آراء
إبراهيم برسي: الريعية واللامؤسسية.. في دول النفط والزفت

الدول الريعية، تلك التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على الإيرادات التي تأتي من الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، تقدم نموذجًا فريدًا ومختلفًا في السياسة والاقتصاد. في هذه الدول، لا تساهم الأعباء الضريبية ولا الإنتاج المحلي في تمويل الدولة كما هو الحال في الدول الصناعية، بل تقتصر هذه الوظائف على الريع الطبيعي الذي يتم استغلاله وإعادة توزيعه بشكل غير متوازن.
وغالبًا ما تتحول هذه الأنظمة إلى أنماط من الحكم القائم على الولاء الشخصي والتوزيع العشوائي للثروات، مما يعزز من حالة الفساد المستشري وغياب المؤسسات الحقيقية. يتم تثبيت سلطة النخب الحاكمة عبر آليات غير قانونية وغير مؤسسية، مما يجعل القوانين مجرد أدوات تبرير لسلطة غير شرعية وتزيد من تفشي “الزيف” في النظام.
بعد أن لفظني السودان ونظامه الإسلاموي العسكري، لم يكن خروجي مجرد هروب من جحيم السياسة، بل قفزة في الفراغ، حيث لا يقين سوى في الابتعاد عن آلة القمع التي التهمت أجيالًا وأحلامًا ومصائر. لكن الرحيل، مهما بدا فكاكًا، لا يعني القطيعة، بل إعادة تعريف العلاقة مع المكان، مع الذاكرة، مع السؤال الأزلي عن الوطن. و قد كنت محظوظًا أن أجد نفسي في بلد تُدار فيه الأمور بقواعد واضحة، حيث الدولة ليست انعكاسًا للأفراد، بل كيان مستقل، يتجاوز الولاءات الشخصية إلى منطق المؤسسات، لكن هذه الاستقلالية ليست مطلقة، بل مشروطة ببنية أعمق، بنية لم يكن من السهل تجاهلها.
حين عدت، ولو عابرًا، إلى دول قريبة من السودان، دول احتضنت كثيرًا من أهلي وأصدقائي الفارين من ذات الجحيم، دول تحمل ملامح الثراء والبذخ، لكنها تخفي في عمقها ذات الاختلالات التي جعلتني أفر من وطني.
منذ اللحظة الأولى، كان ثقل الوهم أشد حضورًا من صلابة الواقع. الأبراج الزجاجية، الطرقات الواسعة، العلامات التجارية المتوهجة، كلها كانت تؤدي دورها في رسم صورة الحداثة، لكن ما كان غائبًا هو العمق، ذلك الإحساس بأن وراء هذا المشهد نظامًا يعمل باستقلال عن إرادة الأفراد، عن العلاقات الشخصية، عن تلك المكالمات العابرة التي تفتح الأبواب وتختصر الزمن. لم يكن الأمر مجرد صدمة حضارية، بل مواجهة مع بنية تدور حول ذاتها، تعيد إنتاج أنساقها بصرامة لا تلين، حيث يتغير الشكل لكن الجوهر يظل ثابتًا، وكأن الدول ليست كيانات سياسية وإدارية، بل مجرد تقنيات للهيمنة، آليات مُحكمة لإدارة الامتثال، حيث لا شيء يعمل بالقانون، لكن لا شيء يعمل بدونه أيضًا.
الرعب في هذه المنظومة لا ينبع فقط من فسادها، بل من قدرتها العبقرية على المحاكاة. إنها لا ترفض الحداثة، لكنها تفرغها من مضمونها، تحوّلها إلى أداء، نسخة مشوّهة من الدولة الحديثة، حيث الشكل يتقدّم على الجوهر، والإجراء يحلّ محل الفعل، كما لو أن كل شيء مجرد تمثيل لا يبلغ أبدًا لحظة التحقق. هنا، القوانين ليست قوانين، بل أدوات انتقائية تُستخدم لتعزيز الهيمنة حين تلزم، وتُترك معلقة حين تصبح عبئًا. المؤسسات ليست مؤسسات، بل هياكل فارغة تحافظ على التراتبية دون أن تنتج شيئًا حقيقيًا. الزمن نفسه يفقد صلابته، لا يسير إلى الأمام، بل يلتف حول نفسه في دائرة مغلقة، حيث التغيير ليس أكثر من إعادة تدوير للفشل بصيغ مختلفة.
ليس هذا الفساد مجرد خلل، بل هو المنطق الذي تعمل به البنية ذاتها، ليس استثناءً بل القاعدة. إنه ليس مجرد انحراف عن مسار الدولة، بل هو الدول كما تشكلت وكما تعيد تشكيل نفسها. هنا، لا يعمل النظام بالمنع الصريح، بل بالإغراء المستمر، لا يفرض الطاعة بالقوة، بل يجعل العصيان أمرًا مكلفًا حد الاستحالة. وهنا، يصبح الإنسان كائنًا رماديًا، عالقًا بين الامتثال والتواطؤ، بين الرفض والتكيف. هل يتمسك بمثالية ستتركه معطلًا إلى الأبد؟ أم ينخرط في اللعبة، مدركًا أن كل تنازل صغير ليس مجرد تكيّف، بل مساهمة في إعادة تدوير المنظومة؟ هنا، لا شيء يُحسم بالمجرد، بل بالتجربة اليومية، حيث تنحلّ الحدود بين الأخلاقي والعملي، حيث يجد المرء نفسه، رغم كل مقاومته، منزلقًا إلى الداخل، يتحول إلى ترس في آلة كان يظن أنه قادرًا على البقاء خارجها.
لم يكن عبد الله العروي مخطئًا حين تحدث عن “الدولة المستحيلة”، ذلك الكيان الذي يبدو دائمًا على أعتاب الحداثة لكنه لا يدخلها أبدًا، يراوح مكانه بين إرث سلطاني لم يختفِ تمامًا، ووعود حداثية لا تتحقق، كمن يقف على عتبة باب لا يجرؤ على عبوره.
الدول هنا ليست أدوات لتنظيم المجتمع، بل مسارح كبيرة لإعادة إنتاج علاقات القوة، حيث القانون نفسه ليس سوى قناع، حيث المؤسسات مجرد ديكور، حيث الفساد ليس مجرد عرض جانبي، بل هو الطريقة الوحيدة التي تستمر بها اللعبة.
إنها ليست دولًا فاشلة، بل دولًا تتقن فن إعادة إنتاج فشلها، تجعل منه ضرورة، تحوله إلى إيقاع يومي، إلى طريقة للحياة.
في فضاء كهذا، لا أحد بريء تمامًا، لأن الجميع، بطريقة أو بأخرى، متورطون في اللعبة. حتى أولئك الذين يرفضون الانخراط يجدون أنفسهم، في لحظة ما، مضطرين للانتظار، ينتظرون المكالمة المناسبة، لأن أي محاولة للخروج الكامل من هذه المنظومة تعني العيش على هامشها، بلا صوت، بلا تأثير، بلا قدرة على الحركة. المكالمة الهاتفية من شخص نافذ تصبح الحل الوحيد في وجه بيروقراطية موظف لا يعرف ماذا يفعل مع سيستم عقيم، حيث لا خيار آخر. في النهاية، الدول الريعية ليست مجرد أجهزة حكم، بل حالات ذهنية، أشكال من أشكال الوعي التي تجعل القمع يبدو طبيعيًا، والفساد ضرورة، والوساطة مهارة أساسية للحياة. إنها ليست مجرد أزمة أنظمة، بل أزمة وجودية، حيث الفرد لا يعيش في دول تقرر مصيره، بل في فراغ ممتد بين القانون واللا قانون، بين المؤسساتية والوصولية، بين الرسمي وغير الرسمي، حيث لا شيء قطعي، لكن كل شيء متوقع، حيث الماضي ليس تاريخًا مضى، بل حاضر يُعاد إنتاجه بلا نهاية، حيث كل محاولة للخروج ليست سوى خطوة أخرى في طريق العودة.
في هذه المنظومة التي تشكلت في دول النفط والزفت، حيث الفائض الاقتصادي يولد نمطًا من العيش قائمًا على التوزيع غير المتوازن للثروات، تكون الدول الريعية آلة لصنع الانتماءات الهشة. في هذه الدول، تتماهى السياسة مع الاقتصاد في علاقة تبعية تامة، حيث يُخضع المواطنون للولاءات الشخصية والوساطة، وتبقى الدول في يد أقلية احتكارية، مما يعزز من سطوة النخب المتنفذة. كما يقول فوكو في تحليله للقوى المنتشرة في المجتمع، إن هذه القوى لا تعمل بشكل مركزي، بل تتمثل في شبكة معقدة من العلاقات التي تشكل “الذات” وتعيد إنتاج التبعية بشكل دائم. في هذا السياق، تصبح الدول الريعية أكثر من مجرد نماذج اقتصادية؛ هي مشاريع للهيمنة اللامباشرة، وهو ما يعزز مفهوم غرامشي للهيمنة الثقافية، حيث تسعى النخب الحاكمة إلى تثبيت سلطتها من خلال “القبول الطوعي” للمواطنين بما يرضي مصالحهم.
إن هذه الدول، رغم تظاهرها بالحداثة، لا تبرح مكانها، فهي تحتفظ ببنية اجتماعية تشبه إلى حد بعيد المجتمعات التقليدية، حيث تبقى وسائل الإنتاج (النفط والزفت) تحت سيطرة نخبة محدودة، فيما يتم إغراق الشعب في دوامة استهلاكية لا نهاية لها.
***
إبراهيم برسي