آراء

المنطقه ونهاية الايديلوجيا والتشبهية الابراهيميه (6)

تظل البشرية قاصرة اعقالا بازاء التاريخ والظاهرة المجتمعية، مادامت محكومه الى النظر " الاحادي" قبل كشف النقاب عن الحقيقة الازدواجية واشكال تجليها بحسب طبيعتها، الملكية الكيانوية / الوطنيه الامبراطورية الارضوية ونموذجها التاسيسي الفرعوني الملكي المصري، واللاارضوية  النبوية السومرية،  الكونية، المتعدية للكيانيه وللدولة، واشكال تفاعلهما النموذجي مع الاشتراطات الانتاجية وممكنات التحقق، الارضوي الغالب بحكم الطور اليدوي الجسدي، واللاارضوي المضمر والمصادر المبعد من الحضور، المضطر للتجسد اختراقا في قلب المجتمعية الارضوية ابان زمن ماقبل تحققه، لافتقاره  ابتداء للعناصر الضرورية المادية والاعقالية اللازمة للحضور واقعا.

وهذا مايجعل اللاارضوية تتخذ الصيغة التي تظل عليها، توافقا مع اشتراطات اليدوية وغلبة الجسدوية الحاجاتية الارضوية، مولدة عالمها الموازي السماوي المفارق المتعالي (3)على الارضوية قوة وعالما مقابلا اعلى، ومحتاز على القدرات والفعل الاستثنائي الكوني  الابدي، بمقابل سلطة الارضوية الحاكمه المؤقته، والايله للزوال لمصلحه عالم اخر هو الابقى، والغاية  من الوجود، تعبيرا فوق عادي، يتجاوز الملموسات، مرتكزا الى الكينونه البشرية والى ازدواجها الاصل ك (عقل/ جسد)، العقل نصفها الافعل، و "الارض" التي عليها تقف الكيانيه اللاكيانيه، الاتيه من العالم الاخر حكما، بالالهام والاصطفاء السماوي، والنطقية الكتابيه التي هي الكيان اللاكيان الباقي ماثلا وحيا، في قلب وبين تضاعيف الارضوية الى الابد.

وبما ان اللاارضوية غائبه  متعذرة على الادراك اصلا، فان افتراض خضوعها لتاريخيه تشكلية وتطورية غير وارده قطعا، علما بانها مسار تشكلي مستمر على مدى عشرات القرون، يبدا مع تبلور الظاهرة المجتمعية في ارض سومر جنوب مابين النهرين حيث الاشتراطات البيئية المجافية الطاردة للنهرين العاتيين المخالفين للدورة الزراعية،  والاكثر تدميرا بين الانهار، بما  يجعل الكائن البشري  مع اجمالي اشتراطات الحياة والانتاج  مجتمعيا، مرهونا ابتداء بالاصطراعية الاقرب للفنائية مع الطبيعه، ضدها وبمفارقة معها من دون توافق من نوع ذلك المقابل النيلي، المعاكس كليا، والقائم على وحدة النيل والارض، حيث اتفاق فيضان النهر مع الدورة الزراعيه، عكس دجلة والفرات، مايجعل الحصيله في الموضوعين البدئيين ثنائية في الرافدينه، منهما تتاسس مرتكزات المنظور المفارق السماوي، قبل ان يدخل على المشهد الطور الثاني من الاصطراعية المجتمعية، في موضع مفتوح شمالا وشرقا وغربا على الانصبابات السلاليه من الجهات الجبلية الجرداء والصحراوية الطامحه للهيمنه على الموضع الجنوبي شديد الخصوبه( وادي النيل بالمقابل محمي بالصحراء شرقا وغربا وبالبحر شمالا) مايزيد من اسباب لاارضويته، من دون ادراكية او امكان ملاحظة حتى للخاصيات المميزه للمجتمعية في موضع هذه مواصفات تبلوره، والظروف التي تشكل ضمنها وفي غمرتها، بما جعله بلا تمايزات من نوع الملكية والسلطوية، مع اسبقية للتشاركية التضامنية الواعية،  مايولد من حينه حالة اصطراع بين شكلين ونمطين مجتمعيين، الاعلى النازل الارضوي العادي، والاسفل اللاارضوي، ويحفز ضمن مجراه وفتراته وحقبة، ضرورات التبلور التعبيري المجتمعي اللاارضوي، بالتوافق مع ميل الجهات الغازية الى المزيد من تعزيز قدراتها، باتخاذ موقع الاستقلال والعزله في مدن عليا، تقام على الحواف  العليا لمجتمع اللاارضوية، تكون محصنه اعلى تحصين، تمارس حلب الريع الزراعي بالغزو الداخلي المكلف للغاية، ثم العودة للانعزال وراء الاسوار والقلاع  داخل مدن "الامبراطوريات"، واكملها بابل ثم بغداد.

ومن التالهية الابتدائية وليدة الاصطراع الاول البيئي، وتطوره اللاحق في سياق الاصطراعية بشكلها الثاني  حين تضاف وطاة الارضوية الانصباببية الى الاولى البيئية الطاردة، ذهابا الى المراحل والمحطات المتاخرة من تبلور الاصطرعية، وقيام الامبراطوريات المدينيه و وبلوغها ممكنات واحتمالية افناء المجتمعية السفلي، بالمصادرة الالهية والنموذجية، وبوسائل القوة التي   يحوزها مركز مثل "بابل"، تبلغ الاحتدامية الاصطراعية معه ذروتها، مايسرع في اكتمال النموذجية الكونية  المجتمعية السفلى، بتبلور الكيانيه اللاارضوية مافوق الكيانيه باعلى صيغها النبوية الابراهيمة، الذاهبة خارج ارضها،  التي هي في الواقع  ارضها ومكان تحققها، ليبدا من يومها مسار التحقق الكوني  الدعوي النبوي التراكمي كمرحلة فاصله، وصولا الى التجسد العملي للكيانيه الكتابية  التاسيسي الاول، التوراتي، ومن بعده الانجيلي المسيحي، وصولا الى الاسلامي الكمال والذروة النهائية التي من اهم خواصها، واجلى مناحي عبقريتها اللاارضوية اعلانها قرب انتهاء الصراع الارضوي اللاارضوي، والانفتاح على عالم "فك الازدواج"، وهو ماقد تكفل النبي محمد في الاعلان عنه كختام يساوي البدء الابراهيمي الاول، ويعلن انقضاء دوره ومهمته.

بعني " ختام النبوة" بالمنطوق اللاارضوي وتاريخانيته المجتمعية الشاملة للمعمورة، ان الاصطراع المجتمعي الازدواجي قد شارف على الانتهاء من هنا فصاعدا، وان الصيغة او النموذجية الارضوية الجسدية صارت على وشك الاختفاء وجودا، وهو ماسوف تصلة البشرية بناء على الانقلابية الاليه ومغادرة الزمن الارضوي اليدوي، حين كانت  اللاارضوية غير قابله للتحقق، وهنا يبرز في السياق  واحد من اخطر التحديات الموروثة عن القصورية العقلية التاريخيه، وهو ماينشا عن انبجاس الاله في الموضع الارضوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه، باعتباره النموذج الازدواجي الارضوي الاصطراعي الطبقي، والذي يذهب مستغلا الانقلابيه الاليه، وماتوفره من ممكنات استثنائية الى تكريس مفهوم ورؤى الارضوية ذهابا الى تابيدها، وجعلها النموذجية التي لاغير لها، ولامن مواز، ومن ثم لامستقبل يمكن ان يضعها بموقع الموقت الضروري قبل توفر اسباب سيادة المجتمعية العقلية.

وهنا  تحل لحظة الافتراق الاكبر تحت غمرة التناقضية الاعلى، بين الوسيلة الانتاجية ومنطوياتها، وماهي محكومة له، وبين الاعتقادية القصورية المناقضة لها نوعا، فالاله وسيلة لاارضوية نوعا وكينونة، تحتاج للمرور بمعبر اصطراعي انتقالي لاارضوي يكون الاعلى ديناميات حتى تنتقل تباعا، من المصنعية الاقرب لليدوية، الى التكنولوجية الانتاجية الحالية، الى التكنولوجيا العليا العقلية اللاارضوية، حيث لاتعود المجتمعية الارضوية قابلة للاستمرارموضوعيا وماديا،  وحيث تبدا بالانهيار المتوالي، بينما يصبح العالم والمجتمعية البشرية ككل "لاارضوية" محكومه لاشتراطات من نوعها، وتعود الرؤية الكونية الاولى اللاارضوية لتغدو غالبة، والكتاب ضرورة وجودية، وقد انتقل من الالهامية النبوية الحدسية، الى نوع اخر من الاعلان اللاارضوي "العلّي/ السببي " ساعة يصير التاريخ والماضي المجتمعي قابلا للقراءة لاارضويا عليّا فيماط عنه اللثام بعد طول غياب، اي بانتقال العليّة المعروفة ب " العلمية العقلانيه"  درجات فوق التخيل الارضوي، تلائم نوع ومنطلق المنظور المشار اليه كلزوم وضرورة اساس، لابد منه قبل الانتقال نحو عالم "المجتمعية العقلية".

***

عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم