آراء

آراء

تكمن أهمية ثورة الرابع عشر من تموز 1958 من حيث الجوهر، ليس، تأثيرها على التاريخ والسياسة في العراق وحسب، إنما على المنطقة بشكل عام. إنها كانت بكل المقاييس ثورة حقيقية شعبية اعتباراتها القيمية لاتزال رغم مرور أكثر من ستة عقود ونيف على قيامها وتعرضها للتشويه والتزوير والتزييف من قبل أعدائها، ثابتة، أسست لأول جمهورية وطنية في تاريخ العراق المعاصر.

تعرضت للأسف، مع حلول ذكراها السادسة والستين لأعتى ضربة مأجورة. إذ أصدر البرلمان العراقي، قبل أسابيع، فتواه بإلغائها دون استفتاء شعبي أو اتخاذ إجراء قانوني حيث إن الدستور يؤكد بأن العراق دولة "جمهورية" أُسِّسَتْ أثر ثورة شعبية حددت هويتها الوطنية كجمهورية ولم تتغير، من هنا، يجب على العراقيين، قراءة ودراسة التاريخ الخاص بثورة تموز وتحليل تأثيرها على التاريخ والسياسة في العراق والمنطقة بشكل عام. أيضا من المهم كشف المعلومات والحقائق المتعلقة أو تدور حول ثورة تموز 1958 لزيادة الوعي الشعبي بأهمية هذه الثورة وما حققته من إنجازات اقتصادية وصناعية وإعمارية وسن قوانين مدنية حديثة رغم تعرضها إلى العديد من المؤامرات الداخلية والخارجية.

 إن الطريقة والزمان الذي اتخذ فيه قرار إلغاء "اليوم الوطني" لثورة الرابع عشر من تموز، لم يكن منسجما مع الإرادة الشعبية للعراقيين على الإطلاق. قرار، كارثي هدفه تصفية ما تبقى له علاقة "بالهوية العراقية"، وطنيا ودوليا. إذ لم تكن هناك "رسالة أسمى" وراءها: نحن جميعا عراقيون، وبهذا المعنى، ألا يحق لنا أن نفتخر بكوننا عراقيين نظهر مدى سعادتنا وفخرنا بهويتنا وانتمائنا إلى وطن اسمه العراق؟.

 ثورة الرابع عشر من تموز 1958 كانت ثورة شعبية تؤرخ تغيير نظام الحكم الملكي في العراق. تمت، بعد فترة طويلة، كان الشعب العراقي ينادي بالحرية والعدالة الاجتماعية وإنهاء وجود الاستعمار البريطاني والنفوذ الأجنبي في البلاد. وترجع أسبابها أيضا إلى العديد من العوامل، أهمها: الاستياء الشعبي العام من سوء الأحوال المعيشية وأساليب القمع والإقصاء السياسي التي تمارس من قبل أصحاب السلطة والنفوذ.

 اندلعت الثورة من قبل بعض الضباط الأحرار في الجيش العراقي بقيادة عبد الكريم قاسم ودعم مجموعة من القوى الوطنية والأحزاب السياسية المعارضة. فألغي النظام الملكي وحل مكانه في العراق "نظاما جمهوريا". وقد قامت الحكومة الجديدة بإجراء إصلاحات سياسية واجتماعية، بما في ذلك تقليص نفوذ القوى الاستعمارية وإصلاح القوانين وتوسيع الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، وعلى الرغم من بداية واعدة، إلا أن النظام الجمهوري، الذي تأسس، واجه العديد من التحديات والصراعات السياسية في السنوات اللاحقة. وفي 8 شباط 1963، حدث انقلاب عسكري أدى إلى سقوط قاسم وتولي الحكم حزب البعث العربي الاشتراكي. إلا أن ثوار الرابع عشر من تموز يعتبرون من الشخصيات المهمة في تاريخ العراق الحديث، حيث شكلوا تحولا جذريا في نظام الحكم وأسسوا للعديد من التغييرات السياسية والقانونية والحقوقية والثقافية والاجتماعية في البلاد.

 لقد فتحت ثورة 14 تموز الأبواب أمام آفاق جديدة وحققت عدة إنجازات خلال سنواتها الخمس أهمها: إقرار دستور جديد تضمن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وتوزيع السلطات. كما تم إلغاء المفاصل التقليدية للحكم الملكي وإنشاء نظام جمهوري. وخلال الفترة الأولى بعد الثورة، تم تنفيذ إصلاحات اجتماعية واقتصادية هدفت إلى تحسين أوضاع الشعب العراقي. أيضا، تم إلغاء الضرائب الجبائية الثقيلة على الفقراء، وتحسين ظروف العمل وإقرار حقوق العمال والمرأة والأمومة. كما تم إلغاء العبودية وتعزيز المساواة بين الأعراق والديانات. والتركيز على التطوير الاجتماعي والصحي والتعليمي وتوسيع نطاق التعليم العام وتحسين جودته. وتم تطوير البنية التحتية الاجتماعية بإنشاء المدارس والمستشفيات ومرافق أخرى لخدمة الشعب. وعلى الرغم من التحديات والاضطرابات العديدة التي واجهت الثورة، فقد تمكنت من تحقيق التقدم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وإخراج العراق من الهيمنة الاستعمارية.

 أثارت هذه الإنجازات مخاوف بعض الدول الكبرى مما أدى ذلك لاحتدام الصراع في العراق، وكان معقدا شمل أطرافا متعددة تنافست على النفوذ والسلطة. وتشير المعلومات إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا كان لهما دور في العمل لإسقاط حكومة عبد الكريم قاسم. إذ لدى البلدين مصالح استراتيجية في المنطقة ومخاوف من تأثير النظام الوطني على مصالحهما. وإن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)، قد قدمت بالإضافة إلى تورط بريطانيا في الانقلاب دعما لوجستيا وماليا للمجموعات المناهضة، بما في ذلك أعضاء حزب البعث السابقين الذين تم تجنيدهم للمشاركة في الانقلاب في العراق.

 وتؤكد الوثائق بأن انقلاب 8 شباط 1963، كان حدثا خطيرا في تاريخ العراق الحديث. تتحمل مسؤوليته والتخطيط له دولتين استعماريتين، بريطانيا وأمريكا. أدى لمقتل رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وعدد من أعضاء حكومته، وتصفية آلاف المواطنين من مختلف التيارات السياسية والعقائدية وبشكل خاص الشيوعيين وقيادات عسكرية ووطنية ونقابية عمالية وطلابية، وتم إعدامهم علنيا. وتحول العراق إلى دولة حزبية تقود إلى تطبيق الأيديولوجيا البعثية القائمة على الترهيب والقمع والاضطهاد. أثر على المستوى البشري بشكل سلبي على حرية الرأي وحقوق الإنسان في العراق لفترة طويلة.

 اليوم وبعد أكثر من عقدين على سقوط نظام البعث، لا يزال العراق يتسم بالعنف والصراعات السياسية والأيديولوجيا الشعبوية التي لا تضع أهمية لمفهوم الهوية ومفرداتها القيمية وتقود إلى تفكك العراق في أجزاء كبيرة من البلاد. والأخطر: سيطرت الغوغاء على الحكم، درجة أنها تجرأت أن تتجاوز على أهم أسس الدولة الحصرية، إصدار مجلس النواب قرار إلغاء "اليوم الوطني" ممثلا بثورة 14 تموز دون أي مسائله قانونية وشعبية. ذلك يقلق ـ بالتأكيد ـ مختلف فئات الشعب العراقي ويثير مخاوفهم بشأن مستقبلهم والحيرة من غريب يثير الحنين لإعادة الملكية أو نظام البعث بالوكالة...

***

عصام الياسري 

قل ما شئت عن عبد الكريم قاسم.. قل عنه انه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكرد عام (61)، واستئثاره بالسلطة، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية، وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963). ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات. ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين السياسيين وعودة المنفيين وفي مقدمتهم الملا مصطفى البرزاني الذي استقبله اهل البصرة بالأهازيج.. ولكن، حتى أبغض اعدائه، لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية.. وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية بالدرجة الاساسية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم).. فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين، فلم يطل لحية وما لبس عمامة.

 يعيش براتبه، ويسكن غرفة!

  اصبح قاسم الرجل الأول في الدولة العراقية، ومع ذلك فانه ظل يتقاضى نفس راتبه العسكري. ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة. وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات، فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه. وما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية، بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع، فيما حكّام الخضراء منحوا انفسهم رواتب وامتيازات هي الأعلى في العالم!و يسكنون في قصور مرفهة.. مبردة، وسبعة مدن عراقية سجلت في يوم (11 تموز 2024) درجات الحرارة الأعلى في العالم.. وملايينها بدون كهرباء.. والماء شحيحا، وتراهم في نفاقهم القبيح والمفضوح يظهرون للناس يبكون على الحسين، الذي لو خرج الآن طالبا اصلاح الكهرباء، لاعترضوه وخيروه بين ان يرجع من حيث اتى او القتال!

 أبو الفقراء    

 كان قاسم يعيش هموم الناس الفقراء، وكان من اروع انجازاته أن بنى مدينة الثورة(الصدر حاليا) لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، ومدنا اخرى في البصرة واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، ولهذا منحه العراقيون لقب(ابو الفقراء).. فيما حكّام الخضراء حولوا الوطن خرابا، وافقروا 11 مليون و400 ألف عراقي بحسب وزير التخطيط في (2020)، وسرقوا 840 مليار دولارا بحسب (بومبيو)، وأن ما فيهم نظيف يد بشهادة مشعان الجبوري:(لابو عكال ولا ابو عمامه ولا الافندي ولا لجنة النزاهة كلنا نبوك من القمة للقاعده) واهازيج المتظاهرين في ساحات التحرير(باسم الدين باكونه الحراميه، الله واكبر يا علي الأحزاب باكونه) ووصف المرجعية الدينية لهم بانهم في الفساد.. حيتان!.

 والحقيقة التي تسكن اعماق قلوب حكّام الخضراء أنهم يكرهون عبد الكريم قاسم، لأنهم يعرفون أن العراقيين يقارنون بينهم وبينه فيعتبرون عبد الكريم انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته فيما هم فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغارا امام فضائله. ويعرفون انه لو سئل اي عراقي غير طائفي عن رأيه فيه وفيهم سيجيب بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاقه ونزاهته وخدمته لشعبه.. تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع). وما يوجعهم أكثر انهم يعرفون ان عبد الكريم قاسم باق في قلوب العراقيين رغم تلك السنين، فيما لن يبقى لهم ذكر، وبينهم من سيلعنون بعد مماتهم.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

14 تموز 2024

 

أذا كانت السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة فهل للديمقراطية ان تصاب بعدوى من ذلك!!!

مضى على وقائع المناظرة الرئاسية بين بايدن وترامب تقريبا اسبوعين، وقد جاءت النتائج سلبية بالنسبة إلى الديمقراطيين؛ إذ أثار التشتت الذهني والوهن البدني اللذان بدا عليهما بايدن خلالها حالة من الذعر بينهم، وأطلق نقاشاً بشأن قدرته على الاستمرار في السباق الرئاسي، وتأثير ذلك في سلوك الناخب الأميركي، قبل أقل من شهرين من المؤتمر الوطني للحزب في شيكاغو في آب/ أغسطس 2024، وقبل أربعة أشهر من إجراء الانتخابات العامة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024. وعزز أداء بايدن الباهت وتعبيرات وجهه التائهة، وتلعثمه المتكرر وقوام جسده المتهالك، وعجزه عن الرد بقوة على المزاعم والأكاذيب التي أطلقها ترامب، شكوك الناخبين الأميركيين في قدرات الرئيس البالغ 81 عاماً، إلا ان ذلك لم ينهي المسلسل الأدراماتيكي المذهل لبايدن بل تصاعدت الشكوك والدعوات في عدم مقدرته في الفوزعلى مرشح الرئاسة دونالد ترامب، بل ان الدعوات بدأت تتصاعد لأيجاد بديل عنه حفاظا على مكانة الحزب الديمقراطي، بما فيها ايقاف الدعم المالي لحملته الأنتخابية، ولكن اصراره في استمرار المتزايد لترشحة هو الآخر عقد المشهد، بل في تصريح له أنه لم يتنازل حتى يخبره الرب بذلك.

وعلى الرغم من أن ترامب يصغر بايدن بثلاث سنوات فقط، فإنه بدا خلال المناظرة أكثر تماسكاً ووعياً، وإنه كان يفتقر إلى الحجج المنطقية والصدق في نقاشاته والسذاجة السياسية والوعود الكاذبة. وقد اعتبر مسؤولون في الحزب الديمقراطي أداء بايدن الأسوأ في تاريخ المناظرات الرئاسية الأميركية، منذ بدأ بثها تلفزيونيا في عام 1960. ووفقا لأستطلاعات رأي أُجريت بعد المناظرة، فإن ثلاثة من أربعة ناخبين أميركيين، ونحو نصف الديمقراطيين، لا يعتقدون أن بايدن ينبغي أن يستمر مرشحاً عن الحزب الديمقراطي. وفي المقابل، يرى نصف الناخبين الأميركيين وأغلب الجمهوريين أن ترامب بدا أكثر تمتعاً بالقدرة الإدراكية اللازمة ليكون رئيساً. وقد افتقدت المناظرة الى الحدود الدنيا من أسس الأتصال السليم في دولة تتدعي قيادة العالم وتمتلك اكبر القدرات المالية والأقتصادية والعسكرية، واكثر بلدان العالم عراقة في الديمقراطية.

ما جرى بين المتحاورين هو افساد واعاقة لعملية التواصل وقد جسدتها أبرز ملامح ذلك في:

الإجهاد والخروج عن السيطرة: يُمكن أن يحصل سوء فهم لما يقوله الأشخاص المتكلمون أو المرسلون للرسائل في حال كان الفرد المتلقي مُرهقاً، أو في حالة نفسية سيئة، كما قد يقوم الشخص المُرهق أو المُجهد بإرسال إشارات غير لفظية مُربكة، أو قد يصدر عنه سلوك غير صحيح، لذا على الأفراد تعلّم كيفية السيطرة على عواطفهم وتهدئة أنفسهم قبل إتمام المحادثة؛ لتجنُّب لسوء الفهم أو الصراعات أحياناً.

قلّة تركيز: يحدث قلّة التركيز نتيجة تعدد المهام التي يقوم بها الفرد بنفس الوقت، ممّا ينتج عنه عدم الانتباه إلى بعض الإشارات غير اللفظية أثناء المحادثات، لذا من المهم تجنب الأمور التي تؤدي إلى التشتت وقلّة التركيز من أجل تحقيق التواصل بشكل فعال.

لغة جسد غير المتناسقة: يجب أن يتوافق التواصل غير اللفظي مع الكلام المنطوق، ولا يناقضه، فإذا لاحظ المُستمِع أنّ كلام الفرد الذي يُقابله يدل على شيء وتدل لغة جسده على شيء آخر، فإن ذلك قد يشعِره بأن المتكلم غير صادق بما يقوله، ومثال ذلك لا يجب على المتكلم الإجابة بكلمة نعم وفي نفس الوقت يهز رأسه بطريقة النفي.

لغة الجسد السلبية: تستخدم لغة الجسد السلبية في حال معارضة ما يقوله الشخص المقابل كدليل على رفض كلامه أو رسالته الموجّهة، ومن سلوكيات اللغة السلبية؛ تجنّب النظر بالعينين، أو هز القدمين، أو عقد الذراعين بشكل متقاطع، وبشكل عام ليس على الفرد الإعجاب بكلّ ما يُقال أو الموافقة عليه في حال لم يعجبه، لكن في نفس الوقت يجب عليه تجنّب إرسال إشارات سلبية لتجنّب وضع الشخص الآخر في موقف دفاعي، وليتمّ التواصل والاتصال بشكل فعال.

وكان التناغم بين مكونات عملية الاتصال سيئا فلم تنشئ اثناء الحوار وحدة موضوعية قائمة على اساس تفهم عناصر الاتصال وضرورات ايصال رسالة واضحة للمتلقي الناخب الأمريكي، فكان هناك صراع بين منشأ الرسالة " ترامب ـ بايدن "، ومحتوى الرسالة المنفعلة لكلا المتنافسين، وقد ترك المتلقي الأمريكي في دوامة صراع المتنافسين وبدون تغذية راجعة واضحة تعكس فهم الحوار لكلا المتنافسين، وقد انتفت البيئة الحوارية المناسبة لطرح القضايا المصيرية لحقبة رئاسية قادمة، كما كان سياق كلام كلا الطرفين ليست ديمقراطيا بل معوقا للحوار الديمقراطي، وقد  الأنفعالات بين الطرفين من مصادر الأخفاف الرئيسية في اتمام عملية التواصل لبلوغ الأهداف. فقد خسر الجولة بايدن بفعل عوامل صحية ونفسية وضعف عام انتابه اثناء ادائه رغم ان الكثير يتفق انه رجل السياسة الأمريكية لعقود. أما ترامب فقد كسب الجولة ليست بدهائه السياسي ومقدرته على ايجاد الحلول للمعظلات التي تواجه امريكا داخليا وعالميا، بل فاز على خلفية ضعف بايدن الصحي الواضح، وقد دغدغ ترامب المشاعر الشعبوية لدى فئات واسعة من الأمريكيين، كما انه اغرى الأمريكيين انه لا يخوض في اي مطبات سياسية وتحالفات او الدفاع عن اي دولة في العالم تتعرض الى مخاطر إلا مقابل فاتورة مدفوعة الثمن مسبقا وهو يحمل شعار" نحميك على قدر ما تدفع لنا ".

هذا يذكرنا في المتناقضات أنه عندما يتحدث أغلب سكان العالم عن الديمقراطية فإن النسخة الأمريكية من الديمقراطية تكون هي المسيطرة على خيالهم في أغلب الأحيان. النموذج الأمريكي هو الأبرز بين باقي النماذج الديمقراطية رغم أنه ليس النموذج الأمثل ولكنَّه ربما يكونُ الأقدر على الترويج والرواج مستغلًا في ذلك سطوة الولايات المتحدة على جميع الأصعدة تقريبًا. فلا يمكن لأحد أن يتجاهل أن الديمقراطية الأمريكية أو النموذج الديمقراطي للولايات المتحدة الأمريكية هو النموذج السياسي الأشهر والأقوى منذ خمسينات القرن الماضي وحتى اليوم في اطار الممكنات المتاحة الى الآن.

"الأمة الأمريكية" التي يبلغ عمرها قرابة الأربعة قرون وديمقراطيتها اكثر من 250 عاما استطاعت أن تصنع نموذجا ديمقراطيا ناجحا " حسب الكثير " متفوقة في ذلك على أمم كثيرة أعرق منها حتى في الديمقراطيات الأخرى. لكن الأمر لم يكن يسيرا ولا كان الطريق ممهدا أو مرسوما بوضوح بل كانت هناك العديد من العقبات التي كادت تودي في أحيانٍ كثيرة باتحاد الدولة الوليدة. مفارقة ترامب تضع سلوكياته الفردية بالضد من الديمقراطية المستقرة، وبالتالي يثير في الشارع الأمريكي والمجتمع الدولي رعبا من نوع خاص يتجسد في مغامرة ترامب في العبث في التقاليد الديمقراطية المستقرة في امريكا. وهنا حصرا نتحدث عن قصور في السلوكيات الفردية وليست عن التجربة الديمقراطية بذاتها، وهنا فأن تجربة الحكم لا تسمح بصنع دكتاتور بقدر ان الدكتاتورية هنا صناعة ذاتية بأمتياز وللنشأة الاولى للدكتاتور ملابساتها الخاصة بعيدا عن طبيعة الحكم.

واذا كانت تجربة ترامب السابقة في رفض التداول السلمي للسلطة مؤطرة بالمواصفات الشخصية له وليست بالتجربة الديمقراطية ومكوناتها السياسية فأن العالم العربي وعموم بلدان العالم الثالث  الأمر مختلف حيث التداول السلمي للسلطة لاوجود له، بل ومؤطرا بأيديولوجيات وعقائد دينية ووضعية وسياسية  ترفض في عمومها فكرة التداول السلمي للحكم وتعتبر وجودها خارج اطار الزمان والمكان الذي تحكم فيه وان صلاحيتها ابدية وغير قابلة للأنتهاء، وبالتالي المشكلة هنا هي في الأفكار والقناعات السياسية وجوهر التفكير بمشكلة الحكم وفلسفته وماذا يعني. والمشكلة هنا في البيئة الحاضنة لممارسة الديمقراطية، ونموذج العراق والدول العربية الأخرى حاضرة، فحين سقوط الأنظمة الدكتاتورية سواء بهبات ما يسمى بالربيع العربية ام عبر الأحتلال الأمريكي والغربي فأن البيئة السيكواجتماعية والسياسية لم تكن مواتية لأحتضان بذور الديمقراطية الوليدة، فلا نستغرب من تصدر القوى الأسلاموية والشوفينية من تصدر المشهد السياسي وإدعائها الكاذب في ممارسة السلطة وتداولها سلميا، عبر سلوكيات انتهاك ممارسة الديمقراطية من خلال الترغيب والترهيب واستخدام السلاح لأعاقة ممارسة طقوس الديمقراطية الى جانب ارتهانها للأجندة الأقليمية ذات البنية العقلية السياسية المتخلفة.

ما تمارسه قوى اعاقة التداول السلمي للسلطة هو هوس السلطة والرغبة الشديدة للتمسك بها والاستحواذ على مغانمها، ومحاولة عدم التفريط بها مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك (حروب، فتن، اغتيالات، فقر، فساد بأنواعه، ضياع جزء من الأراضي، وضع البلد في مستقبل مجهول، افلاس الدولة، هدر للمال العام وسرقة مدخرات الشعب)، فالبعض يضحي بوطنه ويضحي بشعبه ويضحي بولده لغرض الاستمرار والبقاء على رأس السلطة. نموذج العراق حاضرا في قتل 1000 متظاهر وجرح اكثر من 30000 واعاقة آلاف بأعاقة منتهية هو دليل على ان السلطة مفسدة عند هؤلاء.

لذلك يمكن القول، بأن هوس السلطة في تلك النماذج هو بمثابة مرض نفسي ليست حكرا على شخصا كما في حالة ترامب، لكنه مرضاً عقائديا يلف كل منتسبي تلك الفكرة المريضة لا يمكن علاجه بسهولة البته، كون المصاب به ومجموعته يرفضون التشخيص، إضافة إلى رفضهم الشديد لأخذ العلاج، لهذا السبب نظر أغلب الباحثين والمفكرين إلى السلطة بأنها مفسدة، لذلك سعى كل من يريد تجنب هذه المفسدة إلى تقييدها وتقنينها في إطار المؤسسات القانونية والدستورية، ومع هذا فأن القدرة على اشاعة الخراب وحرف مسار الاستقرار يفوق اضعافا سلوكيات ترامب البسيطة والتي لا تجدي نفعا في المجتمع الامريكي الذي أتقن لعبة الديمقراطية.

ويلعب هنا التلوث السيكوباتي والفساد حيث الشخصية البارانوية والشخصية النرجسية هما أكثر شخصيتين يسعيان نحو السلطة ويتواجدان فيها ويتشبثان بها، والسلطة بالنسبة لهما احتياج شخصي لتدعيم الذات وتضخيمها لذلك نراهما في طريق سعيهما للسلطة ينتهكان الكثير من القيم أو الأعراف أو القوانين تحت زعم "الغاية تبرر الوسيلة"  أو تحت وهم أنها ضرورات مرحلية يتم فيها التجاوز عن بعض المحظورات، وحين تصل هذه الشخصيات إلى السلطة وتذوق طعمها وتتوحد معها تتأكد أنه لا وجود لها بدون السلطة لذلك تستمر في محاولات الاستبداد بالسلطة والتشبث بها وهذا يستدعي ممارسة سلوكيات سيكوباتية للتحايل والالتفاف والتلفيق والخداع والكذب، وتصبح هذه الأشياء من ضرورات الاستمرار في اغتصاب السلطة، وتشكل تجربة الأسلام السياسي في العراق وفي الدول العربية الأخرى نموذج للفساد السياسي من خلال التحايل وحرق صناديق الأقتراع والتسلح ضد العزل والترهيب والتخويف من خلال الخطاب المقدس.

وهكذا يحدث التلوث السيكوباتي لشخصية صاحب السلطة وينتشر هذا التلوث في كافة جوانب المجتمع في صورة فساد عام، والفساد هنا ضرورة بقاء حتى يحدث تناغم بين المنظومة السلطوية والمنظومة العامة لأن المنظومة العامة لو بقيت نقية في حالة فساد وتلوث المنظومة السلطوية فإنها سرعان ما تلفظها، وكل هذا يحدث طبقا للمعايير السيكوباتية التي تهتم بالمبالغة في إعلان عكس ذلك فنجد مبالغة في الحديث عن الشفافية والطهارة والمبالغة في الحديث عن المثاليات الأخلاقية والمبالغة في الطقوس والمظاهر الدينية الخالية من روحانيات الدين، في الوقت الذي يستشري فيه الفساد ويتوحش.

ما يجري هو صراع للسلطة المتأرجحة بين ما تعلنه وما تبطنه.. بين الايديولوجيا (وجهها المعلن)، وبين السيكولوجيا (وجهها الخفي) الذي في غالب الأحيان يخترق جدار الإيديولوجيا لتحقيق الأهداف، وممارسة السلطة لكسب الخضوع والطاعة بالوسائل التي تريدها، ولا تتوانى لحظة عن ابتلاع الدولة فيما إذا اقتضى الأمر ذلك، فتمسي سلطة ودولة في آن، فتستبد بكل شيء، وتعصف بالمعارضة بحجج شتى، الأمر الذي يوسع الهوة بين السلطة والشعب، فتنشب الأزمة وهكذا نسترخص الضحايا والشهداء، وتبقى معرفة قتلة المتظاهرين لغزا صعبا ولكنه وسهلا حين توفر الأرادة السياسية الصادقة.

الخسارة تبدو طبيعية، فماذا يمكن أن يحصد رجل لا ينظر أبعد من كرسى حكمه فى نظام سياسى يرتكز على الديمقراطية، ولا يمنح أى فرد مهما كانت مصادر قوته ومهما امتلك من أدوات فرصة الاستمرار فى الحكم إلا بإرادة شعبه؟

وصل "ترامب" إلى البيت الأبيض سابقا على سفينة "الشعبوية".تلك "الموضة" التى خلبت عقل المواطن الأمريكى لبعض الوقت، وأحس معها بالانبهار بشخصية «ترامب» الذى يحمل خطاباً جديداً ويؤدى بطريقة شديدة الإثارة، وكأنه شخصية وقعت من أحد أفلام الأكشن.

أن "ترامب" جريئاً.. فردياً.. لا يعرف الحسابات السياسية ولا يريد أن يفهم شيئاً عنها.. يبيع العقل فى سوق الإثارة.. يضع الأوهام فى علب شديدة الشياكة.. ويبيعها بأغلى الأثمان.. لا يحب المؤسسات لأنه جاء من خارج المؤسسة السياسية.. من يختلف معه فى الرأى يطيح به فى عرض الطريق. سيخسر ترامب مهما بلغ من حنكة في المراوغات وتشويه الحقائق، فالديمقراطية رغم انها لعبة في بعض وجوههها إلا انها تستند الى الذكاء الاجتماعي في الوعي وقراءة المستقبل، وان ترامب لا يمتلك تلك الفطنة في ادارة الصراع مع منافسه بايدن لأنه يستند الى الأنفعلات في كسب الاصوات وقد يخسر الكثير من الاصوات.

سيربح بايدن او أي بديل عنه الانتخابات ولكن لا يعني ذلك تغير جوهري في السياسة الامريكية كما يتمناه العرب وغيرهم من الشامتين بخسارة ترامب أو بالعكس، لأن السياسة الامريكية تستند الى ثوابت رغم تغير الوجوه. وهنا نستطيع القول ان نموذج بلداننا الذي يصنع سلطات مطلقة مقترنة بفساد مطلق، فأن المواصفات الشخصية لبعض القادة الديمقرطيين كما في التجربة الأمريكية ان يصنعوا فساد نسبي مؤقتا عبر الأستحواذ على القرار السياسي والأقتصادي ولكنه لا يدوم، فاللديمقراطية أنياب تحاسب منتحلي صفة الطغاة.

***

د. عامر صالح

لماذا تذهب بعض أجمل أكواخ الطعام في نيويورك للعدم؟.

بقلم: دوداي ستيوارت

ترجمة: د. صالح الرزوق

***

في مساء يوم الجمعة، ومع هبوب النسمات، وفي مطعم إندوشاين، وهو في شارع لافاييت بمانهاتن  تسلل ضوء شمس الغروب من بين شقوق أغطية النوافذ وكانت امرأة شابة تشرب كوكتيل لايشي ساكيتيني، بالإضافة إلى جماعة من ستة اشخاص ينتظرون زجاجة من نبيذ روزي. وكانت أوراق النباتات تهتز في الأصص، وتنبعث موسيقا مرحة من مكبرات الصوت. اقترب النادل ومعه طبق لفافات الربيع المقلية، ومر  كلب مرهق ونظر بفضول إلى الداخل. ثم خيم صوت نفير شاحنة إطفاء الحريق لحظة عابرة على كل تلك الثرثرة والأفكار.  ولم نكن فعليا داخل إندوشاين، ولكننا في مطعم "الكوخ الاستوائي"، وهو سقيفة طعام محسنة تنتصب على جانب الطريق تحت رحمة جائحة كورونا.

وهذه ليست إحدى مقابر الفئران سيئة التنظيم التي تغطيها الرسومات  والمنتشرة في المدينة. ولكن لها أبواب تنزلق، ومزودة بسخانات، ومراوح سقفية، ومكبرات صوت، وكاميرات للمراقبة، وأضواء في أقفاص من البامبو. والموسيقا منتقاة من أنواع هادئة بالمقارنة مع ما يعزفه المطعم في الداخل. وتتسلق على الجدار الخلفي نباتات خضراء حية وغزيرة، وتحتها منصات ذات وسائد، مع مساند تحمل صورة أوراق الموز.

فضاء ناقل للرغبات الجنسية ويسهل عليك تناول وجبة الأرز الدبقة مع أضلاع صدر الخنزير.

بعد صدمة الجائحة، أوقفت المطاعم خدماتها في المدينة، وحولت صالات الطعام إلى أكواخ طعام نصبتها في المدينة، وكان بعضها أجمل من غيرها.   ومثل أشياء كثيرة في شوارع نيويورك، كانت الأكواخ مزعجة. اشتكى بعض السكان أنها تتسبب بالضجة وزيادة النفايات، وتقليل مستوى الحياة النوعية في المدينة. تأسس فريق أطلق على نفسه اسم Cue-Up، وهو اتحاد من جماعات محلية والاسم بالكامل "الجماعة المتحدة من أجل سياسة حضرية عادلة" ورفع شكوى قضائية على أكواخ الطعام. ولكن رفضت الدعوى، مع ذلك تابعت الجماعة الإعراب عن معارضتها.

وفي عام 2022 أعلن العمدة إيريك أدامز عن برنامج طعام دائم في الهواء الطلق - تحكمه قواعد جديدة. تضمن عدم السماح بإقامة بنية مغلقة على الأرصفة، وعدم السماح بتناول الطعام في الشارع في الشتاء، ابتداء من 30 تشرين الثاني وحتى 31 آذار.

وطالب البرنامج الجديد بإعادة تصميم الأكواخ لأن المدينة ترغب أن يتمكن السائق والمشاة من رؤية مساحات الطعام المتاحة، وأن يكون بمقدور عمال المطاعم تنظيف ما حولهم وما تحت أقدامهم، وأن  يسهل  على تلك الأماكن الموجودة في الشارع تفكيكها في نهاية الموسم كي لا تعيق ذوبان وكسح الثلوج.  

وعلى أي متجر أن يتقدم بطلب رخصة لتوفير مساحة إطعام في الهواء الطلق، ويبلغ رسوم مقهى الرصيف أو مقهى الممشى 1050 دولارا و 2100 إن كانت الرخصة تشمل كليهما، ويوجد رسم للجلسة العامة، وتأمينات ورسم شغر أماكن عامة، ويتوقف مقداره على المساحة التي يستعملها المطعم وموقع هذه المساحة. وأسعار الإيجار المرتفعة في مانهاتن هي الأعلى والأغلى.

وعلى المطاعم المشاركة في برنامج الإطعام بالهواء الطلق أن تتقدم بطلب عودة في 3 آب - أو عليهم فك أكواخهم وإزالتها. ولا بد من فك كل أكواخ الطعام بحلول شهر تشرين الثاني.

قالت ميرا جوشي نائبة العمدة لشؤون العمليات:"نضج البرنامج الذي تطور من حاجتنا له، ولدينا الآن معايير لضبط كل البنى المتخصصة بالطعام في الهواء الطلق، ولضمان جمالياتها وترتيبها، وأنها تعمل حسب الإجراءات العامة التي تحسن شروط النشاط  في الهواء الطلق في مدينة نيويورك".

وتلخص هدف المدينة بإيجاز:"لا مزيد من الأكواخ القبيحة".

وأكواخ إندوشاين، غير القبيحة، لا تتبع التعليمات الجديدة.

قال جين مارك هومارد، أحد أصحاب المطاعم، إنه على إندوشاين أن لا تقيم ما أوصت به معايير المدينة:"ليست نيويورك مكانا متكررا، وكل موضع مختلف عن غيره".

ويقول هومارد: بالنسبة لإندوشاين يبدو ذلك هبوطا بالنوعية، وقد أنفقوا على الأكواخ أكثر من 80 ألف دولار. ويضيف:"ولا بد أن تجذب الناس أكثر للجلوس في الهواء الطلق في لافاييت". وكان هومارد قد بدأ العمل في إندوشاين بصفة نادل عام 1986، وشق طريقه حتى بلغ مرتبة مدير وبعد ذلك مرتبة مالك. يقول بهذا السياق:"كنت أريد أن يبدو مثل فانتازيا استوائية أمام المطعم في الهواء الطلق. 

وهو ليس وحده من يتألم حين يرى ما أسسه يتعرض للإزالة.

ويوجد خارج مطعم جي ويز في تريبيكا بناء أخضر أخاذ بناه رون بريت، ويحاول الآن بيعه في أسواق الفيس بوك.

بريت نجار محلي يبلغ 52 عاما يهتم بتجهيزات الأفلام ويعيش بجوار المطعم. صمم كوخ المطعم الأصلي بسرعة وتابعه صاحب المطعم وطاقم المطبخ، ويقول بريت "إنه بناء عاجل"، وتطوع بتطويره. قال:"يمكنني أن أجعل من هذا الشيء مكانا أنيقا".

وأضاف جناحا مصغرا، له أرض من الألومنيوم عالي الخواص مع جدران مضافة. قال:"كنت أحاول أن أحيي به جو الحديقة المركزية". ويطلب بريت 5000 دولار. وتابع:"هذا يجعل منه كوخا مذهلا مؤنثا، أو ممشى على ضفاف بحيرة. وهو أجمل شيء بنيته". ويسعد بريت أن يزيله وأن يقدمه هدية إلى شخص آخر. وحسب قوله "الكثير من الإنتاج السينمائي قيد الانتظار، ويمكنني تنشيط  بعض الاعمال". وإن لم يرغب بشرائه أحد لدى بريت خطة تقضي "بنشره إلى أجزاء صغيرة، وسريعا يذهب للنفايات".

سيؤول كوخ إندوشاين  بمصيره ألى النفايات أيضا.

قالت نومارد:"للأسف إنها سوف تنتهي إلى مكب النفايات".

حتى الوسائد؟. ضحك وقال:"سأحتفظ بالوسائد". أضاف:"حازت على الإعجاب عدة مرات. ومن المؤسف أننا في النهاية سنزيل كل شيء. ولكن أعتقد أننا بخير. كل نيويورك تدخل دورة الطبيعة".

اعتادت نيويورك على طقس الطعام في الهواء الطلق، منذ قرون

لسنوات طويلة يوفر الطعام في الفضاء المفتوح في مدينة نيويورك  مقعدا أماميا لأحد أهم المشاهد في العالم: وهو مشهد المدينة ذاتها.

في عام 1934 التقطت اثنتان من سيدات المجتمع، السيدة ناتالي فان فليك والسيدة ثيلما كريسلير فوي،  صورة لهما وهما تتناولان  الكوكتيل على طاولة ناعمة قرب الزقاق السادس والحدبقة المركزية الجنوبية.

يظهر في صورة ثانية من عام 1934 اثنان أنيقان يتناولان الطعام على الممشى خارج مطعم هارلم.  تحت الصورة عبارة تقول:"مؤثرات باريس تغزو هارلم. وتظهر في الصورة واحدة من أوائل مقاهي الرصيف في هارلم. وهو في الزقاق السابع من برودواي هارلم.

ويبرز في صورة من عام 1975 كلب أفغاني ينضم إلى حفة طعام في دار شواء أو. هنري في قرية غرينيتش. ولدى المكتبة العامة في نيويورك نسخة محدثة من قائمة الطعام، ويبدو فيها أن تكلفة شريحة لحم الخاصرة بلغ 4.50 دولار. ويقول مراسل التايمز في تقرير كتبه عام 1933 عن مطاعم الرصيف: لا أحد سيدعي أن نيويورك هي مدينة مثالية للطعام في الفضاء المفتوح. فهو قذرة حتى حدائقها الريفية قذرة مع أن الوجبات تقدم في الخارج في الصيف ومنذ سنوات. والجو أقذر على الأرصفة في الزقاق الخامس السفلي حيث يضر صوت الأسلحة النارية وضجة المحركات والسيارات الشاحنة والعادية أناقة وجماليات الدردشة التي تعقب الطعام. والخدمة ليست رائعة. والمطابخ وغرف الحمامات بعيدة عن الرصيف حتى أن وجبة السبع أطباق تتعرض للتأخير المتكرر. وفي أفضل الأحوال الطعام على الرصيف في هذه الظروف متعة يجب موازنتها بالتخيل والرغبة.  يضيف النادل قائلا:"الفكرة هي التي تهمنا، وفكرة مقهى على الرصيف في نيويورك فكرة جميلة".

***

............................

* دوداي ستيوارت Dodai Stewart صحافية ومحررة في النيويورك تايمز.

 

نستكمل في هذه المقالة ما تناولناه بالتحليل النقدي في مقالة سابقة (الأخبار 2 تموز -2024) لبعض ما أثير من نقود موضوعية إلى جانب اتهامات ظالمة للعالم الأميركي الألسني نعوم تشومسكي، ومثالها النقد الذي وجهه الناشط نوح كوهين وأعاد ترويجه بعض المعلقين في الصحافة ومنصات التواصل:

ينتقد نوح كوهين - وهو على حق هنا -  اعتقاد تشومسكي بعدم وجود أي اقتراح مشروع لإقامة دولة فلسطينية علمانية ديمقراطية من أي مجموعة فلسطينية أو إسرائيلية بالطبع. أو اعتقاده أن هذه - الدولة العلمانية الديموقراطية الواحدة في فلسطين - سوف تتحول قريباً إلى دولة فلسطينية ذات أقلية يهودية أو قوله وهو الأخطر إن "أولئك الذين يطالبون الآن بدولة علمانية ديمقراطية، في رأيي، يقدمون الأسلحة للعناصر الأكثر تطرفاً وعنفاً في إسرائيل والولايات المتحدة".

إن كلام تشومسكي هنا تبريري وغير موضوعي تماما. فقوله "لم يكن هناك قط أي اقتراح مشروع لإقامة دولة علمانية ديمقراطية من أي مجموعة فلسطينية (أو إسرائيلية بالطبع)"، ليس صحيحاً، بل إنَّ أولى المشاريع المناهضة للغزوة الصهيونية والتي جاءت من جهة اليسار العالمي ممثلا بالحركة الاشتراكية والشيوعية، قبل قرار الحكم الستاليني الاعتراف بقرار تقسيم فلسطين وبقيام الدولة الصهيونية، وهي المرحلة التي كان تشومسكي الشاب شاهداً عليها ومشاركا فيها، وقد طالبت تلك المشاريع النظرية السياسية بدءاً بقيام دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية لجميع سكانها.

ولكن مشروع التقسيم، وهزيمة جيوش الدول العربية في حرب 1948، جعل هذا الحل يتراجع الى الخلف على المستوى البرنامجي، وخصوصا في عهد طغيان الستالينية، وتكرَّس هذا التراجع بعد هزيمة جيوش الحكومات العربية في حزيران- يونيو 1967. وحتى بعد تفكك الستالينية وتلاشيها ظلت بعض الأطراف الفلسطينية ترفع شعار الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين. كما أكد ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية لعام 1968 على "رفض البناء الاستعماري للتقسيم العرقي والديني فكل شعب فلسطين التاريخي، بغض النظر عن الدين، كان يعتبر فلسطينيا"، كما يلاحظ كوهين، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلا، وهذا ما أغفله كوهين. فقد تخلت الجبهتان - الشعبية والديموقراطية - عن هذه الاستراتيجية وتبنتا تدريجيا شعار حل الدولتين، وتم تغيير ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية بتاريخ 24 أبريل/نيسان 1996، وصار ينص في مادته الثالثة على أن (الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه ويقرر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه وفق مشيئته وبمحض إرادته واختياره)، وفسرت عبارة "في وطنه" بأن المقصود بها هو ما تبقى من أرض فلسطين التاريخية على حدود الرابع من حزيران - يونيو 1967.

أقول، إنَّ الأحداث قد جعلت هذا الحل أو الشعار يتراجع الى الخلف على المستوى البرنامجي، ليس لأنه كان خاطئاً، بل لأن الأحداث وضعت أمام حركات المقاومة أهدافا جديدة على المدَيين القصير والمتوسط، ولكنه يبقى صحيحاً كأفق نضالي للشعب الفلسطيني، وهذا ما يهمله تشومسكي ويقفز عليه تماما لمصلحة الحل البرغماتي "الذرائعي" القريب، فيتبنى حل الدولتين بنسخة ما ُسميَ المبادرة العربية للسلام "مبادرة الأمير السعودي عبد الله بن عبد العزيز لسنة 2002".

يبقى نقد كوهين صحيحاً من حيث الجوهر لموقف تشومسكي ولتحججه بالواقعية التي لا تنفي أو تدحض إمكانية وضع أهداف مرحلية بما يناسب الأوضاع الجديدة. أما تحذير تشومسكي من أن المطالبة بحل الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين سيقدم "الأسلحة للعناصر الأكثر تطرفاً وعنفاً في إسرائيل والولايات المتحدة"، فهو استنتاج غير ذي معنى على الصعيد النظري التحليلي، ولا تترب عليه أية نتائج معاكسة أخلاقياً واستراتيجياً، فهل عَدِمَ المتطرفون الصهاينة الحجج لاضطهاد وإبادة الفلسطينيين، وهل هم بحاجة أصلا إلى هذا السلاح، وهل يعني طرح رأي كهذا لحل الصراع تبريرا لتطرف العنصريين الصهاينة؟ أعتقد أن تشومسكي يجانب الصواب هنا تماما، وأن نقد كوهين لمقولته هذه محق، رغم أنه لم يكن دقيقا من الناحية المعلوماتية، ولأنه توقف عند موقف تلك الأطراف في سبعينات القرن الماضي ولم يتابع رصده التأريخي للحالة.

يمكن الاتفاق مع جوهر نقد كوهين لموقف تشومسكي من موضوع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم، ولكنه لم يكن أميناً في عرضه لرأي تشومسكي فجعله يبدو وكأنه يجرد الفلسطينيين من هذا الحق نهائياً، كتب كوهين (استمع الآن إلى تشومسكي عن حق العودة: "لا يوجد دعم دولي واضح له، وفي ظل الظروف (التي لا يمكن تصورها تقريبا) التي سيتطور فيها هذا الدعم، فمن المرجح أن تلجأ إسرائيل إلى سلاحها النهائي، متحدية حتى الزعيم، لمنعه... في رأيي أنه من غير اللائق أن نعلق آمالاً لن تتحقق أمام أعين الناس الذين يعانون من البؤس والقهر. بل ينبغي مواصلة الجهود البناءة للتخفيف من معاناتهم والتعامل مع مشاكلهم في العالم الحقيقي". لنعد إلى المقابلة مع تشومسكي نفسها، ونقرأ السؤال والإجابة عليه: "هل ينبغي أن يكون اللاجئون الفلسطينيون على استعداد للتخلي عن "حق العودة" كجزء من التسوية؟ هل يفيد ذلك سكان الضفة الغربية وقطاع غزة على حساب الفلسطينيين الذين يعيشون في ظروف مزرية في مخيمات اللاجئين خارج فلسطين"؟ فيجيب تشومسكي حرفيا: "من المؤكد أنه لا ينبغي للاجئين الفلسطينيين أن يكونوا على استعداد للتخلي عن حق العودة" ثم يستدرك "ولكن في هذا العالم، وهو ليس عالماً خيالياً يمكننا مناقشته في الندوات، لن تتم ممارسة هذا الحق، بأكثر من طريقة محدودة، داخل إسرائيل. ومرة أخرى، لا يوجد دعم دولي واضح له، وفي ظل الظروف، التي لا يمكن تصورها تقريباً، والتي قد يتطور فيها مثل هذا الدعم، فمن المرجح أن تلجأ إسرائيل إلى سلاحها النهائي، متحدية حتى الزعيم، لمنعه. في هذه الحالة لن يكون هناك شيء للمناقشة. إنَّ الحقائق قبيحة، لكن الحقائق لا تختفي من الوجود لهذا السبب. وفي رأيي أنه من غير اللائق أن نعلق آمالاً لن تتحقق أمام أعين الناس الذين يعانون من البؤس والقهر. بل ينبغي مواصلة الجهود البناءة للتخفيف من معاناتهم ومعالجة مشاكلهم في العالم الحقيقي".

تشومسكي، إذن، لا يدعو الفلسطينيين إلى التخلي في حقهم في العودة إلى وطنهم ولكنه، ولأسباب عملية وتكتيكية يدعو بكلمات ملتبسة إلى عدم طرح هذا المطلب المحق بسبب موازين القوى والهيمنة الإمبريالية، وحتى لا تنتهي محاولة الحل السلمي والسياسي الى الفشل. وحتى هنا، فمبررات تشومسكي مرفوضة وأعتقد أن كوهين محق تماماً في قوله "إن حق العودة حق إنساني أساسي يمتلكه اللاجئون الفلسطينيون جماعياً وفردياً، ولا يمكن المساومة عليه نيابة عنهم من قبل أي شخص ويتم الاستغناء عنه في بضع جمل تشير إلى "الدعم الدولي" السائد ... كما لو كان حق العودة شيئاً يمكنه هو أو "نحن" أن نقدمه أو نسحبه من مجتمع مضطهد. إنَّ حق العودة ليس "أملاً" يستطيع تشومسكي أن "يعلقه أمام أعين" الفلسطينيين؛ إنه حق يملكونه ويكافحون من أجل تحقيقه".

وبعد ما تقدم من نماذج من قراءة نقدية لبعض أفكار وآراء تشومسكي السياسية التي تقارب الموضوع الفلسطيني، أعتقد أن واحدة من أخطاء الناقدين لتشومسكي من اليسار هي إنهم يخطأون منهجياً حين يتعاملون مع شخصه وكتاباته ضمن إطار المجادلات النارية المألوفة بين يساريي المنظمات القصوية والأحزاب المنغلقة على نفسها؛ فالرجل عالِم متخصص، وباحث مستقل ونقدي ولا يمكن تصنيفه أيديولوجيا رغم ما قيل عنه من أنه محسوب على الشيوعية الأناركية اللاسلطوية "غير الماركسية". وعلى هذا يمكن أن يقال لناقده اليساري القصوي؛ إن تشومسكي ليس منشقاً على تيارك الفكري الأيديولوجي لتتعامل معه بهذه الطريقة العصبوية الهاجية الشتامة المتشنجة. وينبغي أن تحسب حساباً لاستقلاليته وتراثه النظري المنشور والتأثير الإيجابي لهذا التراث على الرأي العام العالمي، لا أن تتوقف عند تصريح له هنا أو هناك وتعتبره معبرا عن كل تراثه وتفكيره فتشطب عليه وتعتبر عدواً أو عميلا للمخابرات الأميركية!

إن كيل الاتهامات الظالمة والتخوينية  والمضحكة أحيانا لتشومسكي ولأمثاله من أنصار وأصدقاء الشعب الفلسطيني كالقول بأنه من "العجول الذهبية التي يصنعها إعلام المخابرات الأميركية" كما يقول سعيد محمد أو أنه متواطئ مع الاستعمار الإسرائيلي "يقدم تعزيز الدعم الخلفي بين التقدميين الأمريكيين" لهذا الاستعمار، أو حتى القول بأن "هناك عنصرية لا لبس فيها في الطريقة التي يقيم بها تشومسكي واقعية السيناريوهات المختلفة" كما يقول كوهين، أو أنه متعاون مع الاحتلال الأميركي لفيتنام كما يقول الطاهر المعز، فهي ترهات وإساءات صبيانية لا تليق بأي كاتب جاد ومنصف بغض النظر عن موقعه الأيديولوجي والسياسي.

إن تناول موضوعة الحل الديموقراطي الشامل والنهائي للقضية الفلسطينية كقضية تصفية استعمار استيطاني، بعد كل ما جرى طوال قرابة قرن مضى، لهي قضية معقدة وحساسة وتطرح على قوى الشعب الفلسطيني المقاوِمة، وعلى أصدقاء هذا الشعب أسئلة جديدة وخلاقة بمرور الوقت. كما أن قضايا من قبيل كيف ينبغي التعامل مع إفرازات إقامة هذا الكيان الصهيوني العنصري كوجود أكثر من خمسة ملايين يهودي يعيشون اليوم فيه وغالبيتهم ولدوا على أرض فلسطين المحتلة، وكون هذا الكيان مدعوم بقوة من قبل الإمبرياليات الغربية وخاصة الأميركية، ومرتبط عضويا بهذه الدولة إلى درجة القتال المشترك، وكونه مسلح بأسلحة الدمار الشامل وعشرات الرؤوس النووية، تطرح على جدول الأعمال التقدمي مهمة استنباط الإجابات العلمية والمبدئية على هذه الحالة وعدم الاكتفاء بتكرار الشعارات القومية والسلفية العدمية من قبيل "فليعودوا من حيث جاءوا...إما نحن وإما نحن"، فهذه الإجابات لم تعد كافية ولا تأخذ الواقع الحالي على الأرض بنظر الاعتبار. وربما يكون القائد المقاوم الفلسطيني الراحل جورج حبش قد انتبه مبكرا إلى أهمية هذا المتغير في الصراع الفلسطيني الصهيوني، وهجس بضرورة إيلائه أهمية خاصة، والتفكر فيه بطريقة خلاقة حين طرح في مذكراته التساؤل التالي: "حين أفكر في الموضوع الفلسطيني، أشعر أنَّ من حق الفلسطينيين استعادة الأرض الفلسطينية حتى آخر شبر فيها؛ لأنهم أصحاب الأرض. وفي الوقت نفسه، لا يستطيع أي إنسان عاقل أن يتجاهل حقيقة وجود خمسة ملايين يهودي، يعتبرون أنفسهم في دولة اسمها "إسرائيل" وأن الدولة من حقهم. فهل نستطيع أن نفكر في حل يكفل لنا حقنا التاريخي على أرضنا؟ ص 236 ـ (صفحات من مسيرتي النضالية)".

إن تفكيك أو تفكك الكيان الصهيوني بمجرد أن تضعف القبضة الأميركية على العالم وتفقد إسرائيل صفاتها كفندق سياحي شبه مجاني بناه الغرب والولايات المتحدة للناجين اليهود من المحرقة النازية وهاهو يحميه على حساب ملايين السكان الأصليين الفلسطينيين، أمر محتوم وسيؤدي لا محالة إلى الحل الوحيد والممكن والإنساني ألا وهو قيام الدولة الديموقراطية العلمانية. وبانتظار أن تحل تلك اللحظة - الحالة فإن الواجب يحتم على الفلسطينيين وأصدقائهم وحلفائهم الاستمرار بالمقاومة بكل الوسائل الممكنة دفاعاً عن وجود الشعب الفلسطيني وما تبقى من أرضه ووضع الخطط والمهمات والأهداف المرحلية لهذه المقاومة من دون التخلي عن الهدف الكبير والنهائي المتمثل في تفكيك الكيان الصهيوني وقيام دولة فلسطين الديموقراطية العلمانية لجميع سكانها.

أما في أيامنا هذه، فلعل مهمة وقف حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني بشراكة كاملة من طرف الولايات المتحدة الأميركية والتي راح ضحيتها أكثر من مائة ألف فلسطيني بين قتيل وجريح ومفقود وتدمير مدن القطاع بشكل شبه تام، ومعاقبة المجرمين، هي المهمة العاجلة والهدف الأسمى أمام المقاومين الشجعان ومناصريهم من أحرار العالم. ويمكن لنا أن نستشرف في ضوء وتحت وهج هذه الحرب الإبادية أن إمكانية تطبيق حل الدولتين قد تلاشت وأصبحت مستحيلة بفعل هول الجريمة الإبادية التي ارتكبها الكيان الصهيونية، وأن هذه الاستحالة ستدوم طويلا بعد أن شطب الكيان نفسه على كل مبررات وجوده وأصبح وجوده تهديدا لكل شعوب المنطقة ككيان مسلح بأحدث الأسلحة وبنظرية عنصرية دموية إبادية فصار كيانا لا مستقبل له ولا يمكنه الاستمرار حياً إلا بالدعم الغربي والأميركي المتواصل والمجازر المستمر.

إن حرب الإبادة الجماعية المستمرة هذه الأيام هي على المدى الاستراتيجي انتحار رسمي ونهائي للكيان الصهيوني حتى وإنْ طال انتظار حدوثه، وفي الوقت نفسه هو نهاية لكل خطط "السلام" القديمة العقيمة ومنها حل الدولتين والذي حتى وإن تحقق بضغط غربي سيكون مؤقتا وملغوما.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

هلَّ - قبل أيام - هلال العام الهجري الجديد(1446)، وفي كل مطلع عام يُثار سؤال الاختلاف بين الشُّهور والفصول، على أنَّ التباعد حصل منذ نهاية العام العاشر الهجري (الفلكيّ، الإفهام في تقويم العرب قبل الإسلام).

جاء لأسباب، فُسرت بتحريم النسيء بما يخص الشُّهور الحُرم، التي يتوجه فيها النَّاس إلى زراعتهم وتجارتهم، والحفاظ على البيئة بشتى أنواعها (مقالنا: الطبيعة بحاجة للأشهر الحُرم 9/ 5/ 2020 الاتحاد)، ومعنى النَّسيء التَّأخير، وقبل ذلك كان التّوافق موجوداً بين الشّهور والفصول، وأسماء الشُّهور تُعبر عن معانيها، فالربيع الأول والثَّاني يتوافقان مع الربيع، وجمادى الأول والثّاني يتوافقان مع الشّتاء.

هناك رأي جدير بالمناقشة يذكره علامة العِراق محمود شكري الآلوسي (ت: 1924)، في كتابه الذي نال جائزة ملك السّويد والنّرويج (1889) «نهاية الأَرب في معرفة أحوال العرب»، لماذا عمد العرب إلى الكبس، وهو طوي الأيام، لاستخراج شهر ثالث عشر وبذلك يتم التَّوافق؟ جاء فيه: «أراد العرب أن يكون حجِّهم في أخصب وقت السَّنة، وأسهلها في التَّردد في التِّجارة، ولا يزول عن مكانه، فتعلموا الكبس»، ومع التَّحفظ على عدم أخذهم بالكبس مِن قبل، فماذا عن تقدير مواسم الزّراعة والرعي والحصاد؟!

والمعنى أنَّ تحريم النسيء هو العودة إلى ملة إبراهيم، على أنّ العرب كانوا وفقها لا يكبسون (المصدر نفسه). حُرم النَّسيء بالآية: «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً» (التّوبة: 37)، والآية التي بعدها تفسر سبب نزولها، وهو التقاعس عن الحرب «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» (التَوبة: 38)، أمَّا الآن فالأمر مختلف، ليس هناك تشريع بالأشهر الحُرم، أن يكون فيها قتال أو لا يكون. كانت أسماء الشُّهور القمريَّة (دورة القمر حول الأرض) عند العرب: غير المستعمل: مؤتمر، ناجر، حوان، صوان، رُبَّى، أيدة، الأصم، عادل، ناطل، واغل، رَنة، بُرك، وقيل غيرها، وبينها أشهر حُرم، تقابل الشّهور الهجريّة، والمستعمل: التي تبدأ بمحرم وتنتهي بذي الحجّة، والتي سار عليها التّقويم الهجري (انظر: نهاية الأرب). بعدها نأتي على وضع التّأريخ، العام 16-17 بعد الهجرة، خلال خلافة عمر بن الخطاب (13- 23 هجرية)، فهو الذي وضع التّقويم، يروي محمّد بن جرير الطّبري (ت: 310هجرية) قصة ذلك مِن عدة وجوه، كعادته في تسجيل ونقد الرّواية، أنَّ الخليفة عمر جمع النّاس، لتحديد التأريخ، بعد أن طُلب منه ضرورة تأرخة الرسائل والدواوين، مِن قِبل أبي موسى الأشعريّ (ت: 54هجرية): «تأتينا منك كُتب ليس لها تأريخ»، فشاور الأصحاب، وصار الاتفاق على ما أشار به علي بن أبي طالب (اغتيل: 40 هجرية)، وهو التَّأريخ مِن الهجرة، بعد أن رُفضت مقترحات مَن قال نؤرِّخ مِن مبعث الرّسالة، وعندها قال عمر: «لا بل نؤرِّخ لمهاجر رسول الله، فإن مهاجره فَرَّق بين الحقِّ والباطل» (الطبريّ، تاريخ الأُمم والملوك).

صحيح أن في القرآن ورد تقسيم السّنة إلى اثني عشر شهراً، لكن حتّى العام السّادس عشر الهجري، لم يتم الاتفاق على تأريخ خاص بالمسلمين، فجاء اصطلاحا لا توقيفاً، أي اجتهاد بشريّ، عندما فرضت الحاجة نفسها، فقيل: «رُفع إلى عُمر صكٌ محله شعبان، فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آت، أو الذي نحن فيه؟»، بمعنى في أي سَنة.

غير أنّ محرم أول السّنة لم يكن يوم الهجرة، بل كان في ربيع الأول، إنما جرى التأريخ في محرم لأنه «منصرف النَّاس مِن حجِّهم، وهو شهر حرام، فأجمعوا على المحرم» (الطّبريّ، تاريخ الأمم والملوك). هنا تأتي الحاجة والظّرف، والمؤرخون القدماء كانوا صريحين في تواريخهم، وهناك مَن يرى توافق الشّهور والفصول حاجة أيضاً، كي يعبر كلّ شهر عن معناه.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

بقلم: شاشار بنسكر

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

تأتي نصيحة تيودور ميرون بشأن توجيه الاتهام إلى قادة إسرائيل وحماس في نهاية مسيرة مهنية رائعة وكاشفة.

في 20 مايو/أيار 2024، أعلن كريم خان، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، أنه طلب أوامر اعتقال بحق قادة حماس وإسرائيل، فيما وصفها بـ"الخطوة التاريخية للضحايا". أوامر الاعتقال هي بحق يحيى السنوار ومحمد ضيف وإسماعيل هنية من حماس؛ ولرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت. ويتهم خان قادة حماس بالقتل والاغتصاب واحتجاز الأسرى خلال هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل، عندما تسلل رجال مسلحون تحت قيادتهم من غزة، وقتلوا ما يقدر بنحو 1200 شخص واختطفوا حوالي 240. وهو يتهم القادة الإسرائيليين باستخدام التجويع كسلاح من أسلحة الحرب وتوجيه الهجمات عمداً ضد السكان المدنيين في غزة، حيث قتل الجيش ما يقدر بنحو 35 ألف شخص وأصاب 77500 آخرين. وجميع الأطراف متهمون بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

قبل إصدار إعلانه، دعا خان لجنة من ستة خبراء في القانون الدولي لتحليل الأدلة وتقييم ما إذا كانت تشكل "أساسا معقولا للاعتقاد" بأن المشتبه بهم ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في إسرائيل وغزة. وفي قرار بالإجماع، أيدت اللجنة بشكل فعال قرار المدعي العام. في 20 مايو/أيار، وهو اليوم الذي أصدر فيه خان إعلانه، نشرت صحيفة "فاينانشيال تايمز" مقالة افتتاحية كتبها أعضاء اللجنة الستة تلخص تقريرهم الكامل ووصف الحرب في غزة بأنها "ربما لم يسبق لها مثيل من حيث أنها أدت إلى سوء فهم حول دور المحكمة الجنائية الدولية واختصاصها، وخاصة الخطاب المنقسم، وفي بعض السياقات، حتى معاداة السامية وكراهية الإسلام. وفي هذا السياق، تابع الخبراء المستشارون، أنهم "شعروا [أنهم] من واجبهم قبول الدعوة لتقديم رأي قانوني محايد ومستقل مبني على الأدلة".

أحد الخبراء المشاركين في اللجنة الذين شاركوا في تأليف التقرير ومقالة فاينانشيال تايمز هو ثيودور ميرون البالغ من العمر 94 عاماً، وهو باحث مشهور في القانون الدولي والإنساني وأحد الناجين من المحرقة والذي سُجن لمدة أربع سنوات في معسكر اعتقال نازي. خلال الجزء الأول من حياته المهنية، كان الموسوعي ميرون محاميًا ممارسًا ودبلوماسيًا وسفيرًا يمثل دولة إسرائيل. منذ أواخر السبعينيات، عندما غادر إسرائيل وانتقل إلى نيويورك، عمل أستاذًا للقانون الدولي وقاضيًا وباحثًا في قانون حقوق الإنسان.

وفي منصبه الأخير، قام بالتدريس في كلية الحقوق بجامعة نيويورك، حيث يشغل كرسي تشارلز إل دينيسون؛ وكان أيضًا أستاذًا زائرًا في جامعة هارفارد، وجامعة كاليفورنيا، وبيركلي، ومؤخرًا في جامعة أكسفورد. تعد منحة ميرون القانونية أمرًا أساسيًا للقانون الدولي المعاصر. وفي عام 2001 تم تعيينه قاضيا في لجنة الأمم المتحدة التي تعاملت مع الجرائم المرتكبة خلال الحروب التي اندلعت بعد تفكك يوغوسلافيا، تليها عدة سنوات كرئيس لمحكمة الاستئناف التابعة للمحكمة.

أحد الأسئلة الأكثر إثارة للاهتمام حول ميرون هو كيف شكلت خبرته وفهمه للهولوكوست حياته المهنية في القانون الدولي وأثرت على دراسته وعلى تطور نظرته للعالم. هناك أهمية في حقيقة أن الناجي اليهودي من الإبادة الجماعية واللاجئ السابق الذي عمل ذات يوم كدبلوماسي إسرائيلي يقدم الآن المشورة للمحكمة الجنائية الدولية بشأن مقاضاة إسرائيل للحرب في غزة، والتي تسببت في مقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين وإسرائيل. وتشريد مئات الآلاف، معظم عائلاتهم لاجئون منذ عام 1948.

ولد تيودور ميرون عام 1930 لعائلة يهودية من الطبقة المتوسطة في كاليش، إحدى أقدم المدن في بولندا. يشتهر كاليش بالقانون الأساسي لليهود، الذي أصدره بوليسلاف الورع، حاكم بولندا الكبرى، عام 1264، والذي كرّس الوضع القانوني والحماية من الاضطهاد لليهود في وسط وشرق أوروبا، والتي لم تكن متاحة في ذلك الوقت لإخوانهم في الدين في أوروبا الغربية . في عام 1939، عندما كان ميرون يبلغ من العمر تسع سنوات، غزت ألمانيا النازية بولندا، وخلال احتلالها للبلاد الذي دام ست سنوات،نفذت مذبحة صناعية منهجية ضد اليهود والتي توصف الآن بأنها إبادة جماعية. (تم اختراع الكلمة واستخدمت لأول مرة لوصف الهولوكوست). تم ترحيل ميرون في النهاية إلى شيستوشوا، وهو حي يهودي ومعسكر اعتقال، حيث أمضى أربع سنوات. وبحلول الوقت الذي تم فيه إطلاق سراحه وهو في الخامسة عشرة من عمره، كان معظم أفراد عائلته قد قُتلوا. في ملف تعريفي نشرته صحيفة نيويورك تايمز عام 2004، قال ميرون إن قراره بدراسة القانون نتج عن تجاربه في معسكر الاعتقال النازي، مما جعله يرغب في "استكشاف وسائل تجنب سوء المعاملة، والتركيز على طرق حماية الكرامة الإنسانية".

تيتم ميرون وحرم من التعليم من سن 9 إلى 15 عامًا، وهاجر في عام 1945 إلى فلسطين الانتدابية، حيث تبنته عمته وعمه الذين انتقلوا إلى هناك قبل الحرب. وقال إنه لسنوات عديدة لم يرغب في الحديث عن بولندا أو تجاربه في زمن الحرب لأنه شعر بالحرج من كونه ضحية. وفي محاضرة ألقاها عام 2008، قال إنه كان يعاني من كوابيس بشأن هروبه من الألمان الذين يرتدون الزي الأسود الذين كانوا يطاردونه، فاستيقظ منها وهو يتصبب عرقا. "عبثًا حاولت أن أنسى. لم أستطع حتى أن أفكر في العودة وجهاً لوجه مع الأماكن التي تركت مثل هذه البصمة المؤلمة والصادمة على حياتي".

بعد الانتهاء من دراسته الثانوية في حيفا والخدمة في الجيش الإسرائيلي، درس ميرون القانون في الجامعة العبرية في القدس. وفي عام 1961، عندما كان عمره 31 عامًا فقط، انضم إلى البعثة الدائمة لدولة إسرائيل لدى الأمم المتحدة في نيويورك. يصف ميرون في مذكراته مشاركته في الأمم المتحدة في مناقشات تهدف إلى إيجاد حل لمحنة اللاجئين الفلسطينيين. وقد أقام علاقات وثيقة مع المسؤولين الملحقين بلجنة التوفيق الفلسطينية التابعة للأمم المتحدة، والتي تأسست عام 1948 للمساعدة في تعزيز التوصل إلى حل دائم للاجئي فلسطين. وبعد إعادة تأسيس لجنة التنسيق الدائمة في عام 1961، بمشاركة الولايات المتحدة وفرنسا وتركيا، رأى ميرون أن العديد من الأفكار "يجب مناقشتها واختبارها ويجب إيجاد بعض الحلول المعقولة لإنهاء محنة اللاجئين". لكنه كتب في وقت لاحق أن تقارير ميرون كانت بمثابة "إحراج" لغولدا مائير، وزيرة الخارجية آنذاك، التي اعترضت على إحياء المجلس المركزي الفلسطيني؛ وأمرته بـ "التوقف والكف". موقف إسرائيل، كما عبر عنه مئير لأول مرة في عام 1959، ظل ثابتا بشكل ملحوظ على مدى السنوات الـ 65 الماضية. وقالت إن اللاجئين الفلسطينيين الذين كانوا أطفالا في عام 1948، تم تلقينهم منذ ذلك الحين في مدارسهم، من خلال كتبهم المدرسية، كراهية إسرائيل والسعي إلى تدميرها. ولهذا السبب، قالت إن إسرائيل ستكون "منتحرة" إذا قبلت عودة عدد كبير من اللاجئين. وأضافت أن إسرائيل استوعبت مليون لاجئ يهودي من الأراضي العربية في السنوات الأخيرة، واقترحت إعادة استخدام الأراضي والممتلكات التي أخلوها مؤخرًا لتوطين اللاجئين الفلسطينيين لأنهم جميعًا يتحدثون العربية.

تعطي المنح الدراسية والمحاضرات التي قدمها ميرون الانطباع بأنه كان يحاول إيجاد حل إنساني للاجئين الفلسطينيين عام 1948 في إطار واجباته القانونية كممثل لإسرائيل. خلال تلك الحرب، التي تسميها إسرائيل "حرب الاستقلال" ويسميها الفلسطينيون "النكبة"، أُجبر ما يقدر بنحو 850 ألف فلسطيني على ترك منازلهم على يد الجيش الإسرائيلي المنشأ حديثاً أو فروا من القتال معتقدين أنهم سيعودون قريباً؛ لكن دولة إسرائيل منعت الغالبية العظمى منهم من العودة بعد انتهاء القتال. وما زالوا وأحفادهم الذين يقدر عددهم بـ 6 ملايين يصنفون اليوم على أنهم لاجئون عديمو الجنسية. وكان ميرون مقيدا في محاولاته لإيجاد حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين بسياسات حكومته، التي كانت آنذاك تحول دون أي نقاش أو مفاوضات تتعلق بالقضية. ولأن ميرون خدم حكومته، فقد ورطه البعض في الفشل في حل قضية اللاجئين الفلسطينيين. واستنادًا إلى محاضراته وكتاباته، يبدو أنه استنتج في أواخر حياته أنه كان متورطًا بالفعل، على الرغم من جهوده كدبلوماسي في الأمم المتحدة. ربما يكون تطور وجهات نظره أكثر وضوحًا في مذكراته لعام 2021، “الدفاع عن العدالة”، والتي كتب فيها عن “التصور المتزايد بأن حقوق الإنسان للأفراد الفلسطينيين، وكذلك حقوقهم بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، هي حقوق أساسية”. أن يتم انتهاكها وأن استعمار الأراضي التي تسكنها شعوب أخرى لم يعد مقبولاً في عصرنا هذا.

إن الادعاء بأن ميرون كان متواطئا في معاناة الفلسطينيين معقد بسبب حقيقة أنه بينما كان يخدم الدولة، لم يكن أبدا في وضع يسمح له بالتأثير على اتجاهها. لكن قد يكون من الصعب تقييم التواطؤ. يقدم مايكل روثبيرج، الذي يشغل كرسي دراسات الهولوكوست في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، نظرة ثاقبة في كتابه الصادر عام 2019 بعنوان "الموضوع الضمني". وفقًا لتحليل روثبيرج، فإن الشخص المتورط ليس ضحية أو مرتكب الجريمة، بل هو شخص "مشبع بالسلطة والامتياز"، وهو ليس "عاملًا مباشرًا للضرر" ولا موضوعًا "لأنظمة الهيمنة". في وضع يسمح له بالتحكم في تصرفات الكيان الذي يساهم في وجوده أو يستفيد منه. أولئك الذين ألقوا باللوم على ميرون في تواطؤه كانوا يعزون ذلك إلى الديناميكيات التي وصفها روثبيرج.

هناك عنصر آخر في تحليل روثبيرج يتعلق بحياة ميرون وعمله. يهتم روثبيرج في المقام الأول بالاعتراف بالمسؤولية السياسية الجماعية وبناء التضامن، لكن تأطيره يعد أيضًا أداة مفيدة لفهم حدود القانون الدولي في مكافحة القوة والظلم. هل يمكن للمرء أن يقول إن تلك القيود "تورط" القانون الإنساني الدولي في الفشل في حل المظالم التي يعاني منها، على سبيل المثال، الشعب الفلسطيني؟

عمل ميرون في الأمم المتحدة حتى اندلاع حرب الأيام الستة في يونيو 1967. وفي نهاية تلك الحرب، احتلت إسرائيل غزة والضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية ومرتفعات الجولان وسيناء؛ وقد خلق الاحتلال العسكري موجة جديدة من اللاجئين الفلسطينيين. اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار رقم 237، الذي دعا حكومة إسرائيل إلى "تسهيل عودة السكان الذين فروا من المناطق منذ اندلاع الأعمال العدائية". لكن إسرائيل لم تمتثل لذلك.

في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ فلسطين-إسرائيل، عرضت الحكومة الإسرائيلية على ميرون وظيفة المستشار القانوني لوزارة الخارجية في القدس. وفي غضون أسابيع من توليه منصبه، طلب رئيس الوزراء ليفي إشكول من ميرون تقديم المشورة القانونية بشأن مسألة إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة حديثًا. وكان إشكول رئيسا لحزب العمل (ماباي)، الذي شكل ائتلافا حاكما واسعا من الأحزاب التي تمثل اليسار والوسط في إسرائيل. واليوم يرتبط المشروع الاستيطاني بالمسيحيين والقوميين الدينيين، لكن مبادرة بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة حديثًا جاءت أيضًا من الحكومة العلمانية الليبرالية المزعومة. يتضمن رد ميرون على مبادرة الاستيطان، الموثق في مذكرة سرية للغاية تم رفع السرية عنها فقط في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ما يلي:

أخشى أن هناك حساسية كبيرة جدًا في العالم تجاه مسألة الاستيطان اليهودي برمتها في الأراضي الخاضعة للإدارة وأن أي حجج قانونية سنحاول العثور عليها لن تتصدى للضغوط الدولية الثقيلة التي ستمارس علينا حتى من قبل الدول الصديقة التي سوف تعتمد على اتفاقية جنيف الرابعة. وقد تزعم هذه الدول أنه بينما تتوقع من إسرائيل أن تقوم بإعادة توطين اللاجئين العرب، فإن إسرائيل مشغولة باستيطان مواطنيها في الأراضي الخاضعة للإدارة.

في 12 مارس 1968، كتب ميرون في مذكرة أخرى شديدة السرية أن هدم المنازل الفلسطينية وترحيل الفلسطينيين المشتبه في قيامهم بأنشطة تخريبية كان انتهاكًا لاتفاقيات جنيف ويشكل عقابًا جماعيًا. وفي معرض تأمله في مذكراته بعد سنوات عديدة في كتابه "الدفاع عن العدالة"، كتب ميرون: "على الرغم من أنني كنت أعرف أن هذا لم يكن الرأي الذي كان رئيس الوزراء يرغب في توصيله، إلا أنه لم يكن لدي أدنى شك في أن المستشارين القانونيين للحكومات يجب أن يكونوا كذلك". مخلصين للقانون ويسمون القانون كما يرونه".

عندما كتب ميرون آراءه القانونية حول الأراضي المحتلة حديثا، كانت إسرائيل قد ادعت بالفعل أن سيطرتها العسكرية على الضفة الغربية وغزة لا تتناسب مع تعريف "الاحتلال"، وبالتالي لا ينبغي أن تخضع لقيود قانون الاحتلال المنصوص عليها في اتفاقية جنيف. وفي مقال نشر عام 2017 في مجلة الدراسات الفلسطينية، كتبت الباحثة القانونية الفلسطينية الأمريكية نورا عريقات أن نصيحة ميرون القانونية لم تردع إشكول عن بناء المستوطنات. في الواقع، لقد وفر ذلك لرئيس الوزراء طريقًا للمضي قدمًا. ربما كانت نية ميرون هي تحذير الحكومة من أن المستوطنات ستنتهك القانون الدولي، لكنه كتب في مذكرته أنه في حين أن قانون الاحتلال "يحظر بشكل قاطع" الاستيطان المدني في الأراضي المحتلة، فإنه يسمح بمعسكرات عسكرية مؤقتة.

كتب الصحافي الإسرائيلي غيرشوم غورنبرغ، الخبير في تاريخ المستوطنات، أنه "بعد أسبوع من استلام المذكرة، أبلغ إشكول مجلس الوزراء أنه سيتم إعادة إسكان كفار عتصيون من قبل لواء ناحال"، الذي سيستبدل الخدمة العسكرية بمجتمعات زراعية مدنية مع التثبيت. (العديد من المستوطنات القائمة في الأراضي والمجتمعات المحتلة في إسرائيل تم إنشاؤها في الأصل من قبل وحدات ناهال). وبحلول نهاية شهر سبتمبر، وصل المستوطنون إلى كفار عتصيون، الواقعة جنوب غرب القدس وبيت لحم. كانت كفار عتصيون ذات أهمية تاريخية وأيديولوجية للحكومة الإسرائيلية. كان موقع كيبوتس في فلسطين الانتدابية الذي أصبح تحت سيطرة المملكة الأردنية الهاشمية في عام 1948 بعد معركة استمرت يومين وسقط فيها عدد كبير من الضحايا، والتي أصبحت عنصرًا معروفًا في الرواية التاريخية الإسرائيلية عن حرب عام 1948. ولهذا السبب، جعلت إسرائيل من كفار عتصيون أول مستوطنة يتم إنشاؤها بعد حرب عام 1967.

في عام 1968، شارك ميرون ومايكل كوماي، المستشار السياسي لوزارة الخارجية، في تأليف برقية أخرى سرية للغاية إلى إسحاق رابين، سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة آنذاك. وقد أوضح كوماي وميرون الاعتبارات التي ينطوي عليها رفض الاعتراف الرسمي بإمكانية تطبيق الاتفاقية. اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر على قوة الاحتلال نقل أفراد من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها. وكتبوا: "إن الاعتراف الصريح من جانبنا بانطباق اتفاقية جنيف من شأنه أن يسلط الضوء على القضايا الخطيرة فيما يتعلق بالاتفاقية من حيث تفجير المنازل، والترحيل، والمستوطنات وما إلى ذلك". كما أدرجا ضم إسرائيل الفعلي للقدس الشرقية ومصادرة الأراضي باعتباره مخالفًا للقانون الدولي: "لا توجد طريقة للتوفيق بين أفعالنا في القدس والقيود المنبثقة عن اتفاقية جنيف ولوائح لاهاي".(أصدر موشيه ديان أوامر في عام 1967 كانت بمثابة "إعادة توحيد" فعليًا للمدينة، التي تم تقسيمها من عام 1948 إلى عام 1967؛ ومنذ تصويت الكنيست في عام 1980 لإضفاء الطابع الرسمي على الضم، وهو الموقف الرسمي الإسرائيلي، كما هو منصوص عليه في شبه البلاد. - القوانين الأساسية الدستورية، نصت على أن القدس برمتها هي عاصمة إسرائيل).

وهناك اعتبار آخر أدى إلى تجنب الاعتراف بالاتفاقية وهو أنه من أجل "ترك جميع الخيارات مفتوحة فيما يتعلق بالحدود، يجب ألا نعترف بأن وضعنا في الأراضي الخاضعة للإدارة هو ببساطة وضع قوة احتلال". الجزء الثاني من البرقية يطلب من رابين “أن يتجنب الدخول في نقاش أو جدال حول هذه الأمور، بل يكتفى بكتابة… الإجابات وترك الأسئلة للسفارة، دون تصريح، ودون – أكرر – دون”. مشاركة وفد الأمم المتحدة.

ولم تكن حكومة إشكول سعيدة بإصرار ميرون على خضوع الأراضي المحتلة لاتفاقيات جنيف. ولذلك قررت تبني نهج أستاذ القانون في الجامعة العبرية، يهودا تسفي بلوم، الذي قال إنه لا يمكن اعتبار إسرائيل دولة محتلة في المناطق من الناحية القانونية، وكرس ما أنشأته الحكومة الإسرائيلية بالفعل بشكل غير رسمي. وفي مقال نشر عام 2017 في المجلة الأمريكية للقانون الدولي، لخص ميرون الأمر على النحو التالي: "إنها مسألة تاريخية أن حكومة إسرائيل تجاهلت هذه الآراء، وفي السنوات التي تلت ذلك، ظهر الاختلاف بين متطلبات القانون الدولي". لقد أصبح القانون والوضع على الأرض في الضفة الغربية أكثر وضوحا".

خدم ميرون دولة إسرائيل في مجموعة متنوعة من المناصب في الفترة من 1967 إلى 1976، بما في ذلك سفيرا لدى الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف. ثم استقال من وزارة الخارجية وغادر إسرائيل بشكل دائم إلى الولايات المتحدة، حيث قام بالتدريس في كلية الحقوق بجامعة نيويورك. في مذكراته، يحدد ميرون البحث عن موطن فكري كسبب لقطع مسيرته المهنية في السلك الدبلوماسي الإسرائيلي. وكتب أن كلية الحقوق "كانت تلوح". ولا يقول ما إذا كانت دوافعه أيضاً لأسباب أيديولوجية أو أخلاقية، لكن لا شك أنه في النصف الثاني من حياته المهنية، بعد مغادرته إسرائيل، تطور تفكير ميرون في مسألة التواطؤ. أصبح باحثًا بارزًا في قانون حقوق الإنسان وشارك في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية.

بصفته عضوًا في الوفد الأمريكي إلى مؤتمر روما لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية عام 1998، ساعد ميرون في صياغة الأحكام المتعلقة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. إن ولاية المحكمة الجنائية الدولية هي تحميل الأفراد، وليس الدول أو الجماعات، المسؤولية عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولهذا السبب لا يوجه خان اتهامات إلى "إسرائيل" و"حماس"، بل إلى بنيامين نتنياهو، ويواف غالانت، ويحيى السنوار، ومحمد ضيف. وإسماعيل هنية.

كتب ميرون عن هذا التحول من مسؤولية الدولة إلى مسؤولية الفرد في "إضفاء الطابع الإنساني على القانون الدولي" في عام 2006. ففي حين كان القانون الدولي الذي تم تدوينه خلال القرن العشرين يركز على الدولة، فإنه في القرن الحادي والعشرين يركز على الفرد. بصفته قاضيًا وباحثًا، أصبح ميرون مهتمًا بشكل متزايد بـ "قمع الكرامة الإنسانية، والذي يحدث في سلسلة متواصلة من حالات الصراع، من الوضع الطبيعي إلى الصراع المسلح الدولي الكامل"،وحاول التأكد من أن القانون الدولي في جميع هذه المواقف سيوفر الحماية لـ البشر الأفراد. وهذا يجعل مسألة مسؤولية ميرون عن أفعاله الماضية والحالية كدبلوماسي وخبير قانوني وقاضٍ ليست مثيرة للاهتمام فحسب، بل ثاقبة أيضًا.

كتب ميرون في مذكراته أنه "بالكاد كان على علم" بمحاكمات نورمبرغ لكبار النازيين في عام 1946، عندما كان عمره 16 عامًا. لكن حياته، كما كتب، "تشكلت وتغيرت إلى الأبد بسبب الحرب". وأضاف: "على الرغم من أن مسيرتي المهنية اتبعت مسارًا ملتويًا، إلا أن الموضوع الثابت كان محاولة التعامل مع الفوضى وألم الحرب. لقد حطمت الحرب طفولتي وغرست في داخلي الرغبة في التعليم والرغبة في أن يصحح القانون الأخطاء ويضع حداً للفظائع. تتوافق أسباب ميرون لدعم طلب خان للحصول على أوامر اعتقال مع دراسته ومشاركته في تدوين القانون الإنساني الدولي الذي يحاسب الأفراد على ارتكاب جرائم حرب. لا نعرف ما إذا كانت معارضة سياسات الحكومة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين لعبت دورًا في قراره بالاستقالة من السلك الدبلوماسي الإسرائيلي والانتقال إلى الولايات المتحدة عندما كان في أواخر الأربعينيات من عمره. ولكن في مسيرته الأكاديمية والقانونية التي واصلها منذ الثمانينيات، وخاصة مشاركته في بناء الأسس القانونية للمحاكم الجنائية الدولية، فإن التزامه بحقوق الإنسان أمر لا جدال فيه.

إن الدرس الذي تعلمه ميرون من الإبادة الجماعية التي قتلت عائلته وسرقت طفولته ليس أن المحرقة كانت مأساة للشعب اليهودي فقط، بل للإنسانية جمعاء. وفي خطاب رئيسي ألقاه في حفل الأمم المتحدة التذكاري للمحرقة بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتحرير أوشفيتز، أكد ميرون على أن آلة القتل النازية لم تستهدف اليهود فحسب، بل استهدفت أيضًا الغجر والبولنديين والروس والمنشقين السياسيين ومجموعات أخرى. كما اعترف بغير اليهود الذين خاطروا بحياتهم لإنقاذ اليهود. واختتم كلامه بالأمل في "ألا نكون نحن أو أطفالنا ضحايا، أو حتى أسوأ من ذلك، مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية". إن منظور ميرون العالمي بشأن المحرقة ليس هو القاعدة في الخطاب الإسرائيلي أو اليهودي، الذي يميل إلى اتخاذ وجهة نظر خاصة للإبادة الجماعية النازية. لكن بالنسبة لميرون، فإن عبارة "لن يحدث مرة أخرى أبدًا" لا تنطبق على اليهود فحسب، بل على جميع البشر.

كتب سيد قشوع، وهو مؤلف فلسطيني إسرائيلي يعيش الآن في الولايات المتحدة، في مقال نشر عام 2021 لمجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس أن “التاريخ الفلسطيني الإسرائيلي أثبت أن تجربة معاناة كونك لاجئًا لا تضمن الحساسية تجاه اللاجئين”. معاناة اللاجئين الآخرين – ولا حتى بين أولئك الذين يشكلون السبب الرئيسي للمعاناة”. وأضاف قشوع من المحتمل أنه "حتى أولئك الذين وقعوا ضحايا لا يمكنهم تطوير أي تعاطف خاص، ولا يمكن أن يتوقع من أولئك الذين عانوا من الاضطهاد أن يطلبوا العدالة للجميع".

كان تيودور ميرون ضحية للجرائم النازية عندما كان طفلاً ولاجئاً في بولندا عندما كان مراهقاً. وهاجر إلى فلسطين حيث تلقى تعليمه القانوني الأولي، وبدأ مسيرته القانونية والدبلوماسية في إسرائيل. ولأنه كان يعمل لصالح دولة إسرائيل، فقد كان متورطا في بعض سياساتها الأكثر إثارة للجدل، ولا سيما إنشاء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى عندما كان يحاول التأثير على الحكومة ضد هذه الخطوة. إن تأملاته الأخيرة حول تجربته في المشاهدة والتورط في مختلف حالات العنف والظلم التاريخية والمعاصرة هي بمثابة درس مهم في أهمية وقيمة فحص وجهات نظر المرء وإمكانية تغيير رأيه. الآن ميرون هو أحد خبراء اللجنة الذين كتبوا البيان المنشور في صحيفة فاينانشيال تايمز حول "الخطوة التاريخية" التي تتخذها المحكمة الجنائية الدولية "لضمان العدالة للضحايا في إسرائيل وفلسطين من خلال إصدار طلبات لخمسة مذكرات اعتقال تزعم ارتكاب جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية من قبل كبار قادة حماس وإسرائيل”. إن رؤية سيد قشوع لتأثير المعاناة - التي لا تمنح ضحاياها بالضرورة الحساسية أو التعاطف - تبدو صحيحة وعلى الأرجح صحيحة بشكل عام. في تطور آرائه، ومع ذلك يعد ثيودور ميرون استثناءً واحدًا على الأقل.

(انتهى)

***

....................

المؤلف: شاشار بنسكر / Shachar Pinsker أستاذ الدراسات اليهودية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة ميشيجان، آن أربور.

هي مقولة مشهورة في الثقافة العربية، قالها الحجاج ابن يوسف الثقفي عندما اسند له الخليفة عبد الملك بن مروان ولاية الكوفة في عام 694 ميلادي (75 هجري). قال مقولته هذه وهو يصف ويذم أهل العراق. وهي جزء من خطبته المشهورة التي بدأها بقول:

أنا ابن جلّا وطلّاع الثنايا  

متى أضع العمامة تعرفوني

وقد اعتُبرت هذه المقولة صحيحة، وصدقها المجتمع العربي وآمن بها. والعجيب، والمحزن المضحك، أن العراقيين صدّقوها أيضاً، وآمنوا بها، ومازالوا يرددونها بدون إحساس بالذنب أو الخجل كونها تصفهم بالخباثة وسوء الخُلُق. ولقد أصبحت هذه الصفة ملازمة للعراقيين منذ أن قيلت، قبل ثلاثة عشر قرناً، وإلى اليوم. قَبِلها الجميع، ويرددها الجميع، كأنها توصيف حقيقي لهذا الشعب العربي المسلم، الذي هو جزء من الأمة العربية والإسلامية.

فهل صحيح أن أهل العراق هم أهل شقاق ونفاق؟ سؤال اطرحه على القارئ الكريم، لأوضح له كذب هذه المقولة، وأشرح الأحداث والملابسات التي رافقت قولها، ليعلم الجميع أنها مقولة باطلة، قالها شخص غير مؤهل لها.

ولنبدأ بحثنا هذا بكلمة أهل العراق

هل أن الحجاج، عندما قال خطبته المشهورة، كان يستهدف فعلاً أهل العراق؟ أم أنه كان يستهدف أهل الكوفة تحديداً؟ علماً أن أهل الكوفة لا يمثلون كل العراقيين بل هم جزء من أهل العراق، وهم يمثلون أنفسهم بالتحديد. خصوصاً إذا ما علمنا أن العراق يحوي مدناً عديدة غير الكوفة، وكل منها لها سكّانها وعاداتها وتقاليدها وطباعها. فهناك البصرة، التي كانت أكبر من الكوفة وارفع شأناً في ذلك الزمن البعيد. وهناك أيضاً مدن الأنبار والموصل واربيل والسليمانية والمدائن والحيرة، وغيرها الكثير من المدن الأخرى. فهل كان الحجاج يقصد جميع أهل هذه المدن في خطبته المشهورة؟ الجواب، بالتأكيد، كلا. فهو قد نُصِّب واليا على الكوفة، لأنها تعتبر في ذلك الوقت مصدر فتن وشغب بالنسبة للدولة الأموية، الدولة التي كان الحجاج يتفانى في خدمتها. ولذلك، فإن المنطق والعقل يستدل على أن المقصودين هم أهل الكوفة وليس العراق. أمّا لماذا استبدل الحجاج كلمة الكوفة بالعراق؟ من الواضح أن ذلك كان لضرورات أدبية وشعرية تتناسب مع كلمات الشقاق والنفاق، فيتحقق السجع والقافية بكلمة العراق أهل الشقاق والنفاق، وإن كلمة الكوفة لا تحقق هذا الهدف، وليس لغرض المعنى العام أو الخاص كما هو واضح.

أهل الكوفة

إذا كان المقصود هم أهل الكوفة، فمن هم أهل الكوفة؟ هل هم عراقيون فعلاً، أم أن معظمهم من غير العراقيين، أقصد أنهم خليط من العراقيين ومن عرب اليمن والجزيرة، الذين هاجروا إلى الكوفة منذ تأسيسها؟ نجد الجواب على هذا السؤال في كتاب "الفتنة الكبرى" للدكتور طه حسين وكتاب "الكوفة نشأة المدينة العربية الإسلامية" للدكتور هشام جعيط (وهو مؤرخ ومفكر إسلامي تونسي مشهود له بالكفاءة العلمية).

تأسست مدينة الكوفة في عام 638 م بعد معركة القادسية. أسسها سعد ابن ابي وقّاص لتكون مركزاً لتجمع جنوده، ينطلق منها لقتال الفرس. ومعلوم أيضاً أن هذا الجيش يتألف من آلاف المقاتلين من عرب الجزيرة واليمن، شاركوا في المعارك طلباً للغنائم والحصول على أجر الجهاد في سبيل الله. ومعظمهم نزحوا من جزيرة العرب واليمن مع عوائلهم واستقروا في الكوفة التي أصبحت داراً لهم. وفي خلافة الإمام علي بن أبي طالب (رض)، عام 656 م، اتُخِذت الكوفة عاصمة لدولة الخلافة، فهاجر إليها آلاف من الصحابة، من أصحاب الامام على وانصاره، وغيرهم ممن هاجروا كذلك طلباً للغنائم وأجر الجهاد في سبيل الله. ولكونها عاصمة الخلافة الإسلامية، اكتسبت الكوفة مكانة متميزة في العالم الاسلامي، وأصبحت من أهم المدن الإسلامية في ذلك الزمان، مركزا للعلم وللسياسة والتجارة والحرب. ولأن الحياة لم تكن سهلة في مكة والمدينة والطائف، لشحة موارد الرزق فيها، ولم يكن العيش فيها والرخاء كما هو في مدن العراق والشام، مما جعل سكان الجزيرة يميلون إلى ترك هذه المدن والهجرة إلى الكوفة والبصرة ودمشق بحثاً عن حياة أفضل.

ويتفق الدكتور طه حسين والدكتور هشام جعيط على أن، معظم أهل الكوفة هم من عرب اليمن، وفيهم القليل من العرب من قبائل مضر وربيعة (عرب مكة). وأمّا أهل البصرة فأكثرهم مُضَريون وفيهم ربيعيون كثيرون، وقلة من اليمنيون.

من معرفة أصول التجمع السكاني في تلك الفترة الزمنية في مدينة الكوفة، يمكننا أن نستنتج، أن المقصود هنا ليس عموم أهل العراق، بل هم أهل الكوفة تحديداً، وأكثرهم من غير العراقيين (أصلهم مهاجرين من اليمن وعرب الجزيرة). وهذا يثبت، بحد ذاته، خطأ نسَب المقولة إلى أهل العراق، كون المقصودين هم أهل الكوفة وليس أهل العراق، وأن أهل الكوفة في ذلك الزمن هم خليط من أهل الكوفة وعرب الجزيرة المهاجرين، وهم أغلبية السكان، كما تذكر المصادر التاريخية والثقافية.

معرفة الحجاج بأهل الكوفة

كيف يمكن لشخص أن يحكم على شعب أو مجتمع بكامله دون أن يكون على دراية تامة بهم، خصوصاً إذا أراد أن يصفهم بصفات ذميمة، إن عليه أن يتأكد ويتأكد بدقة قبل أن يصدر الحكم.   إن المنطق والعقل يخبرنا، إذا أراد شخص أن يقيّم شخصاً أو مجموعة من الناس، فعليه أن يتحدّث معهم ويخالطهم ويتعايش معهم، لكي يتعرّف على أفكارهم وعاداتهم وسلوكهم، وبعدها يستطيع أن يبدي رأيه فيهم بصدق وأمانة، ويكون رأيه موضع ثقة عند الآخرين. وبخلاف ذلك فأنه سيفتقر إلى المصداقية وصحة الرأي. ونتساءل، هل أن الحجاج، عندما قال خطبته الشهيرة هذه، كانت له خبرة بأهل الكوفة من خلال مخالطتهم والتعايش معهم، أم لا؟

المصادر التاريخية لا تذكر أن الحجاج كان قد زار الكوفة أو خالط أهلها أو سكن فيها قبل أن يتولى الولاية على الكوفة أو قبل أن يبدي رأيه فيهم. تقول المصادر التاريخية، أن الحجاج، بعد أن أسندت له ولاية الكوفة، توجّه إليها مباشرة لممارسة مهامه. وقبيل وصوله للمدينة، بعث رسولاً لأهل الكوفة يأمرهم بالتجمع في المسجد الكبير لملاقاته هناك. عندما دخل الحجاج المسجد كان متخفياً بعباءة وغطاء رأس أخفى كل معالمه، فلم يعرفه أحد من جموع الكوفيين المتواجدين في المسجد ينتظرون حضوره. ثم ارتقى الحجاج المنبر وكشف عن وجهه وعرّفهم بنفسه. كان هذا أول لقاء بينه وبين أهل الكوفة، ثم بدأ خطبته العاصفة المشهورة، هددهم فيها وأنذرهم وتوعد بالقتل كل من يخالف أو يخرج على سلطان الخليفة أو يتقاعس عن القتال تحت إمرته. وقال في خطبته " إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها" وفعلاً نفّذ الحجاج وعيده بقتل واحد ممن تقاعس في الخروج للقتال فخافه الناس وهابوه تجنباً لشرّوره.

مما تقدم، يتبين لنا أن الحجاج لم يعرف أهل الكوفة معرفة شخصية كافية ليحكم عليهم كما قال. وإنما استند فيما قال في خطبته، عن أهل الكوفة، على ما سمعه عن الكوفيين من الأمويين عندما سكن دمشق خلال خدمته الدولة الاموية، التي تَعتَبر الكوفة مصدر شغب وفتن، وهذا ما جعله يقول كلماته الهجائية بسليقة الشعراء لا بسليقة النبلاء الذين لا يلقون الكلام جزافاً.

شهادات آخرين

لم يكن الحجاج الوالي الوحيد الذي حكم الكوفة، بل حكم الكوفة أكثر من ثلاثين شخصية إسلامية وصحابية، أذكر منهم على سبيل المثال، سعد ابن ابي وقاص (أول من تولى الكوفة سنة 15 هجري)، وعبد الله ابن مسعود وعمار ابن ياسر وابي موسى الاشعري ومالك الاشتر والمغيرة بن شعبة وغيرهم من الصحابة والشخصيات المعروفة والمرموقة. ولما كانت الكوفة مركز الخلافة الإسلامية، وبعدها أصبحت أكبر مركزاً للعلم والثقافة والتجارة في ذلك الزمان، فقد سكنها أيضاً الكثير من كبار العلماء والفقهاء ورجال الدين والتجار وغيرهم من أخيار الناس. والملاحظة الجليّة، أن الحجاج هو الشخص الوحيد من بين هؤلاء الأشخاص الذي وصف أهل الكوفة بتلك الكلمات، ولم ينعتهم غيره ببذيء الكلام، بشكل مشابه أو قريب لما ادّعاه الحجاج في خطبته المشهورة. ولو كان أهل الكوفة يتمتعون فعلا بصفة الشقاق والنفاق، ألم يكن من المنطق والمعقول، أن نسمعها من غيره ممن عاش معهم وعاشرهم؟

يعتقد البعض أن الإمام على (رض) قال بحق العراقيين " قاتلكم الله لقد ملئتم قلبي قيحا ً". وحاشا للإمام أن ينتقص أو يذم قوماً مسلمين، فإن هذه ليست من مكارم الأخلاق، وهل هناك شك في مكارم اخلاق الإمام؟ وللعلم، فإن هذه المقولة ليس لها ذكر في كتب التاريخ والتراث الإسلامي.  هذه الخطبة ذكرت فقط في كتاب نهج البلاغة وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي، ولم تُذكر في مصادر أخري. وتقول التفاسير، أن الخطبة كانت بمثابة عتاب موّجَه للرجال المقاتلين الذين تقاعسوا عن الاشتراك في المعارك، بحجج شدة الحر في الصيف وشدة البرد في الشتاء، مما أدى إلى سقوط الانبار بيد الامويين وعجزهم عن الدفاع عنها. ولم يُذكر في الخطبة أهل العراق أو الكوفة بالتحديد، ولم يكونوا هم المقصودين بذلك العتاب.

سُئل الجاحظ (عاش في القرن التاسع ميلادي) عن رأيه في أهل العراق فقال في كتابه البيان والتبين " إن العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء مقابل الطاعة لدى أهل الشام، هي أنهم أهل نظر وفطنة ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء. وأهل الشام ذوو جمود على رأي واحد، لا يرون النظر ولا يسألون عن مغيب الأحوال. وما زال العراق موصوفاً بقلة الطاعة وبالانشقاق على أولي الرئاسة."

يُذكر أن العلاّمة الشيخ محمد رضا الشبيبي التقى الدكتور طه حسين أثناء حضورهم مؤتمر للّغة العربية، فسأله الدكتور طه حسين قائلاً " لماذا كان العراقيون ثائرون دائماً، لا يستقرون على حال، ولا يرتضون حاكماً، فقد قرأت تاريخ العراق منذ الفتح الإسلامي لحد الآن وقلما وجدت حقبة خالية من الفتن والقلاقل"  ، فأجابه الشبيبي " أتسمح لي أن أسألك أنا أيضاً، لماذا كان المصريون دائماً خائفين خاضعين، لقد قرأت تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي وقبله أيضاً، فوجدت المصريين دائماً يسترضون حكامهم مهما جاروا وطغوا، ويخضعون لكل متحكم فيهم حتى لشجرة الدر "  فسكت الدكتور طه حسين وضحك الاثنان.

ويقول ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ " لما مرض معاوية مرضه الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد وقال له: أنظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أيسر من أن تُشهَر عليك مائة ألف سيف".

الخلاصة

من كل ما تقدم، يمكن الاستنتاج إن وصف الحجاج أهل العراق، أهل شقاق ونفاق، لم يكن مبنياً على أسس معرفية أو منطقية وعقلية، إنما هو كذب وافتراء. فهو لم يعرفهم معرفة كافية ليصدر مثل هذا الوصف بحقهم. إن المنطق والعقل يقول، أنه لا يمكن لشخص ما الحكم على شعب أو مجتمع بكامله، أنه بليد أو جامد أو خانع أو مطيع دون أن يكون مُؤهلاً لمثل هذا الحكم، وهو غير مؤهل. إن الحجاج قالها ليخيف ويرهب أهل الكوفة ليس عن دراية ومعرفة بأحوالهم وطبائعهم. وهذه دعوة لكل من يعتقد بصحة المقولة، أن يعرف أنها محض كذب وافتراء بحق أهل العراق، وهي مجحفة بحق العراقيين. وهذا المقال هو دعوة لنبذ هذه المقولة واهمالها تماماً كونها لا تليق بالعراقيين وهي محض كذب وافتراء.

***

د. صائب المختار

 

لا شكَّ أنّ مشروع الإمام الحسين (عَلَيْهِ السَّلامُ) هو مشروع هجرة مطلقة نورانيّة نحو عالم القرب الإلهي وإدراك مقام الخلود، فالإمام (عَلَيْهِ السَّلامُ) قد طوى في سفره هذا أبعاداً كثيرة تفوق كونها هجرة إنسان مجاهد اتخذ الشهادة طريقاً من أجل رفض الحكم الظالم، وهذه الهجرة لا يجوز التوقف عندها وقراءتها من بعدها التراجيدي حصرًا، والتي تصوّر مقتل القائد وأهل بيته وَأَسْر عياله وسبيهم من بلد إلى بلد على يد مجموعة من الوحوش الذين تجمّعوا، يقودهم العمى والجهل، بل لا بدّ من تقديم قراءة موضوعيّة تتحلّى بالشموليّة في مضمونها الفكريّ والروحيّ، وهذه القراءة تتلخص في أنّ المشروع الفكري والمنهج الحسيني في المسير نحو كربلاء إنَّما هو في حقيقته حركة إختراق لحدود الزمان والمكان، ولأنّه مشروع السماء فقد كان للمدد الغيبي دوره في التطابق والانسجام المنقطع النظير بين الوجود المادي مع الغيب السّماوي، فكان لهذا المشروع أبعاداً ومضامين متعددة، لعلّ أحدها هو القتل في سبيل الله من أجل إصلاح الدين وحفظ جوهر الرسالة المحمديّة، لذلك نرى أنّ المنهج الذي اتّبعه الإمام في تعامله مع حالة الخنوع والاستسلام التي كان يعيشها المسلمون وكيف أنّ الدين أصبح مُعرّضاً للتّحريف والضياع، كان منهجاً يسعى لإيقاض الأمة وتهيئتها لمرحلة تغيير شاملة، فكان التّخطيط يجري ضمن مسارين؛ الأول هو المنهج الحركي النّهضوي الذي تعامل من خلاله الإمامُ مع عامّة المسلمين، حيث كان لا يَخرج ولا يتخطّى البُعد الواقعي أو الوجودي في سلوكه وتبنّياته، فعمل بظواهر الأشياء وطرق أبواب الأسباب، وهذا المسلك يتماشى مع المنطق الطبيعي لنمط الحياة وتفكير عموم المسلمين، حيث لم يعمل سلام الله عليه بالولاية التكوينيّة ولم يتّخذ من المعاجز ولا الأسرار الإلهية سبيلاً من أجل استنهاض الأمّة، إنَّما كانت تحرّكاته في عمومها مُنسجمة مع الحوادث والأسباب والمواقف، فلقد تعامل سلام الله تعالى عليه مع العوام من الناس بما يوافق العقل ويتفق مع المنطق السائد وينسجم مع الأسباب والمُسبّبات التي تجري على الأرض، ولكنّه سلام الله عليه قد أتّبع في الوقت ذاته منهجاً ومساراً مختلفاً في تعامله مع الخواص من أصحابه وأهل بيته، من أهل البصائر والأفهام، حيث انتهج مساراً معرفياً أساسه الارتباط الغيبي الروحي بالله تعالى، وهو المنهج الذي لا يَصل إلى حقيقة فَهمه ولا يُدرك علوّ مقاماته إلّا أولئك الذين ارتقوا مراتب المعرفة وَتَمكّنوا من الالتفاف حوله سلام الله عليه مؤمنين بيقين أنّه إمام مُفترض الطاعة وأنّه واسطة الفيض الإلهي، فساروا معه بقلوب واثقة ونفوس مطمئنّة مِنْ أجل أن يدركوا الفَتْح الذي أشار إليه الإمام في كتابه الذي بعثه إلى بني هاشم، فكانت تلك الرسالة العظيمة التي تركها الإمام لتقرأها البشرية أجمع في كل زمان ومكان:

(بسم الله الرحمن الرحيم، مِنَ الحُسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بَعد، فإنه مَنْ لَحِقَ بي مِنكم استُشهِد, وَمَن تَخَلّفَ عَنّي لَمْ يَبلغ الفَتْح، والسّلام)1، كلماتٌ ما أروعها وأروع معانيها، كلماتٌ اختَصَرت منهجَ ومشروعَ مُفكّر فهيم وفيلسوف عظيم، أسَّس لمدرسة أهدافها قد أوجِزَت بكلمات واسعة المعنى وعميقة المغزى، حيث أوضح الإمام من خلالها أنّ مَن لَحِق به استُشهد ومَن لم يَلحَق به لم يُدرك الفَتْح. بكلّ وضوح ألقى الإمام سلام الله حجّته ولم يُبق لذي عذر عذراً، فأشار إلى أن مَن يَبغي اللّحاق به فإنّ مَصيره الشّهادة والقَتل، ثُمّ أردف قائلاً ومَن لم يَلحَق بي لَن يَبلُغ الفَتْح وسوف يفوته الانتصار. فعن أي فتح كان يتحدّث الإمام وأي أنتصار كان يقصد؟

إنّ مَن لا يَتَدبّر في جوهر الأبعاد والمضامين الفكرية والروحية لمشروع الإمام سلام الله عليه يجد أنّ المعنى الظاهري في رسالته يوحي بالتناقض، فالقتل لا ينسجم مع الفَتْح والانتصار، وحاشى للإمام وهو المعصوم والمُنَزّه عن اللّغو والعبث أن يقولَ شططاً أو أن يَدعُوَ عَبَثاً، وهنا ومن أجل الوقوف على المَعاني الحقيقية لهذه الرسالة لا بُد من استيضاح الأمور التالية: ما هو المُراد من كلمة اللّحاق؟ وهَل اللحاق مُقتصر على زمان الإمام أم أنّ الباب مفتوحٌ في كل زمان ومكان؟ وما المقصدود بكلمة الفَتْح؟ وكيف جَمَع سلامُ الله عليه مَعنَيين مُتَغايرين في جملة واحدة وفي مسعى واحد وهما النَّصر والشّهادة؟ تلك الأسئلة وأمثالها تشكل قطب الرحى لهذا البحث وهي بذلك تستدعي منا التوقف قليلًا لتسليط الأضواء على تلك القضية الجوهرية، ومن دون ممارسة عملية وتفكيك حفرية المفاهيم المتعلقة بالقضية الحسينية لا يمكن الوصول لبعض الحقائق الجوهرية والتي هي بمثابة المقدمة للوصول نحو الهدف المنشود.

إنّ التّمعن بمُفردات رسالة الإمام وهي: اللّحاق والشهادة والتخلف والفَتْح، ومن خلال الأحداث التي رافقت الإمام والتي كانت تُنذر بمؤامرة خَطيرة تحاك من أجل تمزيق دين الله وهدم شرائع السماء، سندرك كيف أنّ الإمام كان يُخَطّط لتنفيذ مشروعٍ هُوَ أملُ الأنبياء والمُرسلين، وهذا المشروع توجزه رسالة الإمام سلام الله عليه وتلك الكلمات الأربعة والتي حينما نقرأ عُمق الترابط بينها سَندرك قدسيّة وعظمة ثورة الإمام سلام الله عليه.

إنّ كلمةَ اللّحاق تَعني إدراك الشيء أو الوصول إليه أو الانضمام إليه وإنَّ السّعيَ الجّاد من أجل اللّحاق يستلزم بطبيعة الحال السبب الحقيقي والرّغبة الصادقة لإدراك الشيء والانضمام إليه، لذا فنداءُ الإمام كانَ موجّهاً لأصحاب القلوب المُبصرة، القلوب التي أمتلأت عشقاً لله فَمَلأها الله عِشْقَ الحُسين (عليه السلام)، فاستَرخَصوا الأرواح وَشَرَوا صحبته، فلأجل الحسين وأهدافه يرخص كل شيء، كما أن الإمام أراد إلقاء الحجّة وتبيان جوهر هذه النهضة وأساسها ومنطلقها الفكري والعقائدي، وأنّه سلام الله عليه لم يترك الباب مفتوحاً لأولئك الذين تقاعَسوا عن نُصرته ولم يرغبوا باللحاق به مِنْ أن يُحاولوا تَبرير عدم خروجهم بأعذارٍ وذرائع قد تصل حد اللجوء لتشويه حقيقة أهدافه، أمرٌ قد ينطلي على السذّج من عامة الناس.

وكلمة الشّهادة تعني الاحتجاج أو الإخبار عن الحقيقة قولاً أو فعلاً، قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ﴾ [البقرة: 282]، ومن هذا المعنى يُستَدلّ به على أنّ الشهيد هو المقتول في سبيل الله، أي عندما يسعى صادقاً لنيل مرضاة الله قولاً أو فعلاً فينال كرامة القتل، وسيكون حينها شاهداً أو شهيداً على الحقيقة التي قدّم لأجلها نفسه في سبيل الله جلّ وعلا.

وأما الفَتْح فهو في اللّغة نقيض الإغلاق، فـ "فَتَحَ" "ضد أَغْلَق، كفَتَحَ الأبواب فانفتحت. والقرآن الكريم أورد العديد من الآيات فيها كلمة الفَتْح، وهنا نكتفي بذكر موردين فقط من سورتي النصر والفَتْح، حيث يكون فيهما معنى الفَتْح أكثر وضوحاً، ففي سورة النصر يقول الباري جل وعلا: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْح * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ [النصر: 1-3]. لقد أشار السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير الميزان لأكثر من معنى قيلت في تفسير كلمة الفَتْح في سورة النصر ولعل أهمّها هو فَتْح مكة الذي هو أمّ الفتوحات، وهو النصر العظيم الذي مَنَّ الله به على رسول الله والمسلمين، فَبِه انكسرت شوكة المشركين وتهدم بنيانهم.

وفي سورة الفَتْح يقول الله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ [الفَتْح: 1-2]، ولكلمة الفَتْح في هذه سورة معانٍ عديدة، لكنّ أغلب تلك المعاني تشير إلى أنّ المُراد هو النصر العظيم، وبالتالي فكلمة الفَتْح في كلا السورتين تشير بشكل أو بآخر إلى معنى واحد، هو النصر الذي منَّ الله تعالى به على نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم. ويُقسِّم أهلُ التفسير والعرفان معنى الفَتْح إلى قسمين: فَتْحٌ مادي، وَفَتْحٌ مَعنوي، (والبعض يطلق عليه الفَتْح القريب والفَتْح المبين وهما يتيسّران للأنبياء والأولياء والعرفاء. والفَتْح المُطلق والذي هو من المقامات الخاصة بالمرتبة الختمية (خاتم النبيين) وإذا حصل ذلك لشخص، فإنَّما هو بالتبع وبسبب شفاعة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم 2)، والفَتْح المادي أو الفَتْح القريب هو ما يُدرَك بالحَواس الجسمانية، فمثلاً يُقال أنّ فُلاناً فتح الباب أي أزال إغلاقه، وهذا الأمر يمكن إدراكه بالعين المجردة، فالانتصار في معركة بدر ومثله فتح خيبر على يد أمير المومنين علي (عليه السلام) أمثلة على معنى الفَتْح المادي.

لقد كان الإمام في مشروعه الإلهي ينتهج أسلوباً فريداً بكل أبعاده من حيث التخطيط والإعداد والتهيئة والتنفيذ، فالفَتْح الذي عَناهُ الإمام سلام الله عليه كان يحمل مفهوم الجمع بين النصر العسكري (الميداني) وبين الشهادة التي أراد من خلالها ومن خلال الدماء التي سالت أن يخترق بها محدوديّة الزمان والمكان ليلتحق بهذا الركب من أراد في كلّ زمان ومكان فينال بذلك الفَتْح المبين، فتحٌ أراد به الإمام سلام الله عليه الجمع بين الحُسنَيين، النّصرُ والشهادة معاً، وهذا ما لم يُدركه أحد، ولقد أدركهما الإمام معاً، بل يمكن القول إنّها دعوة مستمرة من الإمام سلام الله عليه لمن أراد اللّحاق به في أن يكون ضمن مشروع السماء، مشروع إعادة الرّوح لرسالة الإسلام المحمدي العلوي والذي خَطّطَ لتمزيقه شياطين الإنس أمثال أبن آكلة الأكباد وسليلهم الخمار ومن اتّبَعَهم وَسَارَ على نَهجِهِم إلى يومِ الدين، فلقد كشفَ بذلك الإمامُ الحُجُب عن هذا المشروع الإلهي (مشروع الفَتْح المبين) لأصحابه يوم الطف وأراهم منازلهم ومقاماتهم الرفيعة في الجنان، فتسابقوا فرحاً وشوقاً لِنصرة الدين .. فَنصرهم الله.

***

د. أكرم جلال كريم

.....................

المراجع

1. بحار الأنوار- العلامة المجلسي - ج 44، ص330. وكامل الزيارات - إبن قولويه - ص75، بـاب 24، حـديث 15. واللهوف في قتلى الطفوف - السيد إبن طاووس - الصفحة 25. ومثير الأحزان - ابن نما الحلي - ص27.

2. الأربعون حديثاً - الإمام الخميني - الحديث الحادي والعشرون ص317.

 

سيبقى الحديث مستمراً عن ثورة تموز رغم مداد الحبر الذي أستُخدَم لأجلها، وهذا هو شأن الأحداث الكبيرة التي تقلب الأوضاع رأساً على عقب، فلم ينتهِ ولن ينتهي الحديث عنها بكل تأكيد.

ستكون انطلاقتنا في هذا المقال الموجز باتجاهين، أو بالأحرى محورين:

الأول: لماذا حدثت هذه الثورة؟

الثاني: لماذا انتكست ـ بعد توَهّجها الفعّال؟

المحور الأول:

لا يمكن لحدثٍ كبيرٍ ـ كثورة تموز ـ أن يحدث في الفراغ، إذ لا ينتصر إلا ما هو ضروري، فالتاريخ لا يحتمل "الطارئ" أو "المُقحَم"، أي الذي لا أساس له في الواقع كما أشار المفكر الألمعي سلامة كيلة (1). وقد وصلت عوامل اضمحلال النظام الملكي العراقي الى درجة عالية من الشدة والخطورة، فلم يستطع الصمود أمام الضربات المُوَجّهة إليه في صبيحة 14 تموز كما ذكر الأستاذ ليث الزبيدي (2). وقد صدر في الفترة الأخيرة كتابنا عن النظام الملكي (3)، عالجنا فيه هذه المسألة بإسهاب، وكيف أن سقوط النظام الملكي كان ضرورة يفرضها الواقع والشروط الموضوعية.

قُسّمَ الكتاب لمقدمة وأربع فصول وخاتمة، فخصّصنا الفصل الأول لحقبة الملك فيصل الأول، والثاني لحقبة غازي، والثالث للوصي عبد الإله، والرابع لفيصل الثاني.

فكانت النتيجة التي خرجنا بها:

كان سقوط النظام الملكي حتمياً، وأن الزعم الذي نسمعه دائماً: لو استمر النظام الملكي لما وصلنا الى ما وصلنا اليه، هو زعم بعيد عن الواقع. فالشروط الموضوعية لهذا "الاستمرار" مفقودة. مع ضرورة التأكيد على أن "لو" مرفوضة تأريخياً كما ذكر المؤرخ الكبير فاروق صالح العُمر في كتابه "ثورة مايس"، وأن هذا الزعم هو أشبه بوصفة طبيب وجد علاج مريضه بعد رحيله (4).

المحور الثاني:

برزت قوىً رئيسة على السطح بعد الإطاحة بالنظام الملكي، وهي:

1ـ الجيش الذي قام بعملية التغيير بالقوة.

2ـ الشيوعيون واليساريون، فالحزب الشيوعي العراقي حزبٌ عريق مُنظّمٌ مارس الكفاح بشكل متواصل ضد النظام الملكي الذي عامله بقسوة شديدة. أما الثاني فهو الحزب الوطني الديمقراطي "حزب كامل الجادرجي" الذي كان يسارياً معتدلاً.

3ـ القوميون من ناصريين وبعثيين، إضافة لحزب الاستقلال بزعامة الشيخ محمد مهدي كبة، وهو من الأحزاب المُعارضة والمُرخّصة في العهد الملكي (5).

كان الهدف الأوحد لهذه القوى هو اسقاط النظام الملكي، وعندما تحقّقَ ذلك الهدف، ظهرت التناقضات بينها. وهو أمر طبيعي غير موجِب للعجب والاستغراب.

تم حصر السلطة بيد الزعيم قاسم ونائبه عبد السلام عارف، ولم يُشَكّل "مجلس قيادة الثورة"، وهذا ما أثار باقي الضباط "الأحرار" الذين تحَمّلوا ما تحمّلوه سابقاً، وقد ظهر إثر ذلك نتائج خطيرة أثرت على مسيرة الثورة لاحقاً، هذا أولاً. أما ثانياً فقد كان عزل عارف وتجريده من سلطاته كافة نُذر شؤمٍ على الثورة، نقول بذلك بعيداً عن تأييد عارف وخُطبه الهوجاء في بداية الثورة، وإلا فعارف لم يكن شخصاً طارئاً على ثورة تموز، فهو "فاتح بغداد".

كان عارف يدعو الى الوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة بقيادة الزعيم جمال عبد الناصر، وبدعم من القوى القومية.

بالمقابل، لم يُعطَ الزعيم قاسم فرصة ولو بسيطة لقيادة البلد، فقد أعلنها القوميون حرباً بلا هوادة عليه، وحجتهم في ذلك عدم قبوله تحقيق الوحدة الفورية مع العربية المتحدة. لكن ماذا لو تساءلنا الآن: هل كانوا صادقين آنذاك في شعارهم؟ أم كان مجرد تكتيكٍ براغماتي لضرب قاسم؟ أثبت لنا التاريخ الثاني! فأين الوحدة التي صدعوا رؤوسنا بها بعد أن قتلوا الزعيم؟ ثم هل كان عبد الناصر من دُعاة الوحدة الفورية؟ يروي محمد حسنين هيكل بأن الأولوية عند عبد الناصر كانت على تأكيد وحدة الثورة العراقية وتدعيم مسيرتها نحو أهدافها (6). بل ان العقيد صبحي عبد الحميد وهو قومي، قد اعترف ونصح الأجيال القادمة، بأن الظروف تتطلّب السعي لتحقيق الوحدة بإسلوب تدريجي لا يُثير الحساسيات والتعصب القطري! (7).

أنتج هذا الوضع المُتَفَجّر حركة العقيد عبد الوهاب الشوّاف في الموصل 1959، ثم حوادث كركوك المأساوية، ليقوم الزعيم قاسم بإعدام رفيقيه العقيد رفعت الحاج سري والعميد ناظم الطبقجلي لاشتراكها بمؤامرة الشوّاف. وهو خطأٌ بشعٌ اندفع إليه قاسم كما ذكر العميد إسماعيل العارف (8).

تم تحميل الشيوعيين وزر هذه الأعمال، وطبعاً فنحن لا نُريد أن نُبَرّىء أحداً على حساب الحقيقة والتاريخ، أبداً. لكن أثبتت المصادر الموضوعية أن الشيوعيين قد حُمّلوا أوزاراً أكثر مما هي على الواقع، ويمكن الرجوع الى ما كتبه حنّا بطاطو وأوريل دان وعبد الفتاح البوتاني وجرجيس فتح الله.

فهل يعني هذا بأن قاسم لم يكن مسؤولاً عن هذا الوضع؟ كيف لا وهو على رأس الدولة! فسياسته قد ارتدت عليه وقتلته في النهاية، فمسك العصا من الوسط وضرب هذا الطرف بذاك قد كانت سبباً رئيساً لنهايته الحزينة. فارتجاله في الحكم وتورّطه بالاصطدام بعبد الناصر ـ كما ذكر د. طارق يوسف إسماعيل (9) ـ ثم حربه مع الأكراد ومطالبته بالكويت، قد أدت الى هلاكه.

لكن رغم كل هذه الصعوبات، فقد حقّقت ثورة تموز الكثير من الإنجازات وعلى جميع الميادين، فيقول محمد حديد وزير المال في عهد قاسم، بأنها قد حرّرت العراق من حلف بغداد، وجعلت العملة العراقية مستقلة، وشرّعت قانون 80، والغت الاقطاع ... (10).

المُحصّلَة أن انتكاس الثورة وسقوط قاسم قد كان حتميّاً أيضاً كما أسلفنا عن النظام الملكي، فالشروط الموضوعية لبقاء قاسم مفقودة.

وتُحتّمُ علينا الموضوعية الآن أن نُشير لنظافة قاسم ووطنيته ونقاء سيرته، وقد إعترف عدو قاسم بذلك قبل صديقه. ومذكرات القادة البعثيين شاهدة على ذلك.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

......................

الحواشي:

1ـ سلامة كيلة: أزمة الاشتراكية بعد مائة عام من ثورة أكتوبر ـ دراسة في تجربة القرن العشرين، دار ابن رشد القاهرة ط2 2017 ص93

2ـ ليث عبد الحسن الزبيدي: ثورة 14 تموز في العراق، منشورات مكتبة اليقظة العربية بغداد ط2 1981 ص17

3ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام أن يبقى على قيد الحياة؟ دار البيارق للنشر والتوزيع بغداد 2014

4ـ المصدر السابق ص278

5ـ يُنظر مقالنا:

معاذ محمد رمضان: العراق في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ـ نظرة سريعة للواقع السياسي، صحيفة المثقف، بتاريخ 29 تشرين الثاني 2023

6ـ محمد حسنين هيكل: حرب الثلاثين سنة ـ سنوات الغليان، دار الشروق القاهرة ط1 2004 ص479

7ـ مذكرات صبحي عبد الحميد / العراق في سنوات الستينات 1960 ـ 1968، دار بابل للدراسات والإعلام ط1 2010 ص317

8ـ إسماعيل العارف: أسرار ثورة 14 تموز وتأسيس الجمهورية في العراق، منشورات الماجد لندن 1986 ص236

9ـ طارق يوسف إسماعيل: من زوايا الذاكرة ـ على هامش ثورة 14 تموز عام 1958، تقديم: د. عبد الحسين شعبان، مكتبة النهضة العربية بيروت بغداد ط1 2021 ص189

10ـ محمد حديد: مذكراتي ـ الصراع من أجل الديموقراطية في العراق، تحقيق: نجدة فتحي صفوة، دار الساقي بيروت ط1 2006 ص466 و 467

 

بقلم: هيمانت كاكاريس وجاريت برادي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لإيجاد طرق لردع هذا التهور، قمنا بدراسة عقلية الممولين وغيرهم ممن يتخذون قرارات "الخطر الأخلاقي".

بعد كارثة الأزمة المالية في عام 2008، انتقل مصطلح كان يُقتصر سابقًا على الكتب الاقتصادية إلى الحوار العام: "المخاطرة الأخلاقية". يصف المصطلح الميل نحو اتخاذ قرارات مخاطرة في ظروف يتحمل فيها شخص آخر - ليس صاحب القرار - معظم التكاليف. في حالة الانهيار المالي، اضطر المكفولون غصبًا إلى تمويل إنقاذ للمؤسسات التي أدت مقامراتها الجارية بلا تفكير إلى الكارثة. يُجادل أن هذه الشركات، التي اعتبرت "كبيرة بما يكفي لا تفشل"، ارتاحت إلى الخطر، متسندة إلى الشبكة الأمان التي توفرها الأموال العامة.

اقترح البعض أن انهيار بنك وادي سيليكون في عام 2023 أرسى مثلاً أكثر حداثة للمخاطرة الأخلاقية. بعد فشل البنك، تدخلت حكومة الولايات المتحدة لحماية المودعين، مما قد يشجع المصرفيين الآخرين على ممارسة ممارسات الإقراض الخطرة، على ثقة بأن شخصًا آخر سيتولى التعامل مع أي عواقب. مثال آخر على المخاطرة الأخلاقية يمكن أن يكون عندما يتخذ رئيس منظمة قرارات مصلحية (مثل زيادة "المظلة الذهبية" الخاصة به) تضع مرؤوسيه ومستقبل المنظمة في خطر، ولكن لا تتحمل العواقب إذا حدثت مشكلات.

يمكن أن تحدث المخاطرة الأخلاقية أيضًا على نطاق فردي أكبر، مثل عندما يقرر شخص مصاب بفيروس عدم اتخاذ احتياطات مثل البقاء في المنزل أو ارتداء الكمامة، مما يضع أولئك الذين حوله في خطر دون تكبد أي تكلفة إضافية لنفسه.

نظرًا للعواقب البعيدة المدى للمخاطرة الأخلاقية، نحتاج إلى فهم أفضل للعوامل النفسية والهيكلية التي تشجع على اتخاذ هذه القرارات الخطرة. ومن المدهش أنه حتى الآن، لم تكن هناك أبحاث كافية في هذا المجال. استثناء مهم يأتي من الأبحاث التي تعمقت في نفسيات صناع القرار، مما يشير إلى أن أولئك الذين يمتلكون السلطة، أو الذين يشعرون بالتمكين، أكثر عرضة لاتخاذ قرارات تخدم مصالحهم الشخصية في حالات تتضمن المخاطرة الأخلاقية. تبرز هذه النتائج أهمية دور القادة في فهم هذه المشكلة.

مع ذلك، فإننا نعلم أنه ليس كل القادة يتصرفون انطلاقًا من المصلحة الذاتية، خاصة عندما تؤدي أفعالهم إلى الإضرار بالآخرين. ينظر العديد من القادة إلى السلطة ليس فقط كوسيلة لتحقيق مكاسب شخصية، ولكن أيضًا كمسؤولية لخدمة الآخرين. علاوة على ذلك، حتى الأفراد الذين ليس لديهم منصب قيادي يمكنهم اتخاذ قرارات تعرض الآخرين للخطر. لذا، يصبح السؤال: لماذا يتخذ بعض صناع القرار، وليس كلهم، هذه القرارات المحفوفة بالمخاطر؟

هل الأفراد المهيمنون أكثر ميلاً إلى اتخاذ قرارات تنطوي على مخاطر أخلاقية وتعرض الآخرين للخطر؟

لمساعدتنا في الإجابة على هذا السؤال، لجأنا إلى الإطار المزدوج للتأثير الاجتماعي الذي تم استخدامه في الأبحاث السابقة. يصف هذا الإطار الطرق المتناقضة التي يحقق بها الأشخاص التأثير على الآخرين ويحافظون عليه. فهو يصنف الأفراد على نطاق واسع على أنهم لديهم أحد التوجهين: "الهيبة" أو "الهيمنة". ومن خلال دراسة كيفية تأثير شخص ما على الآخرين، بدلاً من مجرد مدى قوة هذا الشخص، يسمح لنا الإطار باستكشاف أنواع صناع القرار أو القادة الأكثر عرضة لاتخاذ قرارات تعرض الآخرين للخطر.

يتم تقدير الأفراد ذوي التوجهات المرموقة لمهاراتهم وميلهم إلى مشاركة معارفهم أو خبراتهم مع الآخرين. ونتيجة لذلك، يتم منحهم الاحترام والإعجاب. هذا هو نوع الشخص الذي يستثمر الوقت في مساعدة وتعليم أولئك الذين يعملون تحت قيادته، وهو متعاطف ومنفتح على الاقتراحات، والذي يشعر الموظفون بالراحة في التواصل معه للحصول على المشورة.

على النقيض من ذلك، فإن الأفراد المهيمنين حازمون ومسيطرون في تفاعلاتهم مع الآخرين. من خلال التحدث أولاً وفي كثير من الأحيان، فإنهم يجذبون الانتباه. غالبًا ما يستخدم الأفراد المسيطرون سلطتهم وتأكيدهم للحث على الامتثال. إنهم يمارسون نفوذهم من خلال خلق شعور بالترهيب. يمكن لأي شخص يتمتع بتوجه مهيمن قوي أن يكون مديرًا قويًا للمهام، مما يؤدي إلى تنمية بيئة أداء عالية الضغط.

ونظراً لميل الأشخاص المهيمنين إلى المزيد من السيطرة والفاعلية والتركيز على الذات ــ وتخصيص الموارد لأنفسهم ــ فقد افترضنا مؤخراً (مع زميلنا نيرو سيفاناثان) أن مثل هؤلاء الأفراد أكثر ميلاً إلى اتخاذ قرارات تنطوي على مخاطر أخلاقية تعرض الآخرين للخطر. وقمنا باختبار ذلك في سلسلة من 13 دراسة غطت مجموعة متنوعة من السياقات ذات الصلة، بما في ذلك السيناريوهات المالية والبيئية والاستثمار العام والصحة العامة.

في إحدى الدراسات البارزة، قمنا بتعيين متخصصين ماليين متمرسين من ذوي الخبرة في الاستثمار في الأسواق المالية. قدم هؤلاء المحترفون أولاً معلومات عن مستويات هيمنتهم ومكانتهم، باستخدام مجموعة من المقاييس. لالتقاط الهيمنة، يطلب المقياس من المشاركين أن يقيموا، على سبيل المثال، مدى استمتاعهم بالسيطرة على الآخرين، أو الحصول على ما يريدون بغض النظر عما يريده الآخرون، ومدى استعدادهم لاستخدام التكتيكات العدوانية. مقياس الهيبة يسأل شخص ما، على سبيل المثال، عن مدى طلبه للنصيحة ومدى احترامه وإعجابه.

لقد كانوا أكثر استعدادًا لتعريض أموال عملائهم للخطر لتحقيق أقصى قدر من مكاسبهم المحتملة

بعد الحصول على هذه التقييمات، قدمنا للمشاركين سيناريوهات افتراضية مختلفة يمكنهم من خلالها استثمار أموال العميل. في هذه السيناريوهات، يمكن للمستثمرين لدينا اختيار إما خيار ذو عائد مضمون أو خيار ينطوي على مخاطر أخلاقية، حيث يمكن لعملائهم الحصول على عائد أفضل مع مخاطر أعلى - مما يعني عمولة أكبر للمستثمر. ومع ذلك، في حالة الخسارة، سيتم حماية المستثمر من أي مسؤولية؛ فقط العميل سيتحمل الخسارة.

لقد وجدنا أنه كلما كان المستثمر أكثر سيطرة، كلما زاد احتمال لجوئه إلى خيار المخاطر الأخلاقية. أي أنهم كانوا أكثر استعدادًا لتعريض أموال عملائهم للخطر لتحقيق أقصى قدر من مكاسبهم المحتملة لم نجد أي علاقة ثابتة بين السمعة والمخاطرة الأخلاقية.

لقد قمنا بتكرار هذه النتائج عبر دراسات متعددة مع مجموعات مختلفة من المشاركين والسياقات. على سبيل المثال، كان هناك سيناريو حيث يمكن للزعيم أن يخاطر بصحة وسلامة الآخرين من خلال استخدام أنظمة التخلص من النفايات دون المستوى المطلوب سعياً لتحقيق الأرباح، وكان السيناريو الذي يؤدي فيه التوقيع على عقد مربح إلى ممارسات صيد مدمرة للبيئة. والأهم من ذلك أن تحليلاتنا قدمت أدلة على أن الهيمنة في حد ذاتها ــ وليس مجرد الأنانية أو تفضيل المجازفة ــ تشكل عاملاً متميزاً يدفع القرارات المرتبطة بالمخاطر الأخلاقية.

ما الذي يفسر هذا السلوك لدى الأفراد المهيمنين، وما الذي يمكن فعله للتخفيف منه؟ ولإثراء نظريتنا حول هذا الأمر، اعتمدنا على الأبحاث السابقة حول تفضيلات المساءلة. ويشير هذا العمل إلى أنه عندما يسعى شخص ما إلى تحقيق هدف ما، فإنه قد يحمل نفسه المسؤولية إما عن نتائج جهوده أو عن العملية المتخذة لتحقيق ذلك الهدف. وبعبارة أخرى، يمكن للأفراد التركيز إما على الغايات أو على الوسائل. إذا كان الهدف هو زيادة مبيعات الشركة، فيمكن للقائد أن يأمر الموظفين بالتركيز على الهدف النهائي - لإيجاد طريقة لزيادة المبيعات، مع القليل من الاهتمام بكيفية تحقيق هذا الهدف. وبدلاً من ذلك، يمكن للقائد أن يوجه الموظفين للنظر في ممارسات المبيعات الحالية ومعرفة أين يمكنهم إجراء تحسينات عليها. في هذا السيناريو، يكون التركيز أكثر على العملية التي تؤثر على مبيعات الشركة.

ينبغي للمرء أن يكون أكثر حذراً بشأن الثقة في الأفراد المهيمنين الذين لديهم أدوار في صنع القرار

لقد افترضنا أن الأفراد المهيمنين سيكونون أكثر ميلاً إلى التركيز على النتائج بدلاً من العملية. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يمكن أن يساعد في إعلام السبل للحد من مشكلة الخطر الأخلاقي.

لاستكشاف هذا الاحتمال، طلبنا من مشاركي الدراسة أن يتخيلوا أنهم إما قادة مهيمنين أو قادة متميزين بالسمعة. في السيناريوهات التي قدمناها لهم، حاولنا أيضًا التأثير على ما إذا كانوا يشعرون بالمساءلة تجاه النتيجة أو العملية أكثر. أُخبر المشاركون في شرط المساءلة على العملية بأنه من المهم عند اتخاذ قرارهم أن يقيموا أنفسهم بناءً على الإجراءات والوسائل لتحقيق أهدافهم المرجوة، وليس بشكل كبير على النتيجة النهائية. على النقيض من ذلك، أُخبر المشاركون في شرط التركيز على النتيجة بأنه من المهم عليهم أن يقيموا أنفسهم بناءً على تحقيق النتائج المرجوة بدلاً من كيفية الوصول إليها.

ثم قدمنا لجميع المشاركين سلسلة من سيناريوهات الخطر الأخلاقي. ودعمًا لتوقعاتنا، وجدنا أن أولئك الذين تولوا دور القائد المهيمن اتخذوا قرارات تنطوي على مخاطر أخلاقية أكثر من أولئك الذين تولوا دور القائد الموجه نحو الهيبة. ومع ذلك، انخفض هذا الاتجاه بين القادة المهيمنين بشكل كبير عندما كان المشاركون مسؤولين عن العملية، وليس عن النتيجة.

تقترح هذه الدراسة طريقة عملية يمكن للمؤسسات من خلالها تجنب أن يتخذ الأشخاص ذوو النفوذ القرارات التي تعرض الآخرين للخطر. على سبيل المثال، بدلاً من مكافأة مديري صناديق الاستثمار بشكل مفرط عندما يؤدي رهان مخاطرة إلى نتائج إيجابية، يمكن للشركة تقييم أدائهم بناءً على ما إذا كانوا قد اتبعوا الخطوات اللازمة قبل استثمار أموال العملاء في أصول مخاطرة. هل تم الحصول على موافقة العميل على مثل هذه المعاملات؟ هل تم إخطارهم بأن مثل هذا الاستثمار يمكن أن يؤدي إلى خسارة أموالهم؟ حتى عندما لا يكون الاستثمار ماليًا ناجحًا بشكل كبير، هل كانت دراسة الجدوى الواجبة مثالية؟ التركيز على مثل هذه الاعتبارات قد يقلل من تأثير نتائج القرارات الخطرة في المستقبل.

إن الرغبة في تفضيل مصالح الذات على حساب رفاهية الآخرين تظل قائمة عبر الزمن. يقدم بحثنا فهمًا أعمق حول الأشخاص الذين يميلون بشكل خاص إلى وضع الآخرين في مواقف خطرة من أجل تحقيق أهدافهم الشخصية. نتيجة محتملة من هذه الدراسات هي أنه ينبغي أن نكون أكثر حذرًا في الثقة بالأفراد القويين ذوي الصلاحيات في اتخاذ القرارات - مثل الرؤساء، قادة الفرق، المستشارون الماليين وغيرهم - خاصة عندما تتعارض مصالحهم مع طموحات الأفراد الآخرين.

يسلط عملنا الضوء أيضًا على أهمية الوعي بالفروق الفردية في الطريقة التي يسعى بها الأشخاص لتحقيق أهدافهم والحاجة إلى إعطاء الأولوية للوسائل التي يتم من خلالها تحقيق الأهداف، بدلاً من مجرد الغايات. ومن خلال تنفيذ التغييرات الهيكلية التي تشجع هذا النهج، يمكن للمؤسسات والفرق التخفيف بشكل فعال من المخاطر المرتبطة بالمخاطر الأخلاقية، حتى عندما يكون الأشخاص المهيمنون هم الذين يملكون القدرة على اتخاذ القرارات.

***

............................

1- هيمانت كاكاريس/  أستاذ مشارك في السلوك التنظيمي في كلية الأعمال الهندية في حيدر أباد، الهند. يعتمد بحثه على علم النفس الاجتماعي والنظريات التطورية للمكانة والتأثير لدراسة أحكام وسلوكيات الناس داخل التسلسل الهرمي الاجتماعي.

2- جاريت برادي /  أستاذ مساعد في قسم الإدارة والتكنولوجيا في جامعة بوكوني. تستفيد أبحاثه من النظريات النفسية والإدارية الاجتماعية لاستكشاف ديناميكيات التسلسل الهرمي الاجتماعي كما تظهر داخل الأفراد، وعلى المستوى الشخصي والتنظيمي وعلى المستوى المجتمعي.

 

ان حق تقرير مصير الشعوب بصورة عامة هو حق لا جدال فيه انطلاقا من المواثيق الدولية والفلسفات الانسانية الداعية الى احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها وحتى إقامة كياناتها المستقلة استنادا الى خصوصيتها العرقية والاثنية وحتى الدينية، وخاصة عندما تتعرض الى الانتهاك او الابادة الجماعية او الاحتلال، وعدم السماح بانفراد مكون وتسلطه على مكون آخر، وعلى خلفية ذلك قدمت الكثير من الاحزاب التقدمية والوطنية العراقية الكثير من التضحيات الجسام، سواء في الارواح أو تحمل شتى صنوف القهر والتعذيب والمضايقات والهجرة والتهجير وفقدان المستقبل، راح ضحية هذا النضال خيرة من سياسي ومثقفي وعامة من المناضلين والذين آمنوا حقا على سبيل المثال بحق الشعب الكردي بتقرير مصيره وادارة نفسه بنفسه، كان هذا في ظل عراق قبل 2003 والذي ساد فيه القمع والارهاب السياسي والتمترس الشوفيني وعدم الانصياع لحكمة العقل في أن العراق ليست مكون واحد ولا يمثله حزب واحد ولا دين أو مذهب واحد.

 بعد سقوط النظام كفل الدستور العراقي لعام 2005حق تشكيل الأقاليم ليست فقط لأقليم كردستان القائم اصلا منذ عام 1991 بعد انسحاب النظام السابق من مناطقه رغم عدم الأعتراف الرسمي به طبعا، فالحق في تشكيل الأقاليم اعتمادًا على المادة (119): يحق لكل محافظة، أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين:

أولًا: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.

ثانيًا: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم

بعد تشكيل الأقاليم في العراق من حق كل إقليم أن يضع له دستورًا خاصًا به حسب المادة (120)"يقوم الإقليم بوضع دستور له يحدد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات على أن لا يتعارض مع هذا الدستور".

من حق الأقاليم ممارسة سلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، حسب المادة (121) أولًا: "لسلطات الأقاليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية وفقًا لأحكام هذا الدستور باستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية".

من حق سلطة الأقاليم أيضًا تعديل تطبيق القوانين الاتحادية وفقًا للمادة (121) ثانيًا: "يحق لسلطة الإقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم، في حالة وجود تناقض، أو تعارض بين القانون الاتحادي، وقانون الإقليم بخصوص مسألةٍ لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية". طبعا الى جانب قضايا تفصيلية اخرى بخصوص توزيع الموارد وتشكيل قوى الأمن الداخلي وحرس الأقليم وأمور اخرى تفصيلية تمنح السيادة شبه الكاملة للأقاليم.

فالمشكلة ليست بالناس التي تطالب بتشكيل الأقاليم على نسق اقليم كردستان، بل انها تطالب ضمنا بحق دستوري تمت الأشارة أليه بوضوح، بأختلاف نوايا من يطالب الآن ولماذا لم يطالب أمس، فالعلة بالدستور، والأمر اكبر من كونه المطالبة بتطبيق مادة دستورية أو كما يقال المثل " كلمة حق اريد بها باطل ". ويمكن القول أن الدستور العراقي بوضوح هو الذي أسس للأقلمة وهي خطوات عند الضرورة والأختلاف الشديد الغير قابل للحل بين الأقليم والحكومة الأتحادية يمكن ان يؤدي الى الأنفصال، وتتصاعد الدعوات مجددا لتشكيل اقاليم اخرى في العراق فلا غرابة في ذلك فالدستور أباح تقسيم العراق أصلا على المدى البعيد، وبأمكان الدعوى لتشكيل اقاليم ان تلعب دور القنبلة الموقوتة التي تنفجر في أي لحظة على خلفية ازمات النظام السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستعصية واشتداد النزعة الطائفية وخطاب الكراهية وفرض الأرادات.

حق المجتمعات المحلية في العراق في البحث عن ما يطمئنها من حلول سواء بأستقلاليتها النسبية هو حق مشروع لأهلها في الأرتقاء بمستويات العيش واستثمار مواردها بما يؤمن لها بمستقبل افضل شريطة ان يتم ذلك في ظل ظروف استقرار واضح للدولة والبلد الحاضن لها. في العراق اليوم يشهد موجة مطالبات لتحول المحافظات الى اقاليم والأقضية الى محافظات والنواحي الى أقضية في ظل نظام محصصاتي اثني يكتنفه المزيد من عدم الوضوح في مفهوم دولة المواطنة وتمزقه الصراعات الأثنوطائفية والعشائريه ويغرق في بحر الفساد الأداري والمالي والأخلاقي تبدو هذه المطالبات هي آلية دفاعية واستجابة انفعاليه للتشرذم والترهل الأداري والغوص عميقا في مستنقع الفساد. فالأزمة هنا هي ازمة نظام عجز عن الحفاظ على وحدة العراق عبر عجزه لأيجاد حلول لمعاناة الناس اليومية. نعم مع حق المجتعات المحلية وحق شعوبها في الأستقلال الأداري والمالي في ظل عراق معاف من ازماته الخانقة.

الأشكالية ليست في الخوف من دعوات تشكيل أقاليم جديدة في ظروف سياسية صحية، بل الخوف من نظام المحاصصة الطائفي والأثني الذي يستهدف الوطن ومكوناته على المدى القريب والبعيد وكما نلاحظ ذلك من انعدام الأمن والأمان وسيطرة السلاح المنفلت،  وكل هذا يجرى على خلفية فشل الأداء الحكومي خلال عقدين من الزمن، في حقبة استشرى فيها الفساد الاداري والمالي الذي اتخذ من الفساد السياسي غطاء يحتمي به، وقد انعدمت خدمات الحد الادنى من مقومات العيش الكريم، من صحة وتعليم وكهرباء وماء، وانتشار للبطالة في اوساط الخريجين وغيرهم، وتعاظم نسب الفقر وما تحت خط الفقر والذي بلغت نسبته ما يقارب 30%، منزامنا مع كوارث بيئية وطبيعية، ابرزها شحة المياه ومخاطر الجفاف الشامل، وكذلك التلوث البيئي وتلوث مياه الأنهر وعدم صلاحيتها للأستخدام اليومي او لعيش الكائنات الحية، وكان هذا في مجمله يعكس ضعف الادارة السياسية لأدارة هذه الملفات الخطيرة جسدتها حالة الاحتراب والارتهان لأجندة اثنوظائفية سياسية داخلية واجندة اقليمية عرقلت وضع العراق على طريق السكة الصحيحة.

المشكلة تكمن في أزمة الديمقراطية في العراق، فبعد سقوط النظام السابق على يد المحتل الامريكي للعراق قام الاحتلال عبر طريقة الحكم بتكريس حالة الانكفاء المذهبي والديني والاثني من خلال نظام المحاصصة الطائفي والاثني مستخدما الولاءات للجماعات الفرعية، باعتبارها ردود افعال لسياسات النظام السابق، وتحويلها الى نهج شامل بنيت عليه سياسة الدولة والمجتمع، مما اضعف من الديناميات الايجابية لعملية الصراع السياسي والاجتماعي في فرز القوى الحقيقية ذات المصلحة في التغير، وادخل المجتمع العراقي في طاحونة وتنازع كامل بين مكوناته وهوياته الفرعية وعزز من خطاب الكراهية بفعل غياب الخطاب الوطني الجامع والعابر للمكونات، وهذا بحد ذاته يرفع من سقف استخدام الدستور كشماعة للأقلمة او للأنفصال لاحقا.  

ومما زاد الأمر تعقيدا ان معظم القوى السياسية التي أتت واستلمت الحكم بعد السقوط لم تحمل في غالبيتها مشروعا وطنيا عابرا للهويات الفرعية وخاصة الطائفية منها والاثنية، ان لم نقل انها لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة عبرالانتخابات الحرة والنزيهة، وما صناديق الاقتراع بالنسبة لها الا وسيلة فرضها الاحتلال فرضا، وخاصة القوى الاسلاموية التي رأت في ذلك فرصتها الوحيدة والسانحة لاستغلال ظروف اليأس والاضطهاد السابق واضفاء الصبغة الدينية والمذهبية على الصراع الاجتماعي ولعرقلة الحراك الطبقي في المجتمع العراقي. وحتى القوى والاحزاب الكردية، وخاصة الرئيسية منها فلم يكن هاجسها الرئيسي بناء الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية ودولة المواطنة، بقدر ما تعلق الامر في انتزاع الحقوق القومية الخالصة بطريقتها الخاصة، بعيدا عن الصراع الاجتماعي السياسي العام الذي يؤطر المجتمع العراقي كله.

ان الديمقراطية عقد اجتماعي بين المواطنين تقوم على الحرية والعدالة والمساواة في اطار الدولة الحديثة التي تقوم على الدستور وسيادة القانون ويكون الشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها، مثلما تقوم على منظومات المجتمع المدني التي تعمل على التحكم بقدرة المجتمع الذاتية وتوجيهها، وكذلك امكانية افراد المجتمع وقدرتهم على ممارستها وفق قواعدها ومعاييرها وشروطها. فالديمقراطية تتطلب قبل كل شيء قناعات مسبقة بحق المواطنة وثقة متبادلة بين المواطنين واعتراف بآليات تطبيقها ومشاركة جميع الاثنيات والطوائف والاقليات الاخرى فيها، فلا يمكن في النظم الديمقراطية المتعافية أن يقوم الخاسر في الأنتخابات بالتحايل على نتائج الأنتخابات والخروج منها بمظهر الفائز واقصاء الكتلة الفائزة كي ينفرد بتشكيل الحكومة عبر تحالفات مصلحية مريضة تشكل مصدرا لعدم الأستقرار وزعزعة للأمن المجتمعي.   

وعلى مدار عقدين من الزمن فأن نظام المحاصصة عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا  أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد،بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ،أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ،بل تؤسس إلى "  إفساد للتنمية "،وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ،وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف  دينه ومذهبه وطائفته وعرقية، فلا نستغرب من سرقة اكثر من 500 مليار دولار واهدار ما مجمله 1500 مليار دولار منذ عام 2003.

ومقابل ذلك فهناك احياء لبنية اجتماعية واقتصادية متخلفة فهناك استحضار خاص لدور العشيرة والقبيلة وتدخلها في الشأن العام وفي شأن النظام السياسي وتقرير وجهة تحالفاته، الى جانب استعانة النظام نفسه بالعشيرة للبقاء وتمرير اجندة مختلفة بالضد من التقاليد الديمقراطية، فهناك تحالف خفي بين مختلف المنظومات والبنى الفكرية المتخلفة لبقاء الأوضاع كما هي، وقد اعادت هذه التحالفات انتاج بنية القمع ومحاربة الرأي الآخر وانتشار سلاح العشيرة الذي يهدد السلم المجتمعي وكذلك عموم السلاح المنفلت والذي يوظف ضد الحريات الفردية ومحاربة التنوع الفكري والثقافي.

وفي ظل هذا التدهور العام يجب ان لا يفهم من دعوات تشكيل الأقاليم هي دعوات تعبر عن حالة نضج لضرورات الأدارة اللا مركزية والطموح لتطوير واقع المحافظات المطالبة بالأقليم عبر تشبعها بصلاحيات النظام الأتحادي، بل انها حالات من النكوص والتراجع الخطير وعدم المواجهة في اصلاح عيوب النظام المحصصاتي برمته بما فيه وثيقة الدستور ذو الأشكالية الكبرى في التأسيس لذلك النظام.

لقد ساهمت القوى السياسية الرئيسية الشيعية والكردية ثم السنية في تأسيس النظام المحصصاتي القائم وصاغت اركانه الاساسية وفي مقدمتها الدستور وكرسوا كل امكانيات التعبئة الحشدية للتصويت عليه واقراره " وخاصة القوى الشيعية والكردية "، ثم استمرت رحلة توزيع المناصب السيادية والوزارية ومختلف المناصب العليا في الدولة على أسس من المحصصات الطائفية والاثنية. وعلى هذا الاساس فأن اطراف المحاصصة الشيعية والكردية والسنية تتشبث ببقاء نهج السلطة وتقسيم غنائمها، وان كل ما يصدر من قرارات وقوانين وتشريعات عامة لا تخلو من نكهة الصفقات الطائفية السياسية والاثنية، وبالتالي فأن دعوات انشاء اقاليم جديدة لا تخرج عن ذات السياق.

***

د.عامرصالح

أول مناظرة بين ترامب وبايدن تمت. وكأنها الحرب!. حرب حقيقية بين شخصين ومن ورائهما حزبين متنافسين، ثم شعب منقسم على ذاته لا يعرف كيف يختار بين سيئ وأسوأ. الحرب هنا لا تكمن فقط فى التنافس بين الحزب الديمقراطي ومناصريه، وبين الحزب الجمهورى وأنصاره، وإنما فيما ينتظر الولايات المتحدة الأمريكية من اختبار حاسم يختار فيه الأمريكيون رئيساً سيقودهم لإحدي حربين: إما حرب فى أوروبا، أو حرب فى بحر الصين الجنوبي!!

بين نارين

 معلوم أن أساس اختيار الشعب الأمريكي لرئيسه قائم على حال الاقتصاد الأمريكي فى المقام الأول، بينما يأتي دور السياسة الخارجية للرئيس، وصلاته باللوبيات فى المقام التالي. إلا أن هذا الأمر سيتغير فى انتخابات هذا العام.

 حرب غزة بات لها تأثير فاق التوقعات. والطريقة التي أدار بها بايدن حرب غزة سوف تنعكس على نتائج الانتخابات بلا شك. فأما الجالية العربية فلابد أنها ستختار إما الامتناع عن التصويت أو ضد بايدن، هذا الذي انحاز لإسرائيل وزودها بالأسلحة والأموال واتهم المقاومة كذباً وافتراءً باغتيال المدنيين فى أول الحرب، ثم اتضح كذب تلك الادعاءات، وأن قتلي غلاف غزة فى أول الحرب تم بطائرات إسرائيلية وبأوامر مباشرة من نتنياهو، وهي الادعاءات التي روج لها بايدن! ثم دوره فى قمع مظاهرات طلاب الجامعات. كل هذا لا بد أنه سيؤدى للتصويت ضد بايدن لا عند العرب وحدهم بل وعند كثير من اليهود الأمريكيين. فهؤلاء بعضهم ضد الحرب فى غزة وبعضهم الآخر منحازون لليمين اليهودي المتطرف، أي لحكومة نتنياهو، تلك الحكومة التي وصلت العلاقات بينها وبين بايدن لطريق مسدود.

 حتي لو تناولنا الاقتصاد كسبب للتصويت مع الحزب الديمقراطي أو ضده، فلن يكون لصالح بايدن وحزبه الديمقراطي أبداً؛ إذ ارتفعت نسبة البطالة والتضخم فى عهده لدرجة كبيرة بالمقارنة مع عهد ترامب الذي كان أفضل اقتصادياً.

 لقد حسم الحزب الجمهوري اختياره فوضع ترامب مرشحاً وحيداً له، رغم كل القضايا المرفوعة ضده والتي لم تؤثر فى شعبيته إلا بالزيادة. ولن يكون بإمكان البيت الأبيض زحزحة ترامب أو تنحيته باستخدام لعبة القضايا مهما كانت قضايا حقيقية وغير ملفقة. وبات على الشعب الأمريكي أن يختار بين رئيسين أحدهما مدان والآخر مصاب بالزهايمر!!

مناظرة نارية كاشفة

 ما جري فى المناظرة التي أقيمت بين بايدن وترامب كان متوقعاً.

ماذا تنتظر من رجلين أحدهما منفلت اللسان والثاني كان سبباً فى إيداعه السجن؟ لابد أن كلاهما توعَّد الآخر واستعد للقائه بالويل والثبور وعظائم الأمور، غير أن الريح جرت بما لا تشتهيه سفن الحزب الديمقراطي!

 المناظرة التي استغرقت ساعة ونصف تقريباً تميزت بالتحفز والحدة كما كان متوقعاً ، لكن بايدن بدا مهتزاً ضعيفاً أمام ترامب، والسبب الشيخوخة. الكلمات كانت تخرج من فم بايدن بصعوبة، لدرجة أن كثيراً من عباراته بدت غير مكتملة ومتضاربة. وقد برر أنصار الحزب الديمقراطي هذا الأداء بأن الرئيس كان مصاباً بالبرد، وهو تبرير لا ينطلي على أحد.

 أغلب الظن أن بايدن سيتم استبداله، فلا يُعقل أن يكمل الحزب الديمقراطي خوض الانتخابات القادمة بمثل هذا الأداء، وربما يتم إجراء المناظرة القادمة بين ترامب وكامالا هاريس نائبة الرئيس بايدن.

 فى كل الأحوال فإن كلا الحزبين منحاز لإسرائيل. ولن يقل الدعم الأمريكي لها أو يفتر، بل سيزداد فى الفترة القادمة من كلا الجانبين لضمان أصوات اللوبي الصهيوني فى الولايات المتحدة الأمريكية.

 المناظرة الأولي حسمت عدة أمور عالقة: أهمها أن مكانة ترامب لم تهتز عند أنصاره بل ازدادت وهو ما يعني عودة الشعبوية الترامبية بما تتميز به من عنصرية وكراهية للمهاجرين، تزامناً مع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، وهو يحمل نفس الفيروس العدائي ضد العرب!

 كما حسمت المناظرة تأرجح أرقام الاستطلاعات قبلها، وظهر جلياً أن أداء الحزب الديمقراطي يتدني باستمرار، وقد يحسم هذا لا الانتخابات الرئاسية وحدها بل وانتخابات الكونجرس ذاتها. وقد نشهد أربعة أعوام قادمة جمهورية بامتياز. وسوف يعود ترامب منفرداً بقراراته العنترية بعد أن يكتسح حزبه مجلسي الكونجرس والشيوخ. وعلينا أن نستعد لقدومه وقد اختبرناه. ومهما كانت مثالب ترامب وعيوبه إلا أنه وعد بمنع حدوث حرب عالمية يتحدث الجميع بأنها قادمة لا محالة، فهل باستطاعته فعلاً إيقافها؟!

حرب هنا وحرب هناك

 ترامب مختلف جذرياً عن بايدن. وهناك الكثير من الملفات الخارجية سوف تتغير اتجاهاتها بقدوم ترامب. وأول هذه الملفات ملف الحرب الأوكرانية الروسية.

 وإذا كان التفاوض بين بايدن وبوتين وصل إلى طريق مسدود، فإنه ممكن ومتاح أمام ترامب؛ فالعلاقة بينه وبين بوتين جيدة للدرجة التي استطاع بها خصوم ترامب اتهامه باستخدام روسيا لتزوير انتخابات 2016!

 التفاوض بين روسيا وأمريكا قد يوقف الحرب العالمية مؤقتاً لكنه لن يستطيع إيقاف مخاوف وقوعها لعدة أسباب: أولها أن أوروبا ستصبح هي ضحية أي اتفاق يجري بين ترامب وبوتين، وهو الأمر الذي لن تقبله أوروبا، وقد يؤجج الأوضاع بدلاً من إخماد الحرب. وثانيها أن عداوة ترامب للصين قد تجعل الأخيرة تتخذ خطوة استباقية لعودة ترامب، وربما انتهزت الفرصة واقتحمت تايوان أثناء انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بانتخاباتها. فتبدأ الحرب العالمية من بحر الصين الجنوبي. وتصبح أمريكا بين خيارين أحلاهما مُرّ: فإما يفوز الحزب الديمقراطي فتشتعل أوروبا بحرب تبدأها روسيا. أو يفوز ترامب فيشتعل بحر الصين بحرب أشد وأقوي!

فلسطين بين رئيسين

 العجيب أن فلسطين ستكون لها الكلمة الأولي فى الانتخابات الأمريكية، والأعجب أنها لن تتأثر مطلقاً بأي من الاختيارين، فسواء جاء ترامب أو جاءت كامالا هاريس أو بايدن فإن الوضع لن يتغير. وسوف تظل إسرائيل مهددة أكثر مما مضي بالزوال والانهيار التدريجي.

 إسرائيل اليوم فى أسوأ أحوالها. مهما كانت غزة تكابد الجوع والضفة الغربية تواجه الاعتقالات والقدس تفتقد أنصارها. إلا أن إسرائيل تعاني أكثر وسوف تزداد معاناتها أكثر فى المستقبل القريب. الجيش الإسرائيلي يعاني نقصاً فى الذخيرة، وجنوده يتسربون ويفرون وبعضهم كتب بياناً برفضه العودة لحرب يعلم أن نهايتها ليست فى صالحهم، والحريديم رفضوا قرار المحكمة التي أجمع قضاتها على ضرورة انخراطهم فى الجيش ومنع الدعم الحكومي عنهم، فأصروا على الرفض. وهكذا كلما طالت الحرب وامتدت ازداد الانقسام فى الداخل الإسرائيلي بين اليمين واليسار فى الحكومة، وبين العسكريين والمدنيين وأهالي الأسري في الشعب الإسرائيلي.

 إسرائيل تريد توسيع الحرب ونقلها نحو الشمال فى اتجاه لبنان. وحزب الله يهددها بحرب لا سقف لها، وبادر بنشر فيديو أقل من  عشر دقائق هي حصيلة ساعات من مراقبة لصيقة بطائرات مسيرة لبنانية اسمها "الهدهد" رصدت عدداً من أخطر المواقع فى مختلف المدن الإسرائيلية فى الشمال والوسط والجنوب. هذا الهدهد الذي هدد وأرعب إسرائيل لم يمنع بنيامين نتنياهو من اتخاذ خطوات فى اتجاه تنفيذ حرب شاملة ضد لبنان!

 إنها الحرب إذن. تشعلها إسرائيل فى غزة أو فى لبنان. أو تشعلها الولايات المتحدة الأمريكية فى أوكرانيا أو فى بحر الصين الجنوبي. فهل ستتأخر الحرب حتي تنتهي أمريكا من انتخاباتها فى نوفمبر القادم، أم تشتعل قبل نهاية العام؟ وقبل أن تتجهز وتستعد؟

 مهما يكن الأمر فإن علينا أن نستعد لأسوأ السيناريوهات؛ لأن هناك أموراً خطيرة على المحك: مثل السعر العالمي للدولار، وإمدادات القمح والطاقة، وحركة التجارة العالمية، وتوازنات القوي فى الإقليم وحول العالم.

***

د.عبد السلام فاروق

اقتحم الشعبويون اليساريون المشهد السياسي في أوروبا خلال العقد الأخير، وتمكنوا أيضاً من إدراج أجنداتهم الاشتراكية الصريحة في برلماناتهم وإحداث تغيير جوهري سيظل مطبوعاً في الثقافة السياسية لأوروبا. ومن المثير للدهشة أن الأكاديميين لم يعيروا هذا الأمر سوى القليل من الاهتمام. فكيف أصبحت الحركات والأحزاب الشعبوية اليسارية بارزة في أوروبا خلال السنوات العقد الماضي؟ وإلى أي مدى لعب الركود الاقتصادي والأزمة المالية الكارثية عام 2008 دوراً في إثارة هذه الحركات؟

كانت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، إلى جانب نظيراتها من يمين الوسط، هي المهيمنة في السياسة الأوروبية. PSOE في إسبانيا، وحزب العمال في المملكة المتحدة، Labor Party والحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا SPD ، والباسوك في اليونان PASOK . كانت جميع الأحزاب السياسية من يسار الوسط بمثابة قادة اليسار بلا منازع. لكن أدى تراجعهم إلى انقسام في الجانب الأيسر من الطيف الأيديولوجي.

فبعد "الطريق الثالث" الذي تبناه "توني بلير" Tony Blair  بدأت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية الأوروبية في تبني المزيد من جوانب الرأسمالية، وأداروا ظهورهم لعدم المساواة في الدخل وإخفاقات السوق الأخرى مثل عمليات الإخلاء العشوائية.

وقد خلق هذا، فضلاً عن صعود "انقسام العولمة"، مرحلة حيث أصبحت الأحزاب الشعبوية اليسارية قادرة على تلبية احتياجات الناخبين الذين ظلت نوعية حياتهم على حالها أو انخفضت بحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

على الرغم من الاهتمام الكبير الذي حظي به صعود الحركات الشعبوية اليمينية المتطرفة في أوروبا، إلا أن الشعبويين اليساريين لم يخضعوا لقدر كبير من التدقيق. تتميز الشعبوية على نطاق واسع بخطابها المناهض للمؤسسة والذي يمكن رؤيته في كل من الشعبوية اليمينية واليسارية. وإلى جانب هذه الخاصية، لم يتفق الأكاديميون على الصفات الشاملة التي تربط بين معسكري الشعبوية اليميني واليساري.

وبالنظر على وجه التحديد إلى الشعبوية اليسارية، جاءت معظم الأبحاث كرد فعل على استكشاف أمريكا اللاتينية للشعبوية اليسارية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فإن الشعبوية اليسارية "تُعرّف العدو من حيث حاملي الهياكل الاجتماعية والاقتصادية، ونادراً ما يكونون مجموعات معينة.

شهدت دولتان أوروبيتان على وجه التحديد صعود الشعبوية اليسارية بطريقة قوية ومتشابهة بشكل خاص: اليونان وإسبانيا. كان لدى كل من البلدين نظام حزبين يتوازن بين يسار الوسط ويمين الوسط قبل أزمة عام 2008، وتعرضت صناعاتها المصرفية لأضرار بالغة، وبلغت البطالة مستويات قياسية، وخلقت إجراءات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي وضعا اقتصاديا لا يطاق بالنسبة للبلاد مما أفقرالمواطنين.

بسبب أوجه التشابه العديدة في حالتي اليونان وإسبانيا، سنقارن صعود الشعبوية اليسارية في كلا البلدين ونبحث في آثار الانهيار الاقتصادي عام 2008 على صعود هذه الحركات. أجد أن أزمة 2008 لعبت دورا حاسما في صعود الشعبويين اليساريين في كلا البلدين، ولكن بقدرات مختلفة. في اليونان، دفعتهم الصعوبات الاقتصادية التي واجهها الأفراد إلى التصويت لصالح حزب جديد يرفض تدابير التقشف. ومع ذلك، في إسبانيا، كان التصور الاقتصادي السيئ للبلاد هو الذي دفع البعض إلى التصويت لصالح انتفاضة الشعبويين. وفي كلتا الحالتين، ساعد الشك في وحدة أوروبا في صعود هذه الأحزاب، لكنها فعلت ذلك بشكل أكبر في اليونان مما كانت عليه في اسبانيا. هذه النتائج مهمة لأنها تظهر أن الأزمة المالية لعام 2008 كانت حافزاً للشعبويين اليساريين الذين جلبوا عدم الاستقرار السياسي إلى أوروبا وساعدوا في تعزيز المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي.

صعود الشعبوية في مناطق أخرى من العالم

لقد شهدت أميركا اللاتينية تحولاً سريعاً نحو اليسار في نهاية التسعينيات، ولقد قام المنظرون بتحليل هذه الظاهرة المتكررة التي ظهرت الآن في بعض بلدان أوروبا. أولاً، لا بد من تصنيف نوع اليسار الشعبوي الذي ظهر. يتميز الشعبوي اليساري باتباع سياسات اقتصادية يسارية غير اعتذارية مع استخدام خطاب يهاجم قطاع المجتمع الذي يمتلك أكبر قدر من رأس المال. علاوة على ذلك، فأن الشعبوية اليسارية ثنائية، على عكس الشعبوية الثلاثية وهي طبيعة الشعبوية اليمينية. وبعبارة أخرى، فإن "الشعبويين اليساريين يناصرون ضد النخبة أو المؤسسة"، حيث يوجد هجوم ثنائي القطب واحد من الفقراء إلى الأغنياء. ومن ناحية أخرى، يهاجم الشعبويون اليمينيون النخبة لتفضيلها مجموعة ثالثة، مثل المهاجرين أو المسلمين أو غيرهم من المجتمعات المنبوذة. هذه الخاصية التي تتميز بها الشعبوية اليسارية هي سمة ولدت لأول مرة في أمريكا اللاتينية ثم شوهدت لاحقاً في السياق الأوروبي.

بعد تحديد نوع الشعبوية وخصائصها، أصبح من الممكن الآن التركيز على أسباب صعودها. تجد الأدبيات ثلاثة أسباب رئيسية وراء صعود الأحزاب الشعبوية اليسارية في أوروبا: الصعوبات المالية الفردية بعد ركود عام 2008، وتصور التدهور الاقتصادي، وتدخل الترويكا ـ المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي ـ في السياسات الاقتصادية المحلية.

إن الكثير من الأبحاث المتعلقة برد الفعل الانتخابي على أزمة عام 2008، جمعت بشكل عام كل الشعبويين عبر الطيف في حساباتهم. على سبيل المثال: إن "الخاسرين" من العولمة في أوروبا كانوا أكثر عرضة للتصويت للأحزاب الشعبوية بعد ركود عام 2008. وفي البلدان التي يشكل فيها الشعبويون اليساريون القوة المهيمنة على الشعبويين اليمينيين فإن تلك الأصوات أفادتهم، مثل اليونان وإسبانيا. إن تأثير الصراعات المالية للفرد على الصعود الانتخابي لليسار أمر محل خلاف إلى حد ما. من ناحية فإن الوضع الاقتصادي السيئ للفرد سيجعله أكثر عرضة للتصويت لحزب راديكالي إذا كان الوضع العام للبلاد مزدهراً. تتوافق هذه النظرية جزئياً مع من يعتقد بأن زيادة عدم المساواة تدفع الناخبين إلى التحالف مع السياسيين الذين يعدون بإعادة توزيع الثروة. علاوة على ذلك، فإن مقارنة النتائج الانتخابية بعد عدة سنوات من الكساد الكبير والركود الكبير في أوروبا، يمكن للمرء أن يلاحظ الدعم الأولي للأحزاب اليمينية، ولكن هناك تحرك لاحق نحو اليسار في السنوات التي تلت الركود. علاوة على ذلك، فإن الخصائص المحددة لبيانات الاقتصاد الكلي لبلد ما قد تؤثر أيضًا على النتائج الانتخابية. وتبين أن العاطلين عن العمل أكثر ميلاً للتصويت لصالح "حزب سيريزا" Syriza party في الانتخابات اليونانية التي شهدت تراجع "حزب باسوك" PASOK Party. كما أدى ارتفاع الدين الوطني إلى زيادة الأصوات لصالح اليسار.

ومع ذلك، فقد جادل البعض بأن الأبحاث لم تثبت بشكل كامل أن عوامل الاقتصاد الكلي تؤثر على القرارات الانتخابية: وبدلاً من ذلك، فإن التصور ورد الفعل على الركود الاقتصادي واسع النطاق هو ما يؤدي إلى ظهور الأحزاب الشعبوية اليسارية. إن العوامل الاقتصادية لا يمكن الاعتماد عليها بشكل كبير في التحليلات الوطنية، وأن القدرة على إلقاء اللوم على الحزب الحالي تتنبأ بالنتائج الانتخابية بشكل متكرر. وهذا وثيق الصلة للغاية بحالتي إسبانيا واليونان لأن كان كلاهما يتمتعان بنظام حزبين متين مع تغييرات متكررة في السلطة، وبالتالي، كان بإمكان الناخبين بسهولة معاقبة الوضع الراهن للأحزاب من خلال التصويت لحزب ناشئ ومثير يعبر عن القضايا المنسية من قبل المؤسسة. علاوة على ذلك، يمكن وصف هذا النوع من التحول الدراماتيكي من حزب رئيسي إلى حزب راديكالي جديد بأنه انقلاب من النوع أ. وفي هذا السيناريو، يرتبط التحول بشكل أوثق بعدم استقرار نظام الحزب ومن المرجح أن يؤدي إلى تقلبات من النوع أ. يحدث هذا عندما يكون أداء الاقتصاد سيئاً. وسوف يحدث ركود كبير ومثير

يحث الناخبين على رفض المرشحين الحاليين ودعم الأحزاب المتطرفة التي تقدم منظوراً جديداً للسياسة.

وأخيراً، انتقد أكاديميون آخرون دور المنظمات الدولية في خضم الأزمات الاقتصادية. وكان صندوق النقد الدولي في أميركا اللاتينية، والاتحاد الأوروبي في أوروبا، بمثابة موردي الأموال والمشرفين على السياسات الاقتصادية، لكن المنتقدين المحليين كثيراً ما زعموا أن فرضياتهم كانت متعجرفة للغاية وألحقت الضرر بالطبقات الدنيا بشكل غير متناسب. وكثيراً ما استخدم الشعبويون اليساريون في كلا المنطقتين هذا الخطاب أثناء صعودهم إلى السلطة. ورغم أن الأبحاث حول هذا الموضوع في أوروبا لم يتم توحيدها، إلا أن حالة أمريكا اللاتينية كانت موضع تدقيق أكبر بكثير. إن الشعبويين اليساريين البارزين في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين مثل رئيس البيرو السابق "ألبرتو فوجيموري"  Alberto Fujimori، والزعيم اليساري البرازيلي "لولا دا سيلفا"  Lula da Silva، والرئيس الفنزويلي "هوغو تشافيز"Hugo Chávez هاجموا بشكل متكرر تدابير التقشف التي فرضها صندوق النقد الدولي. وقد أعطت خطط ديون صندوق النقد الدولي، التي تعرضت لانتقادات باعتبارها سياسات إمبريالية جديدة، منصة لهذه الحركات الشعبوية لجذب الاهتمام بسرعة.

السؤال المحوري هنا هو: كيف أصبحت الحركات والأحزاب الشعبوية اليسارية بارزة في أوروبا خلال السنوات الست الماضية، وإلى أي مدى لعب الركود الاقتصادي عام 2008 دورًا في إثارة هذه الحركات؟

سنلقي نظرة على الصراعات المالية الفردية، والتصور الاقتصادي العام، ورد الفعل ضد تعدي الاتحاد الأوروبي على الاقتصاد كمتغيرات أدت إلى ظهور الشعبوية اليسارية، مستوحاة من مراجعة الأدبيات. وسأقارن بين حالتي إسبانيا واليونان، مع النظر في صعود حزب "بوديموس" Podemos  وحزب "سيريزا" SYRIZA على التوالي بين عامي 2014 و2019. ستأتي البيانات المستخدمة في المقام الأول من أبحاث أخرى حول هذا الموضوع، والمسوحات الوطنية، ومؤسسات الاتحاد الأوروبي.

الحالة الإسبانية

أدت عودة إسبانيا إلى الديمقراطية في عام 1976 إلى ظهور نظام حزبين ملفق، وذلك بسبب صغر حجم المقاطعات في الدوائر الانتخابية للبرلمان. حكم الحزب الاشتراكي الإسباني (PSOE) والحزب الشعبي (PP) السياسة الإسبانية من عام 1982 حتى عام 2015، عندما دخل حزبان جديدان إلى البرلمان مما وضع حداً للسياسة الإسبانية التقليدية. وقد حصل أحد هذه الأحزاب الجديدة وهو "بوديموس" Podemos ، على 1.3 مليون صوت في الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي عام 2014 و20.7% من الأصوات في الانتخابات العامة عام 2015، من خلال حملته الانتخابية على برنامج التجديد السياسي وإنهاء تدابير التقشف.

 ضربت الأزمة المالية لعام 2008 إسبانيا بشكل خاص مقارنة بنظيراتها من الدول الأوروبية. وارتفع معدل البطالة إلى 26% في عام 2013 (55% بين الشباب)، وارتفع الدين العام إلى 93% من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي لتسعة أرباع سنة متتالية. علاوة على ذلك، وصل الاستياء العام من المؤسسة السياسية إلى مستويات قياسية. بحلول عام 2014، رأى أكثر من نصف الإسبان أن الوضع السياسي "سيء للغاية"، وفقاً لمركز التحقيقات الاجتماعية (CIS). علاوة على ذلك، في نفس العام، اعتبر 44% أن الفساد هو المشكلة الأكثر أهمية في إسبانيا، وهو رقم قياسي. وبعد عدة سنوات من الصعوبات الاقتصادية وإجراءات التقشف، انتشرت الاحتجاجات في جميع أنحاء إسبانيا. وفي عام 2007، كان هناك ما مجموعه 10000 احتجاج، ولكن في عام 2010 ارتفع هذا العدد إلى 25000. بدأ المتظاهرون في تنظيم أنفسهم وشكلوا في نهاية المطاف ما يسمى بـ "حركة 15 مليوناً"، التي دعت إلى وضع حد لإجراءات التقشف، والتداعيات القانونية للسياسيين الفاسدين، ووضع حد للمحن الاقتصادية العديدة.

ومن بين حركة 15 مليونًا، جاء حزب بوديموس، الذي جسد هذه المبادئ وقرر إحداث تغيير من داخل النظام السياسي الإسباني بدلاً من الاعتماد فقط على التعبئة الاجتماعية والاحتجاجات والإضرابات. وسرعان ما صعد الحزب إلى مكانة بارزة واكتسب حضوراً كبيراً في الحكومات المحلية، وفاز بمجالس المدن الرئيسية في مدريد وبرشلونة وقادس.

في ظل هذا الوضع الاقتصادي الكارثي ونظام الحزبين الراسخ الذي يمكن معاقبته بسهولة، قد يفترض المرء بسرعة أن السبب الرئيسي لصعود حزب بوديموس هو تراجع الوضع الاقتصادي للسكان. ومع ذلك، فإن هذا محل خلاف على نطاق واسع بين الباحثين. على الرغم من أن بعض الدراسات التي تتعلق بصعود الشعبوية اليسارية تشير إلى الصعوبات الاقتصادية باعتبارها السبب الجذري للتحول اليساري في السياسة، إلا أن هذا لا يبدو أنه ينطبق بشكل مباشر على الحالة الإسبانية.

كان للأداء الاقتصادي تأثير متواضع على قرار الإسبان بالتصويت لصالح حزب بوديموس وفقاً للعديد من الدراسات. على سبيل المثال، لم يكن من المرجح أن يصوت الفرد الذي كان عاطلاً عن العمل لصالح حزب بوديموس Podemos وبدلاً من ذلك، كان أكثر ميلاً للتصويت لصالح حزب الشعب من يمين الوسط. ومع ذلك، فإن أولئك الذين واجهوا مشاكل في دفع فواتيرهم كانوا أكثر عرضة للتحول من PSOE إلى بوديموس Podemos  بنسبة 13٪ في انتخابات عام 2015. وجدت دراسات أخرى وجود علاقة غير مهمة بين الموارد المالية الشخصية للشخص واختياره للحزب والتصويت لصالح بوديموس. لذلك، كان للوضع المالي الشخصي تأثير معتدل أو ضئيل في صعود حزب بوديموس في إسبانيا. ورغم أن بوديموس يقدم نفسه كحزب للأغلبية مع التركيز بشكل واضح على أولئك الذين يعانون من عدم الاستقرار المالي، فقد تبين أن ناخبيه لا يمثلون الطبقة العاملة من الطبقة الدنيا التي يصورونها بشكل رومانسي.

وجد تحليل للناخبين لكل حزب سياسي رئيسي أجرته صحيفة إل باييس  EL PAÍS باستخدام بيانات من رابطة الدول المستقلة أن حزب بوديموس هو الحزب الأقل شعبية بين الأشخاص ذوي الأجور الأقل (أقل من 600 يورو شهرياً). وبدلاً من ذلك، كانوا الأكثر شعبية بين الطبقة المتوسطة المتعلمة، مما يدل على أن عدم الاستقرار المالي للفرد لا يزيد من احتمالات تصويته لصالح حزب بوديموس. وبدلاً من ذلك تشير الدراسات إلى تصور الفرد للوضع الاقتصادي العام باعتباره المتغير المحدد الذي يجعل الشخص يصوت لصالح حزب بوديموس. وقد وجد تحليل شامل لعدة بلدان حول صعود الشعبوية اليسارية في تسع دول أوروبية أن "دور العوامل الاقتصادية الشخصية يتضاءل مقارنة بالتأثير الأعظم لتصورات الاقتصاد الوطني.

وأخيرا، فإن معظم الدراسات التي تتناول الشعبوية اليسارية في إسبانيا بالكاد تذكر تأثير الترويكا ــ في إشارة إلى المفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، الذين فرضوا العديد من تدابير التقشف خلال أزمة عام 2008 ــ في آراء الناخبين. قرارات التصويت لصالح حزب بوديموس. ومع ذلك، استخدم "بابلو إغليسياس"  Pablo Iglesias المؤسس المشارك وزعيم حزب بوديموس، الهجمات ضد الترويكا كجزء حاسم من خطابه. واحتجت حركة "15 مليون غاضب" بشدة ضد إجراءات التقشف، وبالتالي هاجمت الترويكا. كان الخطاب حاضرًا في الغالب خلال الانتخابات البرلمانية للاتحاد الأوروبي عام 2014، حيث انتقد إغليسياس إجراءات التقشف التي فرضها "ثاباتيرو" Zapatero و"راخوي" Rajoy على الترويكا، ووعد بالدعوة إلى إنهاء التقشف. ومن حيث البيانات، فمن الصعب تمييز التأثير الملموس لمثل هذا الخطاب على النتائج الانتخابية لسبب رئيسي واحد: يتمتع الأسبان بوجهات نظر أفضل بشكل ملحوظ تجاه الاتحاد الأوروبي مقارنة بالدول الأعضاء الأخرى. وفقا لمقياس "يوروباروميتر" Eurobarometer لعام 2015، كان لدى 29% من الإسبان وجهة نظر سلبية تجاه الاتحاد الأوروبي، مقارنة بنسبة 44% في اليونان. ومع ذلك، كان الإسبان لا يثقون في البنك المركزي الأوروبي أكثر من غيرهم بين الدول الأعضاء بنسبة (77%). لذلك، بالنظر إلى إن الهجمات على الترويكا ـ بسبب التعدي على السياسة الاقتصادية المحلية ـ تشكل أهمية مركزية في خطاب بوديموس، ونظراً للنجاح السريع في انتخابات الاتحاد الأوروبي، يمكن للمرء أن يستنتج أنها ساعدت بالفعل في صعود بوديموس.

كان للأزمة المالية في عام 2008 تأثير كبير بالفعل على قرارات الناس بالتصويت لصالح حزب بوديموس، ولكن ليس لأن الوضع المالي للفرد استلزم التغيير الاقتصادي الذي دعا إليه حزب بوديموس، بل بسبب الاستياء من الوضع الاقتصادي العام في إسبانيا.

الحالة اليونانية

مما لا شك فيه أن الدولة الأكثر تضرراً في أوروبا بعد ركود عام 2008 كانت اليونان. وعلى نحو مماثل لإسبانيا، ارتفعت معدلات البطالة إلى عنان السماء، وأصبحت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي هي الأعلى في أوروبا، ودخل نمو الناتج المحلي الإجمالي في تراجع وانكماش غير مسبوقين. وعلى غرار إسبانيا، كان هناك نظام مستقر قائم على حزبين لعدة عقود قبل ركود عام 2008 مع وجود نظام حزبي مستقر. الانتشار الأخير للحزب الاشتراكي الديمقراطي باسوك PASOK سمح للناخبين بمعاقبة الأحزاب القائمة نظراً لظهور حزب سياسي جديد. لقد اختفت حقبة ما بعد عام 2008 في الوضع السياسي الراهن في اليونان، ودفعت مجموعة "سيريزا" SYRIZA الشعبوية اليسارية إلى الأمام، تحت قيادة "ألكسيس تسيبراس" Alexis Tsipras. تأسس الحزب في عام 2004 نتيجة شراكة بين العديد من الأحزاب الشيوعية وغيرها من الأحزاب اليسارية المتطرفة، ولعب دوراً صغيراً في البرلمان إلى أن تخلى جانباً عن العديد من مواقفه الأكثر تطرفاً ــ بما في ذلك المخططات الإنتاجية التعاونية وخطط التأميم الضخمة ــ وقدم برنامجاً للسياسة الاقتصادية الكينزية Keynesian economics كخطة لإنعاش الاقتصاد اليوناني في عام 2014. وكان رد فعل حزب سيريزا وسياساته ضد تدابير التقشف التي اضطر حزب "باسوك" PASOK إلى تنفيذها من قبل الترويكا، ووعد بنوع جديد من التعافي الاقتصادي القائم على المثل الاشتراكية.

كما هو الحال مع حزب "بوديموس" في إسبانيا، كان حزب "سيريزا" في اليونان هو الخيار الأكثر شعبية بين الطلاب والشباب والجمهور المتعلم. ومع ذلك، فإن الوضع المالي الشخصي للفرد كان أكثر أهمية من حالة اسبانيا. وفقا لدراسة أجرتها "إفتيشيا تيبيروغلو" Eftichia Teperoglou الأستاذة في "جامعة ارسطو" اليونانية Aristotle University عام 2015 حللت نتائج عام 2014 في الانتخابات الأوروبية في اليونان، كان حزب "سيريزا" الأكثر شعبية بين العاملين في القطاع العام، الذين تلقوا تخفيضات هائلة في الأجور. علاوة على ذلك، كان حزب سيريزا يتمتع بشعبية كبيرة بين العاطلين عن العمل وأولئك الذين وأفادوا بأن وضعهم الاقتصادي الفردي قد تدهور نتيجة للأزمة. ولأن نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي انخفض بما يقرب من النصف في غضون سبع سنوات فقط (في مقابل انخفاض بنسبة 25% في إسبانيا)، فيبدو من المفهوم أن يؤثر الاقتصاد الشخصي على الانتخابات بشكل أكثر بروزاً مما حدث في إسبانيا. علاوة على ذلك، فإن هذه النتائج تتوافق بشكل أكبر مع الدراسات التي أجريت عبر البلاد حول الشعبوية اليسارية في أوروبا والتي خلصت إلى أن "الخاسرين" من العولمة هم أكثر عرضة للتصويت للأحزاب الشعبوية اليسارية لأنهم ينتقدون المُثُل الليبرالية الجديدة التي بنيت عليها العولمة.

يبدو أن تصور الاقتصاد لم يلعب دوراً حاسماً في تحديد الاختيار الانتخابي. وربما يرجع ذلك إلى أن التشاؤم المحيط بالاقتصاد في اليونان أوسع بكثير منه في أي دولة أوروبية أخرى. في عام 2017، رأى 2% فقط من اليونانيين أن الوضع الاقتصادي الوطني "جيد"، مقارنة بـ 28% في إسبانيا.37 لذلك، من الصعب تمييز أي استنتاجات من هذا المتغير إذا كان هناك اختلاف بسيط في الرأي بين الناخبين.

وفيما يتعلق بتصور المنظمات الدولية الخارجية التي تسيطر على اقتصاد اليونان، فإن انعدام الثقة في مؤسسات الاتحاد الأوروبي والترويكا أكثر انتشارا بين ناخبي حزب "سيريزا". من المؤكد أن إنفاق الترويكا مليارات الدولارات لمساعدة الموارد المالية لليونان كان له تأثير على الناخبين، حيث كان للمنظمات صوت أكبر بكثير بشأن إجراءات التقشف التي شهدها اليونانيون. ورغم أن اليونان بشكل عام واحدة من أكثر الدول مناهضة للاتحاد الأوروبي في أوروبا، فإن انعدام الثقة في المؤسسات مرتفع بشكل خاص بين ناخبي حزب "سيريزا". بالإضافة إلى ذلك، وُلد حزب "سيريزا" من رحم الأحزاب الشيوعية الأوروبية، التي آمن الكثير منها بقيم الوحدة والسلام الأوروبيين، لكنها رفضت المُثُل النيوليبرالية التي تربط الدول الأعضاء ببعضها البعض من خلال الاتحاد الأوروبي. وفي ظل مثل هذا التاريخ والرفض الساحق لتدابير التقشف التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، فليس من المستغرب أن يكون اقتراح رئيس وزراء اليونان السابق "الكسيس تسيبراس" Alexis Tsipras الرئيسي هو منع مؤسسات الاتحاد الأوروبي من اتخاذ القرار بشأن مستقبل اليونان الاقتصادي.

وهذا يوضح أنه كلما كان الناخب اليوناني أكثر معارضة للتكامل الأوروبي، كلما زاد احتمال تصويته لصالح الشعبوية اليسارية. وينعكس هذا الاتجاه في العديد من الدراسات الأخرى والاستطلاعات، مما يشير إلى أن التشكيك في أوروبا هو متغير موثوق للتنبؤ بالدعم الانتخابي لسيريزا خلال انتخابات عامي 2014 و2015.

باختصار، على الرغم من أن تصور الوضع الاقتصادي في اليونان لم يكن مؤشراً جيداً لدعم الشعبوية اليسارية بسبب التشاؤم العام فيما يتعلق بالاقتصاد، إلا أن التشكك في أوروبا والوضع المالي للفرد كانا ذا صلة.

الخلاصة

بشرت الأزمة المالية لعام 2008 بعصر جديد من الاقتصاد والمجتمع والسياسة في أوروبا. وكان جنوب أوروبا على وجه التحديد المنطقة الأكثر عرضة للصعوبات الاقتصادية. أثارت الاقتصادات الراكدة غضب المواطنين الذين احتشدوا ضد الوضع السياسي الراهن الذي ظل دون منازع لفترة طويلة. أصبحت السياسة في جميع أنحاء أوروبا غير مؤكدة مع صعود الشعبوية. وتمكنت الشعبوية اليسارية من تحدي الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية بشكل جدي. وفي إسبانيا واليونان، صعدت الأحزاب الشعبوية اليسارية بسرعة واستولت على الحكومات البلدية والإقليمية، بل وحتى الوطنية في حالة اليونان.

وكانت السياقات السياسية في إسبانيا واليونان متشابهة إلى حد ما، ولكن النتائج المختلفة بعد أزمة عام 2008 أدت إلى صعودين منفصلين في الشعبوية اليسارية. في نهاية المطاف، يمكن الاستنتاج أن تداعيات الأزمة أثارت تجدد اليسار المتطرف في كلا البلدين، لكنها أثرت على السياسة بسبب متغيرين مختلفين. في إسبانيا، سمح الغضب ضد سوء إدارة الاقتصاد من قبل الحزبين التقليديين، المقترن بالغضب ضد فضائح الفساد العديدة التي ظهرت بعد عام 2008، لحزب "بوديموس" بالتحرك. ولم يكن للمصاعب الاقتصادية الشخصية التي يعاني منها شخص ما تأثير كبير على اختياره السياسي كما كان للتصور الاقتصادي العام.

ربما يرجع هذا إلى أن الأحزاب التقليدية مثل حزب الشعب قدمت نفسها على أنها أحزاب استقرار يمكنها توليد فرص العمل والأمن الاقتصادي. في حين فضلت الطبقة المتوسطة المتعلمة الراسخة التي اهتمت بالقضايا النسوية والبيئية والعمالية بشكل عام فضلت خياراً جديداً ومثيراً في السياسة. ولذلك، فإن أولئك الذين لديهم تصورات سلبية عن الاقتصاد المحلي كانوا أكثر دعماً لليسار الشعبوي. ولكن في حالة اليونان، كانت أزمة عام 2008 أكثر تأثيراً على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للناس مقارنة بإسبانيا، الأمر الذي جعل اليونانيين بالتالي أكثر انشغالاً بمحافظهم المتقلصة من انشغالهم ببيانات الاقتصاد الكلي.

وأخيرًا، كان لدى الناس من كلا البلدين ردود فعل سلبية تجاه الطريقة التي تدخلت بها المنظمات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي في السياسة الاقتصادية المحلية. وفي اليونان برز هذا الأمر لأن تلك المنظمات لعبت دوراً أكبر بكثير في الاقتصاد مقارنة بإسبانيا.

 ومن ناحية أخرى، اقتصر حزب "بوديموس" على مهاجمة الترويكا لتمثيلها دول النخبة الثرية التي فرضت إجراءات التقشف على دول جنوب أوروبا، لكن ذلك لم يكن جانباً مركزياً في خطابه. عندما يتعلق الأمر بسؤال ما هي الدولة التي شهدت المزيد من التغيير بسبب صعود الشعبوية اليسارية، فإن الإجابة مثيرة للجدل. ورغم أن المرء قد يزعم أن تأثيراته في اليونان كانت أكثر بروزاً لأن حزب "سيريزا" فاز بالحكومة، فمن الممكن أن يقول أيضاً إن التغيير الذي وعدوا به ضد التقشف لم يتحقق نظراً للوضع الكارثي في استفتاء عام 2015.

وفي إسبانيا، دخل حزب "بوديموس" لاحقاً فقط في الحكومة في ائتلاف مع الحزب الاشتراكي العمالي، لكنه نجح في إحداث تغيير كبير في المدن التي يحكمها، مثل سياسة تغير المناخ في مدينة مدريد Madrid  وخفض الديون في مدينة "قادس" Cadiz.

والسؤال الأخير الذي يتعين علينا الإجابة عليه هو: لماذا يشكل هذا أهمية بالنسبة للأوروبيين اليوم؟ أولاً: أدى الصعود الذي لا يمكن وقفه للشعبوية اليسارية في أوروبا إلى تدمير الوضع السياسي الراهن في العديد من البلدان، ومن غير المرجح على الإطلاق أن تعود اليونان أو إسبانيا إلى نظام الحزبين العتيق. وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي ـ كما رأينا في إسبانيا منذ بضع سنوات ـ بل وقد يدعو إلى إعادة هيكلة السياسة بشكل عام. وفي إسبانيا، قد يعني هذا تكييف مجلسي النواب والشيوخ، وإعادة النظر في مبدأ التناسب في الانتخابات، بل وحتى إجراء إصلاح شامل للدستور برمته.

ثانياً: أدى التحول الهائل نحو اليسار في السياسة الأوروبية إلى إعادة معايرة بقية الطيف. وفي كل من اليونان وإسبانيا، اكتسبت أحزاب الفاشية الجديدة اليمينية المتطرفة الكثير من الدعم، ويرجع ذلك جزئياً إلى صعود حزب "سيريزا" وحزب "بوديموس". علاوة على ذلك، اضطرت الأحزاب الأخرى أيضاً إلى إعادة النظر في سياساتها، واهتم الديمقراطيون الاشتراكيون بالقضايا الاجتماعية التي تركوها وراءهم خلال الأزمة. لذلك فإن تأثيرات الشعبوية اليسارية ستكون طويلة الأمد وستؤثر على مستقبل البلدان، فضلاً عن المصير العام للاتحاد الأوروبي.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

وقد تمادى شخص آخر يدعى الطاهر المعز فكتب مقالة في موقع "الأردن العربي" بتاريخ 25 حزيران 2024"، اتهم فيها تشومسكي تهمة مضحكة هي في الوقت نفسه كذبة دنيئة مفادها أنه (شارك في تصميم منظومة لُغَوية الكترونية تَزيد من فاعلية ودِقّة القَصْف الذي تُنفّذُهُ طائرات الفانتوم الحربية الأمريكية ضد شعب فيتنام... وساهم في تثقيف ضُبّاط الجيش الأمريكي بشأن حضارة ولُغة وعادات وتقاليد الشعوب التي يعتدي عليها الجيش الأمريكي"! تخيلوا هذا: منظومة لغوية إلكترونية تزيد من فعالية الطائرات الحربية!

ولكن بِمَ يتعلق النقد المعقول نسبيا الذي يوجه لتشومسكي من يساره؟ سأناقش مثالاً عليه في مقالة شهيرة للناشط نوح كوهين نُشرت سنة 2004. ويعتبرها البعض مرجعاً، يبدو وحيداً لكثرة ما تم الاستشهاد به، لنقد تشومسكي رغم قِدمه النسبي. وسأعتمد نصها الأصلي في موقع (Znet) في 30 آذار 2004، وكما أعاد نشرها (chomsky.info) بعنوان "العدالة لفلسطين؟"، وليس ما اقتبسه كوهين بطريقته الخاصة.

أشير بدءاً إلى أن نقد كوهين لطروحات تشومسكي الفلسطينية، وإنْ كان متشنجاً شكلاً وأسلوباً، ومتحيزاً أحياناً إلى درجة ضعف الأمانة في العرض، ولكنه ينطوي أحيانا على حجج مقنعة، وخصوصاً في الدفاع عن مشروع الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية الواحدة - الذي أتبناه شخصياً وأدافع عنه - وفي نقد الحجج المضادة للقائلين بحل الدولتين. ولكن هدفي هنا إبراز الفرق بين النقد اليساري الحريص على القضية والمنصف للصديق المختلف فكرياً ورفض التشكيك به وتخوينه باعتباره عميلاً للمخابرات الأميركية، وبين النقد المتشنج والعدائي المتأدلج. وأعتقد أن أفضل تحية لصديق فلسطين المريض نعوم تشومسكي الإنسان النقدي الصادق والشجاع والذي وصفه الراحل هادي العلوي بعبارة "هذا اليهودي البركاني" هي أن نقرأه نقدياً من دون مبالغات وافتراءات وإساءات.

إن تشومسكي يعطي لرده على سؤال محاورَيه شالوم وبودير طابعاً مؤقتاً ومشروطاً. يقول السؤال حرفيا: "ما هو الحل الأفضل في نظرك للصراع الإسرائيلي الفلسطيني؟"، فيرد تشومسكي: "ذلك يعتمد على الإطار الزمني الذي نضعه في الاعتبار. فعلى المدى القصير، فإنَّ الحل الوحيد الممكن واللائق هو على غرار الإجماع الدولي الذي عرقلته الولايات المتحدة من جانب واحد على مدى السنوات الثلاثين الماضية: تسوية الدولتين على الحدود الدولية - الخط الأخضر". بمعنى أنه لا يعطي رأياً نهائياً صالحاً لكل زمان ومكان كالنصوص الدينية المقدسة وخارج الظرف السياسي الدولي العام إنما يطرح رأيا لحل على المدى القصير من دون أن يلغي ثوابته المبدئية القديمة. فحين يذكِّره محاوراه بأنه "في وقت من الأوقات، كان يحث على إقامة دولة واحدة ثنائية القومية كأفضل حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فهل يعتقد أن مثل هذا الحل مرغوب فيه اليوم؟ هل هو واقعي اليوم؟"، يجب تشومسكي بالقول "لقد كنت أؤمن بذلك - الحل - منذ الطفولة، وما زلتُ أعتقد بذلك. كان الأمر واقعياً أيضاً من عام 1967 إلى عام 1973 وكتبت عن ذلك كثيرا، لأنه خلال تلك السنوات كان الأمر ممكناً تماما... وبحلول عام 1973، ضاعت الفرصة، وكان الحل الوحيد الممكن على المدى القصير هو اقتراح الدولتين".

ثم يشير تشومسكي إلى أن هذا الرأي منفتح على المستقبل، على الحل الآخر حل الدولة الديموقراطية العلمانية فلا يكتفي بعبارة "على المدى القصير" بل يضيف "وربما على المدى الطويل، مع تراجع العداء والخوف، وتطور العلاقات بشكل أكثر رسوخاً على طول خطوط لا قومية (non-national lines)، ستكون هناك إمكانية للتحرك نحو نسخة فيدرالية من دولة ثنائية القومية، ثم بعدها ربما نحو تكامل أوثق، وربما حتى إلى دولة ديمقراطية علمانية". ومن الواضح أنَّ هذه التوقعات المتفائلة (بتراجع العداء والخوف) لم يعد لها معنى بعد حرب الإبادة الجماعية المستمرة الآن.

إذن، فتشومسكي يصف واقع الحال، فيما هو يبحث عن حل سريع يوقف المأساة الفلسطينية، وينفتح على حل آخر هو حل الدولة ثنائية القومية أو حتى على الدولة العلمانية الديموقراطية الواحدة لجميع سكانها.

لم أرد تزكية هذه الفكرة وتأييدها بل تأكيد الطابع المشروط والعملي والمؤقت لها للتفريق بينها وبين فكرة أولئك الذين بدأوا منها وانتهوا إليها معتبرين إياها حلاً نهائياً حتى حين أصبح من المستحيل تطبيقها بسبب تجاوزات ومصادرات وجرائم الكيان الصهيوني. ولكن إلى أي مدى يمكن الموافقة على هذا الفصل بين الثوابت الفكرية وبين حلول مؤقتة وظرفية ومشروطة بحالة مأساوية، حتى لو كان أهل القضية، وهم هنا منظمات المقاومة الفلسطينية، من الآخذين به؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن توجه إلى خطاب القائلين بالحل المؤقت والظرفي "دولتان لشعبين" وليس عبر التشكيك والاتهامات بالخيانة والعمالة للعدو... يتبع.

إن الحجج التي يسوقها تشومسكي لترويج حل الدولتين ضعيفة على الصعيدين النظري والعملي، حتى إذا نظرنا إليها حين طرحها قبل عشرين عاما، ويَصْدُقُ عليها نقد كوهين. فلنعد الآن لنقد هذا الأخير مهملين افتراءات البعض الآخر المهينة. يتمركز نقد كوهين لرؤية تشومسكي لحل الدولتين ومبرراته التي يعضد بها رأيه على نقطتين أو حجتين وردتا في تلك المقابلة.

يستنتج كوهين من كلام تشومسكي "محاولة عامة لإضفاء الشرعية على شكل ما من أشكال الوجود المستمر لنظام الاستعمار والفصل العنصري الإسرائيلي وتعزيز الدعم الخلفي له بين التقدميين الأمريكيين". ومن الواضح أن الاتهام بـ "تعزيز الدعم الخلفي بين التقدميين الأمريكيين للاستعمار الإسرائيلي"، لا يخرج عن إطار الهجاء والاستنتاجات المتحاملة التي تكثر في النثر الذي يكتبه دعاة اليسارية القصوية غالبا، فتشومسكي هنا لا يريد أن يُشَرْعِنَ استمرار النظام الاستعماري العنصري الإسرائيلي بل يريد إنهاءه عبر حل الدولتين ولكنه مخطئ حين يعتقد بإمكانية ذلك؛ فحتى هذا الحل لم يعد ممكناً، ليس الآن بعد حرب إبادة غزة سنة 2024، بل حتى سنة 2004 حين لم يبقَ للفلسطينيين من أرض فلسطين التاريخية سوى (9.8) بالمائة، كما يوثق محمد سعيد دلبح على ص464 من كتابه "ستون عاما من الخداع". ثم يضيف كوهين أن حجة تشومسكي تقوم على ركنين يختزلهما في وجوب فصل تاريخ الاحتلال والتوسع الاستعماري الإسرائيلي عن جميع التواريخ الاستعمارية الأخرى كحالة خاصة، ويجب إيلاء اعتبار خاص للمستوطنين الاستعماريين الصهاينة باعتبارهم مجموعة ضعيفة تاريخياً" أولا. وثانيا في أن "الدعوة إلى إنهاء النظام الاستعماري أمر غير واقعي؛ إنه يؤذي المستعمَر (the colonized) فقط".

يصف كوهين جحتي تشومسكي هاتين بعد أن صاغهما هو - كوهين - بمفرداته، بأن الأولى التي تجعل اليهود أقلية مضطهَدة هي حجة أخلاقية. وهذا الوصف لا يدحض الحجة من حيث كونها محتملة أم لا، بل يحاول التشويش على جوهرها، فالأخلاق ليست عاملاً يحسب له حساب في المنطق العلموي القصوي الذي يأخذ به كوهين. وربما نجد دحضها الحقيقي في مكان آخر متعلق باحتمال حصول حالة، في سياق مختلف عن سياق التفكير بها؛ بمعنى، إن تشومسكي يسقط فكرة احتمالية قادمة من ظرف بلغ فيه الكيان الصهيوني ذروة قوته وهيمنته، فيسقطها على ظرف مختلف ليس هو ظرف انهياره وتفككه المحتمل. وفي أن القول بالفصل بين تاريخ الاحتلال والتوسع الصهيوني في فلسطين عن جميع التواريخ الاستعمارية الأخرى ليس صحيحاً.

ولكن هل حاول تشومسكي القيام بفصل كهذا، أم أن الأمر يتعلق بالتفريق بين أنواع أو كيفيات وخصوصيات حالات استعمارية أخرى خارج فلسطين؟ أما ما يقوله كوهين عن الحجة التشومسكية الثانية حول عدم واقعية الدعوة إلى إنهاء النظام الاستعماري الصهيوني هي "الدعوات غير واقعية على أي حال، ولن يستخدمها المتطرفون الصهاينة إلا لتبرير برنامجهم للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين (حجة براغماتية)"، فهو قول يحذف من المقولة طابعها المؤقت والظرفي وهو أمر يحتاج إلى تدقيق. فرغم أنه من الصحيح وصف الحجة بأنها برغماتية، ولكن البرغماتية تبقى محايدة، إذا تعلق الأمر بجوهرها القائم، كما يقول تعريفها، على اعتبار أن "المقولات والكلمات والأفكار هي أدوات للتحليل والاستشراف وحل المشكلات والعمل، وليست وصفاً أو تمثيلا للواقع فقط"، قبل وضعه في سياقه الصحيح.

فحين نسأل؛ هل يمكن لشعب يباد جماعياً أمام أنظار العالم أجمع وتصادر أراضي وطنه منه بمشاركة أقوى دولة في العالم المعاصر هي الولايات المتحدة، أن يطالب بإزالة الكيان أو النظام الاستعماري الاستيطاني ككل من الوجود فورا، أم أنه سيسعى إلى مقاومة المذبحة ومحاولة إيقافها أولا، ليتمكن بعد ذلك من التفكير بالخطوة أو الخطوات اللاحقة على درب نضاله التحرري الطويل دون نسيان هدفه النهائي؟ هذا السؤال سيقودنا إلى تفحص بعض أوجه النقد الصائب الموجه لآراء تشومسكي بعد وضعها في سياقها التأريخي والموضوعي الصحيح بعيدا عن أي تشنج وإساءات انفعالية وفي ضوء التطورات الأخيرة المتمثلة بحرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين بغزة، وهو ما سنحاول مقاربته تحليليا في وقفة أخرى.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

قبل أن ينالني مؤيدو الديمقراطية بالتخوين والشّيطنة، وأنا أحد المؤيدين والمتمنين نجاحها بأُصولها لمصلحة الأوطان لا لخرابها، العنوان ليس لي، مقتبس مِن أدب الشّيخ عبد الله العلايليّ (ت: 1996)، رجل الفكر والدّين، صاحب المواقف والطّرائف، عُرف بموسوعته في المصطلحات «المعجم موسوعة لغويّة علميّة فنيّة»(1954)، توصل إلى إطلاق هذه العبارة مِن الوضع الذي عاشته بلاده. غير أنّ السّبق، بما يقربُ مِن هذه العبارة، لمترجم وناشر ومُشيع نظرية «أصل الأنواع» شبلي شميل(ت: 1917)، بما نشره في «المقتطف»: «فلسفة النّشوء والارتقاء»(القاهرة: 1910).

كان العلايلي وشَميل مِن فضائل لبنان، مع اختلافهما في الاتجاه واتفاقهما على التّنوير. لذا، نالتهم الرّدود الشَّديدة، وحشوها في أذهان العامة ضدهما. فما إنْ كتب العلايلي «أين الخطأ؟» (1978)، حتى ردَّ عليه بعض زملائه مِن رجال الدّين، معتبراً كتابه «سقطة شنيعة وعثرة»(الجوزو، مجلة الأمان، العدد 69). يرى الاثنان، شميل والعلايليّ، أنَّ اتفاق الكثرة - ما يخص العلايليّ- قصد الانتخاب والتّصويت، على أمرٍ أو رأي ما ليس دليلاً على صحته، ولا اتخاذ قرار برلماني، نال موافقة المصوتين، يعني كان صحيحاً، لمصلحة النّاس والوطن، فالمصوتون أجناس، مَن يتبع زعيمه، على الخطأ والصّواب، ومَن يعتبر عقيدة حزبه الأصح، ومَن صوت طلباً لمغنمٍ ومطعمٍ، ومَن هو طبيعته كالماء، لا لون ولا رائحة، مثلما يُقال، فأي حقّ يُنال مِن أفواه هذه الكثرة؟

أما شميل فقصد الكثرة التي واجهته وكتابه المذكور، وهو وإنْ ارتفع سهمه منذ العشرينيات، وخسر إثر الانقلاب الصَّحوي في الثمانينيات وما بعدها، بتبني أطباء وأساتذة فيزياء وكيمياء، صحويون، الرّد عليه وعلى ملهمه تشارلز داروين(ت: 1882)، لكن أعيد للأخير اعتباره، وأعيد لشميل اعتباره أيضاً بقراءة كتابه مِن جديد، فلم يشك المنصف، غير المتلبس بالصحويَّة، أنهما يبحثان داخل هذا الكون لا خارجه.

كتب شميل مواجهاً الحملة الشّعواء ضده: «كن شديد التّسامح مع مَن يخالفك في رأيك، فإن لم يكن رأيه كلَّ الصّواب، فلا تكن أنت كلَّ الخطأ بتشبثك، وأقل ما في إطلاق حرية الفكر والقول، تربية الطّبع على الشّجاعة والصِّدق، وبئس النَّاس إذا قسرا على الجبن والكذب»(فلسفة النشوء والارتقاء 1910). أمَّا عن البرهان على صحة الرّأي بكثرة المؤيدين، فنجده يقول: «الإصابة ليست دائماً في جانب الاجماع، فالكثرة ليست حِجَّة قاطعة، أو هي وحدها برهان القوة، الوحشية والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع» (نفسه).

فلا تتباهوا بالهتاف والتَّظاهر، وقولوا ما شئتم فلستم بالغين الحقَّ، بكثرتكم، فما هو إلا موسم، ويتشرذم الجمع، لأنه خواء في خواء. أمّا العلايلي فكان مباشراً، في الشّأن السِّياسي والبلاء بديمقراطيات الطّوائف، قال: «فلا تمنعني غرابة رأي- أظنه أنه صحيح- مِن إبدائه، لأنَّ الشّهرة لم تعد أبداً عنوان الحقيقة... لأنَّ الحق لم يعد يُنال بالتّصويت الغبيّ، فالانتخاب لمَن عمل الطبيعة، وهي لا تغالط نفسها، كما لا تعمد إلى التّزوير» (المعجم موسوعة لغوية 1954)، وجعل ذلك شعار(العلايليّ، المعريّ ذلك المجهول).

عند التّصويت «الغبي» وتصويت «المتذاكين» تظهر الدّيمقراطيّة أكثر فجوراً، لدعهما بشرعيّات، عابرة للأوطان، لا المصلحة الوطنية. إحدى مميزات الدّيمقراطيَّة الشَّوهاء، أن يكون التَّصويت وفقها غبيّاً، وإن وصف العلايلي التصويت، ضد التقدم والوطن والعِلم، بالغبي، فهو يقصد مَن لا يعرف يساره مِن يمينه، وكذلك الأذكياء في خراب بلدانهم، الـ «‏مستأجَرِينَ يُخرِّبونَ دِيارَهُمْ/ ويُكافئونَ على الخرابِ رواتبا/ الحاقدينَ على البلادِ لأنَّها/ حَقَرتْهُمُ حَقْرَ السّليبِ السّالبا»(الجواهريّ، هاشم الوتريّ 1949).

ففي كل الأحوال الحقّ لا يُدرك بالتّصويت الغبي، والكثرة الجاهلة بالتّجهيل الممنهج، هذا ما أراد شبلي شميل وعبد الله العلايليّ التنبيه لخطورته، فبئس الاتفاق على تصويت لخراب الأوطان، لا عمرانها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ذكر شهر تموز في أساطير أبناء الحضارات العراقية القديمة وترتبط في ذاكرتهم في يومين.

 اليوم لأول ذكرى ممات تموز والأخر يوم يبعث حيا من جديد. تموز حسب تلك الأساطير راعي عشقته عشتار، ولكن سعادتهم كانت قصيرة. فبعد ان مات تموز مقتولا غابت عشتار عن سطح الأرض ونزلت الى الجحيم السفلي، غاب الحب وانقرض الحياة على ثرى الرافدين. وحينما عادت مع زوجها تموز الى الأرض مرة أخرى، عادت الحياة الى ارض الرافدين. تموز نجده كذلك في تراث أهلنا من الايزيديين الكورد كذلك.

الفاتح من تموز يوم مشهود في تاريخ أبناء الشعب العراقي بجميع قومياته وعقائده الدينية المختلفة. إذ ان هناك الملايين من العراقيين والعراقيات يحتفلون في هذا اليوم بعيد ميلادهم الافتراضي. سأحاول في مادتي هذه سرد تاريخا مختصرا من تاريخ صفحات دولة العراق الحديث وما جرى من حوادث على رحاها في تلك الفترة. طبعا هذا تاريخ ميلاد وهمي وافتراضي لميلاد الأفراد في العراق.  تم تسجيل نفوسهم ولأول مرة رسميا في تعداد السكاني لعام 1957. كان من نتائجها الاستقرار الاجتماعي وهذا التعداد السكاني يعتبر الأقرب الى الواقع من حيث النتائج ومن افضل واكمل التعدادات السكانية التي اجري في العراق. الا ان هناك انتقادات موجهه لهذا التعداد من حيث اعتبار اللغة المحكية في البيت أساسا لقومية الفرد. ذلك ما أدى الى نتائج غير واقعية بالنسبة للانتماء القومي لأبناء العراق. كان حصر الشعب العراقي في فقط قوميتين ادى الى الغبن بحق القوميات الأخرى في البلاد.

كنت قد كتبت حول الألقاب وعدم وجود اي ارتباط بين اللقب والانتماء القومي. الجدير بالذكر انه بلغ عدد سكان العراق بموجب هذا التعداد تقريبا ستة ملاين والنصف نسمة اما الإن فيعتقد ان نفوس العراق تعدى   35 مليون نسمة ولا يوجد اي تعداد سكاني لتوزيع القوميات. كانت المادة 140 من الدستور العراقي التي لم تتم تطبيقيها للمرور الزمني ينص على إجراء تعداد سكاني لتعين التوزيع القومي في إقليم كوردستان. والمناطق التي لم يتم البت في تبعيتها للإقليم او للحكومة المركزية في بغداد.

 اعتقد جازما بان اختيار هذا اليوم اي الفاتح من تموز تم بعملية حسابية باختيار منتصف العام يوما لميلاد الملايين من العراقيين افتراضيا. كان يوم الأول من كانون الثاني (يناير) يستخدم يوما لميلاد هؤلاء ممن لم يعرف يوم ميلادهم ابان العهد الملكي خاصة مواليد القرى والأرياف. الغريب انا شخصيا لدي دفتر النفوس الملكي وطبعا يوم ميلادي في الاول من يناير وفي دفتر النفوس الجمهوري الأول من تموز (يوليو).4183 الجنسية العراقية

دفتر النفوس أصدرت في نهايات العهد الملكي وفي العهد الجمهوري الصق الشعار الجمهوري الأخضر على التاج الملكي. دفتر النفوس اخذ به كأساس لمنح الجنسية العراقية لاحقا، ولكن بشرط ان يكون الفرد من التبعية العثمانية وليس الإيرانية. كانت التبعية الإيرانية سببا مباشرا لتهجير ملايين من العراقيين منذ بدايات السبعينات مع مجيئ البعث الفاشي للحكم واستمرت بشدة وبطرق مأساوية مع الحرب العراقية الإيرانية ١٩٨٠ الى ١٩٨٨.

الحقيقة ان بين التاريخين الفاتح من كانون الثاني وشهر تموز حوادث هزت العراق جالبا الانقلابات والحروب وسيطرة المغامرين من العسكر على دفة الحكم كما جاء بالشر والعنف أحيانا وازدهرت السجون بزواره من الوطنين العراقيين من سجناء الرأي والعقيدة. كما تم تطوير أساليب التعذيب باستخدام ادوات متطورة وأساليب غير شريفة في التحقيق للوصول الى غاياتهم والحصول على اعتراف الضحية زورا.  واحيانا اخرى عاش العراقيين ولبعض الوقت الهدوء والسلام النسبي.

الدولة العراقية تأسست في اذار عام 1921 وكان قد سبقتها تأسيس الجيش في نفس السنة في 6 كانون الثاني.4184 سقوط الملكية

أما سقوط النظام الملكي في صبيحة ١٤ تموز من عام 1958 بقتل افراد من العائلة المالكة وإعلان الجمهورية فقد ومنذ ذلك اليوم الى سدة الحكم العديد من العسكر من المغامرين. لذلك تتابع الانقلابات العسكرية وسميت ب(الثورة) وتبعه نهاية الحكم الملكي بعد مرور اربع سنوات ونصف جاء انقلاب العسكري الثاتي في الثامن من شباط عام 1963 واعتلاء الفكر القومي السلبي سدة الحكم بعد قتلهم لرجال ثورة تموز 1958. آنذاك اعتلى البعث الاشتراكي على سدة الحكم في شباط 1963 لفترة قصيرة ما يسمى بفترة (المنحرفون).  ومرة اخرى تكرر عودتهم في 17 تموز والانقلاب الداخلي الذي تلاه في 30 تموز

من عام 1968. بعد ازاحة احد رجال الدولة المسالمين عن سدة الحكم واعني الرئيس المرحوم عبد الرحمن عارف الذي حكم العراق بين سنوات (1966 الى 1968).

 الذي نفي بعد الانقلاب ١٧ تموز   الى تركيا عن طريق بريطانيا وتوفى في الاردن. ثم تلى الحياة السياسية في العراق فترة اعوام من الاستقرار النسبي مع بيان 11 اذار عام 1970 الذي قدم تصورا لحل المسالة الكوردية وما يسمى بقانون الحكم الذاتي. تلك الفترة القصيرة انتهت باندلاع الحرب في كوردستان ونهايته مع توقيع اتفاقية الجزائر 1975 مع شاه ايران والتنازل عن الأراضي العراقية على طول الحدود مع ايران وأمور اخرى والتي تكون لاحقا احد أسباب اندلاع الحرب مع ايران وإلغاء الاتفاقية.  تلى ذلك أعوام 1978 الى 2003 سنوات من حروب وماسي ابتداء من حرب كوردستان ومن ثم تلاها يوم 23 ايلول 1980 حرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات وتلالها مباشرة احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية الى اليوم الذي جاء احتلال العراق في 19 اذار من عام 2003 وسقوط النظام الفاشي القومي السلبي وسقوط الدكتاتورية (لمن يريد معرفة المزيد حول دكتاتورية النظام عليه العودة الى كراس الحزب خندق واحد ام خندقان). وجاء سقوط النظام بعد 35 عاما من الحروب الداخلية في كوردستان وقصف حلبچة الشهيدة بالغاز وحملة الأنفال السيئة الصيت والمقابر الجماعية وضرب المعارضة الوطنية العراقية والحروب مع الجيران ايران واحتلال الكويت والصراع مع النظام السوري. راح ضحية تلك الحروب والصراعات الجيل القديم من مواليد الفاتح من تموز والبقية معظمهم من ضحايا الحرب من المعوقين جسديا او نفسيا وهؤلاء اللذين نجوا بأنفسهم وباتوا في غيابته المنافي. كما ادى كل ذلك الى دمار البلاد والعباد.

الشعب العراقي اليوم و بجميع أطيافه يترقب الى المستقبل بعيون ملئها الأمل لعالم جديد بعيد عن كل موروث تلك الماسي التي مر بها هذا الشعب العريق خلال قرن من الزمان منذ تأسيسها كدولة مستقلة.

دعنا جميعا نقدم احلى التبريكات لجميع العراقيين من مواليد هذا اليوم،  الأول من تموز، مبارك وسعيد، عليكم جميعا أينما كنتم.

***

  د. توفيق رفيق التونچي  - السويد

 

قضية النائبة العمالية فاطمة بايمن والتي صوتت الى جانب حزب الخضر على مشروع قرار من أجل أقامة الدولة الفلسطينية ما زالت تتفاعل داخل حزب العمال وعلى المستوى الوطني.

حزب العمال يحاول ان يمسك العصا من الوسط في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية وحرب الابادة على غزة والضفة الغربية علمأ ان موقف حكومة حزب العمال كان يجاري مواقف القوى الغربية التي دعمت أسرائيل وقالت بحقها الدفاع عن نفسها بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين اول (اكتوبر).

موقف حكومة العمال بدا يتبدل قليلاً عندما صوتت أستراليا في الامم المتحدة في أيار الماضي الى جانب 143 دولة من أجل منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة لتصبح الدولة 194 وقد صوت ضد القرار 9 أعضاء وامتنع 25 عن التصويت، لكن التصويت أدى إلى انقسام داخل حزب العمال، حيث أعرب نواب وأعضاء حاليون وسابقون عن غضبهم من القرار، بينما رحبت به قوى حزبية أخرى.

رغم هذا الموقف والبيان المشترك الذي وجهه رئيس الوزراء الأسترالي انتوني البانيزي ورئيس وزراء كندا ورئيس وزراء نيوزليندا في كانون اول (ديسمبر) وعبروا عن دعمهم للجهود الدولية العاجلة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة الا ان حزب العمال لم يتخذ قرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية والذي تبناه سابقا مؤتمرعام سابق للحزب، لكن رئيس الوزراء انتوني البانيزي وفي مؤتمر الحزب التاسع والاربعين الذي عقد في مدينة برزبن في اواخر آب (اوغسطس) الماضي ركز جهوده على تمرير صفقة أوكس وعقد صفقة مع مؤيدي الاعتراف بدولة فلسطين على أن يعمل مستقبلا ً لإقرار الاعتراف بفلسطين.

السينتورة فاطمة بايمن قالت انها خالفت قواعد الحزب الصارمة بالتصويت الى جانب الخضربما يمليه عليه ضميرها قالت: لبرنامج (انسايدرز) على تلفزيون أي بي سي 30/6/2024 انها على أستعداد للتصويت مرة اخرى في نفس الاتجاه إذا ما طرح المشروع مجدداً امام البرلمان مضيفة ان المسالة لا تتحمل التـأجيل بسبب معاناة الشعب الفلسطيني والذي خسر عشرات آلاف الضحايا.

وانتقدت النائبة بايمن  وزيرة الخارجية بيني وونغ ضمنيًا وقالت إنها كانت تستمع إلى رغبات الحركة العمالية الأوسع بشأن فلسطين وكان لا بد من تقديم شيء ما.

تصريح بايمن دفع رئيس الوزراء بالاتفاق مع وزيرة الخارجية بيني وونغ ووزير الدفاع ريتشرد مالر الى اتخاذ قرار بوقف مشاركة بايمن في اجتماعات الحزب الى أجل غير مسمى لانها خرقت التضامن الحزبي بعد ان كان الحزب اتخذ قراراً اوليا بوقف مشاركتها لمرة واحدة في اجتماع الكتلة البرلمانية ومجلس الحزب(الكوكس).

ووصف رئيس الوزراء تصرف بايمن بأنه بلا مبرر" وأنها، من خلال تصرفها من جانب واحد، وضعت نفسها فوق المصلحة الحزبية وأعضاء كتلة الحزب البرلمانية الآخرين البالغ عددهم 103 أعضاء.

وراى الكاتب في الهيرلد جيمس ماسولا انه "إذا لم يتحرك رئيس الوزراء، فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من الانقسام، وربما إلى تجرأ أعضاء البرلمان الآخرين الذين يقررون المجازفة والتحدث بشأن أي قضية سياسية".

نشير الى انه بموجب القوانين الحزبية الصارمة المعمول بها من 130 سنة  فان من يصوت ضد الحزب يطرد من الحزب بصورة آلية، خطوة بايمن الاخيرة هي الاولى من نوعها منذ عام 2005. وفي وقت سابق كانت بايمن قد تلقت تحذيراً من رئيس الوزراء عندما هتفت في البرلمان بشعار "من البحر الى النهر فلسطين حرة" والتي يعتبرها رئيس الوزراء غير مناسبة وهناك ضغوط من اللوبي المؤيد لاسرائيل لمنع استعمال هذا الشعار على اعتبار انه معادي للسامية. 

والان، السؤال الذي يطرح نفسه  بعد قرار حزب العمال بوقف نشاط النائبة بايمن هل ستنتهي مشاكل حزب العمال؟!

 سيواجه الحزب عدة ردات فعل ومشاكل حزبية وعلى المستوى الشعبي حيث يخشى الحزب على التماسك الاجتماعي في البلاد بسبب الحرب الأسرائلية على غزة والضفة وهذا ما يردده دائماً رئيس الحكومة ووزرائها.

 حزبياً العمال بحاجة الى صوت النائبة بايمن في مجلس الشيوخ لتمرير مشاريع القوانين لانهم لا يملكون الاكثرية في المجلس مما سيضطرهم لعقد صفقات مع الاحزاب الصغيرة والنواب المستقلين لتمرير مشاريع القوانين الحكومية والتي ستكون لها كلفة سياسية ومالية.

أما على المستوى الشعبي فإن قرار حزب العمال قد يكون له تداعيات مهمة، حيث سيفسر هذا الموقف بانه انحياز الى جانب الموقف الاسرائيلي على حساب الفلسطينين، مما سيؤثر على طريقة تصويت الجالية الاسلامية الاسترالية في الانتخابات الفيدرالية القادمة (سيكون آخر موعد لإجرائها أيار عام 2025 ) حيث توجد عدة مقاعد في كل من ملبورن وسدني (6 مقاعد) يلعب الصوت المسلم فيها دوراً مهماً للفوز بها، مع العلم ان الحكومة تحكم باكثرية صوتين فقط في مجلس النواب من أصل 151 مقعداً والتي سوف تخفض الى 150 مقعدا بعد التقسيمات الجديدة للمناطق الانتخابية التي قامت بها مفوضية الانتخابات الاسترالية.

أخيرا، من هنا وحتى موعد الانتخابات، هل سيقدم حزب العمال ويعمل الى اتخاذ إجراءات للحد من التداعيات السياسية والاجتماعية التي يتخوف منها، ويرسم خطة وطنية تستوعب التنوع الحزبي والمجتمعي، بعيداً عن شعارات التعددية الثقافية التي افرغت من مضمونها، ويقرن القول بالفعل في ما خص الاعتراف بالدولة الفلسطينية والعمل على وقف اطلاق نار شامل في غزة وليس كما يردد وقف اطلاق نار انساني؟

***

عباس علي مراد

 

عندما ترى شارعاً باسم «خالد بن يزيد»، ليس غير خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سُفيان (ت: 85- 90 هجرية). يوجد خوالد، وباسم الأب نفسه، في معاجم الرّجال، لكن لا يذهب الذَّهن إلا إلى الأمويّ. يختلف الموقف مِن المسمى به شارع في إحدى العواصم، مَن يراه ابن يزيد، وتحضر في ذهنه قصة كربلاء (61 هجرية)، مع أنَّ خالداً لم يدركها، فيحتج غاضباً، وإن عرف ما عرفه عن دور ابن يزيد في العِلم والتّرجمة، لأنَّ الأمر يتعلق بالمسميات لا بالذَّوات، ومَن يراه مستحقاً إطلاق اسمه على شارع كونه أميراً أمويَّاً، وبذلك ضاع خالد العالم والأديب، بين الموقفين، فالطَّرفان يهمهما الاسم، وعليه ينسجان الموقف والرَّأي. قبل الإشارة إلى ما يتعلق بخالد، مِن علويَّة وأمويَّة، وكيف تصالح الأحفاد، وصاروا أنساباً وأصهاراً، دعونا نرى مَن هو خالد؟ كتب الجاحظ (ت: 255 هجرية): «كان خطيباً، شاعراً فصيحاً، حازماً ذا رأي، وهو أول من تُرجمت له كتب الطِّب والنُّجوم، وكتب الكيمياء» (البيان والتّبيين).

وأضاف أبو الفرج النَّديم (ت: 380 هجرية): «قيل له: لقد فعلت أكثر شغلك في طلب الصَّنعة (الكيمياء)، فقال خالد: ما أطلب بذاك إلا أن أغني أصحابي وإخواني، إني طمعتُ في الخلافة فاختزلت دوني، فلم أجد منها عوضاً إلا أن أبلغ آخر هذه الصِّناعة، فلا أحوج أحداً، عرفني يوماً أو عرفته، إلى أن يقف بباب سلطان رغبةً أو رهبةً» (الفهرست).

هذا، ورأى النّديم نحو خمسمائة ورقة له، منها كتاب الحرارات، والصَّحيفة الكبير، والصَّحيفة الصَّغير، ووصيته إلى ابنه في الصَّنعة (نفسه). تزوج خالد بن يزيد أمَّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، مِن زوجته ابنة عمه زينب بنت علي بن أبي طالب (الدار قُطنيّ، الأخوة والأخوات. المجلسي، بحار الأنوار)، أي كان الحُسين بن علي (قُتل: 61 هجرية) خالها. وكان عبد الله بن جعفر صديقاً لمعاوية بن أبي سُفيان (ت: 60 هجرية)، وقد بُشر بولادة ولدٍ له، مِن أم ولدٍ (جارية)، وكان عند معاوية بالشَّام، فأسماه «معاوية» (المسعوديّ، مروج الذَّهب والمرزباني، معجم الشّعراء).

كان معاوية المذكور شاعراً، وصديقاً ليزيد بن معاوية (ت: 64 هجرية)، وهو القائل فيه: «إذا مَذق الإخوان بالغيب ودَّهم/ فسيِّد إخوان الصَّفاءِ يزيد» (المرزباني). بعدها صار لخالد حفيد أسموه عليّاً، وكنيته أبو الحسن وأبو العُميطر، وهو عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، فوالد عليّ (عبد الله)، تزوج حفيدة العباس بن علي بن أبي طالب، نفيسة بنت عبيد الله بن العباس.

كان عليّ، العلويّ الخؤولة والأمويّ العمومة، يُردد: «أنا بن شيخي صفين» (المرزويّ، الفتن. ابن عساكر، تاريخ دمشق)، يقصد عليّا ومعاوية. ثار عليّ الأمويّ على العباسيين، وبويع بدمشق (195هجرية)، ثم غُلب وهرب (ت: نحو 200 هجرية). ظهر في كُتب عن المهدي المنتظر أنه «السّفياني» (كتاب الفتن). تداخل وتخالط الأبناء والأحفاد بمصاهرات وقرابات، بينما تُنصب اليوم الحرابات بالنزاعات الغابرة. على ما يبدو أنَّ الأولين لم تُغيَّب عقولهم، كي يؤبِّدوا العداوات، فكم كان آل الزُبير أعداءً للأمويين، لكنَّ العشق قرّب بين رملة بنت الزُّبير وخالد بن يزيد، وهو القائل: «تجُول خلاخِيلُ النِّسَاء ولا أرَى/ لِرَمْلَة خَلْخَالاً يَجُول ولا قُلْبَا» (الأصفهاني، الأغاني). أقول: ألم يجتمع علويون وأمويون في تلك الزَّواجات، وتبادلوا الوفودَ لإتمام الخطبة مثلاً؟ ألم يجتمع الأحفاد، في مجالس أسرهم في تلك المناسبات؟

مجرد تساؤل لا غير. يغلب على الظَّن أنَّ الأولين سيعتبرون ما يحصل اليوم هذياناً، عند المقابلة بين أمسهم ويومنا. أكتب لعجَبٍ عُجَاب، أن يكون عليّ أموياً ومعاوية حفيداً لأبي طالب؟! والحروب التي نحسُ بأوارها تجري بالأسماء، هذا، والعجز لأبي تمام (ت: 231 هجرية): «عجائبُ حَتَّى لَيْسَ فِيهَا عجائبُ» (الثَّعالبيّ، يتيمة الدَّهر).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كتب: ايلان بابيه

ترجمة: علي حمدان

***

يمكن تشبيه هجوم حماس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول بالزلزال الذي ضرب مبنى قديما. الشقوق كانت بدأت بالفعل تظهر لكنها الان اكثر وضوحا. بعد مرور اكثر من 120 عاما علي بدايته، هل يمكن ان يواجه المشروع الصهيوني في فلسطين، فكرة فرض دولة يهودية على ارض دولة عربية وإسلامية وشرق أوسطية، احتمال الانهيار؟ تاريخيا، هناك عدد كبير من العوامل التي يمكن ان تتسبب في انهيار دولة ما: يمكن ان ينجم عن الهجوم المستمر من قبل الدول المجاورة او عن حرب أهلية مزمنة، ويمكن ان يتبع انهيار المؤسسات العامة، والتي أصبحت غير قادرة على تقديم الخدمات للمواطنين. غالبا ما تبدأ كعملية تفكك بطيئة تكتسب زخما ثم، بعد  فترة قصيرة من الزمن، تنهار الهياكل التي كانت ذات يوم صلبة وثابتة.

الصعوبة تكمن في رصد هذه المؤشرات مبكرا، هنا، سأجادل بان هذه المؤشرات أوضح من أي وقت مضى في حالة إسرائيل. نحن نشهد عملية تاريخيّة- أو بدقة اكبر، بدايات من المرجح ان تنتهي بسقوط الصهيونية. وإذا كان تشخيصي صحيحا، فإننا ايضاً ندخل منعطفا خطرا بشكل خاص، فبمجرد ان تدرك إسرائيل حجم الأزمة، ستمارس عنفا غير مقيد لمحاولة احتوائها، كما فعل النظام العنصري الجنوب أفريقي خلال أيامه الأخيرة.

المؤشر الأول هو انقسام المجتمع اليهودي الإسرائيلي. وحاليا يتكون من معسكرين متنافسين غير قادرين على إيجاد أرضية مشتركة. وينبع هذا الصدع من التناقضات التي تشوب تعريف اليهودية باعتبارها قومية. وفي حين ان الهوية اليهودية في إسرائيل بدت في بعض الأحيان ليست اكثر من  مجرد موضوع للنقاش النظري بين الفصائل الدينية والعلمانية، فقد أصبحت الان مادة للصراع حول طبيعة المجال العام والدولة نفسها. يخاض هذا الصراع  ليس في وسائل الاعلام فحسب، بل في الشوارع أيضا.

احد المعسكرين يمكن تسميته ب" دولة إسرائيل"، وهو يضم اليهود العلمانيين والليبراليين على الاغلب، ولكن ليس حصرا على اليهود الأوروبيين من الطبقة المتوسطة واحفادهم، الذين كان لهم دور فعال في تأسيس الدولة في عام 1948 وتمتعوا بالهيمنة علي الدولة حتى نهاية القرن الماضي. ويجب ان لا نخطيء في ان دفاعهم عن "القيم الديمقراطية الليبرالية " لا يؤثر على التزامهم بنظام الفصل العنصري الذي فرض، بطرق مختلفة، على جميع الفلسطينيين، الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر الابيض المتوسط. رغبتهم الأساسية ان يعيش المواطنون اليهود في دولة ديمقراطية، مجتمع تعددي يستبعد منه العرب.

المعسكر الاخر هو" دولة يهودا"، والذي نشأ بين المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، يحظى بمستويات متزايدة من الدعم داخل البلاد ويشكل القاعدة الانتخابية التي ضمنت انتصار نتنياهو في انتخابات نوفمبر 2022. تأثيره في الطبقات العليا من الجيش الإسرائيلي والخدمات الأمنية يتزايد بشكل مضاعف. ترغب دولة يهودا في ان تصبح إسرائيل نظاما دينيا يمتد على كامل فلسطين التاريخية. من اجل تحقيق هذا، فهي مصممة على تقليل عدد الفلسطينيين الى ادنى حد ممكن، وهي تفكر في بناء هيكل ثالث مكان المسجد الأقصى، يعتقد أعضاء هذا المعسكر ان بإمكانهم من تجديد العصر الذهبي للمالك الكتاب المقدس. بالنسبة لهم، فان اليهود العلمانيين هم بدرجة ما مهرطقين كالفلسطينيين اذا رفضوا المشاركة في هذا المسعى.

كان المعسكران قد بدأ في التصادم بعنف قبل أسابيع من أكتوبر. خلال الأسابيع الأولى بعد الهجوم، بدا انهما يضعان خلافاتهم جانبا امام عدو مشترك. ولكن هذا كان وهما. ان القتال في الشوارع قد عاد، ومن الصعب رؤية ما يمكن ان يجلب المصالحة. النتيجة الأكثر احتمالا بالفعل تتكشف امام اعيننا. اكثر من نصف مليون إسرائيلي، يمثلون دولة إسرائيل قد غادروا البلد منذ أكتوبر، مما يشير الي ان البلاد تغرق في دولة يهودا. هذا مشروع سياسي لن يتحمله العالم العربي، وربما حتى العالم بشكل عام على المدى الطويل.

المؤشر الثاني هو ازمة اقتصاد إسرائيل. لا يبدو ان الطبقة السياسية لديها أي خطة لتحقيق توازن في المالية العامة وسط الصراعات المسلحة المستمرة،  بل تعتمد بشكل متزايد على المساعدات المالية الامريكية. في الربع الأخير من العام الماضي، انخفض الاقتصاد بما يقرب من 20 ٪ ؛ ومنذ ذلك الحين كان الانتعاش الاقتصادي هشا. الوعد الأمريكي ب 14 مليار دولار من غير المرجح ان يغير من هذا الوضع. بل ان  العبء الاقتصادي سيزداد سوء ا اذا قامت إسرائيل بتنفيذ نيتها للدخول في حرب مع حزب الله وزيادة النشاط العسكري في الضفة الغربية، في وقت بدأت فيه بعض البلدان – بما في ذلك تركيا وكولومبيا- بفرض عقوبات اقتصادية.

تتفاقم الازمة بسبب عدم كفاءة وزير المالية بيتساليل سموتريتش، الذي يقوم باستمرار بتوجيه الأموال الى المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، ولكن يبدو عاجزا خلاف ذلك عن إدارة وزارته.  ان الصراع بين دولة إسرائيل ودولة يهودا، جنب الى جنب مع احداث السابع من أكتوبر، يؤدي الى نقل  رؤوس الأموال الى خارج البلد من قبل النخب الاقتصادية. الذين يفكرون في نقل استثماراتهم يشكلون جزءا هاما من20 ٪ من الاسرائيليين الذين يدفعون 80 ٪ من الضرائب.

المؤشر الثالث هو تزايد عزلة إسرائيل دوليا. حيث تصبح تدريجيا دولة منبوذة. ان هذه العملية بدأت قبل السابع من أكتوبر ولكن الامر تفاقم منذ بدء عمليات الإبادة. تمثل ذلك في المواقف الغير مسبوقة التي اعتمدتها المحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. في السابق، كانت حركة التضامن العالمية مع فلسطين  قادرة على تحفيز الناس على المشاركة في مبادرات المقاطعة، ومع ذلك فشلت في تعزيز احتمال فرض عقوبات دولية. في معظم البلدان، بقى الدعم لإسرائيل قويا من قبل المؤسسات السياسية والاقتصادية.

في هذا السياق، يجب ان ننظر الى قرارات المحكمة الدولية والمحكمة الجنائية الدولية الأخيرة- التي تقول  ان إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وانه يجب عليها وقف هجومها على رفح، وانه يجب اعتقال قادتها بتهم جرائم حرب- كمحاولة  للاستجابة الى اراء المجتمع المدني العالمي، بدلا من مجرد انعكاس لاراء النخب. لم تخفف المحاكم من الهجمات الوحشية على شعب غزة والضفة الغربية، ولكنها ساهمت في زيادة الانتقادات الموجة الى الدولة الإسرائيلية، والتي تأتى بشكل متزايد من كل الاتجاهات.

المؤشر الرابع المرتبط هو التغيير الجذري بين اليهود الشباب في جميع انحاء العالم. بعد الاحداث التي وقعت خلال الأشهر التسعة الماضية، يبدو ان العديد منهم الان مستعدين للتخلي عن ارتباطهم بإسرائيل والصهيونية والمشاركة بنشاط في حركة تضامن مع الفلسطينيين. كانت المجتمعات اليهودية، خاصة في الولايات المتحدة، في وقت ما توفر لإسرائيل حصانة فعالة ضد الانتقادات، فقدان هذا الدعم، او على الأقل الخسارة الجزئية، له تأثيرات كبيرة على مكانة البلد عالميا. لا يزال بإمكان "ايبك" الاعتماد على الصهاينة المسيحيين لتقديم المساعدة والدعم، لكنها لن تكون نفس المنظمة القوية بدون شريحة يهودية كبيرة، ان قوة اللوبي بدأت بالتأكل.

المؤشر الخامس هو ضعف الجيش الإسرائيلي. لاشك ان الجيش الإسرائيلي يظل قوة قوية بأسلحة متطورة في تصرفه. ومع ذلك، تم الكشف عن محدودية قوته في 7 أكتوبر. يشعر العديد من الإسرائيليين ان الجيش كان محظوظا للغاية، حيث كان يمكن ان تكون الحالة أسوأ بكثير لو انضم حزب الله الى هجوم تنسيقي في السابع من أكتوبر. منذ ذلك الحين، اظهرت إسرائيل انها تعتمد بشدة على تحالف إقليمي، تقوده الولايات المتحدة للدفاع عن نفسها ضد ايران، الذي شهد هجومها التحذيري في ابريل استخدام نحو 170 درون بالإضافة الى الصواريخ الباليستية والموجهة. اكثر من أي وقت مضى، يعتمد المشروع الصهيوني على الاستعانة السريعة بكميات هائلة من الامدادات من الأمريكيين، دونها لا يمكنه حتى مقارعة جيش صغير من المحاربين غير النظاميين في الجنوب.

هناك الان اعتقاد واسع الانتشار في عدم جاهزية إسرائيل وعجزها عن الدفاع عن نفسها بين السكان اليهود في البلد. أدى ذلك الى ضغط كبير لإلغاء الاعفاء العسكري لليهود الأرثوذكس- الذي كان قائما منذ عام 1948وبدء تجنيدهم بألالاف. هذا نادرا ما سيحدث فرقا كبيرا على الساحة العسكرية، ولكنه يعكس مدى التشاؤم حول الجيش - الذي بدوره عمق الانقسامات السياسية داخل إسرائيل.

المؤشر النهائي هو تجدد الطاقة النضالية بين الجيل الشاب من الفلسطينيين. انهم اكثر توحدا وترابطا عضويا ووضوحا من النخبة السياسية الفلسطينية. نظرا لان سكان غزة والضفة الغربية من بين الاصغر عمرا من سكان العالم. ان هذه الشريحة الجديدة ستمتلك تأثيرا هائلا على مسار النضال التحرري. تظهر المناقشات التي تجرى بين الشباب الفلسطيني انهم مشغولون بإنشاء منظمة ديمقراطية حقيقية – اما ان يتم تجديد منظمة التحرير الفلسطينية او انشاء منظمة جديدة ستسعى وراء رؤية تحررية تتناقض مع حملة السلطة الفلسطينية للحصول على الاعتراف كدولة. يبدو انهم يفضلون حلا  لدولة واحدة بدلا من نموذج الدولتين الذي فقد مصداقيته.

هل سيكونون قادرين على تقديم استجابة فعالة لانحسار الصهيونية؟ هذا سؤال صعب الإجابة عليه. فانهيار مشروع دولة لا يتبعه دائما بديل اكثر اشراقا. في مناطق أخرى في الشرق الأوسط – في سوريا واليمن وليبيا- راينا كيف يمكن ان تكون النتائج دموية ومديدة. في هذه الحالة، سيتعين تحقيق عملية التخلص من الاستعمار، وقد اظهر القرن السابق ان واقع ما بعد الاستعمار لا يكون احسن من الوضع الاستعماري. فقط وضع الفلسطينيين  يمكن ان يقودنا في الاتجاه الصحيح. اعتقد انه عاجلا او اجلا، سيؤدي الاندماج المتفجر لهذه المؤشرات الى انهيار المشروع الصهيوني في فلسطين. عندما يحدث ذلك، يجب ان نأمل ان تكون هناك حركة تحرير قوية لتملأ الفراغ.

لأكثر من 56 عاما. كان ما سمي ب "عملية السلام " والتي لم تؤدي الى نتيجة- في الواقع سلسلة من المبادرات الامريكية الإسرائيلية التي طلب من الفلسطينيين الرد عليها، اليوم، يجب ان يحل "السلام " محله بالتخلص من الاستعمار، ويجب على الفلسطينيين ان يكونوا قادرين على صياغة رؤيتهم للمنطقة، مع الطلب من الاسرائيليين الرد عليها. سيمثل هذا المرة الأولى، على الأقل لعدة عقود، التي ستتخذ فيها حركة الفلسطينيين زمام الأمور  بوضوح وتقديم اقتراحاتها لفلسطين ما بعد الاستعمار وما بعد الصهيونية( واي كان المسمى للكيان الجديد). في القيام بذلك، من المحتمل ان ننظر الى أوروبا( ربما كانتونات سويسرا والنموذج البلجيكي). او، بشكل اكثر ملاءمة الى الهياكل القديمة لشرق البحر الابيض المتوسط، حيث تحولت الجماعات الدينية المعيارية تدريجيا الى جماعات عرقية ثقافية عاشت جنبا الى جنب على نفس الأرض.

سواء رحب الناس بالفكرة ام انها تثير الرهبة، اصبح انهيار إسرائيل قابلا للتنبؤ  به. هذه الاحتمالية يجب ان تجعلنا ان نفكر في مستقبل المنطقة. سوف يتم اجباريا وضع هذه المسالة على جدول اعمال الناس، حين يدركوا ان المحاولة التي دامت قرنا كاملا، بقيادة بريطانيا ومن ثم الولايات، لفرض دولة يهودية على بلد عربي تقترب ببطء من نهايتها. لقد حققت نجاحا كافيا لأنشاء مجتمع من ملايين المستوطنين، والعديد منهم الان من الجيل الثاني والثالث، ومع ذلك لا يزالوا  يعتمدوا في وجودهم، كما كان عند وصولهم، على قدرتهم في فرض ارادتهم بعنف علي ملايين من الشعب الأصلي، الذين لم يتخلوا ابدا عن كفاحهم من اجل تقرير مصيرهم والحرية في وطنهم. في العقود القادمة، سيتعين على المستوطنين التخلي عن هذا النهج وإظهار استعدادهم للعيش كمواطنين متساويين في فلسطين محررة ومتخلصة من الاستعمار.

نيولفت ريفيو 21 يونيو/ حزيران 2024.

هذه مقدمة قصيرة لمقالة مطولة بعض الشيء أعكف على كتابتها وسوف أنشرها مستقبلا. وأشير إلى أنني لم أشأ الإشارة إلى ذلك الشخص الذي ينشر باسم (Said Mohammad) لو لا أنه ذكرني بالاسم وصور أحد منشوراتي وعلق عليه بأسلوب استفزازي وغبي في آن واحد. فهو لم يفهم المقصود من المنشور الذي كنت أنتقد فيه أولئك الذين أغفلوا ذكر فلسطين وحرب الإبادة التي يشنها العدو حين أتوا على ذكر الخبر الكاذب عن وفاة تشومسكي وقفزوا على تصريحات زوجته الذي ذكرت فيها أن زوجها يتابع المجزرة الصهيونية رغم مرضه وإنه حينما يسمع أو يشاهد الفظاعات المرتكبة يرفع ذراعه اليسرى احتجاجا وغضبا. بمعنى أنني لم أدافع عن موقف تشومسكي من حل الدولتين ولم أتبنَ موقفه هذا ولم أتطرق له أساسا، لقد انتقدت هؤلاء وتساءلت في المنشور "ولكن كيف يجرؤ مَن لم يذكر فلسطين وشعبها بكلمة طوال أشهر المحرقة التسعة، أن يذكر ما قاله وفعله تشومسكي من أجلها؟ يبدو أن البعض يتعامل مع تشومسكي من أجل الكشخة "والبرستيج" ويقدمه كحداثوي ليبرالي "نص ردن" كان يشرب قهوة مع سفراء الاحتلال الأميركي أو الصهيوني"! ويبدو أن هذه الكلمات هي التي أفقدت هذا الشخص صوابه فراح يشتم ويشنع ويصف تشومسكي بأنه أحد "العجول الذهبية التي تخلقها الماكينة الإعلامية للمخابرات الأمريكية ليعبدها القطيع".

لم يشفع لنعوم تشومسكي موقفه الحازم من الكيان الصهيو ني والحكومات الصهيو نية المتوالية ولا اتهامه باطلا بمعاداة السامية التي صارت تعني حرفيا "معاداة الصهيو نية ودولتها العنصرية" ومنعه من دخول إسرا ئيل والضفة الفلسط ينية الغربية في العقود الأخيرة لدى بعض المؤدلَجين والباحثين عن عدو تحت السرير أو بين السطور والمبالغين في قراءة أخطاء الخصم أو الصديق إلى درجة التشكيك والاتهام بالخيانة، واعتباره واحدا من "العجول الذهبية التي تخلقها الماكينة الإعلامية للمخابرات الأمريكية ليعبدها القطيع" كما كتب أحد المؤدلَجين ممن يختبئون خلف صورة ماركس إلى درجة أنه شوَّه اسم الرجل من نعوم إلى "هذا الناحوم"! فحتى لو افترضنا أن تشومسكي أخطأ بتبنيه حل الدولتين - الذي تتبناه منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كما توصف، وغالبية منظمات المقاومة الفلسطينية ومنها حماس (التي قال نائب رئيسها خليل الحية في تصريح له قبل أسابيع - سنتخلى عن سلاحنا إذا طبق حل الدولتين) باعتباره مرحلة أولى نحو تحرير فلسطين كاملة - حتى إذا افترضنا ذلك وهو افتراض صحيح عندي، فهل يوجب ذلك هذا التشنيع والحقد على من تعتبره وسائل الإعلام الصهيونية والغربية المعادية عدوها الأول أم أن وراء الأكمة ما وراءها وأنه عداء مشبوه ومخطط له من جهات معادية؟.

 كما اتهمه شخص آخر أكثر اعتدالا ونزاهة ولكنه مخطئ في معلوماته، "بأنه -تشومسكي - لم يفكر قط بزيارة قطاع غزة بعد أن منعته الحكومة الصهيونية من دخول الضفة الغربية". والحقيقة، فهذه المعلومة خاطئة تماما. فحين منعه الاحتلال من دخول الضفة الغربية زار تشومسكي غزة سنة 2012 على رأس وفد يضم عشرة مفكرين غربيين، للمشاركة في مؤتمر علمي حول اللغويات والأدب تنظمه الجامعة الإسلامية في غزة. بل واعتبر تشومسكي نفسه من "أهل الدار" فانتقد استمرار الانقسام الفلسطيني والصدع الشديد بين حركتي فتح وحماس، واعتبر أن استمرار الانقسام يعود بفائدة كبيرة على الدول الغربية ومصالحها، ودعا للتخلص منه لتجاوز هذه الأزمة وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح". وهناك تقرير مفصل عن زيارته تلك نجده في أرشيف غوغل تحت عنوان " تشومسكي يحاضر بغزة رغم الحصار"!.

غير أن إنصاف تشومسكي يختلف عن تصنيمه ورفض النظر إلى تراثه بنقدية، فهو لا يحتاج إلى كبير جهد لإنصافه لأنه معروف عالميا بمواقفه النقدية والتضامنية في عشرات القضايا العالمية ومنها القضية الفلسطينية والمناهضة للإرهاب الإمبريالي الأميركي وضد الكيان الصهيوني وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني. ولكنه يبقى بشرا يرتكب الأخطاء إلى جانب الصواب أحياناً وليس ملاكاً معصوماً من الخطأ. لقد عبر تشومسكي نفسه عن نقده لنفسه وندمه الصريح من بعض مواقفه حتى أنه اتهم نفسه بـ "مهادنة" الكيان الصهيوني في فترة مبكرة من حياته حيث قال قبل سنوات قليلة في لقاء منشور معه "إنه بدأ بمعارضة الحرب في فيتنام في بدايات الستينيات ولكن كان عليه أن يبدأ قبلها بسنوات، حين بدأت الولايات المتحدة تساند فرنسا في إعادة احتلال فيتنام. وبخصوص فلسطين، ذكر أنه لم يبدأ بانتقاد "سياسات إسرائيل الإجرامية" إلا في 1969 وأضاف "وكان يجب أن أبدأ قبل ذلك بكثير، شهدت بنفسي ذلك في 1953 حين زرت إسرائيل، كنت أعرف القليل من العربية مما يكفي لفهم الحوارات. كما رأيت القمع وكيف يهين الأشكنازُ اليهودَ المغاربةَ. كان يجب أن أتحدث عن كل ذلك. لكنني لم أبدأ إلا بعد 1967 وبعد أن بدأت سياسات إسرائيل التوسعيّة الاستيطانية في الأراضي المحتلة والتي قادت إلى كل ما يحدث، كنت مهادناً أكثر من اللازم في نقدي وتأخرت كثيراً/ اقتبسه الروائي العراقي سنان إنطون - 21 حزيران يونيو 2024".

ولكن بم يتعلق النقد الذي يوجه لتشومسكي من يساره تحديدا؟ في الأسطر التالية سأناقش مثالا على هذا النقد في مقالة شهيرة لنوح كوهين (الناشط اليساري في لجنة نيو إنجلاند للدفاع عن فلسطين في بوسطن - ماساتشوستس) نشرها سنة 2004 في مدونة (ifamericansknew) ويعتبرها البعض مرجعا لنقد تشومسكي رغم قِدمها النسبي. وسأعود إلى نص المقابلة مع تشومسكي التي اعتمدها كوهين وليس لما اقتبسه كوهين بطريقته الخاصة وسأعتمد ترجمتي الشخصية وهي ليست ترجمة احترافية للمقالة والمقابلة.

***

علاء االلامي

حشد التّيار الصّدريَّ، الممثل بمقتدى محمد محمد صادق الصّدر، ليكون (18 ذو الحجة) عيداً رسمياً بدأ مِن هذا العام (1445هـ)، تحت عنوان "عيد الغدير"، ومثلما هو معروف القرارات التي تؤخذ في البرلمان العراقيّ، تؤخذ وفقاً لمصلحة المحاصصة، فصوت الأعضاء الأكراد، ولم يعترضوا على اعتبار الغدير عطلة رسمية، للعراق كافة، مقابل اعتبار مناسبة الأنفال عطلة رسمية وهكذا، لا أحد يعنيه العراق، وهنا لا نبحث بصحة أو عدم صحة أن يكون تاريخ (18 من ذي الحّجة)، تتويجاً إلهياً للإمام والخليفة الرَّابع الرَّاشدي علي بن أبي طالب(اغتيل: 40هـ)، إنما نبحث في موقف فقهاء الشّيعة، في هذه الولاية، واعتبارها فقرة من فقرات الأذان أم لا؟

مِن المعلوم، ليس هناك خلاف بين المسلمين كافة على الوحدانية، ويعبر عنها في الأذان بـ"أشهد أنَّ لا إله إلا الله"، ولا اختلاف بينهم في الرسالة، ويعبر عنها بـ"أشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، لكن الخلاف وقع على "الولاية"، والتي عُرفت بالشّهادة الثّالثة، ورفعها في الأذان بعبارة "أشهد أنَّ علياً ولي الله".

 لا يقرها السّنَّة على مختلف مذاهبهم، كذلك فرق شيعيَّة، مِن غير الإماميَّة الاثني عشريَّة، كالزَّيدية مثلاً، لا يقرون بها، كولاية سياسية، أو تتويجاً إلهيّاً، ويعتبرون علياً أحد أعاظم الصّحابة، ويقرون بولايته عندما تسلم الخلافة بما قُرُّ بالحل والعقد، لكن عدم اعتبار الشّهادة الثّالثة (إنَّ علياً ولي الله) في الأذان الإماميّ الاثني عشري، ناهيك عن الزّيدية وتفرعات التشيع الأُخر، يؤكد هناك اختلاف على الإمامة نفسها، لذا ففقهاء الاثني عشرية أنفسهم تجنبوا ما أدخله "الغلاة" على التشيع، وبثوه في الأذان، ومعلوم أنَّ الغلاة يعدون في الرسائل الفقهيّة الشّيعيّة  الاثني عشريةكفاراً أنجاساً، شأنهم شأنه شأن "النَّواصب"، الذي ينصبون العداء بالقذف والسّب لعلي وبنيه.

خلو الأذان مِن الولاية

ألتفت فقهاء شيعة، مِن الذين كانوا يقرون بولاية الفقيه، ثم حادوا عنها، وتخلوا عن جعل الأئمة فوق البشر، وإنما أخذوا بمن سبقهم من القدماء واعتبروهم مجرد "علماء أبرار"، وليسوا مثلما يقدمون في الأدب الشّيعيّ اليوم بالمعصومين، وبنواب الله، ومنها ظهرت ولاية الفقيه أو نيابته. بينهم مَن تعرض إلى المحاكمة والاعتقال، لأن تشكيكهم هذا يؤدي إلى رفض ولاية الفقيه، المفروضة دستوريَّاً بالجمهورية الإسلاميَّة الإيرانيَّة، منهم الفقيه محسن كديور، وقد جاء في كتابه "القراءة المنسية إعادة قراءة نظرية: الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار"، اعتبر فيه أن الإمامة بما هو معروف اليوم مِن تراث الغلاة، وليس التشيع الأصيل. 

قال متسائلاً: "هل كان تلقي الشّيعة في العصور المختلفة لأصل الإمامة، وفهمهم له، هو ذات تلقي الشّيعة الإماميَّة اليوم لهذا الأصل، وفهمهم له؟ أم أنَّ المفهوم"الإمامة" قد تطوَّر عبر الزَّمن، وشهد تحوُّلاً وتبدلاً في العصور، التي تلت ظهوره لا سيما في القرون الخمسة الأولى"(كديور، القراءة المنسية). يُجيب الشيخ كديور بالتحول والتبدل، ولم يكن هذا في أصل التشيع. أقول: على هذا لم ترد الولاية في الأذان، إلا أن بعص الفقهاء جعلوها مستحبة مسايرة لمزاج العوام، الذي تأسس منذ العهد الصّفويّ.

يقول أبو جعفر محمَّد بن عليّ القُميّ، المعروف، عند الشّيعة الإماميَّة، بالشيخ الصّدوق(تـ: 381هـ)، ويُعد مِن أقدم وأهم راوية حديث إماميّ: فقرات الأذان: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر أكبر، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الصَّلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله"(القُميّ، مَن لا يحضره الفقيه، منشورات الحوزة العلمية بقّم). 

ثم أردف موضحاً ومؤكداً: "هذا هو الأذان الصَّحيح، لا يزاد فيه ولا ينقص منه، والمفوضة(من فرق الغلاة) لعنهم الله قد وضعوا أخباراً، وزادوا في الأذان محمَّد وآل محمَّد خير البرية مرتين، وفي بعض رواياتهم بعد أشهد أنَّ محمداً رسول الله أشهد أنَّ علياً ولي الله مرتين، ومنهم من روى بدل ذلك  أشهد أنَّ علياً أمير المؤمنين حقاً  مرتين، ولا شك في أنَّ عليا ولي الله، وأنه أمير المؤمنين حقاً، وأنَّ محمداً وآله صلوات الله عليهم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذُكرت ذلك ليعرف بهذه لزيادة المتهمون بالتفويض، المدلسون أنفسهم في جملتنا"(المصدر نفسه). 

رفض ما دسه الغلاة

رفض فقهاء الشِّيعة رأي الغلاة "المفوضيَّة"، أي القائلين بتفويض الأئمة مِن الله، في ما يختص به، فقالوا: "لا جبر ولا تفويض"(الشيخ المظفر، عقائد الإماميَّة).إذا كان التوحيد ورد قطعياً في القرآن والسُّنة، وكذلك الرّسالة أو النّبوة، لم يُختلف عليها، فأمر الإمامة اُختلف بها، ليس بين المسلمين، إنما بين فرق الشّيعة المتعددة، فالزّيديّة يرونها إمامة الفقه، والإسماعيليّة حولها منهم إلى أئمتهم المستورين، لا يطلبون بهم أمراً سياسياً اليوم، إنما عقيدة داخليَّة، تخصهم، ولا تخصهم سواهم.

غير أنّ زيادة الشَّهادة الثَّالثة في الأذان التي أُضيفت رسميّاً في العهد الصَّفويّ(تيرنر، التَّشيّع والتَّحول في العصر الصَّفويّ)، كان العديد مِن الشِّيعة يرفعونها قبل هذا العهد بكثير، ولكنها لم تُحسب مِن عبادات المذهب رسمياً، إنما مِن فعل الغلاة المرفوضين مِن قبل فقهاء الشّيعة أنفسهم. مثال على ذلك: أنَّ القاضي التّنوخي (تـ: 384هـ) ينقُل التَّالي عن أبي فرج الأصفهاني (تـ: 356هـ)، قال: "سمعتُ رجلاً مِن القطعية، يؤذن: الله أكبر الله أكبر، أشهد أنَّ لا إله إلا الله، أشهد أنَّ محمداً رسول الله، أشهد أنَّ علياً ولي الله"(التَّنوخي، نشوار المحاضرة). مع إضافة تكفير تقول: "محمَّد وعلي خير البشر، فمَن أبى فقد كفر، ومَن رضي فقد شكر..."(المصدر نفسه).

 هذا، والقطعيَّة ظهروا بعد وفاة موسى بن جعفر (183هـ) عندما انقسم الأتباع إلى فرقتين، واحدة وقفت عنده، أي اعتبرته المهدي ولم يمت، وسميت بالواقفة، أي وقفت عنده، وأخرى عُرفت بالقطعية، لأنها قطعت بوفاته وتولت إمامة نجله علي الرضا (تـ: 203هـ)، وعلى هذا أن امتدادها هو قسم مِن الشِّيعة الإمامية (انظر: النُّوبختي، فرق الشِّيعة، ومشكور، موسوعة الفِرق الإسلامية). نقول هذا لأنَّ الإمامية انشطرت بُعيد وفاة الإمام الحادي عشر الحسن العسكري (260هـ)، وتفرعت إلى الإمامية الاثني عشرية، وإلى النَّصيرية المعروفة الآن بسورية، وجماعة تولت جعفر بن علي الهادي إماماً.

كذلك يذكر ابن بطوطة (تـ: 779هـ)، مما أدخلخ الغلاة وتلقفه العوام في الأذان، أنه زار منطقة القطيف التابعة الآن إلى الإمارة الشرقيّة بالمملكة العربيّة السُّعوديّة، وهي مدينة شيعيّة قديماً، كان يُرفع فيها الأذان مع الشَّهادة الثَّالثة. قال: "يقول مؤذنهم في أذانه بعد الشَّهادتين: أشهد أنّ عليًّا وليّ الله، ويزيد بعد الحيعلتين حيّ على خير العمل، ويزيد بعد التَّكبير الأخير: محمّد وعليّ خيرُ البشر مَن خالفهما فقد كفر"(ابن بطوطة، الرحلة). كذلك كان الزائرون للضريح العلوي بالنجف مِن طالبي الشَّفاعة بالبراءة مِن مرض، يقولون: "لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله، عليّ وليّ الله"(المصدر نفسه). 

اطلعنا على كتاب خاصّ بالأذان، وهو "الأذان بين الأصالة والتَّحريف"، وقد أهداه مؤلفه إلى أوّل مؤذن وهو بلال بن رباح الحبشيّ (تـ: 20هـ)، الذي لا يرفع في الأذان "الولاية لعليّ" ولا لغيره قائلاً: "إلى مَن لا يؤذن لأحدٍ بعد رسول الله إلا للزَّهراء والحسنين"(الشهرستانيّ، الأذان بين الأصالة والتَّحريف، قم). الكتاب فيه بحث واستقصاء، وكان موضوعه إجمالاً لتأكيد الهيعلة الثَّالثة "حيَّ على خير العمل"، التي تُعتبر أساساً في أذان الشِّيعة، ومنهم الزيديّة أيضاً، ولم يتعرض لرفع الشَّهادة الثَّالثة "علياً ولي الله". 

من الطُّوسي إلى السِّيستاني

لا يقر مراجع الشّيعة كافة، مِن الأولين والمتأخرين، في رسائلهم الفقهيَّة "الشّهادة الثّالثة"، فصيغة الأذان لدى مؤسس حوزة النَّجف الشّيعية(448هـ) الشَّيخ أبو جعفر محمَّد الطوسي (تـ: 460هـ) كالآتي:" التكبير أربع مرات، والشَّهادتان مرتين مرتين، وحيَّ على الصَّلاة مرتين، وحيَّ على الفلاح مرتين، وحيَّ على خير العمل مرتين، والله أكبر مرتين، ولا إله إلا الله مرتين"(الطُّوسي، كتاب الخلاف).

 كما أن فصول الأذان ثمانية عشر نفسها  عند المرجع، الذي خلف أبي القاسم الخوئي(تـ: 1992)، آية الله أبو الأعلى السبزواريّ(تـ: 1993)، سائراً على مَن سبقه مِن فقهاء الإماميّة كافة، ليس بينها الشَّهادة بالولاية، وذكرها استحباباً، بمعنى ليست مِن فقرات الأذان(السبزواريّ، منهاج الصَّالحين). كذلك جاء الأذان عند المرجع الشِّيعي الإمامي الحالي آية الله السَّيد علي السِّيستاني، مع إشارته إلى أن الشهادة بالولاية «لم تكن جزءاً من الأذان ولا الإقامة، وكذا الصَّلاة على محمد وآل محمد عند ذكر اسمه الشَّريف»(السّيستاني، منهاج الصَّالحين). أما آية الله الخميني (تـ: 1989)- نذكره كونه مؤسس دولة إسلامية- فلا يذكر تفاصيل صيغة الأذان من الأساس، على اعتبار أنها ليس من موجبات الصَّلاة، قال: "لا إشكال في تأكد استحبابهما للصلوات الخمس"(الخميني، تحرير الوسيلة)، ويقصد الأذان كافة. 

يدل مما تقدم أنَّ علماء الشِّيعة لم يسايروا ما أدخله العهد الصَّفوي (1501-1732) على فقرات الأذان؛ التي أخذها مِن أفواه "الغلاة"، وهي الشَّهادة الثَّالثة، التي أعلنها إسماعيل الصَّفوي رسمياً عند دخوله تبريز، العام 907 هـ 1502 م (تيرنر، التَّشيع والتَّحول في العصر الصفوي)، فالذين أثبتوا الشّهادة الثّالثة في الأذان ممن تبنوا رأي الغلاة، مثل محمَّد باقر المجلسيّ(تـ: 1699)، أحد أبرز فقهاء الفترة الصّفويّة، واعتبر ما جاء به الشّيخ الصدوق هو مِن أجل التقيّة، لكن الشيخ المجلسيّ، غفل عن  أن الشيخ الصّدوق القُمي عاش وكتب "مَن لا يحضره الفقيه" في ظل السلطنة البويهيَّة، وهي التي تبنت رأي الغلاة، في الطقوس وما يتعلق بالغدير، حالها حال الفاطميين، وثبتت المناسبات المذهبيّة أعياداً ببغداد، فإذا كانت التّقية مفروضة على الشّيخ الصّدوق فالأولى به مجاملة أو مسايرة البويهيين ببغداد وفارس، والمصريين بمصر، ويقر بالشّهادة الثالثة، مِما أدخله الغلاة على المذهب، لا يلغيها.

 لا يُعد ما ورد في «بحار الأنوار»(110 مجلد) للمجلسيّ، وهو أبرز فقهاء العهد الصفوي،  مثلما تقدم، معتبراً لدى أساطين المرجعية الاثني عشرية في هذه المسألة،، وقد وردت روايته، ضمن قصة خيالية، عن الجزيرة الخضراء، وذلك عندما زار أحدهم قرية بغية الوصول إلى تلك الجزيرة، وأنه قدمَ مذهبه لهم بالشَّهادتين فقالوا له: "لم تنفعك هاتان الشَّهادتان ... لِم لا تقول: الشَّهادة الأخرى(علياً ولي الله) لتدخل الجنَّة بغير حساب"، (المجلسي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار).

ضرورة المراجعة

لابد مِن العمل على نزع أداة من أدوات الخلاف الحادة؛ وعدم ترك الغلاة يتلاعبون بالشيعة نفسها قبل غيرها، ويعملون على تسميم العلاقات الاجتماعيَّة داخل الوطن الواحد، وما تثبيت "الغدير" عيداً إلا فتنة مذهبيّة، ادخلها غلاة الأمس وعابثو اليوم، مثلما عبر عنها أحد الباحثين، الذي كان على نهج حزب الدعوة في ما مضى، بشجاعة، وعاد إلى عراقيته بقوة.

أقول: إنها ستكون فتنة أشد، ليست لجيلنا، فهو  سيذهب بأمراضه وعقده، بل لأجيال شهدت طفولتهم الذبح على الهوية، فدعوهم يوصلون  النِّداء إلى السَّماء بلا ضغائن وأحقاد، فالأمر مثلما رأيتم من صنع الرِّجال، وبدوافع يبرأ الدِّين منها.

 عموماً، يحتاج التشيع مراجعة، وتنقية مما أدخله الغلاة، وإذا كان الشّيعة الاثنا عشرية، قد تولوا السّلطة، ولهم الكلمة الفصل بإيران والعراق، فعليهم حماية الأوطان مِن التفتت، ويفرضون ما جاء في الروايات المختلف عليها، فالإمامة نفسها أمر مختلف عليه، وليس حالها حال الإلوهية والنبوة، المتفق تمام الاتفاق عليهما بين المسلمين كافة وداخل الشيعة، لا يجب أن يأخذهم الغرور، بتمثل دور المظلوميّة، وهم في السُّلطة وخارجها.

***

د. رشيد الخيّون

توطئة: وزارة البيئة العراقية تكشف (العراق يفقد سنوياً 100 ألف دونم من أراضيه الزراعية بسبب الزحف الصحراوي والتصحر) وإن 50 بالمئة من موارد المائية للعراق أنخفضت منذُ عام، وأزمة شحة المياه وظاهرة التصحرفي العراق وعموم منطقة الشرق أوسطي إنها حديثة الساعة.

فكان للأعلام الأممي دورا واضحاً ومسؤولاً بدعوتها بالأحتفاء باليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف أو يوم البيئة العالمي في 17 حزيران 2021 فقررتْ أن يكون التذكيريوم 17 حزيران من كل عام، تدعوا المنظمة الأممية إلى توحيد الجهود بالأستجابة إلى نداء كوكبنا الآزرق: {تطلب التربة منكم المساعدة !؟} وهي دعوة أنسانية لضمان السلّة الغذائية للبشرفهي حقاُ أشارة توعية بنشرثقافة " الأمن الغذائي " وضمان بقاء البشرزاهيا على كوكبه الأزرق الجميل، وسوف نحتفي سوياً عبر محاور البحث الموضح بسيمياء العنوان وبأرخنة يوم 17حزيران الجاري - - - - !؟

لقد بدأت ملامح ظهور أزمة المياه في العراق خلال الجفاف وقلّة الأمطار الى الشحة في السنوات العشرة الماضية وإلى ضعف السياسات الحكومية التي توالت مصادر القرار بعد 2003 بالمطالبة بحصة العراق المائية المثبتة بقرارات دولية مع الدول المتشاطئة مع العراق أو المشاركة مع حوض المنبع (تركيا – سوريا – أيران – العراق) أضافة إلى تغافل حكومات ما بعد 2003 عن أنشاء السدود والنواظم، وغياب الخزن الأستراتيجي للمياه في بحيرات السدود، وأزدادت المشكلة تفاقماً بالأنفجار ا لسكاني التي تجاوزت{الأربعين مليون نسمة وأزدياد الحاجة الماسة والملحة للمياه.

إن هذا البحث العلمي المتواضع يطرح ثمة تساؤلات وطنية ! حول تغافل حكومات ما بعد 2003 في عدم أنشاء أي سد أو حتى ناظم، وكذلك غياب النظر لموضوع الخزن الأستراتيجي للمياه للمستقبل القريب والبعيد زمن العطش الأكبر، وعدم تدويل ومتابعة حصة العراق المائية حسب ما رسمته المواثيق الدولية والمطالبة الشرعية بها بطريقة قانونية حوارية أواللجوء إلى العامل الأقتصادي كأضعف الأيمان مع دول الجوار المسلمين والعرب الغاصبين حق العراق في أكسير الحياة " المياه".

1- التصحرْ Desetification: هو تعرض القشرة الأرضية للتدهور في المناطق القاحلة وشبه القاحلة والجافة وشبه الرطبة، مما يؤدي إلى فقدان التربة الفوقية ثُمّ فقدان قدرة الأرض على الأنتاج الزراعي ودعم الحياة الأحيائية والبشرية، ويكاد أن يكون التصحر عالمياً في شمول ما يقارب 50 مليون كم2 والأفراد الذين يتضررون على هذا الكوكب إلى ما يقارب 200 مليون نسمة، وهو يتمدد بصمت نحو المناطق الآهلة بالسكان أي إلى حاضرة المدن بما يسمى بظاهرة الزحف الصحراوي، بل هو في أتساع مستمر في المساحة أذ تغطي الصحاري ما يقارب خمس المساحة الكلية للكرة الأرضية.

وبتوضيحٍ أكثر شمولية لمفهوم التصحر بأنهُ ظاهرة تحول مساحات واسعة من الأراضي الخصبة وذات الأنتاج الجيد ألى مساحاتٍ فقيرةٍ في بناها الأحيائي سواءً كان النباتي أوالحيواني نتيجة إلى النشاط الأنتاجي الخاطيء وألى التغيّرات المناخية السالبة والمدمرة لقوّة خصوبة التربة، فأذاً هو أتساع مساحة الصحراء وطغيانهِ على المناطق الخصبة وخفض قدرته الأنتاجية بسبب تلف جذور النباتات والأشجار من جراء السيول الجارفة وكذلك الأمطار الغزيرة.

ومنظمة الأمم المتحدة ترعى مشكلة التصحر والجفاف في العالم ضمن فعاليات منتدى (دافوس) الأقتصادي الذي عُقد مؤخراً في سويسرا في الفترة بين 23- 26 من كانون ثاني 2018 بعنوان " مؤشرْ الأداء البيئي 2018 " بالتعاون مع المنتدى الأقتصادي العالمي، والتقرير يقوم على تقييم الوضع البيئي للدول من أجل تحسين الأداء البيئي وفي تقييم السياسات المتبعة حول الصحة البيئية وحيويتها، وبالتالي يمنح التقرير تقييماً بالدرجات حول أدائها.

2- مخاطرالتصحر في العراق:

منذُ قدم التأريخ والماء يعتبر المحدد الرئيسي في العلاقات الدولية، وحافزا فعالاً في أثارة الأحتكاكات وربما الحروب لأنها مولدة السلّة الغذائية للكائنات الحيّة على هذا الكوكب وأنهُ فاق على أهمية النفط الآيل للزوال.

- الماء هو أكسير الحياة، وأن المياه على كوكبنا غير موزّع بشكلٍ عادل حينما تتقاسم 23 دولة (ثلثي) الموارد المائية، بينما يتوزع الثلث الباقي بشكلٍ غير متوازن بما تبقى من الدول، ومن سوء الطالع للعراق أنهُ متشاطيء مع ثلاث دول مسلمة وعربية (تركيا أيران سوريا) أستعملت سياسة التعطيش والأبتزاز وبأنانية مفرطة ضد العراق وتوظيفهُ سياسياً، وواجه العراق في مطلع 2018 حرباً مصيرياً في بناء السدود والخزانات العملاقة في تركيا وتحويل مجاري روافد دجلة في أيران في قطع رافد الزاب المغذي لنهر دجلة وتحويل مسار نهر الكارون وحرمان شط العرب من مياهه ولم تكتفي بذلك حيث أطلقت على أراضي البصرة مياه البزل المالحة، وسوريا ومنذ حكم السيد الوالد تحاول بشتى الطرق بحرمان العراق حتى من حصته الآتية من تركيا عبر أراضيها، على العموم بدأت مؤشرات ملامح أزمة المياه في العراق جلية في الوقت الحاضر على أثر قلّة الأمطار وضعف الأطلاقات المائية من مصادرها الرئيسية.

- أن أزمة المياه ونقصانها والتي بدت واضحة في أنحسار مياه دجلة والفرات منذ مطلع هذه السنة بالرغم من أن هناك أتفاقات أممية دولية تلزم الأطراف تطبيقها مثل أتفاقية لوزان 1923 الموقعة بين الحلفاء وتركيا أكدت في مادتها 109 (لا يسمح لأية دولة من الدول المتجاورة (تركيا أيران العراق) بأقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر دون الأستشارة والحوار بين هذه الدول لضمان عدم ألحاق الأذى بأي منهم /أنتهى.

- له تأثيرات مفجعة في الحياة الأقتصادية للعراق حيث يؤدي التصحر إلى تناقص مساحة الأراضي الزراعية وبالتالي نقص المحاصيل الزراعية والتأثير على موجودات السلة الغذائية، وتصل لخسارة أكثر من سبعة مليار دولار سنوياً في تدمير المحاصيل الزراعية أضافة إلى زيادة أسعارها.

- مناطق زراعية في عموم الجنوب والفرات الأوسط اليوم تدخل في دائرة الخطربسبب شحة المياه وتصحر الأراضي وتناقص مياه دجلة والفرات وتبدو في مظاهر واضحة في موت النباتات وأنعدام الحياة البرية وبسبب الجفاف وشحة المياه كان في خبر عاجل اليوم مجزرة في ديالى ضحيتهخا ألف دونم من النخيل بسبب الجفاف وشحة المياه، وأنعكاسات هذه الظاهرة المخيفة بدت واضحة في ترك معظم الفلاحين أراضيهم وأتجهوا للهجرة نحو المدن، التغيير السياسي والأقتصادي والأجتماعي والهجرة الجماعية بسبب الجفاف والتصحر وقلة الأمطار.

- أصبحت مشكلة تذبذب وأنقطاع التيار الكهرباء الوطنية الذي لهُ علاقة قوية بضخ المياه وأستدامتها فشحة المياه أثرت على البيئة الحيوانية في نفوق مئات الأطنان من الأسماك والحيوانات البرية، ويساعد التصحر في خلق جو ملائم لتكثيف حرائق الغابات، ويزيد الضغوط على أكثر موارد الأرض أهمية كالماء وحسب تقرير الصندوق العالمي للطبيعة: فقدتْ الأرض حوالي 33 % من مواردها الطبيعية ما بين 1970 - 1995 بأثارة الرياح الأتربة من الصحارى الجافة وتدفعها حتى تصل إلى دول عديدة في العالم، كما تظهرالظاهرة في العراق في فصلي الصيف والربيع التي تزيد من معدلات الأختناق وربما الوفيات.

3: العوامل المساهمة في ظاهرة التصحّرْ:

أسباب طبيعية: تناقص كميات الأمطار، فقر الغطاء النباتي، أنجراف التربة، التعرية، زحف الكثبان الرملية، أسباب بشرية: الضغط السكاني على البيئة في قطع الأشجار وأجتثاث النباتات، وأستخدام أساليب زراعية خاطئة، والأستغلال السيء للموارد الطبيعية.

4- أذاً ما الحل؟

 أن أزمة شحة الماء تعتبر من أكبر مشاكل الأنسان العراقي اليومية، فهي ذات أبعادٍ متشعبة ومعقدة في توفير المياه لشعبٍ تعداده الحالي أكثرمن 38 مليون نسمة، وهذه جملة رؤى علمية متبعة في دول الجوار بالرغم من أن بعضها لا تمتلك أنهاراً وأشجاراً- أ

- أستخدام مصادر الطاقة المتجددة بدلا من أخشاب الأشجار.

- حماية الغابات وتنمية المراعي بقوانين رادعة.

- أدراج مشكلة التصحر في المناهج الدراسية.

- نشر الوعي البيئي.

- العمل على تثبيت الكثبان الرملية بالحواجز النباتية.

- ترشيد أستهلاك المياه في كل المجالات.

- أعادة تدوير المياه، أستخدام طرق علمية حديثة في الري مثل الري بالتنقيط والرش.

- دعم البحث العلمي الأكاديمي للتحفيز على أيجاد الحلول الفورية المناسبة لمشكلة العصر في الشرق الأوسط وخاصة فيما يخصُ العراق.

- أسناد وزارة الموارد المائية رجل متخصص ذو أمكانيات ذاتية وأكاديمية، بل يحتاج العراق أنشاء (خلية أزمة) لتجفيف مواطن الفساد في وزارة الموارد المائية.

- صيانة محطات التصفية ومعالجة أعطالها والأنكسارات في شبكات الماء الصافي وزيادة عدد الآبار الجوفية.

- التنسيق التام بين المركز والحكومات المحلية برصد مبالغ مالية لتكن كبيرة لتطوير آليات شبكات الماء للشرب أو للسقي.

- لأهتمام العالي بتوفير خزانات المياه في الأستخدامات البشرية والزراعية.

- أستخدام الدبلوماسية الناجحة والمؤثرة مع الدول المتشاطئة،

- أن المشروع الياباني في تصفية الماء يعتبر من أنجح التعاقدات التي أثمرت المزيد من الحلول لا ضير أن تتفق معها ثانية وحتى ثالثة،

- أستنساخ تجارب دول الخليج في تحلية المياه

***

عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب

حزيران 2023

........................................

مصادر البحث وبعض الهوامش

- آلآن جرينجر التصحر، ترجمة عاطف معتمد القاهرة 2002/نت

- محاضرات الدكتور موفق الخشاب – كلية التربية عام 1959بالجغرافية السكانية

- أحمدعبدالكريم –كتاب قانون حماية البيئة- ص349

- جون رافارتي – التصحر2022(ترجمة الكاتب لفقرة التصحر- المكتبة المركزية - بغداد)

desertification 2022 John Raffarty

ملحوظة: بمناسبة 17حزيران اليوم العالمي للتصحرأعيد نشر مدونتي عن التصحر في العراق المنشورة في حزيران 2023 في الأعادة أفادة.

 

كانت الإمبراطوريات قديماً، تحتاج إلى إعلان التّعصب لعقيدةٍ تسوق بها الجيوش؛ في حروبها، وإخضاع الأطراف. ثم تغيرت السِّياسات، ونشأت الدّولة الوطنيَّة، التي يأوي تحت جناحها مواطنوها، غير أن الطَّائفيين يحلمون بالعودة إلى إمبراطورية العقيدة، والتَّعصب لها، فإذا كف النّاس عن الخلاف الشّرس أفلس الطّائفيون، والقصة ليست عبادة إنما تجارة، ولأبي العلاء المعريّ(تـ: 449 هجرية) في هذا الشّأن منقبةٌ: «إنما هذه المذاهبُ أسب/ بٌ لجذبِ الدّنيا إلى الرُّؤساء»(لزوم ما لا يلزم). فكيف إذا الطَّائفيون مسكوا بزمام السُّلطة، وداروا دفتها باستبدال الطَّائفة بالوطن، وتسيلم مقدراته إلى خارج الحدود، تحت مبرر وحدة المذهب؟

تبث فضائيات، ومواقع إنترنت، ما يستدرج الأتباع إلى الماضي، بجعل العقول متاحفَ للمعارك الغابرة، حتّى غدا هذا الإنجاز العلمي الرَّائع وسيلةً للإفساد؛ كُتب على أبناء الألفية الثّالثة، في هذا البلد أو ذاك، الجدل العقيم عبرها، الذي لا يسفر إلا عن ضغائن قاتلة؛ قد لا يملك الساعون فيه، زمام السّيطرة، لصبغته القُدسية.

لا شغل للطائفيين إلا إثارة نزاعات ذهبت مع أصحابها، لا شأن للحاضرين بها، وحتّى لو حصل تنازل مِن الأطراف، واعتراف بخطأ وصواب، هذا المذهب أو ذاك، فما بات الأمر مجدياً. تبقى صورة المتنازعين تعبر عن الشّحاذيَن ببغداد، في القرن العاشر الميلاديّ.

نُذكر بأروع ما التفت إليه القاضي المُحسّن التَّنوخي(تـ: 384هجرية): «حدّثني جماعة من شيوخ بغداد: إنّه كان بها في طرفي الجسر سائلان أعميان، يتوسّل أحدهما بأمير المؤمنين عليّ عليه السَّلام، والآخر بمعاوية، ويتعصّب لهما النَّاس، وتجيئهما القطع(النقود) دارّة. فإذا انصرفا جميعاً، اقتسما القطع، وإنّهما كانا شريكين، يحتالان بذلك على النَّاس»(نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة).

نُقل التّراشق بحمم الطائقية إلى عواصم الغرب، باستغلال الحرية المتاحة، بلا رقيب ولا حسيب، وإذا كانت البلدان الغربيَّة لا يعنيها النزاع، وما يسفر عنه اليوم، فمجتمعاتها بدأت تتورم مِن هذا الخطاب، والعراك يجري في ساحاتها، قد لا تشعر الآن بهول الكارثة، لكن هناك جيلاً سينشأ على الكراهيّة، إذا لم يضعوا حداً لاستغلال الحرية، والقيام باجراءات وقائيَّة، قبل فوات الأوان.

دخل خطاب الكراهية إلى المدارس الدّينيّة، المقسمة على أساس مذهبي، تجري فيها التعبئة الطّائفيّة، وما هي سنوات وتلاميذ اليوم، في ظل الدّيمقراطيّة الغربيَّة، سيتبوأون مراكزَ في تلك الدّول، فبماذا تراهم سيتصرفون، لا شيء غير الكراهيّة المذهبيَّة.

ألم يوجد بين مذاهب اليوم شخصيات بحكمة سُفيان الثَّوْرِيُّ(تـ: 161هجريَّة)، الذي أدرك مساوئ الكراهيّة على الدّين والمجتمع، وكان أبرز فقهاء عصره، عندما قال: «إِذَا كُنْتَ بِالشَّامِ، فَاذْكُرْ مَنَاقِبَ عَلِيٍّ، وَإِذَا كُنْتَ بِالكُوْفَةِ، فَاذْكُرْ مَنَاقِبَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ»(الأصبهانيّ، حلية الأولياء). لا يعجب هذا الكلام، مخربو الأوطان، فهم لا يضعون اعتباراً لكلام حكيم مثل الثَّوْرِيُّ.

أقول: لا يرتقي إلى نقد طاعون المذهبيّة، إلا أمثال: الثَّوريّ صاحب القول القامع للتعصب: «إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَنَا الرُّخْصَةُ مِنْ ثِقَةٍ، فَأَمَّا التَّشْدِيدُ فَيُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ»(ابن عبد البرِّ، جامع بيان العلم وفضله). وقيل دفعه تواضعه إلى تمزّيق «ألف جزء وطيّرها في الرِّيح، وقال: ليت يدي قُطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم أكتب حرفا»(الحمويّ، معجم الأدباء). كذلك ارتقى التَّنوخيّ إلى فضح استغلال النّاس بالطَّائفية، وهو القاضي الأديب؛ أمّا المعريّ فما ترك تحايلاً باسم الدّين إلا وفضحه.

فعلى العاقل إذا لم يستطع قول كلمة، ضد تماسيح الطّائفيَّة، ينفرد عن سربهم، والعودة للمعريّ، لإكمال ما جاء في المستهل: «فانفرد ما استطعت فالقائل الصَّا/ دقُ يُضحي ثقلاً على الجلساء»(لزوم ما لا يلزم). أقول: إنَّ مواجهة الطاّئفيين الطواعين، مِن الجهلاء والعلماء، تستحق الصّبر على الأذى، دفاعاً عن الأوطان.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

ظل يوم 14 تموز لعقود عديدة في ذاكرة العراقيين رمزاً للوحدة الوطنية وحدثاً فارقاً في تأريخ العراق الحديث. وقد استمرت محاولات النظام منذ الايام الاولى لمجلس الحكم المحلي لمحوه من الذاكرة الوطنية حتى تجرأت أخيرا على حذفه حتى من لائحة العطل الرسمية التي اقرها البرلمان لعام 2024 م. صوت الاحتجاج كان خفيضا، باستثناء قلة من الكتاب والمثقفين الحريصين على ذكرى الثورة ونضالات القوى الوطنية التي أسهمت في تحقيق استقلال العراق استقلالا ناجزاً، ولاذ بالصمت أو أفصح عن ترحيبه بالقرار -علناً أو تلميحاً- عدد كبير من المثقفين، وهذه ظاهرة تستدعي التامل والبحث في حيثياتها.

دون عناء يمكن تفسير سر عداء النخب الإسلامويه الحاكمة وكراهيتهم للثورة، فكما اشار عدد من الكتاب ان الاسلام السياسي الحاكم يكشف بوضوح عن نزعته الطبقية والأيديولوجية في العداء للجمهورية، انهم كطبقة أوليغاركية نهابة يمثلون وريثاً شرعياً للاقطاع فكراً، ولعدد منهم نسباً ايضاً، الى جانب التناقض الحاد بين ظلامية فكرهم الرجعي وتشريعات الثورة التحررية،  (عبر محسن الحكيم بعد اجهاض الثورة عن فرح وشماتة معتبراً ذلك عاقبة الهية.) لذا لم يكن مستغرباً ان النظام الحاكم قد بدأ وفي السنين الأولى من ( العملية السياسية)  محاولاته الحثيثة لالغاء قانون الأحوال المدنية بدل تطويره، ولحسن الحظ قوبل ذلك باعتراضات جمه لانه سيكون منافياً لابسط مبادئ الديمقراطية التي كانوا هم وسلطة الاحتلال يعدوننا بها.

وقد تكرر الامر بتقديم مشروع  ما يسمى بالقانون الجعفري بديلاً عن قانون الاحوال المدنية وهو الآخر لم يمر لنفس الاسباب اضافة الى اعتراض المكونات الاخرى لأبعاده الطائفيه الواضحة.

 حكومة الكاظمي والتى تعتبر أكثر ميلاً للغرب وابعد - ولو ظاهرياً - عن الإسلام السياسي نجحت في خطوة اولى لتغييب ذكرى الثورة حين قدمت وباقتراح من وزير ثقافتها (وهو مثقف لبرالي له مكانته في الوسط الثقافي) قانوناً للبرلمان باعتبار 3 تشرين عيدا وطنياً، وهو اليوم الذي أوصت فيه بريطانيا بادخال العراق عضواً في عصبة الامم مشترطة التزام العراق باتفاقية 1930 المجحفة بحق البلد، والتي عدتها القوى الوطنية ارتهانا للأستعمار البريطاني واذلالاً للعراق (كما عبرت عن ذلك بالإجماع الشخصيات الوطنية التي دعاها الملك الى الاجتماع لأخذ مشورتهم ومن بينهم جعفر ابو التمن، ياسين الهاشمي، محمد مهدي الجواهري، كامل الجادرجي وغيرهم). ولمعرفة تفاصيل تلك الاتفاقية سيئة الصيت يمكن الرجوع الى بنودها المنشورة على الانترنيت.

الانضمام الى عصبة الامم و انهاء الانتداب شكليا مع بقاء الهيمنة البريطانية عسكرياً وسياسياً واقتصادياً لا يعد استقلالاً ناجزاً، و لم يكن بالحدث الكبير في تاريخ العراق، بدليل انه لا يشغل و لو حيزاً صغيراً في ذاكرة المواطن العراقي، على عكس يوم ١٤ تموز الذي لم تستطع حتى الحكومات المتعاقبة والتي اجهضت الثورة محوه من ذاكرة الشعب. رغم ذلك فقد نشطت القنوات الفضائيه ومواقع التواصل الاجتماعي لتسويق (العيد الوطني الجديد) وتمجيد رجال الملكية والمتخادمين مع الاستعمار على انهم رجال دولة حققوا استقلال البلاد بالحنكة والخبرة السياسية، ويعد هذا اهانة للقوى الوطنية الممثلة للشعب آنذاك، واستهانة بمعارضتها لتلك المعاهدة وبنضالها من اجل الاستقلال الحقيقي.

 واليوم يتقدم النظام الحاكم بخطوة أبعد بالغاء 14 تموز من قائمة العطل الرسمية بغية تغيير الهوية الثقافية وترسيخ مفاهيم جديده تتناغم مع أجندته الرجعية.

سلسلة محاولات النظام الاسلاموي الحاكم لمحو الذاكرة الوطنية لم تكن لتمر هكذا بهدوء وصمت لولا شيوع الخطاب العدمي الذي اخترق العقل الجمعي في حملة لتشويه وعي المواطن العراقي بعد 2003، وقد شارك في ذلك نخبه من المثقفين والإعلاميين واليوتوبرز ومدمني الفيس بوك متأثرين باجتياح الاعلام المعولم والتطور السريع لتكنولوجيا الاتصالات.

يصف محمد عابد الجابري استجابة العرب للعولمة: (إما بالهروب الى الخلف أو الهروب الى أمام) الفريق الاول هارب الى الخلف يبحث في كهوف الماضي البعيد عن مدينة فاضلة، ليصنع هوية ساكنة غير متحركة مع الزمن، معزولة بجدار منيع عن ثقافات الأمم، تلك تندرج ضمن الهويات القاتلة بتعبير أمين معلوف. هذا الفريق بالطبع يرفض اي خروج من كهف الماضي البعيد ويعلن معاداته لأي منعطفات في تاريخنا الحديث وخاصة التحرري منها كثورة تموز.

أما الفريق الثاني الهارب الى أمام فانه يتماهى بالذوبان - لا بالتفاعل - مع كل ما تأتي به العولمة (معظم المفكرين العرب والاجانب يفضلون مصطلح الامركة بدل العولمة)، بل تتعالى دعوات هذا الفريق للطلاق البائن مع ثقافتنا وتاريخنا و منظومتنا القيمية عملًا - كما يدعون - بمبدأ الشك الديكارتي واعادة قراءة التاريخ القديم والحديث، ولكن بات واضحاً ان اعادة قراءة التاريخ  بالنسبة لهم لا لتنقيته من مفاهيم وافكار وقيم باليه، وانما لشيطنة الذات والامعان في جلدها، الامر الذي أسهم في تخليق شخصية وطنيه مهزوزة تعاني من عقدة نقص وفي حالة تيه وتشتت. وقد كان لثورة تموز النصيب الأكبر من المراجعة المزعومة. بدأ الامر بالتساؤل (هل 14 تموز انقلاب ام ثورة)، السؤال الذي بات يتردد وبتواتر محموم في الاعلام المرئي والمسموع والمكتوب.

لا ضير من طرح الأسئلة اذا كان الهدف منها البحث عن الحقيقة، الا ان أصحاب تلك الحملة لهم إجاباتهم المسبقة ليس بنفي صفة الثورة عن 14 تموز فقط بل الادعاء بانه اول انقلاب عسكري فتح الباب لسلسلة من الانقلابات، وتحميل الثورة مسؤولية تعاقب الدكتاتوريات الدموية، متجاهلين حقيقة ان اول انقلاب في العالم العربي و ليس في العراق فقط هو انقلاب بكر صدقي عام 1936 ثم تلاه انقلاب رشيد عالي الكيلاني عام 1941، وان الاعدامات و قمع الاحتجاجات واعتقال المعارضين لم يستحدث في الأنظمة الجمهورية، بل كان قائماً و مستمراً ابان الملكية أيضاً، نعم كان أقل قسوه لأن النظام كان فتياً غير مستقر ولم تزل أجهزته القمعية ضعيفة نسبياً مقارنة بانظمة ما بعد الثورة التي اصبحت أكثر ثراء و استقراراً وخاصة بعد تأميم النفط. ولم يتوقفوا ايضاً من تكرار إتهام الثورة بالدموية، لمقتل عدد من أفراد العائله المالكه الذي لم يكن بتوجيه أو بايدي رجال الثورة بل للأسف الشديد لرعونة البعض من الحشود الغاضبة، ويتناسى أصحاب الحملة الدعائية ضد الثورة ان الثورة الفرنسية مثلًا قد راح ضحيتها عشرات الآلاف، بل لم يسلم حتى قادتها من المقصلة(روبسبير، دانتون، جان جاك مارا) وأعدم فيها حتى عالم الكيمياء المشهور لافوازييه.

 الحديث عن منجزات الثورة في عمرها القصير والانفكاك من التحالفات الاستعمارية وتحقيق الاستقلال وما الى ذلك لا يلقى آذاناً لدى هذا الفريق، فالامر بالنسبة لهم محسوماً. 

 ليس مصادفة أن تجري تلك النقاشات بعد الأحتلال الامريكي مباشرة، فرغم ما يدعيه البعض ان حرية التعبير الجديده اتاحت طرح مثل هذه الأسئلة، فأن ما يفند هذا الزعم إن الانظمة السابقة وخاصة نظام البعث الدكتاتوري المعادي للثورة كان سيرحب بنفي صفة الثورة عن 14تموز، ومع ذلك لم تكن محاولات التشكيك شائعة حتى في المجال الاكاديمي. ترافقت محاولات التشكيك هذه مع شيوع الجدل في توصيف الوجود الامريكي، هل هو احتلال أم تحرير!!، ثم تطور الامر الى اعادة الاعتبار للاستعمار البريطاني وتمجيد الشخصيات المتخادمة معه، وهنا يكمن سر هذه الحملة بعد الاحتلال الأمريكى تحديداً. أدرك أو لم يدرك من شارك فيها كان الهدف هو تهيئة الشعب العراقي للترحيب بالاحتلال والايحاء بان اميركا كسابقتها بريطانيا سنصل معها الى فردوس الديمقراطية (فلا تفوتنا الفرصة كما ضيعناها بطرد الاستعمار البريطاني).

وهكذا بات واضحاً تلاقي الفريق الماضوي مع الفريق المتعولم العدمي في محاولات اعادة فرمتة الذاكرة الشعبية ومحو ذكرى ثورة تموز كخطوة في سلسلة لم تنته لتبديد الهوية الوطنية. كلا الفريقين أصوليان، الاول يدعونا الى مدينته الفاضلة ومرجعيته ماضٍ متخيّل مجيد، يجب أن نرحل اليه ونتوطن فيه الى الابد. والثاني يدعونا الى مدينته الفاضلة أيضاً ومرجعيته مستقبل متخيّل سعيد لايمكننا الوصول اليه إلا بالخلاص من ارثنا (الثوري المرضي) في مناهضة الاستعمار.

***

قصي الصافي

نقابة الصحافيين العراقيين.. متى يحين أوان إصلاحها؟!

لا ريب في أن الذي تسوقه الضرورة للدخول الى مقر (نقابة الصحفيين) العراقيين، سرعان ما يتولد لديه انطباع سيء مؤداه ؛ ان هذه المؤسسة (الثقافية) لا تختلف في شيء عن محاكم (التفتيش) التي كانت سائدة في أوروبا العصور الوسطى، سواء من حيث طريقة الاستقبال الجافة والخشنة للوافدين / المراجعين، أو من حيث أساليب التعامل مع مشاكلهم والإجابة عن استفساراتهم التي يتطلعون لإيجاد الحلول لها . حيث تضطر مرغما"لتقديم بعض التنازلات الاعتبارية أمام وجوه استوطنت ملامحها مظاهر التجهم والجفاء، فضلا"عن تجنب نظرات أدمنت التعبير عن الازدراء والتشكيك بكل زائر غريب . لا بل حتى ان آداب (السلام) – ولا أقول (الترحيب) – تبدو بالنسبة للعاملين فيها (مكلفة) لهم نفسيا"، بحيث تواضع الجميع على اختصار العبارات وابتسار الحوارات .

وهكذا، فما أن تطأ قدما الشخص المراجع أروقة هذه (النقابة - الوكر) التي استحالت أروقتها الى ما يشبه المتاهة، سيتملكه شعور منفّر ومقلق كما لو أنه في حضرة مؤسسة (أمنية) محاطة بإجراءات وممارسات لا علاقة لها بشؤون الفكر والثقافة لا من قريب ولا من بعيد ! . الأمر الذي يضع المرء المعني في حيرة من أمره إزاء طبيعة هذه المؤسسة وماهية الدور الذي تلعبه الوظيفة التي تزاولها ؛ هل حقا"أنها معنية بنشر قضايا (الفكر) وإشاعة مسائل (الثقافة) كما توحي بها اليافطة التي تحمل اسم (الصحافة) ؟! . وان كانت هي كذلك، فما الشروط والمعايير التي تعتمدها في اختيارها لأولئك الذين يتمتعون بعضويتها ويحملون هويتها ؟! . أما إذا كانت – وهذا هو واقع الحال - تستخدم هذه الصفة (الصحافة / الثقافة) لإغراض تتعلق بتعزيز الروابط والتضامنيات العصبية (الاثنية والقبلية والطائفية) من جهة، وتعظيم المكاسب الاقتصادية والمنافع السياسية والمآرب الإيديولوجية للقائمين على إدارتها من جهة أخرى . فهي، والحالة هذه، تبدو بحاجة ماسة وعاجلة لعمليات إصلاح جذرية وشاملة، ليس فقط على صعيد قوانينها الجائرة وانظمتها البالية التي تتسبب بحرمان العديد من الأساتذة والمثقفين من حقهم في التمتع بعضويتها، بحجة كونهم لا يعملون في أحدى المؤسسات الصحفية والإعلامية كما يشترط القيمين عليها فحسب، وإنما على صعيد رؤوس كوادرها وطواقمها المسؤولة فيها، والذين استحال معظمهم بالتقادم الى (مومياءات) متحجرة لم تعد صالحة لإدارة شؤون هذا المرفق الثقافي الحيوي والحساس .   

والحقيقة ان المعطيات الواقعية التي لمسناها خلال مراجعاتنا المتكررة لهذه المؤسسة المتداعية إداريا"والمتآكلة ثقافيا"، فضلا"عن تعاملنا مع بعض كوادرها الإدارية المسؤولة – بمن فيهم النقيب شخصيا"- تنفي بالمطلق أية علاقة لهؤلاء (الدينصورات) بعلاقات وتواضعات وتصورات تتسم بالثقافة والفكر أو حتى بالإنسانية . فعلى مدى سنة وأربعة أشهر – ولحد الآن لم يبت بفحوى الطلب - راجعت هذه النقابة لأكثر من عشر مرات على أمل البتّ بطلب تسوية موضوع (ترقين) قيد عضويتي فيها بسبب انقطاعي عن المراجعات الدورية التي اشترطتها هذه النقابة لديمومة العضوية فيها . حيث لمست لدى المعنيين بهذه القضية ليس فقط قلة الاكتراث والاستهانة بهذا الموضوع، فضلا"عن انعدام الرغبة في تقديم أية مساعدة قد تحتاجها هذه العملية (المعقدة) لإنهاء معاناة المراجعات المستمرة دون طائل فحسب، وإنما وجود حالة غريبة من مشاعر (التطيّر) و(الامتعاض) كلما حاولت – كباحث - أن استعين برصيدي الثقافي والفكري من الدراسات والمؤلفات، على أمل كسر تلك الحواجز النفسية التي لا يفتأ أصحاب الشأن في النقابة من إقامتها والتحصن خلفها، للحيلولة دون تحقيق رغبتي المشروعة والاستجابة لمضمون الطلب .

وبدلا"من أن يكون لقائي الشخصي وحواري المباشر مع السيد نقيب الصحفيين الأستاذ (مؤيد اللامي) مدخلا"لتجاوز تلك الأجواء من البيروقراطية الخانقة التي يعمل في كنفها المسؤولين في هذه النقابة، إلاّ إني قد صدمت من طغيان مظاهر الجفاف والجفاء التي أبدها نحوي السيد (النقيب) كما لو أن بيني وبينه (عداء) تاريخي، للحدّ الذي لم يستطع معها مغالبة رغبته في إلغاء عملية التواصل الإنساني وقطع الحديث الحواري بيننا، هذا مع الاستمرار بإشاحة وجهه عن مواجهتي المباشرة بحيث لا يحصل بيننا أي لقاء بصري متقابل . وكلما حاولت التخفيف من حدة ممانعاته وشدة اعتراضاته إزاء إلغاء قرار (ترقين) قيد عضويتي في النقابة باللجوء الى تذكيره كوني أحمل صفة (باحث) من جانب، ومستعينا"بعدد المؤلفات والدراسات والمقالات التي أنجزتها سواء في الصحافة المحلية أو مواقع التواصل الاجتماعي من جانب ثان . كلما استفزته طريقة احتجاجي بالمسوّغ (الفكري – الثقافي) المدعمة بالمعطيات والمعلومات الكفيلة باستحقاقي نيل العضوية (الصحفية)، خلافا"للكثير ممن تحصلوا على تلك العضوية دون أن تكون لهم أية إسهامات فكرية أو ثقافية بالمرة، اللهم باستثناء كونهم يعملون في بعض المؤسسات الإعلامية – ومنها نقابة الصحفيين ذاتها - كإداريين أو مصورين أو سواقين أو عمال خدمة ! . ومن باب الأمانة، فان 80% من حاملي عضوية نقابة (الصحفيين) – خصوصا"أولئك الذين تحصلوا عليها بعد عام 2003 - لا يستطيعون كتابة جملة مفيدة في أمور الثقافة العامة، ناهيك عن الخوض في غمار العلوم الاجتماعية والإنسانية التي لا يستحق (الصحفي) حيازة هذه الصفة دون الإلمام بها والتمكن منها ! .

وحيث لم يجد (نقيب الصحفيين) عذرا"أو مبررا"للتخلص من إلحاحي والتملص من إصراري للمطالبة ببيان موقفه والتصريح عن رأيه، فقد عمد الى التمسك بدعوته لي بالذهاب الى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين لإيجاد ضالتي هناك، معتقدا"- ربما - انه المكان الأنسب لانخراطي في عضويته والحصول على هويته، بدلا"من (اللاجدوى) التي أعلل نفسي بآمال بلوغها لدى نقابة الصحفيين المنيعة، وكأن هذه النقابة - كما أشرنا الى ذلك - غير معنية بأية أنشطة وفعاليات ذات طابع فكري وثقافي تبرر لي حق الانضمام لعضويتها والمطالبة بهويتها، بقدر ما باتت مقتصرة على منح الهويات وتوزيع الامتيازات لكل من هب ودب، ليس بناء على (الكفاءة) العلمية و(الجدارة) المعرفية (المهارة) الثقافية، وإنما بناء على ما تدره المجاملات الشخصية، والعلاقات الفئوية، والصفقات السياسية من مكاسب اقتصادية مبطنة ومآرب إيديولوجية مضمرة .    

وفي إطار الذكرى الخامسة والخمسون بعد المئة لميلاد الصحافة العراقية، بات من الضرورة بمكان أن يصار الى وضع هذه المؤسسة المتهالكة (ككيان وأشخاص) ضمن قائمة أولويات الجهات الحكومية المسؤولة عن برامج الإصلاح الاجتماعي والإنماء الاقتصادية والاستقرار السياسي، كمشروع وطني وحضاري أذن أوان إصلاحه جذريا"دون إبطاء أو تكاسل . ذلك لأن تغيير بنى المجتمع وتطوير أنماط وعيه لا يمكن حصد بيدرها وجني ثمارها إلاّ بالشروع أولا"من المؤسسات التعليمية / التربوية، قبل المؤسسات السياسية / السلطوية، والمؤسسات الفكرية / الثقافية قبل المؤسسات الاقتصادية / التجارية، والمؤسسات المعرفية / العلمية قبل المؤسسات الصناعية والزراعية . حيث تعتبر الأولى بمثابة الأسس والمرتكزات، في حين تعتبر الثانية بمثابة الهياكل والمنشآت .

***

ثامر عباس – باحث عراقي

لا تُعنى هذه السطور بهجاء سلمان رشدي الشخص، بقدر ما تعنى بهجاء زمنٍ تافهٍ، غيَّبَ كل القيَم والأخلاق.. رغم كل ذلك يظل رشدي ينعقُ معزولاً خارج موجة التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني ونضاله العادل.. التي إنضمت إليها كوكبة من الأدباء وكبار الفنانين، حتى من داخل"عرين" هوليود.. !

..........................

+".. لقد تغيَّرَ زمن الحق والقيم.. وعند غياب القيم والمبايء الإنسانية يطفو الفسادُ المبرمجُ، ذوقاً وأخلاقاً وقيماً.. إنه الزمن الهابط.. "(آلان دُنو)

+".. العالم لن يفنى بالقنبلة النووية، بل بسبب الإبتذال والإفراط في التفاهة، التي ستحوِّلُ الواقعَ الى نكتةٍ سخيفة.. "(كارلوس زافون)

+".. أكبر خطأ في الحياة، أنْ تتنازل عن مبادئك.. " (غاندي)

+".. إنَّ التفاهة وحدها، سادتي، هي التي تجني الأرباح هذه الأيام.. " (نيتشه)

(2)

مفهومٌ أنْ تجري تَغيُّرات على قناعات الناس في العيش الواعي.. لكن من الشائن أنْ يبصقَ المرء في البئر الذي شربَ ويشربُ الآخرون منه.. !

كيف إنقلب هذا اليساري إلى أحد دعاة اليمين؟!

سلمان رشدي ليس أول من إنقلب ولن يكون آخرهم ! فقد إنقلب الزمن، والقيم تدحرجت والأخلاق إنهارت. فرأينا وسنرى أعداداً أُخرى من المثقفين يهجرون نصوصاً كتبوها وأعمالاً أبدعوها، وقناعات كانت لهم،كي يلتحقوا بركب اليمين الصاعد والحكام المستبدين.

عَجَبي كيف يستطيع مثقف أمريكي أو بريطاني أن يُديرَ ظهره، بل ويهاجمَ أخيارَ العالم ومثقفيه وحركة الطلبة التي اندفعت لتأييده حين ألمَّت به مصيبة التحريم و"فتوى إباحة دمه" عام 1989.. فوجد نفسه بعدها وحيداً؟!

كان الخيار بين الشجاعة والأخلاق من جهة، والالتحاق بالسلطة وأدواتها من جهة أخرى..

ما فعله سلمان رشدي في إنقلابه المتدحرج نحو تأييد إسرائيل كان إنحيازاً للسلطة، وتخلّياً عن رفاقه القدماء، لأنهم ما عادوا ينفعونه شخصياً !

هل كان هذا الخيار مختبئاً في شخصية الرجل، أم أنه نبع فجأة؟

لا أؤمن بأفكار تنبع فجأة. فالرجل البرجوازي عاد إلى أصوله وانتفض ضد فلسطين كي يحمي نفسه من الخطر الصهيوني. فسقط في الخطيئة التي لا مخرج منها..

هل يمكن مقارنة «طالبان» بالمقاومين الفلسطينيين في غزة؟

هل يمكن مقارنة من يقاتل منذ ثمانية أشهر وظهرهم إلى الحائط وجثثهم مرمية في الشوارع، بعصابات المجرمين

- القاعدة و داعش- التي اقتاتت على الإسلام، لكنها ليست سوى أداة قتل وتدمير وموت؟

بيدَ أن رشدي وأضرابه من المثقفين لا يأبهون بمثل هذه الأسئلة، فهم مشغولون بلعبة المال والسلطة والنجومية. وكل ما عدا ذلك، لا قيمة له ! (إلياس خوري)

لذلك تراهم انقلبوا بخفة وخلعوا ثيابهم القديمة ليجدوا أنفسهم عراة ومكروهين ولا أحبة لهم سوى الحكومات الدكتاتورية في الغرب وإعلامها المناصر للصهيونية..

إنَّ "الوعود الكبرى" لن تتحقّقْ، وستبقى طوال حياتنا دون تحقُّق.. ستظل مشروعاً لنضال طويل الأمد، قد تحلُّ في مجراه خيبات كبرى. لكن هذا ليس نفياً لتلك الوعود، فــ "الوعد والخلاص" لم يصلا، إنهما في الطريق " فقط"!

"حتى إنْ تداعى الجسد، تبقى الإرادةُ حرّةً "، هكذا قال الشاعر الألماني إيريش مُيزام، الذي إغتاله النازيون في معسكر أورانينبورغ. إنها الحرية التي تتسامى على كل المسوّغات والتبريرات اللاحقة لكل فشل سياسي. دائماً ثمة تبريرات : "الوضع السياسي العالمي، النظام (النظام مسؤول دائماً !)" وبالتالي فأن كل إنسان يريد النجاة بالتأقلم مع ضغوط التكيُّف ! ضغوطٌ، يمكن فهمها ! لكن دون نسيان ميلِ الأفراد نحو الإمتثال والطاعة !

إذا كان الأمر كذلك، فهل أن الإرادة حرةٌ حقا بداخل كل فرد؟!

هي جملة لا تُقال لما هو لاحقٌ، مَضَى، إنما تُعنى أساساً بالحاضر.. بما هو واقع.. ففي عالم يفور بــ"العجائب" ترتبك كل الحقائق التي كانت تبدو ثابتة ! فالتحلّي بالشجاعة بعد فوات الأوان، ما هو إلاّ بداية لـ" تطامنٍ وطاعة" جديدين مع الواقع المُعطى ! فتحت هذا "التبرير"يرتكبونَ الخيانة والنذالة بكامل "قيافتهم"!

(3)

+.. " مصيبة عصرنا في إبتذاله ولا شاعريته"، كما قال هيغل.

+.. مَنْ ينبُشُ فينا ما ترسَّبَ مٍنْ صمتٍ، عَجَزنا عن قوله ؟!

في هذا الموضع أستعيدُ من الذاكرة، ما أحسبه يتناسب مع حضور أو غياب القيم..

رالف غوردانو 1923 - 2014 ، الذي أمضى سنوات الحرب العالمية الثانية مع والديه في قبو

(سرداب) عند عائلة بهامبورغ، أخفتهم عن عيون الغستابو والنازيين. بعد نهاية الحرب، قرَّرَ وهو شاب في أواسط العشرينات، أنْ يثأر من النازية بالإنتقال إلى الشطر الشرقي من ألمانيا- تحت السيطرة السوفيتة بعد التحرير.. إنتمى للحزب الشيوعي، درس في معهد الأداب بمدينة لايبزك، الذي تحوَّل إسمه بعد سنوات إلى – معهد يوهانَّس أر بَشَر- ثم دخل المدرسة الحزبية العليا، لتأهيل الكوادر، قيلَ عنه كان مُغرماً بستالين، وهو أمرٌ مألوفٌ حينها.. !

ستبدأ الحرب الباردة بين المعسكرين، ويتأسس حلف الناتو بحجة حماية الغرب من الخطر الشيوعي، وحلف وارشو بعد ذلك.. تمضي السنون على مهلٍ أو عَجَلٍ، سيصبح رالف غوردانو صحفياً وكاتباً معروفاً.. حتى يحلُّ عام 1964 فيهرب إلى ألمانيا الغربية ويجري الترحيب به كمنشق عن النظام الشيوعي في الشرق.. وسيقام له حفل إستقبال في إحدى القاعات الكبرى بجامعة كولونيا.

كانت القاعة تغص بالحضور الرسمي وممثلي الإعلام.. بدأ غوردانو حديثه بهجاء الشيوعية والنظام في ألمانيا الشرقية.. إلخ حتى نهضت من بين الحضور سيدةٌ مُسنة قالت، مشيرة بأصبعها إلى غوردانو :" هّذا، الذي أمامكم هو إبني، أنا أتبرّأ منه لأنه بَصَقَ في الصحنِ الذي أكلَ منه.. !"

..................

لستُ أدري ولا قدرةَ لي على وصف مشاعره وحالته النفسية، ساعةَ رؤيته أُمّه، التي لم يرها منذ قرابة عشر سنوات، وسط القاعة تُعلنُ براءتها منه.. في تناصٍ مع قصيدة مظفر النواب الشهيرة – براءة - !!

مثالٌ آخر، غير بعيدٍ عن الموضوع. أواسط الستينات من القرن المنصرم،كان الجدلُ بين اليمين واليسار محتدماً في ألمانيا الغربية، كما في غيرها من بلدان الغرب. لم يكن "الزواج الكاثوليكي" بين المؤسسة الحاكمة وسلطة الإعلام، مُمثلةً بإحتكار "شبرنغر" قد تمَّ، في إطار التنافس بين المعسكرين، مما إنعكس، محسوباً بدقة في مجال الإعلام !

في تلك الأجواء كانت صحيفة " بِلْدْ" – الصادرة عن إحتكار "شبرنغر" معروفة، ولمّا تزَلْ بشعبويتها وإبتذالها وكانت آنذاك سُبَّةً عند اليساريين والمثقفين – حتى المحافظين منهم -..

في تلك الأجواء، بثَّت إحدى قنوات التلفزوين حواراً جدلياً بين محافظ ويساري، وجَّه فيه الأخير

لزميله في المحاورة تهمة ترديد ما تنشره الصحافة الصفراء - صحيفة"بِلْدْ"- ! وكانت تلك في حينها بمثابة"تجريحٍ"، رَفَعَ فيها المعني دعوى قضائية ضد اليساري بحجة "القذف والتجريح الشخصي".. فما كان من المحكمة إلاّ أن حكمتْ لصالحه ضد اليساري.. !

هكذا يوم لم يكن الإعلام الإحتكاري قد تغوَّل مثلما هو الآن مع اللبرالية الجديدة، وإنصهاره التام مع رأس المال المالي وصنّاع القرار في مُجمَّع الصناعات الحربية.. مما أفضى إلى تسطيح وتسليع كل شيء.. بما في ذلك الآداب والفنون، حسب أدورنو.. ولم تعد هناك قيمٌ جماعية، إلاّ إعلاء شأن "الفردانية"وملحقاتها القيمية المبتذلة .. !

***

يحيى علوان

..........................

* الموريسكيون باللغة القشتالية هم مسلموالأندلس الذين أجبروا على الرحيل من بلادهم إلى دول المغرب الكبير بعد أن سيطر الإسبان على شبه الجزيرة الأيبيرية، فبدأ طرد العرب من الأندلس اعتبارا من عام 1609م بقرار من الملك الإسباني فيلبي الثالث. سلمان رشدي يقول أنَّ أصل عائلته يعود الى المورسيكيين، قبل أن ترحل الى الهند.

ومفاجأة حزب العمل الماركسي البلجيكي!

حقق اليسار في عدد من بلدان شمالي القارة الأوروبية مكاسب ملحوظة فيما تراجع اليمين المتطرف؛ ففي فنلندا، حقق حزب “تحالف اليسار” تقدما بحصده 17,3% من الأصوات، أي أكثر بأربع نقاط مقارنة بانتخابات عام 2019. وقالت زعيمة “تحالف اليسار” لي أندرسون "لم أكن أحلم قط بمثل هذه الأرقام". بالتالي، سيحصل الحزب على ثلاثة مقاعد من أصل 15 مخصصة لفنلندا في البرلمان الأوروبي، مقارنة بمقعد واحد فقط خلال الانتخابات السابقة. وتراجعت شعبية "حزب الفنلنديين" اليميني المتطرف المشارك في الائتلاف الحكومي، بحصوله على 7,6% من الأصوات، أي بانخفاض قدره 6,2%، ولن يحصل إلا على مقعد واحد.

* وفي السويد، حقق حزب الخضر المعتبر يساريا تقدما بحصوله على 15,7% من الأصوات، بزيادة قدرها 4,2 نقطة، وفق استطلاع لآراء الناخبين لدى خروجهم من مراكز الاقتراع. وفي السويد أيضا تقدم “حزب اليسار” (+4 نقاط إلى 10,7%)، بينما سجل اليمين المتطرف الذي يمثله “حزب ديموقراطيي السويد” تراجعا بمقدار 1,4 نقطة إلى 13,9%.، وحافظ الاشتراكيون الديموقراطيون على موقعهم في المقدمة بنسبة 23,1%.

* وفي الدنمارك، حيث المشهد السياسي مجزأ للغاية، احتل الحزب الشعبي الاشتراكي الصدارة وحقق تقدما ملحوظا بحصوله على 18,4% من الأصوات، بزيادة قدرها 5,2% مقارنة بعام 2019، وفق استطلاع لآراء الناخبين عند خروجهم من مراكز الاقتراع أجراه التلفزيون العام “دي آر”. وتراجع الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي يقود الائتلاف الحكومي إلى 15,4%. ومن المتوقع أن يفوز كل من الحزبين بثلاثة مقاعد من أصل 15 مقعدا في الدنمارك

* وتنفرد النمسا من بلدان الشمال في أن اليمين المتطرف فيها معبرا عنه في حزب الحرية "إف بي أو" اليميني المتطرف حصد 25,7% من الأصوات في أول انتصار له في تصويت وطني، قافزا بذلك من ثلاثة مقاعد في انتخابات عام 2019، إلى أضعاف هذا العدد في هذه الانتخابات.

* أما في بلجيكا عاصمة الاتحاد الأوروبي فقد خسر حزب رئيس الوزراء الليبرالي ألكسندر دي كرو بحصوله على 5.9% من الأصوات فقط في الانتخابات الفيدرالية فقدم استقالته إلى الملك. وعلى الصعيد الوطني، حصلت أكبر كتلة برلمانية هي كتلة «التحالف الفلمنكي الجديد» على 24 مقعداً، بخسارة مقعد واحد، تليها مباشرة كتلة الفلمنكيين القوميين اليمينية، التي حصلت على مقعدين إضافيين. تماماً مثل حركة الإصلاح الليبرالية اليمينية، بزيادة ستة مقاعد، وأصبح لدى اليمين المتطرف الآن 20 مقعدًا. وحقق الاجتماعيون المسيحيون أكبر زيادة بحصولهم على 14 مقعدا، مقابل 5 سابقا.

* المفاجأة الكبيرة جاءت من حزب العمل الماركسي البلجيكي بزعامة راؤول هيديبو  حيث حصد 15 مقعدا، بزيادة 3 مقاعد على الانتخابات السابقة. وفي برلمان منطقة الفلمنك، حصل على 9 مقاعد، مقابل 4 مقاعد سابقا. أما في انتخابات البرلمان الأوروبي فأصبح حزب العمل أقوى حزب يساري في بلجيكا، بحصوله على 10,7 في المائة من مجموع الأصوات. وحقق الحزب في العاصمة الفلمنكية أنتويرب مفاجأة بحصوله على قرابة 22 في المائة، حتى أصبح ثاني أقوى حزب، متقدماً بفارق كبير عن القوميين الفلمنكيين اليمينيين المتطرفين، وصرح أحد قادة الحزب ورئيس كتلته البرلمانية، خوسيه ديسي: "انها نتيجة مذهلة". وكان هذا الحزب قد حقق انغراسا وانتشارا جماهيريا كبيرا في أوساط الشباب والنساء والمتقاعدين ونظم عدة حملات استطلاعية وتثقيفية بين صفوف الناس في المصانع والموانئ والمحلات السكنية وعلى شبكات التواصل الاجتماعية وقدم مثالا مذهلا للقيادات اليسارية الذكية والتي تجترح المعجزات. وقد تمكن هذا الحزب من التحول من حزب ماركسي صغير لم تتجاوز عضويته 800 عضو في عام 2003، إلى حزب يضم أكثر من 25 ألف رفيقة ورفيق/ للمزيد - رابط مقالة حول نشاطات هذا الحزب في نهاية هذه المقالة لرشيد غويلب.

* وفي إيطاليا حقق اليمين المتطرف الحاكم تقدما ملموسا وتصدّر فراتيلي ديتاليا (أخوّة إيطاليا) النتائج محققا 28,8% من الأصوات متقدما على نسبته السابقة بأكثر من 2 بالمئة.

* أما في هنغاريا حيث يحكم حزب اليمين المتطرف "فيدس" بزعامة أوربان فقد احتفظ بالصدارة ولكنه سجل تراجعا صغيرا في أصواته حيث حصد بنسبة 4ر44%، فيما حصل الحزب الجديد /الاحترام والحرية/ أو "تيسا"، الذي شكله حليف أوربان السابق بيتر ماجيار، على 8ر29% في أول اختبار له في الاقتراع.

* في فرنسا حققت أحزاب اليمين المتطرف مجتمعة نسبة تقترب من أربعين بالمائة أما حزب الرئيس ماكرون فقد فشل فشلا ذريعا حيث حصل على أقل من 15% وهو أقل من نصف ما حصل عليه حزب اليمين المتطرف "التجمع الوطني الفرنسي" الذي نال 32% من الأصوات.

* وإثر ذلك قرر ماكرون حل البرلمان وإجراء انتخابات سريعة خلال عشرين يوما مع إعلانه إنه لن يستقيل من الرئاسة حتى إذا لم يفز حزبه في الانتخابات القادمة، محاولا ابتزاز الناخبين بوضعهم بين خيارين: انتخاب حزبه أو اليمين المتطرف في ظل تراجع نسبة اليسار مجتمعا غير أن الانتخابات الفرنسية عودتنا على ما يسمى السد الانتخابي الطارئ (Barrage électoral d’urgence) الذي تلجأ إليه أحزاب يمين الوسط واليسار ويسار الوسط لمنع اليمين المتطرف من الفوز بالرئاسة، ولكن هل سيتمكن هذا السد من منع اليمين المتطرف من الفوز بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات تشريعية؟ لن يكون الجواب على هذا السؤال بالإيجاب سهلا، فاليسار يتكتل وقد حققت بعض أطرافه تقدما مفاجئا كالحزب الاشتراكي الذي احتل المرتبة الثالثة بأقل من 14 بالمئة من الأصوات يليه حزب اليسار "فرنسا الأبية" بزعامة ميلونشون والذي يصفه الإعلام البرجوازي باليساري المتطرف على سبيل التهويل والمبالغة بأقل من عشرة بالمئة، والنسبتان أفضل من الانتخابات السابقة للحزبين ولكنها ليست كافية حتى الآن للوقوف بوجه اليمين المتطرف ويمين الوسط معا، ولكن هناك تعويل على كاريزما الزعيم اليساري ميلونشون وقيادته المبدئية والمعروفة بتضامنها القوي مع الشعب الفلسطيني، وعلى قاعدة الحزب الاشتراكي التي بدأت تضغط باتجاه تشكيل تحالف يساري جذري على نمط تحالف الجبهة الشعبية سنة 1936 بين الحزب الشيوعي الفرنسي والحزب الراديكالي الفرنسي، أو حتى تحالف اليسار سنة 1981 في عهد ميتران بين الاشتراكي والشيوعي.

* إن نجاح قوى اليسار الفرنسي في كبح اليمين واليمين المتطرف وكذلك الوصول إلى تشكيل الحكومة بوجود ماكرون رغم ضيق فترة المعركة الانتخابية وهو تضييق مقصود من قبل ماكرون ولكن انتصار اليسار سيكون صعبا ولكنه ممكن إذا تشكل تحالف مكين ببرنامج شامل وجذري وبتخلي قيادات الاشتراكي العريقة في الانتهازية السياسية عن ألاعيبها. جدير بالذكر ان نسبة مقاطعة الانتخابات الأوروبية كانت مرتفعة وتجاوزت نصف الكتلة الناخبة (سجلت نسبة مشاركة بلغت 45 بالمئة) ومعروف أن انخفاض نسبة المشاركة تصب دائما في مصلحة اليمين أما ارتفاعها فسيكون لمصلحة اليسار وقد يحمله إلى الحكم بسهولة وهذا الاحتمال هو ما يرعب الأنظمة الرأسمالية الأوروبية فتحاول دائما خفض نسبة المشاركة بشتى الوسائل وفي مقدمتها تقصير فترة الحملة الانتخابية كما فعل ماكرون وجعل مدتها عشرين يوما فقط (وثلاثة أيام لوضع برنامجها للحكم) كما قال ميلونشون اليوم 13.6.2024.

* أما المرشح الرئاسي عن اليمين المتطرف إريك زمور، فقد واصل بث تصريحاته العنصرية، في محاولة منه لكسب تأييد المزيد من المتطرفين في الانتخابات المقبلة. واستهدف زمور هذه المرة المساجد والأذان، في تصريحات على إحدى القنوات الفرنسية، حيث قال: “لا أريد أن أسمع صوت المؤذن في فرنسا ولن أسمعه إذا أصبحت رئيسًا للجمهورية”.

* أما في ألمانيا فقد حصل يمين الوسط أي التحالف المسيحي (المكون من الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي البافاري) على 30% من الأصوات. وحقق حزب اليمين المتطرف سليل النازية "البديل من أجل ألمانيا" على 15.9 في المئة من الأصوات، مسجلا تقدما بنسبة 11% في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019.

* وقد تراجع حزب المستشار شولتس "الحزب الاشتراكي الديمقراطي" تراجعا كبيرا وحلَّ في المرتبة الثالثة بحصوله على 13.9 في المئة، ليسجل أسوأ أداء في انتخابات ديمقراطية على مستوى ألمانيا منذ أكثر من قرن لتيار يسار الوسط. وحل حزب الخضر اليساري في المرتبة الرابعة بحصوله على 11.9 في المئة متراجعا من 20.5 التي سجلها في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019.

المفاجأة جاءت من تقدم أحد أحزاب اليسار الجديد والذي يسمى "تحالف سارة فاجنكنشت – العقل والعدالة" وهو حزب يساري شعبوي صغير انشق عن حزب اليسار السياسي الألماني (Die Linke) بمبادرة من سارة فاجنكنشت وأميرة محمد علي احتجاجا على تزويد أوكرانيا بالأسلحة. وفقاً لاستطلاعات الرأي المختلفة قبل الانتخابات، نال الحزب ما بين 12 و20 بالمائة (تصل إلى 32% في شرق ألمانيا)، ولكن الحزب حصل على أكثر من ستة في المئة من الأصوات وهي بداية جيدة رغم إنها تقل كثيرا عما أعلن في الاستطلاعات.

* الخلاصة هي أن أوروبا ليست جديدة على اليمين المتطرف وهناك بلدان يحكمهما اليوم اليمين القومي المتطرف كإيطاليا وهنغاريا. وهناك تجربة دموية هائلة لحكم اليمين المتطرف النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا، والخلاصة هي أن أوروبا ليست جديدة على اليمين المتطرف ولا هو جديد عليها غير أن أوروبا العجوز ذاتها تتوفر على تجربة كفاحية ضخمة لليسار والقوى الديموقراطية المناهضة لليمين المتطرف من أحزاب وقوى ديموقراطية جذرية واشتراكية وشيوعية وبيئية "خضراء" يمكنها النهوض والتوحد في مواجهة هذا اليمين الصاعد وإنقاذ أوروبا والعالم من شروره. ومن اللافت أن اليمين الأوروبي المتطرف في أيامنا قد غير من قشرته وتحالفاته حيث نرى تقاربا بل وتحالفا بينه وبين الحركة الصهيونية ودولتها العنصرية التي تمارس الإبادة الجماعية منذ تسعة أشهر بحق الشعب الفلسطيني فيما يحافظ اليسار الجذري الأوروبي وخاصة في فرنسا على مبادئه في الدفاع عن الفلسطينيين ومناهضة العنصرية الصهيونية.

وأخيرا أشار تقرير إحصائي إلى أن مجموعات الحزب الشعبي الأوروبي (يمين) مع الاشتراكيين والديموقراطيين و"تجديد أوروبا" (وسطيون وليبراليون)، مجتمعة، احتفظوا بالغالبية في البرلمان الأوروبي، رغم تقدّم كبير لقوى اليمين المتطرّف، على ما أظهرت تقديرات نشرها البرلمان، الأحد.

ومع 181 مقعداً متوقّعاً للحزب الشعبي الأوروبي، و135 للاشتراكيين والديموقراطيين، و82 لـ "تجديد أوروبا"، تشكّل هذه الأحزاب "الائتلاف الكبير" الذي ستحصل في إطاره التسويات في البرلمان الأوروبي، مع جمعها 398 مقعداً من أصل 720. وهذا يعني أن وصول اليمين المتطرف إلى الرئاسة أو إلى اللجان النيابية المهمة في البرلمان الأوروبي صعب جدا بل وشبه مستحيل في مواجهة هذه الأغلبية من اليسار ويسار الوسط واليمين ويمين الوسط.

***

علاء اللامي

....................

* رابط مقالة بقلم رشيد غويلب للتوثيق: على الرغم من تصدّر اليمين / حزب العمل البلجيكي يواصل نجاحاته

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=832786

 

إن نسيت فلا أنسى اعتراض صاحب سيارة الأجرة، المنطلقة مِن عدن إلى صنعاء(1991)، والعادة تُسجل أسماء المسافرين، خشية السُّقوط مِن الجبال في الوديان، على أحد الرُّكاب وقد كتب «الدُّكتور» فلان. اعترض قائلاً: «يا أخي نحن رُكاب لا محامون ولا دكاترة»! خجل صاحبنا، وترك استخدام (الدّكتور) في غير موقعها، وظل شاكراً ذلك الفضل، وذلك التّعليم، فالحياة مدرسة، والبسطاء المعلمون. ظل صاحب (الدَّال) كلما تذكر الموقف قال: «أدبني فأحسن تأديبي».

كان ذلك مستهلاً للحديث عما نسمع عبر الفضائيات، والجرائد والمجلات، والأكثر في مواقع الإنترنيت، بضجة الألقاب العلمية والأدبيَّة، منها ما يرميه مقدم البرنامج مِن لقب «الدّكتور» و«المفكر»، و«الفيلسوف»، على الضّيف المتحدث، وترى الغالب منهم يلبس اللّقب، وإن كان ليس له حقٌّ به، ومنهم وهم النّدرة النَّادرة يحاول التّصحيح، تحلياً بالموضوعيَّة.

تأخذك الدّهشة عندما تجد لقب مركب «المفكر الفيلسوف»، أو «المفكر الكبير»، و«الخبير الاستراتيجيّ»، و«البروفيسور الدُّكتور»، و«الدُّكتور الشّاعر»، أو «العالم الرّبانيّ»، بما يخص رجال الدّين إلى آخر ما يخدش الآذان مِن ألقاب لأناس ليسوا أهلاً لها. كيف مَن ليس لديه شهادة ثانوية يُضفي عليه لقب الدكتور المفكر، وإذا كان دكتوراً في علم ما، فلا بد أنه يُفكر، وإذا كان مفكراً فلماذا الكبير؟ قد يكون ذلك، لكنها ألقاب علميّة، لا شأن لها في الحياة الاجتماعيَّة، إلا لطلب التّعظيم، بينما عظماء البشر لم يُعرفوا إلا بأسمائهم.

بدأ فيض الألقاب، خارج الاستحقاق، مع ظهور الجرائد والمجلات، فالبرامج الإذاعية والتلفزيونيَّة، مِن قِبل عصبة مِن الأدعياء، أشار إليهم الجواهريّ(ت: 1997)، وهو يتذكر أبا العلاء المعريّ(ت: 449ه): «تَصَّيدُ الجاهَ والألقابَ ناسيةً/ بأنَّ في فكرةٍ قُدسيَّةٍ لقبا»(قف بالمعرة: 1944).

كتب أمين باشا معلوف(ت: 1943) ناقداً فوضى الألقاب: «قلما تذكر مجلاتنا وجرائدنا شخصاً إلا (و) نعته بمثل قوله: العالم العلاّمة، والشَّاعر المجيد، والكاتب المتفنن، والقاضي العادل، والباحث المدقق، وفيلسوف الإسلام، والجهبذ، والألمعي... اقترح اجتناب هذه النُّعوت»(مجلة المقتطف 1911).

كذلك كتب محمد كرد علي(ت: 1953): «شاهدنا ما يُضحك من تحكم أرباب الصُّحف السَّيارة، في الألقاب العلمية، حتَّى آل الأمر ببعض الفضلاء أن يستنكفوا من ذكر أسمائهم بين أناس لا يلحقون غبارهم... وهكذا لفظ الأستاذ والمعلم والفاضل، وهذه اللفظة اليوم تُطلق على تسعة أعشار مَنْ يقرؤون ويكتبون»(مجلة المقتبس 1913).

أصبحت ألقاب: العالم الخبير، والمفكر الكبير، والعلامة، وغيرها سائرة سائدة في الثَّقافة، تعبر عن الهوس في طلب الألقاب، كتب علي جواد الطَّاهر(ت: 1996)، ناصحاً: «في تراثنا لا تخدم الشَّاعر صفة العالم، ولا تخدم العالم والعلامة صفة الشَّاعر... والدكتور لا تخدمك شاعراً...»(الباب الضّيق).

أمَّا الشيخ محمد جواد مغنّية(ت: 1979) فاختص بألقاب أقرانه، التي أخذت تُطلق على كل معتمر العِمامة، قال: «كهذا الشَّيخ الذي كتب بالقلم العريض، على ما جمع وطبع، تصنيف فلك الفقاهة، قلم التحقيق والنَّباهة، شيخ الطَّائفة، قدوة مجتهدي الفرقة المحقة، نائب الإمام، باب الأحكام، غياث المسلمين، حجة الإسلام، آية الله...» (تجارب محمَّد جواد مَغنية).

يحتاج اللّقب إلى صيانة، فوضع (الدَّال) قبل الاسم، لا يرفع الشَّأن، أو تقديم اللقب في التّعارف، لا يكبر حامله به، إذا لم يُصن باستدامة المعرفة.

أقول: رفقاً بالألقاب، فلا أجدها ابتذلت مثلما اليوم. هذا، ولمحمود باشا سامي الباروديّ(ت: 1904) قولٌ عندما جُرد مِن ألقابه وحُكم عليه بالإعدام ثم المؤبد(1883): «مَنَحْتُكَ أَلْقَابَ الْعُلا فَادْعُنِي بِاسْمِي/ فَمَا تَخْفِضُ الأَلْقَابُ حُرّاً وَلا تُسْمِي». تواضعوا، فالعلم عطاء لا باللّقب ثناء، لا الفارابي ولا الكندي ولا داروين ولا ديكارت، ولا بُناة المدن والحواضر، اعتزوا بغير أسمائهم وإنجازهم.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

جاء قانون العطلات الرسمية الذي صوت عليه البرلمان العراقي ( الأربعاء 22 ايار 2024) متضمنا المناسبات الدينية، وحذف مناسبات مهمة ومفصلية في تاريخ العراق والعراقيين، اهمها 14 تموز 1958 ..ذكرى سقوط النظام الملكي وتأسيس الجمهورية العراقية.

ومن جديده، أن البرلمان اقر اعتبار (عيد الغدير) عطلة رسمية .ومع ان امام سلطة الحق هو اكبر من ذلك، فانهم كانوا يعلمون ان اقراره يثير فتنة، ولا يكترثون ان في اقراره مفارقة مخجلة هي ان الأمام علي قال يوم تولى الخلافة " أتيتكم بجلبابي هذا وثوبي فان خرجت بغيرهما فأنا خائن"..فيما الذين يدّعون انهم احفاده واخلص شيعته صاروا اصحاب ملايين ومليارات وعقارات وشركات!..وافقروا 13 مليون عراقي، باعتراف وزارة التخطيط، معظمهم شيعة!

وكانت حجة البرلمانيين في الغاء (14 تموز) هو الابتعاد عن خلافات جدلية بين (الملكية والجمهورية).. ومع انهم هم انفسهم غير مقتنعين بهذه الحجة غير المنطقية، ويعرفون انها بالضد من مشاعر ملايين العراقيين، فانهم يعرفون ايضا ان الموضوع يتعلق بعبد الكريم قاسم تحديدا..ولأسباب سيكولوجية واخلاقية واعتبارية.. نكشفها في الآتي:

الضدّ في الحكم يظهر قبحه الضدّ

هذه حقيقة يثبتها تاريخ الثورات والانقلابات في العالم، فما ان يطاح بنظام فان الناس تقارن بين ايجابيات وسلبيات النظامين. وانا هنا لا اتحدث عن النظام الجمهوري الأول والنظام الديمقراطي بعد التغيير(2003) بل بين شخص عبد الكريم قاسم كرئيس وزراء وبين من تولوا الحكم..من حيث القيم والأخلاق وما يفترض أن يقدمه الرجل الأول في الدولة من خدمات للوطن والمواطنين .

لقد تابعت حكومات ما بعد التغيير من (2005) فلم اجد رئيس حكومة او رئيس حزب او كتلة يذكر عبد الكريم قاسم بخير، بل أن حكّام النظام الحالي في العراق لم يحيوا ذكرى استشهاد عبد الكريم قاسم في انقلاب شباط 1963 الدموي وكأن ذلك اليوم كان عاديا لم يقتل فيه آلاف العراقيين، ولم يحشر فيه المناضلون بقطار الموت، ولم يسجن فيه مئات الآلاف. والمفارقة أن الطائفيين يحيون ذكرى مناسبات تستمر (180) يوما ولا يحيون ذكرى يوما واحدا استشهد فيه قائد من اجل شعبه..فلماذا؟!

ان اي عراقي غير طائفي سيجيبك بسطر يغني عن مقال: (لأن سمو اخلاقه ونزاهته وخدمته لشعبه..تفضح فسادهم وانحطاط اخلاقهم وما سببوه للناس من بؤس وفواجع).

نعم. قد نختلف بخصوص عبد الكريم قاسم كونه عقلية عسكرية يعوزه النضج السياسي، ولك ان تدين شنّه الحرب على الكورد عام (61)، واستئثاره بالسلطة، ومعاداته لقوى عروبية وتقدمية وما حدث من مجازر في الموصل، واصطناعه حزبا شيوعيا بديلا للحزب الشيوعي العراقي الذي عاداه رغم انه ناصره حتى في يوم الانقلاب عليه (8 شباط 1963).ولك ان تحمّله ايضا مأساة ما حصل لأفراد العائلة المالكة، وتصف حركته بأنها كانت انقلابا وضعت العراق على سكة الأنقلابات.ولك ايضا أن تتغاضى عن انصافه الفقراء واطلاقه سراح المسجونين السياسيين وعودة المنفيين وفي مقدمتهم الملا مصطفى البرزاني الذي استقبله اهل البصرة بالأهازيج..ولكن، حتى أبغض اعدائه، لا يمكنهم أن يتهموا الرجل بالفساد والمحاصصة والطائفية والمحسوبية والمنسوبية..وتردي الأخلاق، مع أن قادة النظام الحالي رجال دين، وان رسالة النبي محمد كانت اخلاقية بالدرجة الاساسية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأن عليهم ان يقتدوا بمن خصه الله سبحانه بقوله(وانك لعلى خلق عظيم)..فيما عبد الكريم قاسم ليس له اهتمامات بالدين .فلم يطل لحية وما لبس عمامة.

وبمنطق سيكولوجيا الشخصية فان الأنسان يشعر بالنقص حين يكون الآخر افضل منه في صفة أو اكثر، وتشتد حدّة هذا النقص حين يكون هذا الانسان شخصية عامة او قائدا في السلطة.. ولهذا فأن من تولوا الحكم بعد 2003 يغيضهم جدا، ويشعرهم بالأزدراء حين يقارن العراقيون بينهم وبين عبد الكريم قاسم .فالرجل كان يمثل انموذج الحاكم القدوة من حيث نزاهته.فهو كان يعيش براتبه ولا يملك رصيدا في البنك، ولهذا لم يجرؤ في زمانه وزير او وكيله او مدير عام على اختلاس او قبول رشوة او التحايل على مقاولة.وما كان اهله او اقرباؤه يحظون بامتيازات، فشقيقه الأصغر كان نائب ضابط في الجيش العراقي، وبقي بتلك الرتبة طيلة مدة حكم أخيه عبد الكريم قاسم. وما كان للرجل قصر او بيت لرئيس الجمهورية، بل كان ينام على سرير عادي بغرفة في وزارة الدفاع. ولقد منحه العراقيون لقب(ابو الفقراء)..لأنه بنى مدينة الثورة لساكني الصرائف في منطقة الشاكرية، ومدنا اخرى في البصرة واكثر من 400 مدينة جديدة وعشرات المشاريع الاروائية، فيما حكّام الخضراء حولوا الوطن خرابا، وافقروا 11 مليون و 400 ألف عراقي بحسب وزير التخطيط في (2020)، وسرقوا 840 مليار دولارا بحسب (بومبيو)، وأن ما فيهم نظيف يد بشهادة مشعان الجبوري :(لا ابو عكال ولا ابو عمامه ولا الافندي ولا لجنة النزاهة..كلنا نبوك من القمة للقاعده) ..ووصف مرجعيتهم الدينية لهم بانهم في الفساد..حيتان !

ولهذا فهم يخشون احياء ذكراه لأن الناس ستعقد مقارنة بين ما صنعه من اعمارفي أربع سنوات وبين ما صنعوه من دمار وخراب في عشرين سنة!، وأخرى تخزيهم في اربعة اضعاف مدة حكمه!. فمعظم الذين جاءوا بعد التغيير كانوا لا يملكون ثمن تذكرة الطائرة، وصاروا يسكنون في قصور مرفهة ويتقاضون رواتب خيالية، وعزلوا انفسهم لوجستيا بمنطقة مساحتها (10) كم مربع محاطة بالكونكريت وبنقاط حراسة مشددة سرقت احلام العراقيين وجلبت لهم الفواجــع اليوميــة، وأوصلتهم الى اقسى حالات الجزع والأسى..ولهذا فهم ينؤون عنه..لأن المقارنة ستفضي بالناس الى احتقارهم.والمخجل ان كثيرين منهم صاروا محتقرين شعبيا، وآخرين صاروا سخرية في وسائل التواصل الأجتماعي..ولا يخجلون حتى من هتاف العراقيين (باسم الدين باكونه الحراميه!).

وحكّام الخضراء فعلوا من القبائح ما يجعلهم صغارا امام فضائل عبد الكريم قاسم..اقبحها أن الفساد في زمنه كان عارا فيما صيّره الطائفيون شطارة، واصبح العراق في زمنهم افسد دولة في المنطقة، حتى بلغ المنهوب من قبل وزراء ومسوؤلين كبار ما يعادل ميزانيات ست دول عربية مجتمعة!، وراحوا ينعمون بها في عواصم العالم دون مساءلة.

وصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزرارء والوزراء يعينون ابناءهم وبناتهم مستشارين لديهم..لا ليقدموا خبرة هم اصلا لا يمتلكونها، بل ليحصل من هو في العشرين من عمره على راتب يعادل اضعاف راتب استاذ جامعي..دكتور وبروفيسور..بلغ الستين!، فيما كان عبد الكريم قاسم يعتمد معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ومبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب في اغلب اختياراته..مثال ذلك:ابراهيم كبة (اقتصاد)، محمد حديد (مالية) فيصل السامر(ارشاد)هديب الحاج حمود (زراعة) ناجي طالب(شؤون اجتماعية)...نزيهة الدليمي(بلديات)..وهي اول وزيرة في تاريخ العراق.واختياره عقلا اكاديميا عبقريا درس على يد آينشتاين لرئاسة جامعة بغداد التي تأسست في زمنه..الصابئي المندائي الدكتور عبد الجبار عبد الله، برغم معارضة كثيرين، قالوا له كيف تعين هذا الصابئي..فأجابهم :(عينته رئيس جامعة وليس خطيب جامع)..فيما اعتمد الطائفيون مبدأ الانتماء الى الحزب والطائفة في المواقع المهمة بالدولة وان كان لا يمتلك كفاءة ولا خبرة ولا نزاهة.

وكان العراق في زمانه..دولة، فيما صار بزمن سادة الخضراء دويلات، بل ان كل وزارة في الحكومة هي دويلة لهذا المكون السياسي او ذاك، وما كانت فيه دولة عميقة او ميليشيات.وكان عبد الكريم محبّا للعراق ومنتميا له فقط، ولهذا كانت المواطنة، بوصفها قيمة اخلاقية، شائعة في زمنه بين العراقيين، فيما انهارت بزمن الطائفيين، وصار الناس يعلون الانتماء الى الطائفة والقومية والعشيرة على الانتماء للوطن..وتلك اهم وأخطر قيمة اخلاقية خسرها العراقيون..ولهذا فان الطائفيين يكرهون عبد الكريم قاسم، لأن احياء ذكراه توحّد الناس ضدهم..ولأن الضد الجميل في الأخلاق يبرز الضد القبيح في الأخلاق.

وتبقى حقيقة..أن عبد الكريم قاسم برغم مرور ستين سنة ونيف فانه باق في قلوب العراقيين الذين نسجوا عنه الاساطير، فيما حكّام الخضراء سوف لن يبقى لهم ذكر، ومؤكد ان العراقيين سيلعنون معظمهم بعد مماتهم.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

"إن ما ندعوه التاريخ هو شيء مكتوب من قبل المنتصرين في الحرب، سادة الإمبراطوريات والجنرالات المدمرين للأرض، لصوص الثروة العالمية، مستعملين لذلك عباقرة من المخترعين الكبار في العلوم والتقنيات من أجل بسط هيمنتهم الاقتصادية والعسكرية على العالم"  روجي غارودي

العنوان يحيل بداية، على مؤلف شهير للفيلسوف الفرنسي روجي غارودي، هو "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية". وهو مرجع فكري جدير بالتأمل والإحاطة، ومثير للتفكير والتفكر. إذ إنه لاقى طيلة انتشاره الواسع في الفضاء الثقافي الأوربي والعربي، إقبالا منقطع النظير، وتشاكلا مزدوجا، أعاد صياغة "نظرية الإبادة" وجرائم "غرف الغاز" النازية إلى واجهة الأحداث، وما يرتبط بالقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، مع ما يحمل ذلك من دلالات سياسية وحضارية، ترخي بظلالها على السردية الإسرائيلية المتواترة، التي انبنت عليها "عقدة الذنب" و"فرائض التعويض التاريخي" والتباسات كل ذلك، إن على مستوى الكيان الصهيوني أو ما رافق من مشروع استنباته وصيرورته، على حساب الشرعية التاريخية والجغرافية للشعب الفلسطيني المضطهد.

تكاد الرواية التاريخية المستعارة تتكرر. وإن بألوان وألبسة جديدة. تتلحف بأغطية وزركشات إعلامية متحلقة. وتزدهي بفواخير استعلائية، تستوقد حضورها الدلالي من التخوم المستوردة للآليات الإعلامية المتحولة، وبإسقاطاتها الأيديولوجية والجيواسراتيجية المتساوقة والنظام الدولي الجديد . فالأساطير السياسية لإسرائيل الصهيونية، التي تؤسس لمزاعمها التاريخية بتحريف الحقائق التاريخية وتحميلها ما لا يحتمل، هي نفسها الأساطير التي تؤسس وجودها الاحتلالي من "البروبجندا" كدعاية منهوبة، تستعيض بها عن التأريخ الواعي بالأحداث وتوثيقها، باغتصاب العقل المفكر وتأليب الندوب المتوهمة، وتغيير السردية وإعادة تحويرها وإنتاجها بالشكل المتعسف.

وبمنظور آخر، فالدعاية هنا، تعني التأسيس المتعمد لما يمكن تسميته ب "السرد المعرفي على حساب أجندات سياسية"، والتي تنال من "الحقيقة التاريخية الموثوقة"، وتهدم مرتكز الموضوعية والدقة بمطية تقديم "التبريرات ومنح الشرعية لأية أفعال عدوانية ضد المخالفين في الرأي والعقيدة والجنس والقومية"، تحت غطاء التقية (الإرادة الإلهية) و(شعب الله المختار).

استأثرت الدعاية الإسرائيلية بمفهومها التاريخي السياسي والأيديولوجي، بالدوافع المستقاة من السرديات المحرفة ومنافذها الدينية والاعتقادية الهجينة. وظلت تحجب الفواعل الرئيسية المنظمة لحضورها الملغوم، طيلة عقود خلت، تحت الحماية الغربية، وما تشكله من حوافز مالية وعسكرية وتكنولوجية عالية. لكنها، لم تكن لتتعزز بالمقدار نفسه، بالرؤى الثقافية والفكرية والقيمية الأخلاقية، حتى من أقرب منظري الفلسفة الأنوارية، وما استتبعها من  قيم الديمقراطية المزعومة. ولا أدل على ذلك، أن كبار عباقرة النهضة في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، ظلوا مشدودين لسردية "التاريخ الموثوق" و"الحق الفلسطيني المستلب". يكفي أن نذكر، فقط ببعض الأصوات الفكرية الحرة في هذا الصدد: المفكرون الفرنسيون إدغار موران و فرانسوا بورغا وأوليفييه روا وآلان غريش. والكتاب الإيطاليون الإيطاليان فرانتشيسكو بورغونوفو ودافيدي بيكاردو ورومانا روبيو  والمستعربة البلغارية مايا تسينوفا، والفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي ومواطنه من أصل إيراني حميد دباشي، وجوزيف مسعد، والمؤرخ الإسرائيلي آفي شلايم ومواطنه شلوموساند والسويدي يوران بورين، وكيت وايتلام، وإيلان بابيه، والأكاديمي الأمريكي جيفري ساكس، وأوفير جافرا ... وغيرهم كثير.

وبهكذا قدر من التأويلية المستبطنة، تسترفد البروبجندا الصهيونية محترفاتها المدورة، من الراهنية الحربية، التي تجعل من الحرب على غزة والضفة الغربية، واجبا توراثيا مقدسا، يعيد تصحيح مسار الزعم المصطنع للسلام ومتقابلاته "أوسلو" "وادي عربة" واتفاقية ابراهام"، ويؤبد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، على أساس الحق الموهوم القائم على بناء الهيكل الثاني، أو (بيت همقداش) بالمصطلح العبري، واستعادة كل الأرض الموعودة، وفقا للرواية الإسرائيلية التي تقول، "أن خيمة الاجتماع "قبة الزمان" كانت موجودة قبل عبادتهم العجل الذي هو متقدم على مجيئهم بيت المقدس، وأنها مسكن الرب، وقد كانت مع بني إسرائيل في التيه، يصلون إليها، وهي قبلتهم، وأن يوشع بن نون لما دخل بيت المقدس نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى ملحقها، وهي الصخرة. ويرون أن أرض المسجد الأقصى هي أرض الهيكل وأن مسجد الصخرة هو: مكان قدس الأقداس، داخل الهيكل (هيكل سليمان في عقيدة اليهود، ص334).

على أن استيقاظ "البروبجندا" ضمن أنساقها الثاوية، عند الصهاينة الجدد، أشاحت بوجهها الحقيقي، تجاه المنظومة الدولية المغلولة بفيتوهات الغرب المنافق، الذي يرفض مقايضة الحسم في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، على أساس الأخلاق والشرائع والقوانين الدولية المتفق عليها. وهو ما أكدته الوقائع الحالية، التي تكرس الكيل بمكاييل ورفض الإدانة وتوقيف المجازر الإسرائيلية تجاه سكان غزة واستعمال التعطيش والتجويع كأدوات للضغط والتهجير القسري والقتل الممنهج والاختطاف والتعذيب ..إلخ.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

جامعة كولومبيا: الإرث المعرفي والنضالي لإدوارد سعيد (1935 – 2003) الغائب / الحاضر وأثره في ذلك.

تشهد العديد من الجامعات الأمريكية حراكا طلابيا كثيفا إلتحقت به العديد من الجامعات في فرنسا وإنجلترا وألمانيا مساندا للقضية الفلسطينية ومطالبا بإنهاء الحرب / الإبادة الجماعية التي ترتكب في قطاع غزة، منذ ما يزيد عن السبعة أشهر. هذا الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية يذكرنا بآنتفاضة الطلبة ضد حرب الفيتنام أواسط الخمسينات وأواسط السبعينات. صحيح أن الظرفية التاريخية للحدثين: الحدث الفيتنامي والحدث الغزاوي مختلفتين وإن كان هناك جامعا بينهما فهو النزعة الإحتلالية الإستعمارية بوجهيها الغربي والصهيوني. قد يتساءل البعض عن سبب إنطلاق الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية من جامعة كولومبيا بالتحديد؟

1 – الإرث النضالي والمعرفي لإدوارد سعيد:

كان إ. سعيد ذو الأصل الفلسطيني أستاذا جامعيا للنقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، إلا أنه أدرك أهمية المباحث الفكرية والمعرفية التي كان يرى لها تأثيرا كبيرا في بنية الوعي الغربي،فعمل على بذر بذرة المعرفة والنضال الملتزم بقضايا الحق والعدل في تلك المؤسسة الجامعية. فكان من الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الإستعمارية ( ما بعد الكولونيالية) ومدافعا عن حقوق الإنسان الفلسطيني وقد وصفه " روبرت فيسك " بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية. (1) لقد لمع نجم إدوارد سعيد بعد نشره كتابه المهم " الإستشراق " عام 1978 الذي شن فيه حملة شديدة على الإستشراق بآعتباره مؤسسة إستعمارية وأسلوبا غربيا للسيطرة على الشرق ورأى أن أغلب الدراسات الغربية عن الحضارة العربية الإسلامية إرتبطت بالفكر السياسي المحكوم بخلفية التفوق العرقي الأوروبي ولم تكن دراسات موضوعية. لقد كان لإدوارد سعيد نشاط سياسي، فقد كان عضوا بالمجلس الوطني الفلسطيني وإستقال منه إحتجاجا على إتفاقية أوسلو التي كان رافضا لها. لقد ثمنت مجلة فورين بوليسي الأمريكية ما يقوم به سعيد حين ذكرت قولته الشهيرة: " لم يعد اليوم إنتصار الصهيونية شبه التام من الأمور المسلم بها. " (2) إن ما تشهده جامعة كولومبيا قاطرة الحراك الطلابي المساند للحق الفلسطيني وما يشهده الوعي الطلابي والسياسي عامة من تحولات دراماتيكية، يعود الفضل فيه بدرجة كبيرة إلى الإرث الذي تركه إدوارد سعيد. في كتابه " الإستشراق " حفر إ.سعيد عميقا في بنية الخطاب الغربي حول الشرق ليكشف التمثلات التي غرقت فيها تلك الكتابات. إنها خلق جديد للآخر وإعادة إنتاج له وتسليط أحكام قبلية عليه بعيدا عن كل مقاييس علمية في التعاطي معه .يقول سعيد: " إن بنية الإستشراق ليست سوى بنية من الأكاذيب أو الأساطير التي ستذهب أدراج الرياح إذا ما إنقشعت الحقيقة المتعلقة بها " (3). هذه البنية تخفي قوة أو إرادة قوة بالمعنى النيتشوي ومن بين مراميها طمس موضوع الواقع وإعادة إنتاجه إنتاجا تثوي فيه السلطة وتتخفى المؤسسة. (4) بعد أن كشف إدوارد سعيد الخلفية الإستعمارية للإستشراق ونزعته للهيمنة وسرقة التاريخ والثروات من أصحابها، إستشعر اللوبي الصهيوني خطورة ما يطرحه هذا المفكر الفلسطيني فعمل على تدمير الأساس الثقافي والحضاري للوجود العربي في فلسطين بالتشكيك في الطاقات الإبداعية للشعب الفلسطيني فوجدت في إدوارد سعيد الشخص المناسب لمحاصرته عبر التشكيك في هويته الفلسطينية، فقد نشر مراسل صحيفة " الديلي تلغراف " البريطانية جستس رايد فاينر مقالا إعتبر فيه أن إدوارد سعيد مصري وأن عائلته كانت تقيم في القاهرة وأنه مصري وليس فلسطينيا، ثم أعادت صحيفة " كومنتري " التي يصدرها اليهود اليمنيون نشر المقال إمعانا في التضليل وضربا لرمزية الرجل وقيمته الإعتبارية(5). إن خطاب إدوارد سعيد كما يصفه نصر حامد أبو زيد يمثل، في بنية الخطاب الغربي وخصوصا الأمريكي منه، خطاب الوعي الضدي لنسق الخطاب المهيمن، فقد كشف عوراته وأبان له عن مساوئه وجرائمه(6). كان إدوارد سعيد قد إتخذ مواقف عميقة من العالم ومن نظم تفكيره بدءا من الهيمنة الثقافية التاريخية ووصولا إلى الإستبداد في العالم العربي ولم يتسامح معهما وإنتقدهما بكل وسيلة وقد جسد ذلك من خلال زيارته لجنوب لبنان بعد تحريره سنة 2000، يتحدث عنها محمود درويش، يقول: " زار إدوارد سعيد جنوب لبنان ورمى حجرا عبر الحدود اللبنانية الإسرائيلية بآتجاه إسرائيل فثارت ثائرة الدوائر الإسرائيلية في العالم وتم نعته بأنه متعاطف مع الإرهاب. "(7) يقول إدوارد سعيد عن تلك الحادثة أنه لما عاد من لبنان إلى أمريكا- جامعة كولومبيا حيث يدرس، كانت هناك في العدد الأول من جريدة الجامعة المسماة " سبكتيتر " ثلاث مقالات على صفحة المحرر منها مقالة كتبها زميلان لي يطالبان فيها بفصلي من الجامعة، والفكرة الرئيسة من الحملة ومن رسائل الكراهية التي تلقيتها على الأنترنت والإتصالات التليفونية كانت إبعاد الإنتباه عما حدث في لبنان، كان التحدث عن الصورة أسهل من التحدث عن ثمانية آلاف إنسان عذبوا في سجن الخيام. (8)

2 – في علاقة الإستشراق بالصهيونية:

بعد أن فكك إدوارد سعيد بنية الإستشراق من خلال تحليل الخطاب والخلفية النظرية التي يعتمدها في دراسة المجتمعات العربية والإسلامية تاريخا وثقافة، عمد إلى البحث عن التماثلات بينه وبين الصهيونية، وقد بين أن الثانية أي الصهيونية تتغذى من الأول لتبني سلسلة من الأكاذيب والأساطير تؤثث بها سرديتها المزعومة حول فلسطين وتوظف " محنة اليهود " لتصوغ مظلومية كاذبة خاطئة تفرضها على الوعي الغربي وتعمل على أن تكون لها مقبولية ثم تعمد إلى تسييج ذلك الوعي برسم خطوط حمراء: الهولوكوست - المحرقة ومعاداة السامية، تجسدها نصوص قانونية تعج بها المدونة التشريعية في البلدان الغربية. يعتبر تيسير أبو عودة أن الإستشراق الصهيوني إمتداد للإستشراق الأوروبي وشكل جوهراني لخطاب التفوق الأوروبي والعولمة الرأسمالية والحداثة العلمية. ويعرف تيسير أبو عودة الإستشراق الصهيوني بأنه الخطاب السياسي والمعرفي والإيديولوجي الممنهج والمؤسساتي لدولة إسرائيل الإستعمارية والإستيطانية الذي يختزل الفلسطيني والعرب بآعتبارهم بشرا متوحشين بربريين جهلة، قتلة وإرهابيين وذلك من خلال تأصيل سرديتين مركزيتين: الأولى فلسطين أرض بلا شعب، صحراوية جرداء قاحلة، الثانية فلسطين قبل 1948 أرض بلا تاريخ ثقافي أو تعليمي، علمي (9) لم تكن الصهيونية غائبة يوما عن الإستشراق قديمه وحديثه فقد إستطاع المستشرقون الصهاينة أن يكيفوا أنفسهم ليصبحوا عنصرا أساسيا في إطار الحركة الإستشراقية الأوروبية، فقد دخلوا الميدان بوصفهم الأوروبي لا بوصفهم الديني أو السياسي .(10) ويضيف أوليفييه مووس خاصية أخرى للإستشراق الصهيوني يقول: " الإستشراق الجديد ليس في الغالب عمل مختصين أكاديميين وإنما يشارك في صياغة خطابه الصحفيون والكتاب والباحثون والخبراء والمدونون والناشطون في الحقول الفكرية والإعلامية وحقول الدراسات الأمنية. " (11) إرتبط المستشرقون اليهود بالحركة الصهيونية بعد إنطلاقها عام 1881، وقد تزامن ذلك مع بروز المسيحيين الصهيونيين إلى المشهد وإنتعاش أفكارهم التوراتية المخلوطة بمصالح سياسية في الشرق الأوسط. فوظفوا " معارفهم " لخدمة الحركة الصهيونية وتأصيل الوجود اليهودي في فلسطين، ثم عمل بعد 1948 على دراسة قضايا الصراع العربي الصهيوني بهدف تقديم العون للقيادة الصهيونية في إدارتها للصراع. إستمر الإلتقاء بين الإستشراق الأوروبي والصهيوني بعد نهاية " الإستعمار "،في شيطنة الإسلام وآعتباره عدوا مشتركا، فليس من الغريب أن رموزا إستشراقية وناشطين في حركة الإستشراق قديما وحديثا كانوا صهاينة، يقول إدوارد سعيد: " إستمدت الصهيونية نظرتها للعرب من المفاهيم الإستشراقية ومن ثم طورتها إستنادا إلى نظرتها العنصرية ." (12) هناك قاسم فكري مشترك بين الإستشراق والصهيونية قائم على النظرة الإستعلائية العنصرية مع إدعاء النقاء والتفوق العرقي والحضاري، وبالتالي فإن الإيديولوجيا الإستعمارية الغربية المبنية على مفاهيم الإستشراق تعد أحد أهم المصادر للإيديولوجيا الصهيونية. (13)

3 – طوفان الأقصى ونسف السرديات الزائفة: الحراك الطلابي نموذجا:

مازالت إرتدادات طوفان الأقصى تتالى وقد لامست العديد من المجالات والجوانب. يمتلك طوفان الأقصى قدرة عجيبة على نزع الأقنعة وكشف الحقائق التي عملت لوبيات المال والإعلام والسياسة على إخفائها والتستر عليها خدمة للمشروع الصهيوني في المنطقة العربية. كما كان حافزا محركا لمراجعة مفاهيم إستقرت حتى غدت " بديهيات " سكنت الوعي الغربي. إنه حدث فارق في تاريخ الإنسانية دفع بالمؤرخين والمفكرين وعلماء الإجتماع والفلسفة إلى التسلح بالعدة المعرفية اللازمة لتفكيك الحدث في مختلف أبعاده وإلى الحفر أركيولوجيا في التاريخ والتصورات بغرض الكشف عن مسار التشكل والحيثيات المرافقة لآستقرار تلك السردية وحمولتها المفاهيمية الملازمة لها. طوفان الأقصى يختزل إرتدادا لكل أطوار التاريخ التي علقت بفلسطين ليفتح أحاسيسنا على بهاء البدايات ونقائها، لكأن الحدث في جوهره صراع مع ذاكرة قد ملئت أكاذيب وإفتراءات بغرض الرجوع بها إلى الزمن السحيق حتى يتم للمستضعفين الذين آغتصبت أرضهم، لذة التفرد بحقهم المسلوب ومتعة التملك لتاريخهم نقيا بكرا لم يدنسه أحد. حدث طوفان الأقصى في تفاعله مع محيطه أعاد للقضية الفلسطينية مركزيتها بآعتبارها قضية تحرر وطني من إستعمار إستيطاني، ومع المؤثرات الخارجية التي تجلت في حركة الشعوب في مختلف أرجاء العالم المؤيدة للحق الفلسطيني ولحق الفلسطينيين المشروع فى المقاومة لإسترداد حقوقهم وكان الحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية والفرنسية والبريطانية في أنصع صوره حيث الضمير الإنساني النقي تنتفض فطرته السليمة دفاعا عن حرية الشعوب في تقرير مصيرها وضد كل أشكال الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. لقد إكتشف الطلبة في كبرى الجامعات الأمريكية الأخطبوط الذي نسجته الصهيونية عبر شبكة علاقاتها ونفوذها مع الجامعات الغربية وعملت على توظيف المعارف الأكاديمية في شتى الإختصاصات لصالح مشروعها ولاسيما في الجوانب التقنية والعسكرية، إنها الإفاقة على أوجاع التاريخ العاصف حيث يجد الطلبة والإطار التدريسي في تلك الجامعات ذات الصيت الكبير، أنهم متلاعب بهم وأن قدسية المعرفة قد تم تدنيسها لخدمة مشاريع سياسية ملطخة بدماء الأبرياء، تهدف إلى تهجير قسري لشعب من أرضه، و إلى إذلاله وسرقة تاريخه وثرواته. لقد إكتشفت الشعوب الغربية ولاسيما طلبتها ونخبها أنهم كانوا ضحية تضليل إعلامي وتزييف للوعي قائم على نشر الأكاذيب والأساطير الواهية، بغرض تغييبهم عن مأساة الشعب الفلسطيني الذي ظل يرزح تحت نير إحتلال إستيطاني منذ ما يزيد عن سبعة عقود بتواطئ دولي غير مسبوق وخذلان عربي وإسلامي مقيت. سيظل طوفان الأقصى حدثا فارقا يضع الضمير الإنساني أمام مسؤوليته الأخلاقية والقانونية، يتحول الحدث شاهدا على عصره، يحتكم إليه في أمهات القضايا ويستنطق ليكشف الرهانات المنذور إليها وليرسم الإستراتيجيات التي يرام تحقيقها.لم تعد شعارات " حق إسرائيل في الوجود " و" ضرب الإرهاب الفلسطيني " و" معاداة السامية " ... تستهوي الرأي العام في الغرب وخاصة الشباب منه. لقد حلت محلها شعارات " الفصل العنصري " و" التطهير العرقي " و" الإبادة الجماعية " و" الحرية لفلسطين " تكتسح أوساط الشباب الطلابي في الجامعات الأمريكية، وهو ما حدا بالصحفي توماس فريدمان الكاتب اليهودي في صحيفة نيويورك تايمز ليطلق قبل شهور تحذيرا للقيادة الإسرائيلية من تبعات الإستمرار في تبني سياسات يمينية ترفض بمقتضاها حل الدولتين وشدد فريدمان على أن إسرائيل بدأت تخسر الرأي العام ولاسيما في أوساط طلاب الجامعات الأمريكية مستشهدا بمقاومة الإتحادات في أغلب تلك الجامعات ورفضها إستضافة مسؤولين إسرائيليين رسميين للحديث داخل أدوارها.(14).

الخاتمة:

إن طوفان الأقصى كشف للعالم أن قطعة الأرض الوحيدة المحررة وتمتلك قرارها السيادي هي غزة وأن بقية العالم يعاني بشكل ما نقصا – يكبر ويصغر- في سيادته. لقد أتاح طوفان الأقصى للنظريات ما بعد الكولونيالية – والتي كان لإدوارد سعيد دور في تأسيسها داخل جامعة كولومبيا- أبعادا جديدة ووسع من أفقها، حيث أبان على أن أكثر من ثلثي العالم مازال يرزح تحت إحتلال من نوع جديد قائم على التحكم في مفاصل العمل السياسي والإعلامي والإقتصادي والأكاديمي والثقافي ( السينما – هوليود)، عبر فكر صهيوني يبث سمومه في كل مكان عبر ذراع " الهسبراه " (الشرح والتفسير) (15)، لتخضع سيادة الدول لرغباته ونزواته خدمة لدولة الإحتلال.ذاك ما يعطي للحراك الطلابي في مختلف أرجاء العالم ألقه وعنفوانه ويبشر بتحولات كبيرة تصيب بنية الوعي الغربي وتزلزل مفاهيمه وتصوراته. يقول تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " (سورة الفرقان / الآية23).

***

بقلم : رمضان بن رمضان

......................

الهوامش والتعليقات:

1 – موقع ويكيبيديا

2 – موقع: almayadeen.net بتاريخ 16 كانون الثاني 2023 .

3 – إدوارد سعيد، الإستشراق، ترجمة كمال أبو ديب، ط 2، بيروت 1984، ص 41 .

4 – آنظر سالم يفوت، حفريات الإستشراق، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، المغرب 1989، ص 8 .

5 – إدوارد سعيد، " الإفتراء على الطريقة الصهيونية " جريدة أخبار الأدب عدد 320، 29 أوت 1999 .

6 – رمضان بن رمضان، " المثقف العربي والمركزية الأوروبية: محمد أركون وإدوارد سعيد نموذجين " صحيفة المثقف بتاريخ 06 كانون الأول/ ديسمبر 2023.

7– محمود درويش، " إدوارد سعيد في صورة المثقف من نقد الإستشراق إلى إزدراء الإستبداد " مقال أعيد نشره في موقع العرب، بتاريخ 09 فيفري 2014 .

8 – حوار قديم تناول النكبة والإحتلال والإعلام الغربي وتحرير الجنوب: إدوارد سعيد...عن ذلك الحجر الشهير عند بوابة فاطمة، محمد ناصر الدين، جريدة الأخبار اللبنانية، أعيد نشره السبت 4 تشرين الثاني 2023

9 – تيسير أبو عودة، " الإستشراق صهيونيا "، موقع فسحة عرب 48، بتاريخ 15 – 10 – 2021.

10 – عمود حمدي زقزوق، الإستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، دار المعارف، مصر،د.ت ص 52.

11 – أوليفييه مووس، تيار الإستشراق الجديد ...من الشرق الشيوعي إلى الشرق الإسلامي،صدر عن وحدة الدراسات المستقبلية، مكتبة الإسكندرية مصر، سنة 2010، ضمن سلسلة " مراصد "، ص 5 .

12 – إدوارد سعيد، الإستشراق، ص 56

13 – مي عباس، " الإستشراق الصهيوني الجديد ومدد الإسلاموفوبيا، " مجلة البيان الرقمية، عدد 368، بتاريخ 20 ديسمبر 2017.

14- آنظر، محمد المنشاوي، هل تخسر إسرائيل تأييد الشباب الأمريكي؟، موقع الجزيرة نت بتاريخ 13 أكتوبر 2023 .

15 – الهسبرة أو هاسبارا (Hasbara): كلمة عبرية تعني " الشرح والتفسير " وهي مؤسسة في العلاقات العامة تعمل على نشر المعلومات الإيجابية في الخارج والدعاية لدولة الكيان المحتل هي نوع من البروباقاندا تأسست منذ ما يزيد عن أربعين عاما، لقد طور الكيان الغاصب أساليبه في تحسين صورته ببذل المزيد من الأموال والتدريبات التي تستهدف الدبلوماسيين للعمل على تسويق نفسه للخارج وإعادة إنتاج الروايات التي تدعم موقفه وإستغلال اللاسامية وتعزيز الإسلاموفوبيا.

حفل القرن العشرين بالكثير من الأحداث الجسيمة والحروب والصراعات على امتداد المعمورة، إنه عصر التطرُّفات، كما يصفه المؤرخ البريطاني المعاصر ذو التوجه الماركسي إريك هوبزباوم الذي غادر الحياة عام 2010، فيما كان قد أطلق أوصافاً عديدة على القرن التاسع عشر الذي خصص له ثلاثية سماه فيها بعصر الثورة، وعصر رأس المال، وعصر الإمبراطورية، على التوالي، وبحسب الأحداث الكبرى التي شهدها ذلك القرن بمختلف عقوده.

في كتابه “عصر التطرُّفات” يُقَسِم هوبزباوم التاريخ الوجيز للقرن العشرين من العام 1914 ولغاية العام 1991 إلى: عصر الكارثة، والعصر الذهبي، وعصر الإنهيار. ثم يتحدث في تصديره للطبعة العربية عن عصر التطرُّفات في العالمين العربي والإسلامي، مؤكداً بأن القرن العشرين هو العصر الأكثر خروجاً عن المألوف في تاريخ البشرية، وبأن الشرق الأوسط أصبح، وسيظل منطقة عدم استقرار على الصعيد العالمي، لا يمكن السيطرة عليه من جانب أي من القوى المحلية، أو الخارجية. وحتى قبل غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، فإن المنطقة عاشت ستة حروب، فضلاً عن اندلاع الثورات والصراعات والحروب الأهلية. وعندما وضع كتابه هذا فقد استنتج في تحليله لتاريخ العالم الثالث بأن نهاية الحرب الباردة قد تركت منطقة الشرق الأوسط أكثر قابلية للانفجار من أي وقت مضى. وقد تحققت بالفعل هذه الرؤية التي كانت مستقبلية في وقتها، مع غزو العراق بدايات الألفية الثالثة، وحرب اليمن، وثورات ما سمي بالربيع العربي في تونس وليبيا ومصر، والحرب في سوريا، وظهور الحركات الإسلامية المتطرفة، والحرب على القاعدة وداعش من بعدها، ثم أخيراً وليس آخراً حرب الإبادة الجماعية الاجرامية الصهيونية على غزة التي ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات بسبب النزعة العدوانية للكيان الصهيوني وقادته الرافضين لأي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.

لقد أنجز هوبزباوم الذي يُعد من أبرز المؤرخين الأكاديميين حيث كان يلقي محاضراته على طلبة جامعات عالمية كبرى في فيينا وبرلين وكامبردج، فضلاً عن عضويته في الأكاديمية البريطانية والأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، موسوعة متكاملة لتاريخ العالم المعاصر، من عصر الثورة، وعصر رأس المال، وعصر الإمبراطورية، ثم اكملها بعصر التطرُّفات “ القرن العشرين “ الذي بدأ فعلياً كما يرى بنشوب “ الحرب العالمية الأولى عام 1914، ثم ثورة أكتوبر الروسية البلشفية عام 1917، وانتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الوسطى عام 1991، وتخللته الحربان العالميتان، وانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وحروب الاستقلال والتحرر الوطني، ثم الحرب الباردة التي أعقبتها مرحلة الهيمنة الأميركية والصراعات الإقليمية والثورة المعلوماتية”. ولعل أبرز ما يخصنا نحن العرب في رؤية هوبزباوم للتاريخ تلك المقدمة التي تناول فيها تداعيات القرن العشرين وتأثيراتها في العالمين العربي والإسلامي والتي اختتمها بالتأكيد على حقيقة مهمة للغاية يبرهن فيها على” أن مشكلات الشرق الأوسط لا يمكن حلها أو السيطرة عليها حتى من جانب أغنى القوى العسكرية وأكثرها سطوة في أيامنا هذه “ ليتوصل إلى أن مشكلات المنطقة إذا قُدر لها أن تُحَل: فإن ذلك لن يتم على أيدي قوى خارجية، بل عن طريق قوى داخلية في المنطقة، ويقصد بذلك الغزو الأميركي للعراق الذي ينبغي على مؤرخي المستقبل أن يعدوه مؤشراً على بداية النهاية لاستئثار الولايات المتحدة وحدها بالهيمنة على العالم بحسب رأيه.

يستعير هوبزباوم من الشاعر البريطاني الشهير إليوت مقولته: “سينتهي العالَم لا بضجة مدويّة، بل بنشيج “ ويضيف لها : غير أن القرن العشرين الوجيز انتهى بكليهما!.

ان كان القرن الماضي انتهى بضجة ونشيج على طريقة الشاعر إليوت صاحب قصيدة “ الأرض اليباب “ أو “ الأرض الخراب “، فبماذا سينتهي قرننا الحالي الذي بدأ بضجة وحروب ونزوح وتشريد ودماء، وأي بيت من قصيدة يصلح لعصر المفخخات ؟! .

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

أهمية العيد الوطني، ونحن نتحدث هنا عن تحرير العراق من نير الاستعمار بثورة 14 تموز 1958، الخالدة ومطالبة الدولة الاعتراف به كرمز للهوية ومشاعر الانتماء لأرض العراق.

 الهوية الوطنية من ناحية المبدأ، هي الركيزة الأساسية التي تجمع أبناء الوطن تحت راية واحدة وتوحد جهودهم لبناء مستقبل مشرق. من هذا المنطلق فإن "اليوم الوطني" محور مهم للتعبير عن هذه الهوية في بلادنا. إذ يمثل تجسيد للسلام والتآخي بين مختلف الفئات من أبناء مجتمعاتنا وتاريخنا الوطني العراقي وانتمائنا العميق لهذه الأرض، عراق الرافدين. إن الاعتراف بالعيد الوطني ليس مجرد احتفال سنوي، بل هو اعتراف بقيمة هذه الهوية وأهمية الحفاظ عليها.

 تاريخ العراق مليء بالتضحيات والإنجازات التي تستحق أن تخلد في ذاكرة الأجيال القادمة. إن إحياء ذكرى هذه الأحداث من خلال "اليوم الوطني" يعزز الشعور بالانتماء والفخر الوطني، ويغرس في نفوس الأجيال الشابة قيم الولاء والتضحية من أجل الوطن. كما يعد فرصة سانحة لتعزيز الوحدة الوطنية وتقوية أواصر التلاحم بين أبناء الشعب بمختلف أطيافهم وقومياتهم المتآخية.

 لقد شكل يوم 14 تموز محطة فارقة في تاريخ وطننا، حيث شهد أحداثا جسيمة ونضالات بطولية سطرها أبناء الوطن على مدى أجيال بدمائهم وتضحياتهم. إنه ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو رمز للصمود والكفاح من أجل الحرية والكرامة الوطنية. إن تجاهل هذا اليوم وعدم الاعتراف به كعيد وطني يعتبر طمسا لهذه الذكريات المجيدة وتهميشا لتضحيات أبناء الوطن من مختلف القوميات والأديان...

إن إصرار مؤسسات الدولة "التشريعية والتنفيذية والقضائية" منذ سقوط النظام السابق على تجاهل وعدم الاعتراف بيوم 14 تموز عيدا وطنيا رغم ما يحمله من رمزية تاريخية ووطنية عميقة، أثار استياء جميع أبناء الوطن الغيورين على تاريخهم وهويتهم الوطنية، كما يعكس تقصيرا واضحا في مسؤوليتها تجاه الشعب والتاريخ.

 من هذا المنطلق، على الدولة الاعتراف الرسمي "باليوم الوطني" وتكريسه كحدث وطني رئيس يحتفل به على مستوى البلاد. وأن تتبنى برامج وأنشطة ومبادرات تشارك فيها مختلف فئات المجتمع تتضمن الفعاليات الثقافية والتربوية التي تعزز الشعور بالانتماء وتشجع على التفكير النقدي حول القضايا الوطنية الراهنة والمستقبلية وتسلط الضوء على تاريخنا المشرف ورموزنا الوطنية لتعريف المواطنين، خاصة الشباب، بتاريخ وطنهم وأهمية هذا العيد في ترسيخ الهوية الوطنية... إن الاعتراف بالعيد الوطني ليس مجرد مطلب شعبي، بل هو ضرورة ملحة لتعزيز الهوية الوطنية وترسيخ قيم الانتماء والولاء للوطن. كما أن الاحتفال به كل عام في يوم 14 تموز بشكل رسمي يبعث برسالة قوية إلى العالم عن وحدتنا وصلابة كياننا الوطني.

 السؤال الذي لا زال عالقا ويقتضي الإجابة عليه: لماذا لا تطرح العديد من القضايا الوطنية على الشعب وإجراء استفتاء عام عليها... ان كان ذلك غير ممكن بسبب طبيعة النظام وتسلط أسرة الحكم على مقاليد الدولة، فلا سبيل الا ان ننتظر متى تستيقظ "الأغلبية الصامتة" لتتحمل مسؤولية تحقيق، وطنا، فخورا بتاريخه وهويته.. إلا أن الإنتظار لم تعد له أية قيمة وإعتبار مرجو لهذه الطبقة النائمة على رمال.

 في الختام، إننا نأمل أن تستجيب الدولة على على تعزيز حضور هذا العيد في الوجدان الوطني، ليظل رمزا خالدا لهويتنا وانتمائنا، أسوة بما تفعله كل دول العالم في تكريم تاريخها وتضحيات شعوبها؟.

***

عصام الياسري

الصراع العالمي القديم يدخل في شوطه الأخير قبل تهيئة الملعب لمباريات ما قبل النهائي!

الأحداث كما يمكن أن يلاحظها أي مراقب مهتم تتسارع بشكل لا يُصدق! وتكاد كل المؤشرات تجتمع على أن قادم الأيام يحمل معه مفاجآت ومخاوف أكثر من قدرتنا على الاستيعاب والمتابعة، وهلم بنا نتتبع شيئاً من مفارقات هذا الشوط الأخير المثير للقلق والخوف.

تهديدات ترامب

مع اقتراب الانتخابات الأمريكية في نوفمبر القادم يتهيأ الحزبان الديمقراطي والجمهوري شاحذين كل أسلحتهما للفوز بالرئاسة، وتزداد محاولات استبعاد ترامب من خلال القضايا المثارة ضده في المحاكم، واستطاع الديمقراطيون استمالة محامي ترامب في صفهم إذ خرج معترفاً ضده في إحدى القضايا الأخلاقية. غير أن ترامب لم يستسلم، بل ظهر مراراً في مؤتمرات جماهيرية يهدد بالأسوأ إذا تم استبعاده من الانتخابات المقبلة، ثم إن مستشاري ترامب السابقين سارعوا إلى نتنياهو دعماً له في أزمته الحالية؛ رغبة في كسب تأييد اللوبي الصهيوني في أمريكا وهو أحد اللوبيات الأشد تأثيراً في الانتخابات.

 مثل هذه التهديدات تنذر بمعركة انتخابية لم يسبق لها مثيل بسبب الانقسامات الشديدة حتى داخل الحزب الواحد؛ وقد شهد البيت الأبيض عدة استقالات بسبب موقفه من الحرب في غزة، بخلاف شعبية بايدن التي تدنت لأقل مستوي لها بعد فض اعتصامات الطلاب في الجامعات الأمريكية.

أزمة كريم خان

ما حدث من ضغوط وتهديدات ضد المحكمة الجنائية الدولية قبيل إصدارها مذكرة الاعتقال الخطيرة ضد نتنياهو وجالانت أمر غريب واستثنائي وله ما بعده..

 المحامي البريطاني ذو الأصول الباكستانية كريم خان أظهر ما كان خفياً من تلاعب وضغوط تعرض لها قضاة المحكمة الجنائية منعاً لها من إصدار أية أحكام ضد إسرائيل. التهديدات التي واجهها كريم خان دفعته للاحتماء بقوة الإعلام، فخرج في العلن وعلى الشاشات ليصرح بما تعرض له من تهديدات وضغوط بلا مواربة ولا خوف.

 تصريحات كريم خان لم تمنع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من استمرارهما في تهديده وقضاة المحكمة الآخرين. وبدأ حلفاء واشنطن الأوربيون يخرجون عن صمتهم داعين أمريكا لعدم تهديد مؤسسات القضاء الدولية، وإلا فقدت هذه المؤسسات مصداقيتها، وبالتالي ستفقد تأثيرها عالمياً.

الولايات المتحدة لم تعد تعتد بأي طرف، ولم تعبأ بأحد عندما استخدمت حق الفيتو مراراً ضد قرار بوقف إطلاق النار في غزة. وسوف تعيد إشهار هذا الحق عندما يأتيها قرار محكمة العدل الدولية.

 كل هذا ينذر بأن تلك المنظمات الدولية لن يكون لها أي دور مستقبلاً إذا احتدم الصراع وازداد بين القوي الكبرى، وهذا اليوم يبدو الآن أقرب كثيراً مما نتصور.

مؤامرات واغتيالات

كما جاءت بدايات الحرب العالمية الثانية بسلسلة من الاغتيالات فقد رأينا مثل هذا في الأسابيع الأخيرة. فقد تم اغتيال الرئيس السلوفاكي في عملية غامضة، ثم ظهر الرئيس التركي ليعلن عن محاولة صامتة جديدة للانقلاب عليه تم إجهاضها بشكل سريع. ولم تمر سوي أيام قليلة حتى جاء الخبر الغريب بسقوط طائرة الرئيس الإيراني، واتجهت أصابع الاتهام فوراً نحو إسرائيل التي نفت صلتها بالحادث وإن لم تخفي شماتتها فيه!

مثل تلك الأجواء الغامضة والحوادث المريبة تشي بأن أجهزة المخابرات الآن تعمل بأقصى طاقتها في كل مكان، وبخاصة في مناطق احتدام الصراعات والمعارك. تأتي تلك الأحداث الخطيرة في إيران بينما يتعرض رجل إيران الأول "خامنئي" لوعكة صحية وسط تساؤلات عمن يخلفه في قيادة البلد ذي التأثير المحوري في صراعات منطقة الشرق الأوسط.

مناورات مخيفة

لا شك أن أحداث غزة خطفت الأنظار وأشاحتها عما يحدث في الحرب الأوكرانية الروسية. وكثير منا لم يتابع تهديدات فرنسا بدخول الحرب، تلك التهديدات التي سرعان ما خمدت عندما لوحت روسيا باستخدام ترسانتها النووية، بل وسارعت الأخيرة بتحريك قوات إضافية نحو العمق الأوكراني. وهناك خوف شديد من بولندا وألمانيا وفرنسا بتفاقم الوضع هناك، لدرجة أن بعض السياسيين خرجوا ليعلنوا أن الحرب العالمية بدأت، وأننا نشهد الآن مقدماتها، ولدرجة أن تدعو بريطانيا مواطنيها من تخزين الطعام، وليخرج قانون تركي جديد من أكثر من خمسين صفحة يحدد مهام المؤسسات المختلفة في حالة حدوث حرب!

 أكثر من هذا أن الصين بدأت تتحرك في محور بحر الصين الجنوبي، وسارعت بإجراء مناورات هي الأخطر أحاطت من خلالها بجزيرة تايوان من جميع الجهات. الصين أعلنت أنها سوف تستعيد تايوان رغم أنف أمريكا، وهي تعد العدة لهذا منذ سنوات، المسألة مسألة وقت فقط. وموعد الحرب لم تحدده الصين بعد، وإن بدا وشيكاً. ربما تنتظر الصين أن تنشغل أمريكا عنها بأمور أشد خطورة، كالانتخابات أو بصراعها مع روسيا، ويبقي أمر التوقيت في علم الغيب!

تسارع الأحداث

بمجرد توقف المفاوضات بشأن الحرب في غزة وإعلان اقتحام رفح انفتحت أبواب الجحيم مجدداً في وجه إسرائيل. فسرعان ما انهالت الصواريخ على رأسها، وعادت سلسلة الكمائن ضد القوات الإسرائيلية المتوغلة في رفح وفي الشمال الغزاوي وبخاصة في جباليا..

 ورغم أن الأطراف اجتمعتمؤخرا في باريس لمناقشة إعادة الحديث عن هدنة محتملة، إلا أن مسار الأحداث يتجه نحو التصعيد أكثر فأكثر. لاسيما وقد انفتحت جبهة صراع جديدة في رفح، وثقلت أيدي حزب الله اللبناني والحوثيين في اليمن ضد إسرائيل ربما بسبب الاتهام غير المؤكد بضلوعها في سقوط طائرة الرئيس الإيراني..

 عندما رأينا سابقاً ما حدث من انسحاب النفوذ الفرنسي في الغرب الإفريقي، ثم تغلغل للنفوذ الروسي الصيني في إفريقيا، وما سبقهما من صراع على القارة القطبية الشمالية وما تحويه من كنوز مطمورة، والذي قيل إنه أحد أهم أسباب حرب أوكرانيا. عندما حدث كل هذا وقع في يقيننا أننا مقبلون على مرحلة من صراع طويل، وصدقت تلك الظنون.

 وتيرة التصاعد والتسارع في الصراعات هنا وهناك تنبئ بانتهاء شوط ربما يكون هو الشوط الأخير في صراع سابق، تمهيداً للدخول في مرحلة جديدة من صراع وجودي تتغير على إثره خارطة العالم الاقتصادية والسياسية.

بؤر الصراع القادم

الحروب القديمة علمتنا أن الصراعات في جوهرها هي صراعات اقتصادية، حتى صراعات النفوذ والاستقواء وفرض السيطرة مغزاها ومنتهاها الهيمنة على الموارد وطرق التجارة..

وإذا اتخذنا معارك السودان مثلاً ونموذجاً سنفهم أن هناك أطرافاً خارجية تعبث بأطراف الصراع الداخلي. آخر هذه الأطراف إيران وروسيا؛ إذ يقال إن هناك اتفاق جري بين الجيش السوداني وبين قيادات من الجيش الروسي لتزويدهم بأسلحة مقابل ميناء سوف يتم منحه لروسيا على البحر الأحمر. وهو ما سيمنح محور الشرق أفضلية على محور الغرب، وسوف يزيد الأمور اشتعالاً، لاسيما وقد ازداد نفوذ الحوثيين، ذراع إيران في اليمن، على منفذ باب المندب.

 الآن وقد تعددت بؤر الصراع وازدادت رقعة اللهيب حول العالم: في السودان وغزة وأوكرانيا وبحر الصين الجنوبي. وبدأت دول كبرى تتهيأ لتغيرات في قياداتها: إيران وأمريكا وبعض دول الشرق والغرب. وصارت مصداقية المنظمات الدولية على المحك. يمكن القول إن اتجاه السهم الصاعد باستمرار في مجريات الصراع سوف يتعلم القفز قفزات لا يمكن التنبؤ بمنتهاها..

بؤر الصراع الحالية في الشرق الأوسط وفى أوروبا الشرقية وجنوب آسيا لن تظل على جمودها وثباتها في المرحلة القادمة. والولايات المتحدة الأمريكية التي تظن أنها آمنة من أي صراع قد تفاجأ يوماً ما أنها في قلب المعمعة! ومن هناك سوف يعاد رسم خريطة العالم الجديد!.

***

د. عبد السلام فاروق

في حادثة أليمة تعاطف معها المجتمع الدّوليّ ككل، وهي حادثة تحطم مروحية كانت تقل الرّئيس الإيرانيّ إبراهيم رئيسي، ومعه وزير الخارجيّة حسين أمير عبد اللّهيان، وإمام جمعة تبريز آية الله آل هاشم، ومحافظ أذربيجان الشّرقيّة مالك رحمتي، وعناصر أخرى من الحرس الثّوري، حيث كانت تقلّ الرّئيس من حدود أذربيجان وحتّى تبريز، وسقط في أذربيجان الشّرقيّة.

وعموما لستُ بصدد الحديث عن الحادث، ولكن كثرت التّأويلات حول سبب وقوعه، فمنهم من يرجع ذلك خارجيّا، ومنهم من يرجعه داخليّا، وعلى رأس أسبابه داخليّا هو الصّراع على السّلطة، وجميع ما قيل حول ذلك على سبيل التّخمين.

والمتأمل في العديد من دول العالم في الجملة يجد الحكم فيه إمّا حكم شموليّ أبويّ مطلق، تتوارثه أسرة معينة، له كافة الصّلاحيّات، أو ملكيّ تعاقدي دستوريّ، يجمع بين الوراثة من حيث الحاكم، والانتخاب من حيث رئيس مجلس الوزراء، أو رئاسيّ ديمقراطيّ منتخب، وأمّا إيران فقد كانت ملكيّة شموليّة في عصورها القديمة، وآخرها العصر القاجاريّ، وبداية عصر الشّاه، حيث تعيش الملكيّة المطلقة، ثمّ بعد ثورة المشروطة تحوّلت إلى ملكيّة دستوريّة تعاقديّة، فلمّا ساءت الأحوال في عهد محمّد رضا بهلوي (ت 1400هـ/ 1980م)، واجتمعت الأحزاب اليمينيّة واليساريّة على الثّورة، استطاع الشّعب أن يثور عليه بجميع توجهاتهم وأحزابهم، وكانت غايتهم إصلاح عهد الشّاه سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وفق البقاء على الملكيّة التّعاقديّة الدّستوريّة، ولمّا لم يتعامل الشّاه معها بحكمة أصبحت الغاية الانتقال إلى الدّيمقراطيّة التّداوليّة بين الجميع، وفق دستور يحمي الجميع.

بيد أنّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى يحتاج إلى شيء من التّوازن الدّاخليّ، وحتّى لا تدخل البلاد في فوضى داخليّة قد تقودها إلى حرب أهليّة، خاصّة وأنّ المخابرات السّابقة – أي في عهد الشّاه – لا زالت تلاحقهم باغتيالاتها، ومحاولة خلق فوضى داخلية، لهذا وجدوا من الإمام الخمينيّ (ت 1409هـ/ 1989م) رمزيّة وحدويّة داخليّة، اجتمع عليها الجميع، للتّمهيد لحكم ديمقراطيّ يشمل الجميع، تحت مظلّة ولاية الفقيه كصورة رمزيّة دينيّة لها صلاحيّتها المحدودة ابتداء وفق دستور الثّورة، أي الدّستور الأول، بينما السّلطة يتمّ تداولها ديمقراطيّا، ومفتوحة لجميع الأحزاب، وليست حكرا على فئة ثيوقراطيّة معينة.

إنّ جدليّة ولاية الفقيه هي مخرج فقهيّ وفق نظريّة الإمامة عند الشّيعة الاثني عشريّة، إذ ربطت الحكامة ابتداء بالأئمّة المنصوص عليهم نصّا جليّا – حسب رؤيتهم – من الإمام عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) وحتّى محمّد بن الحسن العسكريّ، المهديّ المنتظر، بيد أنّ المهديّ غاب عن الأنظار وهو صغير السّنّ، فدخل المجتمع الشّيعيّ في غيبة صغرى، وقد امتدت من 260هـ وحتّى 329هـ، وقد كان ينوب عن الإمام المهدي سفراء أربعة، ويقومون مقام الإمام في النّيابة الخاصّة، وبوفاة السّفير الرّابع أي عليّ بن محمّد السَّمريّ عام 329هـ دخل الإماميّة في غيبة كبرى حتّى اليوم، وحدث جدل فقهي قديم حول النّيابة العامّة، وكانوا أقرب إلى السّلب حتّى أتى الكركيّ (ت 937هـ)، وجعل للفقيه ما للإمام من نيابة خاصّة في الأمور السّياسيّة، بينما جمهور الفقهاء الإماميّة لم يتقبلوا هذه الرّؤية، ورأوها من اختصاصات الإمام المعصوم أو من يعيّنه من سفراء، وليس من اختصاصات الفقيه.

وفي نهاية القرن التّاسع عشر الميلادي كانت في إيران دعوات إصلاحيّة دستوريّة، توافق عليها كافّة الاتّجاهات الوطنيّة، ومنها بعض الرّموز الدّينيّة، وعلى رأسها الشّيخ النّائينيّ (ت 1355هـ/ 1936م) المشهور بكتابه: "تنبيه الأُمَّة وتنزيه الملّة"، والّذي قاد هذا إلى الثّورة الدّستوريّة، وهو تطوّر لأهميّة الفقيه وحضوره في المجال السّياسيّ، وكانت رؤية  حسين البروجرديّ (ت 1380هـ/ 1961م)،  وهو من أكبر المرجعيّات المؤثرة في عهد الشّاه، وكان منفتحا في رؤية النّائينيّ وبعض أجزاء ولاية الفقيه، وكما يذكر حسين منتظري (ت 1431هـ/ 2009م) أنّ البروجرديّ كان يطرح نظريّة ولاية الفقيه في دروسه حول صلاة الجمعة، بيد أنّ الدّروس الّتي ألقاها الإمام الخمينيّ عام 1969م أثناء نفيه في النّجف بالعراق، والّتي ظهرت لاحقا في كتاب "الحكومة الإسلاميّة" انتشرت انتشارا كبيرا في إيران وخارج إيران، ولقيت معارضة في الوقت ذاته من الرّموز التّقليديّة ومن العديد من المرجعيّات الدّينيّة، بيد أنّ الرّغبة الشّبابيّة الثّوريّة حينها بسبب الاتّجاهات الثّوريّة اليساريّة من جهة، وبداية ظهور الاتّجاهات الحركيّة الإسلاميّة من جهة ثانيّة، أظهرت العديد من النّظريّات في الوسط الشّيعيّ بسبب الحالة الفقهيّة الانغلاقيّة الّتي أشرتُ إليها، فظهرت نظريّة شورى الفقهاء، وولاية الأمّة على نفسها، ودولة الإنسان، كما تطوّرت نظريّة ولاية الفقيه، وكتب لها الحضور السّياسيّ في إيران بعد الثّورة.

ثمّ كثرت الجدليّات بعد الثّورة عن آلية اختيار الوليّ الفقيه وصلاحياته ومحاسبته وفق نظريّة ولاية الفقيه، فهل يكون بالتّعيين أم بالاختيار عن طريق مجلس الخبراء الّذي هو أقرب إلى أهل الحلّ والعقد، ويكون بالانتخاب، كذلك ظهر الجدل هل يكون شخصيّة واحدة أم هيئة استشاريّة، وهل يشترط أن يكون فقيها معمّما أم يعمّ ذلك من لديه قدرات إداريّة وسياسيّة ولو لم يكن فقيها، بيد أنّ القضيّة ضاقت من جهة، واتّسعت من جهة أخرى، لمّا صدر الدّستور الجديد بعد دستور الثّورة، فضاق في اختيار الوليّ الفقيه، واتّسع في صلاحيّاته، ممّا ضاقت صلاحيّات الرّئيس المختار من المجتمع.

وفي إيران، ولأسباب غلبة الاتّجاه الدّينيّ في إيران؛ ضعفت الاتّجاهات الأخرى حتّى يكاد ينعدم حضورها، بعدما كانت حاضرة أيام الشّاه، ومتدافعة مع الإسلاميين، وبعد فوز  محمّد خاتمي بانتخابات رئاسة الجمهوريّة عام 1997م بدأ الاتّجاه الإصلاحيّ في خطّه الإسلاميّ يتمدّد؛ إلّا أنّه ضعف لاحقا حتّى خفت حضوره حاليا، وأصبحت الغلبة للمحافظين، فهم من يمثلون مجلس خبراء القيادة، وهم الغالب حاليا في البرلمان والحزب الحاكم، وأصبحت الآراء تذهب اليوم إلى أنّ الوليّ الفقيه مرتبط اختياره من ذات دائرة المحافظين، لهذا ربط به إبراهيم رئيسيّ.

وطبيعيّ في أيّ دولة ملكيّة شموليّة، إذا لم يكن فيها ولي عهد؛ تكثر التّخمينات، خصوصا إذا كانت صلاحيات الحاكم مطلقة، وفوق جميع السّلطات كما هو الحال مع الوليّ الفقيه في إيران، وكذلك إذا كان عمر الولي الفقيه الحالي كبيرا في السّن، وطبيعيّ كلّما كبر عمر الإنسان ضعف في إدارة الدّولة، فظهرت التّخمينات سابقا أنّ الوليّ الفقيه المقبل هو محمود الهاشميّ الشّاهروديّ، بيد هناك من كان يضعف الأمر لكونه عراقيّا، وبسبب وفاته عام 1440هـ/ 2018م ظهرت الجدليّة أنّ الوليّ الفقيه هو إبراهيم رئيسي لقربه من الإمام عليّ الخامنئيّ، وبوفاته الحالية نجد التّخمينات تشير إلى ابنه مجتبى الخامنئيّ، وهذه لا تتجاوز التّخمينات، ففي أيام الخمينيّ كان الإيرانيون يتوقعون أنّ الوليّ الفقيه لن يتجاوز حسين منتظريّ، بيد قبل وفاته تفاجئوا بعزله، ثمّ بعد وفاة الخمينيّ عيّن الوليّ الحاليّ.

وكما أسلفت طبيعيّ مثل هذه الحالة تقلق الشّعب الإيرانيّ؛ لأن الوليّ الفقيه الحاليّ بصلاحيّاته المطلقة تعادل أي حاكم ملكيّ له مطلق الصّلاحيّات، كما يقلق العالم الخارجيّ أيضا، خصوصا أنّ الولي الفقيه يدور في دائرة المحافظين من جهة، ولارتباطه الكبير في قرارات العلاقات الخارجيّة من جهة ثانية، ومع أنّ الوضع الرّئاسيّ في إيران بالنّسبة للرّئيس محكم دستوريّا ومؤسّسيّا، وكما يبدو ظاهريّا في وضع اختيار الوليّ الفقيه من خلال مجلس خبراء القيادة، بيد أنّ القلق لا زال عالقا داخليّا وخارجيّا، وهذا ما نراه اليوم من قراءات متجاذبة في تفسير حادث المروحيّة ومقتل إبراهيم رئيسي، لا يخرج عن دائرة القلق لما يحدث في العالم حاليا، وأصبحت إيران طرفا فاعلا فيه، وللحالة السّياسيّة وللاقتصاديّة الّتي تعيشها إيران داخليّا، وللزّمن كلمته واقتضاءاته.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

ثلاث زوايا في استهداف المراجع الدينية بالنجف

السيد الصدر وقائمة الاغتيالات

قبل أسابيع (وبالتحديد في 19 شباط /فبراير 1999)، وفي ظروف غامضة، جرى اغتيال السيد محمّد صادق الصّدر ونجليه مؤمّل ومصطفى، حين كان عائداً إلى منزله في منطقة "الحنانة" في النّجف، حيث تعرّضت سيارته للملاحقة، فاصطدمت بشجرة قريبة فترجّل المهاجمون من السيارة المطاردة، وأطلقوا النّار على السيد الصدر ونجليه، وبذلك فقدت الحوزة العلمية في النّجف وجامعتها الشهيرة أحد أبرز روّادها الحاليين.

وقبل هذا الحادث بعدة أشهر اغتيل الشيخ علي بن أسد الغروي التبريزي (في ظروف وصفت بأنها غامضة) في 19 حزيران (يونيو) العام 1998، عندما كان في طريقه بين مدينتي النّجف وكربلاء، ودُفن بمقبرة وادي السلام في النّجف. وسبقه اغتيال الشيخ مرتضى البروجردي حين دُبِّرت له مؤامرة لتصفيته، إذ قام أحد العملاء بإطلاق النار عليه بعد عودته من صلاة الجماعة، التي كان يقيمها داخل الحرم المطهَّر، فسقط على أثرها مضرَّجاً بدمه في 22 نيسان (أبريل) 1998، ودفن بمقبرة وادي السلام في النّجف الأشرف حسب وصيته.

 كما جرت محاولة اغتيال الشيخ حسين الباكستاني. وحامت الشبهات حول اصطدام سيارة السيد أبو القاسم الخوئي ووفاته في 8 آب (أغسطس) 1992. (مع أنه كان قد بلغ من العمر عتياً، كما يُقال، لكنه تعرّض إلى وضع نفسي، خصوصاً بعد إجباره على الظهور في لقطة تلفزيونية).

كلّ ذلك يلقي بظلال قاتمة من الشكّ حول المستفيد من تصفية المرجعيات الإسلامية في النجف، وحول الأهداف التي يتوخّاها فريق التصفية ومن وراءهم، وكذلك حول الأساليب والخطط التي استخدمها هذا (الفريق)، الذي كان في كل مرّة يلوذ بالفرار، حيث كانت قوات الأمن والشرطة تصل إلى مكان الحادث، بعد أن يكون المرتكب والجاني قد غاب تماماً، فتلقي القبض على الضحية وتندّد بالجريمة، وتعدُ الحكومة بإنزال أقصى العقوبات بالفاعلين بعد إلقاء القبض عليهم، وسرعان ما كانت النار تبرد والكلمات الحماسية تختفي ويعود كل شيء إلى سابقه.

إن هذا الوضع المثير للارتياب وظروف ارتكاب الجريمة أو الجرائم المتواصلة، كان يثير الكثير من الهواجس والأسئلة المشروعة، ويضع العديد من الجهات القضائية والحقوقية الدولية أمام تساؤلات مشروعة، وكذلك منظمات حقوق الإنسان، التي أخذت تدعو لإرسال بعثة لتقصّي الحقائق ذات صفة دولية، وهو ما كان قد دعا إليه أيضاً السيد فان دير شتويل، المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان في العراق التابعة للأمم المتحدة، ووزير خارجية هولندا الأسبق.

ووصف فان دير شتويل حال حقوق الإنسان في العراق منذ العام 1992 بأنه "استثنائي"، ويتطلّب "معالجات استثنائية"، ولم يسمح له منذ ذلك التاريخ بزيارة العراق أسوة بلجان التفتيش عن الأسلحة، كما لم تصرّ الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومن ورائه الولايات المتحدة بضرورة مراقبة حالة حقوق الإنسان في العراق، طبقاً للقرار 688 الخاص بكفالة احترام حقوق الإنسان في العراق، والحقوق السياسية لجميع المواطنين (1991) مثل القرارات الأخرى "المجحفة"، التي فرضت تطبيقها استناداً إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

بعد اغتيال السيّد الصّدر مؤخّراً وصدور ردود أفعال حادّة عراقية وعربية وإسلامية ودولية ضد تلك الجريمة، أقدمت الحكومة العراقية على إلقاء القبض على أربعة متّهمين، وقالت: إن خامساً لاذ بالفرار، وعرضت هؤلاء المتهمين على شاشة التلفزيون مُدلين (باعترافات) ملمّحين بـ(تورّط) جهات خارجية ولحسابات (ذاتية وخاصة)، قاموا (بارتكاب) الجريمة.

إن ذلك السيناريو ألقى المزيد من التشوّش والارتباك حول الجريمة وأبعادها، خصوصاً مسلسل تصفية المرجعيات الإسلامية في النجف، التي ظلّت مصدر شكٍّ في ولائها (للدولة) وسياساتها، ويتطلّب الأمر فيما يتطلّب كشف نتائج التحقيق والسماح بإرسال بعثة لتقصي الحقائق حول "الاغتيالات السياسية" ومنها حادث اغتيال الصدر محمد صادق، وإجراء محاكمات عادلة وعلنية للمتهمين، تضمن لهم حق الدفاع عن النفس وتوكيل محامين للدفاع عنهم ، وذلك لكشف أبعاد وتبعات هذه الجريمة، والذين يقفون وراءها، إذْ لا يكفي تنفيذ عمل إجرامي بحق مرجع ديني مرموق، ومن ثم إصدار حكم سريع، ولا تتوفّر فيه الشروط القانونية في التحقيق والمحاكمة وظروف وملابسات الحادث، لكي يتم إسدال الستار على هذه الفعلة النكراء.

البحث الذي نضعه بيد القارئ يعالج موضوع الاغتيال السياسي (العربي) مع تركيز خاص على العراق وهو يتناول المسألة من ثلاث زوايا:

- علم النفس الاجتماعي

- القانون الدولي

- مواثيق حقوق الإنسان

نأمل أن يساهم في تسليط الضوء على هذه الظاهرة الخطيرة، التي أصبحت جزءًا من مسلسل متواصل في العراق.

II - الاغتيال وعلم النفس الاجتماعي:

تمثّل قضية الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة ظاهرة خطيرة في الوطن العربي، وللأسف الشديد فإنها أخذت بالتوسّع والانتشار، في الوقت الذي يتطوّر فيه الوعي العالمي باحترام حقوق الإنسان الأساسية.

ولم تعد هذه الظّاهرة تقتصر على الحكومات التي عمّقت وطوّرت من إرهابها ووسائلها العنفيّة، بل امتدّت لتشمل قوى خارج السّلطات، فقد اعتمدت قوى التطرّف على وسائل مماثلة لحل النّزاع بينها وبين السّلطات ولرد إجراءاتها وممارساتها الإرهابية بأعمال إرهابية، فقد جرى اغتيال بعض الشخصيات الثقافية والفكرية السياسية اللاّمعة بفعل سيادة ظاهرة تغييب الرأي الآخر وإن اقتضى الأمر إلغاء حق الحياة الذي هو حق أساسي للإنسان، لا يمكن الحديث عن أية حقوق أخرى في ظلّ إهماله.

وقد نصّت المادّة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948 على ما يلي: "لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". وقد وردت  بعض الحقوق التكميلية لحق الحياة والسلامة الشخصية  كعدم جواز الرق (المادة 4)  وتحريم التعذيب والمعاملات القاسية (م-5) وحق الاعتراف بالشخصية القانونية (م-6) والمساواة أمام القانون (م-7) وحق اللجوء إلى المحاكمة للإنصاف من الاعتداء على الحقوق الأساسية (م-8) وعدم جواز القبض على الإنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً (م-9).

ونصّت المادّة السادسة من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام  1966 ، والذي دخل حيّز التنفيذ عام 1976، على أن "حق الحياة حق ملازم لكلّ إنسان وعلى القانون أن يحمي هذا الحق ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفاً". إذْ لا يمكن الحديث عن تلك الحقوق بدون حماية الحق في  الحياة، الذي هو حق أساس تصب بقية الحقوق وتتمحور فيه.

لا أريد هنا الحديث عن ظاهرة الاغتيال السياسي في التاريخ، علماً بأنها تطوّرت كثيراً بتطوّر وسائل العلم والتكنولوجيا، لكن الهدف ظلَّ واحداً وإنْ اختلفت الوسائل، ألا وهو إلغاء حق الخصم في التعبير، والإجهاز على الرأي الآخر حتى وإنْ تطلّب الأمر التصفية الجسدية.

وأياً كانت الذرائع المستخدمة، سواء سياسية أم فكرية، وأياً كانت المبرّرات سواء كانت "طبقية" أم " قومية" أم " دينية" أم "مذهبية"، وأياً كانت الوسائل المتبعة رصاصة أو سكيناً أو كاتم صوت أو كأس ثاليوم أو حادث سيارة أو تفجير، فإنها من زاوية علم النفس الاجتماعي تلتقي عند عدد من النقاط، هي باختصار:

الأولى - أنها تستهدف تغييب الخصم وإلغاء دوره ومصادرة حقه.

الثانية - أنها تعتمد على الغدر وإخفاء معالم الجريمة في الغالب.

الثالثة - أنها تتّسم بسرّية كاملة وقد يقوم بها بعض المحترفين .

الرابعة - أنها تستخدم جميع الأساليب لتحقيق أهدافها من أكثرها فظاظة وبربرية إلى أكثرها مكراً ونعومة، بحيث يمكن إخفاء أي أثر يُستدلُّ فيه على الضحية.

الخامسة - الحرص على إخفاء هوّية المرتكبين حين يسير المجرم في جنازة الضحية، وقد ينصرف الذهن إلى أن ثمة أطراف أخرى بهدف التمويه ودق الأسافين وتوريط جهات لا علاقة لها بالجريمة.

السادسة - أنها تتجاوز على حكم  القانون، سواء كانت الحكومات هي المسؤولة عن تطبيق القانون وحماية الحق في الحياة، أم كانت قوى التطرف، هي التي قامت بالارتكاب خارج  دائرة القانون، فأعطت لنفسها الحق في إصدار أحكامها، بل قامت بتنفيذها بعيداً عن القضاء والمشروعية القانونية.

ومهما كانت المبرّرات والأسباب التي استخدمت لتبرير الاغتيال وظواهر العنف والعنف المضاد، فإن هذه الظّاهرة تنتشر في ظلّ غياب الديمقراطية وشحّ الشرعية السياسية، وانعدام حالة الحوار بين السّلطة والمعارضة وبين الجماعات والتيارات الفكرية والسياسية، وهي تمثّل حالة الضعف والخوف من جانب الجهات، التي تلجأ إلى استخدام الاغتيال ووسائل العنف لحلّ خلافاتها السياسية والفكرية، فالحكومات أو القوى التي تشعر أنها تحظى بتأييد الرأي العام ومؤسّساته واختيار الشعب، لا تفكّر في اللّجوء إلى وسائل العنف أو الاغتيال لإلغاء حق الخصم في التعبير، وبالتالي إلغاء حياته.

III - الاغتيال والقانون الدولي:

لا بدّ من الإشارة إلى أن الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة، هما أسوأ درجات انتهاك حقوق الإنسان، وهما دليلا ضعف وليس دليل قوّة، ولذلك فإن الجهات التي تلجأ إليهما أحياناً تحاول التنصّل منهما رسمياً أو تنفي مسؤوليتها عن أعمال تُرتكب باسمها.

كما لا بدّ من الإشارة إلى أن القوى التي تلجأ إلى الاغتيال ومصادرة حق الحياة في الغالب تعتمد على "الإيمانية" المطلقة أو "اليقينية" الثابتة، وهي جزء من الفكر الشمولي، الإطلاقي الوحيد الجانب، وهي لا تؤمن بالتعدّدية وبحق الآخرين، بل تعطي نفسها الحق أحياناً في تحريم أو تجريم الآخرين، ومصادرة حقوقهم تارة باسم " الشعب" كل الشعب، وأخرى باسم الأمة أو القومية أو الطبقية، وثالثة باسم الدّين.

ولا يربط القوى والجماعات التي تعتمد على الاغتيال والعنف وسيلة لحل الخلافات رابط مع العقلانية ولا الموضوعية، فالانحياز المسبق والتفكير المعلّب المصنوع خصيصاً من نسيج التصوّرات الناجزة، هو الذي يفعل فعله ويحكم علاقة هذه القوى والجماعات بالآخرين وبالموقف منهم.

ولم تكتفِ بعض الحكومات باعتماد محترفين للقيام بمهمّات الاغتيال، بل لجأت إلى استئجار مرتزقة، مُرغمة، في بعض، الأحيان الفاعلين عن طريق احتجاز عائلاتهم أو إكراههم على القيام بارتكاب جرائم "للنجاة بأنفسهم"، مقابل اغتيال خصوم تختارهم هذه السّلطات بالاعتماد على بعثاتها الدبلوماسية، التي تتمتّع بالحصانة الدبلوماسية بموجب اتفاقية فيينا لعام 1961 حول "العلاقات الدبلوماسية"، مهرّبةً الأسلحة والمعدّات ووسائل القتل بالحقائب الدبلوماسية، مستفيدةً من المزايا التي تمنحها اتفاقية فيينا.

هكذا تتحوّل الدبلوماسية، التي هي جناح من أجنحة الدولة لإظهار وجهها الحسن ولحماية مصالح البلاد الوطنية ورعاياها في الخارج، وتعزيز وتطوير علاقاتها الدولية إلى جهاز من أجهزة القمع، يجمع بعض المحترفين من القتلة، فدبلوماسية من هذا النوع، حسب  حسن العلوي في كتابه "دولة المنظمة السرية"، لا تعني سوى عين استخبارية مصحوبة بالعنف والإرهاب، أي "عين المقر" كما يطلق عليها.

وحين نكون أمام حالة انعدام المعايير واختلاط الرغبة في تطويع الآخر بتبرير حق تصفيته، وادعاء امتلاك الحقيقة، والرغبة في الحفاظ على المواقع بمصادرة حق الآخرين أو لقاء الله قرباناً لزرع العدل على الأرض، كما سمعنا الكثير من المسوّغات الإرهابية.

أغلب الظنّ أنّ الذين يمارسون الإرهاب والعنف ويصدرون أوامر الاغتيال، يريدون أن يصوروا الأمر لنا على هذه الشاكلة... هكذا يموت الإنسان بدون مُرتكب، بالمصادفة بشرب كأس الثاليوم، أو عن طريق رصاصة طائشة تستقرّ في رأسه يفارق الحياة، وبقدر غاشم تصطدم سيارته أو تسقط طائرته أو يلقى على قارعة الطريق ثم تقوم السلطات بإلقاء القبض على الضحية ويهرب الجناة، كما هو في الكثير من الأفلام السينمائية. هكذا يريدون أن نصدّق بأن الأشياء تحدث بدون مرتكب، سوى الصدفة المجنونة، وفي الواقع ليس ذلك سوى إهانة للعقول وتمادياً في الزيف واستخفافاً بالمنطق.

IV - الاغتيال ومواثيق حقوق الإنسان:

لم يعد الاغتيال فردياً، فقد وسعّت الحملات الجماعية من مفهومه، وتحوّل إلى نوع من العقوبة الجماعية: حروب إبادة لجماعات عرقية أو دينية أو مذهبية، وأحياناً لشعوب بكاملها . فلم تكتفِ "إسرائيل" والصهيونية العالمية بإلغاء وجود شعب فلسطين وحقه في الحياة وتقرير المصير، بل اقتطعت أجزاءً عربية عزيزة من جنوب لبنان، إضافة إلى  الجولان السورية وغيرها، وامتدت يد الإرهاب الصهيوني لتحاول اقتلاع بعض رموز ثقافة المقاومة، ولتُجهز على مثقفين بارزين أمثال غسان كنفاني، الذي طارت أشلاؤه في بيروت بانفجار سيارته، وكمال عدوان وكمال ناصر وأبو يوسف النجار، الذين اغتيلوا في وضح النهار بقرصنة "إسرائيلية" في بيروت، وماجد أبو شرار في روما وخليل الوزير (أبو جهاد)، الذي اغتيل في تونس، وباسل الكبيسي في باريس، وناجي العلي في لندن. ولم تكن بعض الحكومات العربية أكثر رحمة مع الفلسطينيين من غيرهم، كما أن بعضهم لم يكن أقل عنفاً من الغرباء.

ظهر ذلك في الصراعات العربية - الفلسطينية والفلسطينية - الفلسطينية، وكان الرصاص المشبوه الهويّة، قد تكفّلته الصّراعات الداخلية وحلّ محل الحوار والعقلانية وحق الاختلاف وحرية التعبير... رصاص ملتبس ومتسلّل، وإنْ تعدّدت المصادر والجهات.

ومؤخّراً، شملت أعمال الاغتيال في الجزائر أعداداً كبيرة من المواطنين، وخصوصاً من المثقفين، حيث اغتيل إضافة إلى الكاتب الجزائري المعروف الطاهر جعوّط ونحو 33 صحافياً وفناناً، إضافة إلى عدد غير قليل من النساء اللّواتي جرى اغتصاب العديد منهن ثم اغتيالهن، ووصلت موجة الصدام بين الحكومة وقوى التطرّف إلى اغتيال سجناء أبرياء عزل، وتُرتكب مجازر يُلقي كل طرف مسؤوليتها على الطرف الآخر، في حين لا يمكن قبول تبرير مسوّغات قوى التطرّف وانفلات الإرهاب والتجاوز على القانون، كما لا يمكن قبول تبريرات الحكومة وممارساتها الإرهابية، التي تنتهك حقوق الإنسان بزعم مواجهة الإرهاب. 

وفي مصر امتدّت قوى التطرف لتنال من الكاتب والمبدع الكبير نجيب محفوظ، الذي حاولت سكّين حاقدة أن تقضي على حياته وتصادر حقّه في التعبير، خصوصاً بعد محاولات ظلامية لتكفيره عن رواية "أولاد حارتنا"، التي مضى على إصدارها أكثر من ثلاثة عقود، كما حدث مع الكاتب فرج فودة، الذي اغتيل غدراً في القاهرة قبل سنوات، وبتصاعد موجات التطرّف تضاعف الحكومة من أعمالها العنفية والإرهابية لتضيف ذرائع جديدة على كبت الحرّيات، وتقليص دائرة المشاركة.

وفي لبنان يوم سقط الشيخ الجليل حسين مروة مضرجاً بدمائه، وقف مهدي عامل مودّعاً زميله أمام ضريح السيدة زينب في دمشق، مخاطباً المثقفين بالقول: إذا لم توحّدنا الثقافة بوجه الظلام والتخلّف فماذا سيوحّدنا بعد... أهو كاتم الصوت؟ ولم يدر بخلده أنه سيكون الضحية القادمة بعد مروة بثلاثة أشهر، سبقه الصحافيان خليل نعوس وسهيل طويلة والقائمة تطول، وتشمل عشرات الأسماء اللاّمعة، والتي تشكّل منارة مشرقة في الثقافة اللبنانية والعربية.

وفي ليبيا كشفت نتائج غير قليلة من الأعمال التي ارتكبتها "الدبلوماسية الليبية"، في الخارج في لندن وألمانيا وأثينا وفيينا وغيرها، عن وجود "جهاز إرهابي" متخصّص مهمّته اغتيال المعارضين، وهو نهج يبدو أنه متبع، فعقب اختفاء المعارض الليبي المعروف وداعية حقوق الإنسان منصور الكيخيا، صدر أكثر من تصريح رسمي من مراجع حكومية متنفّذة استخفافاً منها بهدر دم المعارضة في الداخل والخارج، وهذا لعمري اعتراف صريح من جانب الحكومة بممارسة "الإرهاب" ضدّ مواطنيها على نحو علني ومباشر، بالضدّ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة.

ونهجت حكومة السودان مؤخّراً نهج تصفية الخصوم وتصعيد العنف، الذي لم يكن بمعزل عن مساهمة قوى التطرّف، التي مارست أعمالاً عدوانية هي الأخرى، حيث اغتيل مؤخّراً الفنان الخوجلي عثمان بحجج واهية ولأغراض خاصّة بعد المفكّر الإسلامي محمد محمود طه، الذي أعدم بسبب أفكاره في 18 كانون الثاني (يناير) 1985.

والقائمة تطول عربياً، ولا يتّسع المجال لذكر كل التفاصيل، لكنّني سأتناول بشيء من التركيز على الاغتيال كوسيلة من وسائل تعميم الإرهاب في العراق، حيث يكاد يكون النموذج الأصرح ليس على صعيد العالم العربي وحسب، وإنما على الصعيد العالمي.

فقد اتّهم النظام بارتكاب "جرائم إبادة جماعية" في جنوب العراق، وبخاصة مناطق الأهوار وفي شمال الوطن "كردستان"، خصوصاً خلال الانتفاضة في 1991، وقبلها في "حلبجة" عام 1988، وعمليات "الأنفال" السيئة الصيت، ومارس الاغتيال ضدّ جميع القوى والتيارات والاتّجاهات السياسية والفكرية على الصعيد الداخلي والخارجي، أذكر بعض الحالات على سبيل المثال لا الحصر.

فبينما كانت الحكومة العراقية تتفاوض مع الحزب الشيوعي لتوقيع ميثاق الجبهة الوطنية، قامت باغتيال ثلاثة من قادته وهم: ستار خضير ومحمد الخضري وشاكر محمود. وحين تمّ الاتفاق مع قيادة الثورة الكردية في 11 آذار (مارس) 1970 استغفلت الأجهزة الأمنية عدداً من رجال الدّين فألغمتهم القنابل لتفجيرها في مقر الملاّ مصطفى البارزاني، وبينما كان صالح اليوسفي، الزعيم الكردي المعروف، مقيماً في داره في بغداد (أشبه بالإقامة الجبرية أو ما يسمّى تحت المراقبة)، أرسل إليه طردًا لينفجر ويقضي عليه، بينما اغتيل الزعيم القومي العربي فؤاد الركابي في حين كان يقضي سنواته في السجن بتهمة ملفّقة، وقبله اغتيل العسكري البعثي اللّواء مصطفى عبد الكريم نصرت بحادث مفتعل ومدبّر.

بينما اغتيل حردان التكريتي (في الكويت) وعبد الرزاق النايف (في لندن)، وهما من أركان انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968، وحامت الشبهات أيضاً حول اغتيال عدنان شريف وعدنان خيرالله طلفاح اللّذين لقيا مصرعيهما بحادثي طائرة، بينما سمّم بالثاليوم، كما أفادت التقارير الطبية، عضو قيادة قطر العراق مجدي جهاد، الذي توفّي في لندن في ما بعد.. ولقي مصيراً مشابهاً فؤاد الشيخ راضي. وتعرّض العديد من عناصر النظام إلى حوادث غامضة، أودت بحياتهم في ظروف ملتبسة.

وجرت محاولات تسميم بالثاليوم خلال فترات مختلفة لعدد من الشخصيات بينهم الدكتور محمود عثمان وعدنان المفتي وسامي شورش والدكتور حسين الجبوري والعقيد عادل الجبوري، ومؤخّراً صفاء البطاط والشيخ فيصل الشعلان، الذين نجوا من تلك المحاولات بأعجوبة.

كما جرت محاولة اغتيال كبرى لزعامات وشخصيات قومية عربية في القاهرة في 25 - 26 شباط (فبراير) 1972 شملت الدكتور مبدر الويس والفريق عارف عبد الرزاق وعرفان عبد القادر ورشيد محسن وصبحي عبد الحميد وهادي الراوي وسيد حميد سيد حسين الحصونة، لكن السّلطات المصرية أحبطتها بعد أول عملية تنفيذ.

وأقدمت الحكومة العراقية، بواسطة عدد من دبلوماسييها في الخرطوم، على اغتيال الزعيم الإسلامي المعروف السيد مهدي الحكيم نجل السيد محسن الحكيم وذلك عام 1988، وبعد تنفيذ هذه الفعلة النكراء هرب القتلة، ولم تكن التحقيقات بمستوى الحادث الأثيم، كما أثيرت الشكوك حول مصير السيد محمّد تقي الخوئي، الذي صدمت سيارته في الطريق العام بين مدينتي النجف وكربلاء، حيث نصب له كميناً على الطريق، وسحقت سيارته شاحنة كانت تنتظره على جانب الطريق العام ليلاً، ثم أشعلوا النار في السيارة التي كانت تقله، فأصيب بنزف في رأسه، وتم تطويق المنطقة في مكان الحادث، و محاصرة النّجف، ومنع الناس من نقل المصابين إلى المستشفى بحجة الانتظار لوصول سيارة الإسعاف، وبقي الشهيد ينزف في الشارع من المساء حتى الفجر، فتوفي في 22 تموز (يوليو) 1994.

وقد أعرب المقرر الخاص للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة عن بالغ قلقه للظروف الغامضة والملابسات التي أحاطت بوفاته، إضافة إلى ما تعرّض له والده السيد أبو القاسم الخوئي، واعتقال العشرات من أفراد عائلته مما يثير الارتياب حول التقارير التي أشارت إلى أن السيارة تعرّضت للاحتراق ولم يتسن العثور على سائق الشاحنة.

ومن الحوادث المثيرة والصارخة اغتيال الشيخ طالب السهيل (رئيس عشيرة بني تميم العربية المعروفة) التي اتّهم بها موظفّان من السفارة العراقية في لبنان، حيث ألقي القبض عليهما بعد أن التجآ إلى السفارة العراقية واعترفا بأنهما قدما إلى لبنان خصيصاً بهدف قتل الشيخ طالب السهيل. ونشأت أزمة دبلوماسية بين لبنان والعراق نجم عنها قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق السفارة العراقية في بيروت.

هذه الحادثة تجعلنا نفكّر بأي زمن نعيش فيه حيث يتم اختلاط الأشياء وتداخلها وتنوّع وتبادل الأدوار والمواقف بقصد خلط الأوراق وإخفاء الحقيقة. فالشرطي يصبح دبلوماسياً، والدبلوماسي الذي يفترض أن يحترم قواعد القانون الدولي والبروتوكول الدبلوماسي يتحوّل إلى قاتل محترف، والدولة التي يفترض فيها أن ترعى حقوق مواطنيها تتحوّل إلى صيّاد للخصم لانتهاك الشرائع والأعراف، والحجة هي تصفية الرأي الآخر.

ونريد هنا أن نذكّر أن الحكومة العراقية والحكومات التي مارست وتمارس الإرهاب، تترتب عليها مسؤولية دولية جديدة، إضافة إلى مسؤوليتها في خرق قواعد القانون الدولي والقانون الدبلوماسي، كما أن من واجب الأمم المتحدة والمجتمع الدولي تأمين احترام القواعد العامة للقانونين الدولي والدبلوماسي، وإرغام المرتكبين والمخالفين على الامتثال لهذه القواعد باعتبارها قواعد آمرة ملزمة، إضافة إلى تأمين احترام الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي أصبحت قواعد ملزمة على الدول والحكومات احترامها وإلّا ستعرّض نفسها للمسؤولية، أي أنها واجبة الأداء وكما يُقال في اللاتينية Jus Cogens. يضاف إلى ذلك ثمة مسؤولية تقع على عاتق الحكومة العراقية  والمجتمع الدولي وبخاصة الأمم المتحدة على حدّ سواء؛ الأولى في ضرورة الامتثال للقرار 688 القاضي بكفالة احترام حقوق الإنسان في العراق؛ والثانية لتأمين تطبيقه. وفي الوقت الذي تصرّ فيه على تنفيذ جميع القرارات المجحفة وغير المتكافئة، نراها تغضّ الطرف وتتهاون إزاء تنفيذ القرار المذكور.

***

ونتساءل هل نحن حقاً أمام "حكومات" تمتثل للمشروعية القانونية وللشرعية السياسية، التي تتمثّل باحترام  الإرادة العامة للنّاس وعليها أن تسوسهم باختيارهم وتمثيلهم ومشاركتهم؟ أما ما يخصّ الشق الثاني من أعمال الاغتيال والإرهاب من جانب قوى التعصّب والتطرّف، نتساءل أيضاً: هل يمكن كسب الجمهور وتحقيق البرنامج السياسي بقوّة السلاح؟ وقد جربت قوى وأنظمة ذلك تحت واجهات مختلفة، لكنها لم تصل إلى ما تصبو إليه.

إننا أمام أسئلة محرجة وقاسية، "فهذا زمن تتقدّم فيه الأسئلة وينهزم الجواب" مثلما يقول الشاعر العربي الكبير أدونيس.

***

د. عبد الحسين شعبان

.......................

- نُشرت المقالة بعد أسابيع من اغتيال السيد محمّد صادق الصّدر، في جريدة المنبر (اللندنية) التي كان يصدرها السيد حسين الصدر، في حزيران (يونيو) 1999، بعنوان: "ملف الاغتيال السياسي.. إلى أين - بعد رحيل السيد الصدر محمّد صادق". وكان النص الأولي قد تُلي كمحاضرة ألقاها الباحث في لندن في غاليري الكوفة (ديوان الكوفة)، عن "الاغتيال السياسي"، لمناسبة اغتيال الشيخ طالب السهيل التميمي بمنزله في لبنان في عام 1994. وهو إذْ يعيد نشرها بعد مرور ربع قرن على اغتيال السيد محمد صادق الصدر، تعميمًا للفائدة.

أتحدث شاهد عيان، لا مما كُتب وقيل، مِن هجاء ومديح، فما قرأته وسمعته، كان فرصة ومناسبة لمَن تراجع رصيده الفكري والسياسيّ والاجتماعي، في مصر أولاً، فمن السّهل أن تُكفر وتُزندق، وتُخون، وتسخر، وهذا الرباعي لا يحتاج إلى فكر ولا روية، يحتاج فقط إلى خفةٍ في الضَّمائر، ومفردات نابية. لذا، التسقيط سهل، وإنّ كان هدفه طه حسين (تـ: 1973)، ونجيب محفوظ (تـ: 2009)، وحامد نصر أبو زيد (تـ: 2010)، وفرج فودة (اغتيل: 1992)، وحسين مروة (اغتيل: 1987)، وسواهم العشرات بل المئات.

حضرت ندوة "التّكوين" في القاهرة، والتي عُقدت يومي الرابع مِن أيار (مايو) 2024 والخامس منه، وشاركتُ في ندوتها "النقد الفكري قبول أم مواجهة". شارك في هذه النَّدوة، وسواها مِن ندوات المؤتمر، آخرون مِن أصحاب الفكر، شباباً وشيبةً، لكن جميعهم يعدون مَن ذكرنا مكافحين في النّور لا في الظلمة، مِن الذين نالوا قسطهم مِن محاكم التفتيش، والإقصاء والاغتيال، والتفريق عن الزوجات، بدعوى الكفر، وهم لو كانوا أحياء، لتقدّموا الصف الأول في هذه النّدوة وغيرها، حيث قاعة المتحف المصريّ الحديث.

كان ضيف الشّرف طه حسين، مناسبة مرور 50 عاماً على رحيله (1973- 2024)، فما الذي يؤذي أو يُنفر مِن طه حسين؟! الذي كان عنواناً لمؤتمر "التكوين". يبدو كان هذا الإشكال الأول، بعدها يأتي الاسم "التّكوين"، فقالوا: إنّه سِفر مِن أسفار الكتاب المقدّس - العهد القديم التّوراة، فمعنى هذا أنَّ المؤتمر ذو نكهة يهوديّة، وبالغ البعض وقال "صهيونيّة". يا سبحان الله، وهل احتُكرت الألفاظ والمعاني، وما عاد لأحد استخدامها، وهي مثلما قيل على قوارع الطّرق والسكك؟ وهناك مكتبات ومؤسسات بهذا العنوان، ولم تثر انتباهاً، ولا فضولاً مَن تناولوا عنوان هذه المؤسسة؟

أتذكّر عندما جرى التّفكير بتغيير العَلَم العراقي، بعد 2003، ليعبّر عن حِقبة عراقية جديدة، تغادر العصبيات، على أشكالها، تقدّم المعمار رفعة الجادرجيّ (1926-2020) بتصميم للعلم الجديد، فرمز بشريط أزرق إلى الرَّافدين، دجلة والفرات، فقامت الضجة والشَّيطنة للجادرجي، على أنَّ هذا العلم يحاكي العَلَم الإسرائيليّ، وبالتالي لم يؤخذ به، وظل العلم العراقي بما اقترحه الإسلامي سوار الذهب (تـ: 2018)، على صدام حسين، نقش عبارة "الله أكبر"، كرمز للجهاد، بعد احتلال الكويت (الدليمي، "آخر المطاف")، وما تغيّر هو كتابة العبارة بخط غير النّقش الأول.

آخر، وهو ابن رئيس سابق، لم يجد طريقة يغازل بها الإسلاميين، غير استغلال صورة مفبركة، أُخذت في الفندق وليس في قاعة المؤتمر، لجماعة مِن المشاركين، وعلى إحدى الطاولات وضعت علبة "ستيلا" المصرية، فربط ندوات "التكوين" بها، فصار اجتماعاً إباحياً، لكن ابن الرئيس هذا، يعلم أن "ستيلا" وغيرها مِن عهد والده، فعلامَ هذه المزايدة، والمغازلة لخصوم التنوير. مع أنَّ الثائر مِن أجل الدين نفاقاً، لم يحضر ندوات المؤتمر، كي يرى حقيقة ما حصل.

أما ما قيل عن أنّ "التكوين"، ولم أكن عضواً في أمانته، وهم مِن أبناء مصر والشّام، أنهم "ملاحدة"، وبالتالي أن "التكوين" مؤسسة إلحادية، هدفها هدم الإسلام، مثلما أراد طه حسين مِن قبل، وهو ضيف الشّرف، فهل صارت الأبحاث في التاريخ القديم، والأساطير، والتصوف، ودراسات في القرآن، إلحادية؟ نعم تكون إلحادية لأنّها مسّت الجماعات المتطرّفة المسيّسة، لا الدين نفسه، ومَن قال كل ما كتبه أعضاء الأمانة، وما كتبه الطاعنون بـ"تكوين"، كان صواباً، إنّها أفكار قد تُقبل وقد تُرفض، فإذا كل من تبنّى رأياً مخالفاً اتُّهم بالكفر والإلحاد، مثلما حدث في مناظرة معرض الكتاب في القاهرة، واغتيل فرج فودة بسبب التحريض، الذي أطلقه المحمدان عمارة والغزالي، لشُلت الألسن وكُسرت الأقلام، ولم يبق معنى وأهمية لـ"لا إكراه في الدين"، ولا لـ"وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَأمَنَ مَن فِى ٱلْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ"، نقول هذا لمن يدّعون أنهّم الأحرص على الدين، وأنَّ كلَّ من خالفهم صار كافراً ملحداً.

هل كان كفراً عندما يُقال إنَّ القبول بين الأفكار، في التراث العربي الإسلاميّ، أقل كثيراً مِن المواجهة، وهل صار إلحاداً عندما يستشهد أحد المتحدثين، من على منصة "تكوين" بثلاث آيات تعطي حقّ الاختلاف: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة، آية: 48).

- ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي مَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (يونس، آية: 19).

- ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود، آية: 118).

هل إلحاد وكفر عندما يُستشهد، من على منصّة "تكوين" بالقول المأثور، ومنهم من اعتبره حديثاً "اختلاف أمتي رحمة"، أو يُستشهد بقول للفقيه سُفيان بن مسروق الثّوري (تـ: 161هـ): "إنما العِلم عندنا الرّخصة مِن ثقةٍ، فأما التّشدد فيُحسنه كلُّ أحد"، والرخصة تعني التفكير وتحترم الاختلاف. أو أن يرتقي المنصة أحد الأزهريين ويدلو بدلوه، فعلامَ هذه الحمية والغيرة الكاذبة على الدين، وأنتم لا تعجبكم هذه النصوص، ولو قدرتم لحذفتموها، ولكن جهدتم بتجميدها، بما تأسس من علم النَّاسخ والمنسوخ.

انتقد أحد المتحدثين، التشدّد الديني والإلحادي أيضاً، واعتبرهما مغذيين لبعضهما بعضاً، وحصل نقاش ثري في القاعة، على أنّ حرية الفكر لا تُجزأ، وما زالت لا تقوم بتفجير واغتيال، لك أن تؤمن أو تكفر، وهذا مشروع في آية قرآنية، لا تحتاج إلى تفسير وتأويل.

طرح هذا وغيره في ندوات "تكوين"، غير أنَّ ما أثير من ضجّة تخوين وشيطنة، لا صلة له بما حدث، فلو كان المؤتمر لعصائب وكتائب دينية، أو مؤتمراً لمفتين بالقتل، لجرى التسبيح له، لكن سوء حظه خصّ مثقفين، وقُدّمت فيه آراء لا فتاوى وقنابل، آراء ممكن الرّد عليها، لا، فهل كنتم عاجزين إلى هذا الحدّ، لا تملكون غير التجريح والتخوين وضجة الشّيطنة؟

إذا كانت هناك جهة أساءت إلى الدِّين، فهي الأحزاب والجماعات الدينيَّة السياسيَّة، التي جعلت مِنه سلّماً إلى السّلطة والثروة، وجلب الأتباع، لا مِن يريد إشاعة ثقافة العقلانيَّة، وما كانت البحوث تتناول الدّين، وتغور في الأُصول، لولا محاولات هذه الجماعات فرض أحكام خارج المنطق الفقهي نفسه، الذي يقول: "تتبدّل الأحكام بتبدّل الأزمان"، فعندما تتساوى الأزمان، لا يتميز بين القديم والجديد، في إدارة الحياة، مِن المؤكّد يظهر مَن يقف إلى جانب الحياة، وما قُدم مِن على منصّة "التكوين"، لم يخرج عن هذا المطلب.

أقول: مِن حقّ المثقفين، على مختلف توجّهاتهم واهتماماتهم، أدباء وباحثين ومؤرخين وفنانين وشعراء، وقوى الأنوار كافة، قول كلمتهم في مواجهة الواقع المريع، الذي تفرضه قوى الظلام والموت، عقود وهم يتلاعبون بعقول النَّاس، دمّروا التّعليم، وفرضوا ثقافة التّخلف، بصحوات دينيَّة، أشيعت فيها الطائفيَّة والأوهام، ومغيبات العقل كافة.

اختلفوا مع "تكوين" أو غيرها، وهناك مِن التنويريين، اختلفوا مع هذه المؤسسة، التي لم تلد بعد، فقد ظهرت في ندوة لا أكثر، لكن لماذا الأكاذيب والتحشيد، باستغلال الدّين؟! لماذا تجعلون مِن الدّين بضاعة لتجارتكم، مرّة باسم "الإصلاح"، وأخرى باسم "الخير"، وتريدون من الآخرين السُّكوت، والانصياع لتخويفكم، وتهديدكم بالتّكفير!

كنتُ رصدت في كتاب "صرعى العقائد... المقتولون بسبب ديني في الماضي والحاضر" (مركز المسبار- دبي، ودار المدى- بغداد) المئات مِن الفلاسفة، والأدباء والشعراء، وأهل التصوف، ومِن رجال الدّين أنفسهم، ثغبت دماؤهم مِن عروقهم، بسبب كلمة أو بيت شعرٍ، أو فكرةٍ، وأسبابٍ مختلفة، فهل تريدون استمرار هذا الواقع، باختطاف الدّين مِن قبلكم؟ والمطلوب السُّكوت على سفك الدِّماء باسم الدّين.

نعيد القول ونؤكّده، إذا كانت هناك مسؤولية في الإساءة إلى الدِّين فيتحمّلها الإسلام السّياسي، في منظماته السّرية والعلنية، وممارسته السُّلطة في أكثر مِن بلد إسلاميّ، لا جماعة، لا تملك غير الكلمة، تقولها في وضح النهار، فاعتبروا العلمانيّة كافرة، لأنّها لا تريد تمكين الجماعات الدينية مِن السُّلطة، ولا تقرّ أنَّ السياسة عبادة، شأنها شأن الصّلاة والصّيام، ومَن لا يسير في هذا الاتجاه فدمه غير معصوم عند تلك الجماعات.

ما لا تريد الجماعات العقائديَّة فهمه، والتَّسليم به، أنَّ زمن التخوين انتهى، مِن قبل اليمين واليسار، على حدٍّ سواء، بضاعة بارة في خاناتها، ظل يتناقلها الذُّباب الإلكترونيّ، لا تغني ولا تسمن، وإذا كنتم تدّعون المعصوميَّة، باسم الدِّين أو القومية، فلا عصمة في الثقافة ولا الفكر، وهذا ما نقوله لأهل "تكوين" أو سواهم أيضاً.

إذا كنتم ترون مِن حقّكم في النّيل مِن الآخرين، بالتّكفير وسفك الدّماء، لأنكم تملكون الحقّيقة دون غيركم، والحاكميّة الإلهيّة مختصة بكم، فلمن يقع عليهم العبء، طريقه في الدِّفاع عن الحياة، ولا حاجة للضجة والشّيطنة.

ختاماً، أقول: سقى الله مِن شيّد العُمران، وعزَّ شعبه، بروعة البنيان، بتحقيق مقولة "الدّين لله والوطن للجميع"، وهل قال "تكوين" أكثر مِن هذا، وهل طلب المحتفى به طه حسين أقل مِن هذا؟! فعلامَ ضجّة التخوين والشّيطنة، والقصة كاملةً آراء تصيب وتخيب، قيلت في باحة التّاريخ حيث المتحف المصريّ، وكانت الأبواب والنَّوافذ مفتوحة، على مصاريعها، خالية مِن أجواء بيعة لمرشد أو لولي، على حساب الأوطان.

ما حصل كان خطيراً، وربَّما بسبب ضجّة التَّكفير والتزندق، لمجموعة من المثقفين، المصريون منهم على وجه الخصوص، سيتكرّر ما حصل لنجيب محفوظ، أن يتقدّم أحد الجهلة لقتله، لأنّه سمع أنّه كافر، فعندها من يحمل جرائم القتل، التي قد تطال الشخصيات المشاركة، فالمجتمع بجهود الإسلاميين صار مؤهّلاً لمثل هذه الأفعال الانتقامية؟!

***

د. رشيد الخيون

 

حول تكريس ثقافة السلاح في الولايات المتحدة الأمريكية

بقلم: بول أوستر

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في عام 1970، بدأت مهمة مدتها ستة أشهر في البحرية التجارية، حيث عملت كبحار ماهر على متن ناقلة إيسو، وعلى متن هذه السفينة اتصلت لأول مرة برجال نشأوا مع الأسلحة كانوا على علاقة حميمة بها. في أغلب الأحيان، كانت حمولتنا تتألف من وقود الطائرات، الذي كنا ننقله صعودًا وهبوطًا على ساحل المحيط الأطلسي وإلى خليج المكسيك. كانت إليزابيث بولاية نيوجيرسي، وبايتاون بولاية تكساس،وهما موقعان اثنان من أكبر المصافي في إيسو،كانا نقطتى النهاية لجميع رحلاتنا، مع توقفات معتادة في تامبا والموانئ الأخرى على طول الطريق.

كان هناك ثلاثة وثلاثون رجلاً فقط على متن السفينة، وبصرف النظر عن اثنين من الأوروبيين وحفنة من الشماليين مثلي، كان جميع الضباط وأفراد الطاقم من الجنوب، وجميعهم تقريبًا من لويزيانا ومدن ساحلية مختلفة من تكساس. يعود الآن اثنان من رفاق السفينة إلى ذاكرتي، ليس لأنهما كانا صديقين مقربين بشكل خاص، ولكن لأن كل واحد منهما، بطريقته الخاصة والمختلفة جدًا، كان له دور فعال في تعزيز تعليمي حول الأسلحة النارية.

كان لامار قصيرًا وشعره أحمر من باتون روج، وله بقعة قرمزية لامعة تشوه بياض عينه اليسرى، وثمانية أحرف موشومة على مفاصل يديه: L-O-V-E وH-A-T-E، وهي نفس العلامات المنقوشة على أصابعه. الواعظ المعتوه الذي لعبه روبرت ميتشوم في فيلم "ليلة الصياد". عمل لامار كمساعد تشحيم في غرفة المحرك وكان في عمري تقريبًا (ثلاثة وعشرون عامًا). على الرغم من وشم الولد الشرير، فقد وجدته شخصًا لطيفًا ومعسول الكلام، ولأننا كنا زملاء جدد على متن سفينتنا الأولى، فقد اعتبر أننا حلفاء ويبدو أنه يستمتع بالخروج معي. بعد الانتهاء من عملنا  وحقيقة أنني من الشمال وتخرجت من الكلية ونشرت بعض القصائد في المجلات لم تكن أمرًا ينظر إليه بعين الريبة. لقد قبلني كما أنا، وأخذته كما هو، وأصبحنا على وفاق - لم نكن أصدقاء تمامًا، بالضبط، ولكن زملاء السفينة بشروط ودية وسهلة.

ثم جاء الاكتشاف الأول، والصدمة الأولى. لقد شاركنا ما يكفي من القصص عن أنفسنا في ذلك الوقت لدرجة أنني اعتقدت أنني لن أسيء إليه إذا سألته عن البقعة الحمراء في عينه. دون أن يشعر بالإهانة، أوضح لامار بهدوء أن ذلك حدث قبل بضع سنوات، عندما وقف هو وحشد من الناس على الرصيف وألقوا الزجاجات خلال مسيرة احتجاجية قادها مارتن لوثر كينج. لقد تطايرت شظية من الزجاج المكسور في عينه وثقبت الغشاء، مما تسبب في إصابة تحولت إلى شيء أحمر سيئ سيبقى معه لبقية حياته. ومع ذلك، كان من الممكن أن يكون الأمر أسوأ بكثير، كما قال، وشعر بأنه محظوظ لأنه لم يفقد عينه.

حتى ذلك الحين، لم يقل لامار أبدًا كلمة ضد السود في حضوري، وعندما سألته لماذا فعل هذا الشيء الغبي والشرير، هز كتفيه وقال إنه بدا وكأنه شيء ممتع للقيام به في ذلك الوقت. لقد كان في سن المراهقة في ذلك الوقت ولم يكن يعرف أفضل من ذلك، مما يعني أنه لن يفعل هذا النوع من الأشياء اليوم. وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك ممكنا نظراً لأن مارتن لوثر كينج قد أسقطت طائرته وقُتل قبل عامين، لكنني اخترت تفسير كلماته باعتبارها اعتذاراً، على الرغم من أن لدي شكوكي. ثم جاء الاكتشاف الثاني.

كنا نقف على سطح السفينة بعد ظهر أحد الأيام نشاهد سربًا من النوارس يحوم فوق السفينة عندما أخبرني لامار عن شيء آخر من الأشياء الممتعة التي كان يحب القيام بها في ليالي السبت في باتون روج عندما كان يشعر بالملل، وهو أن يأخذ بندقيته ومعه كمية من الذخيرة، ويتوقف على الطريق السريع ويطلق النار على السيارات. ابتسم وهو يتذكر ذلك بينما كنت أحاول استيعاب ما كان يقوله لي. قلت أخيرًا، أثناء إطلاق النار على السيارات، لا بد أنك تسرح بي.وأجاب لا على الإطلاق، لقد فعل ذلك بالفعل، وعندما سألته إذا كان يستهدف السائقين أو الركاب أو خزانات الوقود أو الإطارات، أجاب بشكل غامض أنه أطلق النار بشكل عشوائى عليهم  جميعًا. وسألته وماذا لو ضرب أحدا وقتله ماذا سيفعل بعد ذلك؟ هز لامار كتفيه مرة أخرى، أتبعها بإجابة مقتضبة وغير مبالية وشبه فارغة: "من يدري؟"

حدثت هاتان الهزتان خلال أول عشرة أو اثني عشر يومًا من وجودي على متن السفينة، وحافظت على مسافة مهذبة بيني وبين لامار لعدة أيام بعد ذلك، ثم جاء إلي بعد ظهر أحد الأيام بينما كنا نقترب من الميناء وقال لي وداعًا. وقال إن كبير المهندسين لم يعجبه عمله، وقد طرده.

ضع مسدسًا في يد مجنون، ويمكن أن يحدث أي شيء.

في وقت سابق، أخبرني أنه خاض دورة تدريبية صارمة واجتاز امتحانًا كتابيًا للتأهل للعمل كعامل تشحيم،لكن اتضح أن لامار غش في الامتحان وكان يعرف الكثير عن مهنة عامل التشحيم. وكما قال لي كبير المهندسين فيما بعد: "كان من الممكن أن يفجر هذا الوغد الصغير الناقلة وكل روح حية على متنها، لذا للأسف قمت بطرده من هنا".

ثمة الكثير الذى ينبغى أن يقال حول صديقى السابق ، ليس مجرد عنصري يرمي الزجاجات، وليس مجرد محتال خطير، بل مختل عقليا فارغا لا يفكر في تصويب بندقيته نحو الغرباء المجهولين وإطلاق النار عليهم دون سبب سوى الطلقة، أو متعة إطلاق النار.ضع مسدسًا في يد مجنون، ويمكن أن يحدث أي شيء. نعلم جميعًا ذلك، ولكن عندما يبدو المجنون شخصًا عاديًا ومتوازنًا وليس لديه أي ضغينة على كتفه أو ضغينة واضحة ضد العالم، فماذا يجب أن نفكر وكيف يفترض بنا أن نتصرف؟ على حد علمي، لم يقدم أحد قط إجابة شافية على هذا السؤال.

كان بيلي نوعًا مختلفًا من الحيوانات؛ فهو حيوان أليف، ولطيف، وصغير السن، يبلغ من العمر ثمانية عشر أو تسعة عشر عامًا فقط، وهو أصغر أفراد الطاقم على الإطلاق. كنت ثاني أصغرهم سنًا، ولكن بجانب بيلي الأشقر ذي الوجه الناعم، شعرت بالتأكيد بالتقدم في السن. كان طفلاً لطيفاً من بلدة ريفية صغيرة في لويزيانا، وكان يتحدث في الغالب عن شغفه بالسيارات المجهزة وصيد الغزلان مع والده، الذي كان يشير إليه باسم "دادى" و"بابا". لقد ذهبنا إلى الشاطئ معًا عدة مرات مع مارتينيز البالغ من العمر أربعين عامًا، وهو رب عائلة من تكساس، ولكن بصرف النظر عن إعجابي ببيلي ووعدي بالذهاب معه للصيد يومًا ما إذا وجدت نفسي في لويزيانا، لم أفعل ذلك. لا أعرفه جيدا. لا شيء من هذا له أية أهمية الآن.

بعد مرور خمسين عامًا، ما يهم هو أنه خلال إحدى محطات توقفنا في تامبا، غادرنا السفينة مع مارتينيز، وبينما كنا نحن الثلاثة ننتظر سيارة أجرة لتقلنا وتأخذنا إلى المدينة،أجرى بيلي مكالمة  للمنزل من الهاتف العمومي الموجود على الرصيف. تحدث مع والده أو أمه لفترة بدا أنها طويلة جدًا، وبعد أن أغلق الهاتف التفت إلينا ونظرة الاضطراب على وجهه وقال: «أخي موقوف. لقد أطلق النار على شخص ما في حانة الليلة الماضية، وهو الآن محتجز في سجن المقاطعة”.

لم يكن هناك شيء أكثر من ذلك. لا توجد معلومات عن سبب قيام شقيقه بإطلاق النار على ذلك الشخص، ولا توجد معلومات عما إذا كان هذا الشخص حيًا أم ميتًا، وما إذا كان على قيد الحياة، وما إذا كان قد أصيب بجروح بالغة أم لا. فقط تفاصيل الأمر: أطلق شقيق بيلي النار على شخص ما، وهو الآن في السجن.

ليس لدي ما أقوله، لا يسعني إلا أن أتكهن. إذا كان الأخ الأكبر لبيلي مثل بيلي نفسه، أي إنسان حسن الطباع ومتوازن بشكل معقول، وليس شخصًا غريب الأطوار يحب إطلاق النار مثل لامار، فهناك احتمال كبير أن يكون إطلاق النار في الليلة السابقة قد حدث بسبب جدال. . ربما مع صديق قديم، وربما مع شخص غريب، وأن التأثيرات المثبطة للكحول لعبت أيضًا دورًا حاسمًا في القصة. تناول علبة بيرة شديدة التركيز ، وينفجر جدال لفظي فجأة وبشكل غير متوقع يتحول  إلى عراك بالأيدي.

تحدث مثل هذه الأشياء كل ليلة في الحانات والمقاهي في جميع أنحاء العالم، لكن الأنوف الدموية وآلام الفك التي تتبع عادة هذه المعارك في كندا أو النرويج أو فرنسا غالبًا ما يتبين أنها جروح ناجمة عن طلقات نارية في الولايات المتحدة.الأرقام مذهلة ومفيدة على حد سواء. إن الأمريكيين أكثر عرضة للإصابة بالرصاص بخمسة وعشرين مرة من نظرائهم في الدول الغنية الأخرى، والتي تسمى الدول المتقدمة، ومع وجود أقل من نصف سكان تلك الدول العشرين الأخرى مجتمعة، فإن اثنين وثمانين بالمائة من جميع الوفيات الناجمة عن الأسلحة النارية تحدث هنا. إن الفارق كبير للغاية، وملفت للنظر، وغير متناسب مع ما يحدث في أماكن أخرى، حتى أن المرء يجب أن يتساءل عن السبب. لماذا أمريكا مختلفة إلى هذا الحد – وما الذي يجعلنا البلد الأكثر عنفاً في العالم الغربي؟

قررت التركيز على المنشئات المادية للمشاهد الطبيعية الأمريكية العادية،الأماكن التي نذهب إليها للعمل، للصلاة، للتسوق، للدراسة، وممارسة حياتنا اليومية. لم أقم بتضمين صور الأسلحة أو الضحايا أو الجناة عمدًا. أردت أن أذكّر الجمهور بمكان حدوث هذه الجرائم، وما حدث للمباني والمناظر الطبيعية التي غالبًا ما يتم نسيانها أو تجاهلها. الأماكن دائمة، لا يمكنك محو مكان، يمكنك هدمه وإعادة بنائه، يمكنك تسويته، يمكنك إنشاء نصب تذكاري أو تركه كما هو. والحقيقة هي أنها ستظل موجودة دائمًا باعتبارها المكان الذي وقعت فيه هذه الفظائع.

***

.............................

* مقتطف من كتاب: (أمة حمام الدم)  للكاتب بول أوستر وسبنسر أوستراندر - 2023.

 

عرف الإعلام الألماني في الشهور الأخيرة ردود أفعال، مكنت من الكشف عن حقائق جديدة حول سيرة ومواقف شخصيات فكرية وثقافية ألمانية على وجه التحديد. ولعل هذا ما لقيناه مثلا في بيان موقع من نيكول ديتلهوف، وراينر فورست، وكلاوسغونتر ويورغن هابرماس. أهم ما جاء فيه: " أن تصرفات إسرائيل لا يمكن وصفهابأنها إبادة جماعية"!؛ وأن لدولة إسرائيل والجالية اليهودية فيألمانيا الحق في الوجود؛ وأن ما يحدث في قطاع غزة لا يمكن مناقشته باسم: "التضامن المفهوم بحق مع إسرائيل واليهود في ألمانيا".

عند قراءة بيان، يتولد انطباع بأن الصراع بينفلسطين وإسرائيل بدأ لأول مرة في 7 أكتوبر 2023؛ وأن ماضي المحرقة في ألمانيامرتبط بأعمال حماس. إن الهدف الأساس من البيان هو إيصال الفكرة التالية: أنه "في الماضي كان كل شيء على ما يرام، ولم تكن هناك مشاكل في فلسطين، وكل المشاكلبدأت مع عملية حماس في 7 أكتوبر 2023".

في المقابل، فإن البيان لا يدعو إلى مناقشة حياةالفلسطينيين ومعاناتهم في السجون مع الاستعمار والاحتلال ومآسيهم مع الإبادةالجماعية وهجمات المستوطنين والاغتيالات واللائحة تطول..

إن أرشيف هابرماس وغيره بات منذ الساعة محط نظر وإعادةالنظر لقراءة ما بين السطور. في هذا السياق، ينقل موقع ت. ر. ت دوتش: أن هابرماسوزملاؤه يستخدمون حياتهم المهنية بأكملها للمساهمة في إدارة التصورات عن إسرائيل داخلألمانيا وخارجا. لكن كيف ينظر المجتمع العالمي إلى هابرماس حتى الآن؟ ما هي القيمالتي دافع عنها حتى الآن؟

يقول دينس بيرغر: لقد حاول هابرماس- كما تعلم منمدرسة فرانكفورت- الالتزام بإجراء فحص نقدي ومساءلة الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهذا يعزز التفكير النقدي بهدف فهم أسس المشاكل الاجتماعية وتغييرها. معذلك، فإن بيانه الأخير لا يُظهر أي جهد لفهم جذور الصراع المستمر منذ 70 عاما بينإسرائيل وفلسطين. وبدلا من ذلك، يتم تجاهل معاناة الفلسطينيين والأطفال الذينقتلوا في غزة.

هناك اهتمام آخر لمدرسة فرانكفورت وهو: الحساسيةتجاه الظلم الاجتماعي وعدم المساواة. ولسوء الحظ، فإن البيان لا يظهر سوى الحساسيةتجاه إسرائيل. وفيما يتعلق بمسألة العدالة، فلا يوجد في البيان ما يشير إلى أنالفلسطينيين يعيشون تحت الحصار منذ سنوات.

لقد أكد هابرماس، الذي كان يعتبر في السابق "منظرا مهما" في مجالات التواصل والفضاء العمومي والمناقشات الأخلاقية، على أنالتواصل بين الناس يجب أن يكون حرا وعادلا، إلا أن تصريحه لم يذكر أن إسرائيل تغلقكافة وسائل التواصل الفلسطينية. بعد سنوات من اعترافه بأهمية النقاش العقلاني، لايوجد في بيان هابرماس ما يتعلق بالعقلانية. وبدلا من ذلك، هناك دعم أحادي الجانبلإسرائيل في هذا النص.

لماذا قام هابرماس والآخرون، الذين دافعوا لسنواتعن مفاهيم؛ مثل: "القيمة والأخلاق والديمقراطية والمناقشة والعدالةوالمجتمع"، فجأة بنشر بيان يتناقض مع كل هذه القيم؟ أ خدعونا في الدفاع عنهذه القيم أم أنهم الآن يستخدمون هذا الإعلان لخدمة إدارة الوعي؟ ما هو الهدف من البيان؟

جوابا على ذلك، يضيف بيرغر، أنه في عام 2012،عندما سأل أحد مراسلي صحيفة هآرتس الإسرائيلية هابرماس عن كيفية تقييمه لسياساتإسرائيل، صرح أنه ليس من وظيفة أي شخص من جيله أن يحكم على ذلك. في الواقع، فإنالتناقض الأساسي عند هابرماس ليس قضية اليوم؛ فمنذ سنوات، ظل هابرماس صامتا في وجهسياسة إسرائيل وتجاهل مفاهيم؛ مثل: النقد والعدالة والديمقراطية والقيم والنقاش. إنمشكلته الأساس له ولجيله هي سيكولوجية الذنب اللانهائية. إن الجيل الذي يتحدث عنههابرماس هو ذلك الجيل الذي عاش الحرب العالمية الثانية والمحرقة في أوروبا. ولكنهنا يكمن تناقض هابرماس: هل ارتكبت حماس هذه الإبادة الجماعية في التاريخ؟.

هنا، يستخدم بيرغر إعارة من أليكس كالينيكوس وهي نقدلاذع وساخر، يوصله إلى موت النظرية النقدية التي يشكل هابرماس أحد أعمدتها حتى اليوم. لقد كتب كالينيكوس عن بيان هابرماس وزملائه، وذلك مثال جيد على كيفية فصل"الأنظمة المعيارية" عن أي اعتبار للحقائق؛ يقول: إن الفلاسفة يدركونببساطة، ومن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء شرح، من أين حصلوا على هذه المعرفة: "أن حماس هي التي ترتكب الفظائع، وأن إسرائيل ليس لديها " نوايا الإبادةالجماعية"!، على الرغم من تأكيدات وزرائها المتكررة على هذه الفظائع. لقد ماتت النظرية النقديةرسميا".

إن مساهمة كالينيكوس ليست محض صدفة، بل هي مثال لقلةمن الأكاديميين ذوي الضمير الحي والموضوعي في الغرب، رغمأن المثقفين الغربيين يحاولون التعويض عن ذنب الماضي من خلال الصمت. وهنا هابرماس لم يختر ذلك، لقد فضل الكلام، ودافع عن أي سياسة إسرائيلية لسداد ديونجيله. لكن، كما يختم بيرغر " هناك حقيقة واحدة يتعين على المثقفين والناسكافة أن يتقبلوها اليوم: وهي أن الدروس المستفادة من المحرقة لا تكمن في مشاهدة الفلسطينيين وهم يُطردون من أرضهم أو يُقتلون"؛ أَضيف إليها مع شارلوته فيديمان،أن على الألمان أن يبدؤوا في نقد اعتبار أمن إسرائيل مصلحة عليا للدولة الألمانية.

***

محمد العفو

 

في المثقف اليوم