آراء
جمال محمد تقي: الحروب بين الصدفة والضرورة! (1)

فلسفيا لا توجد ضرورات دون صدف، والتقاطعات بينهما حتمية، فالضرورة ظاهرة لاسباب واشتراطات موضوعية تنبع من الجدل "التغير المستمر" الداخلي للظواهر، اما الصدفة فتنبع من الجدل الخارجي للظواهر وتنحسر سيرورتها بذاتيتها، وكلاهما، الصدفة والضرورة، يقعان تحت سطوة قوانين جدل داخلي وخارجي أعم، تتحكم بالسيرورة الكلية للظواهر الطبيعية والمجتمعية، اي باطلاقية على اشكال الحركة المعروفة وغير المعروفة للمادة والطاقة والمجتمع، من الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والاجتماعية وما قد يأتي بعدها من اشكال غير معروفة للحركة الكونية، والقوانين هي : وحدة وصراع الاضداد، ونفي النفي، والتحول من الكم الى الكيف .
الحروب غير النظامية او النزاعات الجماعية والفردية كانت ولازالت ملازمة للبشر، منذ مراحل الوحشية والبربرية واخيرا المدنية، الفرق انه في المرحلة المدنية، اي بعد رسوخ المجتمعات الزراعية ثم ظهور الدولة كمؤسسة مجتمعية " طبقية" ضامنة ومحتكرة للسلطة ما بعد العشائرية والقبلية، برز شكل جديد من الحروب والنزاعات، هو ما نطلق عليه اليوم بالحروب النظامية، حروب بين الدول والامبراطوريات، حروب بابل واشور وسبارطة والإسكندر المقدوني الى المغول والى نابليون وحرب الافيون الى الحروب العالمية الاولى والثانية الى حرب فيتنام والعراق وفلسطين واوكرانيا، والحبل على الجرار!
تتعدد الاسماء والمعنى واحد!
حروب اهلية، حروب طائفية، حروب دولية، حروب استباقية، حروب انتقامية، حروب عادلة، حروب عنصرية، حروب حدودية، حروب تحررية، حروب كولونيالية، حروب مقدسة، حروب نووية، حروب بيولوجية وكيميائية، حروب شاملة، حروب ذكية وغبية حروب، حروب فضائية، حروب إبادية .
للاسماء علاقة بهوية الجهات المتحاربة وصفاتهم، او بنوع السلاح الحيوي المستخدم فيها او بجغرافيتها او باهدافها، لكنها جميعا مشاريع للقتل، ودمار العمران، واستغلال القوة لتحقيق اهداف مختلفة، كالاحتلال والسيطرة على الموارد والدفاع عن النفس والتحكم بالمصائر ومنع العدوان، وبعضها يتلبس دوافع وذرائع ايديولوجية وثقافية ودينية هي في النهاية تشكل محاولة لشرعنة المشروع القاتل!
الحروب غريزة أم دين أم..؟
عندما يفترس الحيوان، حيوان آخر، فهو يفعل ذلك بدافع اشباع جوعه، وعندما يشبع لا يعود للافتراس حتى تحركه غريزة الجوع مرة اخرى، وعندما لا يجد ما يفترسه يموت، اما البشر فكانوا لا يفترسون او يتصيدون او يجمعون الثمار ليومهم فقط وانما يحتاطون لنفاذ الصيد او الثمار بفعل التفكر والتذكر، الذي ميزهم عن معشر الدواب، فكانوا ومازالوا يحسبون حساب الغد، لذلك هم ينافسون بعضهم للاستحواذ على المصادر المستدامة، وهذا ديدن انسان جاوة ونياندرتال ولوسي وذريتهم حتى الساعة، يتقاتلون لاشباع غرائزهم! وبرغم غزارة الانتاج والتطور البشري الحاصل وخاصة التكنولوجي والمعرفي والاخلاقي لكن سوء التوزيع، وانانية قانون الملكية الخاصة المقدس، وظهور فائض الانتاج وفائض القوة عند البعض جعلهم يستثمرون بالقيم الفائضة لاستعباد القسم الاخر الاقل فائضا وقوة، لاستدامة ومضاعفة فوائض القوة والقيم المنتجة عند المستثمرين، واذا سال لعابهم على ما في ايادي الاخرين فلا بأس من الحرب لانتزاع ما ينتزع او ابادة وتهجير من يقاوم الاقوى وسيد السلطة والثروة!
الجوع ابو الكفار، ولو كان الفقر رجلا لقتلته، وما وجد متخم إلا وجنبه جائع، وكيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟ نتف من التراث الثري الذي يدعو للانسنة والتكافل ليؤكد فقدان التوازن بين الانتاج والتوزيع!
أناتول فرانس خير من جسد هذه المعاني خاصة في روايته "جزيرة البطريق" لقد توصل الى ان الحرب فتح جديد للاسواق، وبالتالي فهي وسيلة الدولة الصناعية لفتح الاسواق المغلقة، وكلما زاد الانتاج ازداد عدد الحروب!
يتبع الجزء الثاني
***
جمال محمد تقي