آراء
ثامر حميد: صورة الشرق الأوسط في تمنيات محللينا المستغربين
في كثير من الأحيان يجد المرء نفسه محتارا وهو يحاول أن يجد مكانا يضع فيه فئة من فئات "المثقفين" و"الاختصاصين" و"الاستراتيجيين" العرب (وكأن الدول العربية لديها استراتيجيات) الذين يعملون محللين لمختلف الشؤون، وكثير منهم يحمل شهادات عليا ويعيشون في الدول الغربية (لذلك سميتهم بالمستغربين) حيث مولد العقلانية كم يدعى (نفيا لوجود أي عقلانية غير أوربية سادت في أي مكان وفي أي زمن سبق). يبرز ذلك بشكل حاد عندما يتعرضون بالتحليل أو النقد لظاهرة ما في عالمنا العربي خاصة تلك المتعلقة بالصراع المحتد الذي يدور في المنطقة والذي دشن صفحة جديدة نوعيا منه القتال الدائر في بين فصائل تابعة للحركات الإسلامية (حماس والجهاد على وجه الخصوص) في غزة ومجموع الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وبلدان المنفى ومعها ما يسمى ب "محور المقاومة" من جهة والجيش الإسرائيلي الغازي ومن يدعمه من الدول الغربية من جهة ثانية.
وضمن هذا السياق أخذ الهجوم الذي شنه أحد أطراف المحور على قاعدة عسكرية أمريكية ذكر أنها توجد على الحدود بين سوريا والأردن والعراق اهتماما خاصا دون الهجمات الأخرى التي شنتها فصائل عراقية على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا بسبب أن الولايات المتحدة أعلنت عن عدد من القتلي (ثلاثة) وعدد من الجرحى يعتبر كبير نسبيا (خمسة وعشرون) وعبرت عن غضبها الشديد وأطلقت تهديدات أكثر من السابق. كما وأن الجديد في الأمر أيضا أن هذه القاعدة الأمريكية لم يكن يسمع بها أو يعرف عنها كثيرون وهذا ربما كان هذا أحد العوامل التي أثارت الأمريكي لأن الأمر يتعلق بتواجده غير المعلن في بعض المناطق العربية.
وكالعادة ابتدأ الإعلام الأمريكي والغربي، وبالطبع الإسرائيلي،بالحديث عن إيران "وأذرع" إيران وراح هؤلاء "المحللون" العرب الذين ذكرت يرددون الرواية الأمريكية - التي كثيرا ما تصاغ في دوائر الاستخبارات والدوائر المؤيدة لإسرائيل في المؤسسة الأمريكية- ليس بالضرورة حبا بأمريكا (رغم أن هذا الحب موجود بكثرة لدى البعض) بل كراهية بإيران. وبالنسبة لهؤلاء لا يهم النفي الإيراني و لا تأكيد الطرف الذي قام بالهجوم أن القرار نابع من إرادته الخاصة بل المهم لديهم هو ما تقوله أمريكا وإعلامها. إن هذا الميل إلى الربط التلقائي والذي يحيطه هؤلاء "المحللون" بزوبعة من الغبار الكلامي إنما يهدف إلى إعماء العين عن الواقع الحي وكذلك التاريخ القريب والبعيد لحقيقة الصراع الدائر في المنطقة منذ أن وطأت قدم الاستعمار الغربي المنطقة ثم قيام دول إسرائيل في 1948 على أشلاء الشعب الفلسطيني الذي ناضل منذ ذلك الزمن على لملمة أشلاءه وإعادة الحياة إلى جسده المنهك جراء ذلك الظلم التاريخي الذي حل به ليظهر، من خلال ما يقوم به في غزة وفي الضفة الغربية وفي المنفى، أنه يصر على تثبيت وجوده على أرضه التاريخية وعلى لوحة تاريخ العالم.
هذا الشعب الذي ينبض قلبه بمعزوفة الأرض التي فقدها ويقاتل بما ملكت أيديه من أجل استردادها من مغتصبها الغربي منذ 75 عاما ودفع ويدفع من أجل ذلك سيلا من الدماء وأصبح شبانه وأطفاله ونساءه زائرين دائمين للمعتقلات الإسرائيلية حيث يسامون أسوأ أنواع التعذيب والإهانة، هذا الشعب بنظر هؤلاء "“المحللين”" لم يكن موجودا طوال هذا التاريخ بل وجد بعد أن وجدت إيران الإسلامية في سنة 1978. وربما يعتقد بل يؤمن هؤلاء “المحللين” أنه ما أن تهاجم الولايات المتحدة إيران أو تكف يدها (وهي بالطبع تعمل جاهدة على ذلك) فسيذهب الفلسطيني صاغرا إلى المغتصب الإسرائيلي متباكيا طالبا الصفح عما كان يفعله طول كل تلك السنين قائلا له: "هذه أرضكم إفعلوا بها ما تشاءون واعتبرونا ضيوفا مؤقتين عندكم تنتهي ضيافتنا متى ما شئتم. أما إيران فقد خدعتنا وضحكت علينا وإننا لكم تائبون"..وهكذا، بنظر اصحابنا من المتعمقين بالتحليل، يحل الرخاء والوئام على أرض فلسطين (عفوا يصبح اسمها "أرض اللبن والعسل- ملك إسرائيلي صرف"). ولكن مهلا. هل فكر هؤلاء “المحللين” أن هذه النهاية التي يتمنون سوف تعني أنهم سوف يحالون إلى التقاعد لأنهم لن يجدوا بعد ذلك ما يتحدثون عنه وإن وجوهم المجملة بالماكياج سوف لن تظهر ثانية على شاشات التلفزيون؟؟
وإذ بدأنا بفلسطين فلنكمل الكلام بشأن "محور المقاومة" ولنأخذ العراق ليس من باب التفضيل على غيره. دعونا نبدأ بتاريخ قريب لأن هذا التاريخ يرتبط بشكل وثيق بالتواجد الأمريكي المكثف في المنطقة. ألا وهو سنة 1991 عشية الحملة العسكرية الأمريكية على العراق بعد احتلاله للكويت، هذا الاحتلال الذي كان سببا مباشرا لهذا الوجود المكثف كما ذكرت. لقد قام العسكر الأمريكي باستخدام سلاح الطيران بقتل 100 ألف جندي عراقي كان في طريقه إلى الأراضي العراقية منسحبا من الكويت بعد أن أعلن العراق قبول قرار مجلس الأمن واستجابتة للوساطات العربية وغير العربية. هذا الرقم المخيف لعدد الجنود البسطاء الذين كانت تحكمهم سلطة تحتل عندها عقوبة الإعدام أولوية في سلم العقوبات، ذهبت دماءهم هدرا ولم يسأل عنهم أحد ولم يحمل أي طرف المسؤولية عما حل بهم. وإلى اليوم لم أسمع "محللا" او "ناقدا" سياسيا يحمل الأمريكيين مسؤولية هذه الإبادة الجماعية. هذه المجزرة التي ارتكبها الأمريكي بحق جنود عراقيين وهم بحالة شبيهة بالاستسلام يمكن أن تذكرنا دون عناء بقصف هيروشيما وناكازاكي بالقنابل الذرية بعد أن أعلنت اليابان استسلامها وبتدمير مدينة درزدن الألمانية عن بكرة أبيها بعد استسلام النظام النازي). وفي نفس الوقت الذي كان سلاح الجو الأمريكي يبيد هؤلاء الجنود كان يواصل تدمير كامل البنية التحتية العراقية التي كانت تعتبر أفضل بنية تحيتة في الشرق الأوسط. هذا يجب أن ينسى بنظر هؤلاء "“المحللين”" وأول من يجب أن ينساه هو الشعب العراقي.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها فرضت الولايات المتحدة حصارا شاملا على العراق وصفه ممثل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك الجزائري الأخضر الإبراهيمي أنه أقسى حصار عرفه التاريخ (نرى صوره منه في غزة) وفقد جراءه ملايين الأطفال حياتهم بسبب سوء التغذية وانعدام الرعاية الصحية وكانت العمليات تجرى في المستشفيات العراقية بدون مخدر لأن الحصار الأمريكي شمل هذه المادة حجتهم بذلك " احتمال وجود استخدام ثانوي لها من قبل النظام" أي حتى المخدر بنظرهم يمكن استخدامه في صنع أسلحة دمار شامل لم يملكها العراق يوما. ذات يوم وأنا أقرا النشرة الإعلامية الصادرة عن مركز الإعلام الأمريكي في دولة عربية قرأت أن من بين الخروقات التي سجلها المفتشون الدوليون الذين كانوا يفتشون عن "أسلحة الدمار الشامل" العراقية بحق السلطات العراقية أن أحدهم (لم يذكروا من) قد رمى مصباحا كهربائيا انكسر على الأرض أثناء مرور فريق التفتيش. يومذاك علقت ساخرا على «it must have been a chemical bulbالخبر بحضرة أستاذة جامعة بريطانية باللغة الإنكليزية: "
الأمر الذي أثاربالطبع ضحك السيدة البريطانية المعروفة بتسخيفها لكثير من الروايات الأمريكية عن تاريخ الولايات المتحدة لكونها تدرس تاريخ أمريكا فكان نصيبها أن منعت من دخول الولايات المتحدة حتى وهي تحمل فيزا من السفارة الأمريكية في ذلك البلد العربي فخسرت كل ما صرفته من مال من أجل السفر..
وفي سنة 1994 في عهد الرئيس كلنتون قام سلاح الجو الأمريكي مجددا بتدمير ما تم إعادة بناءه من البنية التحتية العراقية. ويتكرر الأمر في 2003 على يد أمريكا ثم بعدها في 2014 تقوم المنظما الإرهابية من القاعدة إلى داعش- والتي بات الجميع يتفق أنها صناعة أمريكية-بريطانية- باستكمال ما لم يستكمله الأمريكي من مسلسل التدمير. بل وحتى في الحرب مع داعش عندما طلبت الحكومة العراقية معونة سلاح الجو الأمريكي مارس هذا السلاح قصفا عشوائيا خاصة في الموصل والأنبار وترك وراءه دمارا كاملا بحجة قصف مواقع الإرهابيين. (وقد فعلوا ذاك في مدينة الرقة السورية فتركوها خرابا ويعمل الإسرائيليون ما يشبهه في غزة).
هذا التاريخ المشين من التدمير الأمريكي للعراق وشعبه لا يتذكره هؤلاء "“المحللين”" وهم بالأصل غيرمعنيين به وكأنه لم يكن لأن الشعب العراقي بنظرهم عليه أن يعبر عن امتنانه للأمريكان على ذلك. وعندما يطلب البرلمان العراقي من الأمريكان وما يسمى بقوات التحالف بالانسحاب لأنه لم يعد بحاجة لهم لا يستجيب الأمريكيون وعندما تقوم جهات مسلحة كردة فعل وتضامنا مع غزة بشن هجمات على الوجود الأمريكي تثور ثائرة هؤلاء “المحللين” فيصيحون بأعلى أصواتهم: "إنظروا إنها إيران مرة أخرى"..
وكما في فلسطين عندما يتعين على الفلسطيني أن يعتذر من مغتصب أرضه على "سماعه كلام إيران" يعتبر هؤلاء "“المحللين”" أنه ما أن تكف إيران يدها عن العراق حتى ترى العراقيين وهم يعانقون الجنود الأمريكان في الساحات والشوارع ويدعوهم إلى بيوتهم قائلين لهم: "أعتبروا أرض العراق أرضكم وثرواتها شراكة بيننا. أنتم مرحبا بكم في حلكم وترحالكم. . لقد أدركنا إن ما قمتهم به من تدمير للعراق وقتل كان لمصلحتنا أما بالنسبة لإيران فقد خدعونا والآن نطلب منكم الصفح وعفا الله عما سلف"..
أما في لبنان فتاريخ إسرائيل بالاعتداء المتكرر على هذا البلد وسرقته مياهه والاستيلاء على أراض هي تاريخيا جزء من الأرض اللبنانية وتدميرها الشامل لبيروت ومدن الجنوب اللبناني في الحرب التي شنتها على منظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1982 واحتلال جنوب البلد قرابة عقد من الزمن وغيرها من أعمال التخريب التي لم تتوقف يوما ضد هذا البلد فلا شأن لمحللينا بكل ذلك. وعندما تنهض على خلفية ذلك الاحتلال مقاومة تطرد الإسرائيلي من الأرض اللبنانية وتعمل على استرجاع الأرض اللبنانية التي تستحوذ عليها لإسرائيل ثم تقدم الإسناد لغزة وللشعب الفلسطيني تصبح المسألة تستحق اهتمام محللينا. وجريا على عادتهم: "إنها إيران". لا ينكر الإيرانيون و لا المقاومة اللبنانية أنها تتلقى الدعم من إيران. ولكن السؤال يبقى كما هو في فلسطين والعراق: هل لولا إيران لما كان اللبنانيون يبالون بما تفعله إسرائيل بهم؟ هكذا يظن أصحابنا "المحللون".
لقد كانت سنة 1982 إثر الغزو الإسرائيلي للبنان هي بداية ظهور المقاومة اللبنانية والتي ضمت وقتها العديد من الأطراف كالحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي. في ذلك التاريخ كانت إيران منشغلة في حربها مع العراق وكان الحصار الأمريكي يطبق عليها منذ قيامها واستمرت الحرب العراقية الإيرانية حتى سنة 1988 بعدها انشغلت إيرات في تضميد جرح الحرب وإعادة بناء نفسها اي أنها منذ 1978 حتى نهاية الثمانيات لم تكن قادرة على لعب أي دور إقليمي لذلك لم يكن لها أي دور في تأسيس أو دعم المقاومة اللبنانية بل كانت هذه الأخيرة تعتمد على قواها الذاتية وموضوعها الإحتلال الإسرائيلي والأرض اللبنانية. بمعنى آخر كانت هناك عوامل موضوعية بل قانون بشري استلزم قيامها كما قامت أي مقاومة في العالم ضد محتل. فمن أين جاء محللونا بإطروحتهم البائسة "أنها ذراع لإيران؟"..و دون أن نطيل نكتفي بالقول بأنه حسب منطق محللينا ما أن تختفي إيران حتى يتخلى اللبنانيون عن مطالبهم بأرضهم ويدخلوا بسلام ووئام مع إسرائيل تاركين لها حرية كاملة في أن تفعل ببلدهم وأرضهم ما تشاء وتصبح فلسطين بالنسبة لهم شيئا من الماضي لا شأن لهم به..
وكذلك في سوريا. ففي نظر محللينا ما إن توقف إيران تعاملها مع النظام السوري وتتوب للأمريكيين توبة نصوحا حتى يشكل الرئيس السوري بشار الأسد حكومة ائتلافية جديدة تضم في صفوفها ممثلين عن "جبهة النصرة" "وجبهة الخلاص" وعشرات غيرهم من المنظمات الإرهابية فتستتب الأمور في هذا البلد ويسود الوئام والانسجام مع أمريكا وإسرائيل. وبالطبع سوف يقدم النظام السوري الجديد اعتذارا لإسرائيل بسبب ما سسبه لها من ضيق وإزعاج في الماضي بسبب فلسطين..
وفي اليمن ما أن تختفي إيران من الصورة حتى ينسى اليمنيون حوثيون أم غيرهم التدمير الذي مارسه خلال السنوات السبع ما سمى زورا ب "التحالف العربي" والذي دعمته الولايات المتحدة وما فعلته بهم جارتهم السعودية طوال عقود مضت قبل ذلك من شراء وإفساد للذمم وتقسيم اليمنيين "شعوبا وقبائل" تفاضل بينهم حسب الولاء والطاعة لها...
وهكذا ينتهي "محللونا" برسم صورة للشرق الأوسط تناسب المزاج الأمريكي والإسرائيلي الذي يحرصون على استرضاءه. وعندما تستكمل الصورة كما في مخيلتهم سيلتفتون لنا قائلين: "إنظروا أترون ما أجملها صورة بدون إيران. أليست أفضل وأجمل من صورة أن تقاوموا وترفضوا ما تطلبه منكم أمركيا وإسرائيل وتتحملون ما تتحملون من جراء ذلك؟..."
***
ثامر حميد