آراء

عبد الحسين شعبان: بيض الفساد حين يفقّس

عشية الذكرى اﻟ 76 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 كانون الأول / ديسمبر 1948)، احتفلت البشرية باليوم العالمي لمكافحة الفساد (9 كانون الأول / ديسمبر)، وذلك استجابة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يقضي بنشر الوعي بخطورة ظاهرة الفساد على المستويات السياسية والإدارية والمالية، وذلك انطلاقًا من اتفاقية الأمم المتحدة التي أبرمت في 31 تشرين الأول / أكتوبر 2003، والتي دخلت حيّز التنفيذ في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2005.

فايروسات الفساد

تمتدّ ظاهرة الفساد لتشمل جوانب الحياة كافة، حيث تكمن خطورتها في الآثار السلبية التي تتركها على التنمية والاستثمار وانخفاض الانتاج، حيث تنتشر فايروساته بالتكاثر على عموم جسد الدولة، ابتداءً من تأثيره على حكم القانون ونزاهة الانتخابات، فضلًا عن استشرائه في مفاصل العلاقات السياسية، إضافةً إلى انعكاساته الأخلاقية، التي ستقود إلى تفشّي الرشا وغياب الرقابة والمساءلة، واستبدال ذلك بتسويات سياسية أو صفقات اقتصادية على حساب العدالة، وهو الأمر الذي لا يؤثر على المجتمع فحسب، بل سينعكس على سلوك الأفراد كذلك.

وتُعتبر الأنظمة الشمولية والاستبدادية، سواءً المدنية منها أو الدينية، بيئة صالحة لتفقيس بيض الفساد، خصوصًا بغياب الحكم الرشيد وانعدام الشفافية وشحّ حريّة التعبير وتعطّل المسائلة، وهو ما عكسته تقارير "المنظمة العالمية للشفافية" ، وكذلك "المنظمة العربية لمكافحة الفساد".

وحسب التقارير الدولية لعام 2023، جاءت الدانمارك وفنلندا ونيوزلندا في طليعة دول العالم الأقل فسادًا، وفي الوقت نفسه، كانت بعض الدول مثل سوريا وفنزويلا والصومال في أسفل قائمة البلدان الأكثر فسادًا في العالم. وعلى الرغم من المساعي المبذولة لمكافحة الفساد في العراق، إلّا أنه ما يزال حسب التصنيفات العالمية من الدول الأكثر فسادًا، وقد كشفت ما سمّي بسرقة القرن، التي أثارت ضجّة كبرى في العام 2022 عن تورّط الكثير من كبار السياسيين العراقيين والمسؤولين الحكوميين، الذين ظهروا غارقين في الفساد حتى أذنيهم، وهو ما أثار حفيظة الشارع العراقي، بل والعربي، الذي أخذ يتندّر بسخرية سوداء عن أننا لم ننتهِ بعد من مناقشة "صفقة القرن" حتى داهمتنا "سرقة القرن" .

ووفقًا للمفوضية العليا لمكافحة الفساد فإن أكثر من 1000 مسؤول عراقي رفيع المستوى بينهم وزراء ووكلاء وزراء ومدراء عامين ومستشارين ونواب، ناهيك عن المواقع الأولى في الدولة، كانوا قد اتّهموا بالفساد، وهناك ما يزيد عن 15 ألف ملف من الدرجة الأولى أمام المفوّضية والقضاء.

الفساد ظاهرة عالمية

صحيح أن الفساد يُعتبر ظاهرةً عالميةً، إلّا أن حاجة الدول النامية إلى مكافحته أشدّ بسبب غياب أو ضعف حكم القانون، فضلًا عن شح الثقافة الديمقراطية والحقوقية، وعدم استقرار المؤسسية في العمل على صعيد الإدارة والأفراد، ناهيك عن ضعف الشعور بالمسؤولية وقصور حريّة التعبير والصحافة الاستقصائية.

وكثيرًا ما أخفقت البلدان النامية ومنها البلدان العربية في محاولاتها لمحاربة الفساد، وباءت الخطط بالفشل بسبب غياب وعي جماعي يرسخ ثقافة المساءلة والشفافية والالتزام الأخلاقي، إضافة إلى عدم التعاون بين المؤسسات الحكومية والمنظمات الوطنية والدولية، وحجب حق الاطلاع على المعلومات.

ولكي تسهم الحملات الوطنية لمكافحة الفساد بقسطها، لا بدّ من مشاركة الأفراد والجهات خارج نطاق القطاع العام والمؤسسات الحكومية، مثل منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات والنشطاء المنشغلون بمكافحة الفساد للتصدّي لهذه الآفة الخطيرة، ويحتاج الأمر إلى تحالفات إقليمية ودولية، انسجامًا مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لضمان جهود جماعية وفاعلة للحد من هذه الظاهرة.

الفساد ضدّ الفساد

ثمة فساد من نوع جديد يزعم مكافحة الفساد، حيث أن بعض الجهات الرسمية التي يتم إنشاؤها لمكافحة الفساد سُرعان ما تنخرط هي في الفساد ويسيل لُعابها له طالما لم تتوفر سبل المساءلة الجادة والمسؤولة، وكثيرًا ما يتساءل المواطنون، هل سيضع المسؤولون عن مكافحة الفساد المالي والإداري حدًّا له، أم سيضيف أعباءً جديدة تكرّس البيروقراطية السائدة؟ وأحيانًا يعلو صوت الفاسدين بالحديث عن ظاهرة الفساد ومساوئه في صخب وضجيج يستهدف التغطية على فسادهم، سواء كانوا في السلطة أم خارجها من المتواطئين معها.

ويمكن القول أن الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، وهو الذي يموّله ويغضّ النظر عن تداعياته لتشاركهما في المصالح، كما أنه يسهّل مهماته ويغطّي على مرتكبيه؛ وتتعدّد أسباب الإرهاب اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، وهو انعكاس لظاهرة التعصّب، وهذا الأخير حين يتحوّل من التفكير إلى التنفيذ يصبح تطرفًا، والتطرّف يصير عنفًا إلى أن يُصبح سلوكًا، وحين يضرب العنف عشوائيًا يُصبح إرهابًا، وحين يستهدف إضعاف ثقة الدولة بنفسها وإضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة ويكون عابرًا للحدود يوصف بأنه "إرهاب دولي".

جبهات مكافحة الفساد

للوقوف ضدّ ظواهر الفساد وذيوله، لاسيّما التي ترتبط بالمحاصصة والطائفية والانتماءات الضيّقة على حساب الهويّة الوطنية، وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة يتطلّب العمل على أربع جبهات؛ الجبهة الأولى - بناء المؤسسات وتوطيد الأطر المؤسسية وتعزيز الشفافية في القطاع العام وعموم أجهزة الدولة؛ أمّا الجبهة الثانية - فهي القضاء، الذي لا بدّ له أن يكون مستقلًا ونزيهًا ومحايدًا وعادلًا في إطار حكم القانون، بحيث يكون رادعًا؛ والجبهة الثالثة - تتمثّل في إعادة النظر بالتشريعات والقوانين النافذة، وسن طائفة جديدة منها، التي تنسجم مع القوانين الدولية التي تحارب منظومة الفساد؛ والجبهة الرابعة - رفع مستوى الوعي بخطورة هذه الظاهرة والتثقيف ضدّها وإشراك منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات للقيام بدورها التوعوي والتنويري.

ولا بدّ للشباب من القيام بمبادرات وأنشطة من شأنها عرض بعض التجارب الدولية والإقليمية والتدريب والتربية على سُبل مكافحة الفساد، والدعوة إلى تفعيل آليات عملية لتعزيز المساءلة والشفافية وكشف جراثيم الفساد المنتشرة تحت أسماء مختلفة، باعتبارها "ثقافة" تقوم على "التذاكي" و"التشاطر"  و"التكسّب" و"الفهلوة" على حساب تنمية البلاد وتطوّرها، ونزاهة الأفراد والمؤسسات وصدقيتها.

بريمر وفساده

يكفي أن نشير إلى ما فعله الفساد في بلد خرج لتوّه من رحم الديكتاتورية، فخلال عام واحد من حكم بول بريمر السفير الأمريكي المطلق الصلاحيات في العراق (13 أيار / مايو 2003 - 28 حزيران / يونيو 2004)، بدّد لوحده نحو 8 مليارات و800 مليون دولار، وذلك بعد أن تعرّضت الدولة العراقية إلى عملية نهب منظّمة خارجية وداخلية، إقليمية ودولية، وذهب نحو تريليوني دولار، وهي واردات النفط خلال عقدين من الزمن، هباءً منثورا دون حصيلة تُذكر.

وكان بإمكان هذه المبالغ الطائلة إعادة إعمار العراق وترسيخ كيانيته ووحدته الوطنية وتحقيق السلام المجتمعي، لكن الفساد الضارب الأطناب شكّل عائقًا جديًا أمام تطوّر الأوضاع المعيشية والخدمية والصحية والتعليمية والبلدية والبيئية، بما فيها الماء الصافي والكهرباء والبنى التحتية، خصوصًا في ظلّ زيادة السكّان والتغيّرات المناخية وزيادة التصحّر والجفاف، ولم تنفع جميع محاولات الاحتجاج الشعبية، التي شهدتها بغداد وبقية المحافظات العراقية.

محنة القضاء

وشاعت ثقافة السخرية في مجتمع لم يعرفها إلّا ما ندر، وفقد مصطلح مكافحة الفساد الكثير من معانيه، بل أصبح "شعاراً" يتشبث به الفاسدون أيضًا، وربما قبل غيرهم، حيث يتجرؤون على اتهام خصومهم، أو التواطؤ مع فاسدين آخرين للانتقام أو الثأر أو الكيدية، من المنافسين السياسيين. وقد بيّنت التجربة أن ليس كل من يزعمُ مكافحة الفساد حريص على المال العام، لاسيّما حين يتم غض النظر عن بعض الملفات وإشهار أخرى، فمن يريد مكافحة الفساد حقاً لا يتّجه لزج القضاء في علاقات نفوذ، وتواطؤ مع من يسعى للتسقيط السياسي، أو النيل من منافس، وهناك أمثلة عدة على ذلك، جرت تسوية ملفاتها بعد ضجة صارخة، وتشويه سمعة، ووقف القضاء في الحالين عاجزاً، أو مغلولاً، لاسيّما في ظلّ أعمال العنف والتداخلات العشائرية، وإن كان هناك أمثلة إيجابية جريئة دفع بعض القضاة ثمنها باهظاً، علمًا بأن القضاء العراقي، بغضّ النظر عن الضغوط والتداخلات والتحدّيات السياسية التي تعرّض لها في السابق والحاضر، فقد ظلّ وفيًا لسيادة العدل وإحقاق الحق على الرغم مما أصابه من تصدّعات.

وفي الختام أقول ليس المهم إكثار الحديث عن الفساد وتشكيل الهيئات واللجان، والبحث عن انتشاره، وتسطير توصيات لمكافحته، بل تمكين المؤسسات والأفراد وتنظيمات المجتمع المدني لمكافحته، وتحصين الإدارة بالوقاية، والحماية، والإجراءات الفعّالة لتطويقه، وحصره.

***

د. عبد الحسين شعبان

مفكّر وأكاديمي

 

في المثقف اليوم