آراء
رافد القاضي: حماية البيانات الشخصية في زمن العولمة
دراسة مقارنة بين القانون العراقي والقوانين الأوروبية
في ظل الثورة الرقمية وانتشار الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة أصبحت البيانات الشخصية أحد أهم الموارد التي تتداول يوميًا بين الأفراد والمؤسسات فالأفراد يتركون وراءهم آثارًا رقمية متنامية تشمل معلوماتهم الشخصية الصحية، المالية والاجتماعية ومن هنا برزت الحاجة إلى حماية هذه البيانات، ليس فقط كجزء من الحقوق الفردية الأساسية، بل أيضًا كأحد معايير الأمان السيبراني والثقة في التعاملات الرقمية.
وتعد قضية حماية البيانات الشخصية تحديًا عالميًا نظرًا لتدفق المعلومات عبر الحدود وتعدد الجهات التي تجمعها وتعالجها وفي هذا السياق يمكن ملاحظة تباين واضح بين التشريعات الوطنية حيث تمثل قوانين الاتحاد الأوروبي معيارًا عالميًا في حماية البيانات، بينما يواجه العراق تحديات قانونية كبيرة في هذا المجال بسبب غياب إطار تشريعي شامل وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة مقارنة بين التشريع العراقي والقوانين الأوروبية، مع تسليط الضوء على التحديات والفرص لتطوير منظومة حماية فعّالة في العراق.
أولًا: مفهوم البيانات الشخصية وأهميتها
تشير البيانات الشخصية إلى كل المعلومات التي تحدد هوية الفرد بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك الاسم، العنوان، رقم الهوية البيانات الصحية، والعادات الرقمية. وتركز أهميتها على ثلاثة محاور رئيسية:
1. حماية الخصوصية:
إذ تُعد البيانات الشخصية جزءًا من حقوق الإنسان الأساسية وحرية الفرد واستقلاله.
2. تعزيز الأمان الرقمي: حماية البيانات تقلل من مخاطر الاحتيال الرقمي والاختراقات الإلكترونية.
3. بناء الثقة في التعاملات الرقمية:
حيث يصبح الأفراد أكثر استعدادًا للتفاعل مع المؤسسات والخدمات عند ضمان حماية بياناتهم.
مع العولمة، تتدفق البيانات بسرعة بين الدول، مما يجعل الحاجة إلى إطار قانوني متين أمراً ملحًا لضمان حماية الأفراد من سوء استخدام هذه البيانات.
ثانيًا: الإطار القانوني لحماية البيانات الشخصية في العراق
تعاني التشريعات العراقية من قصور واضح في مجال حماية البيانات الشخصية، إذ لا يوجد قانون مستقل شامل يتناول جمع البيانات ومعالجتها ونقلها ويمكن تلخيص الوضع القانوني العراقي في النقاط التالية:
1. قوانين حماية الخصوصية الجزئية: تحمي الأسرار المهنية، مثل بيانات المرضى أو موظفي الدولة، لكنها لا تغطي الاستخدام الرقمي الحديث للبيانات.
2. قوانين الجرائم المعلوماتية (قانون رقم 63 لسنة 2015): تحتوي على نصوص جزئية تتعلق بالاعتداء على البيانات الرقمية لكنها محدودة ولا تشمل كل أشكال انتهاك الخصوصية الرقمية.
3. غياب التشريع الشامل: عدم وجود نصوص واضحة تحدد حقوق الأفراد وواجبات المؤسسات، مما يترك ثغرات كبيرة أمام سوء استخدام البيانات.
وبالتالي، فإن الإطار العراقي الحالي يفتقر إلى شمولية المعايير اللازمة لمواجهة تحديات العولمة الرقمية وحماية البيانات الشخصية بفعالية.
ثالثًا: الإطار القانوني لحماية البيانات الشخصية في الاتحاد الأوروبي.
يشكل الاتحاد الأوروبي نموذجًا متقدمًا في حماية البيانات الشخصية من خلال اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) لعام 2018، التي أعادت تعريف العلاقة بين الأفراد والمؤسسات في الفضاء الرقمي. ومن أبرز ملامح اللائحة:
1. تعريف شامل للبيانات الشخصية:
يشمل كل ما يمكن أن يحدد هويةه الفرد مباشرة أو ضمنيًا، بما في ذلك البيانات البيومترية والسلوكية.
2. حقوق الأفراد:
تشمل الحق في الوصول إلى البيانات الحق في التصحيح، الحق في مسح البيانات ("حق النسيان") والحق في نقل البيانات بين مقدمي الخدمة.
3. واجبات المؤسسات: ضرورة الحصول على موافقة واضحة، حماية البيانات بتقنيات تشفير متقدمة، والإبلاغ عن أي خرق للبيانات خلال فترة زمنية محددة.
4. العقوبات:
فرض غرامات مالية ضخمة تصل إلى 4% من إجمالي الإيرادات السنوية للشركة في حال مخالفة القانون.
5. الرقابة المستقلة: إنشاء هيئات وطنية مستقلة لمراقبة تنفيذ القانون والتأكد من التزام المؤسسات والمعنيين.
تُعد GDPR معيارًا عالميًا وقد أثر على العديد من التشريعات خارج الاتحاد الأوروبي بسبب صرامته وشموليته.
رابعًا: التحديات في حماية البيانات الشخصية
رغم وجود تشريعات لحماية البيانات يواجه العراق وأوروبا على حد سواء تحديات مشتركة نتيجة التطور السريع للتكنولوجيا أبرزها:
1. تطور التكنولوجيا الرقمية بسرعة:
مثل الذكاء الاصطناعي إنترنت الأشياء وتقنيات الحوسبة السحابية، ما يصعب مواكبة التشريعات لهذه التطورات.
2. تبادل البيانات عبر الحدود:
صعوبة تطبيق القوانين الوطنية عند نقل البيانات بين دول مختلفة.
3. ضعف الوعي الرقمي: نقص الوعي القانوني لدى المواطنين والمؤسسات بأهمية حماية البيانات الشخصية.
4. تهديدات الأمن السيبراني:
مثل الاختراقات الإلكترونية، الاحتيال الرقمي، وتسريب البيانات الحساسة.
خامسًا: مقارنة بين العراق والاتحاد الأوروبي
محور العراق والاتحاد الأوروبي (GDPR)
- وجود قانون مستقل
- قانون شامل ومحدد
- تعريف البيانات الشخصية
- حقوق الأفراد محدودة كاملة، تشمل الحق في المسح والنقل
- العقوبات ضعيفة أو غير محددة صارمة تصل إلى 4% من الإيرادات
- الرقابة محدودة هيئات مستقلة للرقابة
- التعامل مع البيانات العابرة للحدود لا يوجد إطار محدد تنظيم دقيق لعمليات نقل البيانات خارج الاتحاد.
تشير المقارنة إلى فجوة كبيرة بين التشريع العراقي والمعايير الأوروبية، ما يجعل الأفراد العراقيين أكثر عرضة للمخاطر الرقمية.
سادسًا: التوصيات
لتطوير منظومة فعّالة لحماية البيانات الشخصية في العراق، يُوصى بما يلي:
1. سن قانون مستقل لحماية البيانات الشخصية:
يشمل جميع مراحل التعامل مع البيانات من الجمع والمعالجة إلى التخزين والنقل.
2. تعزيز التوعية الرقمية والقانونية:
إدراج برامج تدريبية في المدارس والجامعات لرفع وعي الأفراد بحقوقهم الرقمية.
3. تأسيس هيئة رقابية مستقلة:
لمراقبة تطبيق القوانين وضمان الالتزام بالمعايير الدولية.
4. تحديث التشريعات بشكل دوري:
لمواكبة التطورات التقنية مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة.
5. تفعيل التعاون الدولي: توقيع اتفاقيات لحماية البيانات عند نقلها عبر الحدود وضمان تطبيق أفضل الممارسات العالمية.
ختاما في زمن العولمة أصبحت حماية البيانات الشخصية ضرورة قانونية وأخلاقية على حد سواء وتظهر الدراسة المقارنة بين العراق والاتحاد الأوروبي أن هناك فجوة تشريعية واضحة في العراق الأمر الذي يجعل الأفراد والمؤسسات أكثر عرضة للمخاطر الرقمية ومن ثم، فإن تطوير إطار قانوني شامل، تعزيز الوعي القانوني إقامة هيئة رقابية مستقلة، وتفعيل التعاون الدولي، تعد خطوات أساسية لضمان حماية الحقوق الرقمية للأفراد ومواكبة المعايير العالمية المتقدمة في هذا المجال.
***
د. رافد القاضي






