آراء
عبد الأمير الركابي: المنطقه ونهاية الايديلوجيا والتشبهية الابراهيميه (1)

منذ اواخر القرن المنصرم دخل الشرق المتوسطي طورا تازميا استثنائيا، فقد معه بالاضافة للرؤية الذاتيه الغائبه اصلا، امكانية التعكز على المتاح في حينه من ممكنات مستعاره ومنقوله، اهمها تلك التي تعود الى التماهي النقلي مع النموذجية الغربيه الحديثة الاليه، بمقابل حالة "تشبه ابراهيمي" منطو على ايحائية استعادية لتعبيرية تاريخيه مطابقة، هي بالاصل خاصية تاريخيه للمنطقة ومنجزها الكوني بما هي مجتمعية اخرى.
وبين الحركة الوهابية السعودية، ومحمد علي الالباني، انقسم التعبير المميز للمنطقة، من جهه كتيار راغب وعازم على الالتحاق بالحداثة الغربية، فبرك مايسمى بتيار "النهضة العربية" الزائف، ابتداء من الطهطاوي ومحمد عبدة والافغاني، وماتبعهما من تيارات ايديلوجه اوربية منقوله، قومية ويسارية وليبراليه، موحية بامكانيه واحتماليه اللحاق بالانقلابيه الاوربية اعتباطا، ومن دون محاولة اثبات مادي واقعي، مرتكز لرؤية منطلقها الذات والكينونه المجتمعية في لحظتها، ماكان من شانه ان وضع الميل المشار اليه بخانه النزوع النهضوي الالتحاقي الصرف بالاخر، تحت واجهة التساؤل "لماذا تقدم الغرب وتاخرنا؟" بلا محاولة اجابه مرهونه لواقع منطقة تعاني من الانهيار الانحطاطي منذ سقوط بغداد عاصمة الدورة الازدواجية الثانيه عام 1258، من دون ان يخطر على البال سؤال كان المفترض وجوبا ان يحضر بالحاج منذ منتصف القرن الثالث عشر، وصار اكثر الحاحا مع التحدي المتاخر الاوربي، والا فكيف يمكن تخيل امكان تقدم من اي نوع كان من دون التعرف على مسببات وعناصرالمرض العضال الحالة وطاته على الذاتيه منذ بضعه قرون.
على المنقلب الاخر وجد في موضع النهوض الثاني الشرق متوسطي، بعد البدئي المجتمعي الاول الثلاثي النهري، (الثنائي الرافديني ـ الاحادي النيلي)، التعبيرية الكبرى الجزيرية اللاارضوية الختامية النبوية مع القرن السابع، والتي كانت وراء الاختراقية الكبرى اللاارضوية الابراهيمه للشرق وصولا الى الصين والهند واوربا عند طرفها الغربي الاسباني، وماتسببت به من تحفيز للاليات الرافدينيه، ولبنيتها الازدواجية المجتمعية الكونية الاساس، بما جعل من بغداد عاصمة للعالم على مدى خمسه قرون، نهضت بالاقتصاد التجاري الريعي العالمي درجات غير مسبوقة، كان لها الاثر الفاعل الرئيسي في تهيئة الاسباب الانقلابيه التجارية المفضية للصناعية على المنقلب الاوربي، بما قد تمخض اخيرا عن انتهاء الطور اليدوي من الانتاجية مع مايطابقة من نوع مجتمعي.
وعلى المنقلبين كان التوجه المشار له قد اتخذ طابعا تكريسيا للحالة التردوية الانهيارية التاريخيه، فالقول بالنهضة لان طرفا اخر قد حقق نهوضا في ارض وبناء لتشكليته ودينامياته التاريخيه والنمطية المجتمعية، لايمكن ان يصدر الا عن نكوص وقصورية تاريخية، والاعتراف القائل يومها باننا قد "تاخرنا" من دون مايؤشر او يلفت النظر الى احتمالية او مظهر ولو ابتدائيا، دالا على مؤشر نهوض ذاتي من اي نوع كان، حيث لايبقى في اللوحة سوى طرف ناهض على المنقلب المتوسطي الاخر، يقابله طرف مواجه جغرافيا وتاريخيا لاوجود له ضمن الفعالية النهوضية، على العكس هو في حال ترد وانحطاط باعترافه هو، مثل هذه المعادلة لايمكن ان يبنى عليها، او يتوصل من خلالها الى تخريف اخرق من نوع ذلك الذي اعتبر من قبيل الاحتمال او امكانيه اللحاق بالطرف الاخر.
موضوع رئيسي اخر لم يكن متوقعا بالطبع للعقل المتردي ان يقاربه، فضلا ان عن يعتبره منطلقا للحكم والمقارنه بين نهوضين، الحالي الاوربي "الالي " بالدرجة الاولى وهو انقلاب زمني نوعي من اليدوية، والنهوض الاسبق الشرق متوسطي العربي ضمن الاشتراطات اليدوية، لابالوسيلة الانتاجية، بل بالرؤية اللاارضوية الابراهيمه النبوية، التي اخذت المكان ومعه العالم نحو مستوى من الديناميات المجتمعية هي الاعلى مقارنه باية حالة نهوض ابان الدور اليدوي من التاريخ البشري، دلالة على نوع ودرجه علو الديناميات التاريخيه المجتمعية في هذا الجزء من المعمورة، وهو مايعززه ويؤكد حضوره تاريخ البدء والبكورة التبلورية المجتمعية التاريخيه الاولى التاسيسية الحضارية كما معروفة.
فهل من الممكن بناء عليه المقارنه بين "تاخرنا" و "تقدم" الاوربي الحديث، ومااللازم الواجب تدبره والنظر فيه عند المقارنه، او محاولة افتراض امكانيه التشابه بعد ماهو حاصل لدى الاخر، بغض النظر عن نوعه قياسا الى مايميز التاريخ التعبيري الشرق متوسطي والياته، مع الاخذ بالاعتبار مايترتب على حضور العنصر المستجد الالي، وكيفيات تفاعليته والنتائج المترتبه عليه في حال انتقاله الى العالم المغاير كينونة وبنية وديناميات، الابراهيمي التعبير والفعالية، وماالمترتبات المضمرة او المتوقعه من مثل هذا النوع من التفاعلية المنتظره افتراضا من هنا فصاعدا.
هذا مع العلم ان الاحادية المفهومية والتصورية تترافق مع ظاهرة الغرب الحديث، وتكرس لاسباب موضوعيه وغرضية، تلك هي المرافقه للعملية النهوضية الاليه الاوربيه، سواء النموذجية الكيانيه، او مجمل النظر الى التاريخ، مع الميل البداهي وارتكازا لقوة الق وسطوة ماقد انجز وتحقق من قفزات معرفية وعلميه، لتعزيز المركزية النموذجيه الغربيه وسيلة للهيمنه على مستوى المعمورة، وفي حين كانت الضرورة وقتها تستدعي بالحاح البحث عن الذاتيه، وعن الهوية التاريخيه للمنطقة ومنجزها التاريخي الهائل، والشامل في العصر اليدوي، صادق العقل الشرق متوسطي العربي على التنازل عما هو ليس جديرا بالخوض فيه، او مقاربته، الامر الذي كان من شانه الاساءة الى الحدث الاوربي نفسه، فتكريس الاحادية والمركزية الاوربيه الابتدائية الاليه ليس في صالح اوربا، ولا العالم، فالديناميات الانقلابيه التي تبدا بالاله، هي منطلق بدئية مجتمعية وتاريخيه اخرى غير تلك الاولى اليدوية، والاله ومضمراتها تحتاج الى رؤية كونية اخرى لن تكتمل ولا هي مجهزة مسبقا، ومن دون جهد اصطراعي شامل تحولي انقلابي، ليس من حق احد افتراض اكتماله فورا لحظة انبثاق الالة بصيغتها الابتدائية المصنعية، قبل التكنولوجية والتكنولوجية العليا.
هنا نواجه مسالة غاية في التعقيد والحساسية، قد تخفف من وطاة ماقد ارتكبه العقل العربي، ان كان له وجود فاعل وقتها، من اعتباطية من الصعب نسبتها الى العقل المكتمل، تلك هي نقيصة تعذر التعرف على الذاتيه والهوية المجتمعية التاريخيه التي ظلت تحكم تاريخ المنطقه، برغم دورات تاريخها الصعودية والانقطاعية، بحيث ظل العقل اجمالا قاصرا ادراكا دون نوع وطبيعة البنيه المجتمعية، الامر العائد الى واحده من اهم الخاصيات البشرية التاريخيه بما خص العقل بازاء الظاهرة المجتمعية، والنكوص دونها، لابل وعدم الانتباه لها كمعطى قابل للاحاطة حتى وقت قريب.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي