت عن تصريحاتها بدرجة 180، معلنة أمام الجمعية الوطنية: "عدم وجود تلوث باليورانيوم المنضب في العراق"!!!.

من جهتها، وعدت وزيرة البيئة السيدة نرمين عثمان حسن بمقاضاة من لوث العراق باليورانيوم المنضب،ودعت في المنتدى الوزاري البيئي العالمي في دبي عام 2006 الى ضرورة محاسبة المتسببين للتلوث.وطالبت بإنشاء محكمة دولية لتحديد مسؤولية التلوث في العراق، من شركات وأفراد ومسؤولين محليين، الى حكومات أجنبية. ودعت الى وجوب تطبيق مبدأ" الملوث يجب ان يدفع الثمن" [17]..

وفي العام 2009أعلن عن بدء الإجراءات من جانب العراق بمطالبة اسرائيل بتعويضات عن تدمير مفاعل تموز النووي.وان الأمانة العامة لمجلس الوزراء بعثت بكتابها المرقم 1/2/100 في 25 / 11/ 2009 الى وزارة الخارجية، يتضمن موافقة رئيس الوزراء على قيام الخارجية بتحريك دعوى التعويض ضد اسرائيل.ً.

وفي عام 2010،أعلنت وزيرة حقوق الانسان المهندسة وجدان سالم بان وزارتها تستعد لرفع دعاوى قضائية الى المحكمة الجنائية لتعويض المتضررين من اليورانيوم المنضب، وقالت في ندوة نظمها "المركز العراقي للتنمية الاعلامية" أنه بعد استكمال التقارير ستقوم وزارتها برفع دعاوى في المحكمة الجنائية على الدول التي قامت بهذا الفعل وتعويض المتضررين منه [18]..

وفي عام 2014،دعا نواب من كتل مختلفة مجلس النواب والحكومة الى رفع دعوى قضائية ضد اسرائيل للحصول على تعويضات جراء قصفها مفاعل تموز النووي، وقتلها علماء وطيارين عراقيين[19].

وفي عام 2016،أعلن مجلس النواب نيته مقاضاة إسرائيل وإلزامها بدفع تعويضات مالية من جراء قصفها لمفاعل "تموز"، خاصة وأن المفاعل كان يخص عملية التنمية والتطوير في البلد[20].

وأكدت لجنة العلاقات الخارجية البرلمانية أن ملف قصف اسرائيل مفاعل تموز ما زال مفتوحاً حتى الآن، وأن "وزارة الخارجية تمتلك جميع حيثيات الملف [21].

وفي عام 2021،دعا القيادي في تحالف الفتح علي حسين الفتلاوي وزارة الخارجية العراقية بالتحرك وفتح تحقيق موسع بشأن تورط الجيش الأميركي باستخدام نحو 300 طن من صواريخ اليورانيوم المنضب ضد العراق.  وان الأدلة واضحة جدا حيث انتشار الأمراض السرطانية بشكل ملفت للنظر في مناطق الوسط والجنوب إضافة إلى انتشار الأمراض والأوبئة التي لم يكن العراق يعرفها من قبل".ودعى الحكومة إلى "التوجه للمجتمع الدولي والمنظمات الدولية الإنسانية والمحاكم الدولية لعرض جميع الحقائق والمعلومات واعترافات المسؤولين من كافة دول العالم".[22].

للأسف، كل ما مر ذكره لم يتحقق منه شيئاً.. فهل ستفعلها حكومة السوداني ؟

***

د. كاظم المقدادي

.......................

أكاديمي عراقي متقاعد، متخصص بالأضرار البيولوجية لأستخدام أسلحة اليورانيوم

 

أدانت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، يوم 28 آذار / مارس 2024، المذبحة التي ارتكبتها شرطة باريس بحق تظاهرة سلمية جزائرية، يعود تاريخها الى يوم 17 تشرين الأول / أكتوبر 1961. وأصيب فيها نحو 200 شخص بين قتيل وجريح، ورُميت جثث بعضهم في نهر السين.

وندّد القرار بالقمع الدامي والقاتل بحق الجزائريين، ووضع المسؤولية على موريس بابون مدير الشرطة، الذي اتخذ قرار إطلاق النار على المتظاهرين. وخصّص القرار يومًا لإحياء ذكرى المذبحة ضمن جدول الأيام الوطنية والمراسم الرسمية.

تقدّم "حزب الخضر" بالمقترح، حسب وكالة الصحافة الفرنسية، وعارضه مجموعة من اليمينيين المتطرّفين. واعتبرت النائبة صابرينا صبايحي هذا التصويت تاريخيًا، ويشكل محطة أولية لإدانة هذه الجريمة الاستعمارية، التي قامت بها الدولة، ولعل بقاء الأمر دون حل يؤثر على العلاقات الجزائرية -  الفرنسية، حيث ظلت الجزائر تطالب بإدانة الجريمة والاعتذار الرسمي وتعويض الضحايا، وفقًا لمعايير العدالة الانتقالية، التي تقتضي كشف الحقيقة والمساءلة وتعويض الضحايا وجبر الضرر المادي والمعنوي وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية والأمنية، وصولًا إلى المصالحة.

وجاء قرار الجمعية الوطنية بعد أسابيع قليلة من إعلان قصر الإليزيه، عن زياره الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى باريس ( أواخر أيلول / سبتمبر وبداية تشرين الأول / أكتوبر 2024).

الجدير بالذكر، أن الرئيس فرانسوا هولاند كرّم ضحايا القمع الدامي في العام 2012، الذين تظاهروا من أجل استقلال الجزائر، واعتبر الرئيس ايمانويل ماكرون، أن تلك الجرائم لا تغتفر، وأوعز إلى اتخاذ خطوات رمزية تهدف إلى تعزيز المصالحة، لكن ذلك لم يرضِ الجزائر، التي تطالب باعتذار صريح وواضح، وتحمّل مسؤولية ما حدث.

والعدالة الانتقالية، سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، تعني كيفية استجابة الأطراف المعنية في المجتمع أو الدول على نطاق العلاقات الدولية، كما هي الحالة التي نحن بصددها، المتعلّقة بإرث الانتهاكات الجسيمة الصارخة لحقوق الإنسان، علمًا بأنها تطرح أسئلة في غاية الصعوبة عن مدى تشرّب الأطراف المعنيّة بالثقافة القانونية، وقناعتها بمدى تحقّق مبادئ العدالة والإنصاف، واستعدادها للوصول إلى كشف الحقيقة، وتحمّل مسؤوليتها، وخصوصًا ما ترتبه من تعويضات مادية ومعنوية، وبالتالي وضع حدّ لعدم تكرارها بإجراء إصلاحات دستورية وقانونية لضمان ذلك .

ولعل الاحتلال الفرنسي للجزائر، الذي دام 132 عامًا، ما يزال لا يريد مغادرة الذاكرة الجمعية، والأمر لا يتعلق فقط بمجزرة باريس، بل بمئات الآلاف من الضحايا، الذين ذهبوا ثمنًا للاستقلال، خصوصًا في ظلّ مماطلة وتسويف وعبارات عمومية لإبداء الأسى، لا تشفي الغليل، ولا تعلن اعتذارًا، وهو أضعف الإيمان كما يُقال.

وكانت أزمة فرنسية – جزائرية قد اندلعت عام 2021، إثر تصريحات أدلى بها الرئيس ماكرون خلال لقائه بمجموعة من الطلبة الجزائريين ومزدوجي الجنسية، وفرنسيين من المعمرين السابقين من بقايا الإرث الاستعماري. وأشار فيها إلى أن الجزائر تستغل ذكريات الحرب الدموية بسبب هيمنة العسكر على السلطة لنظام متحجر، وهو ما أثار ردود فعل شديدة من جانب الجزائر، التي أكدت شرعية الكفاح الوطني، والذي واجهته السلطات الفرنسية المحتلة بجرائم إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية، وهي جرائم لا تسقط بالتقادم.

إن عزوف الدول الاستعمارية عن الاعتذار بخصوص ماضيها الاستعماري، يُبقي ملف العلاقات الدولية بينها وبين الدول التي كانت مستعمَرة (بالفتح)، شائكًا ومعقدًا وملتبسًا، لاسيّما بخصوص مسار العدالة المنشودة، والأمر أحيانًا يتعلق برأي عام مضلَّل، عاش على أمجاد بلاده الاستعمارية، وهو ما يمكن ملاحظته من وجهات نظر وآراء لليمين المتطرّف، والاتجاهات الشعبوية الجديدة.

وكانت الهيئة العامة المصرية للكتاب، قد نشرت ترجمة لكتاب بعنوان "زمن الاعتذار -  مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة" في العام 2019، لمجموعة مؤلفين غربيين، جاء فيه على لسانهم: إن الدول الاستعمارية الغربية تستنكف الاعتذار عن ماضيها، ويلتجئ بعضها تحت ضغط الرأي العام، والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، إلى الاكتفاء بكلمات غامضة وعمومية، مثل إبداء الأسف إزاء الدول الضحية، دون الإقرار رسميًا بحدوث ارتكابات جسيمة، وتقديم اعتذار واضح وصريح، الذي يقتضي تحمّل المسؤولية، في إطار مبادئ العدالة الانتقالية، تلك التي تستتبع التعويض المادي والمعنوي عن الأذى الجسدي والنفسي لما أصاب الضحايا وذويهم من الأبناء والأحفاد، ناهيك عن الأجيال اللاحقة، فضلًا عن جبر الضرر الجماعي، بما فيه إبقاء الذاكرة حيّة.

لقد كابدت الدول المستعمَرة (بالفتح) من الإذلال لكرامتها الوطنية، إضافة إلى نهب ثرواتها على نحو ممنهج، الأمر الذي ترك ندوبًا كبيرةً وجروحًا فاغرةً على تطور مجتمعاتها، فضلًا عن إعاقة تنميتها، وإذا كان مؤتمر ديربن (جنوب افريقيا 2001) قد طالب الولايات المتحدة الاعتذار عن حرب الإباده للسكان الأصليين، فإنه وجّه رسالةً إلى المجتمع الدولي دعاه فيها إلى ضرورة إدانة الجرائم العنصرية، التي ارتُكبت تحت عناوين تفوّق "الرجل الأبيض" و"المدنية" و"التحضّر"، وغيرها من المسوغّات الآيديولوجية، التي تعكزت عليها الدول الاستعمارية، سواء بريطانيا أم  فرنسا أم بلجيكا أم هولندا أم البرتغال أم إيطاليا أم المانيا أم إسبانيا أم غيرها.

ولعل مثل هذا الأمر يصبح أكثر إلحاحًا وراهنيةً، لما يجري اليوم في غزة وعموم فلسطين، تلك التي تقوم بها سلطة الاحتلال من مجازر وحرب إبادة جماعية، وهو ما أكدّته محكمة العدل الدولية كموقف قانوني وأخلاقي وإنساني.

***

د. عبد الحسين شعبان

 

في المثقف اليوم