آراء
وسام حسين العبيدي: "بس يواش" في نظرك الأُحادي يا "حيدر جواد" ...!!
لم يكن العلم في يوم من الأيام حكرًا على جماعة من دون أخرى، ولكن في الوقت نفسه، ينبغي للمتعلم أنْ يتدَرّج فيما يطمح الوصول إليه من مراتب علمية، ولا يحقُّ لأحدٍ أن يعترض بالقول: إنَّ العلم ليس حكرا على جماعة من دون أخرى، فهذا القول لا ينفي أو يتعارض مع مبدأ التدرُّج في العلم، وهذا الكلام يمثِّل مبدأً عامًّا لكل من يريد أنْ يسلك اختصاصًا في هذا المجال المعرفي أو ذلك، ولعلَّ واحدةً من أعراف التدرّج العلمي، أنَّه لا يحق للمُبتدئ – ناهيك عن سواه – أنْ يطرحَ آراء وأفكار تنقد أسس ذلك العلم، ومثل هذا الطرح ينبغي أنْ يكون مستهجنًا، وغير مقبولٍ بين أوساط الناس، إن لم يكن مثيرًا للسخرية، باعتبار أنَّ صاحبه لم يصل إلى مستوىً علميٍّ رفيع في هذا الشأن يؤهِّله لنقد أسس هذا العلم، فكيف له أنْ يتصدّى لإبطال متبنّيات هذا العلم أو نسف نظرياته بعضًا أو كُلاًّ..؟! ولعل كلامي أعلاه يثير استغراب المتخصّصين في العلوم، ممّن بذل جهدًا حتى وصل إلى ما وصلَ إليه من مرتبة في تخصصه أتاحت له أنْ يناقش بعض التفصيلات في هذه النظرية أو ذلك التطبيق في مجاله حصرًا، بفضل توسّع شبكة المعارف الإنسانية، بما جعل العلم الواحد يتفرّع إلى عدّة اختصاصات، وبهذا التوسّع لم يكن لأيِّ من هبَّ ودبَّ أنْ يخوض في معمعان تخصّصٍ ليس لديه أدنى معرفة بحيثيّاته، ومثل هذا قد يحصل في أزمان متفاوتة، ولكن لا يؤثِّر شيئًا في مسيرة العلم، بل يضمحلّ أثره بانتهاء فورة الدعاية لهذا التوجّه؛ لكونه صدر من غير متخصِّص. وهذا ما تفطّن له العرب، حين كان المُتخصِّص منهم في مجالٍ من المجالات العلمية، يؤكِّد أهمية ما يطرحه من رأي أو فكرة يعجز الآخرون عن إصدارها، فقد نقل محمد بن سلّام الجُمَحي (ت: 231 هـ) في كتابه: "طبقات فحول الشعراء" (وَقَالَ قَائِلٌ لخَلَف إِذا سَمِعتُ أَنا بالشعر أستحسنُه فَمَا أبالي مَا قلتَ أَنْت فِيهِ وَأَصْحَابك، قَالَ: إِذا أخذتَ درهمًا فاستحسنتَهُ فَقَالَ لَك الصرَّافُ إِنَّه ردئٌ فَهَل ينفعُكَ استحسانُكَ إِيَّاه..؟) ولا يختلفُ أحدٌ على مصداق ما ذكره خلف الأحمر، في أهمية العودة إلى أهل التخصّص، فهم أولى من غيرهم في بيان الصحيح من الخطأ فيما يتًصل بمجالهم العلمي دون سواه، كذلك يحقُّ للباحثين منهم أنْ يُناقشوا ما طرحه السابقون منهم من أفكار وآراء أو نظريات، فيُبينوا عن قصورها، أو يعدِّلوا في بعض تفصيلاتها، أو يدفعوها بأدلة ويقدِّموا الأفضل منها بحسب ما أتيح لهم من وسائل علمية كان لها الفضل في تبيان قصور تلك الآراء أو النظريات، أما أنْ يأتي شخصٌ بلا أيّ مقدِّمات أحرزها في هذا المجال، ويتناول بالنقد – حتى وإنْ سلّمنا بصحة وجهة نظره في بعض ما يطرحه – فهذا لا يعني أنّه بلغ ما لم يبلغه المتخصّصون في ذلك العلم، فآراؤه ليست إلا وجهة نظر قد تتاح لكثير من الناس، من دون الاهتداء إلى الطريق السليم في استنتاج ذلك الرأي، وميزة رجل العلم، أنّه يقيم الدليل على ما يدّعيه من فكرة، أو يطرحه من رؤية، فضلاً عن كون الدليل الذي يطرحه، ينبغي أنْ تتحقّقَ فيه معايير المنهج العلمي، فيكون ناهضًا، وإلا ما أكثر الادّعاءات التي تحفل بها الكتب التي تتحدّث لنا عن تاريخ كل علم من العلوم والنظريات الحافّة به، فصارت خردةً في درج إرشيف ذلك التاريخ ليس أكثر..
من هذه المقدِّمة، أريد بيان ما لمقدم برنامج (بس يواش) وهو "حيدر جواد" الذي يُعرِّف نفسه بأنه "مهتمٌّ بالشأن الفكري والثقافي العراقي والعربي، باحثٌ في العلاقة الجدلية بين الهوية الثقافية والعولمة"، من رأيٍ طرحه قبل مدة فيما يخص تفنيده علم الاجتماع وعلم النفس وما زالت عجلة حادلته "اللاعلميّة" تسحق العلوم الإنسانية، بكل برود، ولا أعرف إلى أين سيصل..؟ والسؤال الذي أريد طرحه على الرجل: ما التخصُّصُ العلميُّ الذي تخرّجَ منه، وأكمل فيه شوطًا معتدًّا من البحث فيه، حتى أتاحَ له أنْ يصلَ إلى هذه التوصّلات التي تعدُّ في نظر أنصاره ومؤيّديه فتوحات لم يُسبق الآخرون إليها، باعتبار ما أوضحناه آنفًا، من أنَّ لكل علم من العلوم، جملة من القواعد والمتبنّيات/ النظرية والتطبيقات، التي يعرفها ويقيّمها المختصّون بها، فلهم الحق في مناقشة بعضها، أو تفنيد الآخر منها، وهذا ما درج عليه كل علم، فمثلاً نجد العلماء من الفقهاء في كل مذهب، يتناولون آراء من سبقوهم بالنقد أو التوجيه أو الموازنة أو التفنيد لبعض أدلة القائلين بها.. الخ من إجراءات علمية يعرفها المختصون دون غيرهم، وهكذا علماء اللغة العربية، وعلماء القانون وعلماء الاجتماع وعلماء الفلسفة وعلماء النفس وعلماء التاريخ وعلماء الاقتصاد.. الخ، فضلاً عن العلوم التكنولوجية والطبية والهندسية، فليس ثمة رأي أو نظرية أو دليل ثابت على مرّ الأزمان، بل تخضع جميعها للمعيار النسبي بحسب المستوى الفكري الذي هو الآخر يتغير من زمن لآخر، ويتميّز العالم في كل مجال، بحسب فطنته وتوقّده الذهني، حين يُحقِّق الأدلة والآراء التي سبقته ويناقش بعضها ويؤيّد الآخر، ولا يُكون ناقلاً لها فحسب، وبهذا نجد العلماء في كل مجال يتمايزون في مثل هذه التفاصيل، فضلاً عن مستوى الإتيان بالجديد من النظريات أو المعالجات التي تعبّر عن قناعاتهم بما يستوعب الظاهرة التي يتناولونها، وغير ذلك من طفرات نوعية تحصل في ميادين هذه العلوم، بما تُلغي أو تُقلِّل من قيمة الطُرق السابقة في المعالجة العملية في ضوء تلك المعارف. والسؤال الآخر لهذا "المهتمّ" بحسب تعريفه على صفحته، أما كان له من الأولى – في سبيل ترصين وجهة نظره – أنْ يُحقِّق في آراء من نقل عنهم، بما يوافق مزاجه، ويُقابلها بآراء رعيل أكثر عددًا من الذين استدلًّ بآرائهم، من علماء وباحثين في علم الاجتماع، يرون جدوى هذا العلم، ويؤصِّلون لمتبنّياته النظرية، ويتناولون مباحثه في مختلف الاتجاهات، باعتبار "أنَّ علماء الاجتماع المعاصرين لم ينتظموا في صعيدٍ موحّدٍ من الفكر بل تتوزّعهم اتجاهات متباينة مثل سائر ضروب المعرفة الأرضية التي يطبعها مثل هذا التفاوت" (الإسلام وعلم الاجتماع، محمود البستاني: 7) بما تقوم به من دراسات تثبت جدارتك العلمية في هذا المضمار حتى يكون لكلامك جدوى علمية وإقناع لمن يرى في هذه العلوم أهمية، فضلا عن المتخصصين الذين أفنوا أعمارهم في درسها وتدريسها، فهل يصحُّ دحض علمٍ تجد فيه من الثراء والتنوُّع في داخل أروقته – شأنه شأن العلوم الإنسانية – تتوزّعه الاتجاهات والمذاهب، برأيٍ فطير ينمُّ عن أحاديةٍ نظر، وقلّة بضاعة في تصدّيه لمشاكل كل اتجاه من اتجاهات هذا العلم وما يفرزه من نظريات وقضايا تعكس توجّه ذلك المنحى دون سواه..؟ وإلا كان ما تنقله لا ينطلي إلا على المتعصّبين الذين لا يرون جدوى في كل هذه العلوم الإنسانية باعتبارها هُراءً لا فائدة من ورائها، وهؤلاء قد لا يحتاجون هذا التعب من جنابكم، فبمجرّد أنْ تقول لهم إن هذه العلوم لم ترد عندنا في النص الديني، فهذا يكفيهم؛ لما يؤمن به أتباع هذا التوجّه من فكرٍ مغلقٍ – ومغلوط في الوقت نفسه - على الجماعة التي ينتمون إليها.
ثم أيُّها المهتمُّ العزيز، من قال لك إنّ آراء نوال سعداوي أو الوردي أو الطاهر لبيب، أو المرنيسي، تمثِّل مقدّسات أو ثوابت في علم الاجتماع..؟ فكل باحثٍ في كل علم من العلوم، لا يمكن أنْ تجده بريئًا من توجّهاتٍ قبليّة تدفعه لاختيار الظاهرة أو الموضوع أو الاتجاه الذي يميل إليه، ولا يختار سواه، وهذا أمرٌ لا يخفى على كل باحثٍ بصير، وتبعًا لهذه القضية، قد تجده فيما يتوصّل إليه متحاملاً أو بعيدًا عن الموضوعية باستقصائه الظواهر التي تتّفق ومزاجه، أو التي تعكس مرجعياته الثقافية، ومنهم جنابكم الكريم، في دحضك أسس علم الاجتماع وقواعده، لم تستقص آراء كل علماء الاجتماع، بل وقفتَ على ما ينسجم وتوجّهك، وإلا فمن حقِّ المستمع أو المتلقي، أنْ يطالبك بآراء جميع العلماء والمشتغلين في هذا العلم، وتقارن بين مدّعيات هؤلاء وأولئك، هذا إذا افترضنا أنّ جنابكم قد تحرّى بنفسه تلكم الآراء التي عرضها عبر برنامجكم "بس يواش" وإلا فبحسب ما اطلعتُ عليه بنفسي، أنّ ما عرضتموه ليس إلا نقلا من كتاب "اعترافات علماء الاجتماع – عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع" للدكتور أحمد خضر، الذي صدر عام 2000 من المنتدى الإسلامي في لندن، وليس لك فضلٌ في هذه الفتوحات التي يُصوِّرها المعجبون ببرنامجك سوى النقل من هذا الكتاب لا أكثر ولا أقل..!! ولعل واحدةً من منطلقات هذا الكتاب التي اشتغلتَ عليها في طعنك جملةً وتفصيلا بعالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، يمكن لأي قارئ أنْ يتساءل – إذا كان ذا مسكةٍ من ضميرٍ وإنصاف – عن دليلكم فيما ذهبتم إليه من اتّهام للورديّ وتواطئه مع السلطة، عبر المقدِّمة التي اعتمدتَ عليها من كتاب أحمد خضر التي قال فيها: "إن علم الاجتماع علمٌ استعماري بطبيعته، وذو صلة بأعمال المخابرات، هدفه الأول ضرب الدين والعقيدة بصفة عامة، والإسلام وشريعته بصفة خاصة" وقُمتَ استنادًا على هذا الزعم، بتخوين الوردي وجعله أداةً من أدوات السلطة، وحين قال لك الإعلامي "زيد طارق" في برنامج "حديث حاد" على قناة الأولى، أنّه كان مغضوبا عليه في زمان البعث، قلتَ له إن الوردي كان مرحّبا به في زمن الحكومات السابقة.. في حين أنَّ من يطالع كتاب (علي الوردي في ملفّه الأمني) الذي صدر عام 2016 عن دار سطور في بغداد للكاتب سعدون هليّل، يُثبت بالأدلة والوثائق خلاف ما ذكرتَ مطلقًا، من أنَّ التقارير الامنية لاحقته في جميع الانظمة والحكومات العراقية المتعاقبة ابتدا من الملكي فالجمهوري الاول (1958-1968) والجمهوري الثاني (1968-2003( أي أنّ تلك التقارير الامنية قد بدأت عام 1950 وهو العام الذي حصل فيه الدكتوراه من الولايات المتحدة وتعين فيه استاذا في كلية الاداب، واستمرت طيلة العقود الاربعة اللاحقة، وأن الدكتور الوردي كان يشكل هاجسا امنيا ملحا عند الانظمة الحاكمة. والتقارير الامنية كانت تلاحقه وبأدقِّ التفاصيل الاجتماعية والاكاديمية والسياسية. كل ذلك ينفي صدق مدّعاك، بما يكشف عن موقف مسبقٍ لديك مع الوردي، علما أنّ الوردي ليس مقدّسًا في آرائه أو فيما توصل إليه، فكثيرٌ من الدراسات التي صدرت من مختصّين في علم الاجتماع، قد شخّصت ما وقع فيه من هنات، فضلاً عن سواهم من علماء، مثل كتاب العلامة الراحل السيد مرتضى العسكري في كتابه (مع الدكتور الوردي في كتابه وعّاظ السلاطين) الذي صدر عام 1955 ولكن في الوقت نفسه لم تنف جهوده، وما قدّمه من نتاج أثرى به الساحة الثقافية بصورة عامة فضلا عن المتخصّصين في هذا العلم، وكان لك – في حال انتقاده – أنْ تستعرض ما استوقف أولئك العلماء والباحثين في منجز الرجل، بما يحفظ جهودهم وجهود الرجل في آنٍ، فضلا عن حفظ ماء وجهكم بما لا يُظهركم بهذا الغضب العارم الذي أفقدكم التوازن في النيل من هذا العلم وأعلامه بطريقة أبعد ما تكون عن المهنيّة والموضوعية.
***
د. وسام حسين العبيدي