آراء

جمال محمد تقي: مكر التاريخ!

في حركة التاريخ قابلية للتحول، ونفي النفي، ضمن وحدة وصراع الاضداد، اي ان التغير المستمر محكوم، منه وفيه، وإلا ما تواصل وإستدام، وبقي يغذي الحاضر، ويستشرف المستقبل، فالثابت فيه هو متحول في السياقات الزمانية والمكانية واللغوية، والتاريخية، والمعرفية المتواصلة دون إنقطاع، مادام العقل العضوي يستتبعها صعودا ونزولا، ولا حاجة لإنكار تكراره، بنسبية ثابته كانت او متحوله، ولا تقبل بعضه وإنكار بعضه، أنما الحاجة كل الحاجة لإستئناف إداء العقل العضوي في إستنطاق المستقبل، الحفيد المحسن بجنسه، وبأستمرار لجدل التاريخ في الماضي والحاضر!

يتفق ماركس مع هيغل في ان البشر لا يصنعون تاريخهم بمعزل عن إشتراطات التاريخ نفسه، كان وصف هيغل لنابليون الاول، وهو يمتطي جواده مكتسحا الجيوش والقلاع والبلدان، بأنه روح العصر، وهو صنيعته وزبونه اليقظ، وهو كازبائن التاريخ الكبار في كل العصور، بالرغم من إعتقادهم النرجسي بالتفرد، لكنهم لا يعوا حقيقة انهم مجرد مشخصاتية للاشتراطات الموضوعية والذاتية التي يستبطنها العقل!

يقول هيجل: ان جميع الحقائق والشخصيات تحدث كما لو انها حدثت من قبل. ويؤكد ماركس على ان مقولته النافذة تلك تشي بأن التاريخ يمكن ان يعيد نفسه مرتين، مرة على شكل مأساة، ومرة على شكل مهزلة، ويستشهد ماركس بمأساة نابليون الاول، ومهزلة نابليون الثالث!

وربما يكون مجرد انتخاب دونالد ترامب كرئيس لامريكا في المرة الاولى مأساة، واعادة انتخابه ثانية هي المهزلة بعينها، فبشخصه تتشخص كل عيوب المنظومة التي انجبته، امبراطور بلا اقنعة يكشف زيف العالم الحر!

البداية والنهاية!

فرانسيس فوكوياما، اعلن نهاية التاريخ وذلك لوصوله الى حالة الكمال بتسيد الليبرالية الغربية على احلام وايام العالم، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين، متناسيا ان مكر التاريخ يغشي العيون عن رؤية الحقيقة، فالنهايات وهمية بخطوطها وان وجدت فهي مدعاة للتصفير، والرجوع للوراء لان التوقف هو بحد ذاته تقهقر وفناء!

مثلما تبدو البداية افتراضية، ان كانت داروينية او سماوية، فأن النهاية كذلك، بحكم كون النتائج أسيرة لمقدماتها، وعليه لا يصح إسقاط ما ينطبق على اخراج الافلام والمسلسلات بكل اجناسها الوثائقية والتسجيلية والتاريخية والدرامية والكوميدية والمغامراتية والخيالية على التاريخ وحركته التي وان كانت تدور بدوائره إلا انها بالمجمل محاكاة لانعكاس كل اشكال الحركة المادية والروحية المكتشفة وغير المكتشفة في الطبيعة، من المكانيكية الى الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والاجتماعية والفراغية والكوكبية الى نظام الطفرات في الوعي الذاتي والموضوعي التاريخي للطبيعة ودور المعرفة الانسانية في سبر اغوارها، الاحلام هي افلام من مخرجات العقل الباطن المصور وهي بلا بداية اونهاية، على نقيض الفلم الهندي التقليدي، انما تكون اقرب للافلام الغربية الحديثة ذات البدايات والنهايات المفتوحة، والافلام النفسية القريبة من هذيان المخيلة.

مكر التاريخ في تكرار نفسه دون ان يكون مملا، كالافلام الطويلة، وانه ان طرح وجمع وقسم وضرب وازاد وانقص وجاء بانساق لونية واشتقاقات ضوئية غير مسبوقة فأنه يعيد انتاج ذات العوالم ولكن من زوايا مختلفة، ومن مسافات كمية وكيفية مختلفة، ويبدو للبصيرة المجردة انه جديد بعوالمه كل الجدة!

عوالم الامبراطوريات والدول والحروب الكبيرة والصغيرة، بكمية ضحاياها، وبنوعية اسلحتها، وكل عوالم الصراعات البشرية، العادلة وغير العادلة، هي مكررة، منذ ايام قابيل وهابيل على عهدة الكتاب المقدس، ومنذ الحضارات الاولى في وادي الرافدين والنيل وسيحون وجيحون والنهر الاصفر والامازون والمسسبي الى الكسندر المقدوني وحروب طروادة واخواتها الى روما وامبراطوريتها ونيرونها الى الامويين والعباسيين والمغول والتتر، هولاكو وتيمورلنك، الى غزو الامريكيتين وابادة الهنود الحمر الى العثمانيين الى الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس الى الحربين العالميتين الاولى والثانية، التي قتل في الاولى منها نحو 20 مليون عسكري ومدني، وفي الثانية اكثر من 60 مليون مدني وعسكري، الى حرق هيروشيما ونكازاكي بالسلاح النوعي الجديد، النووي، الى الحرب الاستيطانية الكولونيالية المستدامة على فلسطين الى حروب فيتنام وكمبوديا ولاوس، الى حروب احتلال افغانستان والعراق، الى حروب جديدة اكثر فتكا!

مؤشرات التاريخ الماكر تقول كلما تطور الانسان تكنلوجيا وازدادت معرفته العلمية كلما بلغ الذروة في القتل والتدمير، اي انه مازال في طوره البهيمي برغم كل مظاهر الانسنة الفلمية التي يتبجح بها، وهي ليست قطعا نتاج احلامه، بمعنى ان ثورته وثروته المادية المتضخمة لم تؤدي حتى الان الى ثورة على غرائزه الوحشية والبربرية، وحضارته القائمة هي شكلية وليست بعد مضمونية!

على الافتراض السماوي: ان كان الانسان مسيرا فالامر كل الامر بيد المدبر، وهو المسؤول الاول والاخير عما يجري من فظائع متعاظمة بانتظار ظهور المخلص او المهدي المنتظر، اما اذا كان مخيرا فأن الامر بحاجة للمراجعة لان التاريخ يعلمنا بمكره اننا نسير وبشكل دائري نحو جحيم كوني غير منتظر!

حراك اعمى يغشي إستكانة الحلم العاقل!

مكر التاريخ يخدع ببركات الحراك الذي يحرر الطاقة ويغري باشتعاله حرق الحلم العاقل ما يصب مزيدا من الزيت على نار الخديعة ليحرق بجحيمها الاحلام والافلام معا، فالخواء الروحي يستسهل العبث، وان كانت تجاربه تحرر طاقة الفضول وهو على اي حال فضول معرفي لكنه يبقى اعمى وفي احسن الاحوال اعور.

يقول ابن خلدون: السكون هو الضعف الشديد في الحركة، والعمران المتخم بالترف والدعة والاستهلاك مهبط للبداوة . فالتقلب بين البداوة والحضر هو شرعة لدائرة مدورة لزمانه، لكنه لو رأى الآن الإفناء الذاتي للانسان قبل العمران، من خلال تعاظم سرعة احتراقه المادي والروحي، سيقول ما نقوله!

في بيت معبر من الشعر يقول ابو البقاء الرندي:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

*

هي الأمور كما شاهدتها دول 

من سره زمن ساءته ازمان .

***

 

في المثقف اليوم