آراء

آراء

ذبلت سنوات العمر بسبب وصول الطاغية صدام لكرسي حكم العراق عام 1979، وكان وصوله للحكم اكبر مصيبة حصلت للعراق في اخر مائة عام، فادخل العراق في حروب عبثية دمرت اقتصاد البلد وجعلت من شباب العراق وقودا لحرب لا نفع منها، فكانت حرب ايران (1980- 1988)، ثم حرب الكويت (1990 – 1991)،  ثم الحصار الاقتصادي الدولي الذي سحق المجتمع (1990 - 2003)،  وقام الطاغية صدام بتحويل العراق الى سجن كبير، واعتمد سياسة نشر الرعب داخل نسيج المجتمع، واعتمد نهج تفتيت وحدة المجتمع عبر دعم طائفة على حساب باقي الطوائف، لهذا نجد من المهم دراسة كيف يتم صناعة الطاغية؟ 

تتجسد ظاهرة الطغيان في التاريخ والسياسة عبر أشخاص وموارد متنوعة تتعاون لتشكيل شخصيات تمارس السلطة بشكل تسلطي، لكن دعونا نتسائل: كيف يتم إنتاج الطاغية؟ وما العوامل التي تسهم في صنعه؟

 اولا: العوامل الثقافية والاجتماعية

تبدأ صناعة الطاغية من السياق الثقافي والاجتماعي الذي ينشأ فيه، فغالبًا ما تكون المجتمعات التي تفتقر إلى التعليم الجيد، وحرية التعبير، أكثر عرضة لظهور الطغاة، وهو ما حصل (كما حدث مع صدام)، وما زال يحصل في مجتمعنا بالأصنام الجدد، ويمكن أن تؤدي هذه الأيديولوجيات الثقافية التي تعظم من قيمة الزعامة الفردية إلى خلق بيئة تمجد الطغاة وتمنحهم الشرعية.

ويمكن القول ان صناعة الطاغية تتأثر بعدد من العوامل التي تلعب دورًا مهمًا في تشكيل القادة الاستبداديين وكيفية ظهورهم واستمرارهم في السلطة. وإليك أيها القارئ بعض هذه العوامل:

1. التقاليد والثقافة السياسية: المجتمعات التي لديها تاريخ من الحكم الاستبدادي أو التي تفتقر إلى تقاليد ديمقراطية قوية، قد تكون أكثر عرضة لظهور الطغاة. حيث إن التقاليد الثقافية التي تروج للسلطة المطلقة والاحترام الأعمى للزعامات تلعب دورًا كبيرًا في صناعة الطاغية.

2. الاقتصاد والبطالة: الأزمات الاقتصادية، تكون بيئة مناسبة لولادة طاغية، مثل ارتفاع معدلات البطالة والفقر، حيث يمكن أن تخلق حالة من عدم الرضا بين الشعب، مما يؤدي إلى دعم شعبي للطغاة الذين يعدون المقهورين بتحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق احلامهم.

3. الرقابة الإعلامية: ان السيطرة على وسائل الإعلام وتوجيه الرسائل الإعلامية من قبل الدولة، يمكن أن يسهم في خلق صورة إيجابية عن القائد الاستبدادي، مما يساعده في الحفاظ على سلطته، كما فعلها صدام في سنوات حكمه.

4. الدعاية الشعبية: استخدام الدعاية لتعزيز صورة القائد وبث الخوف من "الأعداء" الخارجيين والداخليين، وهذا الامر يعزز من مكانة الطاغية، ويكثف من الشعور بالولاء بين الجماهير... وهكذا نجح صدام في زرع الخوف والرعب في كل شارع وفي كل زقاق، وتحول العراق لجمهورية الرعب والقلق.

5. توظيف الدين: بعض الطغاة يستخدمون الدين لتبرير سلطتهم أو لتأكيد شرعيتهم، مما يعمق من ارتباطهم بالجماهير ويعزز من شرعية حكمهم، كما فعلها صدام بعد هزيمته في حرب الكويت، حيث لجاء للخطاب الديني، وتبنى مشروع الحملة الإيمانية! وانه عبدالله المؤمن الذي يسعى للاصلاح.

6. العوامل النفسية: الشخصية الكاريزمية للقائد (الطاغية) تلعب أيضًا دورًا؛ فتأثير القادة القوي وقدرتهم على التخاطب مع مشاعر الناس يمكن أن يسهل عليهم الاستحواذ على السلطة، والمجتمعات الجاهلة تنجذب للقوي المتجبر، وهكذا كان صدام شديد القسوة هو وجماعته.

7. ثقافة الطاعة: في بعض المجتمعات، قد تكون هناك تقاليد ثقافية تعزز الاحترام الأعمى للسلطة، مما يسهل قبول الطغاة كجزء من النظام الطبيعي. يتم تعليم الأفراد أن الطاعة للسلطة أمر ضروري، مما يقلل من الدعوات للاعتراض أو المعارضة.

إن فهم هذه العوامل يمكن أن يساعد في التعامل مع التحديات التي تطرحها الأنظمة الاستبدادية، ويعزز الجهود نحو تحقيق الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان.

ثانيا: الظروف الاقتصادية

تعتبر الظروف الاقتصادية من العوامل الرئيسية التي تساهم في ظهور الطغاة، مثل الفقر والبطالة والفساد الاقتصادي، وجميعها تعزز من حالة الاستياء بين الجماهير، مما يمهد الطريق لظهور سياسي واثق يعد بتحسين الظروف، في هذه الحالة، يستخدم الطاغية القضايا الاقتصادية كوسيلة لكسب الدعم وتوسيع الشعبية، وقد شهدنا عبر التاريخ ان الظروف الاقتصادية تلعب دورًا محوريًا في ظهور الطغاة واحتفاظهم بالسلطة.

وفيما يلي بعض النقاط التي توضح كيف تؤثر الظروف الاقتصادية في صناعة الطاغية:

1. الأزمات الاقتصادية: عندما تعاني البلاد من أزمات اقتصادية، مثل الركود، التضخم المرتفع، أو البطالة العالية، يصبح الناس أكثر عرضة للتوجه نحو قادة يعدونهم بالاستقرار والازدهار، هذه الأزمات تخلق بيئة يسهل استغلالها من قبل الطغاة.

2. الفقر وعدم المساواة: في المجتمعات التي تعاني من فقر مدقع وعدم المساواة الاقتصادية، يمكن للقادة الاستبداديين أن يستغلوا مشاعر اليأس والإحباط بين الناس، من خلال وعود بتحسين الأوضاع كما فعلها صدام، أو تقديم الدعم الاجتماعي لمجموعات معينة.

3. الفساد والاستغلال: الفساد المستشري في المؤسسات الاقتصادية يمكن أن يعزز من قوة الطغاة، حيث يمكنهم تقديم أنفسهم كـ "مخلصين ومصلحين" يحاربون الفساد وينظفون النظام، بينما يسيطرون في الحقيقة على الثروات من خلال أساليب غير قانونية.

4. التوزيع غير العادل للموارد: ان تقاسم الثروات بشكل غير عادل بين الفئات الاجتماعية يمكن أن يكون له آثار خطيرة، حيث يستغل القادة الاستبداديون هذه الانقسامات لتعزيز ولاء قواعدهم، ويطلقون وعودهم بتحقيق العدالة الاجتماعية بهدف كسب اكبر عدد من الجماهير،  من دون السعي لتحقيق ذلك.

5. التدخل الخارجي: في بعض الحالات يمكن أن يدعم قادة دول ذات مصالح اقتصادية معينة أنظمة استبدادية لتأمين وصولهم إلى الموارد أو الأسواق، مما يمكّن الطغاة من الاستمرار في السلطة بغض النظر عن الظروف المحلية.

6. استخدام الأزمات كفرصة: الطغاة عادة ما يستغلون الأزمات الاقتصادية لتبرير الإجراءات القمعية أو توسيع سلطاتهم، متذرعين بأن الحفاظ على الاستقرار يستدعي اتخاذ تدابير غير ديمقراطية.

 بالتالي فإن الظروف الاقتصادية ليست فقط عاملاً مسهمًا في صعود الطغاة، بل أيضًا أداة يستخدمها هؤلاء القادة للبقاء في السلطة.

 ثالثا: القمع والرقابة

يمتاز الطغاة باستخدام القوة والقمع كأدوات أساسية في حكمهم، وترتكب انتهاكات حقوق الإنسان، وتُفرَض الرقابة على الإعلام، وتُقضى على أي معارضة تحت غطاء السعي لتحقيق الأمن والاستقرار، ويصنع الطاغية نظامًا يخدم مصالحه الشخصية والسياسية على حساب حقوق الناس وحرياتهم (كما كان يفعلها صدام)، ان القمع والرقابة يلعبان دورًا حاسمًا في "صناعة" الطاغية والحفاظ على سلطته.

وإليك أيها القارئ الكريم كيف تساهم هذه العوامل في تعزيز الأنظمة الاستبدادية:

1. إسكات المعارضة: ان القمع يهدف إلى تكميم الأصوات المعارضة للحكومة، من خلال استخدام العنف أو التهديد ضد المعارضين، ويمكن للطغاة أن يمنعوا أي تحركات جماهيرية أو احتجاجات ضد حكمهم، مما يسهل عليهم البقاء في السلطة دون تحديات، وهكذا كان صدام يقمع بكل قسوة اي صوت معارض، كما فعلها  بالمقابر الجماعية لشيعة الوسط والجنوب.

2. أجهزة الأمن: ضمن الدولة القمعية يتم إنشاء أجهزة الأمن والاستخبارات القوية لرصد الأنشطة السياسية والاجتماعية، ويهتم الطاغية كثيرا بهذه الاجهزة، حيث تعمل على تجريم المعارضة وتشويه سمعتها، مما يمنح النظام القدرة على التحكم في الديناميات الاجتماعية والسياسية.

3. مراقبة المعلومات: الرقابة على وسائل الإعلام وتقييد الوصول إلى المعلومات المستقلة يسهم في تشكيل وعي الجمهور، حيث تقتصر المعلومات المتاحة على رواية واحدة وهي السلطة، وتُروج للنظام وتقلل من شأن المعارضة، ويصبح من الصعب على الناس تنظيم أنفسهم أو مقاومة القمع.

4. زرع الخوف: من خلال استخدام أساليب التخويف، مثل الاعتقالات التعسفية والاحتجاز والسجون السرية، يعمل النظام على خلق خوف دائم بين الناس، وهذا الخوف يحبط أي محاولة للتغيير أو الاحتجاج، مما يمكن الطغاة من المحافظة على سلطتهم.

5. تفكيك المجتمع المدني: القمع يؤثر سلبًا على منظمات المجتمع المدني والجماعات المستقلة، والتي قد تكون قادرة على تحدي السلطة، عند تقويض هذه المؤسسات يصبح من الأسهل على الأنظمة الاستبدادية السيطرة على المجتمع.

6. ترويج الإيديولوجية الرسمية: من خلال استخدام الرقابة، يمكن للطغاة تعزيز الإيديولوجية الرسمية التي تدعم شرعيتهم، وتسمح الأنظمة الاستبدادية بترويج روايات معينة حول القوة والنفوذ، ومن كثرة الترويج لسنوات وبشكل يومي تصبح قناعات في عقول الناس، مما يعزز من قبول الجمهور لسلطتهم.

7. التلاعب بالهوية الوطنية: الطغاة يقومون أحيانًا باستخدام الخطاب القومي أو الديني لتبرير القمع، للضحك على السذج، وتبرير افعالهم الشنيعة، مما يساعد في تجنيد دعم شعبي، ومن خلال أسلوب الخبث حيث يتم تصوير المعارضين على أنهم أعداء الوطن، عندها يسهل تبرير استخدام القوة ضدهم.

 بهذه الطرق، يسهم القمع والرقابة في بناء نظام استبدادي، يعزز من قوة الطاغية ويقلل من فرص التغيير الديمقراطي.

***

الكاتب: اسعد عبد الله عبدعلي

 

بذريعة تجنب القلاقل والتظليل طلبت نقابة المحامين العراقيين قبل أيام من هيئة الإعلام والاتصالات، أمرا إداريا خطيرا، يدعوها اتخاذ إجراءات قانونية بحق المحامين الذين يظهرون لإبداء الرأي والمشورة في وسائل الإعلام دون "ترخيص" مما أثار استياء المحامين. وعلى ما يبدو أن توجهها هذا يرتبط لرأي جهة سياسية تتربص لمنع الآراء التي تشغل الرأي العام حول ممارساتها على الصعيدين السياسي والمؤسساتي. إلا أنها، أي النقابة، أكدت التزامها مسألتين: لا يجوز للمحامين الظهور للتعبير عن رأيهم دون الحصول على "ترخيص" مسبق منها.. ثانيا، إن لم يحدث ذلك: فسيعرض المحامي نفسه للمساءلة القانونية. لكنها، في الوقت نفسه، لم تعلن صراحة عن نواياها الحقيقية من وراء تبني مثل هذا الشروع الذي يدعو إلى القلق، لأنه، يؤخذ نوع من تكميم الأفواه ومصادرة حقوق الإنسان وحرية التعبير التي يكفلها الدستور والأعراف القانونية والمدنية وأيضا، النظام الداخلي للنقابة ذاتها، يؤكد على مبدأ الدفاع عن أعضائها.   

التحليل العلمي والقانوني المرتبط بمهام المحامي والقاضي كرجال قانون يلعبون أدوارا محورية في حياة المجتمع من خلال ضمان تطبيق القانون وتحقيق العدالة. يشير إلى: حق المحامي بالدفاع عن حقوق الأفراد والمؤسسات ويقدم لهم المشورة القانونية. بينما القاضي يفسر القانون ويفصل في النزاعات. هذه المهام تتطلب مسؤولية أخلاقية كبيرة ودورا علميا في تطوير اللوائح القانونية وتعزيز العدالة الاجتماعية. لذا؛ لا يجوز بأي حال من الأحوال لمؤسسات الدولة أو مؤسسة نقابية منع المحامي من أداء دوره الأخلاقي والإنساني في الدفاع عن حقوق أبناء المجتمع. مثل هذا المنع يعد انتهاكا واضحا لحقوق الإنسان وسيادة القانون والعدل ويؤدي إلى تقويض المجتمع.

إن تقييد المحامين من المشاركة في النقاشات العامة والظهور في وسائل الإعلام لإبداء المشورة حول القضايا التي تؤثر على حقوق المجتمع يعتبر تعد صارخ على حقوقهم في التعبير ويضعف دورهم الأساسي لحماية وتعزيز حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. إن حرية التعبير والمشاركة في النقاشات العامة جزء لا يتجزأ من دور المحامي كمدافع عن تلك العدالة المجتمعية. ويعتبر هذا الحق جزءا أساسيا من حقوق الإنسان التي تكفلها المواثيق الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة11) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 14). وبالتالي، فإن تقييد هذه الحرية يمكن أن يؤدي إلى ممارسة الفساد وانتهاك الحقوق المدنية للمجتمع، وهو ما يتناقض مع المبادئ الأساسية لسيادة القانون والعدالة الاجتماعية.

كحلقة وصل بين الأفراد ومؤسسات الدولة، أو يعمل على تمثيل الأفراد أو الكيانات أمام المحاكم والجهات الرسمية وغير الرسمية أو الظهور في وسائل الإعلام لإبداء المشورة. يسعى المحامي وفق مبادئ وقيم منها المسؤولية القانونية: تقديم المشورة الصادقة والمبنية على أساس قانوني سليم. عدم القيام بذلك يمكن أن يؤدي إلى فقدان الموكل حقوقه أو تعرضه للمساءلة القانونية. كذلك، المسؤولية الأخلاقية: الالتزام بأعلى المعايير في التعامل مع موكليه من مختلف أصنافهم الجنسية والعقائدية، أن يكون صادقا ونزيها لرعاية قضاياهم. والأهم، دوره في المجتمع الحديث: تمثيل الأفراد والفئات المستضعفة وتقديم المشورة لمواجهة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن واجبه أيضا تقديم الرأي القانوني في القضايا العامة وأن يشارك في صياغة التشريعات الجديدة.

فماذا يعني إذن، حرمان ـ المحامي ـ من لعب دوره لتوضيح حقوق المواطنين في المجالس الحقوقية والسياسية أو في وسائل الإعلام المختلفة، والذي يمثل انتهاكا جسيما لأسس العدالة وحرية التعبير؟. من الناحية "القانونية": المحامي الضامن الأساسي لهذا الحق، حيث يقدم الدفاع القانوني والمشورة لموكليه. منعه من أداء هذا الدور يشكل انتهاكا مباشرا للحقوق الدستورية والقانونية. وإذا ما تدخلت الدولة أو أي مؤسسة أخرى ومنها النقابية في عمل المحامي، فذلك يعرض استقلاليته للخطر كما يؤثر سلبا على عدالة الإجراءات القانونية. فالنقابات المهنية، بما في ذلك نقابات المحامين، يفترض أن تدعم حقوق أعضائها وتعمل على حمايتهم من أي تدخلات غير مشروعة، لا أن تفرض قيود عليهم تمنعهم من أداء مهامهم الأساسية لتوضيح الأمور المتعلقة بحياة ومستقبل كافة فئات المجتمع دون تمييز.

أما من الناحية "الإنسانية"، بغض النظر عن الضغط السياسي أو الاجتماعي. فإن أي محاولة لمنع المحامي من أداء دوره، هو انتهاك لهذا الالتزام الأخلاقي لتقديم دفاعات عادلة ومنصفة. وعندما يتم منع المحامين من أداء دورهم، فإن المجتمع يفقد إحدى أهم دعائم العدالة وقد يؤدي إلى تشويهها، حيث يمكن أن تصدر أحكام غير عادلة نتيجة لعدم توفر دفاع كاف أو مناسب، مما يشكل تهديدا خطيرا لحقوق الأفراد أمام المحاكم.

إذن، على الدولة أن تكفل للمحامين الاستقلالية الكاملة للقيام بمهامهم دون تدخل أو ضغوط، ذلك لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الأفراد والكيانات المدنية.

في بعض الأنظمة القمعية، تم تقييد أو منع المحامين من الدفاع عن حقوق الأفراد والكيانات المجتمعية، مما أدى إلى انتهاكات جسيمة للحقوق والحريات. في مثل هذه الأنظمة، يعتبر القضاء أداة للقمع بديلا عن  أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة. وغالبا ما تؤدي إلى تفشي الظلم وزيادة الفجوة بين النظام القانوني والمجتمع، مما يقلل من ثقة الجمهور بالنظام القضائي.

خلاصة القول للدولة والمجتمع: عندما تسمح الدولة أو المؤسسة النقابية بتقييد حرية المحامين من الظهور في وسائل الإعلام، يصبح النقاش في قضايا العدالة وحقوق الإنسان أقل توازنا وشمولية. هذا يمكن أن يؤدي إلى تراجع في مستوى الحوار المجتمعي ونقص في التنوع الفكري في المناقشات العامة. وفي الوقت نفسه يكون: رسالة سلبية حول مفهوم الدولة ومؤسساتها للديمقراطية وحقوق الإنسان. أيضا، ما يمكن أن يثير الشكوك حول نزاهة النظام السياسي للدولة وأحزاب أصحاب السلطة ـ على حد سواء!. 

 ***

عصام الياسري

بقلم: إد سيمون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يتحدث إد سيمون  عن "أهم قصة رويت على الإطلاق،" عن  التعامل الإنساني  مع الشر.

إن قصة عقد الشيطان هي القصة الأكثر روعة، والأكثر إثارة، والأكثر بصيرة، والأكثر أهمية على الإطلاق. إنها يتعامل مع الإنسانية العالقة بين السماء والجحيم، القديس والشيطان؛ كيف يمكن للإنسان أن يبيع روحه للقوى العظمى، ويوقع عهدًا مع الشيطان حتى يعيش كإله لفترة قبل أن يُجر إلى الجحيم. كثيرًا ما ترتبط هذه المسرحية الإليزابيثية بمسرحية دكتور فاوستس لكريستوفر مارلو، ولم تكن أصل تلك الأسطورة، لكن مسرحيته هي بالتأكيد مثال رائع على هذا النص الأبدي. ومع ذلك، قبل وقت طويل من مسرحية عصر النهضة تلك وبعدها بفترة طويلة، يمكننا العثور على آثار حبر لتوقيع فاوست اللعين في العديد من الأعمال العالية والمنخفضة، التقليدية والشعبية. والأمر الأكثر إثارة للقلق من ذلك هو الطريقة التي يمكن بها العثور على آثار حوافر الشيطان عبر مجموعة واسعة من التاريخ، في استعدادنا لاحتضان السلطة والانخراط في الاستغلال، واستدعاء المصلحة الذاتية واستحضار القسوة.

بفحص بعض آثار الحوافر الميفستوفيلية التي تم اكتشافها في موقع بناء في ساوثوارك، لندن، في عام 1989. تم هدم مسرح روز، حيث عُرضت مسرحية مارلو لأول مرة في أواخر القرن السادس عشر، في عام 1606، ودُفن تحت طبقات من الفترات الزمنية المختلفة: الجاكوبية، والفترة الانتقالية، والاستعادة، ثم الفترة الهانوفرية، والريجنسي، والفيكتوريانية، حتى عُثر عليها من قبل مقاولي عصر ثاتشر الذين كانوا يقومون ببناء برج مكاتب فارغ من الروح. وجد العمال الذين كانوا ينخلون التربة علامات تدل على وجود مسرح، بدءًا من بقايا قشر البندق المحروق المحفوظة التي كانت تُباع كوجبات خفيفة، إلى قِدور الطين المكسورة التي كانت تُستخدم لجمع التذاكر. وعادت أنقاض المسرح مجددًا لتتعرض لأشعة الشمس. الآن، تقع بقايا مسرح الروز في قبو هذا البرج المكتبي الفارغ فوق نهر التيمز، وهو الموقع الأثري النشط النادر الذي يدعو أيضًا الجمهور للاستمتاع بعرض على قمة ركام المسرح حيث تم تقديم المسرحيات قبل أربعة قرون.

هناك عدد قليل من النصوص النموذجية في ثقافتنا لا تقل أهمية عن أسطورة رجل يبيع روحه للشيطان.

كانت العروض الأولى للدكتور فاوستوس تشوبها ارتباطات خارقة للطبيعة. وادعى المشاهدون أن كلمات الكاتب المسرحي تسببت في ظهور الشياطين أثناء مشاهد الاستدعاء السحري. "كيف سئمت هذا الغرور!" يتساءل فاوست في الفصل الأول من مسرحية مارلو. "هل أجعل الأرواح تأخذني إلى ما أريد، / أحرر نفسي من كل غموض، / أنفذ هدفي اليائس؟" هذا ظاهريًا وصف لقوى الفنون المظلمة، ولكنه ينطبق على القدرات الغريبة لأي فن بالتأكيد وكذلك المسرح. كيف اختلف مارلو عن فاوست؟ لأنه يستطيع أن يجبر أرواح الخيال على جلب ما يريد، على أداء ما يريد، على خلق كون ظاهري من لا شيء سوى الكلمات والإيماءات. ومثل فاوستوس، عوقب مارلو أيضاً، حيث طعن حتى الموت في عينه في إحدى الحانات في ديبتفورد، بعد عام من العرض الأول لمسرحيته الأكثر شهرة، بسبب مشاجرة حول فاتورة الحانة.

إذا صدقنا الأساطير اللاحقة، فمن الواضح أن السحر حدث في مكان يبدو اليوم أنه ليس أكثر من كومة من الحطام المنخل. خلال عروض فاوستوس، تمكنت التعويذات اللاتينية والدوائر السحرية المطبوعة على أرضية المسرح من استدعاء الشياطين، كما لو كان الممثلون مستحضري الأرواح. من تلك الدوائر المرسومة بعصا في التراب بالأسفل، كان يُعتقد أن الساحر يمكنه استدعاء مواطني الجحيم للظهور: عزازيل بقرون الماعز المنحنية، والثور ذو العين الحمراء والشخير مولوخ، أو بعلزبول بأجنحة الحشرات. فكيهم لزجة بالدم. وربما حتى ميفيستوفيليس، تلك الرواية الشيطانية لأسطورة فاوست، الذي ظهر في البداية كجثة متحللة مع لحم متعفن من جمجمته ويرقات تتسرب من محجري عينيه وأنفه، ثم يتصرف بطريقة محترمة مثل المتسول الفرنسيسكاني . الآن، بالنسبة لأي زائر للمسرح المبني على جثة سلفه، فإن الخط الرفيع من ضوء النيون الأحمر الداكن الذي يرسم حدود الدائرة الخشنة للأساس الأصلي لمسرح روز يبدو بشكل مثير للأعصاب مثل تلك الدوائر السحرية الملصقة برموز وأرقام كيميائية غريبة حيث سيحاول مستحضري الأرواح في عصر النهضة استدعاء جميع شياطين الهرج والمرج الملعونين وحيث اختبأ الشيطان في ليلة الافتتاح لانتقاد مدى نجاح الكاتب المسرحي في تقديمه.

عندما حضرت عرضًا في مسرح الروز لمسرحية أخرى من عصر النهضة معروفة بمواضيعها السحرية - فكر في اسكتلندا، والسحرة، وملوك قتلوا - كانت تلك الأضواء النيون على حافة الحفرة السفلية المظلمة والرطبة، والتي تنبعث منها رائحة الرطوبة، هي التي لفتت انتباهي بشكل أكبر. كانت الدائرة المضيئة المتلألئة تبرز في الزوايا البعيدة من قبو المسرح، والتي كانت محاطة بركام القرون التي لا تزال تُنخل. العرض كان جيدًا، على الرغم من التحديثات الحديثة التي أصبحت أمرًا معتادًا الآن، لكن وأنا جالس على الرافات في ذلك القبو الذي يعطره رائحة الماء والتراب، كانت الأخوات الغريبة ومكبث ليسا بمثل الجذب مقارنة بما لم أستطع رؤيته، بلامتناهي في حافة الرؤية المظلمة، خلف شريط النيون المصمم ليخبرني بمكان جدران الروز في الماضي.

عندما أتخيل هذا العرض الأول لدكتور فاوستوس منذ أكثر من أربعمائة عام – وكل هذا غير قابل للوصول إلينا في هذا البلد الغريب والبعيد من الماضي – لم أستطع إلا أن أستحضر تلك الأساطير الشيطانية حول جمهور مارلو في تلك الليلة. هناك، في ذلك الفضاء الأسود فوق المحيط، هل كان الشيطان جالسًا هناك على العوارض، متنكراً في هيئة رجل نبيل إليزابيثي مرتدياً المخمل الأسود والأحمر؟ لكن لا، الشيطان ليس حقيقيًا، هذه القصص مجرد بروباغاندا تطهيرية معادية للمسرح، حكايات شعبية تهدف إلى تخويف السذج. لم يتم استحضار أي شيطان في أي عرض لفوستوس، لأنها مجرد شخصيات، والشخصيات ليست سوى خيال.

في صباح اليوم التالي لإنتاج مسرحية مارلو عام 2013، سافرت إلى ديبتفورد لمقابلة الكاتب المسرحي نفسه. عندما قُتل مارلو في غرفة علوية في حانة إليانور بول، كانت ديبتفورد جزءًا من منطقة كنت وكانت تعتبر منطقة بعيدة وقذرة من العاصمة، مدينة مرفأ بائسة جنوب لندن يحكمها تجار فاسدون. أثناء سيري في شارعها الرئيسي، وجدت أن سمعتها قد تلطخت قليلاً على مر القرون. أثناء مروري بالحانات الضيقة بنوافذها المتصدعة وأبوابها المفتوحة على الظلام، ورائحة السمك والبطاطس المقلية النفاذة وموسيقى البوب البريطانية التي تُعزف بداخلها، قضيت معظم الساعة بحثًا بلا جدوى عن فناء كنيسة سانت نيكولاس، بينما كنت أراقب السماء الرمادية والرياح الباردة القادمة من التايمز بقلق، لأنه في ذلك الوقت لم أكن أستخدم الهواتف الذكية.94 semon

على الرغم من أنه كان شهر يوليو، إلا أن ذاكرتي تجعله دائمًا أكتوبر، ديبتفورد مستنقع من الشوارع الملتوية المرصوفة بالحصى، تتخللها كنائس معارضة قديمة منذ قرون ومنازل صغيرة من الطوب بسواتر نوافذ مشدودة بإحكام. بالتأكيد كانت هناك أوراق خضراء على الأشجار، لكن في ذاكرتي، كل تلك الفروع هيكلية، عظام جردت من اللحم وذبلت تحت سماء بلون المياه المالحة. ازدادت ميولي القوطية فقط بعد أن وجدت أخيرًا مقبرة مارلو، حيث كانت الأعمدة الحمراء المتقابلة عند مدخل الأرض تعلوها جماجم تبتسم منحوتة من الحجر، ابتسامات بلا أسنان ومآخذ بلا أعين هي تذكار للموت نُصبت بعد قرن من دفن أشهر مقيم فيها في قبر فقير مجهول. جدار من الطوب الأحمر المغطى باللبلاب يميز المقبرة عن عوالم الأحياء، حيث تم تثبيت لوحة صغيرة من الرخام الأبيض تنعى وفاة الشاعر "غير المتوقعة"، بينما تعلن أن في مكان ما داخل هذه الأرض توجد رفات مارلو، عظامه مختلطة مع رفات الآخرين في مملكة الموت. يقول ضريح مارلو: "لقد تم قطع الفرع الذي كان من الممكن أن يكون مستقيماً". هذا من دكتور فاوستس.

فحص الفراغات المزدوجة في الجماجم المنحوتة التي ترحب بي عند مدخل كنيسة سانت نيكولاس أكد لي ما يجذبني في هذه القصة عن عقد مع الشيطان. عندما كنت أمشي على تلك الأرض المقدسة، كانت ذرات مارلو تتراكم مع الأوساخ على نعال حذائي، ولم أستطع - رغم شكوكي - إلا أن أشعر بحماسة خفية قديمة، ذلك الشعور بأن هناك شيئًا ما وراء حجاب واقعنا، شيئًا يمكننا الوصول إليه ولكن لا نستطيع التحكم فيه.

تعود رغبتي في كتابة تاريخ ثقافي لأسطورة فاوست  إلى بضع سنوات قبل رحلتي إلى مقبرة ديبتفورد، تقريبًا في الوقت الذي حضرت فيه تكييفًا للمسرحية بعنوان "فاوستUS" الذي قدمته الفرقة المسرحية 404 ستراند في مسقط رأسي بيتسبرغ. استند النص إلى النسخة الأقصر، المسماة "النص أ" من مسرحية مارلو، وهو عمل أكثر إحكامًا وغموضًا يقطع الهزلية التي تفسد الإنتاجات التقليدية لمسرحية دكتور فاوستوس، وكانت العرضية هلوسية، طقوسية، نفسية، تعويذية. عمل استحضار. مع دعوة الجمهور للجلوس في مسرح دائري تم إنشاؤه على مسرح مسرح كيلي ستراهورن، كنا جميعًا نواجه قفصًا حديديًا صدئًا حيث ستجري أحداث المسرحية. كنت في الصف الأمامي.

كانت أكثر ذكرياتي تميزًا عن هذا الأداء هو الممثل الذي لعب دور فاوست، عاري الصدر ومفتول العضلات، يتلألأ بالعرق تحت أضواء المسرح القمعية، ويرفع قناعًا وحشيًا أشعثًا لثور ملتوي القرن فوق رأسه، ويومئ بعنف ليضرب المعدن هكذا. بصوت عالٍ أن حشواتي كانت تدندن، ثم أخذ مستحضر الأرواح رغيفًا كاملاً من الخبز الأبيض من حقيبته المطهرة وقام بتمزيقه في فتحة القناع البقري، فتتناثر قطع من البياض الإسفنجي على جميع الجالسين في الصف الأمامي. كان الأمر غريبًا ومن المستحيل عدم مشاهدته، جزء من فن الأداء الطليعي وجزء من الحفل الوثني. جعلت جسدية الأداء الأمر يبدو غريبًا وغريبًا وخطيرًا. أثناء خروجي في الهواء الخريفي في إيست ليبرتي في بيتسبرج، وهو حي يضم بنايات شاهقة من العصر الذهبي وكاتدرائيات ناطحات سحاب قوطية تتخللها الأزقة والحانات، أقسمت أنني في يوم من الأيام سأوقع عقدًا لكتابة حكاية فاوست الخاصة بي. كان هذا هو الإنتاج الوحيد الذي رأيته من مسرحية مارلو. هذا النوع من الأشياء التي قد يأتي الشيطان ليرىها إذا كان يتساءل عن كيفية تصويره.

نادرًا ما تُنتج المسرحيات السبع القليلة لمارلو اليوم؛ باستثناء العرض الذي قدمته شركة شكسبير المسرحية في واشنطن العاصمة عام 2007 لمسرحية "تيمورلنك العظيم" أو التكيف السينمائي المثير لمسرحية "إدوارد الثاني" الذي أخرجه ديريك جارمان في عام 1991. عند مقارنته بمنافسه وزميله المحتمل ويليام شكسبير، الذي يتم تقديم إنتاجاته كل يوم من كل عام في كل مدينة كبرى على الأرض، والذي ليس مجرد كاتب بل "الشاعر"، المعيار الذي يُقيم به الأدب الكبير، قد يبدو مارلو فكرة لاحقة، أو هامشًا، حتى لو كان بعيدًا عن ثاني أشهر كاتب مسرحي إليزابيثي تُعرض أعماله حتى الآن.

أعتقد أن مارلو، الذي سبق شكسبير في استخدامه للشعر الخالي من القيود وفي كثير من الأحيان تجاوزه فيه، يعادل شكسبير تمامًا. في بعض النواحي، يُعتبر مارلو أكثر تقديمًا، رغم سمعته بالإلحاد إلا أنه كان يميل نحو العصور الوسطى. ومع ذلك، هذا ما منح الزنديق الكبير إحساسًا عميقًا بالروحانيات، فبغض النظر عن علاقته الشخصية بالرب، لا يمكن اتهام مارلو بعدم اهتمامه بالمقدس والمتسامح والمتجلي. بالطبع، كان لدى شكسبير أيضًا إحساسه الخاص بالروحانيات - كان من المستحيل عدم وجود ذلك في عصر النهضة. ولكن ككافر إلهي، يظل مارلو كمبدع يوازي شكسبير في عالم موازٍ، كشخصية مظلمة مضادة له، الشاعر والكاتب الكبير، المثير والمدان بالتجديف بالمقدس.

لقد كانت قصة فاوست دائما حديثة إلى حد كبير، وربما كانت أول قصة حديثة.

بصرف النظر عن تمرد "تامبورلاين العظيم" واستهتار "يهود مالطا"، لا يوجد عمل في مجموعة مارلو الأدبية المسيئ للأديان يتجاوز في عمقه مسرحية "دكتور فاوستوس". إن العالم الذي يبيع العالم للشيطان من أجل الخداع والسحر قد يكون استعارة تعبر عن الحداثة، لكن مارلو لم يكن مبتدعًا لهذه الأسطورة. كما ستقرأون في الفصول القادمة، قام مارلو بتجريد شخصية يوهان فاوست التاريخية من التقاليد الشعبية الألمانية، على الرغم من أن أسطورة التعاقد مع الشيطان كانت موجودة قرون قبل أن يقوم الكيميائي الباطني السيء الحظ بمزج نترات البوتاسيوم مع الكبريت. وبالطبع، لم يكن إعداد مارلو هو الكلمة النهائية، حيث تم إنتاج آلاف النسخ المختلفة للقصة الأساسية على مدى نصف الألفية الماضية، من جوته إلى الموسيقى المسرحية "الأمريكيون اللعينون"، توماس مان إلى الأغاني الشعبية مثل "ذا ديفل ونت داون تو جورجيا" لفرقة تشارلي دانيالز. وتتضمن الثقافة العالية مثل سيمفونية فاوست لفرانز ليست والسيمفونية رقم 8 لجوستاف ماهلر؛

، والثقافة الشعبية مثل كتب الكوميكس "جوست رايدر" وفيلم جاك بلاك "تيناشيوس دي في بيك أوف ديستيني".

يكتب جيفري بيرتون راسل في كتابه الكلاسيكي 'مفيستوفيل: الشيطان في العالم الحديث'، أن شخصية فاوست هي - بعد المسيح ومريم والشيطان - الشخصية الأكثر شهرة في تاريخ الثقافة المسيحية الغربية. ومن بين هذه الشخصيات، فاوست هو الأكثر إنسانية بالنسبة لنا، في غروره وفشله، في مفاوضاته واستسلاماته، في جميع أوجه السوء التي يمكن للروح الملتهبة أن تلحق بها بنفسها. لا يعد ادعاء راسل مبالغة، ولكن إذا قمنا بتعديل كلمة 'شخصية' إلى 'سرد'، فإنني أقول إنه من القليل من السيناريوهات الأسطورية في ثقافتنا تتمثل في أهمية أسطورة رجل يبيع روحه للشيطان. آلاف الأعمال الأدبية والسينمائية والموسيقية والفنية تتناول هذا الصراع حيث يتبادل الفرد أعظم ما يملك من أجل السلطة أو الثروة أو التأثير أو المعرفة.   فقط أسطورة طرد آدم وحواء من جنة عدن هي التي تتنافس مع فاوست من حيث التأثير، ويمكن القول إن هذه القصة هي إحدى التنويعات المبكرة على عقد الشيطان."

وهذا هو السبب في أن الندرة النسبية للمعالجات النقدية للأسطورة المتغيرة مثيرة للدهشة للغاية. من المؤكد أن هناك عددًا كبيرًا من الكتب والمنشورات والدراسات والأبحاث حول أشهر إصدارات الأسطورة؛ وتعيين أساتذة في الجامعات بناءً على دراسات مارلو واحتراف جوته، إلا أن القصة الكاملة لفاوست، سواء باسمه هذا أو باسم آخر، لم تُروى بعد بشكل كامل. هذا الكتاب الذي أكتبه هو محاولتي المتواضعة في هذا الصدد. فرغم وجود أسماء كبرى مثل مارلو وجوته ومان في محتواه، إلا أنه ليس كتابًا يتناول بالضرورة هؤلاء الكُتاب، ولا حتى شخصية واحدة تُدعى "فاوستوس".

وعلى الرغم من أنها تبدو في الأساس تاريخًا، وتتقدم هذه السردية بشكل زمني، فإنني أفضل أن أعتبر القصة التي تحكيها عن شخصية تعيش خارج الزمن، تعيش بتوازٍ مع الماضي والحاضر والمستقبل. قصة خالدة. لأن ما يهم هذا الكتاب هو الآثار - ثقافيًا وسياسيًا ولاهوتيًا - لهذه الروايات المحملة بالرموز بشدة حول التنازل عن الروح، والاستسلام لما هو جوهري فينا، والمفاوضات التي تشكل كل حياة فاشلة، وهو ما يعني كل حياة. لذا، فإن عقد الشيطان، أكثر من مجرد تاريخ، بل هو وصف لما يعنيه أن تكون إنسانًا في جميع إخفاقاتنا.

هذا هو حساب الإنسانية في الوقت الراهن. على الرغم من كل الأساطير القديمة، والكلمات المنطوقة اللاتينية، وسحر الكيمياء، فإن قصة فاوست كانت دائما حديثة، وربما أول قصة حديثة. على النقيض من آدم وحواء، اللذين رويت قصتهما الغامضة عن العصر البرونزي بلغة قديمة وأجنبية للغاية، حتى أن اللاهوتيين اختلفوا لقرون حول المعاني الضمنية لكل جانب من جوانب القصة، فإن التفاصيل في أسطورة فاوست تخص عصرنا. لا مفر منها.  هذه، بعد كل شيء، قصة العقد. تتضمن خاتمة معظم إصدارات قصة فاوست التوقيع على وثيقة ملزمة قانونًا، وهي تجربة غريبة عن مؤلفي سفر التكوين ولكنها مليئة بحياتنا، سواء كان التفاعل مع الموارد البشرية أو النقر على اتفاقية مع شركة الهاتف الخاصة بنا. قد تتعامل حكاية فاوست مع الروحاني والمتعالي، لكنها أيضًا تدور حول البيروقراطية والأعمال الورقية، وجحيمنا المعاصر وسرّه، على التوالي. نحن نتعرف على فاوست بطريقة لا يمكن لأي شخصية في الكتاب المقدس أن تكون معاصرة لنا على الإطلاق.

إن مسألة التوقيع على الخط المنقط هي مسألة سطحية عندما يتعلق الأمر بأهمية فاوست    للقراء المعاصرين، لأن حكاية عقد الشيطان، أكثر من أي أسطورة أخرى، هي تلخيص موجز للمأزق البشري على مدى القرون الخمسة الماضية، تمامًا كما هو الحال في القرن العشرين. لقد حملت الحداثة، وولدت، وازدهرت، وهي الآن في مخاض موتها.

قدم مارلو مسرحيته في بداية ما يسمى  بعصر الأنثروبوسين، العصر الجيولوجي الذي تمكنت فيه البشرية أخيرًا من فرض إرادتها (بطريقة تكاد تكون غامضة) على الأرض. هناك تكاليف لأي عقد من هذا القبيل، كما تقول حكمة الأسطورة، لذلك من المفيد أن نأخذ في الاعتبار بعد خمسة قرون من الهيمنة البشرية على الكوكب أننا قد نواجه الآن موعدنا الجماعي في ديبتفورد. يبدو أننا أخيراً نواجه الفصل الأخير، المضمون المروع لعصرنا، من تغير المناخ إلى سياسة حافة الهاوية النووية، مما يجعل استمرار بقاء البشرية مسألة مفتوحة، ومأزقنا المحزن هو نتيجة الغطرسة والجشع والمجد الباطل. قد يكون من المناسب إعادة تسمية هذا العصر بالفاوتوسيني.أنه سواء كان الشيطان حقيقيًا أم لا، فإن آثاره في العالم هي كذلك. عندما يتعلق الأمر بـ "الحقيقة" و"الحقائق"، فإن الكلمتين ليستا مترادفتين، ولن أتفاجأ على الإطلاق إذا تمكنت من رؤية دخان بعض الوهم الشيطاني خلف خط النيون في مسرح روز، عميقًا في ظلام دامس لدرجة أنه لا يمكن لذرة ضوء أن تفلت منه.

***

...........................

* مقتبس من عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوسية بقلم إد سيمون. حقوق الطبع والنشر © 2024.

الكاتب:  إد سيمون /  كاتب في Lit Hub، محرر مجلة Belt، ومؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك أحدث الكتب، الجنة والجحيم والفردوس المفقود، الجنة: تاريخ مرئي لعلم الملائكة، وبقايا، جزء من سلسلة دروس الكائنات . في صيف عام 2024، سيصدر ملفيل هاوس كتابه عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوستية، وهو أول تقرير شامل وشعبي عن هذا الموضوع.

 

بقلم: أوين ماثيوز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن الحرب في أوكرانيا وتزايد التنافس بين الولايات المتحدة والصين هما المحوران اللذان سيشكلان بنية الأمن العالمي، وتوفير الغذاء والطاقة، وتوازن القوة العسكرية والتحالفات. لقد ترددت أصداء حرب أوكرانيا بشكل أعمق بكثير عبر العالم مقارنةً بهجمات 11 سبتمبر، وستحدد نتائجها العلاقة بين الغرب والإمبراطوريات الآسيوية المتبقية، روسيا والصين.

كيف وصل العالم إلى هذه النقطة الحاسمة هو موضوع كتاب حروب باردة جديدة: صعود الصين، غزو روسيا، وصراع أمريكا للدفاع عن الغرب، وهو تقرير بارع من ديفيد إي. سانجر يروي بتفصيل مذهل التغيرات في العلاقات بين واشنطن وموسكو وبكين على مدار العقدين الماضيين. من موقعه كصحفي أمني كبير في نيويورك تايمز، يجمع سانجر بين التفاصيل المذهلة والرؤية الشاملة شبه التولستوية لتفكير المسؤولين الأمريكيين في القصة، سواء من خلال المقابلات أو من خلال وجوده في الغرف التي شهدت الأحداث الكبرى. في ليلة صيفية عام 2002، يجد سانجر نفسه مع فلاديمير بوتين وجورج بوش على متن يخت فخم يبحر في نهر نيفا. يتم تقديم الكافيار الأسود وشرائح اللحم من قبل مطعم بطرسبرج يدعى يفجيني بريجوزين، الذي كان لاحقًا مؤلف هجمات القرصنة على الانتخابات الأمريكية في عام 2016، بالإضافة إلى تمويل مجموعة فاجنر المرتزقة، والتي حاول بشكل مميت تحويلها ضد موسكو في عام 2023. في مؤتمر ميونيخ للأمن، قبل أيام فقط من إطلاق بوتين غزوه الكامل لأوكرانيا، يتناول سانجر الإفطار مع أنتوني بلينكن المتوتر، الذي يتم تجاهل تحذيراته بشأن الحرب الوشيكة تقريبًا. "سيحدث هذا"، يقول وزير الخارجية الأمريكي للمؤلف. "لا أستطيع أن أعطيك يومًا محددًا، ولكنها على بعد أيام فقط." يجري سانجر مقابلة مع رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، مارك ميلي، الذي يقول له: "لفترة اعتقدنا أن هذه ستكون حربًا إلكترونية. ثم اعتقدنا أنها ستبدو كحرب دبابات قديمة الطراز، من الحرب العالمية الثانية. ثم... هناك أيام كنت أظن أنهم يخوضون حربًا عالمية أولى." هذه التفاصيل والعديد من الجواهر الأخرى في التقرير تعطي تحليلات سانجر ليس فقط لونًا، ولكن أيضًا قناعة.

كما في أفضل كتب التقارير، يتجنب سانجر خطأ قراءة التاريخ عكسيًا من النتيجة إلى السبب. من بين العديد من المفاجآت، يتم تذكيرنا بمدى قرب الحكومة الروسية، وحتى بوتين، من واشنطن في بداية حكمه. في اجتماع مع الطلاب في موسكو عام 2002، بدا بوش وبوتين "مستريحين مع بعضهما البعض"، بينما كان الطلاب أنفسهم "مهتمين بعمق في تكامل روسيا مع أوروبا – وآفاقهم في الدراسة والعمل في الخارج، وفي النهاية، العثور على وظائف مربحة في روسيا". بالنسبة لسانجر، "شعور الأمسية، وكل الرحلة، لم يكن مجرد أن الحرب الباردة انتهت، بل كان مع الجهد يمكن محوها تقريبًا من التاريخ."

لكن حكاية توضح تمامًا مدى هشاشة الصداقة الجديدة. يتذكر بول كولبي، رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في موسكو آنذاك، حفلة نظمتها الوكالة للزملاء في جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) في مقهى بوشكين الفخم في موسكو عام 2004:

"كانت الساعة متأخرة في الليل، كما تعلم، وكانت الحطام البشري متناثراً في كل مكان. وكنت واقفاً أتحدث مع أحد ضباط الاتصال الكبار، وهو عميد من جهاز الأمن الفيدرالي. وضع ذراعه حولي وقال: 'أوه، السيد كولبي' - وكان يقف هناك مع مساعده - وقال: 'أوه، السيد كولبي، أنا من جهاز الأمن الفيدرالي، وأنت من وكالة الاستخبارات المركزية. كنا أعداء في السابق، لكن الحرب الباردة قد انتهت. الآن نحن أصدقاء وحلفاء.'"

"وكان يبتسم ويتمايل قليلاً. والضابط الشاب الذي كان واقفاً معه نظر إليه - وهو يحدق فيه بتركيز - وقال: 'جنرال، هذا هو السبب في أن جيلي يكره جيلكم. لأنكم خسرتم الحرب الباردة ونحن عائدون لاستعادتها.' وكان الموقف محرجاً تماماً."

"كان كولبي، على سبيل المثال، مقتنعاً في تلك 'اللحظة المبلورة' أن روسيا لن تنضم إلى الغرب."

يصف سانجر ببراعة سلسلة الفرص الضائعة والإهانات وسوء الفهم التي أدت إلى تعثر العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، بدءًا من الجولة الأولى من توسع الناتو، مرورًا بقصف كوسوفو، وصولاً إلى "الثورات الملونة" في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان. وبقدر أهمية تتبع أسباب الانهيار النهائي، يذكرنا أيضًا أنه لم يكن هناك شيء حتمي. حتى أوائل عام 2021، كانت عبارة "الحرب الباردة الجديدة" تشير تقريبًا حصريًا إلى علاقة أمريكا بالصين؛ كانت روسيا لا تزال فكرة ثانوية، قوة عظمى قديمة بالكاد تستقطب الانتباه باستثناء أنها لا تزال تمتلك ستة آلاف سلاح نووي. عندما شن بوتين غزوه الواسع النطاق لأوكرانيا، كان بإمكان جو بايدن أن يبقى بعيدًا عن الأمر، كما توقع بوتين وكما فعل باراك أوباما بعد ضم القرم في عام 2014. الفرق بين الرئيسين الأمريكيين هو أن بايدن، في أول مؤتمر صحفي له كرئيس، قدم التنافس بين الولايات المتحدة والصين باعتباره "معركة بين فعالية الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين والأنظمة الاستبدادية" - وإذا تخلى الولايات المتحدة الآن عن أوكرانيا، فإن رسالة بايدن كمدافع على نمط ترومان عن الديمقراطية ستكون خالية من المصداقية

بشكل مفيد، يحتفظ سانجر بالصين بقوة في الصورة. قد تكون روسيا هي المزعزع العنيف والمشكوك فيه للعصر الحديث، وبوتين هو المثال الأبرز للعداء المتقلب ضد أمريكا، لكن الصين هي "خصم استراتيجي محتمل أوسع بكثير من الاتحاد السوفيتي على الإطلاق... كانت تهديدًا تكنولوجيًا، وتهديدًا عسكريًا، وخصمًا اقتصاديًا في آن واحد – بينما، بشكل محير، ظلت شريكًا تجاريًا حاسمًا".

كتاب سيرجي رادشينكو الرائع التحكم بالعالم: محاولة الكرملين للحرب الباردة من أجل القوة العالمية يغير نظرة سانجر التي تركز على الولايات المتحدة ليقدم سردًا لمحاولة روسيا الفاشلة في النهاية للحفاظ على وضعها كقوة عظمى اكتسبتها خلال الحرب العالمية الثانية. يبدأ رادشينكو قصته بتجارب زمن الحرب لثلاثة من القادة السوفييت المستقبليين: نيكيتا خروتشوف وهو يحرق جثث الألمان في ستالينجراد، ليونيد بريجنيف يتلقى جرحًا في رأسه على متن قارب إنزال يعبر نهر الدنيبر، وميخائيل جورباتشوف البالغ من العمر عشر سنوات ينجو بصعوبة من المجاعة التي قتلت الكثيرين في قريته. "لقد أحرقتنا الحرب العالمية الثانية، تاركة انطباعًا على شخصياتنا، على نظرتنا للعالم بأسره"، تذكر جورباتشوف. وكما تنبأ الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان في برقيته الطويلة عام 1946، فإن العقلية الجغرافية السياسية لروسيا لا تزال متجذرة في تلك الحرب. تلك التجربة لم تخلق فقط خوفًا من الحصار والغزو الخارجي (كما كان حجة كينان)، ولكن أيضًا قناعة بأنها قد حصلت على هيمنتها الإقليمية بدمائها: "الانتصارات السوفييتية ضد ألمانيا والمعرفة الفخورة بأنها هي – المنبوذة لفترة طويلة من أوروبا – التي أجبرت النازيين على الركوع، ولدت شعورًا بالاستحقاق، شعورًا بأن الاتحاد السوفيتي كان له الحق الكامل في إعادة تشكيل أوروبا بطرق تضمن أمانه وتزيد من مكانته كقوة عظمى وحيدة في القارة".

ومع ذلك، كان وراء هذا الشعور بالحق، بالنسبة لكل قائد سوفييتي وروسيا من خروتشوف إلى بوتين، عقدة نقص عميقة. "خروتشوف كان يغار من أمريكا لثروتها وقوتها، وكان يشعر بالاستياء من غرورها الذي لا يُحتمل، ومع ذلك كان يائسًا للحصول على قبول أمريكي لدرجة أنه عندما تم قبوله، كان يمكنه أن يسب أمريكا في وجهها"، يجادل رادشينكو. بالفعل، يجب عدم قراءة التاريخ بشكل عكسي، لكن التشابه مع مطالب بوتين المزعجة بالاحترام بعد ستين عامًا أمر لافت. "هل أنا مخلوق يرتعش أم لدي الحق؟" هو السؤال الذي يطرحه روديون راسكولنيكوف، بطل فيودور دوستويفسكي في الجريمة والعقاب، أثناء تفكيره في قتل مرابي عجوز. وهكذا، يكتب رادشينكو، "همس السوفييت راسكولنيكوفات، بينما كانوا يزرعون أعلامهم بشكل عدواني على الشواطئ النائية، دون أن يدركوا ربما أن حتى طرح هذا السؤال أظهر أنهم كانوا خارج نطاقهم."

التحكم بالعالم مليء بتفاصيل رائعة عن العلاقة الثلاثية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة والصين، وتأثيرها على السياسة العالمية من مؤتمر يالطا إلى غزو أوكرانيا. من كان يظن أن خروتشوف وماو ناقشا كيف سيبنيان "دورات مياه عامة بالذهب النقي"، أو أن ماو أراد أن يتم تفجير الأمم المتحدة واستبدالها بمدينة عائمة في وسط المحيط يمكن لجميع الدول إرسال ممثلين إليها؟ أو أن ستالين كان قد دعا إلى إنشاء حزب نازي في منطقة الاحتلال السوفيتي في ألمانيا، على أساس أنه "ما لم يكن لدى النازيين السابقين حزبهم الخاص، فسوف يميلون نحو الغرب"؟ كان خروتشوف وماو يراقبان بعضهما البعض بقلق بينما كانت منافستهما تزيد من توتر تحالفهما الشيوعي الطبيعي، ويظهر رادشينكو كيف أصبحت الصين مركزية في التفكير الجيوسياسي للكرملين.

أما بالنسبة لعلاقة الاتحاد السوفيتي، ثم روسيا، بالولايات المتحدة، يقدم رادشينكو بشكل غير بديهي عقود الحرب الباردة كتاريخ للتعاون، وليس المعارضة. هكذا كانت الديناميكية بين بريجنيف وريتشارد نيكسون بينما كان الزعيمان يسعيان إلى مشروع مشترك "للتحكم بالعالم"، وبين جورج إتش. و. بوش وجورباتشوف. ذهب جورباتشوف أبعد من أي من أسلافه من خلال تقديم القيادة العالمية لموسكو من خلال شراكة نشطة مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، كل ما حصل عليه في النهاية كان شراكة مع بيتزا هت، التي قام بتصوير إعلان لها في عام 1997. بالنسبة لرادشينكو، تعود أصول حرب أوكرانيا إلى تدهور أحلام جورباتشوف وبوريس يلتسين بالتعاون، حيث تم تجاهل روسيا كأمر غير ذي أهمية من قبل الغرب المنتصر.

كانت روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، التي كانت تتطلع بغيرة إلى القوة الهائلة التي يتمتع بها الغرب، تسعى إلى الحصول على مقعد على الطاولة دون أن تفهم الثمن الذي يتعين عليها أن تدفعه مقابل القبول، إذا ما تم قبولها على الإطلاق (وهذا لم يكن وارداً على الإطلاق). كان لزاماً على روسيا أن تغير نفسها، وأن تعترف بعيوبها، وأن تحاول معالجتها. وكان الأمر بالغ الصعوبة، بل وربما كان مهيناً. وكان من الأسهل كثيراً أن تغلق الباب بقوة... وكان هذا هو المسار الذي اختاره بوتن.

في السلام الضائع: كيف فشل الغرب في منع الحرب الباردة الثانية، يوجه ريتشارد ساكا اللوم لإغلاق ذلك الباب إلى مزيج من الغرور، والإهمال، وافتقار الرؤية للغرب بشأن العالم ما بعد السوفيتي. مشيرًا إلى حكم مارشال فوش القاسي، والذي كان بعيد النظر، بشأن معاهدة فرساي عام 1919 بأنها "ليست سلامًا [بل] هدنة لعشرين عامًا"، يصف ساكا التعامل مع روسيا بعد عام 1989 بأنه "سلام آخر على نمط فرساي، بمعنى أنه كان جزئيًا وأدى في النهاية إلى تجدد الصراع". كان الإصلاحيون السوفييت يعتقدون أن نهاية الحرب الباردة ستؤدي إلى التعاون المتعدد الأطراف بينما تخفف من التنافسات التقليدية في الجغرافيا السياسية وبين القوى العظمى. ولكن، كما يجادل المؤلف، بدلاً من نظام جديد "استنادًا إلى الأمم المتحدة ومؤسساتها [التي تخلق] إطارًا للقانون الدولي، والحكم العالمي، والانخراط الإنساني"، فرض الغرب "جدول أعمال أكثر طموحًا للهيمنة الليبرالية [التي] أظهرت سمات أحادية الجانب وقسرية، خاصة عندما تم التعبير عنها من خلال الاستثنائية الأمريكية".

يتتبع السلام الضائع القوس الحزين لروسيا من حليف محتمل للغرب، مرورًا بالإهانة التي تعرضت لها في التسعينيات، إلى الانتقامية في العقد الأول من الألفية التي أدت في النهاية إلى الصراع الحالي. بالنسبة لساكا، يمكن العثور على جذور الانهيار الحالي في رفض الغرب الجماعي الاعتراف بتأكيد موسكو وبكين بأن الدول الاستبدادية يمكن أن تتمتع بنفس حقوق الدول الديمقراطية – وهو إنكار "قوض المبدأ الأساسي للمساواة السيادية". وقد تم تعزيز هذه الظلم، كما يراه، من خلال التوسع غير المدروس في الناتو – وهي منظمة "تبررها الحاجة للتعامل مع عواقب وجودها الخاص". كما يقتبس عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وليام بيرنز، قوله إن توسع الناتو "ظل على الطيار الآلي كمسألة سياسة أمريكية، لفترة طويلة بعد أن كان من المفترض إعادة تقييم افتراضاته الأساسية. الالتزامات التي كانت في الأصل تعكس المصالح تحولت إلى مصالح بحد ذاتها".

كانت روسيا هي الدولة الأولى التي تحدت الاستثنائية الغربية – أي الادعاء بالحق الأوحد في مراقبة العالم بعنف، من كوسوفو إلى العراق – من خلال ضمها لشبه جزيرة القرم في عام 2014. وقد أدى ذلك إلى "خط أحمر جديد في أوكرانيا"، إلى جانب الصين التي تخلت عن سياسة "الاختباء والانتظار" لتأكيد سلطتها، مما خلق نظامًا عالميًا جديدًا. يجادل ساكا بأن القرن الحادي والعشرين سيُعرَف بالصراع حول كيفية عمل هذا النظام الجديد، وما إذا كانت القوى الليبرالية ستستمر في التمتع بـ "امتيازات الوصاية". يشير إلى أن الهند، والبرازيل، واليابان، وإندونيسيا، والمكسيك، وفيتنام والعديد من الدول الأخرى "تكتسب ثقة أكبر وتسعى إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية والمسؤولية" خارج نطاق سلطة الولايات المتحدة أو أوروبا، ويكتب: "إنهم يجدون صوتهم، واللغة التي يتحدثون بها هي القومية السيادية".

الحل الذي يقترحه ساكا هو إحياء فكرة "التوازن التشاركي للقوى": نوع من "حفل أوروبا" العصري، مُحدث ليشمل الكرة الأرضية بأكملها. رؤيته لهندسة الأمن الجديدة في شرق أوروبا هي واحدة من الحياد الدائم للدول الحاجزة بما في ذلك فنلندا والسويد؛ أوكرانيا ومولدوفا؛ بيلاروسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان؛ وأخيراً، قبرص وصربيا. (على الرغم من أن فنلندا والسويد قد انضمتا إلى الناتو كأعضاء كاملين منذ كتابة الكتاب.) النقطة الأساسية لدى ساكا هي أنه "في نهاية الحرب الباردة الأولى، أصبحت الليبرالية الدولية راديكالية لتصبح الهيمنة الليبرالية، مما يمثل انتصار الليبرالية المناهضة للتعددية". من خلال هذه الرؤية، يمكن تحقيق السلام في وقتنا فقط من خلال الاعتراف بنهاية تلك الهيمنة.

إن الجوهر الأساسي لعصر ما بعد الحرب الباردة، كما يجادل سيرجي رادشينكو بشكل صحيح، هو أن "القوى العظمى المسلحة نوويًا كانت ببساطة غير قابلة للتدمير من الخارج. الحروب الكبرى للتوسع التي غيرت مجرى التاريخ كانت ببساطة غير ممكنة الآن. كل ما تبقى هو التعايش الدائم حتى ينهار أحد القوى العظمى من تلقاء نفسه". ومع ذلك، لا تُظهر روسيا والصين أي علامات على الانهيار. غزو بوتين لأوكرانيا، بدلاً من أن يكون آخر اهتزاز للإمبريالية التوسعية في التاريخ الأوروبي، ويشير إلى النهاية النهائية لعصر الإمبراطوريات في الغرب، يبدو أنه مقدمة لعصر جديد من التنافس بين القوى العظمى. يبدو النظام العالمي الجديد مشابهًا بشكل محبط للنظام العالمي القديم قبل أن يتوقف بسبب فترة قصيرة مليئة بالأخطاء من الصعود الغربي.

***

.........................

المؤلف: أوين ماثيوز /  رئيس مكتب موسكو السابق لمجلة نيوزويك ومؤلف Overreach: The Inside Story of Putin’s War on Ukraine (2022)، الذي فاز بجائزة بوشكين هاوس للكتاب في عام 2023.

https://www.the-tls.co.uk/politics-society/politics/cold-wars-david-e-sanger-sergey-radchenko-richard-sakwa-book-review-owen-matthews/

زواج القاصرات في المذاهب السنية وكيف التقى فقهاء الشيعة مع مفتي السعودي ابن باز على تزويج ذات التسع سنوات: نظريا، لا تختلف المذاهب السنية القائمة اليوم عن المذهب الشيعي "الجعفري" في موضوع تحديد سن البلوغ للفتى والفتاة. ولكن القائمين على أمور الفتيا في المجتمع الفقهي السني في العراق (أعلى مرجعية سنية في العراق) لا يصرون على سِنِّ التاسعة للبنت رغم أنهم يعترفون بأنه حدث في عهد صدر الإسلام. فالشيخ عبد الستار عبد الجبار خطيب جامع أبي حنيفة في بغداد قال في لقاء صحافي: "أن الزواج في سن التاسعة، وإنْ كان قد ورد في عهد النبوة، لكن تلك الزيجات تخضع للعُرف في تلك الفترات، وهو ما لا ينطبق بالضرورة على وقتنا الحاضر" وهذه وجهة نظر منفتحة على العصر تنطوي على روح المعاصرة والاستنارة.

*يرى بعض الفقهاء السنة المعاصرون والقدماء أن "ليس في الشريعة تحديد لسن زواج الرجل أو المرأة، وقد أجمع أهل العلم على جواز تزويج الصغير، وكذا الصغيرة إذا زوجها أبوها من كفء. وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على صحة تزويج الصغيرة التي لم تبلغ، وعدم تحديد ذلك بسن معين".

* ووضع بعض الفقهاء السنة شرط إطاقة الجُماع للصغيرة دون أن يوضحوا كيف يمكن أن تتم معرفة ذلك. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: "حد ذلك أن تطيق الجماع، ويختلف ذلك باختلافهن، ولا يضبط بسن وهذا هو الصحيح، وليس في حديث عائشة تحديد، ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع، ولا الإذن فيمن لم تطقه وقد بلغت تسعا/ الرابط 1".

* أما في السعودية ولدى السلفيين المعاصرين السائرين على دربها وحتى لدى الجماعات التكفيرية كالدواعش فالأمر محسوم لمصلحة الداعين إلى زواج الصغيرة القاصر ذات التسع سنوات. ففي سؤال وُجِّهَ إلى الشيخ ابن باز المفتي العام في المملكة العربية السعودية حتى وفاته يقول: ما حكم نظر الشرع في الزواج المبكر؟ وما هو السن المناسب للزواج بالنسبة للفتاة والفتى؟ الرابط 2.

يجيب الشيخ ابن باز: "إن الإنسان متى بلغ الحلم، أصبح عرضة للخطأ، فالمشروع له البدار (المبادرة) إذا استطاع -البدار بالزواج- من حين يبلغ الحلم، إذا بلغ خمسة عشر سنة، فأكثر، وإنَّ بلغ قبل ذلك. المقصود: أنه إذا بلغ ولو بغير الخمسة عشر، وهو يستطيع الزواج، يشرع له المبادرة. وهكذا البنت، إذا بلغت تسعاً فأكثر، إذا تيسر الزواج تزوج، بنت تسع؛ لا حرج، فعائشة تزوجها النبي ﷺ وهي بنت سبع، ودخل بها وهي بنت تسع -رضي الله عنها-، نعم".

وعلى هذا فإن من حق الرافضين لتعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي أن يروِّجوا جوهر موقف الشيخ العراقي عبد الستار عبد الجبار ويدعوا الآخرين من جميع المذاهب الإسلامية إلى الاقتداء بموقفه الإنساني المستنير سيما وأن قوانين غالبية وربما كل الدول العربية المعاصرة تشترط الثامنة عشرة سنا للبلوغ والزواج وتشترط إذن القاضي ما دون ذلك "15 عاما"، أو على الأقل أن يكف دعاة تزويج القاصرات عن الكذب والنفاق ويكونوا صرحاء مثل ابن باز والدواعش وأن يعلنوا أنهم مع تزويج الفتيات في سن البلوغ المحدد في السنة التاسعة "هلالية" أي ثماني سنوات وثمانية أشهر كما تقول فتوى مرجعهم الأعلى السيستاني المرقمة 1069.

ويبقى المطلوب إنسانيا هو الإبقاء على قانون الأحوال الشخصية وطنيا عراقيا وترك موضوع المدونات المذهبية الطائفية الممزِّقة للمجتمع، والعمل على تطوير هذا القانون من قبل متخصصين ومعالجة أية ثغرات قد تكون موجودة بخصوص حضانة أطفال الأزواج المطلقين بما يراعي حق الوالدين كلاهما في الحضانة. أما كتابة مدونات طائفية مذهبية تبيح تزويج الفتيات في التاسعة خارج المحاكم أو داخلها فهو امر مرفوض وبداية دخول العراق كدولة ومجتمع في عهد الهمجية والبربرية الإباحية المهينة للمرأة ولبراءة الطفولة.

النجيفي مع التعديل

الفاسد أثيل النجيفي يصطف مع دعاة تعديل قانون الأحوال الشخصية باتجاه طائفي مذهبي ويدعو المرجعيات السُّنية إلى كتابة مدونة سُنية للأحوال الشخصية بدلا من الاعتراض على التعديل على القانون الحالي! دعا النجيفي - المتهم رسميا بالفساد وغسيل الأموال والمحكوم بثلاث سنوات سجناً من قبل محكمة جنح الرصافة والمتهم أيضا بالتخابر مع دولة مجاورة "تركيا" وتسهيل دخول قواتها الى العراق - إلى مناقشة ما يجب على المجلس العلمي والافتائي في ديوان الوقف السني إدراجه في مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية التي سيكلف بإعدادها بعد إقرار تعديل قانون الأحوال الشخصية". وأضاف ان "الاهتمام بإظهار المدونة المذكورة بصورة لائقة ورصينة ومتوافقة مع أحكام المذاهب السنية وكذلك متوافقة مع طبيعة العصر الذي نعيشه أجدى كثيرا من الاعتراض على تعديل، وجميعنا يعلم أنه سيمضي ويقصد أنه سيشرَّع ويقر".

من حق العراقيين أن يتساءلوا لماذا هذا الاستعجال من قبل الفاسد أثيل النجيفي في الاصطفاف مع دعاة تعديل قانون الأحوال الشخصية، وهو يعلم وغيره يعلم بأنه ليس تعديلا بل هو تدمير ونسف للقانون 188، ترى هل وعده الحاكمون بالعفو عنه والسماح له بالعودة إلى حصته من كعكعة الحكم مقابل هذا الموقف بعد أن طُرد منه وتم عزله؟

 هل يريد النجيفي أن يلطخ سمعة رجال الدين العرب السنة ومؤسساتهم الفقهية بعار المشاركة في تدمير قانون الأحوال الشخصية 188 الوطني التقدمي وتشريع مدونات طائفية مذهبية تمزق المجتمع العراقي وتسمح بتزويج القاصرات؟ ولكن ما الغريب حين تأتي هذه الدعوة من شخص يميني رجعي له ثاراته مع ثورة 14 تموز وقانونها للأحوال الشخصية؟ نأمل من الوطنيين والخيرين من ساسة ورجال الدين العراقيين من العرب السنة وغيرهم أن لا يصغوا الى كلام النجيفي ويردوا عليه ردا رادعا يعيده إلى حجمه الحقيقي كفأر طوائف يبحث عن مصالحه الذاتية الجشعة.

***

علاء اللامي

....................

* رابط لتوثيق الخبر في أول تعليق: النجيفي يدعو رجال الدين السُنَّة للتحرك بشأن تعديل الاحوال الشخصية: سيمضي

1-الرابط ليس للنكاح سن معين وبيان المراد بقوله تعالى (حتى إذا بلغوا النكاح)

https://islamqa.info/ar/answers/256830/%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%84%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A7%D8%AD-%D8%B3%D9%86-%D9%85%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%A8%D9%82%D9%88%D9%84%D9%87-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A8%D9%84%D8%BA%D9%88%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A7%D8%AD

2-رابط يحيل إلى السؤال الموجه للشيخ ابن باز والجواب عليه: حكم الزواج المبكر وبيان السن المناسب للزواج.

https://binbaz.org.sa/fatwas/14257/%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D9%83%D8%B1-%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B3%D8%A8-%D9%84%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%AC

3- رابط: النجيفي يدعو رجال الدين السُنَّة للتحرك بشأن تعديل الاحوال الشخصية: سيمضي

https://www.shafaq.com/ar/%D8%B3%DB%8C%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D9%8A%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3-%D9%86-%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%83-%D8%A8%D8%B4-%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%88%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D9%85%D8%B6%D9%8A

* توضيح لا بد منه

نشرتُ هذا المقال عام 2007 على حلقتين، (وهذه هي الحلقة الثانية والأخيرة.)، وقد أثار في وقته جدلاً بين الكتاب الإسلاميين والعلمانيين. وبمناسبة عزم البرلمان العراقي تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، بتطبيق الشريعة الإسلامية التي تسمح للرجل بالزواج من أربع نساء، وحتى بالرضيعة بعمر السنتين، والاستمتاع بها مفاخذة، والولوج بها في التاسعة، وتسليم هذا القانون لرجال الدين ومنحهم الحرية الكاملة بالتصرف في قضايا الأحوال الشخصية، وحسب المذاهب التي يعتنقونها بعد ان كان بيد القضاء العراقي، الإجراء الذي من شأنه تكريس الطائفية، وتفتيت المجتمع المفتت أصلاً، وتجريد الدولة من مسؤولياتها في هذا الخصوص... لذلك رأيت من المفيد إعادة نشر المقال، فكما تفيد الحكمة: (في الإعادة إفادة !).

***

مقدمة

بعد نشر الحلقة الأولى من هذه المقالة (الربط رقم1 في الهامش)، استلمت ردود أفعال متباينة وخاصة فيما يخص عملية التفخيذ، أو المفاخذة على حد تعبير الإسلاميين، وهي عملية جنسية يجريها رجل بالغ ومهما كان عمره مع الطفلة ومهما كان عمرها وحتى الرضيعة، باسم النكاح (الزواج)، لفظاً أو كتابة، بشكليه الدائم والمؤقت، حتى السن التاسعة، وبعدها يحق للزوج ممارسة الجنس معها ولوجاً. ونظراً لأهمية الموضوع وما نال من اهتمام بالغ من جمهرة واسعة من القراء الكرام، وعدد من الكتاب الأفاضل، أرى من المفيد مواصلة النقاش والبحث، والتوسع فيه وذلك خدمة للحقيقة والمصلحة العامة.

يمكن تصنيف ردود الأفعال على المقالة إلى ثلاثة أقسام. الأول، يضم الأغلبية، حيث وصلتني رسائل إلكترونية ومحادثات هاتفية بالعشرات وما زالت، إضافة إلى العديد من المقالات نشرت في صحيفة (صوت العراق) الإلكترونية، معظمها تدعم مضمون المقال ما عدا واحدة. وقال البعض من أصحاب الرسائل الإلكترونية أنهم لأول مرة يسمعون بجواز هذه الطريقة من الممارسة الجنسية في الإسلام، وأنهم يدينونها بشدة لأنها مقززة لا اخلاقية وتتعارض مع القيم الإنسانية، ومع قوانين حقوق الإنسان في عصرنا الحاضر، وانتهاك صارخ لحقوق الطفولة وبراءتها.

المطالبة بعدم الخوض في المسائل الدينية

أما القسم الثاني من أصحاب الردود، فقد أدانوا العملية ولكنهم نصحوا بعدم إثارة هذا الموضوع لحساسيته، وأنه يجب توجيه طاقاتنا الكتابية في هذه المرحلة العصيبة إلى الجانب السياسي والمحنة التي يمر بها العراق، وشعوب المنطقة، بدلاً من الخوض في القضايا الدينية، لأن هكذا سجال يستفز الإسلاميين ويدفعهم إلى التخندق، ردود أفعال عنيفة ومتشنجة نحن في غنى عنها، ونحن نريد إرضائهم بدلاً من إثارتهم.

وهنا أود أن أذكر هؤلاء الأخوة من أصحاب النوايا الحميدة، بالحكمة القائلة: أن "الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة". ففي وقتنا الحاضر اختلط الديني بالسياسي، بحيث صار الإسلاميون سياسيين يوظفون النصوص الدينية لفرض تسلطهم السياسي على الشعوب، وبذلك تسببوا في جلب الكوارث على مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فنحن نمر الآن بنفس مرحلة النهضة والتنوير الأوربية في صراع المثقفين مع الكنيسة، وسيطرتها على مصائر ورقاب الناس. وبسبب تلك السيطرة أعاقت الكنيسة تقدم أوربا في القرون الوسطى، والتي سميت بحق بالعصور المظلمة. واستمر نضال المثقفين الليبراليين الإصلاحيين إلى أن انتصروا في فصل الكنيسة عن الدولة، ونجحوا في إقامة أنظمة علمانية ديمقراطية. ونتيجة لهذا الفصل بين الدين والسياسة، انطلقت أوربا في مسيرتها التاريخية وحررت العقل من القيود، وفجرت الطاقات الخلاقة لشعوبها في مختلف المجالات، وحققت هذا التقدم المذهل في العلوم والتكنولوجية والفنون والديمقراطية وحقوق الإنسان...الخ.

لذلك، فإني استميح الأخوة عذراً في هذا الخصوص، إذ أرى من واجبنا ككتاب لبراليين، أن لا نتردد في طرح هذه المسائل وإن بدت قضايا دينية، إلا إن لها علاقة مباشرة بالسياسة وبحقوق الإنسان، وفي هذه الحالة (المفاخذة) اعتداء صارخ على حقوق المرأة والطفولة البريئة التي هي بحماية المجتمع، والساكت عن الحق شيطان أخرس، أو كما قال مارتن لوثر كنغ: "المصيبة ليس في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار". ويجب أن يعرف أصحاب النوايا الحسنة، أنه كلما تنازلنا للإسلاميين في أمر ما، فإنهم يتمادون ويطلبون منا المزيد من التنازلات إلى أن يسيطروا على كل شيء، وننتهي نحن بلا شيء. مثلاً طلب منا البعض بعدم استخدام مفردة (العلمانية)، واقترحوا (النظام المدني) بدلاً منها، لأن العلمانية تستفز الإسلاميين الذين يعتبرونها كفراً، وبذلك سيتهموننا بالكفر أيضاً. وهذا النهج هو الآخر أثبت خطأه. فالمطلوب منا الإصرار على استخدام مصطلحاتنا مثل العلمانية، والليبرالية، والديمقراطية وحقوق الإنسان...الخ، وعدم التنازل عنها أبداً. أما سلاحهم البائس وهو توجيه تهمة الكفر لنا، أو تهمة الإساءة للإسلام، والمقدسات، فهو ديدنهم الدائم المعروف في كل زمان ومكان، وسلاحهم القديم يشهرونه في وجوه المفكرين الأحرار، وكل من يتجرأ ويوجه نقداً لهم، إذ ينقل عن الشيخ محمد عبدالوهاب، مؤسس الحركة الوهابية قوله: "الفكر والكفر سيان لأنهما من نفس الحروف". لذا يجب عدم الخضوع لابتزازهم، بل مواصلة السير قدماً وحتى النصر المؤزر، فمسار التاريخ في صالحنا.

كذلك نؤكد للمرة الألف أن النظام العلماني الديمقراطي الليبرالي ليس ضد الأديان، بل هو الضامن الوحيد للأديان وحرية ممارسة شعائرها وطقوسها. والإسلاميون يعرفون هذه الحقيقة الساطعة جيداً ويستغلونها أبشع استغلال لأغراضهم كما نراهم في البلدان الغربية. إذ قارن بين حرية الأديان والطوائف في الدول ذات الأنظمة الإسلامية مثل إيران والسعودية والسودان مع الدول الأوربية العلمانية الديمقراطية. فالأنظمة الإسلامية هي طائفية، تبيح حرية العبادة لطائفة الفئة الحاكمة فقط، وتمنعها على أصحاب الأديان الأخرى والطوائف الإسلامية الأخرى في ممارسة شعائرها. ولذلك نرى معظم الإسلاميين الهاربين من جور أنظمة حكوماتهم الإسلامية يفضلون اللجوء إلى الدول الغربية التي يتهمونها بالكفر على العيش في الدول ذات الأنظمة الإسلامية ويطبق فيها حكم الشريعة.

جدال حول التفخيذ أول المفاخذة

أما القسم الثالث من الردود فكان ضد المقال، ولحسن الحظ ضم لحد الآن ولحد علمي، شخصاً واحداً فقط ، وهو السيد أسامة النجفي (ليس النجيفي)، الذي أيد عملية التفخيذ وراح يدافع عنها بحرارة في مقال مطول له نشر في صحيفة (صوت العراق) الإلكترونية يوم 16/2/2007 ومواقع أخرى، بعنوان: (حول الزواج من الصغيرة: رد على عبد الخالق حسين).

بادئ ذي بدء، أود أن أشكر جميع الأخوة والأخوات الذين بعثوا برسائل التأييد وشاركوا في النقاش وأغنوا الموضوع بآرائهم القيمة بما يحفز على التفكير ومواصلة السجال في هذا الموضوع الخطير. كما وأشكر الأخوة الذين عبروا عن آرائهم ومواقفهم من هذه القضية على شكل مقالات نشرت في صوت العراق، ومواقع أخرى، وأخص بالذكر منهم: الأستاذ حسن أسد في مقاله (اُسامة النجفي ... أراد يكحلها عماها )، والدكتور لبيب سلطان (التفخيخ والتفخيذ - النفاق واجتماع المذاهب عند اسامة النجفي )، والدكتور عزيز الحاج ( الدعاة الإسلاميون وكرامة الأطفال..)(6)، وابن العراق (الاخ اسامة النجفي المحترم )، والسيد سعد الفحام (المفاخذه: سلاح دمار شامل بحق الطفولة) وآخرون، سأضع روابط بعض مقالاتهم في نهاية هذه المداخلة لمن يرغب الإطلاع عليها.

كذلك أود أن أشكر السيد أسامة النجفي على رده المعارض لي، والذي لم يؤيد فقط صحة ما أوردته عن فتوى السيد الخميني (رحمه الله) بإباحة المفاخذة مع الرضيعة في الإسلام، بل ودافع عنها وبررها ووفر لي وللباحثين الآخرين عناوين مصادر إسلامية عديدة، مؤكداً صحة الخبر الذي أوردته، وأن هذه العملية عليها إجماع من جميع الفرق والمذاهب الإسلامية. ولكنه تعامل مع الموضوع كما لو أني أتهم الإمام الخميني وحده بأنه أتى ببدعة غريبة عن الإسلام. ولذلك ركز جل رده على الإثبات بأن ما جاء في كتاب الخميني (تحرير الوسيلة) هو أمر مسموح به وعليه إجماع من جميع الفقهاء المسلمين. لذا أود التأكيد بأني لست ضد الإمام الخميني، بل ضد عملية ممارسة الجنس مع الأطفال، وحتى لو كانت تحت ذريعة الزواج. أما إذا كان عليه إجماع فالمصيبة هنا أعظم. وقد أسهب الكاتب كثيراً وأطال في مقاله البالغ 2450 كلمة، فيه تكرار ممل، لا يخرج عن محتوى الفقرة الأولى من المقال والتي يقول فيها:

" مرة اخرى يخرج لنا عبد الخالق حسين في مقاله (الإسلام بين التفخيخ والتفخيذ...!) المنشور في صوت العراق، محاولا الاساءة لأحكام الاسلام الفقهية. ولتوهيم القارئ يضيف ما يسميه هو الاسلام السياسي (ولا ادري ما علاقة الاسلام السياسي بزواج الصغيرة!). فهل هنالك اسلام سياسي وغير سياسي؟. فأحكام الاسلام غطت كل جوانب الحياة ابتداءً من ولادة الانسان وحتى موته وما السياسة وهي فن الحكم الا جزء من الحالات التي عالجها الإسلام. والواقع فان هناك هجوم منظم وحملة قوية للوهابية وبعض الليبراليين او كما يسمون انفسهم كذلك من أجل تشويه وتسقيط مذهب أهل البيت (ع)، والاسلام، ويريدون من ذلك اظهار صورة للإسلام مشوهة عموما. تركز مقال عبد الخالق حسين حول مسالة نكاح البنت الصغيرة والاستهزاء بفقهاء المسلمين. ونحن ان شاء الله ندحض جميع حججه ونثبت له ان ما تقوله ليس له اثبات وان زواج البنت الصغيرة كعقد لفظي أو كتابي هي مسالة قانونية بحتة عليها إجماع المسلمين بكل طوائفهم. بل حتى احكام الدين اليهودي والمسيحي تجوز الامر من قبيل ولاية الاب على البنت الصغيرة." انتهى.

نلاحظ من هذا الرد المتشنج، ذات الطريقة التقليدية المعروفة عند الإسلاميين في مساجلاتهم مع الآخرين، إذ دائماً وأبداً يلجؤون إلى سلاحهم الوحيد وهو توجيه تهمة " الاساءة لأحكام الاسلام الفقهية". والسؤال هو: هل مناقشة أحكام فقهية والاختلاف معها يعني الإساءة لها والإستهزاء بالفقهاء؟ كذلك يتساءل الكاتب " فهل هنالك اسلام سياسي وغير سياسي؟" وقد رد الأخ الدكتور لبيب سلطان على هذا السؤال مشكوراً في مقاله المشار إليه أعلاه قائلاً: (وكأن القاعدة وحركات الجهاد والشورى وجيوش الخلفاء والأئمة- هي جمعيات خيرية دينية- وأحزاب مثل التوافق والإسلامي والدعوة والمجلس – هي أندية فقهية لا علاقة لها بالحكم).

وإضافة إلى ما ذكره الدكتور لبيب، أود أن أوضح للسيد أسامة النجفي ما يلي:

نعم هناك إسلامان، الإسلام الديني والإسلام السياسي. الأول، هو دين المسلمين البالغ عددهم نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة، والذي جاء في كتابه المقدس، القرآن الكريم، (لا إكراه في الدين قد تبن الرشد من الغي)، وأنه جاء رحمة للعالمين، والدين هو مسألة خاصة بين الإنسان والخالق ولا يحتاج إلى وسيط. أما الثاني، أي الإسلام السياسي، فهو نقمة على العالمين، ولم نر منه سوى الإرهاب المنظم المختص بالمفخخات والتفجيرات والقتل العشوائي للأبرياء بالجملة لنشر الرعب في أوساط المدنيين، وأرجو من السيد أسامة أن ينظر إلى شاشات التلفزة ليرى بعينيه ما فعله الإسلام السياسي بالعراق وأفغانستان ولبنان وغزة وبالي ومدرسة بسلان في جنوب روسيا ومدريد ولندن وباريس ونيويورك وغيرها من المناطق في العالم، حيث حول هؤلاء الإسلام إلى آيديولوجية للإرهاب وجعلوا من كل مسلم إرهابياً في نظر العالم إلى أن يثبت براءته، وهذا بفضل الإسلام السياسي الذي تدافع عنه.

يقول السيد النجفي موجهاً خطابه لي: "... ونحن ان شاء الله ندحض جميع حججه ونثبت له ان ما تقوله ليس له اثبات وان زواج البنت الصغيرة كعقد لفظي او كتابي هي مسالة قانونية بحتة عليها اجماع المسلمين بكل طوائفهم..." فكما رد عليه الأخ حسن أسد: "أراد أن يكحلها عماها".

ولا أدري ماذا أراد أن يدحض، فالكاتب أيد كل ما ذكرته، بل وزاد عليه قائلاً: " ان زواج البنت الصغيرة كعقد لفظي او كتابي هي مسالة قانونية بحتة عليها اجماع المسلمين بكل طوائفهم..". ويضيف في مكان آخر من رده: " وإني أتحدى أي فقيه سني او شيعي او اي مذهب اخر يقول أن هذه الفتوى خلاف الفقه بكل المذاهب .. فعلى صعيد المذاهب الأربعة (كما سنذكر ذلك) يرون في زواج رسول الله (ص) من عائشة وعمرها ست سنين ودخوله بها وهي تسع سنين دليل على أن المسألة مسلمة ومتفق عليها بالاجماع، فقد روى الإمام مسلم عنها في صحيحه المشهور أنها قالت ( تزوجني النبي (ص) وأنا بنت ست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع سنين " (صحيح مسلم ج2 ص1039)) . وفي مكان ثالث يقول: (فإذا كان الاعتراض على تزويج الرضيعة بالخصوص (وهو أمر نظري بحت) فهو من مسلمات المسلمين).

إذنْ "تزويج الرضيعة هو من مسلَّمات المسلمين". وهنا لا يسعني إلا وأن أتقدم بالشكر الجزيل للكاتب على هذا التأكيد. ولكن اختلافي معه هو أنه لماذا يتهمني بـ" الاستهزاء بفقهاء المسلمين." يا أخي، أنا لم استهزئ بأحد، بل غاضب وناقد وأرفض الاعتداء الجنسي على الصغيرة وحتى في حالة الزواج، ولأن الزواج من الرضيعة هو اغتصاب بكل معنى الكلمة. أما لكونه عليه إجماع من جميع المذاهب الإسلامية، فهذا لا يعني أن هذه العملية صحيحة ومن المسلَّمات، بل يثبت أن الجميع شركاء في الجريمة. وهذه دعوة إلى الشاذين جنسياً من الرجال الذين يميلون إلى الجنس مع الأطفال ويسمونهم في الغرب بـ pedophiles يُمنعون من العمل في الأماكن التي يتواجد فيها الصغار، مثل المدارس ورياض الأطفال. فلو يعلم هؤلاء الشاذون في الغرب أن ممارسة الجنس مع الصغيرة مباحة في الإسلام ويمكن الزواج حتى مع الرضيعة لتحول أعداد كبيرة منهم إلى الإسلام وهاجروا إلى بلاد المسلمين لإشباع شبقهم الجنسي، وحبهم بممارسة الجنس مع الصغيرات هناك. وقصة المغني البريطاني (Gary Glitter) باتت معروفة في الغرب، حيث افتضح أمر شذوذه الجنسي مع الأطفال، وخسر مجده، فرحل إلى فيتنام حيث الفقر، على أمل أنه يمكن استغلال وضعهم الاقتصادي لإشباع نهمه الجنسي، ولكن هناك أيضاً افتضح أمره بممارسة الجنس مع القاصرات، فألقي القبض عليه وحوكم وهو يقضي الآن ما تبقى من محكوميته بالسجن.

وقد وجه الدكتور لبيب سلطان، وابن العراق، وآخرون، سؤالاً فيما إذا يقبل الشيخ أسامة النجفي وغيره من الفقهاء المسلمين بتزويج بناتهم دون التاسعة والتمتع بهن تفخيذاً من قبل الرجال، أم أنهم يبيحونها فقط لبنات الخايبة (الفقراء)؟ وكعادته، أجاب بإسهاب ولكن بغموض شديد تهرباً دون أن يوضح لنا ما أراد قوله.

ففي عالمنا المتحضر الراهن، للإنسان كرامة ومهما كان صغيراً، بمعنى ليس من حق الأب تزويج الصغيرة ويعاملها كبضاعة، أو نعجة يحق له بيعها متى شاء. الطفلة الرضيعة إنسانة لها كرامتها، وحقها بالحياة والعيش والرعاية والتربية والحماية من العدوان بشتى أنواعه إلى أن تصل سن الرشد وهي 18 سنة. وعندها هي التي تختار شريك حياتها، وما دور ولي الأمر في هذه الحالة غير مساعدتها وتقديم النصح لها بما ينفعها، وحمايتها، وليس بيعها وهي رضيعة، وممارسة الجنس معها متى ما اشتهى الرجل.

الإسلاميون يمارسون الإرهاب الفكري

يتظاهر الإسلامويون بأنهم مسالمون يدعون إلى الحق بالحوار الهادئ، وإقناع الخصم بالأدلة والمنطق، وطالما رددوا بعض النصوص مثل، "إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن." ولكن عملياً، ما أن يعجزوا في مواجهة الآخر بالمنطق، حتى تراهم يلجؤون إلى أخس أساليب الابتزاز وتوجيه اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك باتهام الخصم بالتجاوز على الله والرسول والمقدسات. وفي زماننا هذا نعرف عواقب هذا التحريض، حيث صارت حياة الإنسان عندهم أقل قيمة من الحشرة. وهذا التهديد واضح فيما كتبه الشيخ أسامة النجفي في القسم الأخير من رده قائلاً: "نعم يُشم من استهزاء عبد الخالق حسين للفتوى رائحة اعداء الاسلام في شتمهم لرسول الله (ص) بتجويز الزواج من الصغيرة، ورد هذا الاعتداء ليس تكليفنا فقط و إنما هو تكليف كل مسلم يدافع عن إسلامه ونبيّه أمام هذه الهجمة الكافرة غير المنطقية ..". فأي نقد إلى السيد الخميني صار شتماً لرسول الله، معاذ الله. أليس هذا تهديد وإرهاب فكري؟ أليس في هذا الاتهام تحريض على القتل؟ ونحن نعرف أن الإسلاميين عندهم مقولة: "الذي يجادلنا بالقلم نرد عليه بالرصاص". فهل يتفق هذا الكلام مع (وجادلهم بالتي هي أحسن؟). إن هذا التهديد وحده يكفي لتقديم الشيخ النجفي إلى القضاء بتهمة التحريض على القتل.

الدين والعقل وحق النقد

يبدو أن حوارنا مع الإسلاميين أشبه بالحوار بين الطرشان. فنحن كعلمانيين ولبراليين نستخدم العقل والعقلانية، والمنطق في التحقيق من صحة الأشياء، ونضع دائماً الشك واحتمال الخطأ نصب أعيننا، وعلى استعداد تام أن نغير مواقفنا وآرائنا من أية مسألة حالما تتوفر أدلة جديدة تثبت صحة الجديد فنأخذ به، ولا نرى عيباً في ذلك. أما الإسلاميون فلا يعترفون بالعقل، بل بالنقل، وتصديق كل ما قاله السلف في غابر الأزمان، والأخذ به دون تمحيص وإعمال العقل، وبذلك أعطوا عقولهم إجازة دائمة، أي بتعبير آخر، أن الموتى هم وحدهم يحكمون. وهذا هو أحد أهم أسباب تخلف العالم الإسلامي. وما جاء في رد الشيخ أسامة النجفي يؤكد موقف الإسلاميين من العقل. إذ يعتبر ما قاله السلف وأجمعوا عليه هو من "المسلَّمات" أي البديهيات التي لا يجوز لنا حتى مجرد مناقشتها، وإذا ما تجرأنا وناقشناها فنكون قد أسأنا إلى المقدسات، ويجب أن نعاقب عليها. نعم هناك قوانين في الإسلام تبيح زواج الصغيرة وحتى الرضيعة والاستمتاع بها مفاخذة، على حد تعبير فتوى آية الله خميني، ولكن حتى لو كان عليها إجماع من قبل فقهاء المسلمين، فهذا الإجماع في عصرنا الراهن لا يجعل من هذه القوانين "مسلَّمات" لا يحق لنا حتى مناقشتها ونقدها.

وإصرار الشيخ أسامة النجفي على الأخذ بما قاله السلف دون مناقشة، هو تأكيد لما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو: "الدين عقل مجتمع لا عقل له". ففي رأيي ورأيي الملايين من أمثالي أن التمتع مفاخذة مع الرضيعة ليس خطأً فحسب، بل وجريمة يندى لها الجبين، ويجب معاقبة من يمارسها، وحتى لو كان بذريعة الزواج، لأنه لا يجوز الزواج من الصغيرة، وفق القوانين المدنية في العصر الراهن، ناهيك عن الرضيعة. فكيف يمكن اعتبار التمتع بالصغيرة من "المسلمات" التي لا تقبل النقاش والمساءلة؟ ألا يدل هذا على عدم عقلانية هذا الرأي؟ أقول ذلك وأنا واثق من صعوبة تغيير موقف الشيخ أسامة من هذه المسألة، إذ يقول ألبرت آينشتاين: "إن فلق الذرة أهون من اقتلاع قناعة مسبقة لدى أحدهم".

فككتاب ليبراليين، من واجبنا النقد، نقد كل شيء دون استثناء بما فيها المقدسات. إذ كما قال كارل ماركس أن "النقد أساس التقدم، ونقد الدين أساس كل نقد". فالغرب لم يحقق هذا التطور المدهش والمذهل في الحضارة وجميع المجالات إلا بعد أن تبنى حق النقد وبالأخص نقد الدين، وحق الاعتراض، وتحرير الإنسان من هيمنة الكنيسة، وفصل الدين عن السياسة، وتبني النظام العلماني الديمقراطي، وسن قوانين حقوق الإنسان والحيوان وحتى البيئة وحمايتها من عبث العابثين.

الثابت والمتغيِّر

نعم، نحن نعرف أن الدين ثابت والسياسة متغيرة مع الوقت كما الحياة نفسها. فالمتدين يؤمن بدون مناقشة أو دليل، والعالِم يشك ويبحث عن الدليل. ولهذا السبب نرى أنه من الواجب فصل الدين الثابت عن السياسة والعلوم المتغيَّرة. ففي العلم والفلسفة والسياسة كل شيء يخضع تحت مجهر النقد والتمحيص والمراجعة وقابل للتغير. ولذلك إذا كان المسلم يقول (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، فمقابل ذلك يقول الفيلسوف البريطاني برتدراند راسل: (لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري، لأنها قد تكون خاطئة). فالدين مع اليقين من صحة موقفه إلى الأبد، بينما العلم يشك ويبحث ويغيّر المواقف من وقت لآخر، يعنى التجديد المستمر بدون توقف، وهذه هي سنة الحياة. ولهذا السبب لا يمكن للمجتمع أن يعيش بسلام ويتقدم إلا بفصل الدين الساكن عن السياسة المتغيّرة وإطلاق حرية العقل.

موقف الإسلاميين من الديمقراطية

هنا يجب التأكيد على حقيقة مفادها أن الإسلامويين لا يؤمنون بالديمقراطية وإن تظاهروا بقبولها. فالتجارب التاريخية الحديثة تؤكد صحة ما نقول. إذ قال قادة الإسلاميين الجزائريين إثناء الانتخابات البرلمانية عام 1992 عندما بدت لهم تباشير فوزهم، أن الديمقراطية "كفر وإلحاد"، وأنهم سيلغونها حين استيلائهم على السلطة، لأنها بضاعة غربية استعمارية مستوردة ضد الإسلام. كذلك نلاحظ ما عمل حسن الترابي زعيم الإسلاميين في السودان عندما تحالف مع الجنرال حسن البشير، وقاموا بانقلاب عسكري ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطياً. كذلك نشاهد ما عمله النظام الإسلامي في إيران. أما ما يعلنه قادة الأحزاب الإسلامية في العراق، سنة وشيعة، من تأييدهم للديمقراطية، فما هو إلا خدعة وبسبب وجود القوات الأمريكية وعلمهم الأكيد أن وجودهم في السلطة مرتبط بالحماية الأمريكية وتأييدهم للديمقراطية، شأنهم شأن الأحزاب الشمولية، مثل حزب البعث، ما أن يضمنوا السلطة حتى يتنكروا للديمقراطية. وأصدق إسلامي شيعي عبَّر عن رأييه بهذا الصدد هو الشيخ محمد الطباطبائي، إمام مسجد الكاظمين عندما قال في إحدى خطبه: «الغرب ينادي بالحرية والتحرر، الإسلام لا ينادي بذلك. الإسلام يرفض هذه الحرية. الحرية الحقيقية إطاعة الله». أما من هو ممثل الله على الأرض لطاعته فهو الحاكم بأمر الله، مثل الملا عمر أيام حكم طالبان في أفغانستان، والسيد علي خامنئي، مرشد النظام الإسلامي في إيران في الوقت الحاضر، وهكذا.

لذلك نحن نختلف عن الإسلاميين في الأمور الدنيوية، وندعو إلى تحرير الدولة من الدين وتحرير الدين من الدولة، وبدون فصل الدين عن الدولة هناك المزيد من الكوارث. إذ كما قال الرئيس الباكستاني الأسبق برفيز مشرف: "لقد دهورنا الإسلام إلى الحد الذي جعل شعوب العالم تعتبره مرابطاً للأمية والتخلف والتعصب».

ما العمل

1-أتمنى لو كان السيد الخميني (رحمه الله) لم يصدر فتوى المفاخذة وخاصة مع الرضيعة، لكان أفضل له وللدين والمذهب، وكفانا شر هذه الجدال،

2- من الأفضل للإسلاميين السياسيين في العراق، أن يتوقفوا عن محاربتهم لقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الذي اعتبر أرقى قانون في وقته ولحد الآن، وإذا كان هذا القانون يحتاج إلى تعديل، فليكن لتحسينه ولصالح المرأة وحماية الطفولة، وليس ضدهما، وأن يتجنبوا المطالبة بزواج القاصرات، لأن هذه المطالبة تجلب عليهم تهمة الشبق الجنسي بالأطفال (paedophilia)، وهي تهمة شنيعة تسيء لسمعة الدين والمذهب وسمعتهم أيضاً.

3- الزواج مسؤولية كبرى تتطلب النضج البدني والعقلي، وهو (أي الزواج) في رأيي، أهم من الولادة، لأننا نولد بدون إرادتنا، أو اختيار آبائنا، ولكن الزواج يجب أن يتم باختيارنا. فالزواج دون سن الرشد محكوم عليه بالفشل.

4- الإسلام، (وكافة الأديان الأخرى)، سيكون بخير في ظل حكم العلمانيين الديمقراطيين، ومهدد بالخراب إذا زج به في السياسة، لأن في هذه الحالة سيتحول إلى الإسلام السياسي، وهو حركة فاشية دينية لا تختلف عن الفاشية القومية والعنصرية، بل أسوأ منها لأن الإسلامويين يضفون القداسة على أيديولوجيتهم الدينية السياسية. إذ كما قال رجل الدين الشيعي آية الله السيد حسين الخميني، (حفيد المرحوم آية الله الخميني): "الدين يفسد السياسة والسياسة تفسد الدين".

وليكن شعارنا: العلمانية الديمقراطية هي الحل، و(الدين لله والوطن للجميع).

***

د.عبد الخالق حسين

................................

مقالات ذات علاقة بالموضوع:

1- عبد الخالق حسين: الإسلام بين التفخيخ والتفخيذ (1-2)

https://almothaqaf.org/opinions/977000-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%84%D9%82-%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%AE%D9%8A%D8%AE-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%AE%D9%8A%D8%B0-1-2

2- مهند حبيب السماوي: التفخيذ ونقد الدكتور عبد الخالق حسين

https://www.c-we.org/ar/show.art.asp?aid=90695

3- اسامة النجفي :حول الزواج من الصغيرة: رد على عبد الخالق حسين –

4- حسن أسد: اُسامة النجفي . أراد يكحلها عماها -

5- د. لبيب سلطان: التفخيخ والتفخيذ - النفاق واجتماع المذاهب عند اسامة النجفي

https://akhbaar.org/home/2007/02/25511.html

6- عزيز الحاج: الدعاة الإسلاميون وكرامة الأطفال..

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=89152

7- سعيد الفحام: المفاخذه: سلاح دمار شامل بحق الطفولة -

8- فائق الطالقاني: المسلمون هم من يسيئون الى الاسلام -

9- ابن العراق: الاخ اسامة النجفي المحترم

ملاحظة: للأسف الشديد معظم روابط مقالات المشاركين في النقاش، والتي أخذتها من موقع صوت العراق قديمة وغير فاعلة، لذلك تم حذفها لعدم جدواها، مكتفياً بإدراج عناوين المقالات وأسماء كتّابها كمصادر في الهامش.

 

في لقاءٍ متلفز، أجراه الإعلامي علي صادق مع الشاعر الدكتور حسين القاصد.. سأله المقدِّم عن أمور تخصُّ الشعر، سواء ما تعلَّق منها بالشعر الغنائي الذي غنّاه المطرب العراقي المشهور كاظم الساهر، من حيث الوزن الذي ينضبط في بعض ما جاء فيه، أو ما ذكره عن قصيدةٍ للجواهري تخص ذكرى عاشوراء، والرجل طرح رأيه - ولم يُلزم أحدًا به – بما يمثّل قناعته وفهمه للنص مستعينًا بسياقاته الظرفية، ومن المتوقّع جدًّا في عالمٍ تسودُهُ التفاهة، أنْ يكون الرأيُ المُخالفُ للوسط الجماهيري العام مُثيرًا مُستفِزًّا لهم، لا سيّما حين يتعلَّقُ الحديثُ بشخصيَّات لها ثقلُها في ذلك الوسط، مثل كاظم الساهر المطرب المشهور منذ أربعين عام، أو الراحل الجواهري الشاعر العراقي المشهور من بين شعراء عصره، وهما اسمان لا غبار عليهما؛ بما لهما من منجز كفيل بذلك التقدير الجماهيري، ولكن لا يعني ذلك أنْ تخلو الساحةُ ممَّن يرى فيهما أو في منجزهما ما يُشكِّلُ مثلبةً أو ملاحظة تخصُّ الموضوع أو الفن أو الموقف، فهي أمورٌ ترِدُ على كل صاحب منجز مهما كان رفيع المكانة في الفنِّ الذي برعَ فيه، فضلاً عن كون ذلك الجمهور المُستفزّ، لو فتَّشناه وسألناه عن قصائد كثيرة للجواهري، أو معاني وردت في شعره، أو فيما يخصُّ المطرب كاظم الساهر، لما وجدته مثلاً محيطًا ببعض التفاصيل التي تخصُّ أغاني مطربه المفضَّل، من حيث الكلمات أو اللحن أو الأداء، ولكن تجِد المفارقة في اندفاع ذلك الجمهور لتسقيط كلِّ من يقفُ منتقدًا بعض تلك الجزئيّات، أو لا يتّفق معها، أو من يُقدِّم قراءته الخاصّة في بعض ما ورد لذلك المشهور من منجز، وبهذا يتشكَّل الرأي العام عند هؤلاء بضرورة كبح من يُخالفهم الرأي، باختلاق أكاذيب على ذلك المُختلف من شأنهِا تقزيم مكانته اجتماعيًّا وعلميًّا، أو تضليل الرأي العام بأنَّ ذلك المُختلف يعاني عُقدًا نفسيّة، أو إظهاره بصورة (الحاسد) أو (الناقم) من شهرة ذلك المشهور، ومثل هذه الآليَّات النفسية عند الجماهير، تعمل على مصِّ الصدمة النفسيَّة لهم، والثأر لكرامتهم المجروحة بانتقاص من يرونه مثالاً للكمال، فيما لو راجعتَ ذلك المثال في لقاءاته ومنجزه، وأصغيتَ إلى اعترافاته، لوجدته لا يقدِّس مسيرته أو منجزه مثل تقديسه عند متابعيه، بل يعترف ببعض هناتٍ وقع فيها في مسيرته، أو تجده يندم على ما كان يصدر عنه من أداء، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ له دلالته بضرورة تطوُّر صاحب كل فن، وطموحه لما هو أفضل..

بالنسبة لي، فأنا أعلنها أنني قد لا أتفق مع استنتاج القاصد بخصوص أغنية كاظم الساهر (لا تحتج) بحسب ما قرأه في مضامين هذه الأغنية، بما لا علاقة لها بالوجدانيات التي تعارف الغناء العربيُّ عليها، واستجداء رضا المخاطبة منها، وكلُّ مختص بالأدب، اطّلع على تطور الشعر العربي الغنائي، يجده أنه مرّ بتحولات من حيث اللغة والفكرة، ويمكن لي أن أضع هذه الأغنية، ضمن التحولات التي مرّت بها القصيدة الغنائية، وتبقى للآخر حرية الرأي في قراءة أخرى ضمن اعتبارات ينطلق منها، فيراها مثلاً تعبر عن وجهة نظر "ناعمة" طرحتها السلطة مع وسائلها "الخشنة" لتأديب وإرهاب من تريد تأديبه وإرهابه.. وليس غريبًا أن تأخذ بعض القصائد الغنائية مدلولات أبعد ما تكون عن ظاهرها في سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية يمر بها بلد من البلدان، وهل نسي العراقيون اغنية "ليل البنفسج" للشاعر الراحل مظفر النواب التي غنّاها الراحل ياس خضر، في ظرف سياسي مر به العراق، وقيل عنها ما قيل، حتى مُنِعت من التداول، وصار الاستماع إليها آنذاك تهمة من التُهم...؟! ويمكن لنا أن نورد احتمالا - لا أكثر - أن السلطة البعثية أدركت بعد هذه الاغنية ما يمكن تمريره من رسائل مضمرة يمكن للأغاني أن تحملها إلى الشعب بما يعبّئ الناس، مثلما أدركت - بفضل بعض الوشاة - ما لبعض النصوص الأدبية من قصص أو روايات ما يُشمّ من ورائها من انتقاد للسلطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولعل ما جرى للقاص الراحل عبد الستار ناصر حين أصدر مجموعته القصصية (سيدنا الخليفة) من منع لتداولها آنذاك، وزجٍّ لصاحبها في سجون المخابرات، وهو بعد ذلك كله يسأل: لماذا منعوها..؟ ولعل أمثلةً أخرى تغيب عن الذاكرة حين نستعرض "ملف الممنوعات" في زمن النظام السابق، أقول: ألا يمكن لنا أن نحتمل، أن السلطة - وهي قادرة على هذه الأشياء - أن تطوّعَ الأقلام، وتُنتج الأفلام، وتمسخ الحقائق، وتلوي أعناق النصوص، مثلما كانت تلوي أعناق الأبرياء من الناس من دون يرفّ لها جفن، فتكون أغنية لمطرب له شعبيته بين الناس، تحمل من المضامين ما تمثل إرادة السلطة وتوجّهاتها بصورة غير مباشرة.. وإلى الآن أقول بخصوص قراءة مضامين هذه الأغنية تمثّلُ رأيًا على أي حال، في قبال الرأي العام الذي ينفي عنها مثل هذا "التشفير" الدلالي، ويجعلها في ضمن تطور القصيدة الغنائية آنذاك، من حيث اللغة والأسلوب..

أما بخصوص رأي القاصد، بخصوص ما ذكره عن قصيدة الجواهري الرائيّة (عاشوراء) فهو - القاصد - لم يكتف بما توصل إليه لوحده، بل اتّكأ في قراءته تلك، على ما ذكره أقرب الناس فهمًا لمرامي الجواهري، وهو راويته المُحقِّق الدكتور الراحل محمد حسين الأعرجي، في كتابه (الجواهري - دراسة ووثائق) وهو من أميز الكتب وأنفعها عن الجواهري في سيرته ومنجزه الشعري، وقد أفادني كثيرا في دراستي الجامعية عن الجواهري التي طُبعت فيما بعد بعنوان (الجواهري ناقدا) عام 2012 إذ ذكر في معرض حديثه عن ظروف القصيدة، (أن الشاعر أراد أن يتعرض لياسين وحكومته ولكن تعرُّضَ الآمِلِ منهُ بمنصب، لا تعرُّضَ اليائس. وجليّةُ الأمر أنْ ضيَّقَ ياسين الهاشمي - ولم يكن قد مر على استيزاره عشرون يوماً- على طقوس الشيعة التي تقام إحياءً لاستشهاد الإمام الحسين، تضييقاً أرجعه الشيعة إلى حقدٍ طائفيٍّ دفين؛ إذ كان قد منعها أو كاد. ومن هنا كان سقوط وزارة الهاشمي موضع شماتة وفرح في مدينة النجف. وإذا أن يرثي الجواهري - لأول مرة في حياته - الإمام الحسين في قصيدة أمرٌ له معنيان هما:

الأمر الذي ذكرته، وقد أشار إليه الشاعر من طرفٍ خفيٍّ بتقريره أن يزيد بن معاوية نفسه قد تأثر بمقتل الحسين، وأنه لولا بعد المسافة بين الشام وكربلاء لكان رسم ليوم الطف نهاية أخرى:

على أنَّهُ بالرغم من سقطاته

وقد جاءه نعيُ الحسين تأثَّرا

*

فما كان إلا مثلَ قاطعِ كفِّهِ

بأخرى، ولما تاب رشدٌ تحسرا

*

وأحسبُ لولا أن بعد مسافةٍ

زَوَتْ عنهُ ما لاقى الحسين وما جرى

*

ولولا ذحولٌ قُدِّمتْ في معاشرٍ

تقاضَوا بها في الطف دَيناً تأخرا

*

لزحزحَ يوم الطفِّ عن مستقره

وغيّر من تاريخه فتطورا "

ومعنى قوله أنه إذا كان موقف يزيد نفسه كذلك فما معنى أن يكون الهاشمي في موقفه من إحياء ذكرى الإمام الحسين، والتفجع عليه أكثر تشدداً من يزيد. وقلت: إن الجواهري أراد أن يتعرض بهذه القصيدة - فيما أراد - أن يتعرض لياسين تعرّض الآمل منه بمنصب، لا تعرض الآيس، ويمكنني أن أُدلِّلَ على قولي ذلك بثلاثة الأبيات الأخير من قصيدته إذ أنه بدا فيها وكأنه يريد أن يمسك العصا من وسطها في لومه الشيعة على ما بالغوا فيه من أمر تأريخ الحسين ومن أمر تحريفة)1.

وقضية اللوم التي صوّرها الجواهري في قصيدته عن يزيد، لم تكن من بنات أفكاره - إذا أردنا الموضوعية - فهي مطروحة في كثير من كتب التاريخ المعتبرة عند المسلمين السُنّة، وأنه تألّمَ على مقتله وألقى شناعة هذا الفعل على ابن زياد، فضلا عن بعض كتب الشيعة، ومنها ما ورد في كتاب (الخصائص الحسينية) لأحد كبار الشخصيات  العُلمائية، وهو آية الله الشيخ جعفر التستري/ الشوشتري (ت: 1303هـ)، إذ كان مرجعا من مراجع عصره، وكان يُلقّب بفقيه الخطباء، وخطيب الفقهاء، لشهرته، وأن كتابه المذكور آنفًا لا يستغني عنه الجمُّ الغفير من خطباء المنبر إلى يومنا هذا، وفيه أورَدَ – في باب من أقام مجلس العزاء على الإمام الحسين بعد استشهاده - ما نقله المؤرخون أن يزيد أقام مجلسا للنياحة على الإمام الحسين، وأنه أمر زوجته بالبكاء والعويل عليه، وتارةً يجعل الشوشتري يزيدا ينال شرف رثائه – من بين من رثوا الإمام الحسين – والبكاء عليه، وتارةً يجعله في مقام المستمع لمجلس العزاء، ونساءه من الصارخات واللاطمات على الخدود بموافقةٍ من يزيد2. فإذا أردنا إدانة الجواهري في ضوء ما فهمناه من فحوى أبيات هذه القصيدة، لنا أيضًا في الوقت نفسه، أنْ نُدين ما ورد في كتاب (الخصائص الحسينية) بما فيه من مضامين تتفق وما ذكره الجواهري.

بمعنى أنه لا يحق لنا أن نحاكم وعي الجواهري بوعي عصرنا وما توصل إليه العلماء في كثير من مجالات العلم والمعرفة والثقافة، فهو - الجواهري - مهما كان طليعيًّا تقدّميًّا، ولكنه يبقى رهين ظرفه التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي، ويبقى شاعرًا على أي حال، تتجاذبه الرغبات والأهواء من هنا وهناك، ومع ذلك يُحسب له خروجُهُ الواعي على ما كان راتبا في عصره من ظروف وأوضاع وتقاليد تململ منها ودعا إلى نبذها، وسخر منها في بعض قصائده ومقالاته، في حين لم ينبس كبار رجالات عصره – في مختلف المجالات -نقدًا لها أو دعوةً لنبذها.

ومن يقرأ شعر الجواهري بإنصاف في مقتبل عمره الشعري، ويقارنه بما بعده من عقود الخمسينات والستينات - وهي ذروة الوعي التقدمي الذي وصله الجواهري - يجده مُتحرِّرًا عما كان عليه في سابق عهده، وهذا حال كل مفكر واعٍ لا يأنف - أو تأخذه العزة بالنفس - أن يراجع بعض ما كان يعتنقه من أفكار أو نظريات أو منطلقات آمن بها في السابق، ورآها اليوم غير صحيحة، فلم يقفل عليها عقله، بل يُصرّح بنقده لها، ولعل الجواهري كان من أكثر الشعراء جلدًا لذاته، في قصائد كثيرة، فإذا أردنا الإنصاف علينا أن نحاكم كل من كان في عصر الجواهري، وكل من سبقه بما كان سائدا من أوضاع وتقاليد تمثل ذلك المجتمع، لا أن نُفرد الجواهري ونضعه المقصِّر الوحيد في قفص الاتهام.. ويكفي الجواهري اعترافاته الشعرية التي أراها شجاعاً قلّ نظيرها بين الشعراء، فضلا عمّن سواهم، فمن هو يا ترى الشاعر الذي قال عن نفسه في قصيدته (معرض العواطف)

أبرزتُ قلبي للرماة معرَّضا

وجلوتُ شعري للعواطف مَعرِضا

*

ووجدتُني في صفحةٍ وعقيبها

متناقضاً في السُخْط مني والرضا

*

ومدَحْتُ من لا يستحقُّ، وراقَ لي

تَكفيرتي بهجائِه عما مَضى

*

نافقتُ إذ كان النفاقُ ضريبةً

متحرِّقاً من صَنعتى مترمِّضا

*

ولكم قَلِقتُ مسهَّداً لمواقفٍ

حَكَمت عليَّ بأن أداري مُبغِضا

غير الجواهري الذي عبّرَ بكل أريحية عن تناقضاته، وعن تقلّباته، والقارئ لا يريد من الشاعر غير شعره بما فيه من إمتاع أو غيرها من المضامين التي تتعلق بالجوانب العامة التي تمس المجتمع، وتطالب بحقوقه والدفاع عنها. أما الصدق فلا يُراد - بحسب قول الجرجاني في وساطته لمن رمى المتنبي بالكذب- إلا من الأنبياء.

ولعل ما كان يُسقطه الجواهري على مادحيه، يمثِّل لنا وعيه المرتهن لثقافته التي هي جزءٌ من ثقافة عصره، فحين يشبِّه مادحًا "مزاحم الباچچي" - وهو سياسي عراقي تقلّدَ عدة مناصب في داخل العراق وخارجه - بالزعيم الإيطالي "موسوليني" في بيت ورد ضمن قصيدة يخاطب بها الباچچي:

فيكَ - لولا أمـةٌ جاهـلةٌ-

شبهٌ يُدنيكَ من (موسولني)

من دون أن يعترض هذا الممدوح على هذا التشبيه، يكشف لنا بوضوح ثقافة أبناء ذلك العصر ومدى وعيهم، في حين لو جاء شاعرٌ في عصرنا هذا وأراد مدح قائد من القادة أو الزعماء بتشبيهه بالزعيم (موسوليني) لعَدّ ذلك التشبيه إهانةً له ما بعدها إهانة؛ لما اقترن به اسمُ هذا الزعيم بالجبروت والطغيان والاستبداد الفاشي...!!

وهكذا الحال لو قلّبنا الكتب والدواوين والمجلّات في كل عصر، لما استغربنا أن نجد آراء ومواقف لرجالٍ من شعراء أو مثقفين أو فقهاء ورجال دين، أو مفكرين في مجالات علمية، تُخالف ما نراه اليوم من حقائق - نعدُّها في نظرنا حقائق ولكنها قد تكون نسبيةً لم ينظر السابقون لها مثلما نظرنا لها الآن - أو مواقف، فهل يتطلَّبُ منا التشهير بأصحابها...؟ ونشطب على كل ما صدر لهم منجز؛ لكونهم لم يروقوا لنا في ذلك التوجُّه، أو لم يوافقوا ميولنا في هذه الجزئية أو تلك، أو الأَولى بنا أنْ نُحسن بهم الظن - على أقل تقدير - وننظر لهم نظرةَ تجلّةٍ لمنجزهم بصورة عامة، إن كان فيه نفعٌ للصالح العام، أو أسهم بصورةٍ أو بأخرى في ارتفاع منسوب الوعي الثقافي والعلمي بصورةٍ أفضل مما كان عليه في السابق، ونُشخِّص وفقًا لذلك ما نراه جيِّدًا يعبِّر عن أصالة منجزهم، وما نراه سوى ذلك لا نعبأ به، من دون أنْ يكون ذلك سببًا لتجريمهم أو بخس منجزهم بقضِّه وقضيضه..

وليس من المروءة والإنصاف، أنْ نُشيح النظر عن أسماء شخصيات لها مقامٌ محترم/ مقدّس في كياننا الفرديّ أو الجمعي، ولا نضع أقوالهم أو مواقفهم تحت طاولة التشريح أو المعاينة النقديّة مثلهم مثلُ سواهم؛ لأن الحديث عن هؤلاء سينعكس سلبًا في القدح بصورة الكيان المذهبي أو الثقافي أو القومي الذي نعتزُّ بالانتماء إليه، ونكتفي بنبش قبور من ليس لهم كيانٌ يُدافع عنهم، ونتسابق بعرض ما يُحسب عليهم من هفوات وإخفاقات نظنُّها شجاعةً وفروسيّةً، وهي ليست من الشجاعة والفروسيّة في شيء...!

لا أعرف كيف انساق الكلام إلى شجونٍ نعيشُها يوميًّا، ونقاسي سياط الأحكام الجاهزة، والآراء المُطلقة في تقييم الكبارِ في منجزاتهم، ولم يكن الصديق "القاصد" مقصودًا بكل ما ورد آنفًا، إذ كان رأيهُ منحصرًا في موارد تحدَّثنا عنها سابقًا، ولكنْ يُحسَبُ له أنَّه فتحَ قريحتي للحديث عمَّن ينطبق عليهم الكلامُ أعلاه، لمن يريدون – في متخيّلهم الموهوم - من الشاعر أن يكون بريئًا من كلِّ زلّةٍ أو عَور..! والشاعرُ مهما كان عظيمًا في حقيقته ليس إلا إنسانًا تجتمع فيه الحسنات إلى ما سواها، وهذا ما عبَّرَ الجواهريُّ عنه خير تعبير في تأبينه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر:

لا يعصم المجدُ الرجالَ وإنّما

كان العظيمُ، المجدَ والأخطاءَ

***

د. وسام حسين العبيدي

..............................

1- الجواهري – دراسة ووثائق: 104 - 106.

2- ينظر: الخصائص الحسينية، المطبعة الحيدرية، ط1، انتشارات الشريف الرضي، إيران: 175 – 176 .

ربما يتذكر بعض أصدقاء الصفحة أنني كررتُ في أكثر من مناسبة أن عداء بعض دعاة الإلحاد في عصرنا للإسلام على جهة التخصيص يختلف تماما عن الإلحاد الفلسفي العقلاني الذي يتعامل مع جميع الأديان من منطلق فلسفي واحد. ولكنَّ إلحاد الملحدين المعاصرين وخاصة من العرب كما يظهر هو "إلحاد مراهق- بعبارة فردريك إنگلز" وهو إلحاد استشراقي يعادي الإسلام على جهة الحصر بحجة معاداة "التطرف التكفيري"، ويرتعب من مجرد التفكير بنقد الدين المسيحي أو اليهودي. بل وهو حتى إنْ زعم معاداة الدين بشكل عام أو ادعى نقد جميع الأديان فما تلك إلا ستارة أو تمهيد لمهاجمة الدين الإسلامي فحسب.

ورغم أنني لستُ من حملة الأيديولوجية الإسلامية، سواء كانت سلفية متشددة أو معتدلة سنية أو شيعية، بل ناقد جذري لها، ولكنني اعتبر نفسي مسلماً أدافع عن هويتي التي يشكل الإسلام جزءا منها وأفخر بالإسلام الحضارة البائدة وبجوانبها المضيئة تحديدا، أو بما يسميه العلوي "الإسلام الميت"، وتحديدا بإنجازاته الحضارية المُلهِمة الرائعة، ولا شأن لي بالإسلام الحي "إسلام الطقوس والعبادات" فهذا شأن يخص المتدينين ولستُ منهم.

واليوم، ومن منطلق التلاقي المضموني مع باحث غربي منصف، أنشر هنا مقتبساً من دراسة لباحث أسترالي هو وليم إميرسون. الدراسة بعنوان "الإلحاد الجديد والإسلام"، انطوت على مضمون شديد القرب من مضمون كلامي هذا.

وأشير من باب التوثيق إلى أن الباحث د. محمد الشنقيطي كان قد أشار إلى هذه الدراسة لإميرسون واقتبس فقرة منها. ولكنني حبذتُ أن أعود إلى الدراسة الأصلية نفسها وترجمت منها بعض الفقرات بترجمتي غير الاحترافية. كتب إميرسون: "إنَّ "الجديد" في كتابات الملحدين الجدد ليس عدوانيتهم، ولا جماهيريتهم غير العادية، ولا حتى نهجهم العلمي في التعامل مع الدين، بل هو هجومهم ليس فقط على الإسلاموية السياسية المتشددة، ولكن أيضاً على الإسلام "الدين" نفسه تحت ستار نقدهم العام للدين. لقد ساهمت الحركة الإلحادية الجديدة في تقوية العداء ضد الإسلام وربما تكون قد ألهبت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين.

* بخصوص الملحدين الجدد، فإنَّ إدانتهم العامة للدين لا تستهدف التطرف الإسلامي فحسب، بل وأيضاً الإسلام، لأنهم في الأساس لا يعترفون بأي تمييز ذي معنى بين الإسلام المعتدل والمتطرف. وفي رأيي، فإن هجومهم على الإسلام هو الذي يضع "الجديد" في الإلحاد الجديد أكثر من أي شيء آخر.

* إن الإسلام في الكتابات الإلحادية الجديدة يُصَوَّر باستمرار على أنه غير عقلاني وغير أخلاقي وعنيف في أنقى صور العنف. وأكثر هؤلاء وحشية في التعامل مع الإسلام هو عالم الأعصاب الأميركي سام هاريس. إن هاريس يرى أن صعود الأصولية الإسلامية لا يشكل مشكلة ولكنَّ أساسيات الإسلام هي التي تشكل مشكلة. إن هاريس لا يرى في شخصية الإسلامي الانتحاري انحرافاً أو تحريفاً للإسلام، بل يرى فيه النتيجة المنطقية للعقيدة الإسلامية، فهو يقول: "إن الإسلام، أكثر من أي دين آخر ابتدعه البشر، يحمل في طياته كل مقومات عبادة الموت الشاملة". ويرى هاريس أن الإسلام يشكل تناقضاً فادحاً في العالم الحديث.

والواقع أن هاريس صريح تماماً في هذا التمييز: فهو يؤكد أن الاختلافات بين الأديان مهمة بقدر ما هي واضحة لا لبس فيها. ولهذا السبب، كما يقول، "يتعين علينا الآن أن نواجه المسلمين، وليس الإرهابيين الدينيين فقط، في كل ركن من أركان العالم".

تعليقي: هنا تجري عملية فاشية لتوحيد المواصفات بين إرهابيين تكفيريين قتلة بالمئات أو الآلاف مع ملايين المسلمين البسطاء والذين هم ضحايا هؤلاء التكفيريين. وهذا النهج في توحيد المواصفات يسير عليه الملحدون والعلمانيون القشريون العرب والمسلمون. ع.ل

ويختم إميرسون ملاحظاته بالقول: "من الواضح أن ستراتيجية الملحدين الجدد – رغم التحفظات المثارة على هذا المصطلح - في مهاجمة جميع الأديان، أو التعبيرات الدينية، كغطاء لانتقاد ليس، فقط الإسلام المتشدد على جهة التحديد، بل الإسلام نفسه، وقد ساهمت -هذه الستراتيجية- في إثارة المشاعر المعادية للإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم الغربي. إن عداء الملحدين الجدد للإسلام يقترب من الاستعلاء الثقافي والعنصري وهو يتجاهل حقيقة مفادها أن الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم (بما في ذلك في الغرب) يعيشون حياة سلمية ورحيمة. ورغم أن الملحدين الجدد قد لا يستهدفون المسلمين صراحة، فإنَّ عداءهم للإسلام أدى إلى تصلب عام في أفكارهم.

***

علاء اللامي

.......................

* رابط لتحميل الدراسة باللغة الإنكليزية في أول تعليق.

The New Atheism and Islam

https://researchoutput.csu.edu.au/ws/portalfiles/portal/20242060/8854131_Published_article_OA.pdf

 

(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).. سورة الملك: 10

 هل يتجه العالم الى الهاوية والفناء كنتيجة لسباق التسلح ووجود مجانين يعلنون الحرب واخرون يتاجرون بها ومصانع تربح؟

 منذ نهاية الحرب العالمية الأولى تغير الخارطة الجيو- سياسية لدول العالم وظهور دول وطنية جديدة وقوى إقليمية وعالمية جديدة وسباق جديد وحرب باردة. هذا المادة لا تطرح فكرا سوداويا بل واقعيا كنتيجة حتمية للتطور الهائل في عالم صنع وإنتاج أسلحة الدمار الشامل وسذاجة العقل البشري خاصة بين هؤلاء من قادة دول العالم المستهترين بحياة شعوبهم حيث يعلنون الحرب دون دراسة العواقب والنتائج وبمبررات اقل ما تكون سخيفة وغير عقلانية. هذا بالإضافة الى القوى المتطرفة والتي أصبحت تستحوذ على أموال طائلة ستمكنها من شراء تلك الأسلحة في القريب وان كان هذا القريب بعد ٥٠٠ عاما وباستخدامها ستنهي جميع مظاهر الحياة، البيئية، البشرية، الحيوانية، البحرية، النباتية، الفضائية وووو كوكبنا الأرضي.

ان قدرات تلك القوى المتطرفة، السلبية وسقف تفكيرهم الواطئ الذي بات فكريا في أدراج التاريخ، لا، ولم يحمل اي معنى عقلاني التفكير ، حكيم سوى كون تلك الأفكار جزء من التراث الإنساني وخرافات وأساطير تعود الى دهور خلت لن تقاوم وتندثر حتما امام اي تغير واكتشاف علمي يدحض تفكيرهم ويقوض مكانتهم في أبراجهم العالية.

إن مجموع ما يصرفه دول العالم لشراء السلاح من ميزانيتها الدفاعية الوطنية وما يكلف إنتاج تلك الأسلحة في المصانع بإمكانها وبصورة كافية كي تمحو الفقر وتقضي على الأمية والتخلف بين جميع شعوب الدنيا. ناهيك عن إمكانية ربط دول العالم بشبكات من الاتصالات والمواصلات رخيصة وتقديم الخدمات المجانية من متطلبات المعيشة والسكن والخدمات الطبية والتعليمية لكافة سكان الأرض، وإنشاء مختبرات للكشف المزيد من الاكتشافات العلمية والطبية لخدمة بني البشر. فتمعن قارئي الكريم كيف سيكون الحياة في كوكب العدل والمساواة لجميع بني البشر.

لا ريب ان الرفاه الاقتصادي والاجتماعي ونشر التعليم له تاثير مباشر واخر غير مباشر على مجمل نواحي الحياة لسكان الارض . والقضاء على الفقر سينعش الدورة الاقتصادية لاقتصاديات الوطنية لجميع دول العالم وينشر السلام والوئام على المعمورة. حين تلغى الحدود وتصبح حركة البضائع والاموال والبشر وامور اخرى كثيرة وحرية دون اي قيود.

اما مصانع تلك الأسلحة والمعدات والصواريخ وكل ملحقات الصناعة والتصنيع العسكري فتتحول الى الانتاج السلمي لبناء البنى التحتية لدول العالم اجمع. كل ذلك التقدم سيؤدي الى اختفاء الفوارق بين الشمال والجنوب ويبات الفقر مصطلحا تراثيا تاريخيا وجفت منابعها كما حصلت مع الإمراض المستعصية والأوبئة تلكم التي كانت تعصف بالبشرية وتبيد وتفني شعوبها كالطاعون والكوليرا والملاريا والجدري و كورونا.

لا ريب ان مستويات الجريمة ستنخفض الى درجات سيكون فيها السجون والمصاريف المترتبة عليها من محاكم ورجال قانون وشرطة وحماية ستزول او تبقى منحصرة في معالجة جرائم مستحدثة تخص ذلك العصر اكثر اهمية وخطورة على البشرية. قد يعتبر البعض ان هذا العالم الذي وصفته من باب الخيال العلمي او كما صوره أفلاطون في مدينته الفاضلة ومن الامور الغيبية ومحال التحقيق او الوصول اليها. لكني اجزم لكم قارئي الكريم ، بان هناك حتمية تاريخية في زوال البشرية اذا بقى سباق التسلح واكتشاف أسلحة جديدة تدميري و نووي وجرثومي وسايبرنتيكي يؤهل اي مجنون من استخدامها.

لا يوجد اي مستقبل للبشرية الا اذا ساد السلام النفوس وتغيرت السلوكيات الشريرة عند بعض البشر و سار الجميع على هدي العقل. اما باستخدام العنف والقتل والإبادة للبشرية سنزول من الوجود ويبقى سطح الكوكب الارضي ماؤى للصراصير والنمل.

***

  د. توفيق رفيق التونچي - الأندلس

2024

 

ملاحظة توضيحية

نشرتُ هذا المقال على مواقع الإنترنت قبل 17 عاماً، وتحديداً يوم 17 /2/2007م. وأثار في وقته جدالاً عنيفاً مما جعلني أن أرد عليهم في حلقة خاصة (الحلقة الثانية) والذي سأعيد نشره فيما بعد. ونظراً لما يدور في هذه الأيام من سجال عنيف بسبب مطالبة عدد من البرلمانيين العراقيين من الأحزاب الدينية الشيعية في إلغاء، أو تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188لعام 1959م، في عهد حكم الزعيم عبدالكريم قاسم، وذلك لحقد هؤلاء النواب الشديد عليه بسبب نزاهته، وإخلاصه الوطني، وشعبيته الواسعة، وخاصة بين الطبقات الفقيرة لدعمه لهم، لذلك يحاولون طمس ذكره بالتخلص من أي منجز وطني تقدمي تحقق في عهده، وخاصة القانون المشار إليه أعلاه. لذلك رأيت من المفيد إعادة نشر هذا المقال، وهو على حلقتين. أدناه نص الحلقة الأولى، وتليه الحلقة الثانية فيما بعد.

***

قال النبي محمد (ص): "بدأ الإسلام غريباً وينتهي غريباً". كما وقال الإمام الشيعي الخامس، محمد الباقر(ع): "أخاف على أمتي من أئمة ضالين". أعتقد إن الإسلام يقترب الآن من هذه المرحلة، أي مرحلة الاغتراب والخطر. ولكن يا للمفارقة، فإن الإسلامويين يسمون هذه المرحلة بـ(الصحوة الإسلامية). وفي رأيي، إذا كانت هذه صحوة، فهي الصحوة التي تسبق الموت، وذلك بجهود الإسلامويين أنفسهم. فألد أعداء الإسلام اليوم ليس العلمانيون و الليبراليون وغير المسلمين كما يدعي الإسلاميون، بل هم دعاة الإسلام السياسي أنفسهم الذين يعملون على هدم الإسلام كدين، وتحويله إلى آيديولوجية لا إنسانية، في مواجهة دموية غير متكافئة مع العالم المتحضر، تغذي الإرهاب، و لا تختلف كثيراً عن آيديولوجية الفاشية والنازية إن لم تبزهما. فإذا كانت حركات الفاشية والعنصرية تميِّز بين البشر على أساس عنصري، فالإسلام السياسي أخطر من الحركات الفاشية العنصرية لأنه يميّز بين البشر على أساس ديني مع إضفاء القداسة على هذا التمييز، ويبشر أتباعه بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله. وهنا يكمن خطر الفاشية الدينية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول مهدي عاكف، مرشد حزب الأخوان المسلمين في مصر، إنه "يفضل ماليزي مسلم رئيساً لمصر على القبطي المسيحي المصري." كما وطالب زعيم الإخوان المسلمين السابق مصطفي مشهور بأنه: "يجب إخراج الأقباط من الجيش المصري، وأن يدفعوا لنا الجزية وهم صاغرون"، علماً بأن الأقباط هم سكان مصر الأصليون وبناة حضارتها العريقة. والأدهى والأنكى من ذلك أن التمييز في الإسلام السياسي لا يتوقف ضد الأديان الأخرى فحسب، بل ويتعداها إلى التمييز بين المذاهب من داخل الإسلام نفسه وبذات القوة. ولتحقيق هذه السياسة الفاشية يعمل الإسلام السياسي على تحويل أتباعه إلى مفخخات ، وعبوات بشرية ناسفة لقتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء بسبب التمييز الديني والمذهبي، لخلق سايكولوجية الرعب. وقد نجحوا في ربط اسم الإسلام بالرعب والإرهاب، وهم يعتمدون في إرهابهم على النصوص الدينية مثل قوله تعالى: "واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم."(الانفال60).

لا شك أن هذه المحنة التي يمر بها الإسلام هي من صنع رجال الدين المسلمين المسيَّسين أنفسهم عندما زجوا بدينهم في السياسة ودفعوا الشباب المحروم من الثقافة ومتع الحياة إلى أعمال انتحارية ضد الأبرياء. فكما هو معروف، هناك إرهاب إسلامي يفتك بالعالم مستخدماً تكنولوجية التدمير من المتفجرات الناسفة وتفخيخ السيارات والبشر وحتى الحيوانات بالعبوات الناسفة لقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء باسم الله والإسلام. ويتلقى هذا العمل الإجرامي، المباركة من رجال الدين من أمثال القرضاوي وعشرات غيره الذين يصدرون فتاوى التحريض بدعوى الجهاد ضد الكفار، كأقصر طريق لدخول الجنة والتمتع بحور العين والولدان المخلدين.

والسؤال هو، كيف نجح دعاة الإسلام السياسي في تحويل أتباعهم إلى مفخخات، يكرهون الحياة ويعشقون الموت؟ يجيب الدكتور رياض عبد، الأخصائي في الأمراض العقلية، في بحثه القيم (سايكولوجية الإرهاب) على هذا السؤال قائلاً: "هناك بدايات لبعض النظريات التي طرحها بعض علماء النفس الغربيين والتي تحاول تفسير عملية التغيير السايكولوجي التي يمر بها الفرد لكي يصبح إرهابياَ. وتبدأ عملية التغيير هذه بإختزال هوية الآخر إلى هوية أحادية مسطحة (خائن، عميل، كافر...الخ) تليها اختزال هوية الذات الى هوية أحادية بسيطة (مجاهد، مقاتل، شهيد...الخ) وبعد ذلك يتم انتزاع صفة الآدمية عن العدو ليصبح بعدها العدو في نظر الشخص كائناَ لا قيمة له، لا يستحق الشفقة ولا يستحق الحياة. والمرحلة الأخيرة هي إضفاء صفة الشر المطلق على الضحية أو الضحايا (demonization) وإنكار أية صفات خيرة أو حميدة لها." وهذا ما يجري فعلاً في العراق ومناطق أخرى من العالم على أيدي المجاهدين الإسلاميين. هذا فيما يخص التفخيخ.

أما التفخيذ، فقد سمعت به لأول مرة عندما قرأت كتاب (تحرير الوسيلة) للمرحوم آية الله العظمى الإمام روح الله الخميني، زعيم الثورة الإسلامية في إيران في حق الرجل بممارسة الجنس مع الزوجة مهما كان فارق العمر بين الزوجين. فيحق للرجل الزواج من طفلة وحتى الرضيعة على أن يتجنب ممارسة الولوج بها قبل أن تبلغ "الزوجة" التاسعة من العمر. ولكن يحق له ممارسة التفخيذ معها أي مع الرضيعة!! والتفخيذ أو المفاخذة عملية جنسية يندى لها الجبين، يمارسها الشواذ البيدوفيليا (paedophiles) مع الأطفال القصر وحتى مع الرضيعة في عمر السنتين. والغريب هنا هو أن أفتى بجواز هذه العملية وأباح بها وناقشها في كتابه المشار إليه أعلاه إمام شيعي وزعيم الثورة الإسلامية في إيران ألا وهو الإمام الخميني.

إذ يقول الإمام الخميني في "- مسألة 12- لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواماً كان النكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى مع الرضيعة،..." (الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، ج2، ص216، دار المنتظر، بيروت- لبنان، ط2، 1405هـ-1985م). فالإمام يبيح الزواج من الطفلة في التاسعة من العمر، كما ويبيح سائر الاستمتاعات الجنسية الأخرى مثل الضم والتفخيذ حتى مع الرضيعة!

قد يعترض القارئ الكريم، فيقول أن هذه الممارسات الجنسية موجودة حتى في الغرب، فلماذا الإعتراض عليها عندما يصدر رجل دين مسلم حكماً بإباحتها؟ نعم تحصل هذه الممارسات ضد الأطفال في الغرب ومعظمها من قبل أولياء أمورهم أو أقاربهم، وهنا الكارثة. ولكن هذه الأعمال الفاحشة تُعامل في الغرب كجرائم أخلاقية فظيعة مخلة بالشرف، وتصبح عناوين بارزة في الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، ويحال مرتكبوها إلى المحاكم التي تنزل بحقهم أشد العقوبات. وحتى عند انتهاء مدة عقوبتهم يعتبرون خطيرين ويوصمون بتسمية الشبق الجنسي بالأطفال، توضع أسماءهم في سجلات خاصة.

أجل، في الغرب وكافة الدول المتحضرة، تعتبر أية ممارسة جنسية مع الأطفال اغتصاب جنسي يعاقب المرتكب عليها بقانون، ولا أعرف أي قانون هذا الذي يسمح بالزواج من طفلة رضيعة، وممارسة الجنس معها تفخيذاً قبل التاسعة من عمرها، ودخولاً بعد هذا العمر؟ فلو أباح أي إنسان هذا العمل في مقال أو كتاب، أو مارسه، وعرفت السلطات الحكومية عنه، يحال إلى لجنة من الأطباء الأخصائيين في الأمراض العقلية، ليتأكدوا من صحته العقلية، وهل هو سليم العقل، أو مصاب بلوثة عقلية. فإذا كان مصاباً بلوثة عقلية يرسل إلى مصح عقلي للعلاج. أما إذا كان سليم العقل، فيحاكم ويدخل السجن. والغرض من كلتا الحالتين هو حماية المجتمع من شرور هذا الإنسان الشاذ في جميع الأحوال. ولكن ماذا نقول لو أباح رجل دين وزعيم أمة يقود ثورة دينية من وزن الإمام الخميني الزواج، وممارسة هذا النوع من الجنس حتى مع الرضيعة؟

أرجو من القراء، وخاصة من أتباع الإمام الخميني أن ينظروا إلى الأمر بجدية، ومن منطلق إنساني وعقلاني وفكري، وليس من منطلق الولاء الأعمى للانتماء الطائفي وفق المبدأ البدوي: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). المطلوب من هؤلاء أن يتجنبوا الصراخ والعويل والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، فما ذكرته من فتوى السيد الخميني بإباحة الزواج بالطفلة الرضيعة و ممارسة الجنس معها تفخيذاً ليس افتراءً مني، معاذ الله، بل حقيقة ذكرها الراحل في كتابه (تحرير الوسيلة) المشار إليه أعلاه.

وأقولها صراحة، فما أباحه الإمام الخميني هو اغتصاب جنسي بعينه، وجناية كبرى بحق الطفولة البريئة التي هي بحماية أبويها والمجتمع والسلطة، بشقيها الديني والسياسي. فإذا أصدر زعيم ديني- سياسي مثل الخميني حكماً بإباحة هكذا عمل فعندئذ نقرأ على الإسلام السلام. لذا أرى من واجبي ككاتب أن أثير هذه المسألة الخطيرة إلى الرأي العام وألفت إليها انتباه أعلى المراجع الدينية والسياسية ومنظمات حقوق الإنسان والطفولة بما فيها منظمة الأمم المتحدة.

الاغتصاب في الإسلام

وطالما نحن بصدد الاغتصاب في البلدان التي يطبق فيها حكم الشريعة مثل السعودية وإيران والسودان، أو المرشحة لهذا الحكم، مثل العراق ومصر وفلسطين وغيرها، أرى من الضروري أن أذكر أنه من الصعوبة بمكان، إثبات جريمة الاغتصاب الجنسي أو الزنا وفق الشريعة الإسلامية. فالمطلوب في إثبات هكذا جريمة وفق الشريعة وجود أربعة شهود عدول ذكور، على أن يكون كل منهم قد شاهد العملية الجنسية بالكامل أي الولوج penetrative sex ، أو ما يسمى باللغة الدينية (الميل أو المرود بالمكحلة). فالملامسات الجسدية بقصد الشهوة الجنسية بالقوة لا تعتبر اغتصاباً في الإسلام ما لم يرافقها ولوج جنسي يشهده أربعة شهود (ذكور) عدول. وقصة المغيرة بن شعبة، والي الخليفة عمر بن الخطاب في البصرة معروفة مع المومس أم جميل، ومفادها أنه بينما الوالي كان يمارس معها الجنس في كوخ من قصب أو سعف النخيل (صريفة)، هبت عاصفة، وطارت الصريفة فافتضح الوالي وهو في وضع مشين، شوهد من قبل أربعة أشخاص بالغين كانوا مارين بالصدفة. فرفع هؤلاء الأمر إلى الخليفة عمر الذي دعاهم مع الوالي إلى المثول أمامه في المدينة المنورة. وجرت المحاكمة أمام الخليفة، وقدم ثلاثة من الشهود وصفاً دقيقاً للعملية بما فيها (الميل بالمكحلة). أما الرابع فأيد معظم ما ذكره الشهود الثلاثة إلا إنه قال بأنه لم يشهد منظر الميل بالمكحلة. وهنا أمر الخليفة بجلد الشهود الثلاثة الأوائل وبرأ ساحة الوالي وأعاده إلى وظيفته في البصرة. وهذه الرواية مذكورة بأدق تفاصيلها في كتاب (تاريخ الطبري). ومن هنا نعرف أنه من المستحيل إثبات جريمة الاغتصاب، أو الزنا في الإسلام. ويدَّعي رجال الدين أن الإسلام فرض هذه الشروط الصعبة على إثبات الزنا أو الاغتصاب من أجل الستر. ولكن ماذا عن الاغتصاب؟ وأين حقوق الضحية؟ قد يعترض أحد فيقول أن جاء في الإسلام أن النساء مصدقات على فروجهن. ولكن في هذه الحالة، لماذا لا يمكن إثبات جريمة الاغتصاب في الدول التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية وسأذكر مثالين أدناه.

المثال الأول، أتذكر قصة مأساوية قرأتها في الصحف، حصلتْ في السعودية في التسعينات من القرن الماضي حيث وقع اعتداء جنسي على تلميذ في مدرسة متوسطة من قبل عدد من المعلمين (gang rape)، وكان المجني عليه ابن أستاذ جامعي من إحدى الدول العربية. ولما قدم والد الطفل شكوى إلى السلطات المسؤولة ولم يستطع تقديم أربعة شهود وفق متطلبات الشريعة الإسلامية، عوقب هو (الأب) بالجلد بتهمة الكذب والافتراء.

المثال الثاني، مأساة النساء في باكستان. ففي مقابلة بثتها إذاعة بي بي سي قبل شهرين مع محامية في منظمة نسائية تدافع عن حقوق المرأة في باكستان. قالت أن جرائم الاغتصاب شائعة جداً في هذا البلد، ومعظمها على شكل اغتصاب جماعي من قبل شبان ما أن يروا فتاة تسير لوحدها في مكان خال حتى وانقضوا عليها كالذئاب على الفريسة وبغتصبونها. وفي معظم الحالات تبرئ المحاكم ساحة الجناة، وتحكم على الضحية بالسجن لعدم إمكانها جلب أربعة شهود ذكور. وقالت المحامية أنه خلال 25 سنة الماضية استطاعت المحاكم إدانة حالتين فقط بجريمة الاغتصاب. فهل يعقل في بلد مثل باكستان، البالغ شعبه 170 مليون نسمة أن تقع فيه خلال ربع قرن جريمتان فقط في الاغتصاب الجنسي؟ بينما هناك أعداد كبيرة من النساء حكمت عليهن المحاكم بالسجن في مثل هذه القضايا بدعوى الافتراء. وكما أفادت المحامية أن كثير من الضحايا ينتحرن لشعورهن بالخزي ونظرة المجتمع القاسية إزاء الضحية.

وأخيراً، وتحت ضغوط دولية، نجح الرئيس برويز مشرف في تغيير القانون والاعتماد على نتائج الفحوصات الطبية والمختبرية عن طريق الـ (DNA)، لإثبات أو نفي الجريمة. وكالعادة في مثل هذه الحالات، ثارت ثائرة رجال الدين ضد القانون الجديد لأنهم يرفضون الاعتماد على العلم، وقالوا أن هذا القانون يدعو إلى الإباحية... فتصور!! فهل هناك مهزلة أكبر من هذه؟

ورحم الله الإمام الشيخ محمد عبده حين قال قبيل وفاته:

ولستُ أبالي أن يُقال محـمد

        أبلّ أم اكتظت عليه المآثــم

*

ولكن ديناً قد أردتُ صلاحه

        أحاذر أن تقضي عليه العمائم.

لا شك أن هذا الدين مهدد، ولكن من قبل الإسلاميين السياسيين وليس من قبل العلمانيين كما يدعون.

يتبع

***

د. عبد الخالق حسين

بين التشييع العراقي والأخر المصري والشامي

* يقول الباحث محمد بن المختار في الندوة المسجلة ذاتها، إنه لاحظ من خلال دراسته أن التشييع المصري والشامي كان تشيعاً شكلياً أما التشيع العراقي فقد كان تشيعاً حقيقياً. ويعلل ذلك بأن التسنن سبق التشيع في الشام ومصر زمنياً وتجذر فيهما قبل التشيع الذي لم يخترق البنية النفسية والثقافية فيهما. أما في العراق فكان التشيع فيه منذ بدايات الإسلام وظل التشيع فيه متجذرا فلم يتأثر لا بالحروب الصليبية ولا بالغزو المغولي واعتقد أن هذه الفكرة قابلة للأخذ والرد إذْ أن غالبية قبائل العراق الشيعية اليوم كانت سُنية قبل قرنين.

* على عكس علاقة نور الدين زنكي السيئة بالشيعة الإمامية في بلاد الشام ومصر حيث اضطهدهم ونفى قادتهم فإن علاقة صلاح الدين الأيوبي بالشيعة الإمامية كانت جيدة جدا. مشكلته كانت مع الإسماعيليين وخاصة النزاريين الذين حاولوا اغتياله ثلاث مرات (يعترض سيار الجميل لاحقا على هذه المعلومة فيقول إن محاولات اغتيال صلاح الدين على يد النزاريين كان 15 محاولة وليست 3 مرات).

* آخر محاولة لإحياء الدولة الفاطمية واستردادها من صلاح الدين الأيوبي بواسطة انقلاب مسلح قادها الفقيه الشاعر عمارة اليمني. والطريف والملفت أن عمارة لم يكن شيعياً إسماعيلياً فاطمياً بل كان سنياً شافعياً مثل صلاح الدين السني الشافعي تماماً. ولكنه أي عمارة كان ممن يوالون الفاطميين بعمق وإخلاص وله قصيدة مشهورة في رثائهم مطلعها:

يا لائمي بهوى أبناءِ فاطمةٍ

لك الملامة إنْ قصرتَ في عَذَلي

*  و"فاطمةٍ" حُركت هنا بتنوين الكسرة مع إنها ممنوعة من الصرف للضرورة الشعرية. وحين فشل الانقلاب الذي قاده عمارة اليمني حكم الأيوبي بإعدامه فأعدِمَ شنقاً في شهر رمضان.

فرس جعلوا الأتراكَ سُنةً وأتراكٌ حولوا الفرسَ شيعةً

*  ومن طرائف التاريخ أيضا يقول الشنقيطي أن الترك السلاجقة دخلوا الإسلام على مذهب السنة على أيدي الفرس السنة آنذاك في عهد الدولة السامانية. وإن الفرس السنة تحولوا إلى شيعة على أيدي الترك الشيعة (أعتقد أن المتحدث يقصد على أيدي جماعة الشيخ الشيعي الإمامي الإذري التركي صفي الدين وابنه صدر الدين وحفيده علاء الدين الأردبيلي الصفوي الذين بدأ معهم تشيع إيران السنية في عهد حاكمها إسماعيل الصفوي. ع.ل).

* ويقول الباحث إن العامل المذهبي كان أقل العوامل تأثيرا في الجيل القديم من المؤرخين بدليل أن المؤرخ يحيى بن أبي طي الحلبي وهو شيعي إمامي وأول من ألف سيرة لصلاح الدين بعنوان " كنز المؤمنين من سيرة الملك صلاح الدين" ، أما المؤرخ ابن الأثير السني (لأنه كان مواليا للزنكيين وهم على المذهب الحنفي وليس شافعيا على مذهب صلاح الدين) والمؤرخ المصري المقريزي السني أيضا (ولكن لأسباب وطنية مصرية أي لأنه يرى الفاطميين مصريين وليسوا أجانب كصلاح الدين) فقد ألفا كتابين فيهما الكثير من النقد والاتهامات القاسية لصلاح الدين الأيوبي.

شيعة يدافعون عن صلاح الدين وسنة يهاجمونه

والغريب - كما يقول الشنقيطي في الندوة الثانية/ الرابط 2 - إننا نرى أن الشيعة المعاصرين لا يعتمدون على كتاب المؤرخ الشيعي يحيى بن أبي طي الحلبي المدافع عن صلاح الدين بل يكثرون من الاستشهاد بابن الأثير والمقريزي (السُّنيين) للطعن في صلاح الدين!

ويتوقف الشنقيطي عند كتاب حسن الأمين عن صلاح الدين وهو بعنوان "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين" ويعتبره القنبلة الكبرى التي أسست لروح العداء لصلاح الدين في الثقافة الشيعية المعاصرة. لدرجة ان الأمين اتهم صلاح الدين بانه عميل للصليبيين وأنه تخلى لهم عن أرض فلسطين حتى أنه اتهمه بالصهيونية والتعاون مع اليهود يوم لم تكن هناك صهيونية. (ومن حسن الأمين استمد بعض الكتاب العراقيين الشيعة مادتهم في ندواتهم التلفزية وكتبهم وكنت قد تصديت لهم في سلسلة مقالات قبل سبع سنين. ع.ل)

* وأخيرا، فربما يتفاجأ بعض القراء حين يعلمون أن الباحث محمد الشنقيطي إسلامي سلفي من حيث التوجه الفكري والأيديولوجي الشخصي وقد يكون محافظا في بعض قناعاته الشخصية الإسلامية في نظر البعض بل قد لا يصدق البعض أن الشنقيطي يدافع عن ابن تيمية ويضعه ضمن سياقه التأريخي الحقيقي ولكنه دفاع نقدي هو الآخر ويعتبره مختطفا خضع فكره لتحريف وتوظيف ليس منه. ويمكن لنا أن نحسب موقفه من ابن تيمية على ملاك الإنصاف والحياد المحمودين للمؤرخ الموضوعي، وليس على حساب الأدلجة السلفية، وعلى الرغم من ذلك فربما يمكن اعتبار الشنقيطي - وأنا ممن يعتبرونه - الباحث الإسلامي الأكثر جرأة وموضوعية ودقة في المجال البحثي الأكاديمي، فهو حين يتكلم ويحلل مواضيعه منهجيا، ينسى أو للدقة يتناسى انتماءاته الفكرية والدينية الشخصية ويتذكر أنه مؤرخ وباحث في التأريخ فقط، ليكون أكثر حيادا وتجردا وحرية وجرأة في العمل وقد قالها صراحة حين انتقده البعض لأنه لا يحترم ما جاء في المصادر الإسلامية القديمة فقال "أنا حين أطلع على المصادر القديمة لا أطلع عليها كمقدسات بل كوجهات نظر لبشر مثلنا كانوا يعيشون في سياقهم التأريخي ولهم وجهة نظر".

 أو في رده على من شككوا في احترامه للقادة العظام وللصحابة فقال "القادة العظام على الرأس والعين ولكن هناك مبادئ وهناك أشخاص قادة، لأن قراءة التأريخ بطريقة قراءة المناقب ليست طريقة تأريخية، وإذا فعل ذلك واعظ على منبره أو كاتب صحافي فليس ذلك مقبولا ممن درس التأريخ وبذل فيه جهدا. أنا ضد تقديس التأريخ. وحتى تأريخ الصحابة ففيه جوانب مشرقة وأخرى معتمة. وأنا أرى أن قدسية المبادئ فوق قدسية الأشخاص، لأن الأشخاص يحاكَمون بالمبادئ أما المبادئ فلا تحاكَم بهم".

وأعتقد أن جوهر هذه المقولة للباحث الموريتاني الشاب قريبة جدا من فحوى المقولة المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب والتي تقول في إحدى صيغها: "الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله". وتلك كانت خاتمة موفقة وذكية لكلام المتحدث.

***

علاء اللامي

........................

1- رابط يحيل إلى الفيديو موضوع الحديث:

https://www.youtube.com/watch?v=eE9pufjrgFA

2- رابط آخر لجلسة أخرى للشنقيطي مع مجموعة من الحضور حول موضوع أطروحته للدكتوراة "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية" وهي من تاريخ لاحق للندوة السابقة (بعدها بأربع سنوات) وفيها يتراجع الشنقيطي بعض الشيء عن الموضوعية التي يعتمدها فيصرح ببعض الاستشرافات المرتجلة ومنها توقعاته بتراجع التشييع بسبب الأداء السيء كما قال للشيعة. وهذا الاستشراف يناقض الواقع إذْ أن العكس هو الصحيح فالأداء السيء للدول السنية العربية التي بدأت بالتطبيع مع العدو الصهيوني أو أنها نفضت يديها من القضية الفلسطينية وعقدت خمس دول منها معاهدات سلام معه، فيما تقود إيران الشيعية محورا مقاتلا لمقاومة العدوان الغربي الصهيوني وهذا الواقع هو ما سوف يسمح للتشيع السياسي والشعبي بالتقدم والانتشار على الأرجح مع أن الأمل يبقى في النأي عن هذه الأطروحات ذات النزعة التقسيمية الطائفية لمصلحة خطاب ديموقراطي شعبي مقاوم:

https://www.youtube.com/watch?v=9wLYOqP6t90

ما كنا نطرح ونجادل الفقهاء، ونشجب ما يريدون تطبيقه من أحكامهم، لولا وضعوا أنفسهم، أو وضعتهم الأحزاب الدّينيّة، في مثل هذه المواقف المحرجة حقاً لهم، فبسببها أخذنا نلتفت إلى محتويات رسائلهم، وما فيها من ارتداد على الزّمن، وليعذرونا عن ذلك، فهم مَن دفعوا إلى المواجهة.  

هذا، وسأستهل مقالتي بمشهدين: الأول، كنا في ندوة عن تطبيق الشّريعة (1993)؛ وبطبيعة الحال تأتي وصايا الفقهاء على النّساء في المقدمة، فانبرى أحد الإسلاميين - حزبه الآن متصدر الحملة لإعادة الأحوال الشّخصية إلى سلطة الفقهاء - قائلاً: أتعلم، أنّ للأمّ حقّها، في الفقه، بدفع الزوج أجرة لها على رضاعة طفلها؟ استغربت من هذا الطّرح الفظيع حقاً، الذي يجعل الأمّ أجيرةً، لا أماً يدر لبنها لطفلها، وهذا ما ورد في رسائلهم: "إذا طلبت الأمّ أجرةً للرضاع زائدة على غيرها، أو وُجد متبرع به، وكان نظر الأب الإرضاع مِن غيرها يسقط حقّ الحضانة" منها.

 الآخر: عندما صدر "بعد إذن الفقيه" (الأولى 2011، الرابعة 2024)، فيه خمسة فصول تخص النساء، ومنها فصل "عرائس الموت"، وفصل في الأحوال الشّخصية (188/ 1959)، المراد نسفه. حينها بُلغتُ أنّ شباباً كربلائيين، عقدوا ندوةً عن الكتاب، فتدخل أحد المعممين، شاكلاً على العنوان: "أي فقيه أعطى مؤلف الكتاب الإذن؟".  

بمعنى الفقه مِن اختصاصهم، وهذا لهم في العبادات، أو حقّ الله، لكنّ علاقات الآدميين ببعضهم بعضاً (المعاملات)، قابلة للجدل، ليس لهم الحقّ بحكم الدّنيا والآخرة، فالفقيه، بحسب الأوضاع التي يريدها الإسلاميون اليوم، هو مَن يحدد زواجنا، وطلاقنا، وميراثنا، ولا يريد أن نجادله بها، وكأننا نتعامل مع عالم في الفيزياء أو الرّياضيات، وليس بشؤوننا الاجتماعيّة، حتّى تجده دخل الفراش بين الزّوجين، وهذا الدّليل: "ليس لها اسْتِدْخالُ ذَكَرِ زَوْجِها، وهو نائمٌ بلا إذْنِه، ولها لَمْسُه وتَقْبِيلُه بشَهْوَةٍ"!  

أرأيتم كيف يفكرون، بسحبنا إلى عصور غابرة، يستخدمون أرقى التقنيات، ولا يفكرون بقفزة الزّمن التي جاءتهم بها. لا يدري المعترض على عنوان كتابنا أنه كان معاراً مِن عنوان "مَن لا يحضره الفقيه" للشيخ الصّدوق (تـ: 381هـ)، وهو بدوره استعاره من الطّبيب محمّد بن زكريا الرّازيّ (تـ: 313هـ) "مَن لا يحضره الطَّبيب".

لستُ كاتباً لتخطئة رسائل الفقهاء، في ما لو حُصرت في أزمنتها، لكن عندما تتعدى إلى الحاضر، يظهر النّفور منها، إلا عند مَن ظل مصدقاً أنّ مصيره في الدّنيا والآخرة مرتبط برضا الفقيه أو غضبه، لأنّ الحبل الذي يربطه بالله بيده، فقيل: "ذنبه برقبة عالم واطلع منها سالم"، أو "خل بينك وبين الله (أو الجنَّة) مطوع".

نقرأ حكمةً في التّراث، في أمر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان، نُسبت إلى معاوية بن أبي سفيان (تـ: 60هـ)، نذكرها، مع علمنا، أنّ مَن نوجه إليهم كلامنا في شأن الأحوال الشّخصيّة، الساعين لتحقيق سلطة الفقيه، يعتبرون أقوال معاوية مزيفة، لكنها تبقى حكمة، بغض النّظر عن قائلها: "معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا هذا معروف زمان لم يأت (أو يأتي)" (البلاذُّري، جمل من أنساب الأشراف، التّوحيديّ، الذّخائر والبصائر).

توقفت رسائل الفقهاء، والتي يُنحل بعضها بعضاً، عند زمان واحد، ويمكن كانت تُعد معروفاً، لكن بتعاقب الأزمنة، اصطدمت بواقع آخر، فصارت محل استنكار في إدارة المعاملات، جاءت لحل مسألة في زمن ما له طبيعته الاجتماعيّة والثّقافيّة، فلا يمكنها البقاء مناسبة لكلّ زمان، فإذا كان المصحف القرآني قد نزل على مصالح العباد، وله أسباب نزول (القاضي عبد الجبار، كتاب المغني)، فكيف بصحف الفقهاء يا تُرى!

نصوص الفقهاء

نأتي إلى نصوص مِن رسائل الفقهاء، بخصوص الزّواج، ما كان يمكن قبوله قبل قرون، وما لا يُقبل بعدها، بل يُعدّ منافياً للإنسانيّة، فإذا كان غزو قبيلة لقبيلة، وأسر النّساء واستباحتهنّ كجوارٍ، مثلما حصل للإيزيديات العراقيات أخيراً، وكان قد تزوج من أسيرات الماضي صحابة وأئمة وأنبياء؛ صارت هذه الممارسة اليوم مرفوضة، في الوقت الذي كانت منسجمة مع التقاليد والأعراف السّائدة آنذاك، وهذا الكلام ليس لنا بل سمعناه مِن آية الله العراقيّ كمال الحيدريّ، وكان له رأي ضد التغييرات في الأحوال الشّخصيّة العراقيّة.

صار ما ورد في رسائل الفقهاء منافياً للزمن؛ ونأخذ الأشهر منهم، ممِن ذُكر الرجوع إليه في الأحوال الشّخصيّة، من دون ذكر الأسماء، كي لا يُفهم أنه تقصد لمراجع دون آخرين؛ وكان المشترك بينها هو "الاستمتاع"، في كلِّ فقرة من فقرات باب النّكاح، فما المرأة إلا وعاء متعة وآلة إنجاب.

1- ما يخص الزّواج والاستمتاع بالصَّغيرات، بينما الدول حددت سن الزواج بـ(18) سنة، ومنها العراق في قانون 188/1959:

- "لا يجوز وطء الزّوجة قبل إكمال تسع سنوات، دواماً كان النّكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والتّقبيل والضّم والتّفخيذ، فلا بأس بها (الكثير من الفقهاء أضافوا الرّضيعة بالاسم)، ولو كان وطأها قبل إكمال التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى، والفض هو التمزق الموجب لاتحاد مسلكي البول والحيض، أو مسلكي الحيض والغائط أو اتحاد الجميع".

- "ولو دخل بزوجته بعد إكمال التسع، ففض بكارتها لم تُحرم عليه، ولم تثبت الدِّية، ولكنّ الأحوط وجوب الإنفاق عليها، كما لو كان الفض قبل إكمال التسع، ولو فض بكارة غير الزوجة بزناء، أو غيره تثبت الدِّية، ولكن لا إشكال في عدم الحرمة الأبدية، وجود الإنفاق عليها". مثل هذا الرّجل، يُعاقب اليوم كمغتصب أطفال، ويُحال إلى مصحة نفسية.

- "يجوز اللمس والنّظر مِن الرّجل للصبية غير البالغة - ما عدا عورتها كما عُرف مما مرَّ - مع عدم التلذذ الشّهويّ والريبة، نعم الأحوط الأولى الاقتصار على المواضع التي لم تجر العادة بسترها بالملابس المتعارفة من دون مثل الصّدر والبطن والفخذ والإليتين، كما أنَّ الأحوط الأولى عدم تقبيلها، وعدم وضعها في الحِجر إذا بلغت ست سنين". لكن كل هذا يجوز إذا كانت خطيبة للرجل، مثلما تقدم، فتجوز الخطوبة والعقد حتّى لمن عمرها يوم واحد.

-"ما تعارف مِن إيقاع عقد الانقطاع ساعة مثلاً، على الصّغيرة أو الرّضيعة، أو ما يقاربها مِن أجل محرمية أمها على المعقود له، خلاف الاحتياط، بل لا بد مِن كون المدة بالعقد إلى حد تصلح المرأة للاستمتاع والتمتع، ولو بغير الوطء".

- "يجوز التمتع بالصغيرة، وإن كانت المدة قليلة، مع إمكان الاستمتاع بها بغير وطء، وإنما لا يجوز الدخول بها قبل بلوغها".

- "صحة العقد متعة للصغيرة لمدة لا تكون قابلة لاستمتاع فيها محل إشكال والاحتياط لا يترك".

2- ما يخص النَّفقة مقابل الاستمتاع والتأديب من أجله:

- "يجب على الزَّوجة التمكين (الاستمتاع الجنسي للرجل)، وإزالة المنفرات، وله ضرب النّاشز (التي تمتنع) مِن دون إدماء لحم، ولا كسر عظم، بعد وعظها، وهجرها على الترتيب، ولو نشز طالبته الزَّوجة، ولها ترك بعض حقِّها، أو كلَّه استمالةً، ويحل قبوله".

- شرط النفقة الاستمتاع: "ألا تكون ناشزة، وقد مر معناه، ألا تكون صغيرة غير قابلة للاستمتاع بها، أو كانت كبيرة، وهو صغير غير قابل لأنْ يستمتع بها".

- "لا يجوز للزوجة أن تخرج مِن بيتها بغير إذن زوجها، فإن خرجت بغير إذنه كانت ناشزاً، ولا نفقة مع النشوز، ولا يُحرم عليها سائر الأفعال بغير إذن الزوج، إلا أن يكون منافياً لحقّ الاستمتاع".

- عيوب الرجل الموجبة وللمرأة فسخ العقد: "الجنون، العنن، الجب الذي لا يقدر معه على الوطء، الخصاء وهو سل الخصيتين، أو رضهما".

- عيوب المرأة الموجبة وللرجل فسخ العقد: "الجنون، الجذام، البرص، القرن ما ينبت في فم الرحم يمنع الوطء، الإفضاء (إفضاء الصَّغيرة) العمى، الإقعاد". المرأة لا تطلب الفسخ في حال إصابة الرّجل بالأمراض المذكورة.

3- الحضانة وحالات سقوطها عن الأمّ:

- "مدة الحضانة (للأمّ) سنتان إن كان ذكراً، وسبع سنين إن كانت أنثى، وقيل في الذكر سبع سنين أيضاً". (في المادة 57 من قانون 188 لسنة 1959 عشر سنوات).

- "تسقط حضانة الأمّ لو تزوجت، ومثله سقوطها بإسقاطها"(لا تسقط عن الأب).

4- على المرأة دفع الفدية:

- إذا استوجبت الأمور وعجزت المرأة عن استمرارها مع زوجها، تخلعه مقابل دفع الفدية، كالتنازل عن مهرها، جاء في الخلع والمباراة: "الخلع هو طلاق بفدية من الزوجة الكارهة لزوجها". بينما استخدام الفدية عادة في العتق من العبودية، أو ما يدفعه القاتل لذوي المقتول، كي يحرر رقبته. مع إضافة "ويأخذ الزوج أكثر مما أعطاها".

هذا غيض من فيض مما ورد في رسائل الفقهاء، التي لا تناسب مجريات الزّمن، ويكون سلطة الفقيه بديلاً، وسلبيات ذلك تقع على المرأة، وعلى المجتمع العراقي، وروح التحضر، كارثية حقاً، فالأحوال الشّخصية وفق التغيير، أُلحقت برسائل الفقهاء، وما المحاكم المدنية إلا مكاتب تنفيذ.

***

د. رشيد الخيّون

بعض الملاحظات السايكولوجية والاجتماعية والسياسية في الهرولة لتعديل قانون الأحوال المدنية في العراق

 تفاقم الجدل في الشارع العراقي وفي أروقة البرلمان بشأن المخاوف من تمرير التعديلات على قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 والصادر في العام 1959، وسط شد وجذب يتركز على تداعياته السياسية والاجتماعية، بين فسيفساء التوجهات الدينية والمدنية والعرقيات المختلفة، فضلا عن أهداف الأحزاب الشيعية والسنية، وهو صراع يعكس جزء من صراع اعظم حول حسم وجهة الدولة العراقية، هل هي دولة دينية على نسق دولة ولاية الفقيه أو دولة طالبان أم انها دولة علمانية مدنية، أم انها خلطة عطار من هذا وذاك وتعيش دوما حالة اللا استقرار وتستجيب لمختلف الضغوطات على طريق اقناع الجميع على شاكلة توزيع المغانم في دولة منهوبة.

 وكان قانون الأحوال الشخصية في العراق قد أُقر عام 1959 في حقبة مؤسس الجمهورية العراقية آنذاك عبد الكريم قاسم، والذي يعتبر الى اليوم من ارقى القوانين في المنطقة لتنظيم الأحوال والحياة المدنية، وهو قانون يسري على جميع العراقيين دون تمييز مذهبي حتى الآن، لكن التعديلات الجديدة تشير في إحدى فقراتها على أنه "يحق للعراقي والعراقية عند إبرام عقد الزواج أن يختار المذهب الشيعي أو السني الذي تطبق عليه أحكامه في جميع مسائل الأحوال الشخصية، ويجوز لمن لم يسبق له اختيار تطبيق أحكام مذهب معين عند إبرام عقد الزواج، تقديم طلب إلى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق أحكام الشرع على الأحوال الشخصية، وفق المذهب الذي يختاره ويجب على المحكمة الاستجابة لطلبهم".

وينص مشروع القانون على أنه "إذا اختلف أطراف القضية الواحدة في الأسرة بشأن تحديد مصدر الأحكام الواجب تطبيقها في طلبهم، فيعتمد الرأي الشرعي فيها"، كما يلزم التعديل الجديد "المجلس العلمي في ديوان الوقف الشيعي والمجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني بالتنسيق مع مجلس الدولة بوضع مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية وتقديمها إلى مجلس النواب للموافقة عليها خلال 6 أشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون".

 ويشمل التعديل كذلك تصديق محكمة الأحوال الشخصية على عقود الزواج "التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني بإبرام عقود الزواج، بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع في الزوجين".

وفي نهاية تموز/يوليو، سحب البرلمان التعديل من الطرح بعد اعتراض نواب كثر عليه، إلا أنه عاد مجددا إلى الطاولة وحظي بقراءة أولى في جلسة في الرابع من آب/أغسطس بعد تلقيه دعم تحالف أحزاب شيعية يتمتّع بالغالبية داخل البرلمان العراقي. وليس واضحاً حتى الآن ما إذا كانت محاولات تعديل القانون ستنجح بعد محاولات عدّة خلال العقدين الماضيين لتغييره.

لم يكن هذا الأجراء جديدا ولا وليد الصدفة بل انه يعبر عن عقلية متخلفة يجسدها الجزء الاكبر من احزاب الاسلام السياسي الطائفي في البرلمان العراقي والتي تعكس الموقف المتخلف من المرأة وحقوقها المختلفة، ومن ضمنها حق الأمومة ورعاية اطفالها، وقد انتهجت تلك الاحزاب ومنذ سقوط الدكتاتورية بعد 2003 نهجا معاديا لمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، ومما يثير غضب الشارع العراقي والنساء بشكل خاص ان هناك برلمانيات نساء يقفن مستميتات ضد المرأة وحقوقها ومعظمهن من كوتة الاسلام السياسي ويجسدن بالملموس الموقف المتخلف من المرأة وابقائها اسيرة لثقافة المجتمع الذكوري الذي يعيد انتاج اضطهاد النساء بواجهات " مقدسة "، رغم ان هناك ملامح جبهة نسوية رصينة للوقوف ضد التعديلات المشينة.

لقد تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة، ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة، وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة، وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية، وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات، وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة، أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%، كما تجاوز عدد الارامل والمطلقات المليونين أمراة، وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان، وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 40%، الى جانب زواج القاصرات دون 18 سنة، وبعضها لا يتجاوز 11، 12 سنة.

الأم هي الحلقة الأولى في حياة الطفل والأسرة، لما لها من دور عظيم في إعداد وتنشئة الأجيال ، ولما يقع على عاتقها من مسؤليات في إعداد الطفل وتربيته، وبعاطفة الأمومة التي لديها تمنحه مشاعر الدفء والحنان، لما تشكله من علاقة نفسية وبيولوجية بينها وبين أولادها وبناتها، والأمومة هي أكبر وظيفة للمرأة وهبتها لها الطبيعة في صراعها للبقاء لتكون بها الحياة، فهي رمز الحياة واستمرارها؛ وتعتبر أقوى الغرائز لدى المرأة وتظهر لديها من طفولتها المبكرة فنجد الطفلة ترعى أخواتها الذكور وتعتني بهم وتجد لديها العديد من الدمى والعرائس التي تمارس من خلالها دور الأم.

الأمومة هى علاقة بيولوجية ونفسية بين امرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات. وهذا هو التعريف للأمومة الكاملة التى تحمل وتلد وترضع (علاقة بيولوجية) وتحب وتتعلق وترعى (علاقة نفسية) . وهذا لا ينفى أنواعاً أخرى من الأمومة الأقل اكتمالاً كأن تلد المرأة طفلاً ولا تربيه فتصبح فى هذه الحالة أمومة بيولوجية فقط ، أو تربى المرأة طفلاً لم تلده فتصبح أمومة نفسية فقط. هذه الأدوار للأم عندما تلد وعلى المستويين البيولوجي والنفسي يجب ان تشبع بقدر هادئ ومعقول استجابة لأشباع غريزة الأم البيونفسية في رعاية اطفالها، وفي سياقات طبيعية ومقبولة قد تحل الخالة او العمة او الجدة نسبيا مكان الأم على المستوى النفسي او لصعوبات مؤقتة على المستوى البيولوجي"كالأرضاع"، وخلاف ذلك وعلى مستوى اكراه الأم لغير حضانة اطفالها فأنه أمر يهدد بمخاطر واضطرابات نفسية خطيرة وخاصة اذا كانت مؤظرة بكراهية من نوع خاص بين "الشريكيين " وعدم قبول الآخر بفعل عوامل كثيرة ومتعددة.

يالتأكيد هناك عوامل تؤطر استقرار الأسرة ومنعها من التصدع، من بينها الاستقلال الاقتصادي للشريكين وخاصة عن أبوي وأم الشريكيين، وكذلك العمر المقبول للزواج حتى ما بعد 20 عاما، فالنضج الزمني يلعب دورا في انعكاساته على العمر العقلي وخاصة في تفاوت غنى البيئات المختلفة وبالتالي فالشراكة هي عقلية مقترنة بزمن مقبول. وفي عراق ما بعد 2003 ومنفتح على مصرعيه لمختلف التيارات الدينية وغير الدينية والانعتاق من العزلة العالمية التي كان يعيشها العراق مقابل انفتاح على الآخر غير مدروس وصراع قيمي على أشده بين العشيرة والمدينة وقيم الانفتاح التي تهواها النفس بفطرتها في صراعها مع دين سياسي يكرس ازدواجية الأخلاق ويحلل الحرام ويحرم الحلال ويتحالف مع قيم التخلف والردة وفي مقدمتها العشيرة ويتشبث بالسلطة السياسية، فلا نستغرب ان الوضع يؤسس لمختلف الأنهيارات والنكسات والمصائب، والمرأة كعادتها وبفعل استفحال الذكورية وعدوانيتها هي من اسهل الضحايا في القتل والتنكيل وحرمانها من امومتها، الى جانب اصابتها بمختلف الأضطرابات النفسية والعقلية.

أن تقدم المجتمعات يقاس بمدى تقدم المرأة فيه ومساهمتها في الحياة العامة، لقد اصاب المرأة شتى صنوف الأذلال والقهر والأستعباد جراء الظلم الذي وقع عليها تاريخيا وحاضرا، والمرأة العراقية اليوم بين عاطلة عن العمل وأرملة ويتيمة ومطلقه وعانس وحبيسة المنزل، لا نستغرب من تداعيات ذلك على سلوكيتها اتجاه اطفالها، وخاصة عندما تبلغ الحال حدا مرضيا فأن الضحايا الأقرب هم الاطفال. أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين وما يترتب عليه من اقصاء للمرأة هو نزوع ثقافي أولا، يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة، والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية، ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة، وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه،لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها، ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.

اليوم قد يكون من السهل على التنظيمات السياسية الدينية المتطرفة في البحث عن مبررات لأقصاء المرأة من ميادين الحياة المختلفة وانتهاء ضربها في امومتها في ظل بيئات متخلفة تعيد انتاج عورة المرأة ودونيتها كثقافة ذكورية سائدة، وان التذرع بعدم كفاءة الأنثى تربويا في الأمومة والرعاية لغاية الثامنة عشر من عمر الطفل يشكل جزء من منظومة الارهاب الفكري والسلوكي لأضطهاد المرأة الأم وعدم السماح لها بأداء دورها التربوي في الامومة والاعداد الاولي.

لقد فشلت البرلمانات العراقية ما بعد 2003 في التشريع لبناء أسس دولة المواطنة وبناء عراق آمن بعيدا عن المليشيات وقوى اللادولة كما فشل في التشريع لمحاربة الفساد الذي نخر الدولة وأهدر مواردها، واخفق في وضع حد للسلاح المنفلت الذي قتل الابرياء والسلميين في احتجاجات اكتوبر، ولم يشرع بما يضمن سلامة العملية السياسية والديمقراطية في البلاد ولم يستطيع وضع للأحزاب المليشياوية التي تقبع تحت قبة البرلمان وتسهم في صياغة اكثر قوانينه اجحافا بحق الشعب والدولة والمجتمع، ولكن البرلمان شاطر في التعبئة المشوهة لهدم الأسرة والمجتمع والعبث في الطفولة لتعزيز الثقافة الذكورية وبالأستعانة من البرلمانيات النساء ذات الثقافة الذكورية العدوانية اتجاه نساء من بنات جلدتها. 

قد لا نستغرب من وجود لوبي عصي ضد المرأة العراقية فأن مقترح تعديل  قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959 يعكس مزاج الكراهية للمرأة رغم الأدعاء الشكلي بأحترامها. ولكن في العراق وبعد تجربة اكثر من عقدين من الزمن من تجربة الأسلام السياسي في الحكم ان هناك وعي بديل دخل البيوت العراقية، تتجسد ملامحه في التوق الى المساوة بين الجنسين في مناحي الحياة المختلفة، ويصطدم هذا مع اجندة الأسلام السياسي في اعادة انتاج الثقافة الذكورية لأغراض بقائه، وبالتالي فأن كل التشريعات المتوقعة والمجحفة من قبل السياسين ذوي الثقافة الذكورية والسياسيات ذات التوجه الذكوري لا تعني ابدا تغيرا سريعا في الوعي العراقي صوب الاستسلام بل ان الوعي التراكمي نحو دولة المواطنة والحق والمساواة بين الجنسين سيجد ضالته بعد ان شق طريقة بألاف الضحايا والسشهداء من اجل عراق صالح للجميع إلا القتلة. نعم لا لتعديل قانون الأحوال المدنية رقم 188 للعام 1959، ولا لثقافة الأغتصاب المشرعن ولا لعهد الجواري.

***

د. عامر صالح

السنة والشيعة خلال الحروب الصليبية

سأحاول في هذا النص أن أشرك القراء في الفائدة المعرفية والمتعة الثقافية عبر استعراض محتويات فيديو ندوة للباحث الموريتاني د. محمد بن المختار الشنقيطي لما في كلامه وبحوثه التاريخية من جرأة كبيرة وجِدة نقدية تحليلية لا تهاب القمع التقليدي وحياد منهجي ملحوظ وذاكرة خصبة ومتوهجة تثير الإعجاب.

يتكلم الباحث في هذه الندوة عن موضوع تأثير الحروب الصليبية (1096 – 1291م) على العلاقات بين السنة والشيعة آنذاك ويهشِّم الكثير من الرواسخ الصنمية المكررة والزائفة حول الموضوع. وقد سرني على الصعيد الشخصي أن كلامه، وهو الباحث المتخصص المرموق، أعطى مصداقية - بشكل غير مباشر أو مقصود - لما كتبته من دراسات دفاعاً عن صلاح الدين الأيوبي وحول العلاقات الطائفية بين الشيعة والسنة في عهد تلك الحروب. علما بأني نشرت ما كتبت قبل سبع سنوات ولم أكن قد اطلعت على آراء الشنقيطي بعد، رغم أنه كان قد نشر آراءه قبل أكثر من 12 عاما كما يشير تاريخ نشر فيديو الندوة، أي أنه سبقني في ما ذهبت إليه.

من الطبيعي أن يختلف المشاهد هنا وهناك معي أو مع الباحث الشنقيطي في التفاصيل، ولكن المهم، وربما الأهم، هو الفائدة الأكيدة من كل ما قيل من كلام موثق لم نألفه من المؤرخين التقليديين المحافظين، ويبدو ان بعضهم كان حاضرا في الندوة. وقد استفزته على الأرجح نقدية الشنقيطي؛ فالمؤرخ العراقي المحافظ سيار الجميل الذي تولى إدارة الندوة بدا وكأنه فوجئ بهذه الجرأة والكفاءة البحثية فراح يلقي المواعظ والتحذيرات البالغة حدود التوبيخ على الباحث الشنقيطي بعد انتهاء هذا الأخير من محاضرته. بل وجرده من صفة المؤرخ وقال "اعتبره في هذه المحاضرة مغامراً وليس مؤرخا". وكأن الجميل يعتذر لأصحاب الدار "المركز العربي بإشراف عزمي بشارة" عن هذه الورطة التي وقع فيها بدعوة الشنقيطي للندوة لأن هذا الأخير هشَّم أصناما كثيرة في الكتابة التأريخية التقليدية العربية كما سيلاحظ المشاهد وقد ظل الجميل متهيبا ومحافظا حتى حين كان يشيد بآراء الشنقيطي ولنا في ذلك دلالات مهمة ومنتجة للأفكار. وحسنا فعل الشنقيطي برده الحازم وغير المباشر على آراء الجميل.

سأترككم مع هذه الندوة على أمل العودة إليها في دراسة شاملة مستقبلا، ولكنني قبل ذلك أود تسجيل بعض اللمحات الطريفة أو الغربية التي وردت في كلامه كنوع من الإبراز لها والإضاءة عليها مع بعض الاستدراكات عند الضرورة:

غلبة التشيع في بلاد الشام

* يرى الشنقيطي أن بلاد الشام كانت سُنية منذ البداية، لأنها كانت مهد الدولة الأموية. ولكنها أصبحت ذات غالبية سكانية شيعية إسماعيلية وإمامية بعد ذلك. ولم يتراجع التشيع على مستوى القاعدة الشعبية فيها إلا خلال الحروب الصليبية وفي العهد السلجوقي التركي الذي اضطهد الجميع. وخلال تلك القرون قامت في بلاد الشام أربع دول شيعية هي المرداسية والعقيلية والحمدانية ودولة بني عمار في طرابلس. والملفت إنك حين تقرأ في الموسوعات والكتب المعروفة وخاصة على الانترنيت فلن تجد أية إشارة الى شيعية هذه الدول غالبا، ربما باستثناء الدولة الحمدانية، أو إلى شيعية الغالبية السكانية في بلاد الشام قبل الحروب الصليبية.

* كانت الدولة المرداسية في حلب دولة شيعية. وانتهت بأن أعلن الشيعة بزعامة محمود المرداسي تغيير ولاءهم المذهبي والتسنن والاستسلام للسلجوقي التركي ألب أرسلان لتفادي الإبادة الجماعية بسيوف قواته. وافق رجال الدين الشيعة الحلبيون على اقتراح أميرهم المرداسي ولكن جمهورهم من العامة رفض ذلك، ولكن الاستسلام كما يبدو تم في نهاية المطاف.

السنة والشيعة في خندق واحد

* يقول الشنقيطي، على العكس مما يوجهه السلفيون السُّنة من اتهامات للشيعة بأنهم كانوا طابورا خامسا وعملاء لمصلحة الصليبيين، أو مما يوجهه السلفيون الشيعة للسنة بأنهم كانوا متخاذلين ومتواطئين في مواجهة الصليبيين، على العكس من ذلك نجد السنة والشيعة الإمامية قاتلوا ضد الصليبيين في خندق واحد. ويأتي الباحث بعدة أمثلة موثقة بالأسماء والتواريخ تؤكد ما ذهب إليه. في حلب قاد القاضي الشيعي أبو الفخر بن الخشاب المقاومة ضد الصليبيين، وذهب إلى مدينة ماردين التي يحكمها الترك السنة، وجاء بجيش دعم ومن طريف ما يرويه مؤرخ حلب ابن العديم قوله إن الجنود الأتراك فوجئوا بأن من يقودهم ويحرضهم على القتال قاض معمم فقالوا مستغربين: هل جئنا من بلادنا لنقاتل تحت قيادة رجل معمم؟ وممن كتبوا عن هذه الحادثة أمين معلوف في كتابه باللغة الفرنسية (تُرجم إلى العربية) عن الحروب الصليبية وخصص فصلا لهذا القاضي بعنوان "مقاوم بعمامة" وكأنه يستغرب أن يكون المقاوم بعمامة! ويضيف الباحث الشنقيطي في موضع آخر أن هذا القاضي المقاوم ابن الخشاب اغتاله الشيعة النزاريون لأنهم يعادون الشيعة الإمامية كما يعادون السنة.

* أقدم مصدر تأريخي للكلام عن الأتراك الأوائل والفايكنز هي رسالة أحمد بن فضلان البغدادي مبعوث الخليفة العباسي المقتدر بالله في القرن العاشر الميلادي. ووردت فيها أوصاف نادرةٌ جداً لشعوب منها: الأتراك الغُزِّية وغيرهم من الشعوب التركية غير المسلمة آنذاك، أو حديثة العهد بالإسلام، والصقالبة أو البلغار الذين الوثنيين، والخزر المتهودين الذين ربما يكون ابن فضلان قد عبر بلادهم في طريق عودته، الفايكنغ الوثنيين. والطريف يقول الشنقيطي أن الأمتين اللتين كانتا وثنيتين آنذاك أصبحتا طرفين في الحرب الصليبية الطاحنة بعد ثلاثة قرون من رحلة البغدادي: فالأتراك الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام أصبحوا مسلمين متشددين والفايكنغ الوثنيون صاروا مسيحيين متشددين. وللدقة فالفايكنغ كانوا طرفا ضمن مجموعة أطراف صليبية في الحرب الصليبية.

العراق مركز الزلزال الطائفي

* يدلي الباحث بملاحظة مهمة عن تاريخ العراق الطائفي فيقول: "العراق في تاريخه الإسلامي كله لم يسيطر عليه السنة ولا الشيعة من الناحية العددية والثقافية رغم أن الغلبة من الناحية السياسية تكون لأحد الطرفين أحياناً آنذاك (للدقة: كانت الغلبة أو السيطرة السياسية والعسكرية في العراق للشيعة لمرة واحدة في العهد البويهي. ع.ل). كان التسنن مثلا هو الغالب سكانياً في الموصل أما في الكوفة والحلة فكانت الغلبة للتشيع وكانت بغداد مختلطة.

* ويرى الشنقيطي أن العراق هو قلب الأزمة الطائفية في العالم الإسلامي دائما، ومنه تسيح وتتمدد الأزمة في أنحاء هذا العالم الإسلامي كله. وكانت 90 بالمئة من الصراعات بين السنة والشيعة في بغداد، خلال مئتي عام، كانت بين حيين هما الكرخ ذي الغالبية الشيعية وحي باب البصرة ذي الغالبية السنية الحنبلية. وكان أحمد بن حنبل صاحب المذهب المتشدد المعروف باسمه بغداديا أصيلا. أعتقد أن الباحث يقصد بالحيين "حي القلائين" في جانب الرصافة وهو معقل السنة، وحي أو جانب الكرخ الشيعي. وكنت قد كتبت ذات مرة عن بعض مظاهر هذا الصراع الطريفة أو الغريبة في منشور بتاريخ 24 آذار مارس من العام الجاري.

وفي موضع آخر من الندوة، يقول الباحث محمد الشنقيطي "في مصر فشلت الدولة الفاطمية في تحقيق اختراق طائفي للجمهور المصري الذي بقي سنياً. وحتى النخبة الشيعية الإسماعيلية في القاهرة لم تكن من أصول مصرية بل كانت مغاربية من قبيلة كتامة البربرية. (أتحفظ على هذا الاستنتاج للمحاضر وكنت قد أتيت بأمثلة موثقة من مؤرخي تلك الفترة في دراستي عن صلاح الدين في مصر الفاطمية تؤكد أن الحكام الفاطميين حققوا اختراقاً في جمهور محكوميهم المصريين ولكنه قد يكون اختراقا محدودا ولكنه يبقى مهما حيث أكد بعض المؤرخين السنة ومنهم ابن الأثير أن صلاح الدين تردد طويلا في إنهاء الخلافة الفاطمية المحتضّرة خوفا من تمرد عامة المصريين عليه. حتى أن صلاح الدين لم يجد رجل دين سني مصري واحد يجرؤ على إلقاء خطبة الجمعة باسم الخليفة العباسي خوفا من الجمهور المصري فاستعان برجل سني جاء من الموصل مصادفة وألقى الخطبة. ع.ل)، أما في الشام فكانت الغالبية شيعية إمامية وكان الحكام سُنة أما الدويلات الشيعية الثلاث سالفة الذكر فقد قضى عليها السلاجقة الترك الذين هم على المذهب الحنفي. ولم يبقَ من الدويلات الشيعية في الشام إلا دولة بني عمار (وهم من قبيلة كتامة البربرية موالون للفاطميين) في طرابلس والتي دخلت في مواجهة حربية مع الصليبيين وكانت الحرب بينهم سجالا الذين استولوا عليها في نهاية المطاف. ويذكر الباحث أسماء بعض المؤرخين الذين أكدوا هذه المعلومات عن الوضع الطائفي في الشام ومنهم الرحالة الفلسطيني شمس الدين المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم" وناصر خسروا الذي زار الشام قبل نصف قرن من الحروب الصليبية (ومؤرخ آخر اسمه غير واضح ولم أتوصل لمعرفته وربما كان يقصد المحدث والمؤرخ ابن الزبير الثقفي الغرناطي.ع.ل). يتبع.

***

علاء اللامي

ما ينشره المسلمون على الفضاء الأزرق وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي يُلخص لنا حالة الأمة الإسلامية، دون أن نحتاج إلى مراكز بحث متخصصة ودراسات ميدانية وتقارير دورية. مجرد جولة خاطفة عبر تدوينات وتعاليق فقط عينة بسيطة ممن يحملون أسماء عربية وإسلامية من الرجال والنساء، من شأنها أن تكشف للمتابع العادي قبل المتابع المتخصص عن حالة المسّ الأخلاقي والسلوكي والاجتماعي والهوياتي الذي يتخبط فيه الكثير من المسلمين في عصرنا الحالي. أما الأزمة السياسية والاقتصادية والعلمية المتردية لأغلب البلدان الإسلامية فلا داعي لإثارتها هنا، لأنها كما نعتقد انعكاس منطقي وواقعي للأزمة الأخلاقية والاجتماعية والمعرفية، ومن المتوقع أن لا تفضي الحقبة الراهنة إلى تطور أو تغير ولو نسبي، ما دام معظم الاستراتيجيات التنموية المعتمدة مستورة من سياقات أجنبية لا تمت بصلة إلى مجتمعاتنا المسلمة، التي تختلف عنها عقديا وتاريخيا وسوسيولوجيا وقيميا. لذلك، نرى أن المحاولات التحديثية التي تمّت منذ التحرر المجازي للبلدان العربية والإسلامية إلى حد الآن، لم تتجاوز ما هو شكلي و"موضوي" وتفاعلي سالب.

التطور حسب نظرنا المتواضع ينبغي أن ينطلق من قابلية ذاتية وداخلية، تُسخر مكاسب الحضارات الأخرى ومنجزاتها لصالح الذات، تماما كما صنع أجدادنا قديما. لكن اليوم يحصل العكس، لأننا نسخر ثرواتنا وخيراتنا لصالح الآخر؛ فالآخر الغربي أو الروسي أو الصيني هو المستفيد الأكبر من عمليات النقل الحرفي لنماذجه الصناعية والتنموية والتكنولوجية، ولا يتبقى لنا إلا الفتات الذي لا يساوي شيئا مما يُنفق في استيراد الأجهزة الطبية والصيدلية والرقمية والتسليح، وغير ذلك كثير.

وهذا يعني أنه قبل الخوض في التخلف الاقتصادي والتقهقر السياسي للمسلمين اليوم، لا مناص من التريث عند تخلفهم الأخلاقي والاجتماعي بكونه أم المشكلات وآفة الآفات، وهي ظاهرة خطيرة تحمل بين طياتها أكثر من مؤشر "سلبي" على مآل المسلمين في المستقبل؛ دولا وشعوبا.

ولا بد أن ننمذج لهذه الوضعية الحرجة حتى يكون كلامنا واقعيا. ونكتفي هنا بمثالين ملموسين ومعيشين. يتعلق المثال الأول بما يحصل لأشقائنا من تنكيل وإبادة ومحو من الوجود، بينما معظم الدول العربية والإسلامية غائبة تماما، ولا تحرك ساكنا لما يجري منذ حوالي سنة كاملة. بل وهناك من الدول البعيدة عنا؛ دينا وثقافة وتاريخا وجغرافيا هالها ما يحدث، فاستنكرت ذلك أيما استنكار، بالمواقف السياسية والبلاغات الإعلامية، بل وحتى بالمحاكمات القضائية للعدو.

وإذا سلمنا جدلا بأن الدول الإسلامية تختلف سياسيا وإيديولوجيا مع قادة المقاومة هناك؛ فما ذنب الشعب الأبي البريء؟ ألا يستحق على الأقل تنديدا رسميا بما يتكبده من تقتيل فظيع؟ ألا يستحق تدخلا عاجلا وحازما لدى الأصدقاء الحلفاء؟ هذا يعني إذن، وبلا شك، أن الأمة العربية والإسلامية تشهد سقوطا أخلاقيا، قبل أن نتكلم عن السقوط السياسي والعسكري؛ سقوطا عارما تساقطت معه قيم المروءة وإباء الضيم والكرم والشجاعة والحِلم التي تعلمناها من الشعر العربي الجاهلي، ونحن أطفال في المدرسة. وتساقطت معه أيضا مكارم الأخلاق التي جاء بها ديننا الإسلامي الحنيف، من أخوة وكرامة ومساواة وعدالة.

المثال الثاني يحيل على الألعاب الأولمبية التي تُنظم هذه الأيام في باريس، وقد حجّ إليها آلاف العرب والمسلمين من لاعبين ومشجعين في حقبة تاريخية وسياسية حرجة، تمر منها الأمة الإسلامية، حيث يُجتث أحد أذرعها بكونه آخر معقل للذود عن مسرى نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم. وكان من الأليق بالمسلمين أن يقاطعوا هذه الألعاب، ليظهروا للعالم على الأقل بشكل رمزي رفضهم القاطع لما يتعرض له أشقاؤهم. لكن وأسفتاه! لم يبال أحد لهذا الأمر، وكأن أولئك لا تجمعنا بهم، لا آصرة الدم، ولا رابطة العقيدة!

وحتى إذا افترضنا (كما قد يفسر البعض) أن تلك الألعاب محطة مهمة للحضور الإسلامي عبر الرياضة التي وصتنا السنة النبوية بممارستها، ومن شأن المسلمين الحاضرين أن يؤثروا في غيرهم بأخلاقهم الرفيعة وعاداتهم المتميزة، (كما حصل أثناء كأس العالم الأخيرة في قطر)، بل ويمرروا القضية من خلال رفع الأعلام والشعارات والهتافات والنقاشات الهامشية، وغير ذلك. لكن كل ذلك لم يحدث للأسف الشديد، لأن الكثير من العرب والمسلمين انساقوا مع سراب القومية والإثنية والعصبية المقيتة على حساب الأخوة الدينية التي تجمعهم، فانعكس ذلك في سلوك الكثيرين، الذي لم يخل من عنف لفظي، وإساءات متبادلة، وإحياء للنعرات القبيلة، وإذكاء لنيران السياسة، ومتابعة بشبق لمظاهر العري الأنثوي، حتى صارت شبكات التواصل الاجتماعي بمثابة حبل مكشوف للعالم؛ ننشر عليه غسيلنا المتعفن والمنتن ليلا ونهارا.

ألا يدل هذا كله على أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة تشهد انهيارا أخلاقيا جارفا غير مسبوق؟ ألا يمكن تفسير تقهقرنا السياسي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي بهذا النكوص الأخلاقي الغير مشهود؟ ألا تحمل هذه الأحداث والنوازل المتعاقبة إنذارا ربانيا يحذرنا من الانزياح الذي زغنا إليه، ولا محالة قد يليه انجراف ساحق إن لم ننتبه من غفلتنا العميقة قبل فوات الأوان؟

وصدق الله العظيم الذي قال في محكم كتابه:{فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا.}،العَنكبوت: 40.

***

بقلم: التجاني بولعوالي

الشعب الذي عانى الترويع والتغييب والجريمة المنظمة والقسوة والحرمان هو من أكثر الشعوب التي تحتاج لزمن ليس بالقصير كي تنعم براحة النسيان بعد أن روعها عمق المأساة وبشاعة الجرائم التي اقترفت بحقها وحق الوطن والإنسانية.

لا يختزل توصيف بشاعة وقسوة وقائع جرائم القتل والغدر بالخصوم ومخالفي الرأي على الفعل الذي طال قتلى الأحكام السلطوية أو الخصومات السياسية من الذين غيبوا واختفت آثار أجسادهم منذ العهد الملكي وما أعقبه في العهد الجمهوري الأول وأثناء فترتي حكم حزب البعث، وإنما هناك فئات ومجاميع لمخالفي رأي وضحايا نزاعات مجتمعية، وآخرون دون اتجاه فكري أو انتماء سياسي محدد، بينهم أعداد كبيرة من أطفال ونساء وشيوخ صفوا جسديا،وتم إخفاء جثثهم دون إعلام ذويهم أو وضع ما يرشد لقبورهم ولا حتى معرفة أسباب تصفيتهم. ومثلما اختفت الأجساد ومواقع الدفن، أخفيت الكثير من دلائل ووثائق وأوراق تحقيقيه وشهادات خاصة بعشرات التصفيات الجسدية دون مقاضاة ونيل القتلة العقاب أو ما يفصح عن هوياتهم ودوافعهم الجرمية، وحقيقة من يقف وراء تلك الجرائم.

مثلت حقبتا حكم حزب البعث في قدومه الأول عام 1963 ثم القدوم الثاني 1968 انتصارًا مفزعًا لروح الشر وإثارة الكوامن الوحشية عند البشر غير الأسوياء، حيث تعددت طبيعة الجرائم  وطرق تنفيذها وبأنواع وأساليب ومستويات وحشية مرعبة. وأفصحت تلك الفترتان عن سياسات طفحت جراءها الطبيعة الأكثر دمارًا وعدوانية، ومثلت تعبيرا منطقيا عن لوثات الفكر الحزبي العقائدي المدجن، بدءًا من هجوم كاسح وتقتيل وترويع لباقي الأحزاب السياسية حتى القريبة فكريا أو الحليفة له، وزامن ذلك حروب داخلية وعسكرة للمجتمع أعقبها حربان مدمرتان راح ضحيتهما آلاف. وبسبب تلك النزاعات والحروب وضع الكثير من شرائح وأفراد الشعب العراقي تحت طائلة التهديد اليومي بالإبادة الحقيقية لو استمر البعث في حكم العراق.

 فجرائم البعث ما كانت لتقتصر على قتل مخالفي الرأي والمعارضين والمشككين والضجرين والمتذمرين من سياسته، وإنما طال الترويع والقتل حلقات التجار والصناعيين والفلاحين ممن يجدون أنفسهم متورطين بشكل أو آخر بالارتباط بأحد رجالات السلطة أو منافسين له في المشاريع ذات الربحية. وطال التغييب والقتل المباشر أعضاء داخل الحلقات الحزبية البعثية من غير الممتثلين للتعليمات أو أصحاب رأي مخالف، أو ممن يطمحون بالتميز خارج أعراف الخدمة الحزبية لصدام ورجالاته. وكذلك الجنود والقادة من المعترضين والناقمين أثناء الخدمة العسكرية خاصة من المرغمين على المشاركة في حروب عدوانية هوجاء. ولم ينجُ من الإعدامات والتصفيات شخصيات رياضية وصناعية وزراعية وعلماء وأساتذة بحث وتدريس وطلاب جامعات ومدارس على خلفية الاختلافات الفكرية أو الخصومة الشخصية أو طرق التعامل مع النص المعرفي أو إثر خلاف وظيفي مع أحد المسؤولين أو أبنائهم. وحصد الموت الملايين من العراقيين من مختلف الأعمار بسبب السياسات الاقتصادية الرعناء التي جاءت على خلفية الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام داخليا وخارجيا، وأدت إلى حصار اقتصادي مروع مات جراءه المئات وتعطلت حياة الملايين .

استحضار تلك الجرائم تذكير مهم لحالة بشعة ومدمرة تشوه وتلوث ليس فقط تاريخ مؤسسات المجتمع المدني العراقي، ومنها الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والسياسية، بل كونها تشكل لوثة وشرخًا وسوءة في تاريخ العراق شعبا وحضارة ووطنا، ولم يعد نكرانها والنأي عن مراجعة أحداثها وعدم الكشف عن وقائعها وشخوصها غير مشاركة في تأبيد تلك الجرائم والخراب الذي لوث ومازال يلوث تاريخ العراق ويطعن بقيمه الأخلاقية والشك بثقافته المدينية.

وفي الراهن من الوقت فهناك شخصيات وفئات مجتمعية وأحزاب، مازالت تبرر تلك الجرائم وتشرعن عمليات القتل والتعذيب للخصوم، باعتبارها أسلوبًا عمليًا للحفاظ على خصوصية القيم المجتمعية والدينية والدفاع عن الوجود أمام الآخرين، واحتساب تلك الممارسة قضية عادلة ومنصفة تجاه المخالفين والخصوم.

في الوقت الذي تمثل هذه الممارسات تعبير عن الخطل والشح الثقافي والفساد والوحشية الأخلاقية، فهي تعد مقدمة لتعميم الرعب الذي ترافقه رغبة عارمة لتطويع الناس للقبول بالأمر الواقع والرضوخ في الأخير لحالات الانتهاكات البشعة باعتبارها مُسلمات واردة في سياق الصراع السياسي والمجتمعي، وهذا ما سعى له البعض من ورثة وحاملي تقاليد الثارات والتخندقات الحزبية.

وبذات الطبيعة من القسوة والإرهاب وبشاعة الوقائع الجرمية، يمكن توصيف التصفيات الجسدية لمخالفي الرأي الذي مارسته  بعض مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وعشائر وفئات مجتمعية عدة، خلال مراحل الصراعات التي امتدت وتنوعت طبيعتها وأسبابها على مر تاريخ العراق المعاصر ولحد الوقت الراهن. فقد ارتكبت من قبل بعض العراقيين جرائم قتل وتصفيات ضد أبناء جلدتهم، كان من الموجب أن تدون وتوثق وتدرس، ليشعر ويدرك الجميع مدى الاستهتار والخسة وقسوة أيادي وقلوب النخب والأفراد، من الذين أقدموا على اقترافها، ووحشية النفوس التي أمرت وشاركت في تنفيذها، ومنها جرائم داعش وعلى رأسها جريمتي معسكر سبايكر وسجن بادوش.

 ومثلها ما حدث خلال انتفاضة أيلول الجماهيرية عام   2019 وما تلاها،  التي خرجت فيها الجماهير مطالبة بحقوقها المدنية، فمورست ضدها شتى أنواع القسوة والغدر من قبل قوى محسوبة على أجهزة السلطة وفعاليات حزبية علنية ومضمرة. وراح من جراء عمليات الخطف والترويع والاغتيال أعداد كبيرة من الضحايا. وأقسى ما في تلك الواقعة تبجح البعض من القوى السياسية بالوقوف وبشكل سافر وعلني مع تلك الإجراءات القسرية الوحشية وانحيازها بالضد من التظاهرات المطلبية، لا بل توجيهها الاتهامات للجماهير المنتفضة بالعمالة للأجنبي واحتساب انتفاضتهم عمليات تخريب متعمدة لإيقاف مسيرة السلطة في بناء مشروعها الديمقراطي!! 

ومثلما الجرائم السابقة فقد كتم وشوش بشكل ممنهج على قضايا القتل العمد وأهمل الجانب القانوني والحقوق المشروعة للضحايا على الرغم من توفر الأدلة والشهود، لتضيع بعدها حقوق الضحايا ويعتم على بشاعة الجريمة وأساليب القهر والقسوة المفرطة التي جوبهت بها الانتفاضة.

وتماثلت في تاريخ العراق السياسي الاجتماعي وقائع هذه الجريمة الكبرى بمثيلاتها  من جرائم ضاعت فيها الكثير من حقوق الضحايا ولم تدرج في لوائح القضاء العراقي كحق لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه وإسقاطه لتقادم الزمن. ليتجرأ البعض ويطالب بل يفرض على ذوي الضحايا خيار النسيان والتكتم، من مثل  جرائم شباط الأسود عام 1963 وجرائم عامي 78 و79 وعمليات التهجير الوحشية للعراقيين من الكرد الفيليه والحرب ضد إيران وغزو الكويت والجريمة البشعة في حلبجة وتدمير القرى الكردية وقتل الأبرياء في عمليات الأنفال، وما أعقب انتفاضة آذار عام 1991 من قتل وتشريد وترويع للأبرياء، وأخيرًا وليس أخرا المكتشف من الوحشية والخسة التي طالت الآلاف من الذين دفنوا وهم أحياء.  تلك الأجساد الممزقة والمسحوقة التي ضمتها العشرات من المقابر الجماعية المزروعة على طول العراق وعرضه بسبب سياسات منظمة لمسمى حزب من اجل القضاء على مخالفي الرأي.

إن معاناة الشعب العراقي على أيدي البرابرة مهما كانت سماتهم ومسمياتهم وانتماءاتهم وأفكارهم ونواياهم، يجب أن تبقى قضية ماثلة أمام الرأي العام، وأن تحرص مؤسسات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية والمهنية على تغذية الذاكرة الشعبية العراقية بمشاعر الاستنكار الرفض لمثل تلك الأفعال. ودراسة الأسباب الحقيقية وراء هذا العنف المفرط  الذي يثار عند ابسط الخصومات.

وتعقد الحلقات الدراسية والمؤتمرات وبشكل دائم ومكثف لدراسة وتوثيق تلك الإساءات المرعبة والطرق الوحشية والابتذال السياسي الذي مارسه البعض بحق أنفسهم وأهليهم ووطنهم. 

*** 

فرات المحسن

لو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون عن مفهومه للقاعدة القانونية ...؟ لقال لك: قاعدة عامة ملزمة مكتوبة تنظم سلوك الأفراد .

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون عن مصادر القانون في العراق لقال لك: التشريع، العرف، الدين، قواعد العدالة، ولذلك نصت المادة الأولى من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة  1951 المعدل على الآتي:

1. تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها او في فحواها.

2 – فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة.

3 – وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي اقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الاخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

لو راجعت أية محكمة في العراق ...الى م يستند القاضي في أحكامه ...؟ القانون أم العرف أم الدين ...؟ لقال لك: قرارات الحكم في المحاكم العراقية تصدر بصيغة تقول: استناداً الى المادة كذا، الفقرة كذا، من قانون كذا...وأحيانا يضاف اليها: بدلالة المادة كذا من قانون كذا ...ولم أقرأ حكم قضائي يقول: تنفيذاً لرأي أبو حنيفة النعمان وبدلالة ما ورد عن الشافعي. فالقاضي ملزم بتطبيق القانون المكتوب والعام والملزم والصادر من جهة تشريعية في البلاد، اما عن قضية الشريعة والعرف فإنما قد تدخل ضمن المصادر التي يستلهم منها المشرع "واضع القانون" رؤيته عند صياغة القاعدة القانونية.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

ما هو موقف الدستور العراقي الحالي من قضية القانون والدين ...؟ لسارع الى القول:

الدين يعتبر مصدر أساسي للتشريع ولكن ليس المصدر الوحيد. فـ:

1. لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.

2. لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية .

3. لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

  قانون الأحوال الشخصية رقم 188 ﻟﺴﻨﺔ 1959 هل كان يشكل خروجاً على الشريعة الإسلامية...؟ لسارع بالقول: ابداً ... فالمادة الأولى منه تنص على:

2. إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه فيحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملائمة لنصوص هذا القانون .

 3. تسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه الإسلامي في العراق وفي البلاد الإسلامية الأخرى التي تتقارب قوانينها من القوانين العراقية .

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

ما سر العداء لقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959...؟ لقال لك:

هذا القانون محسوب على حقبة عبد الكريم قاسم والقوم يسعون بأيديهم واسنانهم لطمس حقبة عبد الكريم قاسم . ولو سألته ثانية: هل أن قانون الأحول الشخصية النافذ بقي على حاله كما شرع في حقبة عبد الكريم قاسم ...؟ لقال لك: لا ...أبداً فقد تم تعديله أكثر من 16 مره بدءً من السنة التي اغتالوا فيها عبد الكريم قاسم، وإليك التعديلات:

- بموجب القانون رقم 11 لسنة 1963/قانون التعديل الأول.

- بموجب القانون رقم 21 لسنة 1978/قانون التعديل الثاني.

- بموجب القانون رقم 72 لسنة 1979/قانون التعديل الثالث.

- بموجب القانون رقم 57 لسنة 1980/قانون التعديل الرابع.

- بموجب القانون رقم 156 لسنة 1980/قانون التعديل الخامس.

- بموجب القانون رقم 189 لسنة 1980/قانون التعديل السادس.

- بموجب القانون رقم 125 لسنة 1981/قانون التعديل السابع.

- بموجب قرار قيادة الثورة برقم 147 لسنة 1982 .

-بموجب القانون رقم 34 لسنة 1983

-  بموجب  القانون رقم 77 لسنة 1983.

- بموجب قرار لمجلس قيادة الثورة برقم 1357 لسنة 1984.

- بموجب قرار مجلس قيادة مجلس الثورة المرقم 1128 لسنة 1985 .

-بموجب القانون رقم 5 لسنة 1986/قانون التعديل العاشر.

- بموجب القانون رقم 65 لسنة 1986/قانون التعديل الحادي عشر.

-بموجب القانون رقم 51 لسنة 1995/قانون التعديل التاسع.

- بموجب القانون رقم 8 لسنة 1994/قانون التعديل الرابع عشر.

- بموجب القانون رقم 25 لسنة 1994/قانون التعديل الخامس عشر.

-بموجب القانون رقم 19 لسنة 1999/قانون التعديل السادس عشر.

-بموجب القانون رقم 22 لسنة 1999/قانون التعديل السابع عشر.

- بموجب قرار مجلس قيادة الثورة رقم 127 لسنة 1999.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

هل ان تعديل قانون الأحوال الشخصية الأخير الذي تسبب في ضجة في الأوساط الشعبية وعارضه قانونيون وأطباء وناشطون مدنيون والنساء على نطاق واسع وأيضاً بعض الفقهاء ورجال دين عراقيون معروفون يأتي من الرغبة في استنقاذ المرأة..؟ أم الطفل...؟ أم الأسرة...؟ أم أن الرغبة من وراء ذلك إخلاصاً للدين الحنيف والتزاما بأحكامه ...؟ وهل أن الشريعة الإسلامية مع كامل الإقرار بمكانتها السامية تصلح في وقتنا الراهن أن تكون مصدراً وحيداً وحرفياً للقوانين...؟ لسارع الى القول: لا...لأن قطع يد السارق ورجم الزاني والزانية مع انها ترتبط  بنصوص في القرآن الكريم ولكن عملياً معظم القوانين في الدول الإسلامية لا تعمل بها واستبدلتها بعقوبات بديلة مثل السجن أو الغرامة باستثناء بعض أنظمة الحكم ذات الصبغة الأيديولوجية المتطرفة مثل طالبان، وذلك لا يعني البته بأن أنظمة الحكم في معظم الدول الإسلامية كافرة أو مرتدة عن الإسلام...ثم أن الدين يربي النفس ويأخذ بالنوايا أما القانون فيتعلق بالسلوك ولا يأخذ بالنوايا إنما الأفعال، أمر آخر: هل وجدت قرار حكم صادر من المحاكم العراقية منذ تأسيها يقول: استنادا الى ما جاء بمسند فلان أو صحيح فلان أو رأي فلان من الفقهاء ...؟ أم أنه يقول: استناداً الى ما جاء في المادة رقم كذا من قانون رقم كذا...؟ أما عن مصلحة الزوجة والطفل والأسرة ووحدة المجتمع فإن كل الآراء ذهبت الى ان ما جاء في التعديل الأخير يتناقض معها بشكل صارخ.

السؤال الأخير للمتعلم الذي ليس شرطاً ان يكون مختص بالقانون: إذن ما هو الباعث برأيك ...؟ الجواب هو: تريد الصدكَ لو أبن عمه ...؟ تقول له: بل اريد الصدق. يقول لك: شوف عيني أقولها بضرس قاطع كما يقول فقهاء الدين إن الباعث وراء ذلك هو: جموح ساسة "الشيعة" وليس الشيعة بفرض السطوة على مكونات الشعب العراقي الأخرى من خلال استغلال قضية أن الأغلبية السكانية في العراق شيعية في حين أن ذلك يتعلق بالانتساب وليس بالتبني الأيديولوجي فالمنتسبين للمكون الشيعي من العراقيين منهم المدني ومنهم العلماني ومنهم اليساري ومنهم الشيوعي ومنهم الديمقراطي ومنهم البعثي ومنهم اللاديني ومنهم الماسوني ومنهم البهائي ...ألخ

وفي نفس الوقت يعكس جموحهم لفرض السطوة على المنتسبين للمكون الشيعي من خلال الادعاء زوراً انهم وحدهم من يمثل الشيعة في العراق وكل ذلك محض هراء...

نفس الباعث في تمسكهم بالمكوناتية ونفس الباعث في اصرارهم على تقنين عيد الغدير بعطلة رسمية...وعندما يركلون تركل معهم كل قوانينهم ولكن يبقى ثابت في الأذهان كم التخلف والتزمت والادعاء زوراً التمسك بالدين والإخلاص لعلي وجعفر الصادق عليهما السلام.

***

د. موسى فرج

 

أصبح موضوع انهيار الحضارة الإسلامية الشغل الشاغل لعقول معظم المفكرين والمثقفين العرب، وبات يؤرّق عقولهم ويقضّ مضاجعهم. لم يكن مصطلح انهيار الحضارة الإسلامية كافياُ لوصف تدهور الحضارة، بل إنهم ذهبوا إلى تفضيل استعمال مصطلحات الانحطاط والسقوط والتخلّف، للتعبير عن حالة الحضارة الإسلامية في واقعها الحالي، وكأن انهيار الحضارة الإسلامية هو الحدث الوحيد في تاريخ البشرية الذي سقطت فيه حضارة ولم تنهض بعد انهيارها، ولم يسبق له مثيل في التاريخ.

بحث الباحثون، وما زالوا يبحثون بإسهاب أسباب تخلّف الحضارة الاسلامية، وتفنّنوا في استعراض مسببات التدهور ومعوّقات النهضة، وما زالوا يندبون التخلّف الحضاري في مجتمعاتنا. ظهر العديد من الكتب والمؤلفات التي تدرس وتناقش موضوع تخلّف الحضارة الاسلامية، كَتَبها كتّاب ومثقفون عرب مشهورين ويشار لهم بالبنان، يدعون إلى التجديد في الفكر الثقافي العربي، يبحثون فيها عوامل التخلّف ووسائل النهوض، لكن معظم هذه المؤلفات، إن لم نَقُل كلّها، لم تأتي بفكرة واحدة تصف الواقع المرير بوصف مُقنع وحقيقي لِما حدث ويحدث للمجتمع العربي.

انهارت الحضارة الإسلامية وسقطت بغداد عام 1258م بعد أن غزاها المغول، ودُمرت كل معالمها الحضارية وكتُبها ومكتباتها، وهجَرها حكمائها وعلمائها، وكان ذلك إعلاناً بموت الحضارة الإسلامية في المشرق العربي. حدث هذا قبل أكثر من سبعة قرون وما زال حاضراً بقوة في ثقافتنا الحالية، ونعتبره سبب تخلّفنا. سقطت الاندلس عندما سقطت غرناطة عام 1492م على يد الإسبان، ويمثل هذا التاريخ إعلاناً لموت الحضارة الإسلامية في المغرب العربي، بعد أن تعرضت لتدمير ممنهج لكل ما يخص المسلمين والحضارة الإسلامية. حدث ذلك قبل أكثر من خمسة قرون وما زال حاضراً بقوة في ثقافتنا الحالية ونعتبره سبب تخلّفنا.

لا أعلم متى سنعرف أن الأحوال والأسباب تتغير بمرور الزمن، وإن دوام الحال من المحال. ولماذا نَقبل ونعتقد أن حدثاً مضى عليه سبعة قرون هو السبب المباشر والأهم في تخلّف مجتمعنا العربي؟.

سقوط الحضارة الإسلامية

انهارت الحضارة الإسلامية قبل عدة قرون، شأنها في ذلك شأن كل الحضارات السابقة، لا اختلاف بينهم. شبّه ابن خلدون تطوّر الحضارات بنمو الانسان، فكما يولد الانسان طفلا صغيراً، ثم ينمو ويترعرع ليصل إلى أشُدّه، بعدها تبدأ مرحلة الكبر والشيخوخة والانهيار. تولد الحضارة وهي صغيرة وضعيفة ثم تنموا وتكبر لتصل إلى قمة عطائها ومجدها، وبعدها تظهر فيها عوامل الانهيار والانحطاط فتنتهي وتموت. وهذه سنة التطور في التاريخ وسنة تاريخ البشرية، مرّت بها كل الحضارات، ولم تختلف الحضارة الإسلامية عن باقي الحضارات من حيث التطور والانهيار. فأين أصبحت الحضارات السابقة!! ألم تنهار جميعها وتنقرض بدون استثناء، ولَمْ تنهض من كبوتها أيّ حضارة من الحضارات السابقة. فلماذا تسيطر على عقولنا مأساة انهيار الحضارة الإسلامية. لنأخذ الحضارة الفرعونية كمثال، كونها من أقدم الحضارات، دامت أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وتعتبر من الحضارات الراقية في تاريخ البشرية، ونتساءل: ألم يدب فيها الضعف والفساد والانحطاط ثم سقطت وماتت واندثرت بدون رجعة.  ومثلُها كانت حضارات وادي الرافدين (السومرية والأكدية والبابلية والآشورية)، اتسمت بالقوة والعظمة، ثم الانحطاط والانقراض. ولا تُستثني من هذه القاعدة الحضارات الفارسية واليونانية والرومانية، فكلها انقرضت بعد نهضة عامة شاملة مبهرة. فلماذا نلوم أنفسنا على انحطاط وسقوط حضارتنا الإسلامية؟ وكلّنا يعلم أن سقوط الحضارات أمر حتمي لا بد منه.

من المعلوم ايضاً أن كل الحضارات السابقة انهارت بسبب عوامل داخلية، وتتمثل هذه العوامل الداخلية بتفشي الفساد وانهيار الاخلاق. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:

(وتلك الأيام نداولها بين الناس. آل عمران 140).

ويقول الشاعر الكبير أحمد شوقي:

إنما الأخلاق ما بقيت

فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

بعد أن تصل الحضارة إلى أوج عظمتها، تكون مفعمة بالنِعم والترف والبذخ والمُغالات في كل شيء، ثم يأتي جيل الحكّام الضعفاء الذين ترَبَوا وترعرعوا في نعيم الملك، ولم يواجهوا الظروف الصعبة لتدعيم الحكم، فتضعف إدارة الدولة، وتزداد الضرائب على الشعب، وينتشر الفقر والتذمر بين الناس. ويواصل الانهيار الحضاري مسيرته حسب نظام التاريخ، إلى أن تأتي القشة التي تقصم ظهر البعير، فيحدث هذا الانقلاب الحضاري عندما تظهر حضارة جديدة مُهَيأة وقادرة على قيادة العالم فتقضي على الحضارة المنهارة، وتؤدي دورها الحضاري في سلم الحضارات البشرية، فتبدأ صفحة جديدة مشرقة في تاريخ البشرية. هذا ما جرى لكل الحضارات البائدة، ولا تُستثنى الحضارة الإسلامية من هذا النظام العالمي.

والعبرة التاريخية التي يجب أن نفهمها من هذا السياق التاريخي هي؛ لماذا لا نعتبر انهيار الحضارة الاسلامية نتيجة طبيعية لتطور قانون الحضارات، ونتجاوز هذا المأزق الذي دمّر عقولنا وثقافتنا، ونبحث عما هو فعلا يمثل عيباً في تفكيرنا وواقعنا. هكذا تتعاقب الحضارات، وهكذا ترتقي، وهكذا تموت. وقد قيل أيضاً " لو دامت لغيرك ما وصلت اليك " فليكن معلوماً عندنا، إن انهيار الحضارة الإسلامية ضرورة حتمية واجبة وقانون من قوانين البشرية، وليس عيباً أو نقصاً فيها أو في دينها أو عقيدتها أو ناسها. فكفانا بكاءً على سقوطها ولنفخر بها كونها سَطعت في تاريخ البشرية وأضاء نورها طريقاً من طرق التقدم الحضاري البشري. ويشهد التاريخ على ذلك.

الحضارة الإسلامية والفكر العربي

يبدو أن هناك خلط واضح في المصطلحات والمفاهيم التي يستعملها الكتّاب والمؤلفون في ابحاثهم عن النهضة الفكرية في المجتمع العربي، وبالتالي فإن هذا الخلط انعكس في ثقافة الناس أيضاً. كثيراً ما تستعمل مصطلحات الحضارة الإسلامية والإسلام والنهضة الفكرية، وكأنها مترادفات يَجزي أحدها الآخر، وتحديداً مفهومَيّ انهيار الحضارة الإسلامية وتخلّف الفكر أو الثقافة العربية. فمصطلح الحضارة الإسلامية غير مصطلح الإسلام وكلاهما يختلفان عن مفهوم النهضة الفكرية، لذا لا يجوز الخلط بينهم.

الملاحظ إن معظم الباحثين يميلون إلى استخدام مصطلح انهيار أو تخلّف الحضارة الإسلامية للتعبير عن واقع الأمة المتخلّف. فالمثقفون العرب، على سبيل المثال، يحبذون استعمال مصطلح التخلّف الإسلامي وانهيار الإسلام وسقوط الإسلام وما شابَه ذلك للتعبير عن تخلّف الامة العربية الفكري والثقافي، وكأن الإسلام هو السبب الحقيقي والمباشر لِما تعيشه الامة العربية من انحطاط وتأخر فكري وثقافي وحضاري. والواقع إن ما تعانيه مجتمعاتنا العربية هو تخلّف وانحطاط واضح في الفكر العربي حصراّ، لا علاقة له بانحطاط الحضارة الإسلامية التي انهارت قبل أكثر من سبعة قرون.

إن المجتمع الإسلامي أعم وأشمل من المجتمع العربي، الذي هو جزء من المجتمع الإسلامي. يتميّز المجتمع العربي الخاص عن المجتمع الإسلامي العام بالتدهور والانحطاط. فتركيا والبانيا واندونيسيا وإيران وكازاخستان وأذربيجان، دولاً إسلامية غير عربية، تشكل تكتل اسلامي أكبر بكثير من البلدان العربية الإسلامية، وهذه الدول الإسلامية لا تعاني من تخلف فكري أو ثقافي كما هو الحال في المجتمعات العربية، ولا تعاني من التدهور والانحطاط الذي يبحث عنه مثقفونا المجدِدون للدين والثقافة والفكر. ولا تعتبر هذه الدول متخلفة بمقاييس عصرنا الراهن، لكن المجتمع العربي هو مجتمع متخلف بمقاييس العصر الراهن. ولذلك يجب علينا أن نركّز على تخلّف فكر وثقافة العقل العربي تحديداً، لكونه يمثل المشكلة الأساسية قيد البحث، ولدراسة أسباب التخلف وعوامل ومسببات النهضة، والابتعاد عن التركيز على الحضارة الإسلامية أو الفكر الإسلامي، كسبب مباشر لانحطاط العقل العربي، لأن العالم الإسلامي كما أوضحت، أعم وأشمل من العالم العربي. ولو كان الإسلام أو انهيار الحضارة الإسلامية هو السبب وراء تخلّف المجتمعات، لتخلّفت المجتمعات الإسلامية غير العربية أيضاً، مثل تركيا والبوسنة والهرسك والبانيا وإيران وغيرها.

وختاماً، فإن هذه دعوة للتفكير خارج الصندوق (Thinking outside the box)، وهي دعوة لكل من يبحث في أسباب وعوامل انحطاط ونهضة الفكر العربي، للتوقف عن الدوران في حلقة مفرغة اسمها انحطاط الحضارة الإسلامية، ذلك أن هذا العامل لم يحقق أي نتائج إيجابية منذ اعتباره السبب المباشر والاهم في تخلّف مجتمعنا، أيّ منذ بدء النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر إلى الآن، وأعطى تأثيرات سلبية كثيرة زعزعة ثقة المتابعين لمثل هذا الطرح العقيم. فلنبحث عن حلول أخرى موضوعية وحقيقية للتخلف والنهضة.

***

د. صائب المختار

 

صقور الحرب وتجارها يواصلون تهديد البشرية بالفناء

في السادس من اَب الجاري تحل الذكرى السنوية التاسعة والسبعون لأفضع جريمة حرب دولية إقترفتها الإدارة الأمريكية برئاسة هاري ترومان بإلقاءها في نهاية الحرب العالمية الثانية،وكان الجيش الياباني على وشك الإستسلام، أول قنبلة ذرية على مدينة هيروشيما، يوم 6 / 8/ 1945، تلتها بعد 3 أيام بقنبلة ثانية على مدينة ناغازاكي، في ساعة كان مئات الآلاف من السكان متواجدين في البيوت والمؤسسات والمصانع والمدارس والجامعات والمستشفيات والمتاجر، والشوارع، مسببة أبشع  مجازر الإبادة البشرية، التي لم يشهد لها التأريخ المعاصر مثيلآ، حيث دمرتا المدينتين عن بكرة أبيهما، وحولتهما إلى أكوام من اللهب والرماد، وأهلكتا أكثر من 226 ألف يابانياً، منهم 144 ألف في هيروشيما و82 ألف في ناغازاكي،وشكل المصابون  ثلاثة أضعاف عدد القتلى، ومات منهم فيما بعد نحو 30 في المائة، متأثرين بالجروح والحروق والتسمم الإشعاعي والإصابة  بالأمراض والوفيات السرطانية،خاصة سرطان الدم، والأورام الخبيثة.وكان معظم الضحايا من المدنيين الأبرياء. وعاش المجتمع الياباني تداعيات وخيمة، صحية ونفسية وبيئية وإجتماعية رهيبة.

أن الذاكرة الحية لن تنسى تلك الفضاعات ولذا يستذكرها أعداء الحروب مع الشعب الياباني في كل عام، اَملين ان لا تتكرر، وفي نفس الوقت يتصدون لصقور الحرب وتجارها، الذين يواصلون إنتاج وتطوير المزيد من الأسلحة النووية ونشرها،بدلآ من القضاء على ترسانتها، غير مبالين بتهديدها لمصير البشرية في ظل تصاعد التوتر الدولي الراهن،الذي يهدد العالم بخطر نشوب حرب عالمية ثالثة، وإحتمال ان تُستخدم خلالها الأسلحة النووية.

تعزيز الترسانة النووية وتحديثها

الترسانة النووية الراهنة تختلف كثيراً عما كانت عليه أبان الحرب العالمية الثانية.فقد كانت نوع واحد - قنابل كبيرة ، تزن نحو 4.5 أطنان، وكانت معبأة باليورانيوم، وألقيت من الطائرة على ارتفاع 1980 قدماً، أصبحت اليوم أكثر تنوعاً (قنابل وصواريخ وقذائف)، وأكثر تطوراً، وأسهل حملآ وإطلاقاً، وأشد تدميراً وفتكاً بما تحتوية من مواد متفجرة وشديدة الإشعاع، حيث ان قنبلة صغيرة واحدة يمكنها تدمير مدينة بكاملها عن بكرة أبيها..

والطامة ان العالم يشهد  تصعيد دولي، وسباق تسلح نووي جديد. وقد إرتـفـع الإنفـاق الـعـسـكـري الـعـالـمـي لـلـعـام الـثـامـن على الـتـوالـي ليصل إلـى مـا يقدر بنحو 2240  مليار دوالر، وهـو أعـلـى مستوى سجله معهد سـتـوكـهـولـم الــدولــي لأـحـاث الـسـلام (SIPRI)عـلـى الإطــاق.:وقــد أنـفـقـت الـحـكـومـات فــي جـمـيـع أنحاء العالم  في عام 2022 متوسط 6.2 في المئة من ميزانياتها على الجيش أو 282 دولار للشخص الواحد.. لو أُنفقت هذه المبالغ الهائلة لصالح السلم والبناء وحل المشاكل الساخنة لأنقذت شعوب العالم من الفقر والجوع وأغلب الأمراض، ولجعلتها تعيش بخير وهناء وسلام دائم, بينما، قامت، بدلآ من  ذلك، بتدهور الوضع الأمني العام في العالم،خاصة مع إستمرار الحرب الروسية الأوكرانية 30 شهراً، وتحولها الى حرب إستنزاف ، وإستمرار جرائم الإبادة الجماعية قي غزة، والإعتداءات على سوريا،  وعلى  إيران، من قبل إسرائيل،واَخرها إغتيال القائد الفلسطيني هنية في طهران، والتصعيد الخطير الذي أحدثه  في المنطقة،  بدعم أمريكي صلف، واَخره نشر البنتاغون سفن تابعة للبحرية ومدمرات إضافية في الشرق الأوسط لحماية إسرائيل..

وعلى الرغم من تأكيد الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن في بيان مشترك لها في العام 2022 على الإلتزام بمنع نشوب حرب نووية وتجنب سباق التسلح، والمباحثات الجارية بين موسكو وواشنطن حول تمديد ستارت والإتفاق على خفض إنتاج الأسلحة الهجومية الإستراتيجية، فإن المخاطر شهدت زيادة مضطردة لاسيما مع مواصلة حلف الناتو لإستفزازاته لروسيا وللصين، مما دفع بهما الى  رفض مواصلة التفتيش على مواقعهم االنووية، فيما لم تقم واشنطن بإتلاف ترسانتها من الأسلحة الكيمياوية، التي إعترفت مراراً بإمتلاكها لها ووعدت بالتخلص منها.

ولعل الأخطر هو عدم توقف الولايات المتحدة وروسيا عن تعزيز ترساناتهما النووية. فقد قدرت معاهد الأبحاث المتخصصة عدد الرؤوس النووية في العالم بـ 15620 (المُعلن 12512) رأساً، ما تزال روسيا والولايات المتحدة تمتلكان  قرابة 90% من الترسانة النووية العالمية، حيث تملك الولايات المتحدة أكبر ترسانة بـ 7000 ، تليها روسيا 6500، ثم الصين 500، وبريطانيا 300 وفرنسا 300 وباكستان 140 والهند 140 وإسرائيل 90، وكوريا الشمالية 50 رأساً.

وتضم الترسانة النووية الأميركية 1644 رأسا حربيا في وضع الإطلاق الاستراتيجي و 3665  رأسا حربيا في وضع التخزين أما الترسانة النووية الروسية فتضم1588  رأسا حربيا في وضع الإطلاق الاستراتيجي و 4390 رأسا حربيا في وضع التخزين.

ويؤكد العلماء ان إستخدام نصف العدد المذكور بإمكانه فناء البشرية برمتها.

ولفت الخبراء الى كذب إجراءالدول النووية تخفيضات في ترسانتها النووية، لأنها تخفض فقط الرؤوس الحربية التي تم سحبها من الخدمة سابقًا، والتي ما تزال الولايات المتحدة وروسيا لليوم تقومان بتفكيكها..

وأكد معهد(SIPRI) ان الدول النووية بدلآ من نزع ترسانتها، تواصل في الواقع عملياً تحديثها، خلافاً لرغبة المجتمع الدولي، وان واشنطن وموسكو منخرطتان في برامج تحديث ضخمة ومكلفة للغاية، تستهدف الأنظمة الناقلة والرؤوس النووية وإنتاجها. وهو ما شجع بقية الدول التي تمتلك أسلحة نووية على توسيع ترساناتها.

ولا يقتصر إنتشار السلاح النووي على الدول الـ 9 المالكة له، إذ توجد 5 دول أوروبية، لا تملك برنامجا نووياً، لكنها تنشر أسلحة نووية أمريكية على أراضيها في إطار اتفاقية "الناتو". وثمة 25 دولة أخرى تنشر الأسلحة النووية الأمريكية على أراضيها  "كوسيلة لتعزيز أمنها القومي". وهناك فئة ثالثة من الدول التي تمتلك مفاعلات نووية للأغراض السلمية قابلة للتطوير لتصنع قنابل ذرية فتاكة.

إستفزازات ومبررات

تبرر روسيا وجود ترسانتها النووية في أراضيها لحماية أمنها القومي، وتؤكد بأنها لا تخطط لمهاجمة دول الناتو، ولا يوجد لها ترسانة خارج أراضيها، كما فعلت أمريكا، لكنها  "مضطرة أن توجه أسلحتها نحو أتباع أمريكا، التي إنضمت الى حلف الناتو وتهدد روسيا.

كما تعتبر ان حلف الناتو يواصل إستفزازاته لها، بإعلان قمته الأخيرة " أن روسيا لا تزال تمثل أكبر تهديد مباشر على أمن الحلف"، محاولآ تبرير وجوده، وتعزيز سيطرة واشنطن على الأقمار الأصطناعية الأوربية".وهو يواصل تمدده الى حدودها، فأصبح يضم 32 دولة بعد ان بدأ بـ 12 دولة، وإقام المزيد من القواعد العسكرية لتطويق روسيا، ونشره لصواريخ " باتريوت" في بولونيا  ورومانيا وأوكرانيا، ونقله أنظمة صواريخ "تايفون" الى الدنمارك والفلبين، وينوي نشر صواريخ أمريكية بعيدة المدى في ألمانيا، تتضمن صواريخ SM6. و"كروز" من طراز "توماهوك"،وأسلحة فرط ضوتية متطورة.

وكل ذلك هو جزء من الخطة الاستراتيجية الأمريكية لتطويق روسيا بألقواعد العسكرية وبأنظمة الدفاع الصاروخي. و" لذا أصبحنا نشهد- يقول الرئيس بوتين- إنطلاق دعوات حمقاء ومتهورة من الدول المعادية لروسيا، مثل بولونيا ودول البلطيق واليونان، تحت تأثير إغراء الأمريكان لها بنشر أسلحة نووية على أراضيها المتاخمة لروسيا, وكأنها تتوسل ضربة نووية مدمرة بدل الابتعاد بشعوبها القليلة العدد وأوطانها المحدودة المساحة عن ويلات الحرب… ظناً منها انها ستصبح دول نووية رادعة, في حين انها ستكون هدفاً لأي رد نووي روسي يمحوها عن بكرة أبيها "..

ورداً على إستفزازها، قال بوتين:"ستضع  روسيا صواريخ مماثلة في مواقع يسهل منها قصف الغرب"، ولذا "ستستأنف إنتاج صواريخ متوسطة وقصيرة المدى ذات قدرات نووية ". وأنه "لا يستبعد إحتمال إرسال أسلحة روسية الى كوريا الشمالية وفيتنام"وأن دولته "استكملت تحديث 95% من الأسلحة النووية الروسية الاستراتيجية، وبخاصة تلك التي تشكل الذراع البحري، وهو الأهم والأخطر في ثالوث الردع النووي"، ودراسة مكلن نشرها.

من جانبها،، صعدت الصين الى المرتبة الثالثة في الترسانة النووية-المُعلن 360، بينما يزعم البنتاغون بأنها 500 رأساً نووياً.وتبريرها " لحماية أمنها القومي".وطالبت بكين حلف الناتو بالتوقّف عن التحريض على المواجهة، معتبرة بيان قمة الناتو الأخيرة إستخدم لغة عدائية، وتضمن المحتوى المتعلق بالصين حيال العلاقات الصينية-الروسية الوثيقة، استفزازات وأكاذيب:.

كما وترى بكين أن الشركاء الغربيين في اتفاقية "أوكوس" الأمنية، يعملون على زيادة خطر الانتشار النووي في منطقة جنوب المحيط الهادئ

نحو عالم خالِ من الأسلحة النووية

لا إستقرار للسلم والأمن في العالم مع إستمرار سباق التسلح، وتعزيز وتحديث الترسانة النووية، والتهديد بالردع النووي، وتصعيد التوتر الدولي المهدد للعالم  بخطر نشوب حرب عالمية ثالثة، وإحتمال ان يُستخدم خلالها الأسلحة النووية.

من هذا المنطلق أعلن الخبير الدولي دان سميث، مديرSIPRI خلال عرض التقرير السنوي لمؤسسته لعام 2024: "إننا نعيش في واحدة من أخطر الأوقات في تاريخ البشرية".

فالمطلوب لدرء الخطر الماثل ان تواصل القوى المحبة للسلام، والمناوئة للحروب، جهودها الحثيثة وبضمنها تنظيم حملة عالمية واسعة ومتواصلة للضغط على الدول المالكة للإسلحة النووية بالإنضمام لـ "معاهدة حظر الأسلحة النووية"، التي تبنتها الأمم المتحدة في تموز 2017 ودخلت حيز التنفيذ في كانون الثاني 2021، والرامية لعالم خال من الأسلحة النووية.وبذلك، وبتنفيذ الإتفاقية، يتم لجم جماح صقور الحرب وتجارها الذين يعتقدون بـ"ضرورة" وجود المزيد من الأسلحة، وأنه " يمكن كسب" حرب نووية !!

***

د. كاظم المقدادي

تمهيد: ماكسيم رودنسون (1915-2004)، مؤرخ وعالم اجتماع ماركسي، متخصص في الإسلام والحضارات العربية. كان والداه شيوعيين يهوديين روسيين بولنديين فرا من المذابح في روسيا ليستقرا في باريس، وتوفي والده في أوشفيتز حيث تم ترحيله عام 1943. درس رودنسون اللغات الشرقية وأصبح أستاذا للغة الإثيوبية الكلاسيكية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا عام 1955، وكان قد دافع في عام 1950 عن أطروحته في التاريخ وأصبح دكتورا. وأصبح من أعظم المستشرقين المعاصرين، إذ كرّس حياته لدراسة الإسلام والحضارات العربية. لكنه اشتهر كمؤرخ الأديان، كان يتحدث العربية والعبرية والتركية. اشتغل عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي من عام 1937 إلى عام 1958. لكنه ترك الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1958 لأنه رفض مضامين العضوية الحزبية التي اعتبرها شكلا من أشكال الالتزام الديني. اشتهر بكتابه سيرة محمد (1961م)، وهو دراسة مادية لظروف ظهور الإسلام، بالإضافة إلى سلسلة من الكتب التي ألفها طوال حياته حول العلاقات بين المذاهب الناتجة عن فكر محمد والاقتصاد الاجتماعي وأحوال المجتمعات الإسلامية. وبقي ماركسيا ولكنه ذاع صيته بين الخمسينيات والتسعينيات، كأحد أشهر المستعربين في فرنسا. يتمتع بثقافة موسوعية رائعة، حيث ألف آلاف التقارير، وكان أيضًا شخصية مؤثرة في اليسار الفكري، حيث طلبت منه وسائل الإعلام بانتظام التعليق على الأحداث الجارية في البلدان الإسلامية. يُعرف رودنسون أيضًا بمواقفه بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث عمل منذ عام 1967 في المفاوضات بين اليهود والفلسطينيين، منتقدًا السياسة الإسرائيلية المتمثلة في الاستعمار وإذلال الفلسطينيين. لكنه رفض بشكل تام اعتماد الفلسطينيين والعرب الكفاح المسلح من أجل التحرير من الاستيطان الصهيوني على غرار ما فعلته جبهة التحرير الجزائرية مع الاستعمار الفرنسي.  لكنه خلص الى النتيجة التالية:" "الصهيونية هي حالة خاصة جدًا من القومية. إذا تم نزع سلاح النقد من النوع القومي البحت أمامه، فمن ناحية أخرى، يكون النقد الكوني أكثر رسوخًا من الناحية الفكرية." فكيف ساهم هذا المستشرق في نقد العقل اليهودي وقدم الورقات اليسارية الأولى في تفكيك المشروع الصهيوني؟

الترجمة

"ظهرت كلمة "الصهيونية" في نهاية القرن التاسع عشر للإشارة إلى مجموعة من الحركات المختلفة التي كان عنصرها المشترك هو مشروع إعطاء جميع يهود العالم مركزًا روحيًا أو إقليميًا أو دولة، يقع بشكل عام في فلسطين. لقد ضمن نجاح الصهيونية السياسية والموجهة نحو الدولة الأولوية وحتى التفرد بهذا المعنى للكلمة. وبمجرد تحقيق هدفها، وجدت الحركة الأيديولوجية من النوع السياسي نفسها في مواجهة مشاكل جديدة تتطلب تعريفا جديدا. وكثيرًا ما استخدم الأيديولوجيون المناهضون للصهيونية مصطلح "الصهيونية" بطريقة متساهلة. يرى البعض أن الصهيونية تنبع من رسالة قومية دائمة لليهود، وبالتالي فهي مشروعة ومفيدة. وبالنسبة للآخرين، فهو يمثل خيانة أساسية للقيم العالمية، سواء تلك الخاصة بالدين اليهودي، أو الإنسانية الليبرالية، أو الأممية البروليتارية. وبالنسبة للآخرين، وأحيانًا لنفس الأشخاص، فإن هذا قبل كل شيء هو انبثاق شرير إما للجوهر الضار لليهود أو للرأسمالية الإمبريالية. وسوف ندرس هنا بشكل أساسي الأيديولوجيات التي تهدف إلى إعادة تجميع اليهود، أولاً في الإطار العام للاتجاهات نحو إعادة التجميع أو إنشاء مركز دولة للأقليات المشتتة و"المدنيّة"، ثم فيما يتعلق بالمفاهيم اليهودية المختلفة التي، على مر العصور، التاريخ، يفضل فلسطين كموقع لمثل هذا المركز. سيتم تفسير تحديث الأول فيما يتعلق باليهود كنتيجة للإمكانيات التي فتحت أمام مشروع واقعي من هذا النوع بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية في نهاية القرن التاسع عشر، وهو مشروع ساعده أيضًا واقع الوضع اليهودي في أوروبا. وسنتناول بإيجاز نتائج تحقيق هذا المشروع في فلسطين العربية، أولاً بالنسبة للعرب، وخاصة الفلسطينيين، ثم بالنسبة للكيان اليهودي والتوجه الصهيوني نفسه. عندها فقط يمكننا تحديد عناصر التقدير والنقد الأخلاقي.

أولاً: مصادر أيديولوجية لإعادة التجميع في فلسطين

"الصهيونية" أو النزعات الجاذبة للمركز لمجموعة مشتتة.

 كقاعدة عامة، يمكن لمجموعة دونية أن تؤدي، إلى جانب مطالب المساواة ورغبات التكامل، إلى ظهور ميول انفصالية، خاصة، ولكن ليس حصرا، إذا كانت غير متجانسة مع المجتمع المحيط بها. إذا كانت هذه المجموعة مشتتة، فإن الاتجاه الانفصالي يطمح أحيانًا إلى إنشاء مركز مستقل إلى حد ما في منطقة معينة، ومن بين أمور أخرى، مركز يتمتع باستقلالية القرار التي يمنحها هيكل الدولة. ويمكننا بعد ذلك أن نتحدث عن "الصهيونية". يتم توفير رمز لهذا من خلال أسطورة الأمازون التي تعبر على الأقل عن أن هذا النوع من الاتجاه كان يُعتقد أنه يمكن تصوره بالنسبة للجنس الأنثوي. وهكذا كانت "المستعمرات" بالمعنى القديم تجمع بين المغتربين الذين، في بعض الأحيان، كان يفضل تجنيدهم من فئات غير راضية عن المدينة. وكان لبعض الهجرات القبلية نفس الطابع. وكذلك قامت في أمريكا المستعمرات المتزمتة ثم الاشتراكية. إن صياغة مشروع دولة من هذا النوع تتطلب توافر شروط مثل الحد الأدنى من الوعي المشترك بالهوية والتبادلات المنتظمة بين المجموعات المحلية (الشروط غير متوفرة بين الغجر على سبيل المثال). ويصبح الاتجاه في هذا الاتجاه أقوى عندما تتعرض المجموعة المعنية للإحباط والتنمر والاضطهاد. من المحتمل بشكل خاص أن ينشأ مشروع الدولة بين المجموعات المشتتة التي تمثل بشكل أو بآخر طابع المجموعة العرقية والتي يوجد بينها نموذج الدولة العرقية في تاريخها أو في مثال الآخرين. إن أيديولوجية القومية الحديثة، التي تقترح القيم الوطنية بشكل عام باعتبارها عليا، تشجع بقوة مثل هذا التوجه. وقد أدى وضع الأمريكيين السود إلى ظهور عدة مشاريع من هذا النوع، تم تنفيذ أحدها وهو مشروع ليبيريا. يمكن لمجتمع ديني، أقلية ومُحطَّمة، أن يصوغ تطلعات متطابقة، ويزداد هذا قوة عندما يقدم بعض الخصائص العرقية والثقافية المشتركة. وكان هذا هو الحال بالنسبة لمسلمي الهند، ومن هنا تم إنشاء باكستان. وأي دولة جديدة يتم إنشاؤها بهذه الطريقة يجب بالضرورة أن تواجه نفس المشاكل: العلاقات مع الشتات الذي يبقى خارج الدولة (والذي قد يشمل المعارضين النشطين أو السلبيين لمشروع الدولة) ووضع هذا الشتات تجاه الدول التي يوجد فيها ويبقى الحفاظ في الدولة الجديدة على الطابع الخاص الذي أعطاه لها مؤسسوها (في الأسطورة اليونانية، المشكلة التي يطرحها أطفالهم الذكور على الأمازون)، والعلاقات مع السكان الأصليين عندما لا تكون الأراضي المحتلة فارغة. وكانت هناك خطط بين اليهود لإعادة التجمع في مكان آخر غير فلسطين. لقد انجذب هرتزل نفسه للحظة إلى الأرجنتين وكينيا. اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية. فضل لبعض الوقت وحدة يهودية ناطقة باللغة اليديشية في بيروبيدجان التي لا تزال رسميًا "منطقة حكم ذاتي يهودية". كانت هناك دول للدين اليهودي في اليمن (القرنين الخامس والسادس) وفي جنوب روسيا (ولاية الخزر، القرنين الثامن والحادي عشر).

 الاتجاهات المتمركزة حول فلسطين في التاريخ اليهودي

كان ارتباط المجموعة العرقية الإسرائيلية أو العبرية في العصور القديمة ببلدها فلسطين، حقيقة طبيعية، بالكاد تم التنظير لها في البداية. لكن التطور الداخلي للدين العرقي في مملكة يهوذا أدى، في القرن السابع قبل الميلاد، إلى إعلان الشرعية الوحيدة للعبادة المقدمة للإله العرقي يهوه في معبد القدس، مما أدى إلى نمو تقديس هذه المدينة. فقدان استقلال المملكتين العبرانيتين إسرائيل (721) ويهوذا (587)، وتطورت عمليات الترحيل الجماعية في بلاد ما بين النهرين التي رافقتها، خاصة بين المرحلين الذين جاؤوا لتضخيم الهجرة العديدة بالفعل، وتطلعات العودة، والاستعادة السياسية، وما إلى ذلك. العبادة الشرعية من خلال إعادة بناء هيكل القدس. وقد تم التعبير عن هذه التطلعات من خلال أيديولوجية دينية تؤكد على الحقوق الأبدية لشعب إسرائيل في الأرض الفلسطينية التي تضمنها وعود الرب، والتي تنبأت بإعادة بناء القدس الجديدة (المسماة شعرياً باسم صهيون) حيث يعيش اليهود. (أي اليهود) العودة إلى وطنهم ستعيد عبادة الرب. بعد أن اكتسب هذا الإله العرقي قوة عالمية في الحركة النبوية، ستتدفق جميع الأمم إلى المدينة المقدسة التي ستكون مسرحًا للدينونة الأخروية وعيد الفرح المقدم للبشرية جمعاء. لقد ألهمت هذه الأيديولوجية جميع الاتجاهات اللاحقة ذات التوجهات المماثلة إلى حد ما، وذلك بفضل سلطة النصوص التي تم التعبير عنها فيها، والتي سرعان ما أصبحت مقدسة (أيضًا مقدسة لاحقًا بالنسبة للمسيحيين، ومن هنا جاءت أطروحة “صهيونية الله”). "، عنوان كتاب حديث لقس بروتستانتي). عادت مجموعة من المرحلين "الصهاينة" إلى فلسطين بفضل الملوك الفرس في نهاية القرن السادس قبل الميلاد، وأعادت بناء الهيكل، وأعادت تشكيل مجتمع مخلص لليهودية، مجتمع مستقل تحت السيادة الأجنبية، مستقل من 142 إلى 63 قبل الميلاد، وذوي ذبوله. تراجعت ببطء شديد بعد قمع ثورات عام 70 (التي تميزت بالتدمير النهائي للهيكل) و135 (من هذا التاريخ، تم حظر الوصول إلى القدس على اليهود). استمر الشتات الكبير جدًا وازداد قوة. طوال فترة وجود الهيكل، طبق العديد من اليهود (جزئيًا جدًا) التوصية الكتابية بالحج إلى القدس ثلاث مرات في السنة. لقد تابعنا باهتمام، كما هو الحال في أي هجرة، تقلبات المدينة الفلسطينية طالما كانت مركزًا لمجتمع يهودي مهم (مع مقر البطريرك، والرأس الروحي النظري لجميع اليهود حتى عام 425): النضالات ، الثورات، الأمجاد، المصائب. علاوة على ذلك، كانت مقدسة بشكل عام كموطن للأسلاف، ومسرح التاريخ المقدس لشعب إسرائيل، حيث توجد العديد من تجليات الرب. مرت المجتمعات اليهودية المشتتة (المجتمعات الدينية التي تحتفظ بالعديد من سمات مجموعة عرقية أو شعب) بمواقف متقلبة اعتمادًا على الأوقات والأماكن، ولكنها لم تؤدي أبدًا إلى الرضا المطلق نظرًا لحقيقة أنهم كانوا دائمًا تقريبًا من الأقلية و مطيع. كما كانت توجهاتهم الأيديولوجية معقدة ومتغيرة. إن "المدينة الفاضلة" المتمثلة في استعادة إسرائيل الأخروية في فلسطين (وهي دولة يشار إليها عمومًا بالعبرية باسم "أرض إسرائيل") لا تزال موجودة. لقد أدت فقط إلى ظهور مشاريع واقعية محدودة للغاية: الحج، والتأسيس الفردي في فلسطين ليعيشوا حياة تقية هناك بينما ينتظرون بشكل سلبي عودة المسيح، على الأكثر صيانة أو إعادة تأسيس مجتمع فلسطيني كبير، أيضًا بدون مشروع سياسي، ولكنه قادر على تزويد المجتمع اليهودي بمركز روحي. وبقدر ما كانت الجالية اليهودية في الشتات مزدهرة وحرة، حتى لو كانت تتمتع بالسلطة، ضعفت المركزية الفلسطينية أو فلسطين دون أن تختفي تمامًا، نظرًا للأسطورة الأخروية والمواهب الخاصة لفلسطين التي تضمنها النصوص المقدسة. وهكذا، كان المجتمع البابلي، المزدهر، الذي يتمتع بمكانة فكرية وروحية عظيمة، ويعيش بطريقة سلمية إلى حد ما تحت سلطة "المبهج" المفترض من أصل داود، والذي اعترفت به وتكرمه القوة الفارسية، قد تنافس مع فلسطين في القرن الحادي عشر. في القرن السابع. لقد جعل قائد المدرسة البابلية، يهوذا بن حزقيال (220-299)، الهجرة من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين قبل نهاية الزمان خطيئة. ومن ناحية أخرى، أدى الفقر والاضطهاد إلى تطوير الوسطية الفلسطينية. ومع ذلك، ونظرًا لضعف اليهود والوضع السياسي في فلسطين، تراجع الناس عن الأمل المتحمس ولكن السلبي في الاستعادة الأخروية وعلى المشاريع والإجراءات المحدودة المذكورة أعلاه. في بعض الأحيان كان المسيح الكاذب يعلن نهاية الزمان ويقود مجموعة صغيرة إلى فلسطين. أدت التطورات اللاهوتية إلى جعل فلسطين مثالية قدر الإمكان وبنت لاهوت المنفى (غالوت). إن التوضيحات الميتافيزيقية، مثل مدرسة إسحاق لوريا (1534-1572) الكابالية المؤثرة للغاية، حرمت كلا من المنفى وإعادة التجمع من أي حقيقة ملموسة، مما جعلهما حالات كونية. ظهرت مشاريع أكثر واقعية تتمحور حول الفلسطينيين منذ القرن السادس عشر تحت التأثير المشترك للطرد الجماعي لليهود الأيبيريين، ومذبحة يهود أوروبا الشرقية (1648-1658)، والعلمنة المتزايدة للفكر الأوروبي، وتأملات المسيحيين البروتستانت نهاية الزمان ودور اليهود بحسب الكتاب المقدس، التسامح الكبير، ثم تراجع الدولة العثمانية. وقد اقترح الحاخام الأسباني بيراب (1474-1546) عبثاً إعادة السلطة الدينية العليا في فلسطين. مُنح المصرفي اليهودي جوزيف ناسي، المؤيد في البلاط العثماني، منطقة صغيرة حول طبريا حيث قام بتوطين اللاجئين حوالي عام 1565 من خلال تطوير صناعة النسيج التي وفرت لهم لقمة العيش. في القرن السابع عشر، أراد شباتاي زيفي، بعد أن أعلن نفسه المسيح، أن يقود الجماهير اليهودية إلى المغادرة فورًا إلى فلسطين، في انتظار الاستعادة الوشيكة الأخروية. لكنه لم يكن لديه مشروع سياسي خاص، مهما كانت مخاوف الحكومة العثمانية.

ثانيا. تحيين الأيديولوجية: الصهيونية

من ما قبل الصهيونية إلى الصهيونية

إن التطلعات إلى إعادة التوحيد، والتي كانت موجودة على الأقل في حالة كامنة بين اليهود، إلى جانب تطلعات أخرى مرتبطة أو غير مرتبطة بالتوجهات المركزية الفلسطينية، لم تفتح الطريق أمام مشروع سياسي واقعي. أدى ازدهار المشاريع الاستعمارية في أوروبا المسيحية منذ القرن السادس عشر والعوامل التي سبق ذكرها إلى ظهور خطط (خاصة بين المسيحيين) لإعادة توحيد اليهود في فلسطين أو أمريكا، لصالح قوة أو حتى رجل (خطة موريس دي ساكسونيا). وربما يكون أقدمها هو اقتراح إسحاق دي لا بيرير، الذي اقترح في عام 1643 استعمار فلسطين تحت الرعاية الفرنسية من قبل اليهود المتحولين (أمثاله). تناول بونابرت هذه الفكرة في عام 1799، ولكن من دون فكرة التحول. ولم تظهر القومية العلمانية بين اليهود إلا بعد عام 1840، تحت تأثير صعود الأيديولوجية القومية في أوروبا. وهكذا أعاد الحاخامان، يهودا القلعي (1798-1878) وزيبي هيرش كاليشر (1795-1874)، تفسير علم الأمور الأخيرة اليهودي، في حين طور الاشتراكي المندمج موسى هيس (1812-1875) مشروعًا فلسطينيًا متساويًا في خط غير ديني بشكل حازم في عام 1862. هذا الاتجاه، الذي لم يكن له صدى تقريبًا في الأوساط اليهودية، ذهب في نفس الاتجاه مثل خطط الدول المسيحية لتقسيم الإمبراطورية العثمانية، والجهود التبشيرية البروتستانتية لتحويل اليهود، والعمل الخيري اليهودي أو اليهودي، وتكهنات جيل الألفية لمضاعفة المشاريع الفلسطينية. ولم يبدؤوا في حشد دعم قاعدة يهودية كبيرة إلى حد ما إلا بفضل صعود معاداة السامية بعد عام 1881، وتعميم مفهوم العالم غير الأوروبي باعتباره مساحة قابلة للاستعمار، وتدهور القوة العثمانية. عندها تصبح الجماهير اليهودية الأكثر اضطهادًا واضطهادًا، وفي الوقت نفسه الأقل استيعابًا، أي جماهير أوروبا الشرقية، التي دفعت إلى هجرة جماعية إلى حد ما، متقبلة لمثل هذه المشاريع، على الرغم من أنها أقلية جدًا: جزء صغير جدًا من اليهود. المهاجرون يتجهون نحو فلسطين. متابعة لمحاولات أيديولوجية أقل إقناعا (بينسكر، الخ)، ومتزامنة مع مشاريع مبنية على تطلعات دينية بحتة (رحيل المجموعات التي تنتظر الألفية في فلسطين)، على تطلعات علمانية لتحسين وضع اليهود المعنيين (المستعمرات الزراعية في مختلف أنحاء العالم). أو على إنشاء مركز يهودي روحي أو فكري في فلسطين، طور هيرلز أخيرًا، بشكل تعبئة، ميثاق القومية اليهودية العلمانية والممركزة (خاصة، ولكن ليس حصرًا) في فلسطين.

السببية الاجتماعية للصهيونية

لقد سعت التيارات اليسارية، الصهيونية أو المناهضة للصهيونية، تماشيا مع الدوغمائية الماركسية، إلى إضفاء الشرعية على خيارها من خلال وضع نضالها في إطار الصراع الطبقي. يؤكد الصهاينة اليساريون على قوة العنصر اليهودي البروليتاري والأيديولوجية الاشتراكية في الحركة الصهيونية ويقترحون أن إسرائيل يمكنها، في ظل ظروف معينة، المساهمة في الحركة العالمية المناهضة للإمبريالية. يصر مناهضو الصهيونية على اليسار (وحتى على اليمين) على الاتجاه البرجوازي والرأسمالي للحركة في الماضي، وعلى علاقاتها الإمبريالية في الوقت الحاضر. الرؤية المشتركة هي أن تقوم القيادة الطبقية بوضع خططها وتعبئة قواتها من أجل الدفاع عن مصالحها الخاصة أو تعزيزها. إذا كان لا بد من رفض وجهة النظر هذه للأشياء، فمن الصحيح أن هذه الأطروحات الأيديولوجية المتناقضة تدمج في توليفات مشكوك فيها عناصر واقعية صالحة جزئيًا للتحليل الاجتماعي العقلاني. لقد قامت الحركة الصهيونية، المنقسمة إلى تيارات عديدة، بتوجيه وتنظيم بعض الاتجاهات التي كانت موجودة لدى السكان اليهود، وخاصة في أوروبا وأمريكا. كانت هذه المجموعة البشرية متنوعة للغاية: يهود حسب الدين، يهود غير متدينين ولكنهم أرادوا الاحتفاظ ببعض الروابط مع الهوية اليهودية، يهود مندمجون دون أي اهتمام باليهودية أو اليهودية، لكن ينظر إليهم الآخرون على أنهم يهود. ولم يكن لديه سوى الوحدة في وجهة النظر هذه تجاه الآخرين. كان اليهود مشتتين، ينتمون (بشكل غير متساو) إلى طبقات اجتماعية مختلفة، تختلف باختلاف المكان، وكانوا مندمجين إلى حد ما، وشاركوا في بعض الأحيان في ثقافة خاصة فقط باليهود في بلدان معينة (الييديفون في أوروبا الشرقية)، وقد اخترقتهم أيديولوجيات متعددة التيارات. ودفعتهم الصهيونية إلى الاختيار بين مشاريع التكامل (أو، بشكل أكثر دقة، الحكم الذاتي الثقافي المحلي)، مع تبني التطلعات والمهام المقترحة في مختلف الأمم، وبين مشروع قومي انفصالي يعتمد على ما تبقى من تاريخ مشترك في بلدانهم. وعيهم ووعي بيئتهم. وهناك عوامل مختلفة ومختلفة للغاية، فردية وجماعية، فضلت خيارًا أو آخر. نرى العديد من العائلات منقسمة على هذا المستوى. لكن أي رد فعل رفض من البيئة المحيطة كان لصالح الخيار الانفصالي. ومع ذلك، فمن الصحيح أن الانتماء إلى فئة معينة يمكن أن يؤدي بشكل تفضيلي نحو أحد الخيارات المتاحة. لقد قدم إيلي لوبيل تحليلًا دقيقًا إلى حد ما للمواقف المتقلبة لمختلف الفئات اليهودية تجاه الصهيونية. ولا مجال هنا لتلخيصها أو وصفها بشكل أكبر. ومن الناحية التخطيطية للغاية، يمكننا القول إن قوات الحركة تم تقديمها من قبل اليهود الفقراء والمضطهدين في أوروبا الشرقية، على الأقل أولئك الذين، الذين ما زالوا مؤطرين بهياكل مجتمعية، تم توجيههم نحو الهجرة إلى فلسطين بسبب المشاعر الدينية أو من خلال الآثار اللاحقة. من الاتجاهات الفلسطينية التي تم وصفها أعلاه. وبدلاً من ذلك، تم توفير القيادة من قبل مثقفي الطبقة الوسطى الذين سعوا للحصول على وسائل مالية من البرجوازية اليهودية العليا في الغرب، حريصين على تحويل موجة من الهجرة الشعبية من أوروبا الغربية وأمريكا خطيرة لرغبتها في الاندماج من خلال الخصائص العرقية الأجنبية التي احتفظت بها ومن خلال اتجاهاتها الثورية. ولذلك لا يمكننا أن نعتبر الصهيونية مجرد انبثاق لفئة معينة من اليهود. صحيح أن الحركة ككل، لتحقيق أهدافها، سعت وحصلت على دعم مختلف الإمبريالية الأوروبية الأمريكية (وخاصة البريطانية، ثم الأمريكية)، كما أنها حصلت على الجزء الأكبر من تمويلها من أغنى الجماعات اليهودية، ولا سيما القادمين من الولايات المتحدة، الذين حرصوا من جانبهم على عدم الهجرة إلى فلسطين. وصحيح أيضًا أن الحرمان الكنسي للصهيونية من قبل الأممية الشيوعية استبعد، لفترة طويلة، العديد من البروليتاريين اليهود. إن الطبيعة المأساوية للوضع اليهودي في أوروبا بعد عام 1934، وخاصة بعد عام 1939، أكسبته حشد العديد من اليهود المتحفظين منذ فترة طويلة، من جميع الطبقات الاجتماعية وجميع الميول الأيديولوجية.

ثالثا: بلورة المشروع الصهيوني ونتائجه

العلاقات مع العرب. لم تعير الصهيونية في أيامها الأولى سوى القليل من الاهتمام لحقيقة أن الأراضي المطالب بها كانت محتلة من قبل سكان آخرين، هم العرب. وكان هذا أمراً مفهوماً في وقت بدا فيه الاستعمار ظاهرة طبيعية وجديرة بالثناء. ومع ذلك، فقد حذر بعض الصهاينة السياسيين، ومرجع كبير في الصهيونية الروحية مثل أحد هعام، والعديد من اليهود المناهضين للصهيونية، من المشاكل التي تثيرها هذه الحقيقة. وفي زمن الانتداب البريطاني، أصبح السؤال ضروريا. لقد أوقفت قيادة الحركة الصهيونية تكتيكياً مشروع الدولة اليهودية الحصرية، دون التوقف عن الإبقاء عليه كهدف مثالي ونهائي. ظهرت ميول بين الصهاينة اليساريين والمثاليين مثل يهوذا ليون ماغنيس ومارتن بوبر للرجوع إلى نموذج الدولة اليهودية العربية ثنائية القومية في فلسطين. وتفاوض البعض مع وجهاء عرب. ومع ذلك، وجد معظم اليهود أنه من الصعب التخلي عن حرية الهجرة اليهودية إلى فلسطين (وكانوا أقل ميلاً للتخلي عنها في مواجهة صعود معاداة السامية النازية)، وهي حرية كان من الصعب قبولها بالنسبة لليهود. العرب إلى الحد الذي يهدد، إن لم يكن محدودا، بتحويل الأقلية اليهودية إلى أغلبية وبالتالي يؤدي إلى عزل المنطقة. بعد دستور دولة إسرائيل، تم التخلي عمليا عن فكرة الدولة ثنائية القومية (بمعنى دولة لا تضمن فيها الترتيبات العضوية الهيمنة اليهودية) لدى الجانب اليهودي. على الجانب العربي، منذ عام 1967 تقريبًا، أطلق الفلسطينيون فكرة الدولة الديمقراطية والعلمانية، حيث يكون اليهود والعرب مواطنين يتمتعون بحقوق متساوية. معظم الإسرائيليين وأصدقائهم، الذين لاحظوا في هذه الخطة غياب الضمانات الفعالة للمصالح الجماعية لكل مجموعة عرقية قومية، يشككون في صدقها. ومن ناحية أخرى، ترفض المنظمات الفلسطينية والعربية الاعتراف (علناً على الأقل) بوجود دولة إسرائيلية جديدة. يعتبر يهود فلسطين أعضاء في مجتمع ديني (وبالتالي التركيز على العلمانية في الخطة المذكورة) على نموذج مجتمعات الشرق الأوسط المختلفة التي تتعايش داخل نفس الدولة. إن الطابع العربي الخالص لفلسطين ليس موضع شك. ولذلك فإن أي حل من هذا القبيل ينطوي على تعريب اليهود الغربيين الذين يعيشون حاليا في إسرائيل. وهذا ما ترفضه الغالبية العظمى من الإسرائيليين الملتزمين بدولة يهودية ذات لغة وثقافة عبرية، حتى من قبل اليهود الإسرائيليين الناطقين بالعربية (الآن أعدادهم كبيرة جدًا) الذين يميلون، على العكس من ذلك، إلى التحول إلى العبرانيين. إن بعض أولئك الأكثر استعداداً تجاه المظالم العربية (وهم ليسوا كثيرين في العدد) سوف يستسلمون قدر الإمكان لدولة حقيقية ثنائية القومية حيث يحتفظ العنصران العرقيان القوميان بهياكلهما السياسية الخاصة، مع ضمانات للدفاع عن التطلعات الجماعية والديمقراطية. مصالح كل منهما. لكن النجاحات العسكرية الإسرائيلية وغياب مثل هذه الخطة على الجانب العربي لم تفعل الكثير لتشجيع تطور مثل هذا الموقف.

الفكر الصهيوني بعد انتصار الصهيونية

 لقد حققت الصهيونية السياسية هدفها، وهو إقامة دولة يهودية في فلسطين. يمكن الآن الدفاع عن هذه الدولة بالوسائل المعتادة لهياكل الدولة والدبلوماسية والحرب. واستنتج البعض منطقيا أن الصهيونية، بالمعنى الدقيق للكلمة، لم يعد لديها أي سبب للوجود. ينبغي وصف أصدقاء إسرائيل بأنهم مؤيدون لإسرائيل، سواء كانوا يهوداً أم لا. وقد أبدى ديفيد بن غوريون نفسه ميلاً إلى هذه الأطروحة. يُظهر الشباب الإسرائيلي القليل من الاهتمام بالأيديولوجية الصهيونية الكلاسيكية. وقد يرغب القوميون الإسرائيليون في تحرير أنفسهم من هذا الأمر وقطع الروابط المميزة مع اليهود الذين اختاروا البقاء في الشتات، سواء كان هذا الموقف مصحوبًا أم لا بالاعتراف بالقومية الفلسطينية المشروعة، كما هو الحال بين النائب أوري غير الملتزم. أفنيري، الذي يدعو إلى اتحاد ثنائي القومية. ومع ذلك، تبقى حركة صهيونية قوية، منقسمة إلى اتجاهات أيديولوجية متعددة، خاصة على المستوى الاجتماعي. إنها قومية يهودية علمانية، على الرغم من أنها تستند إلى تعريف لليهودي لا يمكنه إلا أن يأخذ الانتماء الديني الحالي أو الأسلاف كمعيار. ومع ذلك فهو يحافظ على الدعوة الوطنية للطائفة اليهودية على مر العصور. وهو يسعى جاهداً للتوفيق بين هذا التشخيص ورغبة معظم اليهود في البقاء أعضاء (وطنيون عادة وربما قوميون) في مجتمعات قومية أخرى. وحتى بين اليهود الذين يرفضونها في شكلها النظري، فإن هذه القومية تحارب النزعات نحو الاندماج، وتزرع كل بقايا هويتهم الخاصة، وتدعو إلى التضامن النشط مع إسرائيل، وتسعى إلى حشد موارد وطاقات اليهود لصالحها، إنه واجب تمامًا كما يحافظ على واجب ياليا (النظري جدًا)، وهو هجرة الجميع إلى إسرائيل. وهذه أيضًا نقطة نقاش وخلاف، حيث يرفض اليهود الأمريكيون على وجه الخصوص الاعتراف بهذا الواجب الفردي. لذلك، من الصعب التمييز بين موقفهم وبين الموقف المنهجي المؤيد لإسرائيل، والذي يصعب تمييزه عن موقف غير اليهود. هناك ارتباك كبير حول كل هذه المفاهيم. يرفض الرأي المناهض للصهيونية بشكل عام، وخاصة بين العرب، التمييز بين الوطنية أو القومية الإسرائيلية، والموقف المؤيد لإسرائيل، والاعتراف بالوجود الشرعي لدولة إسرائيل، والاعتراف بتشكيل دولة إسرائيلية جديدة، والموقف الفلسطيني التقليدي المتمركز حولها. من اليهود المتدينين. كل هذا ملتبس في مفهوم «الصهيونية». وفي سياق جدلي، نذهب إلى حد وصف أي دفاع عن الحقوق الفردية لليهود، أو أي تعاطف مع اليهود، أو أي انتقاد لموقف عربي، بأنه صهيونية. ومن ناحية أخرى، فإن الرأي المؤيد لإسرائيل والصهيوني الحقيقي يميل إلى الخلط بين هذه المواقف من أجل أن يمنح الأكثر إثارة للجدل منهم السمعة الطيبة التي يعلقها الآخرون.

عواقب النجاح الصهيوني على "المشكلة اليهودية"

كما يتمثل الموقف الصهيوني في الدعوة إلى نجاح الحركة من خلال إظهار نتائجها المفيدة على وضع اليهود ككل. بعض هذه العواقب لا يمكن إنكارها. تميل النجاحات الاقتصادية والعسكرية الإسرائيلية إلى إزالة الصورة التقليدية لليهودي ككائن مريض، غير قادر على بذل جهد بدني وقوة بناءة، وبالتالي مرفوض تجاه فكرية بلا جسد أو أنشطة شريرة ملتوية. إن تحسين صورتهم يهدف إلى تصفية بعض المخاوف، وبعض العقد لدى اليهود. وعلى مستوى أكثر واقعية، توفر دولة إسرائيل ملاذًا آمنًا (إلا في حالة تفاقم العداء العربي) لليهود المضطهدين أو المتنمرين. ومع ذلك، فإن هذه العواقب ليست الوحيدة. إن الحركة الصهيونية، التي أنشأتها حفنة من اليهود وحشدت أقلية فقط، أجبرت جميع اليهود، من عتبة معينة، على تحديد أنفسهم فيما يتعلق بها. لقد أجبرهم إنشاء دولة إسرائيل على الانحياز إلى جانب ما، فيما يتعلق بمشاكل السياسة الدولية في الشرق الأوسط والتي عادة ما تكون ذات اهتمام قليل بالنسبة لهم. إن الأخطار التي واجهها يهود فلسطين أو اعتقدوا أنهم يهربون منها وجهتهم، إلى حد كبير، نحو شعور ما. التضامن الذي سعت السلطات الصهيونية والإسرائيلية إلى توسيعه واستخدامه. كما قدمت لهم الدعاية الصهيونية، منذ البداية، الخيار الصهيوني كواجب، ونتيجة طبيعية للنزعات الكامنة لدى كل يهودي. وتعلن إسرائيل، في مناسبات عديدة، نفسها ممثلاً لها. ومنذ ذلك الحين، أصبح كل اليهود يميلون إلى الظهور أمام الآخرين كمجموعة ذات طابع قومي، وهو ما بدا وكأنه يؤكد الإدانة التقليدية لمعادي السامية.

لقد كان لذلك مساوئ خطيرة، في المقام الأول بالنسبة لليهود في البلدان العربية، الذين كانوا في السابق مجتمعًا دينيًا ناطقًا بالعربية من بين آخرين، ومحتقرين ومضطهدين في البلدان الأكثر تخلفًا، ولكن دون مشاكل خطيرة، على سبيل المثال، في بلدان المشرق العربي. وفي أجواء الصراع العربي الإسرائيلي، كان من المحتم أن يتم الاشتباه في تواطئهم مع العدو، وكان على معظمهم مغادرة بلادهم. وبالمثل، فقد أثار ذلك شكوكاً حول المواطنين اليهود في الدول الشيوعية الذين اتخذوا موقفاً قوياً لصالح العرب. تم استخدام هذه الشكوك الجديدة من قبل بعض السياسيين، تمامًا مثل بقايا معاداة السامية الشعبية طويلة الأمد، لأغراض سياسية داخلية، وأسفرت في بولندا عن إحياء حقيقي لمعاداة السامية المنظمة. حتى بصرف النظر عن هذه الحالات، في البلدان التي كانت "المشكلة اليهودية" في طور التصفية، تم الحفاظ على الهوية اليهودية للعديد من اليهود الذين لم يرغبوا بها على الإطلاق: أولئك الذين اعتبروا أن هناك أصلًا مشتركًا إلى حد ما، وبقايا ثقافية. في كثير من الأحيان نحيف للغاية وفي طور الاضمحلال، وخاصة الوضع الشائع فيما يتعلق بالهجمات المعادية للسامية والجهود المبذولة لإغواء الصهيونية (بعضها في تراجع على أقل تقدير والبعض الآخر مرفوض في كثير من الأحيان) لا يبرر عدم العضوية في مجتمع معين من النوع العرقي القومي. وهكذا فإن عواقب نجاح إسرائيل أعاقت بشدة جهود الاستيعاب على طريق النجاح الشامل.وحتى بالنسبة لليهود، بأعداد قليلة، الذين كانوا في هذه البلدان مرتبطين باليهودية الدينية وحدها، ويرغبون في الاندماج على كافة المستويات الأخرى، فقد أدى هذا الوضع إلى إعطاء لون وطني لمجتمعهم أو خيارهم الوجودي. ويزداد الأمر سوءًا لأن نجاح إسرائيل أحيا جميع العناصر العرقية للدين اليهودي القديم، وأبعده عن الميول العالمية، التي كانت حية أيضًا منذ زمن الأنبياء. وكانت اليهودية الدينية، التي عارضت الصهيونية لفترة طويلة، قد انضمت إليها شيئًا فشيئًا.

عناصر الحكم الأخلاقي

 إن ظهور هذه العناصر الواقعية لا يمكن أن يكون كافيا لتكوين حكم أخلاقي يتضمن بالضرورة الإشارة إلى القيم المختارة. الصهيونية هي حالة خاصة جداً من القومية. إذا تم نزع سلاح النقد القومي البحت أمامه، فمن ناحية أخرى، يكون النقد الكوني أكثر رسوخًا من الناحية الفكرية. بحكم التعريف، لا يمكنها أن تقتصر على تقييم مزايا وعيوب الصهيونية بالنسبة لليهود. قبل كل شيء، فإنه سيؤكد، بصرف النظر عن العواقب العامة للتعريف القومي للكيان اليهودي، الضرر الكبير الذي لحق بالعالم العربي من جراء المشروع المحقق للصهيونية السياسية المتمركز في فلسطين: عزل أرض عربية، ودورة من العواقب تؤدي إلى إخضاع وطرد جزء كبير جدًا من السكان الفلسطينيين (من الصعب أن نرى كيف كان للمشروع الصهيوني أن ينجح بطريقة أخرى)، إلى النضال الوطني الذي يحول الكثير من طاقات وموارد العالم العربي عن مهام أكثر بناءة، وهو ما يبدو كان لا مفر منه في عصر القومية المتفاقمة والنضال العنيف ضد جميع أنواع المشاريع الاستعمارية. إن نقد أساليب الصهيونية غير فعال وغير كاف في حد ذاته. إن التحليل الموضوعي لا يمكن إلا أن يعيد إلى الوراء المثالية المتهورة للحركة من قبل الصهاينة والمتعاطفين معهم و"الشيطنة" التي لا تقل جنونًا والتي غالبًا ما ينغمس فيها خصومهم. فالحركة الصهيونية، المنقسمة إلى فروع عديدة ومتباينة، تتمتع بالخصائص الطبيعية لأي حركة أيديولوجية من هذا النوع. غالبًا ما يستحضرون تلك الشيوعية على وجه الخصوص. وقد استخدمت المنظمات الصهيونية الأساليب المعتادة، حيث تصرفت بعض المجموعات وبعض الرجال بقدر أكبر من التردد من غيرهم لتحقيق أهدافهم. يمكننا أن نجد حالات من التضحية بالنفس والاستغلال الشخصي للأيديولوجية، وأمثلة على الوحشية والإنسانية، وحالات من الشمولية تركز بالكامل على الكفاءة وأخرى تم أخذ العوامل البشرية بعين الاعتبار. وبطبيعة الحال، فإن أي انتقاد عالمي للقومية بشكل عام يستهدف الصهيونية أيضًا. نجد هناك كل الخصائص غير السارة للقومية، وقبل كل شيء، ازدراء حقوق الآخرين، المعلن والساخر في البعض، والمقنع في البعض الآخر، والذي غالبًا ما تغيره الأيديولوجية، وبالتالي يصبح فاقدًا للوعي لدى الكثيرين، متنكرًا في أعينهم تحت مظهر ثانوي المبررات الأخلاقية. "

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

....................

* المادة مستنسخة من الموسوعة العالمية، المجلد. الرابع عشر (الصهيونية 3)، 1972، ص. 1061 إلى 1065.

المصدر:

Maxime Rodinson, Esquisse de l'idéologie sioniste , revue Raison présente  Année 1975  34  pp. 13-23, Fait partie d'un numéro thématique : Le féminisme radical français

ما استخلصته هذه الأيام من النقاش الحامي الوطيس حول إيران هو أن أغلب من يتكلم في الموضوع، يخلط بين مصطلحات ثلاثة، وهي: "إيران"، "الشيعة" و"النظام السياسي الإيراني". ولا يقتصر هذا الخلط المسفّ على عوام الناس، بل يتجاوزهم إلى من يعتبرون أنفسهم مثقفين ومفكرين ومحللين، وهنا تكمن المشكلة!

أعتقد شخصيا أنه ينبغي أن نكون دقيقين، وفي الوقت نفسه حذرين في التعاطي مع هذا الإشكال القديم الجديد، حتى نستوعب على الأقل أولا المعركة في بعدها المفاهيمي، قبل أن نمضي إلى الأبعاد الأخرى كالعقدية والتاريخية والجيو-سياسية والعسكرية والإعلامية. وهذا لا يختلف كثيرا عما يطلق عليه إدزارد سعيد "سياسة الكلمات"، حيث تتراشق الأطراف بالكلمات، ويحاول "كل طرف إنشاء مواقف معينة، وتبرير أفعال معينة، وفرض بدائل معينة على الطرف الآخر".

ولعل استيعاب المصطلحات الثلاثة المشار إليها أعلاه من شأنه أن يخفف من درجة الشحناء والتباغض والكراهية التي تنشب بين أطراف المعركة، وغالبا ما يكونان "الشيعة" و"السنة"، ليس بالضرورة في الواقع الفيزيقي المعيش، بل المعركة أصبحت تحتدم أكثر فقهيا وإيديولوجيا وإعلاميا، وهذا ما يغذي بشكل أو بآخر التصارع السياسي والتدافع الميداني.

إن لفظة إيران أو شيعة لها حمولات مغايرة، بل ومتعارضة مع مصطلح النظام السياسي الإيراني الذي يُحبَّذ أن يستعمل في مثل هذا النقاش. إيران تحيل على الجغرافيا والتاريخ والثقافة والأدب والشعب بمختلف مكوناته العرقية والإثنية، كالفارسية والتركية والكردية والعربية والتركمانية. أما فيما يتعلق بالتركيبة الدينية، فتتّسم إيران بالتنوع حيث الهيمنة للدين الإسلامي، مع وجود أقليات دينية بهائية وزراديشتية ويهودية ومسيحية. ومن بين المسلمين يقدر عدد السنة ب 20%، أي ما بين 10 و20 مليون نسمة. وعندما نتأمل العلاقة بين إيران-الشعب وإيران-النظام نجد أن قسما مهما من الشعب (بما في ذلك الشيعة أنفسهم) غير راضين عن النظام السياسي الإيراني. لذلك، فمن اللامعقول أن نماثل مصطلح إيران بمصطلح النظام السياسي الإيراني، ونضع الجميع في سلة واحدة دون تمييز وتمحيص.

وهذا ما ينطبق أيضا على لفظة شيعة التي يتقاطع فيها ما هو عقدي وكلامي وتاريخي وسياسي وفقهي. والشيعة على مذاهب متنوعة، بل ومتشظية، حيث الهيمنة في إيران للمذهب الإثنا عشري أو الإمامي (أكثر من 90%)، ثم يليه الإسماعيلي، فالزيدي بنسبة صغيرة. وتعود هذه الهيمنة الإثنا عشرية إلى الحكم الصفوي ما بين القرن السادس عشر والقرن الثامن عشر، والذي اتخذها مذهبا رسميا للدولة. وتذكر المصادر التاريخية أن إيران ظلت سُنية طوال أكثر من ألف عام، قبل أن ينطلق المذهب الصفوي إليها من أذربيجان، لتُشيّع معظم أقاليمها، وينتقل التشيع إلى بلدان أخرى مجاورة أو نائية.

وقد تابعنا عام 2022 الاحتجاجات الشعبية في إيران ضد النظام الحاكم، والتي قُتل أثناءها حوالي 500 شخصا، واعتقل حوالي 20 ألفا، حكم على 13 منهم بالإعدام. ألا يعني هذا أن الشيعة، كمكون شعبي مهم في إيران، ليسوا على توافق كامل مع النظام السياسي الإيراني؟ فما أكثر المواطنين الشيعة الذين يعارضون النظام القائم في بلادهم، غير أنهم غير قادرين على التعبير عن ذلك. وما أكثر الإيرانيين الشيعة الذين بمجرد ما يهاجرون إلى الخارج يكشفون عن معارضتهم الشرسة للنظام السياسي في وطنهم. وهذا ما يدل على أن الشيعة بكونهم مواطنين لا يمثلون بالضرورة النظام السياسي الإيراني، ولا يمكن التعامل معكم بدونية وتنقيص، لا لشيء إلا لأنهم إثنا عشرية أو إسماعيلية أو زيدية؛ فهذا قدرٌ لم يختاروه بأنفسهم، ما دام أنهم ولدوا في بيئة شيعية وفي ظل نظام سياسي صفوي يعادي ما هو سني!

أما مصطلح النظام السياسي الإيراني، الذي تريثنا عنده أكثر من مرة في الفقرات السابقة، فذو طبيعة عقدية معقدة وأهداف إيديولوجية استراتيجية، حيث العلاقة بين الدين والسياسة تترابط وتتكامل لتمنح لنا نظاما ثيوقراطيا مطلقا. ويتذكر الجميع كيف نشأ هذا النظام تاريخيا جراء الثورة الإسلامية (أو الانقلاب الخميني) التي نشبت ما بين 7 يناير 1978 و11 فبراير 1979. وهذا لم يكن اختيارا شعبيا، أو بالأحرى لكافة شرائح الشعب الإيراني التي لم تخل من معارضين سريين أو علنيين طوال هذه الحقبة التي تمتد إلى حوالي نصف قرن من الزمن.

الخلاصة مما سبق، هي أنه ينبغي لنا أن نميز في كلامنا ونقاشنا بين المصطلحات الثلاثة: "إيران"، "الشيعة" و"النظام السياسي الإيراني"، بالإضافة إلى مصطلحات أخرى لم نناقشها كالصفوية والرافضة والملالي وغيرها. وذلك لأن كل مصطلح ينفرد بمعنى خاص به، رغم أن هذه المصطلحات تظهر للوهلة الأولى وكأنها مرادفات. ومرد ذلك إلى أننا اعتدنا على تليقها من وسائل الإعلام والفكر والسياسة  بهذه الطريقة، فترسخ المعنى المشترك الذي يتقاطع بينها في أذهاننا وواقعنا على حد سواء. ونحن لا نلوم عوام الناس على عدم التفريق بينها، بل نستغرب ممن يُنصّبون أنفسهم مثقفين وخبراء وهم لا يميزون بين معانيها المختلفة في الاشتقاق والدلالة والاصطلاح  والفكر. أن تكون إيرانيا لا يعني أن تكون بالضرورة شيعيا بالمفهوم العقدي أو الإيديولوجي المتعصب، وأن تكون شيعيا لا يعني بالضرورة أن توالي النظام السياسي القائم في البلاد؛ فما أكثر الإيرانيين الغير راضين على نظام الولي الفقيه سواء من الشيعة أو من غيرهم!

***

بقلم/ التجاني بولعوالي

تذكير: (في 23 تشرين الثاني 2013 انجز وزير العدل السيد حسن الشمري مشروع قانون الأحوال الشخصية الجعفري الذي جاء امتثالاً لمرجعه السياسي والفقهي السيد اليعقوبي المحترم ، مع ان المسؤولية تفرض عليه أخذ راي مجلس القضاء الأعلى بوصفه الجهة التي تدير شؤون القضاء، وبسببها تعرض الى نقد لاذع واتهام من سياسيين شيعة بأنه " يجر البلاد الى حرب طائفية" ومع ذلك.. نجح السيد ممثل حزب الفضيلة باقراره في (2017). وينص هذا القانون على السماح بالزواج للصبي الذي اكمل الخامسة عشرة والبنت التي اكملت التاسعة من العمر. وجاءت حيثياته بأن قانون الأحوال الشخصية النافذ لسنة 1959يتعارض مع الفقه الشيعي).

كان هذا نص ما كتبناه ونشر بالمدى والحوار المتمدن في (4 /11/2017).. ما يعني ان الدعوة الى تعديله الآن ليست بالجديدة. والمفارقة ان العالم الذي يشهد تطورا حضاريا واجتماعيا وفكريا يليق بكرامة الأنسان، ويساوي بين الناس بغض النظر عن الجنس، الدين، المذهب، القوميته.. فان عراق ما بعد 2003 تراجع عما كان عليه قبل نصف قرن. ففي العام 1959 صدر قانون الاحوال الشخصية العراقي رقم 188 وحدد الزواج بمن اكمل الثامنة عشرة، ومنحه حرية اختيار المذهب الذي ينتمي اليه.وجاء في اسبابه الموجبة "عدم وجود احكام شرعية للأحوال الشخصية يجمع من اقوال الفقهاء ما هو المتفق عليه في قانون واحد".. فجمع تلك الآراء الفقهية لمكونات الشعب العراقي وطوائفه، واستند الى احكام وثوابت الشريعة الأسلامية ومزج فقه المذهبين الشيعي والسني ، وجرت عليه تعديلات في ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وصار مرجعا لجميع المذاهب الاسلامية في العراق، وكان منسجما مع الحقوق والحريات التي نص عليها الدستور، بعكس التعديل الجديد الذي يتعارض مع المادة 14 من الدستور العراقي والاتفاقيات الدولية المتعلقة بالمرأة والطفل، والمادة (43) منه التي منحت أتباع كل دين او مذهب الحرية في ممارسة شعائرهم الدينية بما فيها الشعائر الحسينية.

ولا يعنينا هنا الأمور القانونية والتشريعية وقول الأطار التنسيقي الذي فاجأ حتى بعض اتباعه بخطوة منفردة بالدعوة الى اقرار تعديل القانون، وقوله بأن «التعديل المزمع لقانون الأحوال الشخصية ينسجم مع الدستور الذي ينص على أن العراقيين أحرار باختياراتهم، بما لا يتعارض مع ثوابت الشريعة وأسس الديمقراطية"، مع ان التعديل ضم عنصرا واحدا هو (المذهب) ولم يضم عناصر اخرى في مكونات المجتمع العراقي:ألديانة، المعتقد، القومية، الأختيار..

ما يعنينا هنا ينطلق من حقيقة أن ( قانون الاحوال الشخصية هو النظام القانوني المختص برسم الهندسة الاجتماعية لأنه يحكم الاسرة التي هي اساس المجتمع التي بدورها تحكم البناء الاجتماعي والسياسي للدولة والمجتمع).. نحللها من منظور علم النفس.

التداعيات السيكولوجية للتعديل

كانت التقارير الصادرة من وزارة التخطيط عام 2013 افادت بان العراق يحتل المرتبة الاولى بين الدول العربية من حيث نسبة زواج القاصرات.ولهذه الظاهرة الاجتماعية اسباب يشترك فيها المجتمع العراقي مع المجتمعات العربية واخرى ينفرد بها. فالعراق عاش اربعين سنة حروبا كارثية مع (ايران، الكويت، امريكا، التحالف الدولي) تبعتها حرب طائفية لسنتين(2006-2008)، وتفجيرات ارهابية، وميليشيات.. راح ضحيتها الملايين من العراقيين بين قتيل ومفقود ومعوق ومهاجر.. تركوا وراءهم بنات قاصرات بلا معيل.. فضلا عن حصار اقتصادي استمر ثلاثة عشر عاما اكل فيها العراقيون خبز النخالة. ولهذين السببين(الحروب وعسر الحال) اضطر عديد من الاسر العراقية الى حرمان بناتهن من الدراسة وتوجيههن الى سوق العمل او الخدمة في البيوت، او تزويجهن من رجل ميسور الحال وأخذ (المقسوم) من مهورهن.

وكان للنظام السابق دور في ذلك بتشجيعه الزواج المبكر واقامة حفلات الزواج الجمعي للشباب ومنحهم مكافآت واشاعة الشعور بالترحيب به عبر تلفزيون (الشباب) بوصفه فضلا او مكرمة من الحكومة مع انه كان يضم قاصرات لا تسمح القوانين بزواجهن، لكن النظام السابق شجعها واصدر قرارا في حزيران 2001 جرى الترويج له في ظل انعدام وجود منظمات معنية بحقوق الانسان.

اما الاسباب التي يشترك فيها العراقيون مع اشقائهم، فأن المزاج العربي يميل الى الزواج من الفتيات الصغيرات في السن لاسيما في ارياف البلدان العربية، وان التقاليد العربية تشجع عليه، وتروج له في اغانينا واشعارنا، بل حتى في تعابيرنا، فنحن نصف بنت الـ (14سنة)بالقمر في ليلة اكتماله.. كيف يكون مدّورا وجميلا في ليلته الرابعة عشرة.. وهذا ناجم عن المنظور العربي للمرأة الذي يختزل وجودها الى وعاء للجنس، وانه كلما كان الجسد غضّا كان امتع حتى لو كان خامد المشاعر او مستسلما لحاجة مادية او دفعا لأذى.

وفي الزمن الديمقراطي، كان يفترض ان تقل نسبة زواج القاصرات لظهور منظمات نسوية واخرى مدنية تدافع عن حقوق المرأة، لكن واقع الحال يشير الى انها زادت بعد التغيير، وان كثيرا من الميسورين تفننوا في ابتكار وسائل (شرعية) للزواج من قاصرات.. وأن بعضهم يتزوجون ويطلّقون مرات في السنة الواحدة!.. وهو اتهام مشروع بأن هؤلاء الفاسدين سياسيا وغير الناضجين عاطفيا والمراهقين عاطفيا كانوا وراء تشريع واصدار قانون الأحوال الجعفري وهم انفسهم وراء دعوة التعديل الجديد الذي يطالب به الأطار التنسيقي، ولا يكترث بألاف الناشطين العراقيين والمنظمات المعنية بحقوق المرأة والطفولة الذين ناهضوا التعديل، واستخدموا وسم «#لا_لتعديل_قانون_الأحوال_الشخصية»..

القاصر.. من منظور علمي

تؤكد الدراسات الطبية والسيكولوجية ان لزواج القاصر اضرارا فادحة، ليس فقط لعدم اكتمال نضجها البيولوجي والفكري، بل ولأنه غالبا ما ينتهي بالطلاق لعدم ادراك القاصر لمسؤولية الزواج. والأخطر سيكولوجيا ان الفتاة ترتعب من حصول الدورة الشهرية لديها ورؤيتها للدم، فكيف لطفلة بعمر التاسعة تفض بكارتها بعمل لا تجد له تفسيرا سوى انه عدوان عليها يترتب عليه كرهها للرجل والزواج والعملية الجنسية التي تتحول لديها من متعة الى قسوة بشعة!.. ستفهمه فيما بعد بأنه كان اغتصابا واستعبادا.

والمؤلم ان الكثير من البرلمانيين لا يعلمون أن معظم جرائم الشرف التي اشارت التقارير الى تزايد حاد بلغ 700 حالة في السنة!.. كانت بين قاصرات ارغمن على الزواج او هربن من بيوت اهليهن.فضلا عن أن زواج القاصرات يعد جريمة في نظر القانون الدولي الخاص بحماية الأطفال ومعاهدة حقوق الاطفال التي تعدّ زواج القاصر حرمانا لها من حق التمتع بمرحلة الطفولة وحق التعليم.. والعراق من الدول الموقعة عليها. والغريب ان الكثير من نواب (ونائبات!) البرلمان العراقي لم يفكروا بأن تزويج البنات بعمر مرحلة الطفولة يعني تحويلهن الى ربات بيوت جاهلات وحرمان المجتمع والوطن من مصادر طاقة تنموية اقتصادية واجتماعية وثقافية.

والمفارقة ان الحكومة العراقية السابقة دعت على لسان السيد رئيس الوزراء الأسبق الدكتور حيدر العبادي الى عراق موحّد بعد الانتصارات التي تحققت بدحر الأرهاب، فيما تعديل قانون الأحوال الشخصية يعمل على تفكيك مكونات المجتمع العراقي التي احدثتها المحاصصة السياسية.فالمذاهب السنية الأربعة ستطالب بأربعة قوانين احوال شخصية: حنفي، شافعي، مالكي ، وحنبلي.. وكذا الأزيدية والشبك وباقي الأقليات.. والأمر يتطلب استحداث محاكم للأحوال الشخصية بعدد قوانينها.. وفي كل ناحية وقضاء ومركز محافظة! ليزيدوا تعميق الفرقة النفسية والاجتماعية والدينية والمذهبية حتى بين اتباع المذهب الواحد!

مبارك للأطار التنسيقي ، فبتعديلهم شرعنوا الزواج بطفلة في الثالث الابتدائي لا نجد لمن يفعلها وصفا غير انه مريض نفسيا ، فيما سيكون مختلا عقليا ان وافق على تزويج ابنته بعمر التاسعة!.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

الحراك الشعبي التضامني مع أهل غزة بمقاطعة المنتجات الأجنبية الداعمة للكيان الإسرائيلي، حق مشروع استخدمته الشعوب  كسلاح اقتصادي وسياسي نابع من إراداته الحرة لوقف دعم إسرائيل في طغيانها وبطشها بالشعب الفلسطيني الأعزل في غزة، خاصة بعد ما تعرضوا له من تطهير عرقي وحرب إبادة مأساوية.

أداة الضغط التي استخدمها الناس للبضائع والشركات المتضامنة مع الكيان الإسرائيلي كبدت هذه الشركات خسائر فادحة، في الوقت الذي أحيا فيه الصناعات الوطنية البديلة في البلدان  التي استخدم شعوبها هذا السلاح. ورغم المخاوف التي أطلقها بعض المحللين والاقتصادين من مخاطر مقاطعة العلامات التجارية العالمية الداعمة لإسرائيل، مثل ماكدونالدز وبابا جونز وستاربكس وغيرها في فقدان الكثيرين لوظائفهم، وهي مخاوف تداولها الكثير من الاقتصاديين وأصحاب رؤوس الأموال، وتبنوا فكرة  خوفهم على  أرزاق العاملين بها، وحفاظا على الاقتصاد الوطني من فقدان الاستثمارات الأجنبية وتدفقها.

وأظن أن كثيراً من الأحرار في العالم الغربي والمتضامنين مع حق الفلسطينيين في الحياة الآمنة ووقف حرب الإبادة ساهموا معنا في مقاطعة منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل، ولا أتصور أن يؤدي موقف شعبنا من المقاطعة إلى وقف تدفق الاستثمارات الخارجية المحترمة.

ولكن في المقابل فان هذه المقاطعة جاءتنا على طبق من ذهب لتغيير ثقافتنا الاستهلاكية، والتي انتصرت للمنتجات المستوردة على حساب المنتجات المحلية تأثرا بفنون الدعاية الجاذبة للماركات العالمية.

وفي ظني أن تغيير ثقافتنا الاستهلاكية هو جزء أصيل في محافظتنا على هويتنا الوطنية التي هي مبعث نهضتنا الاقتصادية عبر الاعتماد على النفس والثقة بقدراتنا على المنافسة وتلبية احتياجات المستهلك المحلي من كافة السلع التي يحتاجها عبر إنتاج سلع جيدة تحظى برضاء المستهلكين وتشبع رغباتهم.

وأنا برأيي انتا وضعنا قدمنا على الطريق الصحيح، وأن الكثير من المنتجات أصبح لها بديلاً وكثير من المنتجات المحلية أصبحت أكثر تطورا وأكثر جودة، وهدأ الأمر أثبت وجهة نظري التي قلتها بعدة مقالات منذ بداية الحرب على غزة.

بأن المنتج المحلي سيجد حافزاً لتطوير نفسه، وسيجد زبون يبحث عنه بعدما كان منبوذا كونه منتجاً محلياً ربما بسبب ضعف الجودة أو بسبب عقدة الأجنبي و(البريستيج) لطبقات المجتمع حديثي النعمة الباحثين دوما عن جوازات سفر يدخلون بها العالم المخملي عن طريق التباهي بالأموال والمقتنيات.

وبالعودة إلى موضوعنا نجد أن المصانع والشركات العربية أخذت فرصتها والكرة الآن في ملعبها إما أن تنتهز هذه الفرصة، وإما أن تخسر لمدة أطول وانتظار فرص جديدة أخرى.

  من جانب آخر، فان الشركات المحلية الحاصلة على توكيل من الشركات العالمية الأم، اضطرت مع الوقت لخفض العمالة، وقد تضطر مع استمرار المقاطعة إلى إغلاق فروعها، وهذه خسائر لا يمكن إنكارها، ولكن هذه الشركات المحلية يمكنها بكل سهولة توظيف طاقتها العملية والعمالية وخبراتها في تقديم منتج وطني وتوظيف هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم بالمصانع والمعامل المحلية.

على أن تكون هذه المنتجات مدعومة من المواطن، حتى ينافس في جودته العلامات التجارية العالمية، والسوق المحلي  على حد علمي مستوعب تماما هذا التحول وقابل به ومرحب به جدا.

فهذه المقاطعة فرصة ذهبية من وجهة نظري إلى تنشيط الصناعات المحلية وتفعيلها وازدهارها بما يسهم في دفع عجلة الاقتصاد الوطني وتقليل اعتمادنا على المستورد لصالح المنتج الوطني والتجربة العملية على أرض الواقع أثبتت انتعاش المنتج المحلي مثلما أقبل.

المستهلك الوطني على مطاعم فايرفلاي وبرغر ميكرز بعد مقاطعتهم لماكدونالدز، وتحولوا لشرب سما كولا وسينالكو وميتركس بعد مقاطعة بيبسي وكوكاكولا، ومن خسر وظيفته في الشركات صاحبة التوكيل للعلامة التجارية الأجنبية انتقل إلى العمل في الشركات المحلية، ومع انتشار الشركات المحلية وزيادة الطلب على منتجاتها، زاد بالمقابل إنتاجها وعدد العاملين بها؛ مما أنعش حركة الاقتصاد والتجارة في البلاد. كما أن مال المستثمر الوطني صار في صالح البلاد بعد أن كان في صالح الاقتصاديات الأجنبية. إلى متى نبقى مجتمع غير منتج وغير مصنع وغير مصدر؟ إلى متى نبقى شعوب مستهلكة لما يصنعه الآخرون هذه فرصتنا لنفكر ونعمل ونتطور وننتج.

تبقى ملاحظة مهمة ينبغي مراعاتها، وهي عدم لجوء الشركات المحلية إلى رفع أسعار منتجاتها على المواطنين المستهلكين استغلالا من أصحاب هذه الشركات لزيادة الطلب على منتجاتها. والجهات المسؤولة عن حماية المستهلك ينبغي أن تقوم بدورها لمنع وقوع هذا الاستغلال ورفع الأسعار. إضافة لمتابعة الغذاء والدواء لمواصفات المنتجات، فالتوسع في إنشاء الشركات والصناعات البديلة عن المستوردة وزيادتها بالسوق يخلق المنافسة السعرية بينهم لجذب المستهلك إليه.

***

سارة طالب السهيل

 

المقدمة: الحفريات العميقة في كينونة وصيرورة اللادولة العراقية منذ تأسيسه المنحوس1921 ولأكثر من قرن مضى تبدو كغثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير، وذلك لهلامية الهوية العراقية المتلازمة مع غياب ثقافة المواطنة لأشتباكات وتقاطعات وأرهاصات الصراع الطبقي للمجتمع العراقي المتعدد الأنتماءات الهوياتية الشعبوية (العرقية والمذهبية والمناطقية) تبدو جراحاتها الواسعة يسعة جغرافيتها كفيلة في أضفاء السوداوية والقنوط على تكويناتها السوسيولوجية الجمعية، أضافة إلى تنمردول الجوار تركيا وأيران وضغوطات المستعمر البريطاني وشريكهُ التأريخي الولايات المتحدة الأمريكية، ومن سوء الطالع تعرض كيان الوطن لزعل وغضب الطبيعة كتوسونامي الفيضانات المتكررة وفايروس الطاعون مع معايشة الثلاثي المقيت (الفقر والجهل والمرض)، والأهم من كل ما تعرض الوطن في محطات الخيبة والخذلان أن سياسيي السلطة أو قل " أخوة يوسف " لقد أحرقوا مراكبهم وتصرفوا بهوس أقرب إلى الجنون في تدوير بضاعتهم البخسة البائسة والمسجاة منذ عقدين من الزمن المرير كانت المحصلة التراجيدية المأساوية بروز الفارق الطبقي بين توقعات الشعب ومآلات العملية السياسية، ومن خلال هذه الخيبات والأزمات المزمنة والتأريخ السوداوي ولقرن تدفعني أحاسيسي المحبطة والمكتئبة أن أقف أجلالا لصموده الأسطوري وصبرهِ المثير حينها أستوقفتني قصيدة (صبر العراق) للشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد:

من مأثور حكاياتنا الشعبية مخرزاً نُسيَ تحت الحمولة على ظهر جمل:

خبر عاجل: أغتيال الصحفية الشابة "نورس محمد التميمي" أمام منزلها في الموصل بدمٍ بارد من قبل الأرهاب وأنقل نداء رابطة المرأة العراقية المناضلة بهذهِ ا لفاجعة الأليمةِ: {الجريمة الجديدة كانت إنهاء حياة شابّه أعلامية----{ نورس محمد النعيمي }مقدمّة برامج في قناة الموصليّة الفضائية، هل سنكتفي بالتنديد والمطالبة بالأقتصاص من الجناة المجهولين ؟؟ إلى أنْ ترتكبْ جريمة جديدة ويغتال حلم آخرويسقط نورس طائر في سماء جريمة (الكلمة) !! أم نحنُ بحاجةٍ إلى تغيير الواقع لنصل إلى عالم يؤمن إنّ للأنسان حقوق يجب انْ تحترم وأهمها حق الحياة والتعبير عن الرأى}.وخبر آخرمؤلم ومؤسف يوم السبت 21 -12 عندما كان الجيش العراقي البطل يلاحق فلول الأرهاب في وادي حوران محافظة الأنبارأستشهد آمر الفرقة السابعة اللواء الركن محمد الكروي وستة عشر ظابطاً وعدد من الراتب والجنود البواسل بعبوة ناسفة وضعت في طريقهم --- المجد لكم أيها البواسل لدفاعكم عن أرض العراق الحبيب. وإنّ الظروف والمعطيات الداخلية والخارجية من التعقيد والتشابك وضعت الحكومة على المحك لتفكر عميقاً للخروج من عنق الزجاجة لأنقاذ شعبنا المظلوم من الذبح اليومي والحقد والشحن الطائفي التي دخلت مع فايروس المحاصصة.

يمشي وحاديه يحدو.. وهو يحتملُ

ومخرز الموت في جنبيه ينشتلُ

*

حتى أناخ بباب الدار إذ وصلوا

وعند ما أبصروا فيض الدما جفلوا

*

صبر العراق صبورَ أنت يا جملُ

وصبر كل العراقيين يا جمل

*

يا صبر أيوب لا ثوبَ فنخلعهُ

إن ضاق عنا.. ولا دارَ فننتقلُ

*

لكنهُ وطني.. أدنى مكارمهُ

يا صبر أيوب إنا فيهِ نكتمل

الوجه الآخر للحكم الملكي في العراق 1921

إستحواذ على الممتلكات تلبية للصراع البريطاني – الأمريكي (هادي حسن علوي) – جريدة الزمان العراقية في 10-9-2021)

وصفت المخابرات البريطانية الطبقة الحاكمة الملكية في العراق باللصوصية، بقلة متحكمة من مبتزي المال العام (حنا بطاطو تأريخ العراق- ص 183)

1- التخلف: عندما سقط النظام الملكي بعد 37 عام من قيامه كانت نسبة الأمية 80% (حسن العلوي – جمهورية الخوف - ص140)

2- الوضع الصحي والمعاشي: معدل عمر الفرد العراقي لا يتجاوزالثلاثين سنة للفقر المدقع ومرض الطاعون والفيضانات المرعبة والمتكررة، 7 ملايين حسب أحصاء 1957وعند سقوط الحكم الملكي كان أربعة أخماس سكان العراق بلا أملاك ولا سكن (حنا بطاطو تأريخ العراق - الكتاب الأول ص429) التباين الطبقي كان عميقا وواضحا بفارق سحيق جدا .

3- الفساد:

- وصل فيصل الأول إلى العراق وتوج ملكا في العام 1921 وهو لا يملك شبراً فيه وتوفي بعد إثني عشر عاما خلف إرثاً كان:

{ 1989 دونم في الوزيرية، و16984دونم في الحارثية و95919 دونم في خانقين، و9517 دونم في بنجوين و78 دونم في سرسنك)

- تقاسم أعوان الملك الأراضي الأميرية على سبيل المثال وضع جعفر العسكري رئيس الوزراء ووزير الدفاع يدهُ على 7685دونم في منطقة العطيفية بغداد .

- نوري السعيد أخذ رشوة من شركة نفط العراق (بطاطو – نفس المصدر- ص 392) وأستخدم نوري ميزانية الدولة لأغراضه الشخصية (عبد المجيد حسيب القيسي ص172) وكان صباح نوري السعيد يمتلك 9294 دونم.

- وأستأثر حكمت سليمان رئيس وزراء بسبعة عشر ألف دونم في منطقة الصليخ، وكان واحداً من أربعة لم يكن لطمعهم من حدود: ياسين الهاشمي ورستم حيدر رئيس ديوان الملك فيصل الأول.

- أستغل رشيد عال الكيلاني رئيس الوزراء 1933-1941 وجود ثغرات في قانون العقارات والاراضي الأميرية ليستحوذ على مزارع وأراضي زراعية واسعة في عدة (ألوية) يعني محافظات في بغداد والأعظمية حوالي 2458 دونم (حقق فيها وثبتها)المؤرخ (عبدالرزاق الحسني في كتابه تأريخ الوزارات العراقية).

- استولى ياسين الهاشمي رئيس الوزراء 1925دونم من أراضي الحكومة وأصبح هو والكيلاني من كبار الأقطاعيين (عبد المجيد حسيب القيسي – التأريخ يكتب غدا ص70) و(مير بصري – أعلام السياسة ص182)، وكذلك (حنا بطاطو نفس المصدر ص394 -212 – 218).

- أرشد العمري (رئيس الوزراء 1946- 1954أستغل منصبهُ كأمين عاصمة بغداد 1941 ليستحوذ على منطقة السعدون أرقى مناطق العاصمة.

- ملكية توفيق السويدي 8704 دونم في بغداد ومعروف بالفساد المالي الكبير

- ورثة حمدي الباجه جي 34337 دونم في بغداد، وكذا مزاحم الباجه جي 1941 دونم في بغداد

- علي جودت الأيوبي 6366 دونم أضافة إلى 90 دونم في منطقة أم العظام كرادة مريم

- جميل المدفعي 3976 دونم في ديالى

- مصطفى العمري 12732 دونم في الموصل

- عبدالوهاب مرجان 9170 دونم في الحلة

4- التسلط السياسي الدكتاتوري ووأد الحريات والفساد المالي والبيروقراطية وخيانة الأتصال بالأجنبي في العراق لخصها الشاعر معروف الرصافي أنتقاد كل مؤسسات الدولة إلى إنها من وحي الأجانب المحتلين وفي هذا البيت الشعري المؤثر {علم ودستور ومجلس أمة --- كل عن المعنى الصحيح محرف}!؟

ثورة 14 تموزالأصلاحية عام 1958

ثورة 14 تموز 1958 بقيادة ضباط أحرارعلى رأسهم الزعيم الركن الخالد الشهيد " عبدالكريم قاسم " حيث كانت فترة حكمهِ أربع سنوات وستة أشهر وخمس وعشرون يوماً، كانت لأنجازاته الثرة والثرية أثراً بالغا في مسار (التغيير) الحقيقي والنزيه شمل التغيير جميع موازين القوى الأستعمارية كالأنسحاب من حلف بغداد والخروج من منطقة الأسترليني والأصلاح الزراعي وقانون الأحوال الشخصية رقم 188 -1959 الذي أعاد للمرأة العراقبة حقوقها وكرامتها وقانون رقم 80 الذي أسترجع 99% من أراضي العراق من الشركات النفطية العالمية، وتسليح وتقوية الجيش العراقي، وبناء مدينة الثورة (الصدر حاليا) وتشغيل نقابات العمال والجمعيات الفلاحية وتوزيع الأراضي على الموظفين والضباط وتوسيع بغداد الحبيبة شرقا حيث شارع فلسطين والقناة وغربا حيث المنصور واليرموك، أضافة إلى: بناء مطاربغداد الدولي ومدينة الطب وميناء أم قصر في البصرة، و2344 مدرسة و786 مدرسة لمحو الأمية وملعب الشعب الدولي ومعرض بغداد الدولي في المنصور وأكثر من ثلاثين مشفى كبير – للحصر – كمثل مستشفى اليرموك ومستشفى الكرخ ومستشفى أبن النفيس ومستشفى النعمان في الأعظمية ومستشفى الطواريء للأطفال وحوالي 160 مستوصف و280 مذخر أدوية، وأربعة مشاريع عملاقة للأسكان، وللأسف الشديد بدل أن يكرم هذا الرجل المأثرة الأسطورة الوطنية كوفئ بأعدامه ورفاقه (الزعبم طه الشيخ أحمد والعقيد فاضل المهداوي والملازم كنعان حداد) في مقر الأذاعة في الصالحية يوم 9-شباط 1963على كرسي بدون محاكمة أو قل محاكمة عسكرية صورية على يد ألآنقلابيين تلك كانت نهاية (المنقذ) المأساوية التراجيدية!؟

العراق ما بعد 2003:

وهو المحور الأخير في طرح ومناقشة مدونات وحيثيات البحث في سيمياء عنوان البحث " تأريخ العراق " هنا تسكب العبرات على وطنٍ أضطرب مؤشر بوصلتهِ بعد 2003 سنة الأحتلال الأمريكي البغيض، حيث صعوبة الأزمات الأقتصادية ولأتباع نهج المحاصصة السيء الصيت والملوثة بالطائفية والأثنية والمناطقية، فآلت الحكومات المتعاقبة إلى شكل ومضمون اللآدولة أو الدولة العميقة(د-فالح عبدالجبار كتابهُ اللادولة) التي سمحت لنفوذ الكتل والأحزاب المسلحة لجأت لمبدأ التسقيط السياسي للسيطرة على القرار السياسي حسب منطق القوة (لا) قوة المنطق ! وهذه بعض تلك الأساليب الخبيثة:

أساليب التسقيط السياسي:

- أسلوب الأستبعاد والأقصاء السياسي بين أفراد المجتمع مرشح أم ناخب تكمن في غياب الضوابط والمعايير الأخلاقية والمهنية، وأن سياسة أبعاد الخصوم وأجتثاثهم بهذه الطريقة غير الديمقراطية والتي شبهها البعض ب(مجزرة سياسية)، وحسب قناعتي فيما إذا كان الأستبعاد مبنيا على قواعد السلوك الأنتخابي فهو أمرٌ أيجابي مقبول في العرف الديمقراطي فيما إذا تجنبنا المفردات الجارحة والأتهامات الجزافية الباطلة .

- عقلية المؤامرة والأزمة: نعترف بأن وطننا بلد الأزمات والمؤامرات لتعدد الأعداء من كل حدبٍ وصوب من أحزاب السلطة والكتل التي بيدها مصادر القرار وأعداء أقليميين من دول الجوار وأعداء دوليين وعلى رأسهم المحتل الأمريكي وبعض دول الغرب وصب تدخلهم في زعزعة السيادة العراقية كأنتهاك أمريكا للقرارات الأممية بضرب المواقع العسكرية وخرق السيادة العراقية ولا ننسى تصريحات مستشار المرشد الأيراني علي أكبر ولايتي من بغداد في نهاية 2018:قال {أنهُ لا يمكن السماح للبراليين والشيوعيين والعلمانيين لحكم العراق}!؟

- أسلوب الأعلام في نشر الأشاعة والتي تنتشر بسرعة فائقة تسري كالنار في الهشيم بوسائل الأعلام وصفحات التواصل الأجتماعي والتي أطرتْ تلك الفواجع بأطار المؤامرة للتذكير فقط ما جرى من فواجع عند نفوق ملايين الأسماك في صلاح الدين والأنبار يطرحون علينا حكاية تسميم غلاصم الأسماك، وكارثة موت آلاف الدونمات من محصول الطماطة الزبيرية برش مادة سميّة في تلك المزارع، وحرق مزارع الحنطة المتزامن في موسم حصادها وكل هذه الفواجع أسبابها تافهة أقلها تماس كهربائي، أنهُ شيءٌ مضحك ومقرف عندما يكون خطابنا الأعلامي بهذه التفاهة الهزلية الساذجة.

- سياسة التلاعب ببعض القوانين التي تنشط في وقت الأزمة وأصبحت ملازمة للبرلمان وقد شاهدنا في الدورة السابقة للبرلمان تمرير ثلاثة قوانين في صفقة واحدة أو كما يحلو لبعض النواب الفايخين تسميتها في (سلّة واحدة) وهي نفس سياسة الصفقات التي تعتمد الكثير منها على التسقيط، وأعتمدت عند بعض المرشحين جزءاً مهما من حملاتهم الأنتخابية وخلال تلك المعركة الأنتخابية يتضح أتفاق مشبوه غير متوازن لأن الأحزاب الكبيرة والرؤوس المعروفة في الأوساط السياسية أستولت على الشوارع وشاشات التلفزة وفرق أخرى صغيرة تتجول الأزقة وتطرق الأبواب للدعوة لأنتخاب مرشحيهم وأخرى تتجه نحو مزاد شراء أصوات الناخبين مقابل 100-200 دولار للصوت الواحد وكل هذا التلاعب الغير مشروع يجري تحت عدم الألتزام بمعايير مفوضية الأنتخابات

- اللجوء إلى أستعمال الفيس بوك وبشكلٍ كبير بل ربما بجيوش ألكترونية مملوكة لجهات وأحزاب سياسية بل وصل الأمر ألى التعرض لأعراض بعض المرشحين والمرشحات مما يضطر البعض منهم ألى الأنسحاب خوفاً من تعاظم الأستهداف ليصل إلى التصفية الجسدية ويرجع سبب الأهتمام بوسيلة التواصل الأجتماعي سهولة أستعماله من عموم الشعب بل غالبيته وأيضا أنها بعيدة من سطوة الملاحقة القانونية بسبب أتساعها وكثرتها أضافة إلى أنها غير مكلفة .

***

كاتب وباحث عراقي مغترب

في آب 2024

..................................

مصادر البحث والهوامش

-الوجه الآخر للحكم الملكي في العراق-د- هادي حسن عليوي

- جمهورية الخوف – المفكر حسن العلوي

- تأريخ العراق – حنا بطاطو

- الوزارات العراقية – المؤرخ عبدالرزاق الحسني

- التأريخ يكتب غدا – عبدالمجيد حسيب القيسي

- مير بصري- أعلام السياسة ص 182

إستنتاجات سابقة لأوانها وأخرى ليست علمية

في البرنامج التلفزيوني "بالعراقي" لـ"الحرة عراق"، أقر مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع: " إتشار حجم التلوث الإشعاعي الناجم عن إستخدام أسلحة اليورانيوم "المنضب،" وتزايد عدد ضحاياه المصابين بالسرطان". لكنه إستدرك: " الآن نستطيع القول ان الآثار المستقبلية للإشعاع توقفت تماماً، وما حدث حدث..". وطرح أيضاً: " تأثيرات إشعاع اليورانيوم  المنضب هي شائعات مقصودة إقتصادياً ضد البصرة ، لان اليورانيوم لا ينتقل بالهواء ولا بالغذاء"..

لا نعلم ما هو إختصاص المدير، الذي كان "يستنجد" بالدكتور الباهلي ليؤيد صحة إستنتاجاته، بشأن اليورانيوم "المنضب" وأضراره، والتي كانت متناقضة ،وليست علمية.ولعل أخطرها:"توقف" الآثار المستقبلية للإشعاع تماماً !! مخالفاً العلم، الذي يؤكد ان التأثيرات البيولوجية لسمية اليورانيوم "المنضب" تستمر 4.5 مليار سنة،والواقع العراقي،حيث تتضاعف أعداد ضحاياه. وهو نفسه أقر بـ " تزايد عدد ضحاياه المصابين بالسرطان"!!.

ونضيف أن أمين عام مجلس السرطان في العراق د. تحسين الربيعي أكد تسجيل 39 ألف إصابة جديدة بمرض السرطان في عام 2022 (" واع"، 2024/3/19).. ونفس الأرقام  كانت تقريبا في أعوام 2017- 2023.. فكيف " توقف تأثيره". ومركزه نفسه رد عليه بإعلانه : ان هدف ا"لخطة الوطنية اعلان العراق خاليا من اثار التلوث الاشعاعي باليورانيوم المنضب وازالة اثاره عن البيئة والانسان" ("واع"،21 /1/2024).

نعتقد ان مثل هذه الطروحات تدلل على عدم دراية أو قلة معرفة بالمستجدات العلمية ذات العلاقة بطبيعة  اليورانيوم "المنضب"،وبسميته الكيميائية والإشعاعية وأضرارها البيولوجية.. نقترح  مطالعة 3 أوراق بحثية لنا منشورة في مجلة " الثقافة الجديدة" الغراء، مكرسة لهذه الموضوعات، وغنية بالمصادر العلمية الرصينة، أدناه روابطها:

1- ذخائر اليورانيوم المنضب ..مستجدات علمية، العدد المزدوج 353-354،تشرين الثاني 2012، 45

https://althakafaaljadeda.net/index.php/pdf-magazine/141-353-354-2012

2-ضوء على السمية الأشعاعية والكيميائية لليورانيوم المنضب، العدد 380، كانون الثاني 2016، 53

https://althakafaaljadeda.net/index.php/pdf-magazine/122-380-2016

3-تجاهل أثر أسلحة الحرب ودورها في الكارثة البيئية والصحية  في العراق.. خيانة علمية ووطنية !، العدد 382، اَيار 2016، ص 45

https://althakafaaljadeda.net/index.php/pdf-magazine/120-382-2016

فضيحة بجلاجل

المزاعم السالفة تنطوي على مخاطر إهمال متابعة التلوث الإشعاعي وضحاياه، لاسيما وثمة تخبط جلي في بيانات المركز العتيد. فبعد الإعلان عن تشكيل الفريق الوطني لإزالة الملوثات الإشعاعية، نفت وزارة البيئة وجود تلوث إشعاعي في العراق (" المدى"، 9/3/2022). مكررة نفي مركز الوقاية من الإشعاع في تقريره لشهر حزيران 2010 "خلو هواء وتربة ومياه العراق من أي تلوث إشعاعي"..

والفضيحة المجلجلة اَنذاك هي أنه قبل نفي المركز بنحو ثلاثة أشهر، نُشرت في لندن دراسة عراقية رسمية شارك فيها مع وزارتي العلوم والتكنولوجيا والصحة،أكدت وجود أكثر من 40 موقعاً في العراق ملوّثة بمستويات عالية من الإشعاع والسموم، 25 بالمائة منها تقع داخل أو بالقرب من المدن والبلدات الكبيرة،التي تنتشؤ فيها نسب متزايدة للسرطان، والعيوب الخلقية. وتحتوي ساحات الحديد المضروب، من مخلفات اليورانيوم "المنضب" الذي استخدمت ذخائره الحربية خلال حربي 1991 و 2003.، في بغداد والبصرة وحولهما، على مستويات عالية من الإشعاعات الخطرة، راجع:

Iraq littered with high levels of nuclear and dioxin contamination, study finds, By Martin Chulov in Baghdad, The Guardian, UK, 22 January 2010

المفارقة الجديدة، أنه بعد النفي الثاني في اَذار 2022 بـ 4 أشهر،اعلنت وزارة البيئة، مرة أخرى "إعدادها آليات تنفيذ الخطة الوطنية لازالة التلوث الاشعاعي " ("نينا"،6/7/2022).وفي اَب 2022، أعلنت عن "الخطة الوطنية لإزالة التلوث الإشعاعي"..

والمفارقة الأخرى،أنه في نفس اليوم أعلن د.الحسيني أن "ملف اليورانيوم اُختتم في محافظة البصرة"، وأضاف:" أن الخطة بدأت من محافظة البصرة وميسان، ومن المؤمل خلال إسبوع الانتقال إلى محافظة المثنى، وبعدها إلى ذي قار والأنبار"، منوهاً "ان الملف الأصعب والذي يحتاج إلى جهد كبير هو مدينة الموصل، فهناك موقعان يحتويان على مطامر دفنت فيها المواد المشعة وقامت داعش عند إحتلال الموصل بتنقيب المنطقة وبعثرة ما فيها ("الصباح"،16 /8/2022).

ما قام به حماة البيئة ويريدونه

بالضد من موقف حكومات المحاصصة والفساد،التي أهملت وتجاهلت التلوث الإشعاعي في العراق طيلة 21 عاماً  كمشكلة ساخنة وخطيرة،  يشهد التأريخ لحماة البيئة العراقيين، وبينهم علماء وأكاديميون وباحثون وخبراء، أنهم أول من طالب مراراً وتكراراً، بالتحرك الفوري لإزالة مصادر التلوث الإشعاعي من البيئة العراقية.ونشروا الكثير من المعرفة العلمبة عن طبيعة ذخائر اليورانيوم " المنضب" كنفايات نووية خطيرة، وعن السمية الكيميائية والإشعاعية، والأضرار البيولوجية لإستخدامها. وحذروا من خطورة تجاهل المشكلة وإستمرار بقاء التلوث الإشعاعي على الصحة العامة والأجيال القادمة مع كل يوم يمر.

وفي نيسان 2009،أطلقوا حملة وطنية،عنوانها:"من أجل تنظيف البيئة العراقية من المخلفات المشعة وإنقاذ من بقى حياً من الضحايا "، وقد تحولت الى حملة عالمية، بإنضمام إليها المئات من العلماء والأكاديميين والخبراء والباحثين في الإشعاع والطب الذري، وفي تأثيرات التلوث الإشعاعي وتداعياته الصحية، من  مختلف دول العالم. وقد طالبت الحملة المجتمع الدولي والأمم المتحدة ووكالاتها الدولية المتخصصة، ذات العلاقة بتقديم الدعم العاجل والمساعدة اللازمة للحكومة العراقية لإنجاز هذه المهمة الكبيرة..

وبجهود أكاديميين عراقيين نظمت الجامعة التكنولوجية في لوليو (Luleå) بالسويد، في عام 2011، ورشة عمل علمية عالمية، كُرِسَت لتخليص العراق من ركام الحرب الملوث باليورانيوم بطرق اَمنة وبأقل التكاليف. وأُرسلت اللجنة المنظمة وثائق الورشة الى كافة الجهات العراقية المعنية، وإستلمتها..

المُعيب والمُريب ان  كافة الجهود التي بذلت والمبادرات الحريصة التي قدمت، من داخل العراق وخارجه، جوبهت بالأهمال الفج من قبل الجهات المعنية، ولم تكلف نفسها ولو بالإطلاع على مضامينها.

وفوق هذا، إتخذت إدارة مركز الوقاية من الإشعاع ، بقيادة بشري علي أحمد، موقفاً لامهنياً ولاوطنياً ولاإنسانياً،عندما وقفت، بوعي أو دون وعي، في صف البنتاغون وأبواقه في سعيهم المحموم لـ" تبرئة " جريمة إستخدامه وحلفائه لأسلحة اليورانيوم الفتاكة، في حربين مدمرتين على العراق، مجسدة موقفها بالإنكار والتعتيم والتستر وتشويه الحقائق المتعلقة بحجم التلوث باليورانيوم "المنضب" وتداعياته الخطيرة، وتوجته بفضيحة مجلجلة- كما أسلفنا

ولقد أعلنت وزارة البيئة ومركزها العتيد عن العديد من "الخطط الوطنية" و "المشاريع " ذات العلاقة بالتلوث الإشعاعي، دون نشر تفاصيل وافية عنها، ولا عن "إنجازها "، بينما واصلت محنة المواطنين ضحايا الإشعاع  تفاقمها،وهي خير دليل على فشل المتنفذين.

إرتباطاً بكل هذا، وغيره، يحق لحماة البيئة العراقية إبداء عدم القناعة،وحتى عدم الثقة، بتنفيذ " الخطة الوطنية لإزالة التلوث الإشعاعي" المطروحة، كلياً، ولا " بقرب إعلان خلو العراق من الإشعاع  تماماً". ومن حقهم ان لا يشاركوا المتحمسين تفاؤلهم وهو يتحدثون عن " النسب المتقدمة التي حققتها "، والتي لا تخلو من مبالغة، وليست واقعية، وتوحي بإستباق للأحداث.

كما ولا يتفقون مع الطروحات غير العلمية، والتي تتعارض وألمستجدات العلمية لليورانيوم "المنضب " وخطورته بوصفه نفايات نووية خطيرة .

لا شك ان المهمة المطروحة مهمة كبيرة، طال إنتظارها، وشابها الكثير من الإهمال والتقصير. من غير المعقول إنجازها خلال أشهر وأيام، وبميزانية بائسة. فكل هذا يعطي المبرر للتساؤل:

لماذا التعجيل، ولمصلحة مَن، إعلان " خلو  العراق من التلوث الإشعاعي" بهذه الطريقة المشكوك فيها؟

وبصراحة، ان تجربة العقدين المنصرمين لم  تشجع على التفاؤل، الأمر الذي يتطلب الأخذ بالنقد الموضوعي البناء كوسيلة للتقويم والتطوير، لا إعتباره "إستهانة"، أو لـ " تثبيط " العزائم المخلصة والحريصة..

مرد التشاؤم هو التجارب المريرة، والممارسات الصادمة التي عشناها طيلة عقدين كاملين في ظل منظومة المحاصصة وتقاسم المناصب والإمتيازات، وما أنتجته من هيمنة للجهلة والفاشلين على مؤسسات الدولة، وتجلت، في المشكلة المطروحة، بسوء الإدارة البيئية، والتخبط، ولادراية بالمشاكل القائمة، وبتبعاتها، وسبل معالجتها..ففشل الأداريون غير الأكفاء بواجباتهم، فشلآ ذريعاً، وبالغوا بـ "إنجازاتهم" بالكذب الصلف.

كل ما يتمناه حماة البيئة العراقيين هو خلاص شعبنا الجريح من التلوث الإشعاعي القاتل ووضع حد لتبعاته الصحية الخطيرة،عاجلآ وحقاً وفعلآ. وإقتراناً بذلك لا يسكتون على الفشل والتدليس..

بذات الوقت، هم من أشد الداعمين للجهود العلمية والوطنية الخيرة المثمرة.

من هنا، فهم لا يتمنون الفشل للجهة التي ستنهض بإزالة التلوث الإشعاعي.. لكنهم ينبهون: الفشل حليف كل من يواصل  السير على نهج الإدارة السابقة وممارساتها اللامهنية واللاوطنية، والتي فشلت بمعالجة الإشعاع المنتشر، وفاقمت من محنة ضحاياه، وفي مقدمتهم أطفالنا-عماد الحاضر والمستقبل.

***

د. كاظم المقدادي

أكاديمي عراقي متقاعد،متخصص بالصحة والبيئة وبالأضرار البيولوجية لإستخدام ذخائر اليورانيوم المشعة.

عندما تُعلن الأنظمة، تحت هيمنة القوى الدّينيّة المسيسة، تطبيق الشّريعة، تكون أول ضحاياها النّساء، من سن زواجهنَّ وطلاقهنَّ، نشوزهنَّ، حضانة أولادهنَّ، الاستمتاع بهنَّ، ناهيك عما يقع عليهنَّ مِن جرائم الشّرف، وأنظمة لا ترى حتَّى تعليمهنَّ. برزت في العراق بدايةً (9/4/2003) الدَّعواتُ إلى الحِجاب، بقهر طالبات الجامعة، واغتيلت واختطفت كثيرات، وبعد مئة عام عادت معارك «السُّفوريين والحِجابيين»، التي جرت في عشرينيات القرن الماضي عبر المقالات والقصائد، وانطلق سهم الزّمن إلى الأمام، فالمرأة حرّةٌ في رأسها وعقلها، تغطيه أم تكشفه، لكن بعد 100 عام توحش الخطاب.

قدمت القوى الدّينيّة، المعارضة سابقاً، نفسَها ناشدةً الحرية، لكنَّ أول ما ترأس أعضاؤها مجلسَ الحكم (2003)، أفصحت عن إلغاء قانون الأحوال الشَّخصيَّة (188/1959)، وما أن جاء الدّور للمدنيين حتى ألغوا الإلغاء، فظلت القوى الدينية تتحين الثَّأر مِن قانون شَرع حقوقاً متقدمة بإنصاف المرأة. جاء ثأرهم في المادة(41) مِن الدُّستور(2005): العراقيون يحتكمون، في أحوالهم الشَّخصيَّة، لدى الفقيه؛ بينما فقهاء يعتقدون: أنّ الرَّسائل الفقهية لا تصلح لمواكبة الزَّمن؛ ناهيك عن حياد الدَّولة، في حماية مواطناتها، مِن أبٍ شرع مذهبه تزويج ابنته طفلةً، والخطوبة تصح للرضيعة، وجواز الاستمتاع بها، والتخلي عن حماية المرأة من زوج وجد إلغاء الحضانة للأم، حتى العاشرة، نصراً.

عندما قُدم «القانون الجعفري»، وهو ما يحاولون تطبيقه الآن، كتبتُ في «الاتحاد»: «الأحوال الشخصية العراقي.. نكوص الزَّمن» (30 أكتوبر 2013)، و«العراق.. رسالة الفقيه لا تصلح قانوناً» (11/3/2014)، وفي كتاب «بعد إذن الفقيه»: «عرائس الموت» (زواج الصَّغيرات) المرتبط بإلغاء القانون الملكي الجمهوريّ، الذي شرع سن تزويج البنت 18 عاماً.

لا تملُّ القوى الدينية من استغلال ما تعتبره «ديمقراطية الأكثريّة»، مِن أجل فرض تشريعاتها على المجتمع، وآخر ذلك لائحة قدمتها (24/7/2024) لإلغاء المادة (57) مِن قانون الأحوال الشخصية، الخاصة بالحضانة، بجعل المحاكم المدنية مجرد مكاتبَ للتنفيذ، والأمر والنَّهي للوقفين الشّيعي والسّني، فصارا ليسا لإدارة أمور العبادة، مساجد وحسينيات وعتبات، وإنما أخذَا مكان الدَّولة.

كانت النية مبيتة عند كتابة الدُّستور (2005)، والاستنفار للتصويت، استغفالاً لخروج العراقيين من وطأة الحصارٍ والحملة الإيمانيّة، والقادمون من الخارج دخلوا حاملين فؤوس الهدم، ومنها هدم مَدنية الأحوال الشّخصيّة، فرئيس لجنة الدّستور معممٌ مِن أصحاب الثأر.

عندما جاء في القانون الأساسي للدولة العراقية (1924)، الأحوال الشَّخصيَّة عبر المذاهب، كان لضرورة البداية، فظل العهد الملكي ساعياً لقانون مدني، نفسه، مع إضافة، أذيع (1959)، يومها أعلن مرجع زمانه معارضته، مخاطباً سلطة انقلاب 1963 لإلغائه، وقال: «إن حكومة العهد الملكي، سبق أنْ شرعت قانوناً للأحوال الشخصية، خالفت فيه الشرع الإسلامي، وعرضته على مجلس النُّواب، فأرسلتُ أحد أولادي للاتصال بالنُّواب، وإبلاغهم استنكاري لهذا القانون» (بحر العلوم، أضواء على قانون الأحوال الشّخصية)، والنَواب المذكورون مِن مقلديه.

صحيح، تعود مودة الأزياء إلى الوراء، مع لمسات حداثيَّة، لكنَّ القوانين غير، والمبدأ مطروح: «الأحكام تتغير بتغير الأزمان» (مجلة الأحكام الشَّرعيَّة العثمانيَّة). إنها مئة عام (1924-2024)، والرسائل الفقهية تصطدم بالزَّمن.

 أقول: مَن لم يتأثر بالزّمن، يعش خارجه، فإرجاع النَّاس إلى مذاهبهم، تفكيك اجتماعي وطني، بعذر عدم التعارض مع الإسلام. هل أراد الإسلام غير مصالح العباد؟ وهل تزويج الصَّغيرات، وقضم حضانة الأم، من المصالح؟ وهل مادة قتل النّساء غسلاً للعار (409)، التي بحت الحناجر لإلغائها، هي نصرةٌ للإسلام؟ وهل تفتيت المجتمع بالقانون مِن الإسلام؟ ومع ذلك يعدون هذا إصلاحاً.

 لمعروف الرُّصافيّ (ت: 1945) في الإصلاح المقلوب: «مَن مُبلغ القومَ أنَّ المصلحين لهم/أمسوا كمن لبس الجلبابَ مقلوبا» (الدِّيوان، ما هكذا). إنها جرعات أسلمة، بوصفة طائفيَّة: تشريع «الغدير» عيداً وطنيَّاً، وإفشاء المذهبيّة رسميَّاً، لهذا قُتل ثماني مئة شيعي وشيعية بيد حماة الأسلمة، بسبب شعارهم: «نُريد وطناً» (2019).

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

سبق وأن كتبنا قبل حوالي سنة أنه ينبغي أن يتمّ الإصلاحُ الاجتماعي والتربوي والإداري والصحي بالوتيرة السريعة نفسها التي يتمّ بها الإصلاحُ الرياضي والتنميةُ السياحية في بلدنا الحبيب "المغرب". ويندرج الملف القضائي وحرية التعبير وسجناء الرأي أيضا ضمن الإصلاح الاجتماعي عامة.

إن العفو الملكي على بعض الصحافيين ومعتقلي الرأي بمناسبة الذكرى 25 لتربعه على عرش المملكة المغربية (30 غشت 2024)، يمكن اعتباره خطوة مهمة تتداعى بنا إلى البدايات الأولى لحكم الملك محمد السادس، والتي دشنت مرحلة الإنصاف والمصالحة وترسيخ ثوابت المملكة لدى كافة شرائح الشعب المغربي، بالإضافة إلى إطلاق مجموعة من المبادرات السياسية والأورواش السيوسيو-اقتصادية، وتفعيل الدبلوماسية السياسية والدينية المغربية.

بفضل ذلك، حقق المغرب بعض النتائج المهمة التي كانت تقطع بشكل أو بآخر مع مرحلة ما قبل بداية الألفية الثالثة. لكنها سرعان ما تراجعت القهقرى جراء جملة من العوامل السياسية والاقتصادية الداخلية والخارجية، كاحتجاجات الربيع العربي، وحراك الريف، وملف الوحدة الوطنية، وأزمة كورونا، وغيرها. وهذا ما أثر نوعا ما على المسار الإيجابي الذي كانت قد دشّن به المغرب هذه المرحلة. ومع ذلك، فظل حلم النهوض بالوطن يسكن قلب كل المغاربة؛ دولة وشعبا، سلطات ومواطنين، داخل الوطن وخارجه.

ويفسر ذلك التراجع بالدرجة الأولى بالأداء الحكومي الذي اتسم في هذه المرحلة بمغامرة التجريب غير المُحكم على حساب الحقوق الكبرى للشعب والوطن (دعم المواد الأساسية، التقاعد، الغلاء وتراجع القدرة الشرائية...). وقد عملت الحكومات التي تناوبت على هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب المعاصر على المحاولة بكل الآليات والوسائل؛ حتى "اللاديمقراطية"، إن صح التعبير، لتنزيل جملة من القوانين دون مراعاة الظروف المتردية التي تتخبط فيها الكثير من الفئات الاجتماعية الكادحة والهشة، ولا أدل على ذلك من ملفات التغطية الصحية والمحاكمات القضائية. وقد أفضى ذلك إلى نشوء يأس عارم لدى الكثير من المواطنين؛ شبابا وشيبا، رجالا ونساء، مثقفين ومواطنين عاديين؛ فمنهم من فضل قوارب الموت على البقاء محبطا في وطن يعيش فيه غريبا، ومنهم من اكتفى بلعن الظروف في صمت، ومنهم من اعتمد شبكات التواصل الاجتماعي وسيلة للتنفيس عن إحباطه، وهكذا دواليك.

في مقابل ذلك، كانت الدولة المغربية تطلق المشاريع الاقتصادية الكبرى لتعزيز البنيات التحتية، وتطوير القطاعات الصناعية الثقيلة، والرقي بالملاحة الجوية والبحرية، وتقوية المجال الطاقي والبيئي، وغيرها. وتتميز بعض هذه المشاريع بأنها ذو طبيعة استراتيجية وصل صداها إلى شتى البلدان الأوروبية والإفريقية والعربية والأسيوية؛ فمنها من عبر عن إعجابه بالمسار التنموي والاقتصادي الذي اختاره المغرب، ومنها من تخوف من المنافسة الشرسة للمنتجات المغربية، ومنها من انخرط في التجربة الاقتصادية المغربية الصاعدة، ومنها من عادى أو استخف مما يطرحه من أوراش ويحققه من إنجازات.

وبالموازاة مع السياسة الاقتصادية والتصنيعية التي اعتمدها المغرب، تم تطوير الدبلوماسية المغربية سواء على المستوى السياسي، حيث حقق مقترح الحكم الذاتي تجاوبا دوليا مهما، ترسخ معه الحق المغربي التاريخي والسياسي والقانوني في صحرائه، أو على مستوى الدبلوماسية الدينية المغربية التي حققت فتوحات هائلة في عدد مهم من البلدان الإفريقية.

عود على بدء، إن النهج الاقتصادي والتنموي الذي اختاره المغرب لا يخلو من سلبيات، لكن في الوقت نفسه ينطوي على إيجابيات. وهناك فرصة كبيرة لتعزيزه عبر اعتماد مقاربة شمولية؛ لا تركز فقط على الاستثمار الصناعي والاقتصادي والرياضي، بل تستثمر أيضا في الإنسان بكونه عصب كل دينامية اقتصادية. ونقصد الاستثمار الاجتماعي والتربوي والقيمي في المواطن المغربي، لأنه لا يمكن تحقيق تطور حقيقي بإنسان مهيض الجناح ومهضوم الحقوق والكرامة والحرية.

هناك من تساءل مستغربا عن حظ سجناء حراك الريف من العفو الملكي الأخير، فاعتبر ذلك إقصاء أو إجحافا أو عنصرية، ونحن نتوقع (ونأمل أن يكون توقعنا صحيحا!) أن هذا العفو سوف تكون له تداعيات إيجابية، ويليه عفو قريب إن شاء الله تعالى عن باقي معتقلي الرأي من الريف وغيره من جهات الوطن.

وأكثر من ذلك، نتوقع أيضا أن يعيد المغرب النظر في السياسات الحكومية المتعلقة بالشأن الاجتماعي، حتى يتحقق نوع من التوازن بين الاستثمار في الاقتصاد والصناعة والبنيات التحتية وبين الإصلاح الاجتماعي والتربوي والإداري والصحي. وقد أصبح ذلك ضروريا أمام الدولة المغربية التي أثبتت للعالم على أنها قادرة على تحقيق دينامية مهمة في صناعة السيارات والطيران والطاقة الشمسية والريحية والملاحة البحرية والبيئة، واليوم ينتظر منها العالم، لاسيما الجيران على الضفة الأوروبية أن تنقل هذا النجاح إلى القطاعات الاجتماعية الحيوية من صحة وتعليم وإدارة وعالم قروي.

***

بقلم: د. التجاني بولعوالي

منذ قيام دول الشرق الأوسط الجمهوريات والممالك والنُّخب السياسية والفكرية والجمعيات والأحزاب تتأرجح بين مجموعة من الخيارات لتنظيم نهج وهيكل تلك الدول، وفي مقدمة تلك الخيارات خياران مهمان اختزلا منظومة التفكير السائدة في حينها، وهما (الإسلام هو الحل) و(الديمقراطية هي الحل)، هذان الحلّان تأرجحا أيضاً بين قبول الأغلبية القبلية وأعرافها السائدة، والأقرب إلى مزاجها وحسّها العام وهو الخيار الديني، بينما انحصر الخيار الثاني (الديمقراطية) بالنخب التنويرية المتأثّرة بالنظام الأوروبي وخاصة البريطاني والفرنسي.

على ساحة هذين الخيارين خاضت تلك النخب وخاصة خيار الديمقراطية، نضالاً دؤوباً وتضحيات جساماً لتحقيق شيء من هذا الحل في مجتمعات بعيدة كلّ البعد عن هذا النهج في الحياة الاجتماعية، التي تتقاطع تماماً مع تطبيقات الديمقراطية، خاصة في جانبها الاجتماعي، حيث تصطدم بقوة مع منظومة متوارثة من التقاليد والأعراف، ناهيك عن القواعد الأساسية في الدين، وما يرتبط فكرياً وثقافياً بحريّة الرأي والتعبير، ففي معظم بلداننا ومجتمعاتنا تغلب الثقافة القبلية والدينية على تفكير الناس وتعامُلاتهم مع مفردات الحياة وتفصيلاتها.

هذه الثقافة المتكلّسة عبر قرون تتقاطع في أساسياتها مع النمط الغربي للديمقراطية، ومع حريّة الرأي والتفكير والتعبير عنهما تحديداً، حيث تصطدم بجدران الممنوعات التي تفرضها هذه الثقافة، خاصة ما يتعلق بالنساء وحقوق الإنسان والمكوّنات الدينية المختلفة، وهنا أتحدث أفقياً عن المجتمعات وليس عن النظام السياسي الذي ربّما يفرضُ نوعاً من هذه السلوكيات نظريا كما حصل في كلّ من العراق ومصر وسوريا والجزائر وتونس والسودان وإيران وحتى تركيا، التي تعدُّ نفسها مع إسرائيل أعرق ديمقراطيتين في الشرق الأوسط، وتتناسيان أن التطرّف والتحفظ الديني فيهما يُتّهم بالكفر أو الخيانة كل مَنْ يعارضهما فكرياً أو دينياً.

هذا النمط من الثقافات الأفقية منع أيَّ حلٍّ من هذا النوع، ورفع شعار آخر عدّ فيه الدين هو الحل، كما في شعار الأحزاب الدينية الإسلامية التي فشلت هي الأخرى فشلاً ذريعاً في مصر وتركيا وقبلهما إيران وأفغانستان اللتين تحوّلتا إلى سجن رهيب يخضع لسلطات عسكرية وأمنية عقائدية، تعتمد القتل في أيّ توجُّه معارض باستخدام القواعد الدينية، باعتبار معارضتهم هي معارضة لعقيدة الله ودستوره، وهو ما يجري الآن على أيدي الفصائل والميليشيات العقائدية التي احتوت الدولة ومؤسساتها وتعمل على تطبيق تعاليم عقائدها الدينية والمذهبية خارج مفهوم الدولة والدستور. من هنا ندركُ جيداً أن هذه الجدران الدينية والقبلية، وما يرتبط بهما من متوارث التقاليد والأعراف هي التي تتحكّم في مفاصل مهمّة من حياة الناس، حتى أصبحت الآمر الناهي في كثير من قواعد السلوك الاجتماعي، وخاصة في النصف المُعطّل من المجتمع، بل اندفع إلى مواقع القضاء ليكون بديلاً عنه، ناهيك عن دوره المفصلي في إيصال أصحاب هذه الثقافات إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية بآليات قبلية أو فتاوى دينية، وقد بان ذلك بشكل واضح جداً في كلّ الانتخابات التي جرت في معظم بلدان الحَبُو الديمقراطي سواءً في العراق أو سوريا واليمن ولبنان وإيران، وبقية دول شمال إفريقياـ ومن ماثلهم في التركيب الاجتماعي والسياسي.

ورغم التقدُّم البطيء الحاصل في تطبيقات الخيارين، وبعد أكثر من قرن من الحكم وتجاربهما السياسية القاسية التي تركت ظلالاً قاتمة على معظم بلدان الشرق الأوسط لم تنجح أيّة تجربة من تجارب الخيارين، فقد فشل الخيار الديني فشلاً ذريعاً، ولم يستطع مواجهة مشكلة حقوق الإنسان والمرأة، وتداوُل الحكم والمكوّنات غير الإسلامية، وفي المقابل أيضاً عجزت النُّخب السياسية من ترجمة الحل الديمقراطي، فاصطدمت بمنظوماتٍ اجتماعيةٍ ترتبط بشكل وثيق بالعادات والتقاليد التي يمتلك مفاتيحها رجال الدين والقبيلة، والتي لا يُستغنى عنها لارتباطها الشديد بكرسي الحكم الاجتماعي المطلق.

من هنا نكتشف مدى ضخامة التحدّي الذي يواجه قوى التغيير في هذه المجتمعات التي تعيش مرحلة انتقالية صعبة سبق للأوروبيين أن مرّوا بها مع اختلافات هنا وهناك في التجربتين، إلا أن الأولى نجحت في الخيار الديمقراطي بفصل الدين عن الدولة وبلورة مفهوم المواطنة الجامعة لتُنهي الصراعات العرقية والدينية، وتضع العدالة عموداً أساسياً للدولة التي ترتكز على العلم والتعليم والمعرفة ضمن نظام تربوي رفيع المستوى.

اعتقد أننا اليوم أحوج ما نكون، بعد تجارب البلاد المريرة سياسياً وعسكرياً إلى سيادة العدالة والبحث عن بديل يتناغم مع بيئتنا وقواعدها الاجتماعية يحفظ، ويصونُ مكانةَ الدين بفصله عن الدولة والسياسة، وتعزيز احترام التركيبات القبلية ورموزها بإبعادها عن أيِّ تدخُّل في النظام السياسي والقضائي، الذي يمنع بالمطلق أي تنظيم أو نشاط سياسي في المؤسسات التعليمية والعسكرية والأمنية والقضائية، بما يحصِّن المجتمع، وينأى به من أي تناحُر أو انقسام يمسُّ السلم والأمن المجتمعي، ويترك آثاراً بالغة على نموُّه وتطوُّره.

***

كفاح محمود

ميزانية بائسة: بعد جهود مضنية، دامت عامين، خصص مجلس الوزراء مبلغاً بائساً لتنفيذ البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي في عموم البلاد، وقال مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع في اَذار2023 إن وزارة البيئة "نجحت باستحصال موافقة مجلس الوزراء على تخصيص أربعة مليارات و929 مليون دينار لإنجاز البرنامج المذكور". وأكد بأن "هذه الموازنة ستسهم بتنفيذ جميع الأنشطة والمشاريع المحددة ضمن البرنامج الوطني لإزالة التلوث الإشعاعي" ("الصباح"، 2023/3/1).

لاحظوا.. بجهود مضنية تستحصل وزارة البيئة على قرابة 4 ملايين دولار لتنظيف العراق من التلوث الإشعاعي، ولتخليص الشعب العراقي من سيف الإشعاع المسلط على رقابه والمدمر لصحة وحياة أجياله، بينما هُدِرت، ونُهِبت مليارات الدولارات من خزينة الدولة وأموال الشعب، من قبل المافيات واللجان الأقتصادية للأحزاب المتنفذة ومليشياتها المسلحة، وتُنفق شهرياً ملايين الدولارات على حمايات المسؤولين والنواب، وملايين أخرى على المستشارين ووعاظ السلاطين، وثالثة على الفضائيين، ورابعة على الرفحاويين، وخامسة على الوقفين الشيعي والسني، اللذين بلغت مخصصاتهما السنوية أضعاف مخصصات وزارات الصحة والبيئة والتربية والزراعة والصناعة، مجتمعة.

ويتواصل "إعداد" اَليات التنفيذ وتشكيل الفرق

بعد كل ما أعدته ونشرته الجهات المسؤولة من "خطط" و"إجراءات"، واصلت وزارة البيئة لغاية تموز 2022، حديثها عن "إعدادها لآليات تنفيذ الخطة الوطنية لازالة التلوث الاشعاعي".وكانت قد تمت خلال اجتماع عقدته لجنة الامر الديواني 26 لسنة 2021، برئاسة المستشار حامد الباهلي عضو هيئة المستشارين في رئاسة مجلس الوزراء، مناقشة اخر المستجدات بشان ازالة التلوث الاشعاعي، واعداد اليات تنفيذ خطة لازالته. كما ناقش المجتمعون آليات توفير التخصيصات المالية اللازمة لتنفيذ كامل البرنامج.ووافقت الامانة العامة لمجلس الوزراء على ادراجها ضمن موازنة عام 2022 ("نينا"، 6/7/2021).

وبعد أكثر من 4 أشهر، أعلن د.الحسيني بإن مركزه " سيقدم الخطة الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء لإقرار موازنة الفريق المكلف بتخليص العراق من آثار التلوث الإشعاعي، لا تتعدى الـ4 ملايين دولار"..

تُرى، هل من المعقول تنفيذ أنشطة ومشاريع برنامج أزالة الأشعاع بمبلغ 4 ملايين دولار ؟ والحسيني نفسه أعلن: "لشركات الأجنبية يمكن أن تكلف العراق 500 مليون دولار في حال قامت بمسح إشعاعي لمحافظة واحدة" (" الصباح"، 27/11/2021)

وفي نفس الشهر، أعلن د. عبد الكريم الفيصل رئيس هيئة المستشارين في رئاسة مجلس الوزراء عن "تشكيل فريق وطني لإزالة الملوثات الإشعاعية من جميع مناطق العراق"، وذلك بأمر من رئيس الحكومة، مؤلف من 4 جهات حكومية هي: وزارتا التعليم العالي والبحث العلمي والعلوم والتكنولوجية والبيئة، ممثلة بمركز الوقاية من الإشعاع، وهيئة المستشارين.وان الخطة تنطلق من محافظة البصرة التي تضم أكثر من 28 موقاً ملوثاً بالإشعاع. جاء ذلك في برنامج تلفغزيوني لـ "الحرة عراق"، في 24/ 11/ 2021، شارك فيه الحسيني عن وزارة البيئة، مع د. حامد الباهلي عضو لجنة المستشارين التابعة لمجلس الوزراء و د.عقيل مريوش المشرف على تشكيلات النشاط النووي في العلوم والتكنولوجيا والمنسق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وناقشوا " الخطة الوطنية الحكومية لإزالة التلوث الإشعاعي"

وفي تموز 2022، اعلنت وزارة البيئة، مرة أخرى، "إعدادها آليات تنفيذ الخطة الوطنية لازالة التلوث الاشعاعي "("إينا"، 6/7/2021 ). وليس واضحاً فيما إذا إنتهت تماماً مهمة الإعداد لحد اليوم.

لا تفاصيل وافية ولا ضمانات مكفولة

بالعودة لـ"الخطة الوطنية لإزالة التلوث الإشعاعي في العراق"، التي أقرّها مجلس الوزراء، وحدد فيها ادوار الجهات الوطنية المسؤولة عن الخطة، وتوفير مستلزمات إنجاحها لتحقيق الهدف منها- "اعلان العراق خاليا من اثار التلوث الاشعاعي باليورانيوم "المنضب"، وازالة اثاره عن البيئة والانسان، في سعي حكومي جاد لمعالجة هذه الاثار"("إينا"، 21/1/2024).

لم نجد للخطة تفاصيل وافية متاحة للعامة.و هذه سلوكية سلطوية ممنهجة تُمارس طيلة العقدين المنصرمين من قبل غالبية أجهزة الدولة لتحريم الوسط العلمي العراقي من المشاركة بالإطلاع والمناقشة والإغناء..وكل ما عرفناه عنها هو ما أعلنه مركز الوقاية من الإشعاع من أنه " تم تبنيها في كانون الثاني 2024"، وان مديره العام "إجتمع مع ممثلي هيئة المستشارين في مجلس الوزراء، ومديرية ادارة النفايات بهيئة الطاقة الذرية، والهيئة العراقية للسيطرة عن المصادر المشعة، وبحضور مدراء الاقسام للمركز، لـ"مناقشة تحديث الخطة في عموم المحافظات العراقية"(المصدر السابق)..

ولم يوضح المركز أوجه التحديث..

وفي 20/3/2024، أعلن مركز الوقاية من الإشعاع ان مديره اجتمع مع خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحضور ممثلي عن الهيئات الرقابية والتنفيذية الوطنية المعنية بإدارة هذا الملف، وتم الاتفاق على تعزيز ودعم القدرات الوطنية في مجال تطوير قدرات ادارة ومعالجة النفايات المشعة والتخلص منها وفق احدث التقنيات العالمية، وتصفية المنشآت النووية العراقية، وذلك من خلال برامج التعاون التقني مع الوكالة الدولية ..

وان مسؤول برامج التعاون التقني لجمهورية العراق في الوكالة الدولية للطاقة الذرية وخبراء في الوكالة الدولية أكدوا "على تسخير الامكانيات الدولية من اجل دعم العراق في هذا المجال"..

ولم يتضح ما هو الجديد في هذا الموضوع الذي يجري تناوله طيلة 16 عاماً، ولم تنته إزالة الإشعاع.

وفي نيسان 2024، أُعلن بان " العراق يؤشر خلو 59 موقعاً من التلوث الإشعاعي"، و" خلو الهواء من اي ملوثات إشعاعية- وفق البيانات المسجلة". وأعلن المدير العام لمركز الوقاية من الإشعاع: "لا توجد مساحات واسعة ملوثة بالإشعاع في العراق، وإنما بقيت 10 مواقع فقط تتراوح مساحتها بين (20 - 25) دونماً في عموم البلاد" ("الصباح"، 4/4/2024)..

إذا بقيت حقاً 10 مواقع فقط، فلماذا إذاً الإستعجال بإعلان العراق خالياً من الإشعاع ؟

أليس الأولى والأهم إنجاز المهمة أولآ وبعدئذ التباهي وبحق بالإنجاز ؟

وأين هي الضمانات الأكيدة لإنجاز المهمة قريباً وكلياً ؟

إعلان خلو البصرة من الإشعاع أكثر من مرة

أسلفنا بأن مركز الوقاية من الإشعاع كان قد نفى في تقريره لشهر حزيران 2010 وجود أي تلوث إشعاعي في عموم العراق.. وفي عام 2021 تم إعلان " خلو البصرة من التلوث الإشعاعي". ولم يكن هذا الإعلان الأول، وإنما سبقته إعلانات عديدة. وفي أيلول 2021، أعلنت الحكومة العراقية خلال مؤتمر في البصرة عن خلو محافظة البصرة من التلوث الإشعاعي باليورانيوم المنضب" (Indipendent" عربية"، 27/9/2021).وفي تشرين الثاني أعلنت وزارة العلوم والتكنولوجيا:"إزالة ومعالجة التلوث الإشعاعي في البصرة " (" الفنار للإعلام"، 13/11/2021)..

والمفارقة انه بعد عدة أيام أعلن رئيس هيئة المستشارين عن: " تشكيل فريق وطني لإزالة الملوثات الإشعاعية من جميع مناطق العراق، وأن الخطة تنطلق من محافظة البصرة". وفي نفس اليوم أعلن مدير مركز الوقاية من الإشعاع "خلو البصرة تماماً من الإشعاع "(" الحرة عراق"، 24/11/2021).

وفي اَذار 2022 نفت وزارة البيئة من جديد وجود تلوث إشعاعي في العراق (" المدى"، 9/3/2022)، وفي نيسان 2024، أعلن المدير العام، للمرة الثالثة:" خلو محافظة البصرة من الإشعاع بعد أن كانت أكثر المحافظات تلوّثاً به " ("الصباح"، 23/4/ 2024).

وهنا تطرح نفسها التساؤلات التالية:

* مَن نُصدق من البيانات المذكورة ؟!!

* مَن مِن التواريخ التالية: أيلول 2021، تشرين الثاني 2021، نيسان 2024، هو تأريخ إعلان البصرة " نظيفة تماماً من الإشعاع " ؟!!

* وكيف، أي بأي اَلية نُظِفت المحافظة كلياً ؟

* وكم هو العدد الحقيقي للمواقع التي تم تنظيفها في البصرة ؟.. إذ يقول مركز الوقاية من الإشعاع هي 23 موقعاً، وتقول "الحرة عراق" 28، ويؤكد أحد الخبراء البصراويين ان مجموع المواقع الملوثة بالإشعاع في البصرة هي أكثر من 105 مواقع..

وذات الشيء ينطبق على الأعداد الحالية للمناطق الملوثة بالإشعاع في عموم البلاد. فمرة يقولون46 ومرة 36 ومرة 40، الخ. بينما أكد مسح جوي لفريق علمي أجنبي وجود أكثر من 140 موقعاً في 7 محافظات. ومؤخراً أشر مركز الوقاية من الإشعاع: " خلو 59 موقعاً ملوثاً بالإشعاع في البلاد"(" الصباح"، 4/4/2024). .

فماذا يعني هذا التناقض في الأرقام ؟

***

د. كاظم المقدادي

كان لي من العمر أربع سنين عندما اندفعتُ بكل فضول مع السائرين من أطفال وكبار، متجهين الى حيث ينتهي بنا السوق الكبير بالشارع العام الذي يؤدي من النجف الى الحلة وبغداد بعد عبوره نهر الفرات في الكوفة. رأيت حشدا كبيرا من الناس على جانبي الطريق، كنت محشورا بينهم ولكني لم أكن لأعلم لصغر عمري لماذا يحتشد هؤلاء الناس في ذلك المكان. وبعد قليل بدأ الهتاف والتصفيق الحاد يتصاعد عندما مرت امامنا بعض السيارات الفخمة والناصعة قادمة من بغداد ومتجهة نحو النجف بعد عبورها الجسر القريب منا. كان ذلك يوم افتتاح جسر الكوفة الجديد من قبل رئيس وزراء المملكة العراقية السيد "نوري باشا السعيد" في ١٩٥٦.٧.٤، والذي قامت بإنشائه شركة "فيليب هولزمان" الألمانية كأحد انجازات "مجلس الإعمار" الشهير. وفي ذلك المكان أيضا وقرب ذلك الجسر الرائع وعلى كورنيش نهر الكوفة، كانت حكومة المملكة قد أنشأت احدى كبريات مستشفيات العراق في ذلك الوقت "مستشفى الفرات الأوسط"، يُفهم من خلال تسميتها بان تغطي خدماتها الوية (محافظات) الفرات الأوسط الثلاث (الحلة وكربلاء والديوانية). وكشهادة للتاريخ عن مستوى القدرات الطبية المتطورة في عراق ذلك الوقت من العهد الملكي، اتذكر اجراء عملية جراحية في تلك المستشفى لاستئصال احدى كِلى اخي الكبير بنجاح كامل حيث عاش بعدها اخي بكِلية واحدة طيلة حياته حتى وفاته في عمر الشيخوخة رحمه الله. نعم، هذا بعض ما اتذكره من ذلك الازدهار النسبي وانا طفل يعيش في ناحية الكوفة أيام العهد الملكي، فما بالك فيما يدور في ذاكرة أطفال الذوات والمنعمين في العاصمة بغداد؟

وبعد سنتين من ذلك الحدث، قامت ثورة ١٤ تموز سنة ١٩٥٨ وبها قيام الجمهورية العراقية بعد الإطاحة بذلك النظام الملكي وقتل ملكه الشاب "فيصل الثاني" رحمه الله. كذلك ولصغر سني لم أكن لادرك ان كان ذلك التغيير الثوري صحيحا ام لا او مبررا له ام لا، لكني أتذكر عندما كانت جدتي رحمها الله تُخرج من درجها بين الحينة والأخرى صورة الملك "فيصل الثاني" لتقبلها وهي تبكي وتتساءل؛ لماذا قتلوا هذا الشاب البريء السيد ابن رسول الله؟ (باعتباره من سلالة بني هاشم). اما بالنسبة لي، فكانت تلك السنة سعيدة جدا فهي بداية تعليمي الابتدائي كأول دفعة طلابية في العهد الجمهوري، ومما يذكرني بتلك الأيام هو وضع علامة "الضرب" الحسابية او "كروس" فوق صورة الملك والتي سبق وان طبعت على الصفحة الأولى من الدفاتر التي كانت تُعطى لنا مجانا من قبل وزارة التربية، بالإضافة الى جميع الكتب المقررة والاحتياجات القرطاسية كالأقلام والمساطر والماسحات و"المقطات". كذلك كنا نتمتع مجانا بشرب الحليب الحار وبقطع الكعك في الصباحات الباردة وكبسولات دهن السمك وحقن اللقاحات الضرورية. وفي الصف كنا نغني فرحين بأناشيد مثل (عبد الكريم كل القلوب تهواك ... عبد الكريم رب العباد يرعاك ...) وغيرها. يظهر ان العراق كان مستمرا في طريق التمدن عبر إنجازات كثيرة ومنها الكثير من مشاريع ذلك "مجلس الاعمار" الخالد، كذلك كان يسير في طريق التحضر أيضا في مجال التعليم والبحث العلمي والعدالة الاجتماعية والاهم من ذلك التحرر من الاستغلال الاقطاعي والتجاري والاطماع الاستعمارية. بالرغم من الشعبية العالية والرضى الواسع من قبل اغلبية الشعب العراقي لنظام الحكم آنذاك، لم تكن الخمس سنين الأولى من العهد الجمهوري هي الفترة المثالية والمرجُوة بالمقياس العام المعاصر، من غير ان يستتب فيها او يبدأ منها حكم ديموقراطي في العراق تتناقل فيه السلطة بشكل سلمي متحضر.

وبعد تلك الفترة المزدهرة جاءت سلسلة من عواصف التراب النتنة مبتدئة في رمضان ١٩٦٣، لتنتهي في نيسان ٢٠٠٣ مرورا ١٩٦٨ وتموز ١٩٧٩، لتغطي ربوع العراق المتنوعة والوانها القزحية البهيجة بلون رمادي وحيد وكئيب ويسقط العراق بمجده المتراكم عبر الازمان من فوق حصانه لتدوسه حوافر الحمير ومخالب الثعالب.

وبعد تلك المآسي الإنسانية العنيفة والاضطرابات النفسية التي عاشها العراقيون، وبدلا من ان يستنبطو الدروس الصحيحة والعبر المفيدة، يظهر انهم اضاعوا البوصلة وتاهوا حتى وصل بهم الامر وكعادتهم ان يرموا بأخطائهم على الغير، وما يشغلهم الآن من شاغل على سبيل المثال سوى الطعن بمصداقية ثورة تموز ١٩٥٨ والحنين الى ما كان قبلها من الفترة الملكية، وفي حالات شاذة هناك من يحن الى سنين السبعينات من القرن الماضي.

وفي هذه المناسبة دعنا نلقي بعض الضوء لنقارن بين بعض الحقائق والميزات في عهدين من تاريخ العراق الحديث، بين ما قبل وبعد ثورة تموز ١٩٥٨:

- قامت بريطانيا المستعمرة للعراق بوضع أسس نظام الحكم في ١٩٢١، بتنصيب ملكا اجنبيا لعرش العراق "فيصل الأول" بعد استيراده من الخارج، وتعيين "عبد الرحمن النقيب"، المعارض لثورة العراق الشعبية في ١٩٢٠ بل المطالب ببقاء النفوذ البريطاني في العراق، من قبل ذلك الملك كأول رئيس للوزراء، واختيار وزراء ليس لهم أي دور في الثورة العراقية التي أدت الى استقلال العراق.

- قرر الضباط الاحرار في ١٩٥٨ وبدون أي املاءات خارجية بتشكيل مجلس السيادة من عراقيين مدنين وعسكريين، واختيار "عبد الكريم قاسم" باعتباره ذي اعلى رتبة عسكرية وقائدا لثورة تموز رئيسا لأول حكومة في جمهورية العراق في ١٩٥٨.

- قرر المحتل الأمريكي في ٢٠٠٣ بتشكيل مجلس الحكم من شخصيات عراقية تمثل التنوع المجتمعي العراقي، ليتم تعين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء من قبل البرلمان العراقي المنتخب بعد ممارسة ديموقراطية شعبية عامة.

- لم يكن هناك باس لو حاولت السلطات في عهد الديموقراطية البريطانية في أيام العهد الملكي تحسين معيشة الأغلبية الساحقة من المواطنين المحتاجين الى التعليم والصحة والخدمات العامة والعمل الكريم والابتعاد عن الهيمنة الاستعمارية، ثم نقل السيادة وقرار الحكم تدريجيا الى الشعب والتركيز على مصالح الدولة المستقبلية. ولما كانت اغلبية الحكومة والسلطة الملكية من عسكريين عثمانيين غارقين في تبعيتهم وولائهم للمستعمرين، فلم يحدث مثل ذلك مع الأسف الشديد، بل كان الاضطهاد والاستبداد قائما وطيلة ٣٧ سنة من الحكم مما تسبب في ثمان (٨) محاولات انقلابية عسكرية وما قد يبرر عملية الإطاحة الأخيرة الناجحة بالنظام الملكي وإقامة الجمهورية.

- كذلك، وبالرغم من إنجازاتها الشعبية الرائعة، تمنينا لو اسرعت حكومة ثورة تموز ١٩٥٨، بتأسيس بوادر النظام الديموقراطي الدستوري، وهو ما اظن ما كان مقرر له، لما سنحت الفرصة لانقلاب شباط ١٩٦٣ الدموي الفاشي.

- اما النظام الديموقراطي الحالي فلا اظن فيه عيبا جوهريا لنرمي عليه اخطائنا، بل قد يكون اصلح وسيلة انتقالية من الاستبداد السابق المفرط الى النظام الديموقراطي المدني المتحضر. ولكن، لطبيعة العقلية العراقية الحالية وتعقيداتها التاريخية والعقائدية والاثنية، لم يحاول العراقيون ان يطوروا وينقوا نظامهم الديموقراطي من شوائبه العالقة، بل كان جل اهتمامهم على كسب المصالح الذاتية والشخصية الفئوية والفساد حتى هملوا العراق وإدارة الدولة المدنية المعاصرة واوصلوه الى ما هو عليه الان.

ومع ذلك، ان اهم وأفضل ما جناه الشعب العراقي بعد تغيير ٢٠٠٣، هو ممارسة التجربة الديموقراطية الحالية بشكل متحضر ونقل السلطة بناءً على النتائج الانتخابية. وبالرغم من كل الشوائب والسلبيات، فلا بديل للأمن والسلام والبناء والتحضر الا بالمحافظة على النظام الديموقراطي والزمن أفضل كفيل في تنقيته وتطويره.

وأخيرا، اقولها وبشكل واضح ومختصر؛ من يعيش في الماضي يمنع نفسه من الوصول الى المستقبل. فالأوطان كالأشخاص قد تمرض وتصاب بجروح وكسور وما يضمن العيش الكريم لهم هو معرفة الأسباب والعلاج الصحيح، وما هو مطلوب للعراق هو لملمة شمل الشعب والاعتماد على قدراته المعنوية وموارد الوطن الطبيعية في البناء والتحضر. فصناعة المستقبل تعتمد على معطيات الحاضر (لا الماضي) من مفاهيم وقيم وعوامل متعددة كالعلم والتكنولوجيا والاقتصاد والسياسة، وما من حدث او مفهوم او معتقد كان يوما في التاريخ الا وفيه القليل او الكثير من الخطأ او النقص في ميزان الحاضر. لم تكن الثورة الفرنسية في ١٧٨٩ ولا البلشفية في ١٩١٧ ولا الصينية في ١٩٤٩ ثورات نزيهة بيضاء، لكن أصبحت وتبقى بعدها فرنسا وروسيا والصين تتصدر قمة الدول في هذا الكوكب، لقد جاء الجمهوريون بإيجابياتهم وقضوا على سلبيات الملكيين، وكان للملكيين ايجابياتهم التي طمسها الجمهوريون، ومن العبث ان نمجد او نسخف ايً منهم فهم صناعة عصرهم ونحن أبناء عصرنا. لقد نال العراقيون استقلال بلادهم في العهد الملكي، واقاموا جمهوريتهم بعد ثورة تموز ١٩٥٨، ومارسوا الديموقراطية بعد نيسان ٢٠٠٣، وما عليهم الان الا العمل الجاد وبإخلاص نحو التحضر والتقدم.

***

الدكتور غانم المحبوبي

أكاديمي، ملبورن، استراليا

تؤكد فلسفة الكتابة التاريخية الحديثة على توثيق أو إعادة توثيـق تطور الأحداث برؤية علمية تعتمد منهجية تقوم على الأساس التحليلي في محاولة التأليف الابداعي التاريخي والجغرافي وفقاً لمبدأ التقاط الحدث أو الظاهرة وتحليلها بكافة أبعادها ومتغيراتها لتوضيح أُسسها ونتائجها، وعليه فأن ما شهده العراق فجر 14 تموز 1958 يخضع لعدة متغيرات عالمية وإقليمية ومحلية، فقد كان حدثا كبيرا وتداعياته كانت الأبرز في القرن العشرين، وتتجاوز تداعياته احداث 1917 ودخول الجيش البريطاني للعراق.

لأكثر من نصف قرن مضى كتب وقيل الكثير عن ذلك؛ ممن نظر او كان شاهدا، ولا زالت الاقوال والكتابات مستمرة ممثله بإصدار المؤلفات الجامعية والعامة داخل العراق وفي صدارتها رسالة/ وكتاب زميلنا الأستاذ الدكتور ليث الزبيدي والمتوجة بعدة مقابلات مباشرة لعدد من الذين كانوا في قلب الحدث، كما صدرت الكتب خارج العراق او في المقابلات التلفزيونية لمن عايش او سمع عن الحدث وكما يجري مع استاذنا سلام مسافر في قناة روسيا اليوم، ومقابلات الدكتور حميد عبدالله في قناة يوتيفي، وجميعها كانت بالأجمال ذات محتوى جيد، عـدا تلك التي طغى عليها وجهات النظر المحدودة أحيانا او تلك التي ترتبط بعواطف فكرية معينة، وما تقدم يبقى محترما ومشرع الأبواب لبيان الحقائق وربما تعديل البعض من وجهات النظر، ولذلك فهي صحيحة الا في حالة ما ينفيها حقا.

القاعدة العلمية تؤكد على ان محاكمة التأريخ خطاء جسيم، لذلك تاريخيا ليس كل قول أو تصرف وإن كان صحيحا هو من يفعل الحدث الكبير على الإطلاق، فالأحداث الكبرى تخضع لمتغيرات كبرى تتجاوز الرأي والقول والرغبة الفردية او المتغير الواحد وهذا مهم جدا، لذلك فأن ما حدث في 14 تموز 1958 في العراق يخضع لعدة متغيرات عالمية وإقليمية ومحلية عملت طوال سنيين سابقة للحدث وكما يلي:

1) أن غالبية الضباط العراقيون الأقدم هم من ضباط الجيش العثماني والذين قدموا مع الملك فيصل الاول 1921 ولديهم رغبة الزعامة والرئاسة، كما ان للعديد من طلابهم الضباط فيما بعد ذات الرغبة.. نعم جميعهم وطنيون شجعان ولديهم رغبة الزعامة والرئاسة لذلك فأن ولاءهم للملكية لا يلغي سعيهم للتزعم وبدوافع حب الوطن المشروعة.

هـكذا نجد التنافس بينهم قد وصل لمستوى القتل بغض النظر عن مستوى العلاقة فيما بينهم، وهذا ما حدث في 1936/ بكر صدقي، و1941/ رشيد عالي، وتنظيم الضباط/ اجتماع الكاظمية 1956،  واخيرا 1957 وصولا إلى 1958 ولم يتوقف.

2) الحماسة وما رافقها من المظاهرات الصاخبة والاحكام العرفية والاعتقالات 1952-1956 والتي قادتها الحركات والأحزاب الناشئة؛ الشيوعية/ سلام عادل، القومية، الإسلامية، البعث/  فؤاد الركابي.. وكذلك تغير توجهات الأحزاب التقليدية/ 1954؛ الوطني الديموقراطي/ كامل الجادرجي واحمد حديد  والاستقلال/ فائق السامرائي، والتي كانت تعارض سياسات النظام ممثلا بحكوماته وبالمقدمة حكومات نوري سعيد/ الباشا وليس معارضة أو أسقاط النظام الملكي.

لقد أفضت الحماسة وتغير التوجهات المشار اليها؛ الى تشكيل التحالف السياسي/ جبهة الاتحاد الوطني في أذار1956 وضمت الأحزاب؛ الشيوعي، البعث، الوطني الديموقراطي، الاستقلال، ولاحقا الديمقراطي الكردستاني. وقد ارتبطت تلك الحماسة بالسياقات الوطنية، وبتردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي بداء بعضها يتحسن تدريجيا بعد تأسيس مجلس الاعمار 1950 على خلفية تزايد إيرادات النفط.

3) تأثر تلك الحماسة ايضا بالسياقات القومية ممثلة بعدة مواقف منها؛ اعلام الصحافة والاذاعات للحكومات في سورية ولبنان ومصر، والدعم السياسي السوري المستمر لأحزاب المعارضة ثم لقيام الجمهورية العراقية، فقد تم 1956 لقاء وفد سياسي برئاسة؛ صلاح الدين البيطار و اكرم الحوراني واحسان الجابري،  مع قادة أو أنصار الأحزاب؛ كامل الجادرجي و فؤاد الركابي (فندق سميراميس/ شارع الرشيد/ مقتربات جسر السنك حاليا).. وفي يوم الخميس 17تموز/ 1958 التقى ’مؤيدا’ قادة الأحزاب السورية الفاعلة؛ ميشيل عفلق/ البعث، وخالد بكداش/ الشيوعي.. بكل أعضاء مجلس السيادة العراقي والقادة السياسيين (فندق بغداد/ شارع السعدون).

4) التأثير العملي والإعلامي لأحداث مصر/ 1952، والعدوان الثلاثي/ 1956 وانقلاب مصدق/ ايران 1953، وكذلك المعارضة أو التأييد/ 1958 لقيام الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن/ 14 شباط، ولقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسورية/ 22 شباط.

5) الأمر الاخر الأهم.. تخلي بريطانيا سياسيا وليس اقتصاديا عن؛ العراق وكل مناطق ودول شرق السويس بعد 1956، وبروز الولايات المتحدة كقوة عالمية في أعقاب الحرب العالمية الثانية والتي أيدت مثلا 1949 ثلاثة انقلابات عسكرية/ سوريه.

6) الدوافع الجيوسياسية محرك استراتيجيات الدول الرأسمالية وهي؛ استمرار سيطرتها وفقا لما ترسمه شركاتها الكبرى فالاقتصاد له القرار والسياسة تنفذ، وفي العراق مؤكد شركات النفط، فعندما تقتنع هذه الشركات أن نظام الحكم القائم في دولة معينة لا يتوافق مع توجهاتها (منتهي الصلاحية بالنسبة لها).. تدفع صناع القرار بدولها لإجراء اللازم على طريقة/ بالعراقي (أخبطها واشرب صافيها).. وهذا ما حدث مرارا في الهند وباكستان والكونغو ونيجيريا ومصر وبنما وغيرها.

7) ان الاختلاف بين الدول سياسيا وربما عسكريا؛ لا يعني أبدا المعارضة المطلقة من دولة لقيام دولة اخرى بتصرف خاص في دولة ثالثة، أذ أن الاولى ربما هي المستفيدة بدون اي جهد (انا ضدك.. ولكن تصرفك في احداث دولة ثالثة لا اعترض علية لأنه لصالحي).. وهذا نهج دولي ثابت إلى الآن وسيستمر.

هــــكذا يتضح بأن المحرك لحدث تموز 1958 ليس؛ متغيرا واحدا فقط ممثلا برغبة مجموعة، ولا رغبة عابرة تسعى للسلطة او الإصلاح، او الانتقام لأحداث مايس 1941 مثلا، نعم ربما كان حادث قتل الملك فيصل الثاني والوصي عبدالاله والعائلة المالكة تصرف فردي او تصرف مجموعة محدودة.. ولكن الحدث الأكبر كان على كل العراق.. وفقا للمتغيرات المذكورة أنفا وبدليل سلسلة الاحداث عبر نصف قرن لاحق.

***

ا. د. مجيد ملوك السامرائي - كاتـب ومـؤلف وأستاذ جامعي

بحكم عملي فى الصحافة لمدة تزيد عن ثلاثة عقود فإنني أتابع الأخبار لا كما يتابعها الآخرون، بل أختزن وأحلل وأقارن وفي النهاية تتولد عندي قناعات جديدة تختلف قطعاً عما بدأت به حياتي الصحفية. هل هي حالة من النضج؟ أم مرحلة من المراحل الطبيعية للتقدم فى العمر؟ مهما يكن الأمر فقد أصبحت أقل اكتراثاً وانفعالاً أمام أخبار مثيرة للغضب والاستفزاز، وأكثر انفتاحاً أمام المخالفين لي فى الرأي؛ لأن الحق الصريح الناصع اختفي خلف ضباب التناقضوالزيف، ولم يعد بالإمكان أن تقنع أحداً برأي واحد قاطع؛ فلكل واحد مبرراته وأسبابه ومعطياته لإثبات آرائه التي يعتقد صحتها.

ربما يكون مقالي هذه المرة مختلفاً، أجيل خلاله بناظريَّ فيما حولي معلقاً على حدث هنا وموقف هناك، والرابط الوحيد بين موضوعات المقال أنها من صلب الحياة، من حدث قومي أو حوار شخصي أو كلام قيل أو كُتب. وهل الحياة إلا مجموع ما نفعل وما نقول؟

ثورة جيش وشعب

المناسبات المتكررة كل عام ترتد بنا إلى أزمان ماضية، لا لمجرد اجترار الذكريات أو للتأسي بأحداثها فحسب، بل لنقارنها بما يجري حولنا اليوم فنعتبر ونعي..

ثورة يوليو 1952هي إحدي تلك المناسبات التي أثرت فى تاريخنا المعاصر تأثيراً ممتداً عميقاً، وفصلت بين عهدين ، ورسمت طريقاً جديداً لمستقبل مصر.

الحركة المباركة كما دعوها فى البداية تمت على أيدي تنظيم الضباط الأحرار، هذا الذي نشأ أولاً بفضل صدور معاهدة 1936 التي بموجبها سمح الإنجليز لنا بتعظيم حجم الجيش المصري من 398 ضابطاً فقط إلى 982 ضابطاً ! عدد قليل لكنه كان كافياً لبلورة الحركة الوطنية المتصلة منذ مصطفي كامل إلى محمد فريد إلى سعد زغلول إلى مصطفي النحاس.

أما تنظيم الضباط الأحرار فقد تأخر تكوينه حتي مطلع عام 1949، قبل الثورة بثلاثة أعوام فقط. وكانت الاجتماعات السرية تنعقد فى بداياتها في أسيوط بمنزل جد الزعيم عبد الناصر بقرية بني مر، فكان الضباط يجلسون على مصطبة بلدي صُبت بالطين بجوار مبني قديم من الطوب اللبن ومسقوف بجذوع النخل. وبداية من منتصف عام 1952 انعقدت الاجتماعات بمنزل عبد الحكيم عامر بمصر الجديدة بالقرب من سينما روكسي.

الغريب أن الموعد المحدد للثورة كان من المفترض أن يتم فى مطلع أغسطس. إلا أن الظروف أجبرت عبد الناصر ليقرر تقديم الموعد بعد أن وجدوا الظروف مواتية للتحرك؛ إذ انتهز فرصة وجود وحدة مدرعة بأفرادها ومعداتها جاهزة للانطلاق، واستبق تحركات القصر الملكي الذي سمع بتحرك الجيش ضده فقام بحل مجلس إدارة نادي الضباط في 16 يوليو. لهذا تحرك الضباط الذين لم يزد عددهم على مائة ضابط ليقوموا بالاستيلاء على المقر العام للجيش وإغلاق الطرق المؤدية للقاهرة، وسيطروا على مقر الإذاعة ليصدروا البيان الأول للثورة.

خلال يومين سيطر الجيش على مقر الملك فاروق بالاسكندرية بقصر المنتزه الذي كان قد هرب ولجأ لقصر رأس التين خوفاً على سلامته. وكان من رأي بعض الضباط أن تتم محاكمة الملك وإعدامه، لكن انتهي الرأي لنفي الملك فاروق لإيطاليا بعد تنازله عن العرش لصالح ابنه ولي العهد الأمير أحمد فؤاد تحت الوصاية.

ترتيب البيت الداخلي استغرق عدة سنوات قبل أن تعلن الثورة مبادئها الستة: القضاء على الاستعمار والاقطاع وعلى سيطرة رأس المال، ثم إقامة جيش وطني وعدالة اجتماعية وحياة ديمقراطية. وبعد أن كان المجتمع المصري منقسم لطبقتين، إحداهما غنية ثرية تمتلك السلطة والقوة والمال، وقوامها الأتراك والإنجليز والطليان واليونانيون. انصرف كل هؤلاء وعادت الأرض لفلاحيها ومزارعيها، وانطلقت الأغاني تدعو لإقامة نهضة صناعية كبري. وبعد أن تقلبت مصر بين باشوية وخديوية وسلطنة وملكية، صارت جمهورية مصرية خالصة للمصريين. هكذا هي الأحداث الكبري والتغييرات المحورية تبدأ صغيرة ثم تكبر وتتبلور وتنضج حتي تؤتي ثمارها.

علامة خطيرة!

بغض النظر عمن سيرتقي سلم الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية لكنني غير متفائل بمستقبلها. والسبب ألسنة حكامها ولغتهم الخطابية!

لا أكاد أبالغ إذا قلت إن أحد أسباب تقدم الولايات المتحدة أنها كانت تتحلي، ولو ظاهرياً بمبادئ وقيم تقوم عليها الحضارات كالعدل والحرية والمساواة. لهذا كتبَت على عملتها الرسمية عبارة: "نحن نثق بالله: In God we trust". رغم أن أغلب سكان أمريكا ملحدون أوعلمانيون، لكن القانون الأمريكي يحمي حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية بدرجة ما.

الآن الأمر مختلف كثيراً عما مضي، فلا عدل ولا مساواة ولا ديمقراطية، وقد كشفت غزة مدي النفاق الأمريكي وأسقطت عنها ورقة التوت. في أمريكا اليوم أصبح من الممكن شراء القضاة لإصدار أحكام تصب فى مصلحة الديمقراطيين أو الجمهوريين. وباتت هناك قوانين تضيق على المهاجرين والأقليات حياتهم ومعايشهم أكثر مما مضي حتي فى ظل حكم الحزب الديمقراطي ذي المبادئ الليبرالية!

ثم هناك علامة أخري تراها واضحة فى أداء حكام أمريكا اليوم، وهو لغة خطابهم المنحلة من كل البروتوكولات والأخلاقيات. اسمع ترامب وهو يتحدث ويشتم خصومه لتسمع لغة بذيئة لا يمكن أن تصدر من إنسان مهذب فضلاً عن أن تصدر من رئيس سابق لأقوي دولة ! والعجيب أن مثل هذا الخطاب صار يستهوي أنصاره من الأمريكيين المحافظين والعنصريين. هذا مؤشر قوي وواضح لمدي التدني الأخلاقي الذي وصلت إليه أمريكا كحضارة، وهو تدني لم يبدأ الآن، لكنه وصل لذروته. ولعلك تلمس هذا حتي فى لغة الإعلام والأفلام ومنتجات هوليود الفنية الآن التي تدعو للمجون والجنون والتجرد من كل القيم.

يضاف هذا لأسباب كثيرة طالما استفضت فى شرحها، تجعلني على يقين من أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش الآن إرهاصات سقوطها الحضاري.

الباحثون عن الصداع!

صديق سألني ببراءة: كيف أكون مثقفاً؟ فترددت فى إجابته، وقلت له ما خطر بذهني يومها من إجابة تقليدية لا تقطع أمله، ولا تحرجني معه. لكن فى ضميري كان هناك رد آخر تمنيت لو قلته له: "ولماذا تريد أن تكون مثقفاً؟ إن الجهل لعمري نعمة. أتريد أن تبحث عن الصداع وتعب القلب والذهن والأعصاب فتحفر قبرك بنفسك !!؟. الأفضل ألا تعرف وألا تشغل ذهنك بإصلاح الكون كما يفعل المثقفون، هؤلاء الذين يحاربون طواحين الهواء لأنهم لم يجيدوا أن يحاربوا أعداءهم الحقيقيين: الفقر والمحسوبية والروتين والغلاء.

يا صديقي: إن الثقافة لعنة أصابت فئة مغلوبة على أمرها وإن حملتها عزة النفس على التجمل والتحمل ورفع الرأس برغم هموم تحني الهامات. المثقفون مصابون بداء البحث عن الصداع! فلا تكن مثلهم. نهارهم صحف وجرائد ومجلات وأخبار معظمها يغم النفس ويسد الشهية. ومساؤهم تفكير فيما قرأوه فى النهار!

كن مطرباً أو لاعب كرة أو حتي لاعب سيرك. لكن لا تفعل كسائر الشباب الهاربين من همومهم للمقاهي ينفثون فى دخان نرجيلتهم متاعبهم، ويملأون صدورهم بغبار أسود يقصر الأعمار، فكأنهم ينتحرون انتحار الساخرين اللامبالين.

الثقافة قراءة ورحلة وحوار، كلام تسمعه وتقوله وتكرره، ومبادئ تعتنقها وتنادي بها ثم تكتشف أن الآذان صماء وأنك كمن يؤذن فى مالطا ! الثقافة إرث أجدادك وعاداتهم، وهو إرث ليس كله خير ونعيم، بل فيه من المتاعب والمصاعب والشدائد ما ملأ آلاف الصفحات في تاريخنا الممتد الطويل المرهق.

يا صديقي: الثقافة اختيار. وقد اختارتنا الثقافة أو اخترناها نحن فأسأنا الاختيار. ولو كنت حريصاً على صحتك النفسية والذهنية والعضوية فاختر أي شئ إلا أن تكون مثقفاً!

***

د. عبد السلام فاروق

قرأتُ قبل أيام مقالاً بعنوان "عبد الكريم قاسم في ميزان التاريخ" للكاتب أحمد العبد الله (1)، فاندهشت مما أثبته هذا الكاتب كما سيأتي بيانه. لكني اطلعت اليوم وبالمصادفة على مقال يحمل العنوان نفسه! مع التطابق التام! ولكن بقلم الكاتب أحمد الموسى فرج (2)!! والسؤال القهري الآن: هل الكاتب واحد؟ أم اثنين وسطا أحدهما على الاخر؟ هذا ما لا نستطع البت فيه الآن لعدم امتلاكنا الأدلة.

ما يهمنا الان هو المحتوى، أي محتوى المقال وقيمته التاريخية، مع التأكيد على أننا سنتعامل مع الكاتب ـ الكاتبين ـ وكأنه ـ كأنهما ـ شخص واحد.

يًصَدّر الكاتب مقاله بالآتي:

(الفريق الركن عبد الكريم قاسم 1914 ـ 1963 هو أسوأ من توَلّى حكم العراق بين 1921 ـ 2003) ثم يقارنه بالطبقة السياسية الحاكمة بعد سقوط نظام صدام حسين، ليقول بأن الفارق كبير بينه وبينهم، ليُقدّم قاسم عليهم بعد أن نعتهم بوصف قاسٍ (3).

وُلدَ الكاتب في بداية ستينيات القرن الماضي، وهذا واضح من قوله (أنا لم أعش زمن قاسم، فقد جئت للدنيا ففي أواخر عهده). أي أن الكاتب الآن قد جاوز الستين من العمر.

سنوجز الآن ما أثبته:

1ـ أكبر خطايا قاسم هو الانقلاب على الحكم الدستوري الشرعي وحنثه باليمين وهو من الكبائر، وفتحه باب الفوضى. فالحكم الملكي فيه ما فيه، لكنه أفضل من كل العهود الجمهورية.

2ـ ليس قاسم ذلك الشخص الأسطورة والداهية الذي لا يتكرر كما حاول البعض تصويره لنا، ومعظم مريديه من البسطاء والسُذج الذين تخيلوا صورته على وجه القمر. ومن أخطائه الكارثية انشاء ضاحية الثورة شرق بغداد لأهل الصرائف بدلاً من اعادتهم الى المناطق التي نزحوا منها، فخربوا هوية بغداد الحضارية والمدنية.

3ـ قاسم أول من أدخل عبادة الفرد من حكام العراق الحديث فملأت صوره وتماثيله مدن العراق، والذين يعيبون على صدام حسين هذه الأشياء يتعامون عن حقيقة صارخة، فالسبق لقاسم في هذه الأشياء.

4ـ قاسم الأب الروحي للميليشيات، فهو مؤسس المقاومة الشعبية.

ليختم الكاتب مقاله بأن ما قاله لا يصدر عن تحامل، بل بموضوعية يزعمها لنفسه، وقاسم برأيه عسكري محترف وشخص نزيه عفيف اللسان مخلص لبلده، ولكنه سياسي فاشل.

الخلل الأول في مقال الكاتب هو خلوه من الاستشهاد بأي مصدر تاريخي، باستثناء مرة واحد أشار فيها لكتاب الأستاذ ليث الزبيدي عن ثورة تموز ولكن بدون توثيق! إذ لا وجود لأرقام الصفحات! ونتساءل الآن عن القيمة التاريخية لما طرحه الكاتب في مقاله؟!

يُكرر الكاتب الديباجة المعهودة عن شرعية عمل الضباط في تموز 1958 وفتح باب الفوضى ... الخ، وهو خلل كبير وقع به الكاتب وغيره، مع استمرار الوقوع به الى اللحظة الحالية! وقد عالجنا هذه المسألة باسهاب في كتاب صدر لنا في الفترة الأخيرة، فبدلاً من التباكي على "عهد جميل" مضى، يجب أن نسأل ونبحث عن أسباب سقوط هذا النظام. لماذا سقط النظام الملكي؟ هل من المعقول أن يسقط مع عدم وجود أسباب موجبة لهذا السقوط؟! وهل من الممكن ذلك! وما على القارىء الكريم إلا الرجوع لكتابنا الذي عالجنا به عوامل سقوط هذا النظام والتي ساقته الى نهايته المحتومة (4).

يقول العقيد المتقاعد صبيح علي غالب:

نعم، كان في العهد الملكي قيم يستند عليها الحكم، وكان ظاهره مستقراً، ولكن هذا لا يعني أن أسباب الثورة لم تكن موجودة، فلو لم تكن هذه الأسباب لما حدثت الثورة (5).

هل سمع الكاتب بمقولة عجيبة للباشا نوري السعيد؟ يقول الدكتور حيدر عطية كاظم:

عبّر رئيس الوزراء نوري السعيد عن حقيقة موقفه من الفقر والفقراء في العراق ومن على رؤوس الاشهاد، وذلك عندما خاطب أعضاء مجلس النواب بهذه الكلمات الواضحات، وكأنه يتكلم عن نظام الطبقات الاجتماعية في الهند، إذ قال:

الولد الذي يُولد من أب فقير فيبقى فقيراً، والآخر يُولد من أب غني ويبقى غنياً، ولا افتكر باستطاعة هذا النظام الاجتماعي الحاضر ان يُغير تغيراً جوهرياً، وهكذا تجري الأمور (6). وعليه فما قيمة الحنث باليمين ـ والذي يُكرر دائماً ـ أمام هذا المعيار السعيدي البائس! فالحنث باليمين من الكبائر، لكن بقاء الفقير على فقره شيء هيّن جداً عند كاتبنا!!

وهذا ما سيقودنا الى موقف الكاتب من اهل الصرائف وإسكانهم في بغداد و"تخريبهم" هويتها الحضارية والمدنية كما ادعى!

من حقنا ان نتساءل عن الأصل الطبقي للكاتب؟ فمن خلال قراءة ما بين السطور سيتبين ذلك! نعم فالكاتب على الضد من الطبقات الكادحة، ينظر اليها باستعلاء، فهي من خرّبت العاصمة بغداد!!

لنرى الآن، هل فعلاً خرّب هؤلاء بغداد كما ادعى الكاتب؟ ام هناك وجه آخر في المسالة؟

يقول الدكتور حيدر عطية كاظم:

لقد استطاع عبد الكريم قاسم بذلك ان يفتح ابواباً كانت موصدة أمام فئة كبيرة من البغداديين ليصبحوا جزءاً من بغداد، وان يسمح للامال ان ترى النور والأحلام ان تتحقق، فكان ذلك البداية لتغيير اجتماعي واقتصادي وفكري أيضاً في حياة أولئك الناس، وكان من نتائج ذلك التغيير الكبير كاتب هذه الرسالة والمشرف وعشرات الألوف من الأطباء والمهندسين والأساتذة والكُتاب والشعراء والفنانين المُبرّزين (7).

فهل خرّب الدكتور حيدر عطية كاظم والمُشرف على رسالته في الجامعة وغيرهم من الأطباء والمهندسين والشعراء ... العاصمة بغداد!!

ونحن بدورنا نعتقد بأن وصف انصار قاسم بالسذج البسطاء سيُعلي من شأن قاسم ويُشرفه، ولعمري فهي منقبة عظيمة له.

وبشأن النقطة الثالثة، فنحن لا نريد الدفاع عن قاسم بقدر ما نريد ان نتعامل بموضوعية معه. نعم كان قاسم يحكم بصورة فردية، دكتاتوراً، أي حصر السلطات بيده ... الخ، ولكن أين هذا من صدام حسين!! وهل كان صدام مثل قاسم من حيث انعدام الروح الانتقامية والوزن الكبير عنده للحياة البشرية! (8)، صراحة لا مجال للمقارنة ابداً، ولولا ادعاء الكاتب لما اضطررنا لهذه المقارنة.

أما عن النقطة الأخيرة، ففيه من التجنّي و "الخبث" (9) الشيء الكثير. فهل سأل الكاتب نفسه عن غرض تشكيل هذه المقاومة؟ حيثياتها؟ وهل أبقاها قاسم تصول وتجول بعيداً عن سلطة الدولة؟

جاء تشكيل المقاومة الشعبية نتيجة وجود تهديد فعلي ملموس تمثّل بالأخطار الخارجية لا سيما التهديدات الأمريكية والبريطانية التي أحاطت بالعراق بعد انتصار ثورة 14 تموز. ولم تكن حكومة قاسم بدعاً هنا، فقد اتبعت عدة تجارب سابقة حدثت في: الصين والاتحاد السوفيتي والجمهورية العربية المتحدة. وقد قام قاسم بحلها في 29 تموز 1959 (10).

لم يكن قاسم سياسياً ورجل دولة، مقولة نسمعها دائماً، ولا نختلف معها من حيث المبدأ، ولكن الاطلاق فيها عسير. نعم لم يكن سياسياً، فالرجل عسكري، ولكن للأستاذ مير بصري رأي مهم، فقاسم برأيه رجل فذ كان يحمل بذور رجل الدولة في مقدرته وإخلاصه، ولو طال به الزمان واستتب له الأمر لبرزت مزاياه الكامنة واصبح رجل دولة لا سياسيا مغامرا شأن مناوئيه وخلفائه (11).

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

..................

الحواشي:

1ـ أحمد العبد الله: عبد الكريم قاسم في ميزان التاريخ، الكاردينيا "مجلة ثقافية عامة" بتاريخ 18 تموز 2024

2ـ أحمد الموسى فرج: عبد الكريم قاسم في ميزان التاريخ، موقع كتابات بتاريخ 9 فبراير 2022

3ـ الحثالات

4ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء ـ هل كان من الممكن لهذا النظام ان يبقى على قيد الحياة؟ دار البيارق للنشر والتوزيع بغداد 2024

5ـ صبيح علي غالب: قصة ثورة 14 تموز والضباط الأحرار، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت ط1 1968 ص104

6ـ حيدر عطية كاظم: الفقراء في العراق والموقف الرسمي والشعبي منهم 1921 ـ 1945 دراسة تاريخية ج1، وزارة الثقافة، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 2023 ص63 و 64

7ـ حيدر عطية كاظم: الصرائف في بغداد 1932 ـ 1963 دراسة في التاريخ الاجتماعي، وزارة الثقافة، دار الشؤون الثقافية العامة بغداد ط1 2018 ص267

8ـ أوريل دان: العراق في عهد قاسم، ترجمة وتعليق: جرجيس فتح الله، دار آراس للطباعة والنشر أربيل و دار الجمل بيروت بغداد ط1 2012 ص337

9ـ نعتذر من القارىء على هذه الشدة وهذا الوصف، ولكن لا بد منها احياناً

10ـ يُنظر البحث المنشور على الانترنت:

فرات عبد الحسن كاظم الحجاج و بشائر محمود مطرود المنصوري: تشكيل قوات المقاومة الشعبية في العراق 1958 ـ 1959 ص190 و 191 و 192

11ـ مير بصري: أعلام السياسة في العراق الحديث ج1، دار الحكمة لندن ط1 2005 ص298 و 309

اليوم التقيت مع فتاة جميلة تبلغ من العمر 15 عشر سنة حدثتني عن احلامها بإكمال دراسة ولبس ثوب التخرج من كلية الهندسة وضحكت وقالت كلها احلام وعندما سألتها عن سبب الحزن العميق في كلامها اجابت ان ابيها اجبرها على الزواج من صديقه لأنه مدين بمبالغ طائلة له ولا يستطيع التسديد لهذا سددني مقابل المال لصديقه.

***

ونحن في سنة 2024 عصر الانفتاح والتطلع والثقافة والتكنولوجيا بكل انحاء العالم حيث فعليا اصبح العالم قرية صغيرة لا غربة ولا غرباء ومن بين كل هذا الانفتاح  تظهر وتنتشر في العراق ظاهرة زواج القاصرات  بعمر 9 سنوات في الوقت الذي تناقص فيه او تكاد تكون في طريقها الى الانقراض. وحسب احصائيات عالمية تؤكد ان قبل جائحة كوفيد-19، كانت 100 مليون فتاة معرضة لخطر زواج الأطفال والآن، هناك ما يصل إلى 10 ملايين فتاة إضافية معرّضات لخطر زواج الأطفال.

 اين حقوق الطفولة؟

حرمان الطفلة ذات التسع سنوات من طفولتها وحياتها وصحتها وبحسب دراسات عديدة " اكدت ان البنات اللواتي يتزوجن قبل سن 18 سنة أكثر عرضة للعنف الاسري ويتركن الدراسة . كما يعانين من مشاكل اقتصادية وصحية ". بالإضافة الى تعرض جميع الفتيات بهذا العمر للمضاعفات خلال فترة الحمل والولادة . مما يؤثر تأثيراً كبيراً على سلامتهم البدنية والنفسية. وحين حواري مع اخصائيات نسائية اكدن ان "بلوغ البنات عادة هو بعمر 11 سنة او قد تبلغ قبلها بفترة رغم ذلك ترد العديدات من الفتيات المتزوجات وغير البالغات الى العيادات النسائية  و اضافن ان هذا العمر يكون فيه الجهاز التناسلي غير مكتمل. والمتعارف عليه طبياً انه بعمر ال16 سنة يكون الرحم مؤهل للعلاقة الزوجية، و حتى حالات الولادة تكون غير طبيعة بهذا العمر حيث اغلب هذه الأعمار تلجأ إلى عملية جراحية .

صحيح ان هذه الظاهرة لا تقتصر على العراق، وهي عالمية، وتحدث بشكل مكثف في دول العالم الثالث وخاصة في افريقيا، الا ان تزايدها في العراق في الفترة الاخيرة اصبح مثيرا للقلق وخاصة عند التصويت عليها والاعتراف بها شرعا وقانونا . ويحدث ذلك بالرغم من ان الامم المتحدة تدعو في اهدافها للتنمية المستدامة إلى اتخاذ إجراءات على مستوى العالم لإنهاء هذه الظاهرة التي تمثل انتهاكا لحقوق الإنسان بحلول عام 2030. وبحسب تقرير لمنظمة "اليونيسيف" فإن 5% من الأطفال العراقيين يتزوجون بعمر 15 سنة و24% بعمر 18 سنة.

 ظاهرة تزويج القاصرات كانت مقتصرة على الارياف لكن بدأت تنتقل من الريف الى المدن حاملة معها العديد من القصص المؤثرة لفتيات أصبحن أمهات وهن في عمر الطفولة والمراهقة .

وسجلت حالات خيانات بسبب بنات متزوجات من رجل اربعيني وهي بعمر 9 سنوات وكبرت وهي لا تفهم لما تعيش مع رجل مسن وهي شابة بعمر العشرين . بالفعل بيت العائلة العراقية بالانهيار ,اركان الاسرة بالكامل والمجتمع الى الهاوية .

اليوم التقيت مع فتاة جميلة تبلغ من العمر 15 عشر سنة حدثتني عن احلامها بإكمال دراسة ولبس ثوب التخرج من كلية الهندسة وضحكت وقالت كلها احلام وعندما سألتها عن سبب الحزن العميق في كلامها اجابت ان ابيها اجبرها على الزواج من صديقه لأنه مدين بمبالغ طائلة له ولا يستطيع التسديد لهذا سددني مقابل المال لصديقه. وأضافت انها تركت الدراسة ولا تحمل بذاكرتها سوى بعض ذكريات الطفولة ولعب مع الصديقات عندما كانت مدلله البيت . وألان تعيش حالة ضياع طفلة تحمل بيدها طفلة، وأضافت انها لن تزوج بنتها من رجل كبير مهما كلفها الامر. قصة ادمت قلبي قبل عيوني لما تخفيه من معاناة بين السطور .

و الان يفترض بالقانون العراقي انه يحدد سن الزواج ب18 سنة فما فوق، ولا يسمح للقاضي بتزويج الفتيات ممن تقل اعمارهن عن 18 سنة، ولا يسمح بتصديق عقود الزواج خارج المحكمة لأي سبب .لكن العكس ما يدور ويحدث  التصويت والتشريع لزواج القاصرات تحت قبة البرلمان وما بين معارضين ومؤيدين وتوتر الشارع العراقي مابين الرفض والقبول وتبقى التساؤلات الى اين يا صغيراتي انتن ذاهبات.

***

د. ايات حبه

 

موقف شعبي رافض

يبدو ان "الخطة الوطنية " المطروحة لم تراع المصلحة العامة للمواطنين، والدليل أنه مع " قرب إعلان ذي قار خالية من الإشعاع" إنطلقت حملة شعبية رافضة لطمر المخلفات المشعة في صحراء الناصرية. وتدور معركة  ضمن الجدل الدائر بين الاوساط الشعبية والنخب الثقافية والاكاديمية من جهة، وحكومة ذي قار، من جهة اخرى، وسط تزايد مخاطر الاصابة بالأمراض السرطانية التي تعد المواد والملوثات المشعة المستهدفة بذخائر اليورانيوم "المنضب"، احد ابرز اسباب الاصابة بها-كما يؤكد الأطباء هناك. ويخشى المعارضون لطمر المخلفات المشعة من ان تتحول محافظة ذي قار الى مكب لمخلفات المحافظات الاخرى، وهو ما يفاقم الاضرار الصحية والاقتصادية الناجمة عن ذلك. حيال هذا، إضطرت الحكومة المحلية ومديرية بيئة ذي قار، تقديم توضيحات، أكدتا فيها " ان محجر طمر المواد المشعة نظامي،وخاص بالملوثات العائدة للمحافظة فقط، ولا يشكل خطرا على حياة المواطنين" ("المدى"،12/5 /2024)..وقد أخبرنا زملاء يعملون في الناصرية بان عوائل محافظة ذي قار لا تصدق التوضيحات المذكورة، ولا تثق بإعلان محافظتهم خالية من الإشعاع قريباً، ولا حتى بعد سنوات..

فما هو رد المسؤولين المتنفذين ؟!!

وما يزال البحث جارياً عن الوسائل طيلة عقدين ولغاية تشرين الثاني 2023 والجهات المعنية تبحث عن وسائل اَمنة للتخلص من النفايات المشعة. ومن ضمن البحث الزيارة التي قام بها فريق فني من مركز الوقاية من الإشعاع الى المنشآت الفرنسية للتخلص النهائي من النفايات المشعة. ضم الفريق  مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع، والمنسق الوطني لمشروع التعاون التقني مع الإتحاد الأوربي، وفريق فني متخصص من ملاكات مركز الوقاية من الإشعاع،يشارك في الزيارات العلمية الى مواقع ومنشآت التخلص النهائي من النفايات المشعة الفرنسية-كما أعلن مركز الوقاية من الإشعاع في 20/11/2023.

والسؤال: إذاً، كيف تم تنظيف المواقع التي أُعلن عن تنظيفها من التلوث الإشعاعي قبل الزيارة ؟!!

خطط وإجراءات رسمية .. منسية

نكرر ما قلناه بانه ليس جديداً إعلان الجهات المسؤولة في عام 2023 عن "خطة وطنية لمكافحة التلوث الاشعاعي في البلاد".فهو ليس المرة الأولى، وإنما سبقه إعلانات أخرى عديدة، ومنها:

في عام  2005، أعلنت وزارة البيئة عن "خطة وطنية" مماثلة، وأكدت أنها: " تتضمن اجراء المسوحات الاشعاعية للمناطق المقصوفة عامة، والمناطق الملوثة باليورانيوم المنضب خاصة،وأخذ عينات من التربة والماء والحشائش لفحصها، فضلاً عن ازالة آثار التلوث من المناطق الملوثة " ("الصباح"،26 /8/2005).. ولم تعلن ما الذي أُنجزَ منها، ولا أين صارت..

وفي عام 2006  قرر مجلس الوزراء تجميع الحديد السكراب المضروب في الحرب، من كافة المناطق العراقية، ونقله الى (مصنع الحديد والصلب) في البصرة.. إنتقدنا القرار في وقته، في مقال لنا في مجلة  "البيئة والحياة" التي تصدرها وزارة البيئة (العدد الثامن،أيلول 2006)، وحذرنا من خطورة هذه العملية على العاملين في تجميع السكراب، وفي إعادة تصنيعه، ولاحقاً على مستخدميه. ونبهنا بان العلم يؤكد بان إشعاع اليورانيوم "المنضب" لن يزول حتى بعد صهر الحديد الملوث به..

لم تأخذ الحكومة،كالعادة، بتحذيرنا، وحصل ما حذرنا منه، حيث أكدت تقارير طبية وتحقيقات صحفية إستقصائية إصابة المئات من عمال وموظفي المصنع بالسرطان، ومات العشرات منهم.. وبعد فوات الأوان تم إيقاف العمل في المصنع.وبعد 10 سنوات على غلقه، أعلن مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع:" تم تنظيف المصنع من الإشعاع " ("Independent عربية"، 27/8/2022 ).. ولم يوضح كيف تم تنظيفه، وبأي طريقة، ولماذا طالت العملية 10 سنوات ؟!!

وبعد ثلاث سنوات،ذكر رئيس الباحثين في دائرة المواد الخطرة في وزارة العلوم والتكنولوجيا عدنان حسن ان هناك مقترحات لتقليل التلوث الأشعاعي، منها تشكيل مديرية متخصصة لمعالجة وتصفية المخلفات المشعة، وفريق من الباحثين المختصين لتقديم مشروع أستثماري بهذا المجال، وتقديم خطة مستقبلية خاصة بالمفاعلات المشعة ("واع"،16/2/2009)..

لاحظ عزيزي القارئ أنه لحد ذلك التأريخ لم توجد مديرية متخصصة بمعالجة وتصفية المخلفات المشعة. ولم يكن هنالك فريق متخصص لتقديم خطة مستقبلية خاصة بالمفاعلات المشعة، بينما كان المسؤولون يتحدثون عن "خطط" و"برامج" و"جداول زمنية"..

وفي عام 2011، ذكر مدير علاقات البيئة الدولية في وزارة البيئة لؤي صادق المختار بأن الوزارة حددت 4 مواقع جغرافية لدراستها ومعرفة إمكانية استخدامها لطمر النفايات الخطرة، واختيار موقع واحد من بينها، لتجهيزه بالشكل الذي يتناسب مع طبيعة هذه المواد"("أنباء المستقبل"، 25/5/2011).

ومرت 12 سنة ولا يوجد موقع رسمي محدد لهذا الغرض. أكد ذلك مؤخراً الوكيل الفني لوزارة البيئة  د. جاسم الفلاحي، في مقابلة تلفزيونية معه، مُعلناً ان جميع مطامر النفايات في العراق لم تستحصل الموافقة الأصولية الرسمية (" الشرقية نيوز"، برنامج: "حوار مع زينب ربيع"،13/5/2024)..

فماذا يعني ذلك غير فشل الإدارة البيئية في معالجة هذه المشكلة !!

وفي شباط 2015 أعلنت وزارة البيئة :" انتهائها من إعداد الخرائط الخاصة بالمواقع الملوثة بالإشعاع في مناطق جنوب العراق".وإعتبرته " انجاز يُعتبر المرحلة قبل النهائية لغلق ملف المواقع الملوثة بالاشعاع بشكل نهائي وحسب الجدول الزمني" (السومرية نيوز"،9/2/2015)..

ولعل الأضرب هو إعلان الوزارة بأن " العام 2015 سيشهد الانتهاء من ملف المواقع الملوثة بالاشعاع " ("إينا"،22/1/2015).. ولم يحصل ذلك طبعاً !.. بينما أعلنت وزارة العلوم والتكنولوجيا، بعد  قرابة الثلاثة أشهر:" ان عدد المواقع الملوثة في العراق يبلغ 40 موقعا، اغلبها في محافظة البصرة، وان طمر النفايات المشعة سيكون في مواقع مؤقتة لمدة تصل الى 15 عاما، وان تلك المواقع ستكون حصينة، مع ضرورة استمرار مراقبتها ("طريق الشعب"،28/5/2015)..

فأين صار "الإنجاز" السالف ؟!!

مجلس النواب يدخل على الخط

في عام 2018، إستندت دراسة لمجلس النواب الى إفادات مدير عام دائرة البيئة ومعاونه، اللذين تحدثا "بألم وحزن عميقين عن حجم المأساة التي تمر بها البيئة العراقية نتيجة عدم التدوير الصحيح للمخلفات ومعالجة النفايات، وخصوصاً في مدينة بغداد وضواحيها ". وأكدا بان "الآليات الموجودة لطمر وحرق المخلفات والنفايات لا زالت متأخرة وكلاسيكية الى حد كبير".وحذرا من وقوع كارثة بيئية كبيرة على سكان مدينة بغداد ما لم يتم ايجاد حلول ومعالجة سريعة للمناطق والبنايات التي ضربت من قبل القوات الامريكية، التي لازالت مليئة بمخلفات اليورانيوم "المنضب".وأشارا الى ان الحديد المضروب تم نقله الى كردستان، ومن ثم  اعادته ( حديد تسليح ) للبناء، وتم بيعه الى بغداد وبقية المحافظات، وهو ملوث باليورانيوم. وقالا: "ان هذه كارثة بعينها سببت الاف الامراض السرطانية والتشوهات الخلقية والاسقاطات والاجهاض وقلة الانجاب والعقم "..

ولمعالجة المشاكل القائمة دعت دراسة مجلس النواب الى عقد مؤتمر وطني يرعاه مجلس النواب للوقوف على كل المشاكل العالقة. وتشكيل لجنة تسمى ( اللجنة العليا لمعالجة آثار التلوث الاشعاعي) ضمن تشكيلات وزارة العلوم والتكنولوجيا، تضم ممثلين من بقية الوزارات المعنية (البيئة، الصحة ، البلديات والاشغال العامة،والامانة العامة لمجلس الوزراء)  تتولى عملية حصر تأثير اليورانيوم "المنضب"، واقتراح المعالجات اللازمة لتقليل أثره.وان تتالف ادارة هذه اللجنة من ذوي الاختصاص والخبرة، وتكون بعيدة عن المحاصصة والتدخلات السياسية.. ولم يتحقق ما أوصت به، ولم يتابعه أحد..

***

د. كاظم المقدادي

 

أقام ديوان الكوفة بلندن(1993) أسبوعاً عنوانه «التُّراث الحي في حضارة وادي الرّافدين»، ففاجأنا دكتور بعلم الأحياء، معترضاً على إحياء «الأصنام»، وبينها كَوديا. لم نأخذه على محمل الجد، حتى كسرت «طالبان» تمثالي بوذا(مارس2001)، فالخراب يبدأ فكرةً ثم فأساً. لم يعصم قِدم الدهر التّمثالين، «نُقرا في الجبل من أسفله إلى أعلاه، يسمى أحدهما سرخبد والآخر خنكبد»(الحمويّ، معجم البلدان). بين دكتور الأحياء و«طالبان» اختلاف المذهب، ووحدة الرأي. أمَّا فضائح «داعش» مع الآثار والبشر فما زالت جراحها مفتوحةً.

غير أنَّ اهتمام رجل دين بالآثار بدا لي مخففاً مِن الصدمة، عندما قدم محاضرة، عنوانها «القرآن وعِلم الآثار»(نوفمبر 2000)، وعلق على شخصية «كوديا» أنه كان يعتمر عمامة. انسحبتُ من المنصة - كنتُ أقدمه - إلى مكتبة الديوان، وعدتُ بصورة كوديا، فعرضتها أمام الحضور، إلى جانب المحاضر، وهو يعتمر العِمامة، فأثنى واستجاد، ورحتُ ناشراً مقالةً عنوانها «فلان: نسيج عِمامتي مِن عمامة كوديا»(جريدة المؤتمر)! لكنه غضب واستنكر، والسَّبب مِا أثير، في وسطه الإسلاميّ، ضده من التّشبه بصنمٍ.

ذَكَّرتُ بما حدث، بمناسبة إزالة تمثال «كوديا» بمدينة «الدَّواية»، التابعة لمحافظة ذي قار، فقبل أربعة أعوام(2020) تزينت ساحتها بتمثال لحاكم «لكش»(2144-2124 قبل الميلاد)، حيث الدّواية اليوم. نحته شاب أخذ النَّحت عن جده، الذي تعلمه مِن عمله مع منقبي الآثار بأور. كان كوديا، في التمثال، يحمل إناء(اينكور) الفوار، رمز المياه الجوفيَّة عند القُدماء(رشيد، الأمير كوديا 1994).

عندما أُسقط التمثال وسط بغداد صبيحة 9 أبريل 2003، أُشير إليه بالصّنم، كحدٍّ فاصل بين الإيمان والشُّرك. جاء ذلك توظيفاً خاطئاً لفتح مكة(10هجرية)، وانعكاساً لما تركته الحرب مع إيران مِن تبادل التُّهم، وعلى الرّغم مِن تصالح النّظامين، ظلت المعارضة محتفظة بأجوائها.

لم تأت القوى القادمة مِن الغرب، والخارجة مِن فواجع الحصار والحملة الإيمانيّة، بجديد، أزالت نصباً وجداريات لتحل محلها بعددها وأكثر، منها لغير عراقيين.

بعدها أُخذ يُلتفت إلى ما لا يُناسب الوضع الجديد، فثاروا ضد تمثال أبي جعفر المنصور(ت: 158هجرية)، على أنه قاتل جعفر الصَّادق(ت: 148هجرية)، تيمنا بـ «والله ما منا إلا مقتول شهيد»(القُميّ، مَن لا يحضره الفقيه).

لكنَّ الشّيخ المفيد(ت: 413هجرية)، صحح لأستاذه القُمي(ت: 381هجرية)، قائلاً: «فالخبر بذلك يجري مجرى الإِرجاف»، والإِرجاف تعني الفتن، معتبراً الصّادق لم يُقتل(المفيد، تصحيح الاعتقاد)، فالمنصور هو الذي لقبه بالصّادق (الأصفهانيّ، مقاتل الطَّالبيين).

قامت النَّائرة لرفع التِّمثال، مع أنَّ صاحبه أحقُّ ببغداد، فهو ممصرها عاصمةً(149هجرية)، وسع ظلها الآفاق. لا أقتبسُ خيال شَاعرٍ، بل رواية مؤرخٍ: «ويَكادُ يُجهلُ أنَّ بغداداً بها/ كانت يدُ الدُّنيا تطولُ وتُقصرُ»(الجواهريّ 1951)، تم هذا بفضل المنصور وأولاده، لذا، التذكار مِن حقّه. لم يقتل الصّادق لأنه لم يساند ابني عمّه محمَّد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بخروجهما عليه(145هجرية)، ولا عمه زيد بخروجه(المرتضى، المُنية والأمل)، لأنه رجل عِلم، قال عمه زيد(قُتل: 122هجرية): «مَن أراد السَّيف فإليَّ، ومَن أراد العِلم فإلى ابن أخي جعفر(ابن عباد، الزّيديَّة).

عندما تقرأ لعالم مختص كفوزي رشيد(ت: 2011)، تقتبس باطمئنان، ويبدو لا المختص بالأحياء ولا المعمم المشغوف بالآثار، قرآ لرشيد، كي يعرفا مَن كوديا: انشغل بالإعمار، طرد المجرمين والمرابين(الفاسدين)» فنعمت مملكته بالاستقرار«، جعل للنساء إرثاً، أدخل الثّلج وجعله قرباناً، لم يخض حرباً إلا واحدة دفاعاً. معنى اسمه «الرَّسول أو المنادى مِن قِبل الآلهة»(رشيد، الأمير كوديا).

أرى وجود تذكار للحاكميَن - كوديا والمنصور- فائدة للحاضرين، تتخذ إنجازات كوديا مثالاً، ويعاد بناء بغداد، مثلما تركها المنصور: «بَغْداد في البلاد كالأستاذ في العباد»(الثَّعالبي، يتيمة الدَّهر)، واتركوا «الإرجاف» لزمنها، بما شخصه المفيد، وكان بغداديَّاً، إنْ فعلتم ذلك ستخلدكم الأجيال بتماثيل وتواريخ.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

لا أريد الحديث عن داعش ومصدرها، وعن فكرها ولباسها، ففي كتابي "فقه التّطرف" قراءة أوسع لذلك، ولكن من خلال حادثة القتل في مسجد الإمام عليّ بن أبي طالب، في الوادي الكبير بمحافظة مسقط، في ليلة عاشوراء من شهر الله الحرام، وسمي بذلك لأنّه أول أشهر الله الحرم، حيث تحرم فيه الدّماء عند العرب؛ الّذي أريد الحديث عنه هنا، بما أنّ داعش تدّعي انتسابها إلى الإسلام، وأنّها تريد إقامة خلافة إسلاميّة على منهاج النّبوة، إلّا أنّها تنقض حرمات عديدة من حرمات جميع الأديان، ومنها الإسلام، وأشير هنا إلى حرمتين نقضتها داعش في حادثتها الأخيرة كما تدّعي قيامها به، وهي حرمة النّفس البشريّة، وحرمة مكان العبادة.

 وأمّا حرمة النّفس البشريّة فنجد في القرآن {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32]، ونكّر نفسا؛ لتدخل فيه كلّ النّفوس، كافرة أو مؤمنة، ومراد بغير نفس أي غير حال القصاص، وإذا لم يكن هناك اعتداء فيكون القتل فسادا في الأرض، وعليه قتل نفس واحدة كقتل النّاس جميعا، وإحياؤها كإحياء النّفوس جميعا أيضا.

 وإمّا استناد داعش في أدبياتها إلى قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التّوبة: 5]، فهي ظرفيّة معلّقة بالاعتداء، وإن كان للأسف كما قلت في فقه التّطرّف اعتبرها بعضهم في تراثنا الإسلاميّ "بأنّها آية السّيف، وأنّها نسخت كلّ آية سلم، فاستغلّها المتطرّفون دليلا في قتل النّاس إن كانوا غير كتابيين، أو أخذ الجزية إن كانوا كتابيين"، مع أنّ القرآن ذاته يقرّر: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، ثمّ آيات الحرب معلّقة بالاعتداء، فإن ارتفع ذلك فلا معنى من الحرب إلّا الإفساد في الأرض.

 وإذا جئنا إلى حرمة أماكن العبادة فالقرآن يقرّر في الحرب فضلا عن السّلم: {وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً} [الحجّ: 40]، وهنا قال المفسّرون أنّ الصّوامع تطلق على صوامع الرّهبان، وعلى مصلّى الصّابئة أي المندي، والبيع أصلها سريانيّة أي بيع النّصارى، وهي الأديرة أو الكنائس، والأديرة أخصّ، والكنيسة هي الجامعة، والصّلوات من صلوتا بالعبريّة، أي الكنس عند اليهود، والمساجد معلومة، فهذه إشارة إلى أماكن العبادة المعهودة عند المخاطبين وقت نزول النّصّ، ويدخل فيها أماكن العبادة الأخرى، ومنها الحسينيّات، وإن كانت هذه أقرب إلى المسجد أو المصلّى بشكل عام.

 فإذا كانت أماكن العبادة مقدّسة في الحرب، فكيف بالسّلم، ووقت ممارسة النّاس لطقوسهم أيّا كان تكييفها، فأي عقل يسعى إلى خرابها وإفسادها، وإشاعة القتل والإفساد فيها، وفي الأثر النّبويّ من طريق ابن عبّاس (ت 68هـ) "لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصّوامع" أي المعابد والكنائس والكنس والمساجد ومن في نحوها، ولمّا اتّجه عمر بن الخطاب (ت 23هـ) إلى إيلياء، فكان ميثاقه مع مسيحيي القدس: "هذا ما أعطى عبد الله، عمر، أمير المؤمنين، أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقمها وبريئها وسائر ملّتها"، وبيّن "أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"، أي لا ينازعونهم في حقوقهم ومكان عبادتهم.

 ومن وصيّة عليّ بن أبي طالب (ت 40هـ) لواليه مالك بن الحارث (ت 38هـ) والمشهور بالأشتر على مصر، أعطاه قاعدة في التّعامل مع النّاس: "وأشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة، والمحبّة لهم، واللّطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعا ضاربا، تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدّين، وإمّا نظير لك في الخلْق"، ويعقّب محمّد جواد مغنيّة (ت 1979م): "على الإنسان أن لا يعتدي ويسيء إلى أخيه الإنسان بشيء، وأن ينصفه من نفسه، ويكون عونا له على ظالمه، سواء أكان على دينه أم على دين الشّيطان".

 بيد أنّ العقل الدّاعشيّ يحاول أن يستجلب الآيات الظّرفيّة ويجعلها أصلا على آيات السّلم المحكمة والمطلقة كآية {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التّوبة: 29]، وهي في سياق اعتداء الرّوم المسيحيين، ومع هذا لمّا جنحوا للسّلم في عهد الرسّول – صلّى الله عليه وسلّم – جنح له.

 ويحاولون أيضا أن يأتوا بروايات آحاديّة ويجعلونها حكما على آيات السّلم المطلقة، كرواية ابن عبّاس: "أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّدا رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى"، ورواية: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب"، فالرّواية الأولى تتعارض مع قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، بينما الرّواية تصوّره أنّه لم يرسل رحمة للعالمين، بل لأجل حربهم وقتلهم، سواء قلنا النّاس للجنس أم للعهد، كما تتعارض مع قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، كما يحدث التّعارض أيضا مع الرّواية الثّانية مع أنّها مرسلة كما في موطأ الإمام مالك.

وكما أنّ داعش تنتهك حرمات الإسلام، هذا لا يمنع من ضرورة مراجعة أدبياتنا التّراثيّة، كما يجب إعادة قراءة النّصوص، خصوصا المتعلّقة بالدّماء والحروب، وتفكيك العقل الدّاعشيّ، وبناء منظومة تمنع من استغلال داعش لهذه النّصوص لدى بعض العقول قتلا أو إغراء أو إفسادا في الأرض، حتّى ولو ظهر لنا ابتداء كما يرى بعضهم أنّ داعش صناعة استخباريّة، بيد أنّها تظهر بلباس الإسلام، وتستخدم ذات أدبياته، مستغلّة العديد من النّصوص والتّطبيقات التّراثيّة لخدمة أغراضها الذّاتيّة، رغم ما تقوم به يتعارض مع الفطرة والعقل والنّصوص المحكمة.

***

بدر العبري – كاتب باحث من عُمان

 

نواصل في هذا الجزء قراءتنا النقدية في دراسة الباحث د. محمد مقرطن وهي بعنوان "حول أصول مصطلح العرب والعربية" ضمن كتاب " أعمال مؤتمر معجم الدوحة التأريخي للغة العربية" مقتبسين من الدراسات بعض الفقرات المهمة والمفيدة التي تحتوي على ذكر أدلة أركيولوجية ملموسة حول الموضوع مع التعليق على بعضها:

7- "التفريق بين العرب والأعراب قبل الإسلام في نقوش الجزيرة العربية: ورد لفظ "ع ر ب ن" و "أ ع ر ب" في نحو خمسين نقشاً للإشارة إلى عرب الشمال، أو قبائل عربية شمالية، أو مجموعات بدوية تعيش في أطراف المراكز الحضرية. وحرف النون في كلمة عربن أداة تعريف فتكون الكلمة "العرب". أما أعرب فهي بمعنى أعراب المعاصرة أي البدو. أي أن التقسيم بين عرب وأعراب قديم جدا. وأقدم ذكر للعرب الجنوبيين ورد بلفظ "ع ر ب م" في النقش اليمني المعروف بنقش النصر وهو نقش عربي جنوبي طويل ذكر فيه الملك السبئي المُكرِّب كرب أيل بن ذمر علي في القرن السابع قبل الميلاد (685 ق.م) وكلمة عربم تشير هنا إلى مكان شعب يقع قرب نجران وقد يشير إلى العرب. ص 563.

* تعليقي: كثرة أسماء العلم العربية - أو للدقة؛ الأسماء المشتركة بين العربية الحجازية والشمالية واللغات اليمنية القديمة - في هذا المثال "علي" وفي غيره وفير تؤكد التمازج والتداخل بين الشعوب والقبائل اليمنية والعربية بما يذكرنا بالتمازج والتداخل بين الأنباط وعرب الشمال حتى وصف بعض الباحثين الأنباط بالمرحلة الانتقالية بين الآراميين والعرب. ولنقل عرضاً أن الفرق بين الشعوب والقبائل والعشائر هنا شديد الغموض، ولم يبحث على حدة بما يؤكد وجود فروق حاسمة. ولذلك أعتبرهُ نوعاً من الإسقاط لمفاهيم معاصرة على حالات أنثروبولوجية قديمة جدا وأرى أن الأدق أن يقال قبائل وعشائر ومجموعات بدلاً من كلمات من قبيل شعوب وأمم للحد من تعقيد الظواهر والمسميات.

8- في النقوش العربية الشمالية بين القرنين التاسع قبل الميلادي والرابع الميلادي ورد لفظ عرب مرة واحدة في نقش صفوي "صفائي" في إشارة الى العرب كقوم. ولا يذكر الأنباط أنفسهم كعرب على الرغم من العثور على المئات من النقوش النبطية ولكن العلماء يتفقون بأن الأنباط كانوا من العرب وظهروا على مسرح التاريخ في القرن الرابع ق.م، وكانت لغة الأنباط لهجة عربية وتشكل عربية النقوش النبطية مرحلة انتقالية نحو اللغة العربية الفصحى. ص 365.

* تعليقي: ليس "جميع الباحثين" يعتبرون الانباط من العرب، فلا وجود لهذا النوع من الاتفاق أو الإجماع العلمي مع انعدام أي دليل آثاري ملموس وحاسم يقول هذه المعلومة بلسان المتكلم أو المتكلمين. بمعنى لم نجد نقشاً وردت فيه عبارات من قبيل: "أنا النبطي عربي" أو "نحن الأنباط عرب"، وهذا ما يسجله مرقطن نفسه. وثانياً، فلم يقدم الباحث أدلة آثارية ملموسة على الفرضية الثانية التي يكررها البعض وكأنها بديهية والتي تفيد أن "لغة الأنباط لهجة عربية"، بل أن بعض الباحثين بالغوا وجزموا بأن اللغة العربية لهجة آرامية تطورت عن النبطية ثم استقلت عنها. وهذا النوع من الأحكام الباتة والفتاوى الجازمة لا علاقة له بالبحث العلمي الصارم طويل النَّفَس والموثق بالأدلة كما كررنا ولذلك لا يعول عليه.

وقد يكون هذا النوع من الفتاوى متأتٍ من عدم التفريق الدقيق بين اللغة واللهجة وهو تفريق ليس سهلاً وواضحا (1). أما القول بأن اللغة النبطية مرحلة انتقالية نحو اللغة العربية الفصحى فيمكن قبوله كاحتمال سياقي تأريخي ممكن ولكن لا يمكن القول إنَّ اللغة العربية لهجة آرامية فلكل من اللغتين العربية والآرامية معجمها وقواعدها ونحوها رغم القرب والتشابه بينهما كلغتين شقيقتين - أو إنهما ابنتا عمٍّ كما يرى الباحث الهولندي المتخصص في الآراميات هولغر غزيلا (2)- من عائلة واحدة.

* "أما في النقوش التدمرية وهي بالمئات وتمتد من القرن الثالث ق.م إلى القرن الأول الميلادي. فلم ترد كلمة عرب أو عربية بل كان الناس يقدمون أنفسهم باسم قبائلهم وعشائرهم. أما لغة التخاطب بينهم هي العربية أما اللغة الأدبية "المكتوبة" لهجة آرامية قريبة من آرامية الدولة. ص 566".

* "من نقوش الحضر - جنوبي الموصل -  وهي بالمئات نحصل على معلومات عن العرب وعن منطقة تسمى عرب. وكانت لغة التخاطب عربية لا نعرف عنها الكثير ولكن أسماء الأعلام والآلهة فهي عربية في غالبيتها أما لغة الكتابة فكانت لهجة آرامية. وفي أحد نقوش الحضر نقرأ هذه العبارة "ر ب ي ت أ د - ع ر ب" بمعنى: الحاكم الإداري للعرب. م.س"

9-في المصادر اليونانية والرومانية: استخدم اليونان كلمة العرب لإشارة إلى كافة سكان الجزيرة العربية بشمالها وجنوبها ابتداءً من القرن الخامس ق.م. ومنذ حتى الثالث الميلادي بدأت المصادر اليونانية والرومانية تشير إلى العرب بلفظ "سراقينونس" وكانت تشير إلى الملكة العربية "ماوية" بأنها ملكة السراقينوس وتعني كلمة سراقينوس (Seracens) على الأرجح "الشرقيين"(4). وفي المصادر السريانية أشير الى العرب بـ "طايايا" نسبة الى كبرى القبائل العربية طي. ص 567.

* خلاصات: يخلص الباحث د. مرقطن بعد أن يناقش العديد من الفرضيات ووجهات النظر العلمية إلى الخلاصات التالية:

* لعل أنماط الحياة المختلفة التي كان يمارسها سكان الجزيرة العربية كالزراعة والتجارة والرعي إضافة إلى طبقة الفرسان في المحاربين في العصر البيزنطي تجعل من الصعوبة بمكان تطبيق سمات المجتمع البدوي عليها. وهنا لا يمكن الأخذ بكلمة عرب كمرادف لكلمة بدو. فالبدو جزء من العرب وليس كلهم.

* العرب هم من يتكلمون العربية وهذه وجهة نظر جاءت تحت تأثير التيارات القومية الحديثة أي أن كل من يتحدث العربية فهو عربية والعربية دليل على عروبة المكان. ص 568.

تعليقي: لم يوضح الباحث مرقطن موقفه من هذه الفكرة سلبا أو إيجابا، رفضا أو قبولا. علما بأنها قديمة وسبقت النظريات القومية الأوروبية. وهناك حديث ينسب إلى النبي العربي محمد يقول "العربية هي اللسان وكل مَن تكلم العربية فهو عربي". وأعتقد أن السياق التأريخي لهذا الحديث - إنْ صحت نسبته الى الرسول الكريم طبعا - يختلف تماما عن السياق التاريخي الحديث، حيث كان مفهوم العروبة والعربية مختلفا في ظل العزلة التي كانت يعيشها الناس. فلم يكن هناك إلا حالات نادرة نجد فيها شخصا غير عربي يعيش بين العرب ويتكلم لغتهم كحالة الصحابي سلمان الفارسي "روزبة الأصفهاني". ولم تكن هناك أقليات قومية كبيرة تعيش في الجزيرة العربية والخلافات بين الناس خلافات لهجوية وليست لغوية وعرقية. ولم يعتد العربي أن ينسب نفسه إلى لغته أو إلى أمته "العربية" بل إلى عشيرته وقبيلته. ولا نكاد نجد بيت شعر عربيا واحدا في كل السردية الشعرية العربية يفخر فيه شاعر من الجزيرة العربية قبل او بعد الإسلام وحتى العصر العباسي بعروبته!

* هناك وجهة نظر لباحث يدعى يان ريستو، ينقلها مرقطن، ومفادها أن العرب ليسوا سكان الصحراء أو البدو وليسوا مجموعة عرقية إثنية بل هم طبقة من الفرسان المحاربين في عصر الدولة البيزنطية وتعني جيش وقد ارتبط هؤلاء الفرسان باستخدام الحصان. ولا يوافق مرقطن على هذه الفكرة - وهو محق في ذلك - لأن وجود حالة الفرسان العرب المقاتلين في العصر البيزنطي (في القرن الميلادي الأول) متأخرة كثيرا على ظهور العرب في الشرق القديم في القرن التاسع قبل الميلاد. ص 570.

* هناك وجهة نظر مهمة للباحث النمساوي غوستاف فون غرونه باوم مفادها أن العرب القدماء هم مجموعة بشرية ذات سمات ثقافية خاصة وقد شكلوا "قومية ثقافية". ص 570.

* العرب لم يشيروا إلى أنفسهم كعرب إلا نادرا وهناك القليل من الشواهد. ويضيف مرقطن أن من الطريف أن العرب الأنباط وعرب تدمر لم يطلقوا على أنفسهم كلمة عرب رغم أن لغتهم – التخاطبية – هي العربية رغم انهم كتبوا باللغة الآرامية. ولعل مسألة الشعور القومي لم تكن موجودة لدى الشعوب القديمة وكانوا يتسمون بأسماء قبائلهم وعشائرهم وشعوبهم.

فأهل اليمن مثلا لم يطلقوا على أنفسهم في نقوشهم اسم "عرب" بل استخدموا أسماء شعوبهم كشعب سبأ وشعب سبأ وشعب حِمْيَر ومنذ القرن الميلادي الأول بدأ يظهر مصطلح عرب وأعراب في النقوش السبئية كاسم لقبائل عربية شمالية شن ضدها حكام سبأ وحمير حروبا لإخضاعهم في وسط الجزيرة. وهذه وجهة نظر قديمة عبر عنها د. محمد عبد القادر بافقيه في الثمانينات من القرن الماضي. ص 571

* تعليقي: ناقشت موضوع الطبيعة الإثنية اللغوية بين الآرامية والعربية والأنباطية في عدة مقالات (3) توصلت فيها أن سكان الحضر كانوا عربا يكتبون بالآرامية، أما في ممالك الشمال كالرُّها فكان هناك نوع من الثنائية الإثنية واللغوية بين السكان الآراميين والعرب أما الأنباط فكانوا حالة انتقالية من الآرامية إلى التعريب الكامل في القرون اللاحقة. ولم أتوقف عند الطبيعة العرقية لليمنيين الذين اعتدنا على وصفهم بعرب الجنوب ولا يمكنني البت بشكل مختصر وقاطع في هذا الموضوع في سطرين لأنه شديد التعقيد والحساسية ويحتاج إلى دراسة معمقة وموثقة مستقبلا. وفي تلك العهود انتشرت النقوش الجبلية والصحراوية باللغة العربية المكتوبة بلكنة نبطية (5) وثمة توثيق للعشرات منها على موقع متخصص (6).

أما بخصوص عدم العثور على دليل آثاري ملموس يطلق فيه العرب اسم "عرب" على أنفسهم، وهو أمر صحيح، فتكاد تكون هذه هي القاعدة عند الشعوب القديمة السامية وغير السامية. فلا الأنباط سمّوا أنفسهم بالأنباط في نقش مؤكد من عهدهم، ولا الفينيقيين فعلوها، بل إن اسم الفينيقيين كانت صفة أطلقها عليهم الأغراب الإغريق فالرومان ثم تحولت في عصور لاحقة إلى علمية عرقية. وهناك من يعتبرهم كنعانيي أو أموريي الساحل الشامي. ولا السومريين - إن كان لهم وجود كشعب وليس كلغة كتابة فقط - أطلقوا على أنفسهم أنهم سومريون وما لفَّقه صاموئيل نوح كريمر عنهم كشعب وعرق قريب من العبرانيين يبقى مجرد تلفيقات. أما المصريون القدماء فتذهب إحدى الفرضيات إلى أن اسم (مصري) أو تعبيره اللاحق (قبطي) تعني المواطن – المستوطن وهو نفس المعنى الذي تحيل إليه كلمة أوروك / أونوك الأكدية الذي استنبط منها بعض الباحثين اسم "العراق". هكذا بكل بساطة كان البشر القدماء يفكرون بواقعية بعيدا عن التعقيدات القومية والعرقية اللاحقة: شخص استوطن مكاناً، وبمرور الزمان تحولت الكلمة إلى جنسية وعرقية تحيل إلى اسم لوطن وكيانية جغرافية!

* هوامش:

1-كنت قد قدمت محاولة للتفريق بين اللغة واللهجة ضمن دراسة مطولة أصبحت مقدمة لمعجمي "معجم اللهجة العراقية الجذور العربية الفصحى والرواسب الرافدانية". أقتبس منها هنا فقرة صغيرة مترجمة عن اللغة الفرنسية: " ففي اللغة الفرنسية يقول التعريف الأشهر للغة ما يلي: "هي نظام متطور من الإشارات اللغوية، الصوتية أو الرسومية أو الإيمائية، التي تسمح بالتواصل بين الأفراد. وفقاً للعالم اللغوي أندريه مارتينيه، فاللغة هي أداة اتصال (تواصل) يتم بموجبها تحليل التجربة الإنسانية، بشكل مختلف في كل مجتمع، إلى وحدات تتمتع بمحتوى دلالي وتعبير صوتي؛ وهذا التعبير الصوتي بدوره يتم التعبير عنه في وحدات مميزة ومتعاقبة "مونيمات"، هي الصوتيات، بعدد محدد في كل لغة، وتختلف طبيعتها وعلاقاتها المتبادلة أيضًا من لغة إلى أخرى ... أما اللهجة فهي بالمعنى الواسع، "تنوع لغوي خاص بمجموعة من المستخدمين المحددين المعينين. أي إنها لغة طبيعية ذات امتداد ديموغرافي وجغرافي معين تقدم لهجات خاصة بالناطقين بها/ معجم اللهجة العراقية ص 84".

2-قال الباحث الهولندي الأستاذ هولغر غزيلا، في مقابلة معه / ضفاف 18 كانون الأول 2017: "يمكن القول إنَّ الآرامية بمثابة ابنة عَمٍّ للعربية، وليست شقيقة مباشرة، فاللغتان ساميّتان غربيتان، لكن الآرامية تنتمي إلى الفرع السامي الشمالي الغربي، أو إلى لغات بلاد الشام القديمة بالمعنى الجغرافي"، أي أنه يضع الآرامية بالتزامن، أو إلى جوار العربية المنتمية إلى اللغات السامية الشمالية الغربية أيضا، ولكن إلى جنوبها جغرافيا (وشمال الجزيرة العربية). اقتبستها في دراسة سابقة بعنوان "مملكة عربايا: أهي الرُّها أم الحَضَر وما علاقتها بالعرب؟ ج2".

3- أدناه روابط لبعض مقالاتي حول موضوع مملكتي الحضر والرها:

ج1/ العرب والآراميون في ممالك الشمال القديمة: عربايا مثالا 1 من2

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=799378

ج2/ مملكة عربايا: أهي الرُّها أم الحَضَر وما علاقتها بالعرب؟ 2من2

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=799498

4- ليس سكان جنوب بلاد الشام من كانوا يسمون العرب "سراقين" أي لصوص كما يقول البعض، ولا يوجد دليل على ذلك، ثم أن سكان جنوب بلاد الشام أي في أطراف الصحراء كانوا من العرب أو هم مختلطون سلاليا بهم. ولكن هذه الكلمة "سراكينوس"هي التلفظ الإغريقي والروماني لكلمة شرقيين من قبيل "الملكة ماوي ملكة الشرقيين / سراكينوس، بعد إبدال السين شين والكاف قاف وحذف سين العلمية الرومانية والإغريقية. ومن فسر الكلمة بالسراق أراد أن يحط من قدر العرب وفق النظرة الإستعلائية العنصرية الرومانية القديمة. أما الغزو فكانت ظاهرة تحدث بين القبائل العربية نفسها؛ قبيلة تغزو أخرى ضمن اقتصاد الندرة والكفاف الصحراوي، وأحيانا تستهدف القوافل وجيوش الغزاة الأجانب التي تمر بمناطق نفوذها وأخيرا ففعل الغزو لا يترتب عليه فعل "السرقة" لغةً، بل السلب والنهب ولو كان الاسم أطلق من أهل جنوب بلاد الشام لأسموهم السلابين او النهابين وليس سراقين!

5-يوجد نقش من الجزيرة العربية باللغة العربية ولكن بلكنة نبطية.. النص كاملاً: عدي بن الدانة لبني عوص. سلام أعم (أنتم). فلا أوصيكم ببر بالله وبقوله والرمح والخيل وقتال القوم ونقاء الرحم وكرامة الضيف/ لا أوصيكم تفيد التوكيد وليس النفي هنا. وهناك أمثلة كثيرة في القرآن من هذا القبيل ومن ذلك: آية تقول (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)، بمعنى ولأقسم...وآية تقول (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *  وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)، وآية (فلا أقسم برب المشارق والمغارب). ومن الكلمات العربية التي تلفظ باللكنة النبطية كلمة ابن ... تكتب بر، وهي كلمة قديمة - أرجح أنها أكدية - ما يدل على قدم النقش كما يقول مرقطن، وكلمة أو الضمير "أنا" تلفظ (أنه)، وما يزال هذا الضمير يلفظ في جنوب العراق وخاصة في محافظة ميسان بهذا اللفظ (أنه) بهمزة مفتوحة. أما عبارة "سلام أعم" فهي صيغة تكررت في عدة نقوش من هذا النوع وتعني سلام أنتم أو سلام عليكم. ومن اللافت للانتباه وجود أشخاص يكتبون ويقرأون من البدو في الصحارى العربية في تلك العهود والتي تصل إلى بضعة قرون قبل الإسلام كما يلاحظ الباحث بصواب.

6- موقع "فريق الصحراء" صفحة " نقوش عربية بــ”لكنة” نبطية!":

https://alsahra.org/2017/09/%D9%86%D9%82%D9%88%D8%B4-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%84%D9%83%D9%86%D8%A9-%D9%86%D8%A8%D8%B7%D9%8A%D8%A9/

الإنترنت يدمر أدمغتنا، لكن لا يمكننا التوقف عن استخدامه. إنه مصنع أجبرنا على العمل فيه بدون أي أجر. تشير الدراسات إلى أن الإنترنت ضار بصحتنا العقلية، وأن المزيد من الناس يدركون أضراره. يشجع معلمو الإنترنت على التخلي عن وسائل التواصل الاجتماعي، ويرسل المسؤولون التنفيذيون في مجال التكنولوجيا أطفالهم إلى المدارس المناهضة للإنترنت. لكننا بحاجة إلى حل أكثر منهجية لسيطرة الإنترنت على حياتنا؛ نحن بحاجة لرؤية الإنترنت كمصنع نعمل فيه جميعاً دون أجر.

تبدو الأعوام القليلة الماضية بمثابة نقطة التحول لمشاعر مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجاه الإنترنت. كان يُنظر إليها ذات يوم على أنها تقنية تحررية من شأنها أن تبشر بعصر من الإبداع والاتصالات الجديدة في جميع أنحاء العالم، وقد قام الكثيرون - بدءًا من مستخدمي تويتر العاديين إلى منشئي المحتوى المحترفين - بتشغيل هذه التكنولوجيا.

يمكن التعرف على التحول في الحالة المزاجية من خلال بعض البرامج مثل برنامج الواقع البائس الشهير "الدائرة" The Circle على Netflix، والذي يتنافس فيه المتسابقون بشكل ساخر على المال باستخدام شخصيات مزيفة غالباً على الإنترنت. أحد الأفلام الوثائقية الأكثر شعبية على موقع البث المباشر في العام الماضي كان "المعضلة الاجتماعية" The Social Dilemma، الذي استحوذ على انتباه المشاهدين بتفسيراته لأخطاء الخصوصية على Facebook. وحتى بعض الروايات الأكثر إثارة للجدل هذا العام تدور حول الجوانب المظلمة للإنترنت، مثل رواية "الحسابات المزيفة" Fake Accounts للكاتبة "لورين أويلر"  Loren Oylerورواية "لا أحد يتحدث عن هذا"Nobody's Talking About This للكاتبة "باتريشيا لوكوود"Patricia Lockwood.

نقوم جميعاً بإعادة تحليل علاقتنا بالإنترنت لسبب وجيه، لكننا ربما نخطئ في تصنيف هذه العلاقة حقاً. إنها ليست مثل علاقة سيئة حيث يمكنك الابتعاد عنها، وهي ليست مثل الوجبات السريعة حيث يمكنك أن تقرر تناول كميات أقل - إنها تكنولوجيا شاملة، محركنا الاقتصادي الرئيسي، والأداة التي نضطر إلى استخدامها لتلبية احتياجاتنا، ومع الآخرين. إنها شيء يتوسط حياتنا كلها.

إن الحل لأزمة استخدامات الإنترنت الحالية لا يمكن أن يأتي على المستوى الفردي بعد الآن، مثلما أن استقالة شخص واحد من وظيفته لا يمكن أن تحل ظروف العمل السيئة في الرأسمالية. إذا أردنا أي أمل في جعل الإنترنت أقل إرهاقاً وأقل إزعاجاً، وأكثر إرضاءً، فإن منشئي المحتوى والعاملين في اقتصاد الأعمال المؤقتة، وحتى مستخدمي الإنترنت العاديين بحاجة إلى الضغط من أجل حل منهجي.

الإنترنت يفسد الأدمغة

تشير مجموعة متزايدة من الأدلة إلى أن الإنترنت أمر فظيع حقاً بالنسبة للمستخدمين. وجدت دراسة أجريت عام 2021 على طلاب الجامعات أن الحد من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمدة 10 دقائق يومياً يقلل بشكل كبير من القلق لدى المشاركين. وجدت دراسة أجريت عام 2022 أن المراهقين الذين أمضوا وقتاً أطول عبر الإنترنت كانوا أكثر عرضة للإصابة بحالات الصحة العقلية. وجدت دراسات أخرى أن مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ينتهي بهم الأمر إلى الشعور بالمزيد من الوحدة والعزلة وثقة أقل بالنفس.

لقد نشأت صناعة منزلية حقيقية للاستفادة من معرفة الناس بأن الإنترنت مضر لهم. إن شبكة الإنترنت مليئة بالنصائح حول كيفية أخذ استراحة من وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تم تأليف كتب المساعدة الذاتية لتشجيع الناس على الانفصال عن وسائل التواصل الاجتماعي. هناك العديد من محادثات TED الشهيرة من مهندسي الإنترنت السابقين والمديرين التنفيذيين الذين يخبرون الناس أن الإنترنت سيئ بالنسبة لهم ويجب عليهم ترك وسائل التواصل الاجتماعي وراءهم. لقد ظهرت تراجعات للأثرياء تمنع الهواتف وأجهزة الحاسوب، وربما الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن الأشخاص الذين يبنون هذه التكنولوجيا يرسلون أطفالهم إلى المدارس حيث يتم حظر التكنولوجيا - وهو اعتراف ضمني بقدرتها على إيذاء عقول الناس.

يتم التذكير باستمرار بأن الإنترنت سيء بالنسبة للجميع، ومع ذلك فإن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يرتفع أكثر من أي وقت مضى، حيث يبلغ متوسطه 145 دقيقة للشخص الواحد يومياً على مستوى العالم. إذن نحن عالقون في دائرة حيث نعلم أن هناك شيئاً سيئاً ونريد التوقف، ومع ذلك، على ما يبدو إننا لا نستطيع ذلك.

عمال بلا أجر

لا يمكننا التوقف عن استخدام الإنترنت لأننا وضعنا تصوراً خاطئاً للمشكلة. إن وسائل التواصل الاجتماعي ليست إدماناً فردياً يمكن معالجته على المستوى الفردي، بل هي مشكلة مجتمعية تحتاج إلى حل مجتمعي. نحن بحاجة إلى التفكير في الإنترنت بشكل أقل كأداة لا يمكننا التوقف عن استخدامها بطريقة أو بأخرى، وأكثر كمصنع مطلوب منا أن نكون فيه.

لقد تمت إعادة صياغة مجتمعنا بأكمله حول الإنترنت، مثلما كان يتمحور حول المصنع خلال الثورة الصناعية. إذا حدث انقطاع في Amazon Web Services يتوقف جزء كبير من مجتمعنا عن العمل. بدون الإنترنت لن نتمكن من العثور على وظائف، أو حتى ـ في هذه المرحلةـ لم نتمكن من العثور على أصدقاء.

لقد تم تمكين "اقتصاد الأعمال المؤقتة" The Concert Economyــ العمل الاستغلالي الذي يتقاضى أجوراً زهيدة في كثير من الأحيان من قبل سائقي أوبر Uber والمتسوقين على موقع إنستاكارت Instacartــ عن طريق الإنترنت، والآن يشارك أكثر من ربع العمال في الولايات المتحدة في هذا الاقتصاد بشكل ما. خلال الوباء، لم يتمكن موظفو المكاتب من أداء واجباتهم الوظيفية المطلوبة إلا من خلال الإنترنت، وتخلى طلاب الجامعات عن الرسوم الدراسية الكاملة للحصول على امتياز التحديق في Zoom لساعات كل يوم.

أصبح المطلوب من الجميع تقريباً أن يكونوا هنا – عبر الإنترنت – من أجل سبل العيش. ولكن حتى عندما لا يُطلب منا أن نكون هنا، تحاول الشركات التأكد من أننا لا نزال كذلك: يستخدم مطورو التطبيقات والألعاب نفس العلم الذي يجعل الأشخاص يلعبون ماكينات القمار في لاس فيغاس Las Vegas لإبقائنا ملتصقين بشاشاتنا.

وكما كتبت الباحثة الأسترالية في مجال الثقافة والإعلام "ماكينزي وارك" Mackenzie Wark  في كتابها "مات رأس المال: هل هذا شيء أسوأ؟" Capital Is Dead: Is This Anything Worse? فإن الإنترنت يستخدم عملنا دون أن ندرك ذلك بالفعل. وعلى عكس عصر البث الإعلامي حيث كان على مالكي شبكات التلفزيون واستوديوهات الأفلام إنشاء محتوى لبيعه لنا على الأقل، فإننا الآن ننشئ كل المحتوى لبعضنا البعض، دون أن ندفع في الغالب.

إن شركات التواصل الاجتماعي مثل Facebook لا تكلف نفسها عناء تقديم أي ترفيه، كما كتبت وارك. "علينا أن نسلي بعضنا البعض، بينما هم يجمعون الإيجار، وهم يجمعونه في جميع أوقات وسائل التواصل الاجتماعي، العامة أو الخاصة، العمل أو الترفيه، حتى عندما تنام."

نحن ننتج الصور، والموضوعات، والتغريدات، والمشاركات التي تبقينا مرتبطين بالإنترنت، ثم يتم تحقيق الدخل من هذا المحتوى في شكل إعلانات - يساعد المستخدمون في تحقيق الإيرادات، ولكنهم لا يحصلون عادةً على فلس واحد منها.

على الرغم من أن عدداً محدداً جداً من مستخدمي الإنترنت يمكنهم الحصول على أموال مقابل عملهم - أي المؤثرين أو مستخدمي YouTube المشهورين - إلا أن معظمنا لا يفعل ذلك. إذا كان الإنترنت مصنعاً، فهو مصنع لا يحصل فيه الغالبية العظمى من الناس على رواتبهم. وبدلاً من ذلك، يتقاتل المستخدمون في كثير من الأحيان مع بعضهم البعض من أجل الحصول على مدفوعات غير نقدية في شكل نفوذ - الاعتراف بأننا قادرون على إنتاج أكبر قدر من المحتوى وأفضله مجاناً.

في بعض الأوساط من المجتمع، حلت هذه العملة المؤثرة محل أجور التصنيع، خاصة بالنسبة للمهنيين الذين اعتادوا على كسب عيش منظم من المحتوى المدفوع والذين يقومون الآن بنشر عناوينهم الثانوية على نطاق واسع على أمل تأمين مصدر رزق مناسب من الاسم والاعتراف.

وقد أدت هذه العمالة المجانية أو الرخيصة إلى اتساع فجوة التفاوت في الدخل بشكل كبير وفقاً لبعض المنظرين. نحن نناضل من أجل الحصول على المتابعين، وإعادة التغريد، والإعجابات، كل ذلك مجاناً، بينما تحقق المنصات أرباحاً هائلة. ولا يجمع هذه الأرباح سوى عدد قليل جداً من الشركات الكبيرة. ما يقرب من 70٪ من إجمالي الإنفاق على الإعلانات الرقمية يذهب إلى Google أو Facebook أو Amazon.

وادي المراقبة

 لم يكن المقصود من الإنترنت أن تكون مكاناً صديقاً للمستخدم العادي أبداً - فقد تم تطويره من قبل الجيش الأمريكي للتجسس على الناس أثناء الحروب، ثم تم استخدامه للتجسس على الأمريكيين في الداخل أيضاً. وجاء بعض التمويل الأولي لشركة جوجل من المنح المقدمة من وكالات التجسس الأمريكية. عندما باعت حكومة الولايات المتحدة البنية التحتية للإنترنت لشركات خاصة، قام الأشخاص الذين استفادوا من هذه الخصخصة بتمويل المجلات والإعلانات وجماعات الضغط لإعادة صياغة الإنترنت من أداة مراقبة إلى أداة يمكنها تحريرنا ثقافياً.

كان الصحفي الأمريكي "لويس روسيتو" Louis Rossetto- مؤسس "مجلة سلكية" Wired Magazine، أكبر صوت للتبشير بالإنترنت الجديد المخصخص في التسعينيات - من محبي الأديبة الأمريكية "آين راند" Ayn Rand التي اعتقدت أن الإنترنت سيأتي ليحل محل الحاجة إلى الحكومة. نحن نعيش اليوم مثل هذه الرؤية التحررية للإنترنت، حيث توجد الشركات إلى حد كبير بصورة غير منظمة، ولا تخضع للضرائب، وقادرة على فعل ما تريد دون قلق من تدخل الحكومة.

إذن ماذا نفعل؟

ولكن يبدو أن المزيد من الناس يدركون هذه الضجة الآن. لذا فإن السؤال الآن هو ما يجب فعله بهذا الإعلان الجماعي الجديد. إذا كان الإنترنت يشبه إلى حد ما المصنع، فربما ينبغي لنا أن نتعامل معه كمصنع. في عام 2014، أصدرت الفنانة الأمريكية "لوريل بتاك" Laurel Ptak بياناً بعنوان "أجور فيسبوك" جادلت فيه بأنه يجب على فيسبوك أن يدفع للمستخدمين مقابل محتواهم: "يقولون إنها صداقة. ونحن نقول إنها عمل غير مدفوع الأجر. مع كل إعجاب، أو دردشة، أو علامة، أو وخز، فإن شخصيتنا تحقق لهم ربحاً. يسمونها مشاركة. ونحن نسميها سرقة."

على الرغم من أن بيان بتاك يعد أمراً مهماً، ولكنه ليس استراتيجية لتغيير الويب، إلا أنه يمكن أن يكون نقطة بداية. ربما يمكن لمستخدمي الإنترنت تنظيم أنفسهم للتوقف عن التخلي عن العقول مجاناً حتى تتمكن قلة مختارة من الاستفادة منها. وكما سعى منظمو العمل إلى جعل الصناعات الأخرى أقل استغلالاً، فربما يحتاج المستخدمين إلى حركة لفعل الشيء نفسه مع الإنترنت.

تجمع مئات الطلاب في جامعة هارفارد  Harvard Universityفي عام 1969 للاحتجاج على مشاركة الجامعة في إنشاء شبكة ARPANET، التي كانت بمثابة مقدمة للإنترنت الحديث. رأى الطلاب حينها أنها تقنية خطيرة يمكن استخدامها لمراقبة العالم بأسره.

وكانت شبكة "وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة" (ARPANET) أول شبكة واسعة النطاق لتبديل الحزم مع تحكم موزع وواحدة من أولى شبكات الحاسوب التي نفذت مجموعة بروتوكولات TCP/IP. أصبحت كلتا التقنيتين الأساس التقني للإنترنت. تم إنشاء ARPANET من قبل وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة (DARPA الآن) التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية.

إذا كانت احتمالات الضرر التي تسببها التكنولوجيا واضحة بالفعل للبعض، في بداية الإنترنت، فلا يوجد سبب لعدم ظهورها لنا مرة أخرى. ربما تكون مسألة وقت فقط قبل أن يقول عدد كافٍ منا "كفى"، ونحتج على سيطرة الإنترنت الشاملة على عملنا وحياتنا.

المحفزات الرقمية

مع ارتباط الكثير منا باستمرار بالتكنولوجيا الرقمية عبر هواتفنا الذكية وأجهزة الحاسوب والأجهزة اللوحية وحتى الساعات، هناك تجربة ضخمة جارية لم نشترك فيها تماماً.

شركات مثل Google، وFacebook، وTwitter، وApple، تتنافس على جذب انتباهنا، وهي تفعل ذلك بذكاء، فهي تعرف الأزرار النفسية التي يجب الضغط عليها لإجبارنا على العودة للحصول على المزيد. أصبح من الشائع الآن أن يحصل الأطفال في الغرب على هاتف ذكي في سن العاشرة. وهو جهاز إلهاء يحملونه في جيوبهم طوال الوقت.

كلما أصبحنا أكثر تكيفاً مع اقتصاد الاهتمام، كلما زاد خوفنا من أن يؤذينا ذلك. في وادي السيليكون ـ مسقط رأس شركات التكنولوجيا العملاقة ـ، قيل لنا أن المزيد من الآباء يحدون من الوقت الذي يقضيه أطفالهم أمام الشاشات، بل ويكتبون شروط عدم استخدام الشاشة في عقودهم مع المربيات. مما يجعلنا نتساءل: هل يعرفون شيئاً لا نعرفه؟

إذا كان صحيحاً أن التشتيت الرقمي المستمر يغير وظائفنا المعرفية نحو الأسوأ - مما يجعل الكثير منا أكثر تشتتاً، وأكثر عرضة لهفوات في الذاكرة، وأكثر قلقاً - فهذا يعني أننا نعيش تحولاً عميقاً في الإدراك البشري. أم أننا نبالغ في رد فعلنا، مثل الأشخاص في الماضي الذين أصيبوا بالذعر بشأن التقنيات الجديدة كالمطبعة أو الراديو؟

تشير الأدلة الموجودة على تعدد المهام والذاكرة إلى وجود علاقة سلبية، ولكن العلاقة السببية لا تزال بعيدة المنال. ومع ذلك، لا يزال العديد من الباحثين وخبراء السلوك البشري يشعرون بعدم الارتياح بشأن الاتجاه الذي يقودنا إليه الاستخدام المستمر للتكنولوجيا الرقمية. حين تم سؤال الخبراء: كيف يؤثر استخدامنا المستمر للتقنيات الرقمية على صحة دماغنا؟

يقول "ريتشارد ديفيدسون" Richard Davidson عالم الأعصاب في "جامعة ويسكونسن" University of Wisconsin ومؤسس ومدير مركز العقول الصحية Center for Healthy Minds "نحن جميعاً بيادق في تجربة كبرى يتم التلاعب بها من خلال المحفزات الرقمية التي لم يعطها أحد موافقة صريحة". تمتلك شركات التكنولوجيا أدوات قوية ومنتشرة للتأثير على نفسية المستخدمين واستغلالها. يتم جذب انتباه الناس بواسطة الأجهزة بدلاً من تنظيمه طوعاً. يصبح البشر مثل بحار بلا دفة في المحيط - تدفعهم وتجذبهم المحفزات الرقمية التي يتعرضون لها وليس التوجيه المتعمد لعقولهم. وهذا يؤكد الحاجة الملحة لتدريب العقول على التأمل حتى لا يضطر الناس إلى التحقق من هواتفهم ثمانين مرة في اليوم.

يعتبر "كريستوفر بور" Christopher Bohr فيلسوف العلوم المعرفية والباحث في معهد "أكسفورد للإنترنت" Oxford Internet Institute"إن استخدامنا المستمر للتقنيات الرقمية يسمح للأنظمة الذكية بمعرفة المزيد والمزيد عن سماتنا النفسية، بدرجات متفاوتة من الصحة أو الدقة. على سبيل المثال، يمكن استخدام مقياس التسارع في هاتفنا الذكي لاستنتاج مستويات التوتر لدينا في العمل، أو يمكن للتحليل الآلي لأنماطنا الصوتية تحديد أننا مكتئبون".

ولكن ما يقلق هو أن المستخدمين نادراً ما يكونون على علم تام بإمكانية استخدام بياناتهم بهذه الطريقة. علاوة على ذلك، كثيراً ما لا تحظى الشركات التي تعمل على تطوير المجموعة المتنوعة المتزايدة من تكنولوجيات "الصحة والرفاهية" بالاعتبار الكافي للمخاطر الناجمة عن التدخل. على سبيل المثال قد تقوم الشركات بدفع المستخدم لتغيير أنماط النوم أو الحالة المزاجية أو التفضيلات الغذائية والتسبب في ضرر غير مقصود.

 هل دمرت الهواتف الذكية جيلًا بالفعل؟

فيما يتعلق بالأدلة المباشرة ـ إظهار أن الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي تعيق التواصل البشري شخصياً ـ فهي محدودة. لكن إذا فكرنا في الأمر قليلاً: كيف يتواصل الناس مع بعضهم البعض؟ يفعلون ذلك من خلال المهارات الاجتماعية. وكيف تبني مهاراتك الاجتماعية؟ هناك طريقة واحدة فقط نعرفها - من خلال التفاعل وجهاً لوجه مع أقران آخرين في عمرك. عندما يكون لديك مجتمع تحل فيه أشياء أخرى محل التفاعلات الاجتماعية وجهاً لوجه، فمن المعقول افتراض أن هذه الأشياء ستؤثر على تطوير المهارات الاجتماعية. ويبدو أن هذا هو ما نراه الآن. ويتعين علينا أن نجد وسيلة لتحقيق التوازن بين أخطار التكنولوجيا الرقمية الدائمة وفوائدها. الأمر الواضح: إن تأثير الوسائط الرقمية يعتمد جزئياً على كيفية استخدامنا لها. أي أن تأثير الوسائط الرقمية على الأطفال الصغار يعتمد على ما يفعله الأطفال وكيفية تنظيم هذه الأنشطة من قبل البالغين الموجودين - أو غير الموجودين - في الغرفة.

على سبيل المثال، قد نقارن الدردشة الحقيقية مع أحد أجداد الطفل مقابل مشاهدة برنامج تلفزيوني تعليمي، ولعب لعبة فيديو مقابل استخدام تطبيق الرسم بالأصابع. من المرجح أن يستفيد الأطفال الصغار من الوسائط الرقمية عندما يكون المحتوى جذاباً وتعليمياً وذا صلة بحياتهم الخاصة؛ عندما يستخدمونها مع الآخرين - عندما يساعد الآباء الأطفال على فهم ما يرونه على الشاشة وربطه بما يختبرونه خارج الشاشة. وعندما تتم موازنة أنشطة الوسائط الرقمية مع الأنشطة خارج الشاشة مثل اللعب في الخارج، واللعب بالألعاب، وقراءة الكتب مع مقدمي الرعاية، والحصول على القدر الموصى به من النوم.

لذا فإن البحث مع المراهقين والبالغين لا يختلف كثيرًا. على سبيل المثال، تعتمد تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي على ما إذا كنا نستخدمها للتواصل مع أحبائنا طوال اليوم والحصول على الدعم الاجتماعي مقابل مقارنة حياتنا بحياة الآخرين التي غالباً ما يتم تصفيتها بشكل كبير وتعريض أنفسنا للتنمر أو أي محتوى سلبي آخر.

يجب الانتباه للتأثير المباشر للتكنولوجيا الرقمية على التنظيم العاطفي، والتوتر، نتيجة التعرض المفرط للمعلومات، ودورات المكافأة السريعة، والمشاركة المتزامنة في مهام متعددة. وهذه بالتأكيد أسباب تدعو للقلق. ومع ذلك يمكن للتكنولوجيا أن تقدم لنا شيئاً لا يصدق. فرصة لتعزيز معرفتنا وإثراء حياتنا.

الذعر الأخلاقي

مع أي تكنولوجيا جديدة، هناك دائماً نمط من الناس يقولون هذا يسبب الإدمان، ويدمر المجتمع كما نعرفه. غالباً ما يكون هناك شيء حقيقي لهذه المخاوف. وأحياناً يكون هناك أيضاً شيء يسمى الذعر الأخلاقي.

إحدى الطرق التي تشعر بها بالذعر الأخلاقي هي أنه يميل إلى التركيز على أطفالنا أو حياتنا الجنسية. لذلك عندما ترى شخصاً يقول إننا سنحظى بجيل ضائع، أو أن تقنية البلوتوث تقود الشباب إلى ممارسات سيئة بمعدلات غير مسبوقة، فهذه دائماً مؤشرات على الذعر الأخلاقي وليس القلق بشأن الأشياء الحقيقية.

والسؤال المثير للاهتمام هو ما هي المشاكل الحقيقية وكيف نعالجها ونجعلها أفضل؟ كيف يمكنك التخفيف من تلك الآثار الضارة؟ وما الآثار الإيجابية التي نريدها منه؟

الكاتب الأمريكي "نير إيال" Nir Eyal مؤلف كتاب "مدمن مخدرات: كيفية بناء منتجات تشكيل العادة" Hooked: How to Build Habit-Forming Productsيشبه استخدام التكنولوجيا بتدخين الحشيش. تسعون بالمائة من الأشخاص الذين يدخنون الحشيش لا يصبحون مدمنين. لكن النقطة المهمة هي أنك ستجد بعض الأشخاص الذين يسيئون استخدام المنتج؛ إذا كان جيداً وجذاباً بما فيه الكفاية، فلا بد أن تحدث تلك الإساءة. الحل هو أننا يجب أن نصلح الضرر الذي تسببه التكنولوجيا وليس التكنولوجيا نفسها. لذلك لا بد أن تبحث الشركات عن المدمنين وتساعدهم.

تصنع الكثير من الشركات التكنولوجية منتجات تسبب الإدمان. وهذه الشركات تعرف مقدار استخدامك لمنتجاتها. لذلك إذا أرادوا المساعدة يمكنهم ببساطة إلقاء نظرة على سجلهم والقول: انظر إذا كنت تستخدم المنتج 30 أو 40 ساعة في الأسبوع، فسنتواصل معك ونقول: مرحباً هل يمكننا مساعدتك لتعديل سلوكك؟ أنت تُظهر نمطاً سلوكياً يتوافق مع شخص قد يعاني من الإدمان. كيف يمكن أن نساعد؟' فهل تستجيب المنصات لهذه المطالب؟ إن اكتشاف ذلك هو التحدي التكنولوجي والبشري الكبير القادم.

***

د. حسن العاصي (جنداوي)

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

إن حادثة الوادي الكبير هي واحدة من أكثر الحوادث الدينية-السياسية التي أحدثت صدمة كبيرة في المجتمع العماني، وذلك يعود إلى ندرة الحوادث المشابهة التي تحدث في عُمان، فإن التاريخ العماني المعاصر يكاد أنه لم يشهد حوادث مماثلة.

وعلى الرغم من الندرة وقدرة العمانيين المرنة في تجاوز الكثير من المحطات المشابهة التي تمر بها المنطقة، وسيطرة الأجهزة الأمنية الجيدة على حماية الدولة والمجتمع، وهذا الوصف مأخوذ من البروفيسور هوشانج حسن ياري في لقائه مع بي بي سي الفارسية بعد الحادثة مباشرة، فقال استطاعت -أي الأجهزة الأمنية- أن تجعل عمان حصينة من الحوادث التي مرت بها المنطقة منذ عقود عديدة، إلا أن وقوع هذه الحادثة يشي بحدوث فجوات في الهندسة الاجتماعية كان ينبغي الالتفات لها من قبل، حيث أن وقوعها يعني أن هناك مشكلة يجب الالتفات لها، ومراجعة آليات قراءة الواقع العماني المعاصر المتغير وإمكانية وقوع حوادث شبيهة لا سيما مع اشتعال المنطقة منذ أحداث الربيع العربي وظهور منظمات إرهابية جديدة عاثت فسادا في كثير من الدول المجاورة واستطاعت تنفيذ عمليات في مراكز مهمة.

لقد نشأت فجوة خطيرة يجب مراجعتها، وهي ما يركز عليها هذا المقال، وهي تشكل "العماني المتوهَّم"، حيث إنه تم تشكيل هذا العماني ليكون في قالب واحد، وهو المواطن المتسامح، المسالم، البرئ، الصامت، والعديد من الصفات التي تصب في القالب المثالي الواحد، وعلى الرغم من أن كثيرا من هذه الصفات صحيح، لكن لا يمكن القول إنه ينطبق على الجميع ثم وضعهم في هذا القالب بالضرورة، حيث إن المجتمع العماني مثل أي مجتمع آخر، فيه قوالب عديدة، تتعلق بالمعتقدات الدينية والسياسية والأفكار والرؤى.

كل هذا متعلق بتشكل الخيال، حيث أنه تم صنع خيال واحد عن الشخصية العمانية، واعتبار أن هذا اللباس ينطبق على الجميع، دون مراجعة السياقات المعرفية والاجتماعية الجديدة، ولكي يُفهم الخيال السياسي يجب في البداية تعريفه والتفريق بينه وبين الوهم السياسي، فالخيال هو "مجموعة من العمليات الحسية والإدراكية والمعرفية وما وراء المعرفية والانفعالية النشطة التي تكوّن الصور الداخلية وتحولها وتحللها وتركبها وتنظمها في أشكال جديدة يجري تجسيدها بعد ذلك في أعمال وتشكيلات خارجية"، وهذا مختلف عن الوهم السياسي الذي يمكن تعريفه على أنه "التصورات والأفكار والخرافات التي يعتقد المرء بصحتها من دون أي أساس واقعي ومنطقي وعقلي وعلمي، وبأنها قابلة للتحقق في الواقع. كما أنه رغبات تأخذ صورة الحقيقية من دون التفكير المنطقي الواقعي بإمكانية تطابقها مع مطلب الحياة وحاجاتها مع منطق الأشياء والوقائع. فكل ما ليس بممكن الحدوث الآن ولا في المستقبل هو وهم".

بعد هذين التعريفين، يمكن طرح سؤال ما إذا كان تشكيل الصورة الذهنية عن العماني، هو من قبيل الخيال السياسي العلمي المبني على حقائق وواقع، أم وهم دون أي أساس عقلاني؟ والجواب الواضح هو الثاني، إذ لا يُمكن حصر أي مجتمع بشري في إطار واحد، لتعدديته في جميع الأشكال والصور، وبالتالي فإن تشكيل هذه الصورة الذهنية هي نوع من الركون إلى مناطق الراحة دون فهم المتغيرات المجتمعية والسياسية، والسياسة هنا -كما هو معلوم- ليست مرتبطة بالسلطة، وإنما بالمجتمع وأفكاره. إن الأوهام هي سلعة رائجة في جميع المجالات، يقوم ببيعها وشراءها الدول والمؤسسات والأفراد، وبالتالي فهي ليست عملية بسيطة، إذ تحتاج إلى عمليات عقلية معقدة من أجل فهم الطبيعة المجتمعية ثم تصدير الوهم المناسب لهذه الطبيعة، كما يصفه عبد الله الملحم في مقاله (كارثية الوهم السياسي). كما أن هذا الوهم يُمكن أن يغير الواقع الخارجي في الذهن، فيجعل الصورة الخاطئة صورة صائبة.

لذلك فإن الخيال السياسي المجتمعي يجب أن يكون قائما على أسس علمية سليمة ومنطقية وعقلانية، حتى لا يتحول إلى أحلام يقظة وهمية. يُمكّن الخيال السياسي الصحيح من فهم الواقع والتنبؤ بالمستقبل أو على الأقل محاولة فهم مآلات الأحداث والتغيرات، ولكي يكون هذا ممكنا يجب أن تتم دراسة الماضي وفهمه واستيعابه، ثم فهم الحاضر بدقة ومعرفة ما يدور فيه من خلال أدوات المعرفة المتاحة والدقيقة. لقد حدد عمار علي حسن في كتابه (الخيال السياسي) إحدى عشر منبعا مهما للخيال السياسي العلمي، هي استقراء التاريخ، والوعي بالمستقبل، والدراسات عبر النوعية، وروح الفريق -يعني أن يكون العلم ذو طابع جماعي-، والخيال المنطقي الخلاق والتفكير الجانبي والتباعدي، ونظرية المباريات -وهي النظرية التي تحلل تضارب المصالح وتصارع الأهداف من أجل الوصول إلى أفضل خيار ممكن ومنطقي، تستخدم هذه النظرية كثيرا في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والحربية-، وتوظيف الخيال الإبداعي، والمحاكاة -وهي تقليد للواقع الاجتماعي الحقيقي مما يتيح تحليل الظاهرة ومعرفة جوانب النقص والقوة فيها-، واستطلاعات الرأي، ووجود القائد المتبصر، وأخيرا استعراض التجارب الناجحة ودراستها.

هذه المنابع يجب أن تؤخذ في الحسبان من أجل تشكيل خيال سياسي واقعي عن المجتمع ومعرفة الفجوات فيه، وكيف يمكن معالجتها، وعلى الرغم من عدم القدرة على مناقشة كل واحد من هذه المنابع في هذه المقالة البسيطة، إلا أنه يُمكن أخذ مثال واحد منها وهو استطلاعات الرأي. يُمكن القول إن استطلاعات الرأي في عُمان ضعيفة نسبيا ومتأخرة غالبا، وحتى مع وجودها فإنها بشكل أو بآخر تتجاهل التغيرات المجتمعية وتفاعلها مع العالم، ومن ثم تحليلها ودراستها، فإن هذا له أهمية كبرى في فهم أعمق للمجتمع واحتياجاته.

إن هذا الخيال السياسي، مرتبط أيضا باللغة ارتباطا وثيقا، فإن الشعارات التي تطلق والتي تعبر عن صناعة الشخصية العمانية المقولبة في قالب واحد، هي ضارة أكثر منها نافعة، ولعل هذا يُمكن أن يُدرك من خلال ردة الفعل المنصدمة بعد وقوع الحادث حتى أصرت بعض الحسابات الإعلامية في مواقع التواصل الاجتماعي على نزع اللباس العماني عن منفذي الهجوم، إن هذه الشعارات عادة ما تجذب جمهورا واسعا من المستمعين دون أن يكون لديهم الفهم اللازم لمقتضياتها وكيفية ممارستها، وهذا ما يشكل تناقضا صارخا في السلوك الظاهري والباطني، فعلى سبيل المثال، يجب أن يُستحضر سؤال رئيس في مسألة تسامح الشخصية العمانية، هل السلوك مع الآخر المختلف جاء نتيجة اقتناع بأن الجميع متساوون دون أي فوارق استعلائية تتعلق بالمعتقد الديني أو العرقي أو غيره؟ إذا كان الأمر لم يأتِ عن اقتناع تام فإن الإنسان يتحول إلى آلة في تعامله مع الآخر المختلف ثم يعود إلى اعتقاداته الحقيقية في حديثه مع ذاته أو المقربين منه المتساوون عادة في المحددات الهوياتية -مثل المعتقد الديني أو العرق- وبذلك يصبح هذا التسامح -مثلا- عبارة عن تسامح مجازي فقط، ففي المخيلة أن الشخص المتسامح هو الفرد الذي يستوعب الآخرين ويتفهم تنوع المجتمع، "لكن كثيرا من جوانب هذه الصورة لا يمثل الواقع أو الحقيقة، التي تشي بأن هناك مسارات مضمرة أو خفية للتعصب"، ويحاول الناس أن يخفونها أو ينكرونها. فيقع على الفرد عبئ إثبات تقبل الآخر، ولذلك يظل هذا التسامح نسبي يتسع بالقدر الذي يؤمن الناس به أو يضيق. إن هذا المسار للتسامح الحقيقي يكون عبر هندسة اجتماعية تقوم على عاملين مهمين هما الدولة والمجتمع، وهذا ما حدث في عمان منذ عقود، فقد عمل العاملان معا من أجل تثبيت روح التسامح عند الجميع، لكن المشكلة في عدم مراجعة الطريقة التي يتم بها هندسة المجتمع مما خلق فجوة غير ملحوظة أو متجاهلة بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن عند الكثير من الأفراد، الذين يصفهم عمار علي حسن في كتابه (المجاز السياسي) أنهم يتفقون ظاهريا مع فكرة التسامح ويحاولون أحيانا فعل ما يوافقها أو يحقق الحد الأدنى منها، لكنهم في الواقع غير مؤمنين بها بشكل قاطع، لأن هناك دائما جانب غير معلن عند كل فرد حين ينظر إلى غيره من المختلفين طبقيا أو عرقيا أو دينيا، لأن فكرة التسامح المتخيَّل نفسها هي في الحقيقة تأكيد على التفاوت، حيث أن المتسامح يعتقد -صراحة أو ضمنيا- أنه في مرتبة أعلى من الآخرين الذين يتسامح معهم، أو ربما يصل الأمر إلى الاعتقاد أنهم على خطأ ولا بد من التغاضي عن أخطائهم، أما إذا دخل عامل آخر وهو الأيديولوجيا المتطرفة والاعتقاد الكامل بأنه يجب أن تنزع الحرية من ممارسي هذا "الخطأ" يتحول الامر من فكرة ذهنية -الاعتقاد بأن الآخر على خطأ- تختلف عن الفعل الواقعي، إلى فعل هجومي.

بناء على هذا تكون المبالغة في الاعتقاد بهذه الصورة المتوهمة هي نوع من الضرر، وعادة يمكن ملاحظة الوصول إلى حالة المبالغة في الصورة الذهنية المتوهمة من خلال اللغة ذاتها، عن طريق وسائل لغوية مثل المغالاة في العدد (كأن يقال بأن العمانيين كلهم بهذه الصورة)، والكم، والحجم، واستخدام صفات المقارنة، وأفعل التفضيل، والصفات التي تشير إلى العلو والرفعة، وحتى لو سلمنا بأن الخطاب العماني اليومي الذي يجعل المجتمع بأكمله في قالب واحد، لا يستخدم كل أدوات اللغة هذه، إلا أن كثيرا منها مستخدم، ولا يحتاج هذا لمثال يوضحه، فيمكن ملاحظته بسهولة.

إن كل هذا يساهم في صناعة هذه الفجوة الغائبة عن الذهن بسبب عدم المراجعة المستمرة، لكن أيضا يطرح سؤالا يتعلق بكيفية تكوّن الإرهابي في دولة آمنة جدا مثل عمان، لم تعرف منذ عقود طويلة أي منظمات إرهابية، واستطاعت التعامل مع التهديدات الخارجية بسياسة بارعة نسبيا؟

في كتابه (فهم الإرهاب) يذكر جيمس بولاند أن واحدة من أهم العلامات الثابتة للإرهابي المنتحر هو شعوره باليأس، والمشاعر السلبية اتجاه المستقبل، وذكر أن إيميل دوركايم يعتقد بأن الإرهابي المنتحر يكون منفصلا عن المجتمع والعائلة والتصورات المختلفة للدين، فيكون شديد الالتصاق باعتقاداته الشخصية ومشاعره، هذا ما يقود إلى اعتقاده بأن القيام بمثل هذا الأمر هو نوع من التحول في صورته الاجتماعية من "لا أحد" إلى "شهيد".

إن الإرهاب الديني عادة ما يكون مرتبطا بالاعتقاد أن الأفعال الإرهابية هي إرادة الله، وبالتالي فإن مسألة الموت تتحول من خيار ممكن إلى رغبة ملحة للحصول على الثواب في الآخرة، وهذا ما حدث في الحادثة التي وقعت في الوادي الكبير، فإن منفذي الهجوم لم يستسلموا للأجهزة الأمنية حتى هلكوا جميعا.

يعتقد مارتن كرامر في مقال له حول سيكولوجية الإرهابيين وأيديولوجياتهم، أن بعض الهجمات الإرهابية الدينية تهدف إلى التعبير عن الإيمان الديني والحماسة القومية، أما إذا أضيف المرض العقلي -حقيقة أو مجازا- إلى هذين فإنه يصبح خليطا خطيرا على المجتمع بأكمله، كما أن القيام بالهجوم الإرهابي الذي يهدف إلى الموت يضفي -بالنسبة للإرهابيين- نوع من المعنى للحياة.

وبعد الحادثة، تبنت داعش الهجوم، وكانت هناك تساؤلات حول كيفية استطاعة داعش الوصول إلى العمانيين وتوجيههم، وهنا يجيب بروس هوفمان في مقاله (دروس 11/9) الذي يلاحظ فيه وجود الشبكات الفضفاضة بين الجماعات الإرهابية، حيث هذه الشبكات تتميز عادة باللامركزية، فتعمل الخلايا الإرهابية بشكل شبه مستقل مما يجعل اكتشافها معقدا وصعبا، كما يمكن لهيكل الخلايا أن يتكيف مع التغييرات من خلال التمتع بنوع من الاستقلالية فلا حاجة لانتظار التعليمات الواردة من القيادات المركزية، والمهم في الهجمات أن تخدم ذات سردية المنظمة، وسواء كان الأمر صحيحا أن حادثة الوادي الكبير تابعة لداعش أم لا، فإن فهم نظام الشبكات الإرهابية الفضفاضة مهم ليكون هناك قراءة لتحركات الخلايا.

فضلا عن ذلك، فإن هناك استراتيجية أكثر تعقيدا للإرهاب، وهي الإرهاب الفردي، فالأفراد في هذه الحالة يتصرفون بإرادتهم الفردية، مما يشكل صعوبة في اكتشافهم بداية بسبب عدم وجود الشبكة المنظَّمة أو التنظيم الهيكلي، وصعوبة في الحصول على أي معلومات منهم في حالة القبض عليهم، لأنهم ببساطة لا يعلمون أي شيء. إن هذه الطريقة تستخدم في حالات عدم تكافؤ الفرص بين الإرهابيين والطرف المحارب لهم، فيتم إقناع الأشخاص ذوي التوجهات المشابهة بتنظيم مجموعات صغيرة جدا، أو تنفيذ عمليات فردية دون الاتصال مع المجموعة الرئيسة أو القادة، وتكون أعمال هؤلاء الأفراد مستقلة دون الحاجة لتلقي الأوامر.

لا أقول إن هذا ينطبق على الهجوم الذي حدث، لكنه مهم لفهم سياق سلوك الجماعات الإرهابية وكيف تعمل، حيث لا تضطر للوجود بذاتها، وإنما فقط عن طريق الشبكات الفضفاضة أو الأفراد، والطريقتين يكون العمل فيهما مستقل وغير مرتبط بالقيادة المركزية للتنظيم.

في الأخير، يجب علينا جميعا مراجعة خيالنا، وعدم تشكيل الشخصية العماني في قالب واحد، بل يجب إدراك أن العمانيين هم -كأي مجتمع آخر- قوالب متعددة متعلقة بالهويات الصغيرة، وتجاهل هذه القوالب لتشكيل قالب واحد يؤدي إلى عدم معرفة الفجوات الواقعة ومن ثم عدم معرفة التغير الاجتماعي والسياسي، لذلك يجب أن يتم مراجعة الأمر بناء على أسس علمية ومنطقية، ومن ثم محاولة سد الفجوات الموجودة من خلال الوسائل الناعمة، المتعلقة بالسياسات العامة فيما يتعلق بالدولة، والتنشئة الاجتماعية على الوحدة الوطنية والدينية الحقيقية دون تعزيز الشعور بالفوقية ضد أي طائفة مختلفة فيما يتعلق بالمجتمع.

إن تخيل المجتمع عبارة عن قوالب متعددة، لكلِّ قالب طريقته في العيش وتقبل أو رفض الأفكار والتشكل، يسهل من دراسته ومحاولة تحليله ثم معرفة مآلات أفعاله وسلوكياته، حيث أن هذه الصورة تعطي لكل فرد حقه الهوياتي الضيق، فلا يشعر بأي اضطهاد اجتماعي من خلال إرغامه على التشكل مع القالب الواحد، وبذا تسهل الهندسة الاجتماعية -التي تمارسها الدولة والمجتمع نفسه- وتنمية الشعور الوطني المدني عند الجميع، أي أنه على الرغم من الاختلاف في القوالب لكن الجميع متساوٍ في الحقوق المدنية سواء المواطنين أو الأجانب، ولا يحق لأي أحد نزع هذه الحرية والحق إلا من خلال القانون وما يحدده، وهذا يؤدي إلى الاعتقاد بأن لكل طائفة الحق في ممارسة شعائرها الدينية بما يحفظ حقوق الآخرين وحرياتهم، وعلى الرغم من أن هذا هو السائد في عمان كما نعرفه جميعا، إلا أن مثل هذه الفجوات ممكنة الحدوث ويجب مراجعة الطريقة التي يتم التعامل بها مع المتغيرات المجتمعية والعالمية.

حفظ الله عُمان دائما من شر الفتن والمصائب، ورحم الشهداء.

***

جاسم بني عرابة

في المثقف اليوم