آراء
كاظم المقدادي: مهمة معالجة المشكلات البيئية المتفاقمة.. ملاحظات أولية (5)
منذ سنين طويلة يعيش العراقيون في بيئة ملوثة بشتى صنوف الملوثات البيئية، بما فيها الخطيرة. ويشهد أهل بغداد بان البيئة المتدهورة في العاصمة وأطرافها تفاقمت في العقدين الأخيرين، بدلآ من تحسنها، كما يُفترض. وان ظاهرة إختناق المواطنين بالغازات الضارة والروائح الكريهة، ليست جديدة، ولا هي وليدة اليوم، لكنها بلغت ذروتها في التأزم مع إنتشار وإتساع الرائحة الكبريتية، التي يعزوها خبراء بيئيون إلى أسباب عديدة،وفي مقدمتها انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكبريت الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري في المصافي والمعامل. بيد ان خبراء وزارة البيئة لم يتفقوا على أسباب محددة. ومما فاقم من الظاهرة أكثر هو عجز الحكومات المتعاقبة عن معالجتها.
الى هذا، أكد تحقيق استقصائي نشره موقع (DARAG) زيادة إجمالي حجم حرق الغاز في العراق بنسبة 50 في المائة خلال الفترة 2012-2022 ليصل 15.8 مليار متر مكعب في السنة، مما سبب في انبعاث 40.8 مليون طن من ثاني أوكسيد الكربون، وأكد بأن الشركات الأجنبية، لا سيما الأوروبية منها، تمارس الحرق في العراق، على رغم أن هذه الشركات ملتزمة بقوانين صارمة في بلادها وتلتزم باللوائح والإجراءات المتعلقة بالاستدامة وفق مبادرة البنك الدولي (ترجمة وإعداد: "طريق الشعب"،3/10/2024).
وكان الناشط البيئي والإعلامي عادل فاخر قد أوضح في تقرير ميداني ان " العراق يعاني منذ سنوات من ارتفاع معدلات التلوث البيئي، ومن تفاقم تبعاته، وتُعدُ العاصمة بغداد من أكثر المحافظات العراقية تسجيلا لنسب التلوث، بعد أن قارب عدد سكانها 9 ملايين نسمة، وهو ما يعزوه مراقبون لغياب التخطيط والعشوائيات، وعدم بناء مدينة إدارية جديدة للتخلص من التلوث الذي بلغ مستويات خطيرة أثرت على صحة الإنسان."..وأضاف :" تشهد مدينة بغداد تلوثا متعدد الأبعاد في التربة والمياه والهواء، مما يؤثر على حياة السكان بشكل عام، ويزيد من معدلات التلوث وانتشار الأمراض كالربو والأمراض السرطانية وغيرها" ("الجزيرة.نت "، 16/12/2022).
وأكد رئيس المركز الستراتيجي لحقوق الانسان فاضل الغراوي ان اهم مصادر لارتفاع انبعاثات ثاني اوكسيد الكاربون في العراق هي قطاعات النفط والكهرباء والنقل حيث تحتل الغازات المصاحبة لحقول النفط المرتبة الاولى بنسبة 450% ("المدى":،28/7/2024).
وأعاد الباحث في الشأن البيئي عبد الجبار الملا التذكير بتقرير دولي، أعده باحثون أمريكيون في "مركز دراسات الحرب في نيويورك" كشف أن الغبار في العراق يحتوي على37 نوعاً من المعادن ذات التأثير الخطير على الحياة والبيئة "" ( "صوت العراق"،19/9/2024).
وأشرنا في حلقة سابقة الى ما أورده الباحث والأعلامي د. صباح ناهي عن دراسة جديدة أنجزتها مؤخراً أستاذة الهندسة البيئية د. سعاد ناجي العزاوي من إن "العراق من الدول التي تضاعف فيها انبعاث ثاني أكسيد الكربون خلال العقد الماضي بشكل كبير، إذ يحرق 1.7 مليار قدم مكعبة يومياً من الغاز الطبيعي المصاحب للاستخراج النفطي. وشكل انبعاث ثاني أكسيد الكربون في العراق للفترة (2013-2020) ملايين الأطنان" (" Indepemdentعربية"،26/10/ 2024).
الى هذا، إحتل العراق المرتبة الثالثة كأسوأ بلد في العالم في الحفاظ على الطبيعة، بعد حصوله على 43.3 نقطة فقط على مؤشر الحفاظ على الطبيعة لعام 2024. ويأتي ذلك بسبب فشل "أولياء الأمر" في معالجة ظاهرة التغير المناخي، والتصحر، والعوامل الملوثة للبيئة، وحرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط، وانتشار النفايات ورميها في الأنهار، وعدم تنمية الغطاء الخضري، أو تطوير الإنتاج الزراعي، وحماية الحياة البرية والثروة الحيوانية. هذا واعترفت الحكومة بتعرض 7 ملايين عراقي لآثار التدهور البيئي، لكنها أخلفت بوعدها بمعالجة هذه المشكلة التي باتت تهدّد الأمن الغذائي والصحي والمجتمعي ("طريق الشعب"، 31/10/2024).
وحل العراق ضمن الدول الاعلى تعرضا لمخاطر الكوارث الطبيعية في 2024، فمن أصل 193 دولة حل بالمرتبة 63 وبعدد نقاط بلغ 9.24 نقطة مخاطر، ما يجعله ضمن نطاق المخاطر العالية، وهي ثاني مرتبة بعد المخاطر العالية جدا. وعلى الصعيد العربي، جاء العراق بالمرتبة العاشرة بعد كل من اليمن، مصر، ليبيا، سوريا، المغرب، السودان، تونس، الجزائر والسعودي.
ويجمع المؤشر بين عوامل التعرض للكوارث التي تحدث والكثافة السكانية في المناطق المتضررة، بالإضافة إلى قياس مدى الضعف والافتقار إلى القدرة على التكيف، فيما تشمل الكوارث الطبيعية الأعاصير والفيضانات والجفاف والزلازل ("السومرية نيوز"، 11/9/2024).
أما "مؤشر جودة الحياة المرتبطة بتلوث الهواء" لعام 2024، فقد كشف ان اكثر المناطق تلوثا في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا تقع في العراق، حيث بلغت نسبتها 78% من هذه المناطق. وبحسب تقرير نُشر عن هذا المؤشر، سيبلغ المتوسط السنوي لمستويات التلوث الجزيئي في العراق 32.4 ميكروغرام/ م3، مما يجعله ثاني أكثر البلدان تلوثا في هذه المنطقة.
وحذر المؤشر من ان السكان في بغداد، عاصمة العراق الأكثر سكاناً في البلاد، سيخسرون 3.5 سنة من متوسط العمر المتوقع. والوضع أسوأ في المناطق الأكثر تلوثا، مثل قضاء المحاويل في محافظة بابل، حيث سيفقد نحو 1.3 مليون نسمة نحو 4.1 سنة من متوسط العمر المتوقع بسبب لتلوث الجزيئي.
وأكد التقرير الخاص بالمؤشر ان " من أسباب تلوث الهواء في العراق هي عوادم المركبات، والمولدات الكهربائية، وحرائق مصافي النفط والغاز، والصراع العسكري المستمر في المنطق".
حيال خطورة الوضع البيئي الراهن في العراق، كرست له صحيفة الحزب الشيوعي العراقي، إفتتاحيتها في اليوم العالمي للبيئة (الخامس من حزيران) للعام 2024، تضمنت معلومات وافية عن واقع الحال السائد، مبينة ان "بلادنا في حالة يرثى لها على الصعيد البيئي. فعناصر الحياة ومصادرها الاساسية من هواء وماء وتربة وغيرها، يسمّمها التلوث واسع النطاق وغير المسبوق ، ويحوّلها الى مصادر للامراض والاوبئة الفتاكة والتشوهات الولادية، والى عوامل اساسية في تردي جودة الحياة وتدهور ظروف العي"..
وأضافت:" تُظهر المعلومات المتداولة ان التلوث ناجم عن انبعاثات عوادم السيارات ومولدات الكهرباء ومحطات الطاقة الكبرى والمنشآت النفطية والمعامل وسواها.وبينت أيضاً عدم معالجة مياه الصرف الصحي والمجاري ومياه المبازل، والمصانع، والمستشفيات، وعدم طمر او تدوير ومعالجة عشرات آلاف الاطنان من النفايات يوميا، وعدم الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يسببه التجريف المتزايد للاراضي الخضراء وازالة الغطاء النباتي .. ا".
ونبهت الإفتتاحية: " ان التلوث الناجم عن هذه وغيرها من العوامل يتفاقم باضطراد، وان تأثيره يتضاعف بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض مستويات هطول الامطار وشح المياه، وما يؤدي اليه هذا كله من جفاف وتصحر. لكن الاخطر هنا هو ان هذه التطورات المثيرة لأشد القلق، لا تقابلها اجراءات حكومية مناسبة، توقفها وتبدد مخاطرها"("طريق الشعب"،6/6/2024)..
وتحت عنوان "واقع بيئي متدهور" تضمن التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي (4-5 تموز 2024): ان العراق يواجه تحديات بيئية كبرى، فعناصر الحياة ومصادرها الأساسية من هواء وماء وتربة وغيرها، يسمّمها التلوث واسع النطاق وغير المسبوق، ويحوّلها الى مصادر للامراض والاوبئة الفتاكة والتشوهات الولادية، والى عوامل أساسية في تردي جودة الحياة وتدهور ظروف العيش.
وتظهر المعلومات المتداولة ان التلوث الناجم عن انبعاثات عوادم السيارات ومولدات الكهرباء ومحطات الطاقة الكبرى والمنشآت النفطية والمعامل وسواها، وعن عدم معالجة مياه الصرف الصحي والمجاري ومياه المبازل والمصانع والمستشفيات، وعدم طمر او تدوير ومعالجة عشرات آلاف الاطنان من النفايات يوميا، وعدم الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والذي يضاعفه التجريف المتزايد للاراضي الخضراء وازالة الغطاء النباتي. ان التلوث الناجم عن هذه وغيرها من العوامل يتفاقم باضطراد، وان تأثيره يتضاعف بفعل التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات هطول الامطار وشح المياه وتدمير الغطاء النباتي والتقليل المتواصل للمساحات الخضراء، وما يؤدي اليه هذا كله من جفاف وتصحر، واجواء متربة ومغبرة.
ومن القضايا المفصلية والأساسية في وقف هذا التدهور البيئي هو تأمين المياه للأغراض المختلفة، خصوصا بعد تمادي الجارتين تركيا وايران في حرمان العراق من حصته العادلة في مياه نهري دجلة والفرات".
وإختتم ان " حزبنا يتابع باهتمام كبير تدهور الواقع البيئي في العراق، ويعتبره من أكبر وأخطر التحديات التي تواجه حاضر بلدنا ومستقبله، وينبغي أن تكون البيئة في صدارة القضايا التي تستدعي اهتمام القوى والأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني والأهلي، والحكومة الإتحادية والحكومات المحلية، ولكن ما يثير القلق ان هذا كله لا تقابله اجراءات حكومية مناسبة، تحد منه وتوقف مخاطره.
كما ان وزارة البيئة مهمَلة، فهي وزارة رقابة وبحوث لا وزارة قرار وتنفيذ، مجردة من الصلاحيات عمليا، وتعيش على فتات من التخصيصات المالية لميزانيات الدولة السنوية.
وان الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة مسؤولة عن إيلاء الموضوع البيئي ما يستحقه من اهتمام ودعم عمل مختلف الجهات ذات العلاقة، وان تعطي مؤسسات الدولة على اختلافها مثالا محفزا في هذا السياق. كما انه يتطلب زيادة التخصيصات لوزارة البيئة كي تنهض بدورها ("طريق الشعب"، 20/7 / 2024).
من جهته، أكد رئيس تحرير صحيفة "الصباح"، في افتتاحيتها ليوم 16/10/2024، بعنوان: "نفايات سامة": " لا يوجد في العراق حتى الآن قانونٌ يُعنى بالنفايات وكيفيَّة التعامل معها والحدِّ منها وتقليل أضرارها. وطوال السنوات الماضية كانتْ مدن العراق وضفاف أنهاره وهواؤه عرضةً لما تُلقيه المعامل ـ وأغلبها لا يُقيم وزناً لسلامة البيئةـ من نفايات، فتمتلئ الأنهار بالمخلّفات السامّة والهواء بأبخرةٍ لها مفعول قاتل.
وخلال تلك السنوات كانت المسألة تُثار في الإعلام من دون أنْ تُعطى الاهتمام الواجب، وكانت تتكرَّر في وسائل التواصل الاجتماعي شكاوى المواطنين من رائحة كبريت تملأ هواء بغداد وتسبِّب اختناقات خصوصاً للذين يعانون مشكلات في جهازهم التنفسيّ. إلّا أنَّ الأيام الماضية شهدتْ بلوغ هذه الظاهرة حدّاً لا يمكن السكوت عنه، فقد بلغ تلوّث هواء العاصمة حدوداً قياسيَّة، بدلالة التقارير التي تحدّثتْ عن أنَّ بغداد من خمس مدن هي الأكثر تلوّثاً بالهواء في العالم".
واختتم:" اتخذتْ الحكومة إجراءاتٍ عاجلة في محاولة للحدِّ من هذه الأزمة البيئيَّة التي تهدِّد حياة الملايين من العراقيين، غير أنَّ أيَّ إجراء آنيّ يُتَّخذ هو أقلّ من أنْ يكون حلاً جذرياً ما لم يسنده قانون يُشرّع خصيصاً لهذا الغرض. المدن العراقيَّة تختنق وهي بانتظار قانون وإجراءات حاسمة لتتنفس من جديد ".
وما تزال الجهات الحكومية المعنية بحماية وتحسين البيئة العراقية تطلق الوعود، التي شبع منها العراقيون حد التخمة، والحصيلة لم يُنفذ ولا وعد واحد يخص البيئة طيلة العقدين المنصرمين.
***
*الأستاذ الدكتور كاظم المقدادي أكاديمي متقاعد،
متخصص بالصحة والبيئة، عراقي مقيم في السويد