آراء
سعيد بوسامر: قبول الاختلاف والتعددية عند الأهوازيين

النسق الثقافي الذي يرفض الاختلاف ويتجاهل قيمة التعددية محكوم عليه بالموت، فالحياة الثقافية تُبنى على التنوع والتفاعل بين المختلفين. الهوية ليست كيانًا مغلقًا، بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال الحوار والتبادل مع الآخر. عندما ترفض ثقافة ما الاختلاف، فإنها تفقد قدرتها على التكيف مع التغيرات وتصبح عاجزة عن مواكبة تطورات العصر، مما يقودها في النهاية إلى الانعزال والموت الثقافي. ويؤكد عالم الأنثروبولوجيا "كليفورد غيرتز" أن "الثقافة هي شبكة من المعاني التي ينسجها البشر من خلال تفاعلهم مع بعضهم البعض." وبالتالي، فإن أي محاولة لإغلاق هذه الشبكة أو رفض التعددية تؤدي إلى تصلب الثقافة وفقدانها لمرونتها، مما يجعلها غير قادرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. من جهة أخرى، يرى المفكر "إدوارد سعيد" في كتابه "الثقافة والإمبريالية" أن "الهوية الثقافية لا يمكن أن تكون معزولة أو منفصلة عن العالم، بل هي دائمًا في حالة حوار وتفاعل مع الآخر." وهذا الحوار هو الذي يضمن استمرارية الثقافة وتطورها، بينما يؤدي الانغلاق والأحادية إلى جمودها وانحسارها. وفي السياق العربي، يقول المفكر "عبد الله العروي": "التعددية هي شرط أساسي لتقدم المجتمعات، فبدونها تصبح الثقافة مجرد صدى للماضي، عاجزة عن مواجهة تحديات الحاضر." وهذا يؤكد أن رفض التعددية ليس فقط تهديدًا للثقافة، بل أيضًا لعملية التقدم الاجتماعي والفكري.
مثال: خلال القرن العشرين، شهدت العديد من الأنظمة السياسية التي تبنت أفكارًا عنصرية أو شمولية محاولة فرض ثقافة أحادية على مجتمعاتها، مثل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أو المانيا النازيه أو البهلوية في إيران. هذه الأنظمة رفضت الاعتراف بالتنوع الثقافي والإثني، مما أدى إلى تفككها وانتهائها بسبب مقاومة الشعوب ورفضها لهذه السياسات. في المقابل، نجد أن المجتمعات التي تبنت التعددية الثقافية، مثل كندا، نجحت في بناء هوية وطنية قائمة على احترام الاختلاف، مما جعلها أكثر استقرارًا وتقدمًا.
الأهوازيون، وهم سكان العرب في الأهواز (المعروف أيضًا باسم خوزستان في إيران)، يتمتعون بتاريخ طويل من الانفتاح الثقافي والتعددية، وذلك بسبب موقعهم الجغرافي الاستراتيجي الذي جعلهم على تماس مع حضارات وثقافات وديانات مختلفة عبر التاريخ. هذا الموقع جعل الأهواز نقطة تقاطع بين الثقافات العربية والفارسية والتركية وحتى الأوروبية (بريطانيا وفرنسة والبرتقال)، مما ساهم في تشكيل هوية ثقافية غنية ومتنوعة وبعيدة عن الأحادية. من أسباب هذا الانفتاح يمكننا أن نشير إلى الموقع الجغرافي المحادي للخليج حيث جعلها على اتصال دائم مع ثقافات وشعوب متعددة، أيضاً التاريخ الحضاري حيث شاهد الأهوازيون ظهور حضارات عدة عندهم وعند جيرانهم، كالحضارة العيلامية والسومرية والبابلية والعربية والفارسية.
على الرغم من انفتاح الأهوازيين وتقبلهم للثقافات الأخرى على مدى التاريخ، إلا أنهم واجهوا صعوبات في أن تتقبلهم الثقافات الأخرى كشعب أهوازي له تاريخه وثقافته، خاصة في السياق الإيراني الحديث. هذه الصعوبات يمكن تفسيرها بعدة عوامل: أولا: السياسات الاحادية الإيرانية التي تنبع من فكرة الدولة الأمة والتي يصر عليها بعض السياسيين، ثانيا: الإعلام المضلل والصورة النمطية للأهوازيين الذي يحاول أن يظهرهم على أنهم مجرد قبائل مشتتة تسكن هنا وهناك بأعداد قليلة. ثالثاً: حالات عدم الاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية المنصوصة في الدستور الإيراني تجاه كل القوميات المتواجدة في إيران (بناء على إحصائية اليونسكو هناك أكثر من ٧٤ لغة وثقافة في إيران) ورابعا: عدم وجود نخبة حقيقية تطالب بالحقوق الأساسية والدستورية.
إذن هذا الأمر يسلط الضوء على أهمية تعزيز الحوار الثقافي والاعتراف بالتنوع اللغوي والثقافي كأساس لبناء مجتمعات أكثر انسجامًا وتفاهمًا في عصر أصبحت التعددية وقبول الآخر والاعتراف بحقوقه أمر بداهي.
***
د. سعيد بوسامر
أبريل ٢٠٢٥