آراء

عبد الأمير الركابي: التحدي الابراهيمي والانحطاط الشرق متوسطي (2-2)

لم يسبق لفكرة الخالق، او "الله"، واكتشافها كضرورة وجودية نوعية مجتمعية ان نوقشت من قبل ضمن سياقات تشكل التعبيرية اللاارضوية، ومستوى الجهد الهائل، ودرجة العبقرية العقلية التي اقتضتها بدلا للارضوية وسبابها الكيانيه الحاجاتيه والبشرية التي اليها تعود التشكليات الكيانيه، مقابل الكيانيه الكونية مافوق، والمتعدية للكيانيه كجغرافيا وكائن بشري، ماكان يستوجب حضور قوة عليا، تجرد الارض من كل اشكال الحضور، او السلطة، او الكيانيه المعروفة، واضعه اياها بعهدة السماء والقوة الخارقة الاعلى، ومتخلصة بهذا من قوة فعل الارضوية الغالبة وجبروتها في حينه، في وقت ماتزال التحققية اللاارضوية مؤجله الى زمن وطور اخر،لم تتوفر اسبابه بعد.
ولنتخيل اليوم كيف واجه العقل الرافديني السومري الاول مسالة (ارض اللاارضوية الكونية العليا)، ومالذي استوجبته في حينه من بنائية شاملة لوجود مجتمعي اخر غير مرئي، موضعه السماء، مع كل مرويته الوجودية، وقصص الخليقة الاولى على الارض، "وادم" الاب الاعلى للكائن الموجود لكي يعمر الارض، وموجبات الكينونه اللاارضوية اليومية السلوكية الموافقه لاحكام السماء، ومايترتب عليها من حساب قادم بعد الموت، حيث العالم الاخر، مايرتفع بالكائن البشري من الارض ليرهن وجوده بكينونة اخرى، وبنهاية وحصيلة مقررة ينتهي عندها الوجود على الكوكب الارضي، ليبدا زمن مافوق الارض، بما جعل الوجود البشري على امتداد التاريخ ازدواجيا، ممتنعا على الغلبة الكلية الارضوية، برغم ملموسيتها وفعلها الحي اليومي الحاجاتي المباشر.
مع ذلك فان هذا الجانب لايلقى اي توقف او مجرد تلبث، حين ينظر الى المجتمعية كظاهرة مع اولى تبلوراتها، فالاركولوجيا الاوربية المتاخرة همها الاول والاخير هو الجانب الارضوي، والبحث عن اللقى والاثار، وما يسمى الوثائق، مع انها ان اكتملت تشكلا لاتمثل الجانب الاساس، فلا يتبقى مهما جرى على يد "الباحثين" وعلومهم، سوى الجانب المبسط المعاش من الوجود المجتمعي من دون منطواه السماوي، الذي يعامل ببداهة على انه مشمول من ضمن الظاهرة الوحيده المجتمعية الارضوية، قد تقتضيها اسباب متعلقة بنواقص الكينونة البشرية.
ان مايذهل لهذه الجهه دلالة على قصورية العقل الارضوي، النكوص امام المنجز العبقري النبوي كفعل فوق ارضوي، من قبل اشخاص من نوع المسيح عيسى او محمد، الاول بظل الامبراطورية الرومانيه، واختراقه لها اعزلا بلا سلاح ولاجيش وحتى من دون اب،مع مع تحقيقة الاختراقية المجتمعية اللاارضوية باستمراره وجودا "حيا" الى اليوم بين تضاعيف جزء هام من المعمورة، بعد الفي عام، او محمد الامي القابع في اخر العالم واكثره " تخلفا"، والمخنوق بحضور فارس وروما هو وقبائل الجزيرة المازومة، ليخرج من ارضه بمائتي الف محارب من الحفاة، فيصل الصين والهند وغربا الى اسبانيا في عشرين عاما وهو مالم يعرف له مثيل ارضوي، ليبقى حيا حيث وصل الى اليوم، بينما ماركس ونظريته الحداثوية الطبقية لم تدم اكثر من قرن ونصف حتى انهارت، وصارت من الماضي، برغم العلمية والديالكتيك وماديته التاريخيه، ما يضعنا امام نوعين من الفعل والعبقرية، احدهما اني محدود خاضع للملموس وحركته وتقلباته، واخر كوني فوق ارضي قابع في الدواخل البشرية، متعد فعالية للفعل الارضي الامبراطوري والعقلي بما لا يقاس ولا يقارن.
عالمان ومجتمعيتان، عدم الاعتراف بثنائتهما المتلازمه هو غمط للاثنين، واسقاط للحقيقة المجتمعية الواقعية بكليتها، مهما يكن النزوع الارضي المادي الاحادي العياني للغلبة المطلقة والواحدية الداله على القصور الادراكي، ونقص الطاقة العقلية، المستفيده مؤخرا ومنذ الختام النبوي قبل الف واربعمائة عام، من الانحطاطية الشاملة على الصعيدين الارضوي واللاارضوي في الموضع الذي عرف ابتداء وقبل غيره، التاسيسات الاولى للازدواج المجتمعي، فلم يبق من اللاارضوية وتعبيريتها غير الفقه والتكرار وقائعا واقوالا تعداها الزمن مع اعلان الختام، فالنبي محمد الذي اعلن كونه الختام النبوي، انما كان وقتها يبلغ العالم عن دخول اللاارضوية طورا اخر غير النبوة والحدس الالهامي، مايستوجب نوعا اخر من التعبيرية، وليس اجترار والامساك بتلابيب ماقد انتهت فعاليته.
هنا يتمثل التحدي الاكبر الوجودي التاريخي الكوني المنتظر، خلافا لما قد ساد الى اليوم من مفاهيم التماهي مع الغرب، ومحاولة الحاق المنطقة بالمفاهيم والنموذجية الغربيه، الامر المتعدي كليا للغرب وماهو محكوم به، بالاخص مع الانقلابية الاليه منذ حلولها هناك بصيغتها الافتتاحية الاولية المصنعية، وماقد تسببت به من انقلابيه عقلية وعلمية على المستويات المختلفة ارضويا، وبما يبقي مفعول الاله ضمن ذات المقاصد اليدوية الارضوية السابقة، في الوقت الذي تتوفر فيه اليوم ومع الانقلاب الالي نفسه، اسباب الانتقال اللاارضوي تعبيرا ونظرا انقلابيا مابعد نبوي حدسي، مرتكزه الادراكية العليّة اي العقلانيه اللاارضوية.
فالاله ليست صيغه واحده نهائية، بل هي محكومة بالتغير والتحور، من مصنعية الى التكنولوجية الانتاجية الحالية، الى التكنولوجيا العقلية العليا، اي هي قوة تامين اسباب الانتقالية اللاارضوية، وليس اقامه المصانع وصناعة السيارات والطائرات، وهذا يستوجب ان يرى اللاارضويون بانهم ذاهبون وشيكا الى الاكوان العليا، وان الوجود على الارض هو حالة مؤقته انتقالية مابين "الانسايوان" المزدوج الكينونه (جسد/ عقلي)، الى الانسان / العقل، الذاهب للانفصال عن الجسد، واخر متبقيات الحيوانيه الباقية عالقة به وحاملته، وهذا ماكان يعنيه من مثلوا اللاارضوية وانبيائها العظام الكبار، وعباقرتها عن زمن التحقق، وان التكنولوجيا العليا هي الثورة الاليه بالمنظور اللاارضوي، حيث الاكتمال والوصول الى المبتغى منها، ومن حصولها في الطرف الثاني من المتوسط، بصفتها ثورة عقلية اخرى، تنهي متبقيات الارضوية المستمرة حتى بعد انبجاس الاله ومانتج عنها من توهمية حداثوية خضعة لهيمنه العقل اليدوي الموروث الراسخ، كان لها ان ظهرت بين تضاعيف مجتمعية ارضوية عالية الديناميات بسبب ازدواجيتها الطبقية.
ثمة جهد هائل وخارق ينتظر العقل اللاارضوي من هنا فصاعدا، لامثيل له ولاسابق، هو مايمثل بعد اليوم الحقيقة التحولية البشرية والانقلابية المتعدية للارضوية والجسدية، مع متبقياتها السائرة للزوال، مثل الموت الجسدي، والحاجاتيه، وكل اشكال الكيانيه الموضعية ونظمها الراهنه، واليدوية المنتهية الصلاحية، الامر الذي سيحتاج الى مالا يمكن الان وصفه من الجهد والعمل الخلاق اللائق بالعقل اللاارضوي المتعدي للقدرات الارضوية المعروفه بسنين ضوئية، وان قوبل بكل الرفض الذي يمكن تخيله او من المستحيل تخيله.
ايها الكائن البشري، انت ذاهب الى العالم الاخر، تلك هي مهمتك التي عليك تحقيقها من الان فصاعدا، بغض النظر عن، وبرغم كل القصورات التي تعاني منها، مع غيرها من المتبقيات الارضوية المانعه، بالاخص لان الاحتمالية تقول بان الشرق الاوسط سيكون هو البؤرة الانتقالية التحولية العظمى كما كان ابتداء، والا فان المتبقي على مستوى المعمورة خيارا في نهاية المطاف، هو الفناء.
***
عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم