آراء
عبد السلام فاروق: صرخة مثقف أم زفرة أسي؟!

التضامن المغربي مع فلسطين.. بين الولاء الوطني والتضامن الإنساني
"لسنا صدى لأحد، ونحن فخورون بمغربيتنا، لكننا مع فلسطين ضد همجية الاحتلال" – هذه العبارة التي أطلقها الكاتب والإعلامي ياسين عدنان تختزل إشكالية معقدة يعيشها المغاربة في تعاطيهم مع القضية الفلسطينية. فكيف يمكن الجمع بين الفخر بالهوية المغربية والانحياز إلى قضية تحررية خارج الحدود؟ ولماذا ينظر إلى التضامن المغربي مع فلسطين على أنه "صدى" لجهة ما، بدلاً من اعتباره موقفاً مستقلاً نابعاً من قناعة ذاتية؟
في هذا المقال، سنحاول تفكيك هذه الإشكالية من خلال أربعة محاور رئيسية: الجذور التاريخية للتضامن المغربي مع فلسطين، السياق السياسي والثقافي لهذا التضامن، القراءات المختلفة لهذه الظاهرة، وأخيراً مستقبل هذا التضامن في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية.
المحور الأول: الجذور التاريخية للتضامن المغربي مع فلسطين
1.1 البعد الديني والروحي
يرتبط المغاربة بفلسطين بروابط روحية عميقة تجعل من القضية الفلسطينية جزءاً من الوجدان الجمعي المغربي. فالمسجد الأقصى، كأولى القبلتين وثالث الحرمين، يحتل مكانة خاصة في المخيال الديني المغربي. وقد ظل سلاطين المغرب على مر التاريخ يوجهون الهبات والعطايا لعمارة المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية في القدس، مما خلق تراكماً تاريخياً للارتباط الروحي بين المغرب وفلسطين.
1.2 ذاكرة المقاومة ضد الاستعمار
يشترك المغرب وفلسطين في تجربة الصراع ضد القوى الاستعمارية، وإن اختلفت السياقات التاريخية. فبينما كان المغرب يحارب الاستعمار الفرنسي والإسباني في النصف الأول من القرن العشرين، كانت فلسطين تواجه المشروع الصهيوني المدعوم من بريطانيا. هذه التجربة المشتركة خلقت نوعاً من التضامن العضوي بين حركات التحرر في البلدين.
وقد تجلى هذا التضامن عملياً عام 1948 عندما تطوع المئات من المغاربة للقتال إلى جانب الفلسطينيين ضد العصابات الصهيونية، في إطار ما عرف بـ"جيش الإنقاذ" الذي شكله عبد القادر الحسيني. ولا تزال ذاكرة هؤلاء المتطوعين حية في الوعي الجمعي المغربي كرمز للتضامن مع القضية الفلسطينية.
1.3 التضامن الشعبي في زمن الملك الحسن الثاني
في عهد الملك الحسن الثاني، اتخذ التضامن المغربي مع فلسطين أبعاداً رسمية وشعبية. فمن الناحية الرسمية، كان المغرب من أوائل الدول العربية التي دعمت منظمة التحرير الفلسطينية واعترفت بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. ومن الناحية الشعبية، شهدت المدن المغربية مظاهرات حاشدة تضامناً مع الفلسطينيين، خاصة بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين التاريخية.
المحور الثاني: السياق السياسي والثقافي للتضامن المغربي المعاصر
2.1 الربيع العربي وتحولات الوعي
شكلت أحداث الربيع العربي منعطفاً مهماً في تعاطي الشعوب العربية مع القضية الفلسطينية. فبعد عقود من احتكار الأنظمة العربية لملف الصراع العربي-الإسرائيلي، برزت مبادرات شعبية مستقلة للتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين. وفي المغرب، تجلى هذا التحول في ظهور حركات مناهضة للتطبيع مع إسرائيل، مثل "الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع"، التي نظمت وقفات واحتجاجات في مختلف المدن المغربية.
2.2 المسيرات الشعبية: الرباط نموذجاً
في أبريل 2025، شهدت العاصمة المغربية الرباط مسيرة حاشدة تضامناً مع غزة، شارك فيها عشرات الآلاف من المغاربة من مختلف الشرائح الاجتماعية والانتماءات السياسية. ووصفت وسائل الإعلام المسيرة بأنها "ملحمة جديدة سطرها المغاربة"، حيث رفعت الأعلام الفلسطينية إلى جانب الأعلام المغربية، وهتف المشاركون بشعارات تندد بـ"حرب الإبادة" التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة.
2.3 المثقفون والفنانون.. صوت التضامن
لعب المثقفون والفنانون المغاربة دوراً بارزاً في تعبئة الرأي العام المغربي للتضامن مع فلسطين. فمن ياسين عدنان الذي يدافع عن شرعية هذا التضامن، إلى اللاعب الدولي حكيم زياش الذي عبر علناً عن رفضه لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، إلى المهندسة المغربية ابتهال أبو السعد التي ضحت بوظيفتها في مايكروسوفت احتجاجاً على تعاون الشركة مع إسرائيل. هؤلاء وغيرهم يمثلون وجوهاً مغربية بارزة اختارت أن تعلن تضامنها مع فلسطين دون أن يتناقض ذلك مع انتمائها المغربي.
المحور الثالث: قراءات في التضامن المغربي مع فلسطين
3.1 القراءة الوطنية: التضامن لا يناقض الهوية
ينطلق أنصار هذه القراءة من فكرة أن التضامن مع القضايا العادلة في العالم هو جزء من الهوية المغربية الأصيلة. فالمغرب، بموقعه الجيوستراتيجي وتاريخه الحضاري، لا يمكن أن ينغلق على همومه الداخلية ويتجاهل معاناة الشعوب الأخرى، خاصة إذا كانت تربطه بها روابط دينية وتاريخية كما هو الحال مع فلسطين.
3.2 القراءة النقدية: بين التضامن والمصالح الوطنية
يطرح بعض المغاربة تساؤلات حول مدى استفادة المغرب من هذا التضامن، خاصة في ظل ما يرونه تقاعساً فلسطينياً عن دعم القضية الوطنية المغربية، كما حدث في تصريحات جبريل الرجوب التي اعتبرت متحيزة للجزائر في نزاعها مع المغرب حول الصحراء. وهنا يبرز سؤال مركزي: إلى أي حد يمكن الفصل بين التضامن الأخلاقي مع قضية عادلة وبين حسابات المصلحة الوطنية؟
3.3 القراءة الاستراتيجية: التضامن كخيار سياسي
ترى هذه القراءة أن التضامن المغربي مع فلسطين ليس مجرد موقف عاطفي، بل هو خيار استراتيجي يستند إلى رؤية مغربية للصراع في المنطقة. فالمغرب، بحكم حضوره الدولي وعلاقاته المتوازنة مع مختلف الأطراف، يرى في دعمه للقضية الفلسطينية مساهمة في إرساء استقرار المنطقة برمتها.
المحور الرابع: مستقبل التضامن المغربي مع فلسطين
4.1 تحديات التطبيع
يشكل التطبيع الرسمي بين المغرب وإسرائيل تحدياً كبيراً للتضامن الشعبي المغربي مع فلسطين. فمن ناحية، هناك إرادة سياسية مغربية لتحقيق مصالح معينة من خلال هذا التطبيع، ومن ناحية أخرى هناك رفض شعبي واسع للتطبيع مع دولة تحتل أراضي عربية. هذا التناقض يضع المغاربة أمام اختبار صعب لموازنة ولائهم الوطني مع التزامهم الأخلاقي تجاه القضية الفلسطينية.
4.2 صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف
مع صعود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، وتصاعد وتيرة الاستيطان والاعتداءات على المقدسات الإسلامية في القدس، من المتوقع أن يشهد التضامن المغربي مع فلسطين مزيداً من الزخم. فالمغاربة، كغيرهم من المسلمين، يرون في القدس والأقصى رمزاً دينياً لا يمكن التنازل عنه، مما يجعل القضية الفلسطينية قضية شخصية بالنسبة لكثير منهم.
4.3 دور الشباب المغربي
يلعب الشباب المغربي دوراً محورياً في إعادة تعريف أشكال التضامن مع فلسطين، بعيداً عن الخطاب التقليدي. فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والحركات الاحتجاجية المبتكرة، يستطيع الشباب المغربي التعبير عن تضامنه مع الفلسطينيين بطرق تتناسب مع روح العصر، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية المغربية.
نحو تضامن عقلاني متوازن
التضامن المغربي مع فلسطين ليس ظاهرة طارئة أو موضة عابرة، بل هو جزء من نسيج الهوية المغربية المركبة التي تجمع بين الانتماء الوطني والالتزام الإنساني. وكما قال صديقي المثقف المغربي "ياسين عدنان"، يمكن للمرء أن يكون فخوراً بمغربيته وفي نفس الوقت منحازاً إلى قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية.
إن التحدي الذي يواجه المغاربة اليوم هو كيفية الحفاظ على هذا التضامن الأصيل مع فلسطين، دون أن يتحول إلى أداة في الصراعات الإقليمية، ودون أن يؤثر سلباً على المصالح الوطنية للمغرب. وهذا يتطلب وعياً نقدياً قادراً على التمييز بين التضامن المشروع مع المظلومين وبين الاستغلال السياسي لهذا التضامن.
في النهاية، يبقى التضامن المغربي مع فلسطين شاهداً على حيوية المجتمع المغربي وقدرته على الجمع بين الانتماء الوطني والانفتاح على قضايا الأمة، وهو ما يجعل من المغرب نموذجاً فريداً في المنطقة العربية.
***
د. عبد السلام فاروق