آراء

عبد الأمير الركابي: عراق بلا منظور وطني عراقي (1-2)

عاش العراق تاريخه الاطول بين تواريخ المجتمعات البشرية بلا رؤية للذات وللخاصيات الوطنيه، والامر لهذه الجهة لايخص ناحية او مسالة خاصة متعلقة بالكيانيه العراقية تحديدا بقدر ماتتعداها الى الواقع المجتمعي البشري ككل، والى اجمالي التشكلية المجتمعية  الكيانيه بعد التبلورات الاولى، الامر الذي يعود تقريبا الى قرابة العشرة الاف عام، عندما بدات في هذا المكان بالذات علائم التشكلية النمطية البيئية الاولى تاريخيا، قابلتها في وقت مقارب حالة شرق متوسطية نهرية اخرى، هي النيليلة التي ستنتج صيغة كيانيه صارت هي النموذج على مستوى المعمورة، تلك هي الصيغة الكيانيه "الوطنية" التي يعتبرها جغرافي مصري مثل جمال حمدان قمة ومنتهى ممكنات التشكل المجتمعية الكياني على مستوى المعمورة.

وتتغلب الصيغة المشار اليها اعلاه لتغدو بمستوى البداهة التعميمية، دلالة على حال لم  يحصل التوقف عنده لاسباب تكاد تكون عضوية، متعلقة بالجانب العقلي من الكينونة والنشوئية البشرية الاعقالية، وعملية ترقي وتصير العقل، لتدل على قصورية كانت غير قابلة للتجاوز في حينه، بالذات وتعيينا بما خص العلاقة بالظاهرة المجتمعية، ومدى وممكنات ادراكها والتعرف على كنهها، وهي حالة ستستمر غالبة عموما على مدى الطور اليدوي من التاريخ البشري، الى ان بدات اولى علامات الاقتراب من الظاهرة المجتمعية ومحاولة ادراك منطوياتها مع بدايات الانقلاب الالي الحديث، هذا علما بان بدايات مايعر ب "علم الاجتماع الغربي" او "اخر العلوم"، لم تفلح في تحقيق اللازم وكشف النقاب عن الحقيقة المجتمعية التي ظلت وقتها والى اللحظة غائبة، كما كانت على مر التاريخ السابق، وماحدث ان الغرب على عكس المطلوب، قد كرس بقوة مفهوم الكيانيه  بصيغتها الاخيرة الحديثة ( الدولة/ الامه)، وعممها، لابل ولم يتوانى عن  فرضها بالقوة والاكراه.

وهكذا ظلت النقيصة الكبرى نفسها قائمه بعدما تحولت مع تبدل نوع الانتاجية التاريخي الى معضلة كبرى، وعامل خطورة يمكن ان تواجهه المجتمعات والبشرية على مستوى المعمورة، فما نشير اليه من نقص ادراكي اصلي، واساس بدئي، ليس مسالة ذاتيه، والمقصود هنا الخاصيات الرافدينيه مابين النهرينيه وماترتب عليها وعلى منطوياتها التاسيسية، مما يستدعي اعادة النظر في الظاهرة المجتمعية وموجباتها، وتصميمها الكوني الذي يعين مستهدفاتها ومن ثم مستهدفات الكائن البشري كينونة ومآلا، فكيانيه النهرين كانت حين قامت بالاصل نقيضا، ومن نمطية ونوع مجتمعي اخر، مقارنه بالنيلي التبسيطي الكيانوي والادراكي، بينما ولدت في ارض النهرين العاتيين المدمرين، الاسباب والموجبات الكونيه الغعلية الموافقه للصيرورة البشرية للاكيانيه المتعدية للكانيه الانيه، تقوم اساسا كاصطراعية ازدواجية من مجتمعيتين: لاارضوية اساس وبدء، وارضوية هي حصيلة الانصباب من الجهات الثلاث المفتوحة شرقا وغربا وشمالا باتجاه ارض الخصب جنوبا، وبدء اصطراعية هذه مع النمطية الاخرى المتشكلة قبلا في غمرة الاصطراع مع البيئة الطاردة، وحالة العيش على حافة الفناء، لتزيدها من الاسباب سببا مهما، يكرس خصوصياتها وجوهر كينونتها اللاارضوية المجافية كليا.

لم يعرف العراق ارض الرافدين وما بين النهرين على مدى تاريخيه، الكيانيه الارضوية " الوطنيه الاحادية" على الاطلاق، وهي كيانيه ادنى كينونة، مقارنه بالنوع المجتمعي الاعلى والاكثر توافقا مع الحقيقة الوجودية البشرية، والباقية خارج البحث، بانتظار توفر العقل بالتفاعلية الطويلة على اسباب الادراكية الضرورية المغفلة، وبغض النظر عن متبقيات وماتراكم من اصناف النظر الى تاريخ العراق،  بناء لبداهة الالحاق بالنموذج القابل للاحاطة، فان ماحدث هنا من تشكلات على مستوى الكيانيه، ظل كونيا  متعديا للوطنيه، امبراطوري مع سرجون الاكدي حاكم زوايا الدنيا الاربع ( قصتة الشخصية ولادة حتى الحكم، هي قصة النبي موسى)اول امبراطور ازدواجي في التاريخ البشري من  2371 ـ 2316، ولاارضوي سماوي نبوي حدسي كوني من اسفل، وصولا الى بابل / المدينوامبراطورية/ كتشكل نهائي للمجتمعية العليا النازلة، بعد عجزها عن اخضاع مجتمعية اللاارضوية واضطرارها للانكفاء خارج المكان، تامينا للريع غير الممكن داخليا، بعد اضطرارها الى خوض الغزوات الداخلية المكلفة جدا لحلب الريع، ماقد استوجب استقلالها في اعلى وعلى حافة المجتمعية اللاارضوية في مدن محصنه ومسورة اعلى تحصين، معزولة عن المجتمعية السفلى، اعلاها تجسيدا لنوعها "بابل" قبل "بغداد"  بانتظار "بابداد"،مع ان الثانيه هي هروب عباسي من الاسفل(1)، من الكوفة الى الاعلى لاجل الاستقلال المدينو/امبراطوري.

والمجتمعية الاصل تبلورا، هي مجتمعية ( الكائن البشري/ البيئة)  تشكلا وكينونة مادامت الانتاجية اليدوية هي السارية،  وقد وجدت في الشرق المتوسطي استهلالا على نوعين، كوني لاارضوي مستقبلي ازدواجي، تبدا اولى تبلوراته وسط مجافاة النهرين وتدميريتهما وفوضاهما المخالفة للدورة الزراعية فيضانا، مع جملة الاشتراطات البيئية الطاردة، وانفتاح الحدود من الجبال الجرداء والصحارى شرقا وغربا وشمالا، ماعدا منطقة الامان التاريخي جنوبا، مقابل المصرية حيث التوافقية البيئية الانتاجية للنيل الذي يفيض بانفاق مع الدورة الزراعية، والحماية التي توفرها الصحراء والبحر في الشمال ضد الانصبابات والغزو، مايجعل المجتمعية من دون ديناميات اصطراعية مجتمعية، من البديهي تشكلها في الدولة، في نمطية دولة احادية، هي الاكثر شيوعا على مستوى المعمورة، مع تعدد اشكالها، وبالاخص اعلاها ديناميات ضمن صنفها، المجتمعية الاصطراعية الطبقية الاوربية على المنقلب المتوسطي الاخر.

تشكليا ومن حيث الديناميات والقانون التفاعلي المجتمعي، تظل الارضوية الاحادية بصيغتها المتعارف عليها تاريخيا هي الغالبة، لانتفاء الاسباب الضرورية واللازمة للتحقق اللاارضوي الرافديني  المشروط اولا بانتهاء القصورية العقلية اليدوي، وانقضاء الطور اليدوي من الانتاجوية، بما يعني بقاء نمطية مابين النهرين خارج الادراكية ابان الطور اليدوي، وانتسابها الى الطور الثاني الالي كشرط موضوعي مادي واعقالي ضروري لحضورها.

ولايعني بدء الانتقال الالي في بداياته، تحقق الادراكية الاليه في حينه وساعته، فاوربا التي يقع بين ظهرانيها الانقلاب المشاراليه، ليست مؤهله لان  تدرك الحاصل فيها، وبالاخص من ناحية النوع النمطي، ومن ثم الكياني، فتظل ابتداء رازحه تحت وطاة الارضوية اليدوية السالفة ونوع ومستوى ادراكيتها للمسالة المجتمعية، الى ان تحين اللحظة، وتتوفر الاسباب والتراكمات الضرورية لانبثاق الرؤية اللاارضوية الازدواجية، مع بدء الانتقالية التحولية البشرية من "الانسايوانيه"، الى "الانسان العقل"، والى اشتراطات التحول من الارضوية الى الكونيه، ووقتها فقط يكتمل الانتقال التاريخي من اليدوية الانتاجية الى الاليه بصيغتها العليا / التكنولوجية.

***

عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم