آراء

آراء

هذه خلاصة نقاش حول العوامل البنيوية التي تضغط على توجهات السياسة في أوروبا الغربية في الوقت الحاضر. وتلعب هذه العوامل أدواراً متفاوتة في كل المجتمعات الصناعية، كما أنها تُمثل تجربة متقدمة للمجتمعات التي تتجه نحو الاقتصاد الحديث بشكل عام.

تجدر الإشارة أولاً إلى فائدة التمييز بين نوعين من التحليل السياسي، أكثرهما شيوعاً هو الذي يُركز على التجاذب بين الأطراف الفاعلة في الميدان، بناءً على أن نتائج التجاذب، وما يكسبه كل طرف وما يخسره الآخر، هو الذي يُشكل الصورة الواقعية للحياة السياسية. أما النوع الثاني فهو الذي يُركز على العناصر الجيوسياسية، أي مصادر القوة، وأسباب الضعف الثابتة، التي لا تتغير بتغير الحكومة ولا البرامج السياسية، فهذه المصادر والأسباب تواصل تأثيرها في المشهد السياسي، أيّاً كانت المجموعة الحاكمة.

سوف أركز في هذه الكتابة على انخفاض معدل الخصوبة، وهو أحد العناصر الجيوسياسية المؤثرة على مسارات السياسة. وأشرحه مع الأخذ في الاعتبار تفاعله مع نموذج «دولة الرفاه»، الذي تقوم عليه الدولة الأوروبية، وربما نعود للحديث عنه بشكل مستقل في مقالة مقبلة.

معدل الخصوبة هو عدد الولادات المتوقعة لكل امرأة، ويجب ألا ينزل دون 2.1 مولود لكل امرأة، للحفاظ على عدد السكان نفسه من دون هجرة. ولهذا أطلق على هذا الحد اسم «معدل الخصوبة الإحلالي». ولو أردنا المقارنة، فإن السعودية مثلاً تحظى بالمعدل الأعلى عالمياً، أي 2.3 مولود حي لكل امرأة. أما في دول الاتحاد الأوروبي فقد انخفض المعدل إلى 1.34 مولود لكل امرأة في عام 2023. معدل الخصوبة مهم، لأنه هو الذي يُحدد قابلية المجتمع لتوفير اليد العاملة الضرورية لتحريك العجلة الاقتصادية، فإذا تناقص عدد المواليد، تناقص معه عدد الأشخاص المهيئين للعمل، في حين يزداد بشكل معاكس، عدد المتقاعدين الذين يحتاجون إلى مَن ينفق عليهم. في الوقت الحاضر تصل نسبة كبار السن (65 عاماً وأكثر) في الاتحاد الأوروبي، إلى 21.6 في المائة من السكان، وهي نسبة تتصاعد باستمرار.

انخفاض عدد العاملين، يعني تقلص الحراك الاقتصادي، ومن ثم انكماش موارد الدولة، التي تعتمد على الرسوم والضرائب، وهذا يقود طبعاً إلى زيادة الضغوط على نظام الخدمات العامة، وتجميد أي توسع أو تطوير يتطلب استثمارات كبيرة.

جرّب عدد من الدول، ولا سيما فرنسا والسويد، تشجيع الإنجاب، لكن هذه السياسات لم تلقَ نجاحاً يذكر. الحل الآخر الذي يبدو معقولاً هو السماح بالهجرة الواسعة. ألمانيا مثلاً استقبلت 1.5 مليون مهاجر في 2022، و660 ألف مهاجر في 2023. وتقول أرقام رسمية إن تدفق 200 ألف مهاجر سنوياً يضيف للاقتصاد الألماني نحو 100 مليار يورو على المدى الطويل. أي أن الهجرة تولّد قيمة اقتصادية صافية، رغم أنها تبدو -في أول الأمر- مكلفة. في الوقت الحاضر يمثل المهاجرون 25 في المائة من الشعب الألماني.

لكن الهجرة الواسعة ليست بلا تبعات، فقد أطلقت شعوراً بالقلق من فقدان الهوية أو تحولها. الواقع أن الحكومات الأوروبية تُحاول علاج هذه المشكلة، بالتركيز على قيمة التنوع الثقافي بوصفه جزءاً حيوياً من الهوية الوطنية. ولتأكيد هذا الاتجاه، تُشجع الحكومات المهاجرين على المشاركة في الحياة السياسية، وقد تولّى بعضهم فعلياً مناصب وزارية وعضوية البرلمان. لكن كثراً من السكان، ولا سيما المحافظين التقليديين، يتساءلون بقلق: هل سيتحوّل المهاجرون من محكومين إلى حكام أو مشاركين في حكم بلدنا؟

ربما يجيب بعضهم، ولا سيما من السياسيين التقدميين: وماذا في ذلك، ما دام المهاجر يعمل مثل المواطن الأصلي، ويؤدي واجباته الضريبية، ويشعر بأن هذا وطنه، تماماً مثل بقية المواطنين، فهل نشعر بالقلق لمجرد اختلاف لونه أو دينه أو طريقة عيشه؟

على السطح، تبدو هذه أسئلة بسيطة، ويبدو جوابها بديهياً. لكنها تخفي -في واقع الأمر- تعقيداً شديداً، ويختلط فيه المنطق بالعاطفة وانعكاسات التجربة التاريخية، على نحو يستحيل أن تعالجه الأجوبة البسيطة.

***

د. توفيق السيف

 

وبتجاوز ما هو متعارف عليه على مستوى البدئية المجتمعية الحضارية، وعلى فرض ان بريطانيا استطاعت ان تنظر الى ذاتها بلا توهميه، فانها ستجد نفسها مخترقة ازدواجا من قبل  ارض مابين النهرين، فالمجتمعات لاتكتمل كينونة من دون الاختراق الازدواجي الابراهيمي  شرقا وغربا،ماعدا بعض الاستثناء، ومانتحدث عنه هو الصيغة البدئية الاولى للتحولية اللاارضوية ضمن اشتراطات الانتاجية اليدوية الجسدية، وهومالاينظر اليه سوى بقصد الطرد اقصاء من عالم المجتمعية الى الماوراء، والدينيه الميتافيزيقية،   تكريسا لوحدانيه النمطية والنموذج الارضوي من المجتمعية، الذي  تغلب ابتداء بحكم الطور الانتاجي السائد وقتها،  مع مترتباته الجسدوية.

فلا بدئية بناء عليه الا تلك الموصولة بمبدا ( التجمع + انتاج الغذاء) بعد الصيد واللقاط، بلا تحر في اشتراطات "التجمع"، وموقع "الطبيعة" ونوعها الطارد كما الحال في ارض مابين النهرين، حيث الانتاجية الحاجاتيه مرهونه لاشتراطات الاحتراب مع الطبيعه والعيش على حافة الفناء، سواء بحكم الموقع وسيول السلالات الهابطة لموقع الخصب من الجهات الثلاث الشرق والغرب والشمال من الصحارى والجبال الجرداء، او حكم النهرين العاتيين المدمرين  وفيضانهما عكس الدورة الزراعية، مايولد نمطية انتاجية ومجتمعية احترابيه مضادة تنفي التمايزية في السلطة والملكية، وتوجب المجال فوق الارضي السماوي كمقابل للارضي المجافي والذي سرعان مايتحول الى احترابي يتمثل في الاعلى في ( مدن/ امبراطوريات) منفصله عن المجتمعية الاخرى الاصل السفلى( بابل/ بغداد) بعد كل مايمكن من جهد اخضاعي فاشل بحكم النوع المجتمعي واستحالة الخضوع الذي يعني الفنائية حكما.

لقد تهيأت لبابل بعد مسار طويل من محاولات التفرد المجتمعي من اعلى، الاسباب لكي تتوفر على امضى الممكنات من موقعها داخل اسوارها، لتعريض اللاارضوية للفناء، ماقد حفز في حينه التعبيرية اللاارضوية وجعلها تتكامل،  برغم اشتراطات اللاتحقق وغلبة الطرف الاخر اليدوية الارضوية الاحادية، فتجلت الحدسية النبوية الالهاميه الابراهيميه حاضرة ومخترقة للمدى والمجال  الارضوي كحضورخارج ارضها،  بغض النظر عن غلبة الاشتراطات الارضوية اليدوية في حينه،  ورغما عنها، وعن قصورية وانتفاء الاسباب المادية والوسائل الضرورية للتحقق، فكان ان وجدت اللاارضوية خارج اعتبارات الجغرافيا والمكان والتمايزات البشرية، وصولا الى الانصبابية الرومانيه والفارسية والرد عليهما، والذهاب الى ماورائهما بالارتكاز لا الى الكيانيه والارض وحدود الجغرافيا، بل للكينونه البشرية الازدواجية وبناء على  تشكل الكائن الحي (العقل/ جسدي) وحقيقته الديناميه.

تتعرف ارض مابين النهرين على ثلاث دورات في طريقها للتحقق واقعا  وعبور طور الانتاجية اليدوية الجسدية واشتراطاتها،نحن اليوم في الاخيرة منها قبل النطقية مابعد النبوية الحدسية الابراهيميه الاولى التي  انتهى مفعولها وضرورتها،  واعلنت هي "ختامها"على مشارف انتهاء الطور اليدوي الجسدي من الانتاجية  والمجتمعية، وهو ماقد هيات الدورة الرافدينيه الثانيه اسبابه، فالتشكل الامبراطوري الكوني العباسي القرمطي وفر اللازم في حينه وخلال خمسه قرون من النظام الاقتصادي العالمي التجاري الريعي، من الاسباب لتحفيز الانقلاب مابعد اليدوي في موضع الازدواج الطبقي، بناء لطبيعته ونوع اصطراعيته المغلقة والتي تستوجب  لاجل الحل، حضور عامل من خارج الاصطراعية الطبقية، يقلبها وينهي امدا من التاريخ المجتمعي  ظل محكوما لديناميات (الكائن البشري / البيئة)، لنغدو مع الاله في غمرة حال تفاعلية مستجده نوعا وكليا، عناصرها (الكائن البشري + متبقيات البئية + الالة) والاخير عنصر مختلف نوعا وطبيعة، من شان حضوره وضعنا في غمارنوع مجتمعية اخر غير ماكان عرف قبل هذا التاريخ.

وما كان بناء للكينونه المجتمعية، للانتقال الى مابعد اليدوية ان يحصل  وفقا للبرنامج التعاقبي السطحي الارضوي وتوهميته، من دون اعتبارات مطابقة لطبيعته النوعية الانقلابيه ومنطوياته غير الظاهرة ابتداء، فكان لابد من ان ياخذ الانقلاب الاكبر المشار اليه شكل الوقوع تحت وطاة متبقيات ونوع المجتمعية الحاصل فيها الانقلاب الالي ابتداء، بحيث تسود فترة انتقاليه مابين الاله المصنعية والتكنولوجيا العليا المهياة للذهاب اليها، والتي هي المقصد  والغاية الفعليه، بينما  تتحمل المعمورة وقتها مغبة واثار التوهمية الاوربية ونوع الممارسة المدمرة التضليلية، تاخذ في حالة العراق بالذات طابعا افنائيا، ابتداء بفرض كيانيه برانيه لم يعرفها المكان على مر تاريخه، ولا هي من جنسه، يضع مرويتها الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه فليب ويرلند، موجدا عراقا لاعراقي تتبعه الاحزاب المضادة بلا ذاتيه وطنيه،  لتصنع من جهتها "مجتمعا"  ايديلوجيا متطابقا مع الفبركة البرانيه الاستعمارية، وصولا في نهاية المطاف الى السحق الكياني المباشر بالحرب التي كلفت المجتمعية الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ 2،4 تريليون دولار، وجيشت كل دول العالم في حدث لاسابق له ولا مثيل في العصر الراهن، من نزعة الافناء الكلي.

وبعدها وبعد ماقد مر حتى الان من فرض اليات منع اعادة التشكل،  وتكريس صيغة السلطات الموزعه على الجماعات المنتهية الصلاحية والفعالية من دون دوله، فان اتعس مايمكن ان  يعتمد في النظر الى المستقبل، هو طريقة النظر، ومنهجيات التحليل الشائعه التوهمية بالاخص، والبالية التي فقدت منذ زمن، الحد الادنى من مبررات الاستمرار  بالذات في الحالة التي نحن بصددها، فالعراق الغائب تنطوي بغيابه ديناميات وقوانين فعل خاصياته ليظل مكرها على  تحمل انواع النظر والتحليل غير المطابقة لكينونته، ولا لحقيقة واحتمالية ماهو مقبل عليه، فالافنائية المعتمدة  بحق اللاارضوية، هي بالاحرى الطريق المفضي الى النطقية المؤجله، مع مايمكن ان تتوفر عليه اليوم بالذات من نوع انتقالي نوعي ضروري، بعد ذلك الاول الذي جاء ردا على محاولة الافناء اليدوي البابلي،  وقد تهيات اليوم الاسباب لاكتمال الانقلابيه الالية، بعدما صارت التكنولوجيا العليا / العقلية، اقرب للحضور، وقلب كل ماهو سائد ومتعارف عليه من متبقيات الطور المنصرم الارضوي الجسدي، وهنا يكمن المسرب الراهن، فالتكنولوجيا العليا والنطقية اللاارضوية هما الطريق المنتظر من هنا فصاعدا حتى يخرج العالم برمته من تازمه الاكبر المتعاظم.

***

عبد الامير الركابي

كتب الشَّيخ محسن كديور يقول: «إنَّ عقائد الغُلاة تحوَّلت بالتّدريج، في القرنين الثّالث والرَّابع (الهجريين)، إلى عقائد المذهب، لتصبح بعد قرابة عشرة قرون مِن ضروريات المذهب، وعقائده الجوهريَّة الأساسيَّة» (القراءة المنسيَّة). منها تحوير معنى «التَّقيَّة»، وهي موجودة لدى الجميع بهذا المعنى أو ذاك، تجنباً لضَّررٍ في غير محله. لكن أن يزحف الغرض إلى قلب مواقفَ رموز، في المذهب، إلى ما لا يقصدونه، فهذا مِن فعل الغلاة، وخصوصاً إذا ما جاء متأخراً مع الدَّولة الصّفويَّة، لتكون في ما بعد مِن الضَّروريات، حسب الشَّيخ كديور. نأتي بمثالين أحدهما للإمام جعفر الصَّادق (ت: 148هج)، والآخر لشخصية كبيرة في الإماميَّة، وهو الحُسين بن روح (ت: 326هج). سُئل الصَّادق عن الخليفتين الرَّاشدين الأولين، وكان جوابه في مجلس خليفة عباسيّ، فقال: «هما إمامان عادلان قاسطان، كانا على الحقّ فماتا عليه، عليهما رحمة الله» (الجزائري، الأنوار النُّعمانيَّة).

كان الجواب يتناسب مع سلوك الصّادق، مثلما نقرأ في سيرته، وما له مِن صِلة قرابة مِن ناحية أمّه بأبي بكر الصّديّق، فهي حفيدته لكن لم يترك الغلاة الصَّادق بما أجاب، فلابد أنْ يقدمه رمزاً للعداوة التي ينقلها الغلاة مِن جيلٍ إلى جيل، حتَّى يومنا هذا. فنجده يكمل الرِّواية ليؤكد بها التَّقية، على أنها الدِّين، ويواصلَ قائلاً: «فلما قام مِن المجلس تبعه بعض أصحابه، وقال: يا ابن رسول الله قد مدحت أبا بكر وعمر هذا اليوم! فقال: أنت لا تفهم معنى ما قلتُ، فقال: بينه لي؟» (الأنوار النُّعمانيَّة) فبينه له بعكس ما مدحهما.

المثال الثاني عن السفير الثّالث ابن روح، كذلك «بلغ الشَّيخ أبا القاسم رضي الله عنه أنَّ بواباً كان له على الباب الأول، قد لَّعَن معاويةَ وشتمه، فأمرَ بطردهِ وصرفهِ عن خدمته، فبقي مدة طويلة يُسأل في أمرهِ، فلا والله ما رده إلى خدمتهِ، وأخذه بعض الأهل فشغله معه. كلَّ ذلك تمويهاً للتقية» (الطّوسيّ، كتاب الغيبة).

السُّؤال: لماذا فُسرت عقلانيَّة جعفر الصَّادق والسّفير ابن روح بالتَّقية؟ وهل السَّبُّ، أو عدم الاعتراف بالخلفاء كان مِن جوهر التَّشيع منذ البداية؟ بينما كان واقعاً قد حصل، وكان الإمام عليّ بن أبي طالب وأولاده وأحفاده جزءاً منه، وهو أصبح الخليفة الرّابع بعد ثلاثة خلفاء تعامل معهم شخصياً ببيعة منه. أم أنَّ الغُلاة أرادوا تكريس ما كانوا يدعون إليه، فزعموا أنَّ كلَّ موقف عقلانيّ مغلفٌ أو مموهٌ بالتّقية، أي تقول ظاهراً وتخفي باطناً، ولا نرى في ذلك مِن أخلاق الأئمة، مثلما يُقدمهم الأدب الشّيعيّ، بكلِّ هذا الجلال والتّقديس، ويبجلهم الأدب السُّنيّ على هذا النَّحو.

لكنْ لماذا يوافق الإمام الصّادق أو ابن روح النُّوبختي على السّبّ، وعليّ بن أبي طالب يوصي جماعته، وكانوا يسبون أهل الشَّام في «صفين»: «إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذَكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سَبَّكم إيَّاهم، اللّهم احْقن دِماءنا ودِماءهم، وأصلح ذات بَيننا وبَينهم» (نهج البلاغة). فقياساً بما تقدم مِن تبرير، يكون عليّ بن أبي طالب منع سَبَّاب جماعته تقيةً، أو تظاهراً؟! بينما هو حقَّاً كان يدعو إلى حقن دمائهم، وإصلاح ذات البين معهم، بينما «الغُلاة» يريدونها حرباً مدى الدَّهر!

والسَّب المتداول المتقابل، على شاشات الفضائيات، ومِن على المنابر، هو شرار لحروب وكراهيات، داخل الأوطان المختلطة. كان الاختلاف المذهبي وما زال، يشتد ويفتر، لكنَّه يتحول إلى عِراك إذا ما تقابلت الصّفوف بالسّب والتَّكذيب والتَّكفير، لذا قال محمَّد الأنصاريّ (ت: 535هج): «احفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ/ سنٍ ومالٍ ما استطعتَ ومذهبِ/ فعلى الثَّلاثة تبتلي بثلاثةٍ/ بممَّوه ومكفرٍ ومكذبِ» (ابن الجوزيّ، المنتظم). نعم، إنَّ التَّقيّةَ معترفٌ بها، لكن ليست للتمّويه عن سبٍّ وإهانة.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

مفكرون يهود ضد الصهيونية (6)

يمثل مارت بوبر أحد أبرز الفلاسفة اليهود المعاصرين الذين طغى على إشتغالهم الفكري السعي الى تقديم مقاربة خاصة في العلاقات الانسانية عبر دالة البعد المعنوي، جامعاً في تفكيره الفلسفة واللاهوت والاجتماع والانثروبولوجيا والفكر السياسي، وقد ولد في مدينة فيينا عام 1878م لأسرة يهودية مثقفة، إذ كان جده سالومون بوبر (1827-1906م) من المتخصصين في الفكر التوراتي والتلمودي، الذي سيتربى عنده مارتن في مدينة لوفوف الأوكرانية عقب إنفصال والديه وهو بعمر الثالثة، ويتعلم العبرية مطلعاً في الوقت ذاته على التراث اليهودي والمعتقدات المتعلقة به، وفي عام 1892م يعود مارتن إلى منزل والده في ليمير الألمانية، وهناك سيمر بأزمة دينية تجعله يقطع صلته باليهودية مُبدياً في الوقت عينه ميلاً إلى الفلسفة قارئاً لعمانؤيل كانت (1724-1804م) وفردريك هيغل (1770-1831م) وفردريك نيتشه (1844-1900م) وغيرهم مما سيدفعه الى الرغبة في التخصص في مجال الفلسفة في جامعة فيينا.

وفي عام 1898م قرر مارتن أن ينضم الى الحركة الصهيونية، ليصبح بعد ذلك، كما تنقل الموسوعة البريطانية(1) ، محرراً لصحيفة الصهيونية الإسبوعية The World/العالم، عقب دعوة وجهها له ثيوديور هرتزل (1860-1904م)، إلا العلاقة والوشاجة لن تدوم بين الطرفين جرّاء تباين وجهات نظرهما حول معالجة المسألة اليهودية، فبوبر يميل الى حلول تختلف جذرياً عن حلول هرتزل المتشددة، والساعية الى إقامة الوطن اليهودي عبر إقصاء السكان الأصليين منه، وهو ما رفضه بوبر كما سيأتي لاحقاً.

ونتيجة لميول مارتن بوبر الروحية والمعنوية، وكذلك تأثره ببعض الفلاسفة المعنويين كمؤسس الإتجاه الوجودي سورين كريكَجارد (1813-1855م)، وبعد إطلاعه على فكر تيار الحسيدية اليهودي سيقرر إعتناق هذا الفكر الذي رأى في قرباً كبيراً مع توجهاته وتفكيره عام 1903م، ليستمر في التفكير والكتابة ضمن هذا المناخ الفكري، ليتوّجَه عام 1923م بنشر كتابه الأشهر (الأنا والأنت) الذي يمثل ذروة تفكيره في مجالات الحوار والتفاعل والعلاقات الانسانية، كما سيقوم بوبر بترجمة التوراة من اللغة العبرية الى الالمانية بالتعاون مع أحد أصدقائه، وفي عام 1930م سيصبح أستاذ شرف في جامعة فرانكفورت، إلا أن سيُقدم على الاستقالة عام 1933م إحتجاجاً على وصول النازية الى السلطة في ألمانيا، وستقوم السلطات النازية بمنعه من التدريس في المؤسسات العامة، فقام بتأسيس المكتب اليهودي للتعليم اليهودي للراشدين، والذي سيتم حظره كذلك من قبل النازييين.

وفي العام 1938م يقرر مارتن بوبر الهجرة الى فلسطين، مُقيماً في القدس، عاملاً كأستاذ للأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع في الجامعة العبرية، وزاد خلال إقامته في القدس من مشاركته السياسية واستمرّ في تطوير أفكاره حول الصهيونية ليشارك عام 1942 في تأسيس حزب "إيحود/الوحدة" الذي دعا إلى برنامج حلّ ثنائيّ القومية، مخالفًاً هرتزل في اتجاهه السياسيّ والثقافي وفي تصوّره للصهيونية كقومية يهودية ليست في حاجة إلى الثقافة والدين اليهوديين، في حين كان بوبر يرى أنّ هدف الصهيونية هو إثراء اليهود اجتماعيًا وروحيًا، داعيًا إلى ضرورة إصلاح اليهودية بعد تأسيس "إسرائيل" وقائلًا: (إننا نحتاج إلى من يفعل لليهودية ما فعله البابا يوحنا الثالث والعشرون للكنيسة الكاثوليكية)(3) ، كما كان بوبر أحد زعماء (بريت شالوم) (تحالف السلام)، وهي حركة نادت بالتسامح والتقارب في علاقة اليهود مع الحركة القومية العربية، وقد توفي بوبر في مدينة القدس عام 1965م.

وقبل الولوج الى النقد الذي سيقدمه بوبر الى الحركة الصهيونية نعتقد أن من الأهمية بمكان الإرتكان على تقديم شرح مبسط لنظريته في العلاقات الانسانية والحوار (الأنا-أنت)، إذ يرى بوبر أن الإنسان كائن إجتماعي بذاته، وإذا كان الكوجيتو الديكارتي يقوم على معادلة (أنا أفكر إذن أنا موجود) فإن معادلة بوبر تقوم على (أنا أُقيم علاقات فأنا موجود) لتأكيد محورية أُسية الطابع العلائقي في الذات الانسانية، ويعتقد بوبر أن هناك نوعين من العلاقات، والتي نظّر لها في كتابه (أنا وأنت  I and Thou) عام 1923م(4):

النوع الأول: (أنا-هو/ I-It): في هذه العلاقة يُعامل الآخر على أنه شيءٌ من الأشياء، أو كموضوع أو وسيلة، ولذلك تكون العلاقة في هذا النوع مرتسمة برسم النفعية، وللعقل والخيال فيها البعد الأثر الكبير، وبعبارة أخرى، تتأسس العلاقة في هذا النوع على النظرة إلى الآخر من خلال اللحاظ الوسائطي، أو الطريقي، الذي يحقق غاية للإنسان كأداة أو وسيلة، ومن ثم لا يظهر هذا الآخر في العلاقة مع الأنا كحقيقة تفاعلية، وإنما كتعبيرٍ عن موضوع للمعرفة أو الإستخدام، كتعامل الانسان مع سائق التكسي أو من يقدم لك خدمة عابرة، أو عندما تدرس نباتاً أو مادة في المختبر، وهي علاقة لا تحظى بإنعدام الفواصل بين الذات والموظوع، بل تهيمن عليها خاصية التأقيت والإختزال، والعالم، وفقاً لها، يتم إختزاله في أشياء ومفاهيم يمكن قياسها أو تحليلها، وإذا ما تم توسيع علاقة (أنا-هو) لتطغى على كل العلاقات الانسانية فإنها ستحول الآخرين لدى الأنا إلى مجرد موضوعات للدراسة أو التحليل أو الاستخدام النفعي، ومن ثم ستؤول الأمور الى التشيؤ.

النوع الثاني: (أنا-أنت/ I-Thou): على خلاف النوع الأول، تظهر العلاقة في هذا النوع كعلاقة تفاعلية بين الأنا والآخر، ولا يظهر الاخر كغائب أو موضوع دراسة وتحليل و إستخدام، بقدر ما يظهر ككائن حي متكامل متفاعل مع الأنا، وهذه العلاقة تمثل جوهر الوجود الانساني من وجهة نظر مارتن بوبر، وهي لا تقتصر على علاقة الانسان-الانسان، وإنما ترتبط كذلك بعلاقة الإنسان بالله، إذ فيها يظهر الله تعالى لا كموضوع للدراسة، بقدر ما يظهر كــــ(أنت الأزلي) الذي يتحاور الانسان معه، ويعيش معه علاقة روحية تفاعلية، وهنا يظهر التكامل في طريقة التفكير الخاص بمارتن بوبر، وفي إرتباطه الديني بالفكر الحسيدي القائم على النظرة الدينية الروحية.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن بوبر لا يقف على الضد من علاقة (أنا-هو) تماماً، وإنما يضعها في سياقها الطبيعي، إذ أنها علاقة ضرورية في مجالات العلم والتقنية والعمل اليومية، وكذا للعلاقات الطريقية العابرة، بيد أن الخطر الكبير يكمن في أن تهيمن هذه العلاقة على مجمل معالم الحياة الانسانية، وتصبغ بصبغتها كل العلاقات الاجتماعية والروحية، فيفقد الانسان، تبعاً لذلك، البعد الروحي، ويعيش في عالم الأشياء فقط، والإنسان المتوازن، من وجهة نظر بوبر، هو الذي يعيش حالة التوازن والتعادل بين هذين النوعين من العلاقة، فهناك علاقة مع الـــ(هو) الذي نستخدمه وندرسه، وأخرى مع الـــ(أنت) الذي نلتقي فيه ونتفاعل معه في علاقة حضور تفاعلي مع الأنا بخلاف الهو الي يظهر كموضوع دراسة تغيب أناه الخاصة عن التفاعل الحضوري المعنوي مع الأنا.

ونفترض أن فهم طبيعة نظرية بوبر في العلاقات الانسانية مع الآخر ضروري جداً لفهم موقفه النقدي من الحركة الصهيونية، وطبيعة الحل الذي يتبناه للمسألة اليهودية، لأن نقده للصهيونية، وخلافه مع هرتزل وإنسحابه من التعامل معه، لا يعبر عن موقف سياسي بحت، وإنما يعبر كذلك عن تناغم مع فلسفته وفكره الحواري التفاعلي، إذ طالما أن جوهر العلاقة الرابطة للانسان هو النوع الثاني (أنا-أنت)، فلا يمكن إختزال التعامل مع الآخر في (أنا-هو)، وهذا ما تقوم الصهيونية بإتباعه في مشروعها، فالأرض شيء نملكه، والسكان الأصليون الفسطينيون عبارة عن عائق (هو) يقف أمام رغبتنا فعلينا أن نزيحه، والدولة الصهيونية أداة لتحقيق غاية الأمن القومي للصهيونية، والدين/اليهودي وسيلة آيديولوجية تُوّظف من أجل تحقيق غاية سياسية، لذلم أضحت العلاقة مع الاخر علاقة  (الانسان وكذلك الله تعالى) علاقة الـــ(هو).

ومن هنا نفهم لماذا سعى بوبر إلى ان تكون العلاقة الرابطة مع العرب علاقة تفاعل وحوار (أنا-أنت)، منطلقاً من فلسفته الحوارية في أن العلاقة بين الشعوب يجب أن تكون علاقة إعتراف متبادل، وليس علاقة سيطرة أو تملك أو إقصاء، ونتاجاً لذلك، رفض بوبر مبدأ الحركة الصهيونية الهادفة إلى إستبعاد الفلسطينيين وتأسيس كيان يهودي فقط، ودعا إلى إقامة دولة ثنائية القومية يعيش فيها اليهود والعرب في علاقة (أنا-أنت)، ولذلك سعى في حزب إيحود إلى أن الحياة في هذه الأرض لن تكون ممكنة ما لم يتم الاعتراف بالاخر الفلسطيني على أنهم الـــ(أنت) بالنسبة لليهود، وقد كتب بوبر في إحدى رسائله (إن القضية ليست أن نُقيم دولة بأي ثمن، بل أن نُقيم مجتمعًا بشريًا في هذه الأرض يكون فيه الإنسان هدفًا، لا وسيلة)(5).

ومن هنا فإننا نتفق مع السيد ولد أباه(6) في تأكيد أن بوبر، وإن كان يتبنى فكرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي هي أساس المشروع الصهيوني الأصلي، إلا أنه يحرص على أن لا تكون في شكل النزعة القومية السياسية، وألا تكون على حساب العرب من سكان الأرض التي يعيشون فيها، فما يتبناه بوبر هو نمط من النزعة اليهودية الروحية التي تتأقلم مع الفكرة الحديثة للدولة السيادية الوطنية المجسدة لروح الشعب وفق المصطلحات الهيغلية، وإنما تصدر عن العقيدة الأرثوذكسية الحسيدية، وتتبنى رؤية غير سياسية للرابطة الجماعية الروحية، إذ تكون الأولوية للمقتضيات الأخلاقية على محددات السلطة والقوة، وان هدف “إعادة بعث إسرائيل” بالنسبة لبوبر لا يمكن أن يتم عن طريق المقاييس السياسية الحديثة، أي بناء الدولة القومية وفق المبدأ الولسوني الشهير الذي يكرس حق تقرير المصير للأمم ضمن كيان قانوني معترف به دوليًاً، فالانبعاث الذي يتحدث عنه بوبر يتم من خلال الرجوع للتراث اليهودي، ومن هذه المنطلقات يرى بوبر أن الصهيونية السياسية تتعارض في العمق مع التراث اليهودي الأصلي، وتفضي إلى التضحية بجوهر الدين من أجل الدولة التي تحولت إلى صنم معبود، إن رسالة النبي موسى الحقيقية هي أن الأرض لا يملكها إنسان، وأن السيادة ليست لبشر في هذا العالم، وما كرسته الصهيونية السياسية هو بناء أيديولوجيا قومية تنتهك روح ونص هذه الرسالة الدينية اليهودية المقدسة.

***

د. محمد هاشم البطاط

.....................

المصادر:

(1) يُنظر الموقع الرسمي للموسوعة البريطانية، على الانترنت: www.britannica.com

(2) تكشف الحسيدية عن أحد التيارات اليهودية التي تعبر عن التوجه الصوفي الباطني الشعبي، والتي نشات في أوربا الشرقية (بولندا وأوكرانيا) في منتصف القرن الثامن عشر على يد الحاخام إسرائيل بن إليعازر، والمعروف ب"بعل شم طوف"، وتعني كلمة (حسيد) في اللغة العبرية: الورع أو التقي، وقد ظهر هذا التيار داخل اليهودية جرّاء معاناة الجماعات اليهودية في أوربا الشرقية من الفقر والجوع والاضطهاد والجمود الديني، وعدم التفاعل على الطريقة التقليدية التي يعتمدها الحاخامات اليهود في الجمود على الطريقة الحرفية/النصية للمتن الديني اليهودي، إذ تميل الحسيدية إلى التركيز على الجوانب العواطفية الروحية في التعامل مع الدين، وعلى التفاعل الديني كتجربة روحية لا على الجدل العقلي، وكأنها ثورة من الدفء الروحي ضد البرود العقلي  إن جاز التعبير ولاق، ومن أبرز المرتكزات الفكرية التي تقوم عليها الحسيدية:

1- حضور الله في كل شيء، فهو ليس بعيداً في السماء، بل يسكن في كل ذرة من الوجود، كما لا يوجد فصل حقيقي بين “المقدّس” و”الدنيوي”، فحتى العمل اليومي، والطعام، والضحك، يمكن أن تكون وسيلة لعبادة الله إذا قُصِدت بنية صافية.

2-  الفرح والنية أهم من المعرفة، إذ يرون العبادة ليست في قراءة التوراة ودراستها فقط، بل في الفرح بالله والإخلاص في النية، كما يرفض الحسيديون الحزن واليأس؛ فالحزن علامة على البُعد عن الله، بينما الفرح علامة على حضوره.

3- القيادة الروحية – شخصية “التسديك” (Tzaddik)(الصالح) وهو الزعيم الروحي للجماعة، بمثابة الوسيط بين الناس والله، ويتميّز هذا القائد بالحكمة والقداسة، ويُنظر إليه بوصفه قناة للنعمة الإلهية، وتكون العلاقة بين الحسيد وأستاذه الصالح هي علاقة حب وثقة مطلقة.

4- التأكيد على الروح الجماعية، وقد رفضت الحسيدية النخبوية الدينية، وفتحت الطريق أمام اليهود البسطاء ليعيشوا تجربة الإيمان بعمق، لذلك كانت حركة اجتماعية–روحية أكثر منها فلسفية أو أكاديمية.

هذه المرتكزات وغيرها قادت الحسيدية الى الصِدام مع التيارات التقليدية اليهودية، وأُتهمت إثر ذلك بالهرطقة والإبتعاد عن التوراة.

للتوسع حول الحسيدية، يُنظر: جعفر هادي حسن، اليهود الحسيديم، نشأتهم، تأريخهم، عقادئهم، تقاليدهم، ط1 1994م، دار القلم، دمشق.

(3) جورج معدي، مارتن بوبر منبهاً الى سقوط الصهيونية الاخلاقي، على الانترنت:  www.diffah.alaraby.co.uk

(4) للتوسع حول نوعيّ العلاقة في فكر مارتن بوبر، يُنظر:

Martin Buber, I and Thou, translated by; Walter Kaufmann, 1970, EbookIt,

(5)           Martin Buber, “A Letter to Gandhi,” in A Land of Two Peoples: Martin Buber on Jews and        Arabs, edited by Paul Mendes-Flohr, University of Chicago Press, 1983, p. 173

(6) السيد ولد أباه، مارتن بوبر والصهيونية الدينية، على الانترنت: www.ardd-jo.org

 

قراءة في ضوء التجربة المغربية

مقدمة: تعد الانتخابات التشريعية احدى الركائز الاساسية في البناء الديمقراطي، اذ تمكن المواطنين من اختيار ممثليهم داخل المؤسسة البرلمانية، وتجسد مبدأ السيادة الشعبية في ابعاده العملية، غير ان ضمان نزاهة هذه الانتخابات لا يقتصر على تنظيمها فحسب، بل يتطلب ايضا وجود اليات رقابية فعالة تمكن من الطعن في نتائجها عند وقوع مخالفات او تجاوزات تمس بمصداقيتها.

منذ اول دستور لسنة 1962، تم التنصيص على اختصاص الغرفة الدستورية في البت في الطعون المتعلقة بانتخاب اعضاء البرلمان، وذلك في الفصل 103. هذا الاختصاص استمر وتطور، حيث انتقل الى المجلس الدستوري، ثم جاء دستور 2011 باحداث المحكمة الدستورية كهيئة مستقلة، ومنحها صلاحيات اوسع، وجعلها من ضمن ركائز الاصلاح الدستوري، حيث نص الفصل 132 على انها تمارس الاختصاصات المسندة اليها بفصول الدستور وباحكام القوانين التنظيمية، وتبت في صحة انتخاب اعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء.

في هذا السياق، يضطلع القاضي الدستوري بدور محوري في مراقبة سلامة العملية الانتخابية، من خلال اختصاصه في البت في الطعون المتعلقة بانتخاب اعضاء البرلمان، وفق ما ينص عليه الدستور والقوانين التنظيمية ذات الصلة، وتعد هذه الطعون احدى الوسائل القانونية التي تضمن احترام ارادة الناخبين، وتحمي العملية الانتخابية من اي انحراف او اخلال.

فكيف تتم اجراءات الطعون الانتخابية امام القاضي الدستوري؟

اولا: شروط قبول الطعن

تنقسم شروط الطعن الى شروط شكلية وشروط موضوعية.

بالنسبة للشروط الشكلية تتجلى في تحديد الجهات المخول لها حق الطعن وايضا البيانات الواجب توفرها في العريضة، ومنح المشرع الدستوري اهلية تقديم الطعون الى ( المنتخب، الناخب، العامل، كاتب اللجنة الوطنية للإحصاء بالنسبة لمجلس النواب) أما بخصوص مجلس المستشارين فهي ممنوحة ( للمنتخب، الناخب، الوالي، كاتب اللجنة الوطنية للإحصاء).

تحدد المادة 35 من القانون التنظيمي رقم 066.13 البيانات الاساسية التي يجب ان تتضمنها عريضة الطعن في نتائج الانتخاب، وهي:

- الاسم الشخصي والعائلي للطاعن؛

- صفته وعنوانه؛

- الاسم الشخصي والعائلي وصفة المطعون في انتخابه؛

- بيان الوقائع والاسباب المعتمدة لطلب الإلغاء.

 مع ضرورة ارفاق العريضة بالمستندات المدلى بها. ويسمح للطاعن بالاستعانة بمحام، كما يمكن للمحكمة الدستورية منحه اجلا استثنائيا للادلاء بجزء من الوثائق اذا اقتضى الامر. وتجدر الاشارة الى ان العريضة لا تترتب عنها اثار واقفة، وهي معفاة من الرسم القضائي وكافة رسوم الدمغة والتسجيل.

اما من حيث الشروط الموضوعية، فانها تعزز العريضة الى جانب الشروط الشكلية، وتعد ضرورية لتاسيس الطعن ودعمه بحجج وادلة مستمدة من مخالفات شابت العملية الانتخابية. ومن بين هذه المخالفات:

- استعمال المساجد لاستمالة الناخبين؛

- تعيين اعضاء غير مؤهلين او اميين في مكاتب التصويت؛

-  تجاوز المراحل القانونية للعملية الانتخابية ؛

- الشروع في الفرز قبل الوقت المحدد؛

- احتساب اوراق كان يجب الغاؤها؛

- الغاء اوراق صحيحة دون مبرر.

 وتعزز هذه الماخذ بوثائق مؤيدة، من بينها محاضر فرز الاصوات ومحاضر لجنة الاحصاء.

ثانيا: كيفية ايداع الطعون

تنص المادة 32 من القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية ان اجل ايداع الطعون هو ثلاثين يوما الموالية للإعلان عن النتائج. ويحال النزاع الى المحكمة الدستورية بعريضة مكتوبة كما تنص المادة 34، وتودع لدى (الامانة العامة للمحكمة الدستورية او لدى الوالي او العامل او لدى كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية التي اجري الانتخاب بدائرتها)، وذلك مقابل وصل يحمل تاريخ الايداع ويتضمن قائمة الوثائق والمستندات المقدمة من طرف الطاعن.

يقوم الوالي او العامل او رئيس كتابة الضبط بإشعار الامانة العامة للمحكمة الدستورية بكل وسيلة تواصل معمول بها بما في ذلك البريد الالكتروني، ويوجه اليها العرائض التي تلقاها.

ثم بعد ذلك تسجل العرائض بالأمانة العامة للمحكمة الدستورية بحسب ترتيب وصولها، ويشار في تسجيل العرائض الواردة من الجهات الى تاريخ تسليمها.

مباشرة بعد ذلك، يقوم رئيس المحكمة الدستورية فورا بإشعار رئيس مجلس النواب او رئيس مجلس المستشارين حسب الحالة بالعرائض التي وجهت اليه او اشعر بتلقيها.

ثالثا: دراسة الطعن والرد عليه

حيث ان المحكمة الدستورية تتلقى العرائض المتعلقة بالطعن في نتائج الانتخاب، فإنها توجه نسخة منها الى الاشخاص المطعون في انتخابهم، وذلك وفقا لما تنص عليه المادة 36 من القانون التنظيمي. اذ ان هؤلاء يمنحون اجلا مدته خمسة عشر يوما من تاريخ التبليغ، يمكنهم خلاله الاطلاع على المستندات المرفقة بالعريضة لدى الامانة العامة للمحكمة، والحصول على نسخ منها، بهدف تقديم ملاحظاتهم الكتابية بشأن ما ورد فيها.

وتملك المحكمة الدستورية امكانية تبليغ المذكرات الجوابية للأطراف المعنية مع الاشارة الى اجل الرد عليها.

رابعا: التحقيق في الطعن

تنص المادة 37 على انه يجب على كل جهة تودع لديها محاضر العمليات الانتخابية وملاحقها ان توجهها الى المحكمة الدستورية اذا طلب منها ذلك، وللمحكمة الدستورية ان تامر بإجراء تحقيق في الموضوع وتكلف واحدا او اكثر من اعضائها(مقرر) بتلقي تصريحات الشهود بعد ادائهم اليمين بين يديها، ويحرر محضر بذلك من طرف كتابة الضبط ويدعى المعنيون للاطلاع عليه في الامانة العامة للمحكمة وايداع ملاحظاتهم في شأنه كتابة في غضون ثمانية ايام.

خامسا: البت في الطعن واصدار القرار

تبت المحكمة الدستورية في الطعون المتعلقة بانتخاب اعضاء البرلمان بموجب الفقرة الاخيرة من الفصل 132 من الدستور، داخل اجل سنة ابتداء من تاريخ انقضاء اجل تقديم الطعون اليها كما تنص المادة 33، غير ان للمحكمة تجاوز هذا الاجل بموجب قرار معلل اذا استوجب ذلك عدد الطعون او استلزم ذلك الطعن المقدم اليها، فعندما تكون القضية جاهزة تبت فيها المحكمة بعد الاستماع الى تقرير المقرر داخل اجل ستين يوما كما تنص المادة 38، غير انه يمكن للمحكمة ان تقضي دون اجراء تحقيق سابق بعدم قبول العرائض او رفضها اذا كانت تتضمن مآخذ يظهر جليا انه لم يكن لها تأثير في نتائج الانتخاب.

تقوم المحكمة الدستورية، في جميع الأحوال، بإبلاغ قراراتها إلى الجهة الإدارية التي تلقت طلب الترشيح، وإلى مجلس النواب أو مجلس المستشارين، وكذا إلى الأطراف المعنية، وذلك داخل أجل لا يتجاوز ثلاثين يوما من تاريخ صدور القرار، وإذا لم يكن عنوان الأطراف أو محل المخابرة متوفرا لدى المحكمة، يعتمد مقر العمالة التابعة للدائرة الانتخابية باعتباره الموطن القانوني.

 واذا قضت المحكمة لفائدة الطاعن كما تنص المادة 39، فلها ان تلغي الانتخاب المطعون فيه او تصحح النتائج الحسابية التي اعلنتها لجنة الاحصاء وتعلن عند الاقتضاء المرشح الفائز بصورة قانونية.

خاتمة:

ختاما ومن خلال تتبع مختلف مراحل الطعن الانتخابي، يتضح ان القضاء الدستوري لا يقتصر فقط على البت في صحة انتخاب اعضاء البرلمان، بل يشكل آلية فعالة لحماية الحقوق السياسية وضمان احترام ارادة الناخبين، فالولوج الى المحكمة الدستورية يمكن الاطراف من الانصاف، ويمنحهم فرصة للطعن في التجاوزات التي قد تمس بنزاهة العملية الانتخابية.

ورغم ان هذه المؤسسة تبدو صغيرة من حيث بنيتها وتركيبتها، الا انها تضطلع بوظائف دقيقة وصعبة، وتؤدي دورا محوريا في ترسيخ الديمقراطية، وتكريس مبدأ فصل السلط، وضمان التوازن بين المؤسسات، وهذا ما يبرز مكانتها كهيئة دستورية مستقلة، لها قيمة كبيرة في البناء المؤسساتي، وفي حماية المشروعية الانتخابية، وفي تعزيز الثقة في المسار الديمقراطي ككل.

***

سفيان بامحمد - باحث في العلوم السياسية والقانون العام.

أخطر تنظيمٍ إرهابيٍّ في القارة الإفريقية

توطئة: كل أمةٍ تخلق أساطيرها حول الخلاص، لكن حين تتحوّل تلك الأساطير إلى مؤسساتٍ أمنية، يبدأ زمن الرعب…

في السودان، حملت الجبهة الإسلامية القومية اسم الله على راياتها، وحملت السلاح باسم الشريعة، فابتلعت الدولة والناس والذاكرة.

لم تكن تجربتها مجرد انقلابٍ على السلطة، بل مشروعًا لاهوتيًا متكاملًا، صاغته عقولٌ اعتقدت أن الله يحتاج إلى حزبٍ يحكم باسمه. هكذا تحوّل الإيمان إلى سياسة، والسياسة إلى حربٍ مقدسة، والوطن إلى مختبرٍ لتجريب الخلاص بالعقيدة.

بين الدعوة والسيف، وبين المنبر والسجن، وُلد نظامٌ هو الأخطر في تاريخ السودان الحديث، لا لأنه استبداديٌّ فحسب، بل لأنه لبس وجه التقوى ليبني من تحته إمبراطورية الخوف… ومن هنا يبدأ تاريخ الجبهة الإسلامية القومية – التاريخ الأسود الذي لم يُحاكم بعد.

لم تكن الجبهة الإسلامية مجرّد حزبٍ يسعى إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، بل كانت منذ تأسيسها مشروعًا شموليًا لإعادة هندسة المجتمع والدولة والعقل العام معًا.

ومنذ انقلاب ٣٠/٦/١٩٨٩ الذي حمل عمر حسن أحمد البشير إلى الحكم بترتيبٍ دقيق صاغه حسن الترابي، وُلدت في الخرطوم دولةٌ بوجهين: وجهٌ رسميّ بوزاراتٍ ومجالس وبياناتٍ إذاعية، ووجهٌ خفيّ يمتد عبر جهاز الأمن والمخابرات، وهيئاتٍ حزبية ظلّية، وشبكات رجال أعمال ومصارف وواجهاتٍ خيرية ودعوية وطلابية، وأذرعٍ عسكريةٍ وشبه عسكريةٍ وآلةٍ إعلاميةٍ تتقن صناعة “الخطاب المقدّس” لتبرير العنف.

في هذا العالم السفلي، تناوبت أسماء مثل حسن الترابي، علي عثمان محمد طه، نافع علي نافع، صلاح عبدالله “قوش”، عوض الجاز، بكري حسن صالح، عبد الرحيم محمد حسين، أحمد هارون، والطيب إبراهيم “سيخة” على إدارة ما يمكن تسميته بـ”المركّب الإسلاموي – الأمني” الذي دمج الحزب بالدولة، والدين بالسلطة، والاقتصاد بالسلاح.

لم يكن الأمر مجرد تنظيمٍ سياسي، بل “نظامًا عقائديًا مؤسسيًا” يدير الولاء كعملةٍ سياسية، والخوف كأداة حكم، والإيمان كسلاحٍ نفسي طويل المدى.

في قلب هذا المركّب، تشكّلت العلاقة الأخطر: علاقة السودان بتنظيم القاعدة، حين انتقل أسامة بن لادن إلى الخرطوم بين عامي ١٩٩١ و١٩٩٦، وأسس شبكة شركاتٍ واجهة مثل “وادي العقيق” و”الهجرة للإنشاء” و”طابة”، وتعامل مع مؤسساتٍ مصرفيةٍ أبرزها بنك “الشمال الإسلامي”.

تحرّك بن لادن بحريةٍ نسبية في مشروعات المقاولات والزراعة والطرقات، وبنى اتصالاتٍ مع عناصر مصرية وجزائرية ويمنية. كان السودان آنذاك أشبه بـ”المنطقة الرمادية” التي تلتقي فيها الدعوة بالدم، والتجارة بالتمويل العقائدي.

تحت المظلة السياسية والأمنية للجبهة الإسلامية، ازدهرت شبكاتُ المال والسلاح والمعلومات. سمح النظام بوجود بيئةٍ آمنةٍ لتنظيمٍ كان ينقل رجاله ووثائقه عبر الخرطوم وجوبا وكوستي وبورتسودان، ويمرّ عبر كسلا والقضارف نحو الحدود الإريترية والإثيوبية، مستفيدًا من ضعف الرقابة على البحر الأحمر. لم يكن “إيواءً عابرًا” كما زعم الإسلاميون لاحقًا، بل تعاونًا لوجستيًا ورقابيًا مُمنهجًا… تغاضٍ قانونيّ مقصود هدفه توظيف الجهاد الدولي لخدمة مشروع الحكم المحلي.

في تلك السنوات، اختفى الفاصل بين “الدعوي” و”العنيف”. الدولة نفسها تحوّلت إلى ماكينة تعبئةٍ جهادية. صُنّعت أذرعٌ مسلحة تابعة للنظام ظاهرًا، لكنها في حقيقتها تنتمي للحركة الإسلامية عقيدةً وتنظيمًا: “الدفاع الشعبي”، “المجاهدين”، “الأمن الشعبي”، ثم لاحقًا “الجنجويد” الذين ظهروا في شمال دارفور بقيادة موسى هلال. كانت هذه الميليشيات أدواتٍ عقائدية تُدار بخطابٍ دينيّ صريح عن “الجهاد الداخلي”، لتسحق التمرّدات في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.

ومنذ عام ٢٠٠٣، تحوّلت دارفور إلى جرحٍ مفتوح في الجسد السوداني. مدن مثل الفاشر ونيالا والجنينة وزالنجي وكُتُم والطينة شهدت عمليات “الأرض المحروقة” و”التهجير القسري” و”الاغتصاب الجماعي” و”تجنيد الأطفال”. وثّقت هذه الجرائم لجان الخبراء الأممية وتقارير “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”.

بعض القادة وُضعوا تحت العقوبات الدولية، وآخرون – كعمر البشير، أحمد هارون، وعلي كوشيب – صدرت بحقهم مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

لكن الجبهة الإسلامية لم تكن تقتل فقط داخل حدودها. فقد مدّت خطوط تسليحٍ وعبور نحو قطاع غزة عبر ممراتٍ امتدت من شرق السودان إلى سيناء.

في عام ٢٠٠٩ استهدفت طائراتٌ مجهولة قوافل يُعتقد أنها كانت تنقل شحنات سلاح إلى حركاتٍ فلسطينية. وفي عام ٢٠١٢ ضُرب “مجمع اليرموك للصناعات العسكرية” في الخرطوم، الذي وصفته تقارير استخبارية بأنه مركز لتجميع أو تمرير القدرات العسكرية إلى “حماس”. هذه الشبكات اللوجستية مرّت عبر بورتسودان وحلايب وشلاتين، وتقاطعت مع معلوماتٍ عن وجود ضباط ارتباطٍ من الحرس الثوري الإيراني في فتراتٍ مختلفة، قبل أن تتبدّل التحالفات بعد انفتاح النظام على الخليج.

لم تكن تلك العلاقات المعقدة مع القاعدة وحماس معزولة؛ فقد ربطت الجبهة الإسلامية نفسها بجماعاتٍ موازية في القارة الإفريقية والآسيوية. “حركة الشباب” في الصومال، التي خرجت من عباءة اتحاد المحاكم الإسلامية وأعلنت مبايعتها للقاعدة، شكّلت اقتصادًا حربيًا على التهريب والضرائب ونفّذت تفجيرات في مقديشو ونيروبي وكمبالا. وفي نيجيريا، تحوّلت “بوكو حرام” من جماعةٍ دعوية إلى تنظيمٍ مسلح أعلن بعض أجنحته مبايعة “داعش” تحت اسم “ولاية غرب إفريقيا”، واستخدم الخطف والذبح والتفجير ضد المدارس والكنائس.

لم يكن السودان غرفة عملياتٍ لهذه الجماعات، لكنه كان نموذجًا مُلهمًا لما يمكن أن تفعله “الدولة المؤدلجة” حين تمسك بكل مفاتيح القوة: الحزب، الاقتصاد، الأمن، الإعلام، والفتوى. ومن هنا انتقلت عدوى النموذج إلى هوامش إفريقيا وآسيا، حيث الهشاشة المؤسسية ووفرة المظالم تُغذّي الخطاب الجهادي العابر للحدود.

في الداخل، استخدمت الحركة الإسلامية الجامعات والنقابات والمساجد كحقول تجنيدٍ وتأطير. شهدت جامعات الخرطوم والجزيرة وعطبرة وشندي موجات عنفٍ طلابيّ دموي، أدارتها “الوحدات الجهادية” و”الأمن الطلابي” و”كتائب الظل”، وأُديرت الشبكات عبر “الأسر التنظيمية” المغلقة. كان الطلاب يتلقّون “دروس التعبئة” التي تمزج بين العقيدة العسكرية والنصوص الفقهية… وكانت المساجد تتحول مساءً إلى غرف تعبئة فكرية ليلتحق الشباب بمعسكرات الدفاع الشعبي.

اقتصاديًا، تمدّد رجال الأعمال المحسوبون على النظام في قطاعات النفط والذهب والمقاولات والاتصالات واللحوم المبرّدة والنقل النهري والبري. شركات مثل “جياد”، “صافات”، “زادنا”، “اليرموك”، و”سيتي بنك المحلي” كانت واجهاتٍ بين الاقتصاد الرسمي وشبكات التمويل السياسي والشراء العسكري. دارت الأموال عبر مصارف “فيصل الإسلامي” و”الشمال الإسلامي” وشركات الصرافة والجمعيات الدعوية التي مارست غسيل الأموال تحت غطاء الزكاة والبرّ. إنه اقتصاد ظلٍّ متكامل، يحكمه الولاء ويُكافئ الطاعة.

أما الحقل الاستخباراتي فكان العمود الفقري للمركّب الإسلاميّ. صلاح قوش، نافع علي نافع، محمد عطا، وغيرهم، شكّلوا بنية أمنية تولّت الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري، كما أدارت “الحروب بالوكالة” في الأطراف. المفارقة أنّ هذا الجهاز تعاون لاحقًا مع وكالة الاستخبارات الأمريكية في ملفات “مكافحة الإرهاب” بعد عام ٢٠٠١، في الوقت الذي واصل فيه تغذية خطوط اتصالٍ مع جماعاتٍ مصنّفة إرهابية.

لقد أتقن الإسلاميون لعبة “الازدواجية”: خطابٌ براغماتي للخارج، وخطاب تعبويّ للداخل يشرعن القمع والقتل.

المدن السودانية كانت شاهدةً على هذا الازدواج… الخرطوم بأحيائها الراقية – الرياض، الطائف، المنشية، كافوري – احتضنت الاجتماعات الكبرى للقيادات.

أم درمان كانت معسكر التعبئة الأضخم قرب كرري وجبل أولياء. بورتسودان كانت الميناء الذي عبرت منه الأسلحة والذهب والبشر، وكسلا والقضارف كانتا بوابتي القرن الإفريقي. في دارفور، كانت الفاشر ونيالا مركزَي القيادة والتموين، والجنينة على الحدود الغربية شاهدًا على المذابح. وفي جبال النوبة والنيل الأزرق، كانت كادوقلي والدمازين والكرمك مسارح لحروبٍ “مقدّسة” ضد المواطنين الذين لم يشاركوا الولاء العقائدي ذاته.

إنّ الطابع الإرهابي للجبهة الإسلامية القومية لا يُختصر في السلاح الذي حملته، بل في “المنظور العقائدي” الذي أدار به قادتها علاقتهم بالعالم. فقد اعتبروا الدولة ملكًا لله، والحاكم نائبًا عنه، والمجتمع مادّةً قابلة لإعادة التشكيل.

هذه الفكرة البسيطة ظاهريًا كانت كافية لتحويل كل اختلافٍ سياسي إلى “ردّة”، وكل معارضة إلى “فتنة”، وكل حربٍ إلى “جهاد”. بهذا المنطق، صار القمع عبادةً، والفساد وسيلةً، والكذب مصلحةً شرعية.

من هنا يمكن فهم كيف تماهت أجهزة الدولة السودانية مع أنماط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. فـ”الجهاد” لم يكن شعارًا تعبويًا فحسب، بل “هندسة نفسية متكاملة”: تجريد الآخر من إنسانيته، وتصوير الحرب كاختبارٍ إيماني، وخلق سرديةٍ خلاصية حول “التمكين”.

هذه الأبوكاليبسية السياسية – أي الإيمان بأن العالم في معركةٍ نهائية بين الحق والباطل – منحتهم شرعيةً رمزية لتدمير كل ما يخالفهم، باسم الله أو الوطن أو الأمة.

على مستوى الأفعال، يمكن تتبّع الخيط الدموي للجبهة الإسلامية في عشرات الحوادث التي لا تسقط بالتقادم: محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا عام ١٩٩٥ التي شارك فيها ضباط من الأمن السوداني، والتفجيرات التي ضربت القاهرة في التسعينات وكانت على صلة بعناصر مصرية مرّت عبر السودان، وتفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام ١٩٩٨، وضربة قوافل بورتسودان عام ٢٠٠٩، وانفجار “مجمع اليرموك” عام ٢٠١٢ الذي لم يكن سوى رأس جبل الجليد لشبكة السلاح الممتدة بين الخرطوم وسيناء وغزة.

تُظهر هذه الوقائع، الموثقة في تقارير أمنية دولية ومحلية، أنّ السودان لم يكن مجرّد حاضنةٍ فكريةٍ للتطرف، بل شريكًا فعليًا في بنيته اللوجستية. ما فعله الترابي والبشير ورفاقهما هو أنهم أسّسوا لما يُعرف في دراسات الإرهاب بـ”الدولة الموازية”، أي نظامٌ رسميّ يُخفي داخله منظومةً ظلّية تُمارس الإرهاب عبر أدوات الدولة ذاتها. لم يكن الأمر كما في طالبان أو داعش، حيث التنظيم يسيطر على الأرض ثم يقيم الدولة، بل العكس: الدولة نفسها تحوّلت إلى تنظيم.

ومن المفارقات أن النظام الذي صنع هذا المركّب العنيف هو ذاته الذي قدّم خدماتٍ استخباراتية لواشنطن بعد ١١/٩/٢٠٠١، زاعمًا أنه حليفٌ في “الحرب على الإرهاب”. في ذلك الوقت، كان صلاح قوش يجلس في اجتماعاتٍ مغلقة مع وكالة المخابرات الأمريكية، بينما كانت أذرع النظام تموّل وتدرّب كتائب “الدفاع الشعبي” في أطراف دارفور. هذا التناقض لم يكن صدفة، بل سياسة مدروسة لإطالة عمر النظام عبر اللعب على تناقضات العالم: تقديم نفسه كحائط صدٍّ ضد الإرهاب الخارجي، في الوقت الذي يمارس فيه إرهابًا داخليًا مؤسسيًا.

في الاقتصاد، امتلكت الجبهة الإسلامية ما يمكن تسميته بـ”الاقتصاد العقائدي”، أي منظومة مالية تحوّل المال إلى أداة تعبئةٍ وحمايةٍ سياسية. هذا الدمج بين المال والدين والدولة شكّل ركيزة المشروع الإسلاميّ، وجعل الاقتصاد أداةً للهيمنة لا للتنمية.

أما في المجال الثقافي والإعلامي، فقد أدرك الإسلاميون باكرًا أن السيطرة على “اللغة” لا تقل أهمية عن السيطرة على “الجيش”. أنشأوا أذرعًا إعلامية ضخمة، صحفًا وقنواتٍ وإذاعاتٍ أعادت صياغة المفردات العامة. صارت كلمات مثل “التمكين”، “الجهاد”، “الشريعة”، “الولاء”، “الطاعة”، تُستعمل لتجميل العنف وتخدير الضمير الجمعي. وفي الجامعات والمدارس، جرى “أسلمة المناهج” وتحويل التاريخ والفكر إلى أدوات دعاية. بذلك، لم تعد المساجد فقط منابر تعبئة، بل صارت الفصول الدراسية أيضًا ساحات استقطاب.

التحليل النفسي للحركة يكشف عن جذورٍ أعمق: “الاستلاب الجمعي” الذي يجعل الفرد يذوب في الجماعة بحثًا عن معنى. هذا الذوبان ينتج شخصيةً لا تعرف الشكّ ولا النقد، تتغذّى على الخوف من الخارج وعلى الشعور بالاختيار الإلهي. حين تتحول العقيدة إلى درعٍ نفسي ضد القلق الوجودي، يصبح العنف ضرورةً لتثبيت الذات. ولهذا لم تكن فظائع دارفور أو جبال النوبة أو جنوب السودان مجرد تجاوزاتٍ عسكرية، بل أعراضًا مرضية لنظامٍ يرى في الدم برهانًا على الإيمان.

ولأن الإرهاب لا يعيش بلا مالٍ ولا غطاءٍ سياسي، فقد صنعت الجبهة الإسلامية شبكة علاقاتٍ تمتد من الخليج إلى تركيا إلى ماليزيا. رجال أعمالٍ سودانيون وإسلاميون عرب، مثل يوسف عبد الفتاح، عوض الجاز، وآخرين أقل شهرة، أسّسوا شركاتٍ واجهة في كوالالمبور والدوحة ودبي وأنقرة، استخدمت لغسل الأموال وتمويل العمليات. بعض هذه الشركات ارتبط بمصارف إسلامية مثل “فيصل”، و”السلام”، و”البركة”، وبعضها بواجهاتٍ خيرية مثل “منظمة الدعوة الإسلامية” و”الوكالة الإسلامية للإغاثة”، التي أُدرج بعضها على قوائم المراقبة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

تضافرت هذه الشبكات مع تحالفاتٍ استخباراتيةٍ غامضة. فإيران، التي كانت تمد الخرطوم بالسلاح والخبراء في التسعينات، وجدت في السودان حليفًا ضد الحصار الدولي. وقطر، التي استثمرت في مشاريع زراعية ومصرفية ضخمة، استخدمت بعض واجهاتها الإعلامية لتلميع صورة النظام. أما تركيا، فقد قدّمت نفسها لاحقًا كملاذٍ آمنٍ للإسلاميين بعد سقوط البشير، حين لجأ بعض قادتهم إلى إسطنبول، حيث تدير اليوم واجهاتٍ إعلاميةً ناطقة بالعربية تمجّد الماضي وتُبرّر الحاضر.

هذا كله يُكوّن مشهدًا لا يمكن تفسيره إلا بوصفه “منظومة إرهابية مُعولمة”، تمتلك رأسًا عقائديًا في الخرطوم، وأذرعًا مالية في الخليج، وأصابع إعلامية في إسطنبول، وأجنحةً قتالية في دارفور وشرق السودان. لذلك فإنّ تصنيف الجبهة الإسلامية القومية كمنظمة إرهابية ليس مجرد مطلبٍ سياسي، بل استحقاق قانوني وأخلاقي. فالعناصر المكوّنة للتصنيف – من استخدام العنف ضد المدنيين، وتوفير الدعم المادي واللوجستي للتنظيمات الإرهابية، وامتلاك هيكلٍ تنظيمي ومالي موازٍ، إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية – كلها متحققة بوضوح في سجلّهم.

ما يضاعف خطورتهم هو قدرتهم على “إعادة التوليد”. فبعد سقوط البشير عام ٢٠١٩، لم تختفِ الحركة بل أعادت تموضعها داخل أجهزة الدولة وفي خطوط الحرب الجديدة التي اندلعت عام ٢٠٢٣ بين الجيش والدعم السريع. ظهرت من جديد كتائب ذات طابع عقائدي تحمل أسماء مثل “البراء بن مالك” و”اليرموك”، وشبكات خيرية توزّع المعونات في مناطق سيطرة الجيش وتبث خطاب الولاء، في إعادة إنتاجٍ دقيقةٍ للآليات التي حافظت على سلطتهم ثلاثة عقود.

المدهش أن النظام الدولي، رغم وفرة الأدلة، ما زال يتعامل مع هذه الشبكة ككيانٍ سياسي يمكن التفاوض معه… لكنّ كل الوقائع تؤكد أن “الاستمرارية البنيوية” بين الإنقاذ القديمة وما تبقّى منها اليوم تُحتم إعادة النظر. فالتصنيف الإرهابي ليس شعارًا انتقاميًا، بل أداةٌ لتفكيك بنيةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ تعيد إنتاج العنف باسم الدين. من دون ذلك، سيبقى السودان رهينة دائرةٍ مغلقةٍ من العنف المؤدلج الذي يتبدّل وجهه دون أن يتغيّر جوهره.

ولعل السؤال الأعمق هنا ليس: “هل الجبهة الإسلامية إرهابية؟” بل: “كيف تحوّلت دولةٌ كاملة إلى ذراعٍ من أذرع الإرهاب؟” الإجابة تبدأ من لحظةٍ واحدةٍ في ٣٠/٦/١٩٨٩، حين أُطفئت أنوار الديمقراطية باسم الله، واستُبدلت مؤسسات الدولة بواجهات الولاء، وبدأت ماكينة العقيدة تلتهم الإنسان والمكان. منذ ذلك اليوم، لم يكن السودان يُحكم بجيشٍ أو حزب، بل بعقيدةٍ أمنيةٍ مطلقة ترى في الخوف وقودًا للسلطة، وفي الطاعة غايةً للوجود.

إنّ إدانة الجبهة الإسلامية لا تعني فقط محاكمة قادتها أمام المحاكم الدولية، بل تعني أيضًا تفكيك البنية الذهنية التي سمحت لمثل هذا المشروع أن يعيش عقودًا. فالقضية ليست في الأشخاص بل في “الفكر الذي قنّن الجريمة”، و”اللغة التي زيّنت القتل”، و”الاقتصاد الذي موّل الاستبداد”. ما لم يُفتح هذا الملف بجرأة، وما لم يُوضع اسم الجبهة الإسلامية القومية وشبكاتها على قوائم الإرهاب الدولي، سيظل السودان يدور في فلك المأساة ذاتها، من انقلابٍ إلى آخر، ومن دمٍ إلى دم.

واليوم، بعد كل هذا الفقد العظيم، لا يكفي أن نقول “كفى”، بل يجب أن نُسمّي الجناة بأسمائهم، ونُدرج تنظيمهم في قوائم الإرهاب، لا كعقوبةٍ بل كتحريرٍ للوعي من صورته المتحوّلة في الذاكرة الجمعية. إنه مطلبٌ إنساني لحماية المستقبل. فالأيديولوجيا التي جعلت من الله شريكًا في القمع، ومن الوطن مؤسسةً لإنتاج الطاعة على المقاس، لا تزال تعيد إنتاج نفسها في الخطاب وفي الميليشيا وفي السوق، كأنها لم تشبع بعد من خراب الروح والذاكرة.

لكنّ العدالة لا تنام إلى الأبد… وإن تأخّرت المحاكم، فثمة ضمائر تحفظ الأسماء كما تحفظ الأرض أسماء شهدائها. سيبقى هذا الملف مفتوحًا إلى أن تُذكر الأسماء كما تُذكر التواريخ، ويُكتب على جدار الوعي السوداني: “هنا سقطت دولةٌ باسم الله، وقام شعبٌ باسم الإنسان.”

***

إبراهيم برسي

المقدمة: يُعدّ الذكاء الاصطناعي من أحد أبرز ابتكارات الثورة الرقمية الحديثة، حيث وفر إمكانيات هائلة لتعزيز الإنتاجية، وتطوير العلوم والخدمات العامة، والمساهمة في حل العديد من التحديات التي تواجه البشرية. وقد أحدث تحولات جوهرية في مختلف المجالات، مما جعله ركيزة أساسية في تطور المجتمعات الحديثة.

الذكاء الاصطناعي هو فرع متقدم من علوم تقنية المعلومات، يهدف إلى تطوير أنظمة قادرة على محاكاة الذكاء البشري من خلال الحوسبة الفائقة والبرمجيات الذكية. يعتمد على خوارزميات متقدمة وتقنيات تعلم الآلة والتعلم العميق لتحليل البيانات، والتعرف على الأنماط، واتخاذ القرارات بشكل مستقل أو شبه مستقل وفقًا للمدخلات والمعطيات المدخلة إليه.

كما يقوم الذكاء الاصطناعي بمعالجة وإعادة تدوير البيانات الضخمة التي ينتجها المستخدمون والمستخدمات، مما يمنحه قدرة متزايدة على التكيف والتطوير الذاتي. تُستخدم هذه التكنولوجيا اليوم في مجموعة واسعة من القطاعات، مثل الطب والرعاية الصحية، حيث تساهم في تشخيص الأمراض وتحليل البيانات الطبية، والتعليم من خلال تطوير أنظمة تعليمية تفاعلية، والصناعة، والاقتصاد، والإعلام، والنقل، والخدمات اللوجستية، فضلاً عن استخدامها في المجالات الأمنية والعسكرية، بما في ذلك الرقابة والسيطرة الفكرية والسياسية وتطوير الأسلحة.

عند الحديث عن أنواع الذكاء الاصطناعي، يمكن التمييز بين عدة مستويات من التطور، وذلك حسب طبيعة المقارنة. النوع الأكثر شيوعًا اليوم، مقارنة بالذكاء البشري، هو الذكاء الاصطناعي الضيق، والذي يُستخدم لأداء مهام محددة مثل الترجمة الفورية، التعرف على الصور، أو تشغيل المساعدات الصوتية، او التدقيق اللغوي وتوليد النصوص وغيرها. هذا النوع يعتمد على بيانات محددة ويعمل ضمن نطاق معين دون القدرة على تجاوزه.

أما الذكاء الاصطناعي العام، فهو مفهوم أكثر تطورًا ويهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على التفكير وحل المشكلات في مجالات متعددة بنفس الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري. أما الذكاء الاصطناعي الفائق، فهو مستوى نظري مستقبلي يُتوقع أن يتجاوز قدرات الإنسان في التحليل والإبداع واتخاذ القرار، لكنه حتى الآن لا يزال ضمن نطاق الخيال العلمي والدراسات الافتراضية، أو لم يُعلن عنه بعد، وذلك كما هو الحال مع العديد من التطورات التكنولوجية التي عادةً ما تطور وتُستخدم سرًا في الأغراض العسكرية والأمنية قبل أن تصبح متاحة للجمهور. فالتاريخ يشهد أن الإنترنت والعديد من التقنيات المتقدمة الأخرى لم تُكشف للعامة إلا بعد سنوات من استخدامها في الأوساط العسكرية والاستخباراتية والصناعية المغلقة.

هذه التقنية لا تعمل في فراغ، وانما تتأثر بتوجهات الشركات والحكومات التي تطورها، مما يثير تساؤلات جوهرية حول طبيعتها الحقيقية والجهات المستفيدة منها. واستنادًا إلى ذلك، فإن هذه التكنولوجيا لا تتطور بشكل محايد، وتعكس البنية الطبقية للنظام الذي أنتجها. فالذكاء الاصطناعي، كما هو مطور اليوم، ليس كيانًا مستقلاً أو محايدًا، وانما يخضع بشكل مباشر لهيمنة القوى الرأسمالية، التي توجهه بما يخدم مصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية.

وكما أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز في البيان الشيوعي:

"لم تترك البرجوازية أي رابطة بين الإنسان وأخيه الإنسان إلا رابطة المصلحة العارية، والتعامل النقدي القاسي... لقد جعلت الكرامة الشخصية قيمة تبادلية، وحوّلت كل شيء، بما في ذلك المعرفة، إلى مجرد أداة للربح."

وهذا ينطبق تمامًا على الذكاء الاصطناعي، فعلى الرغم من دوره وأهميته الكبيرة، فقد تم تسليعه الآن ليكون أداة لتعظيم الأرباح وتقوية السيطرة الطبقية. إن التطوير الحالي للذكاء الاصطناعي لا يمكن فهمه باعتباره مجرد تقدم تقني، بل هو جزء من منظومة السيطرة الطبقية التي تسعى من خلالها الشركات الكبرى والدول الرأسمالية إلى تعزيز الأرباح، وتركيز الثروة، وإعادة إنتاج علاقات الإنتاج القائمة.

فالخوارزميات التي تدير هذه الأنظمة موجهة أيديولوجيًا لخدمة مصمميها، حيث تُسخَّر لتعظيم الإنتاجية، وتعزيز تفوق الشركات الاحتكارية، وترسيخ القيم الرأسمالية. وهكذا، تتحول هذه التقنيات إلى أدوات جديدة لاستغلال القوى العاملة وإدامة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، بدلًا من أن تكون وسيلة لتحرير الإنسان من شروط الاستغلال.

لقد بات الذكاء الاصطناعي سلاحًا مركزيًا في يد رأس المال، حيث يُستخدم لتقليص الحاجة إلى العمالة البشرية، مما يؤدي إلى تفاقم البطالة أو دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، وتعميق الفجوة الاقتصادية والاجتماعية. كما أن احتكار هذه التقنيات يمنح الشركات الكبرى قدرة غير مسبوقة على التحكم في الأسواق، وإعادة تشكيل الرأي والوعي العام، وفرض رقابة رقمية شاملة على الأفراد والمجتمعات، مما يكرّس نظامًا تصبح فيه الجماهير إلى حدّ كبير، إما مستغلة كبيانات ويد عاملة رخيصة، أو مُهمشة بفعل الأتمتة.

وإذا استمرت هيمنة النظام الرأسمالي على الذكاء الاصطناعي، فإن النتيجة من الممكن أن تكون مجتمعًا شديد الاستقطاب والتفاوت، حيث تملك الطغم التكنولوجية الرأسمالية القوة الشبه المطلقة، بينما يُدفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر نحو مزيد من التهميش والإقصاء.

الرؤية الرأسمالية للذكاء الاصطناعي

1. أداة لتعظيم الأرباح واستغلال البيانات والمعرفة في ظل الرأسمالية

تعظيم الأرباح على حساب العدالة الاجتماعية والحقوق الإنسانية.

في ظل النظام الرأسمالي الحالي، يُوجَّه استخدام التكنولوجيا، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، نحو تعظيم الأرباح، حيث تُستخدم هذه التقنيات كأداة رئيسية لزيادة الكفاءة الإنتاجية وتقليل التكاليف. لكن ذلك يكون غالبًا على حساب شغيلات وشغيلة اليد والفكر، إذ يُستبدلون بالخوارزميات والأنظمة المؤتمتة، مما يؤدي إلى تسريح أعداد كبيرة منهم وارتفاع معدلات البطالة، أو دفعهم إلى الانتقال إلى قطاعات أخرى في ظروف غير مستقرة

تشير التقديرات الأحدث إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى فقدان واسع للوظائف في السنوات القادمة، خصوصًا في القطاعات التي تعتمد على المهام الروتينية والقابلة للأتمتة. فعلى سبيل المثال، في عام 2023، أعلنت شركة "آي بي إم"، إحدى أكبر شركات التكنولوجيا في العالم، أنها ستوقف التوظيف في نحو 30% من الوظائف الإدارية (مثل الموارد البشرية)، تمهيدًا لاستبدالها بتطبيقات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الخمس المقبلة. هذا يعني أن آلاف الوظائف سيتم إلغاؤها نهائيًا، لأن الشركة ترى أن المهام الروتينية التي كانت تُنفّذ بواسطة البشر يمكن أن تُدار آليًا بشكل أكثر كفاءة وربحية.

وفي بداية عام 2024، قامت شركة "دروبوكس"، المختصة بخدمات التخزين السحابي، بتسريح نحو 16% من موظفيها، معلنةً أن القرار يأتي ضمن خطة "إعادة هيكلة" تهدف إلى التركيز على الذكاء الاصطناعي كمجال استثماري رئيسي. أوضحت الإدارة أن عددًا من المهام التي كانت تُنفّذ من قبل البشر أصبحت الآن قابلة للأتمتة، ما يجعل الإبقاء على العاملين فيها "غير ضروري".

هاتان الحالتان تعكسان بوضوح تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، وزيادة مخاطر البطالة بين شغيلات وشغيلة اليد والفكر، في ظل ضعف أو غياب سياسات حمائية تضمن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، وذلك حسب موازين القوى الطبقية في كل بلد، ودرجة تطوّر حقوق شغيلات وشغيلة اليد والفكر، ودور وقوة النقابات واليسار.

في المقابل، تُوجَّه مكاسب الإنتاجية الناتجة عن الأتمتة نحو زيادة أرباح الشركات الكبرى بدلًا من تحسين الأجور أو تقليل ساعات العمل. أما من يحتفظون بوظائفهم، فيجدون أنفسهم مضطرين للعمل في بيئات غير مستقرة، حيث تفرض معظم الشركات سياسات قاسية لزيادة الإنتاجية، مستغلة التكنولوجيا لفرض ضغوط إضافية على القوى العاملة. هذا التركيز على الربح يؤدي إلى تفاقم التفاوتات الطبقية والاقتصادية، حيث تُترك الغالبية العظمى من المجتمع لتحمل عبء التغيرات التي أحدثتها هذه التكنولوجيا، بينما تستأثر الطغم الرأسمالية بالفوائد والأرباح.

استغلال البيانات في ظل الرأسمالية الرقمية

إلى جانب استغلال شغيلات وشغيلة اليد والفكر في أماكن العمل التقليدية، وسّعت الرأسمالية الرقمية، من خلال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، نطاق الاستغلال ليشمل البيانات الشخصية، وسلوك الأفراد، وتفضيلاتهم، حيث تحوّلت هذه البيانات إلى سلعة تراكم الطغم الرأسمالية من خلالها الأرباح، دون أي تعويض مباشر للمستخدمات والمستخدمين الذين يُنتجونها. تُستخدم هذه البيانات في صياغة سياسات وبرامج سياسية واقتصادية، وتوجيه الاستهلاك، بما يضمن إعادة إنتاج الهيمنة الرأسمالية.

على سبيل المثال، كشفت فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" عام 2018 عن كيفية استغلال وبيع بيانات عشرات الملايين من مستخدمي ومستخدمات فيسبوك دون علمهم، بهدف التأثير على الانتخابات الأمريكية من خلال استهدافهم بإعلانات سياسية مصمّمة بناءً على تحليل ملفاتهم السلوكية.

كما تحقّق شركات مثل جوجل، وأمازون وغيرها عشرات المليارات سنويًا من الإعلانات المستهدفة، المعتمِدة على تحليل البيانات التي تُنتَج مجانًا عبر تفاعلات المستخدمين والمستخدمات. ففي عام 2021، بلغت إيرادات فيسبوك من الإعلانات الرقمية وحدها 117 مليار دولار، تم تحصيلها دون أي إشراك فعلي للمستخدمين والمستخدمات في تلك الأرباح.

يمثّل هذا النمط من الاستغلال شكلًا غير مباشر من العمل المجاني، حيث يُنتج الأفراد، دون وعي، قيمة اقتصادية هائلة تستولي عليها الشركات الاحتكارية، التي لا تكتفي باستغلال البيانات، وانما تهيمن على البنية التحتية الرقمية نفسها، فيما يشبه شكلًا جديدًا من الإقطاع الرقمي. وكما احتكر الإقطاعيون الأراضي في العصور الوسطى، تحتكر الشركات التكنولوجية الكبرى اليوم المنظومات الرقمية، فارضةً شروطها على المستخدمات والمستخدمين، ومانعةً أي سيطرة فعلية لهم على أدوات الإنتاج الرقمي.

في الاقتصاد الصناعي، كان الاستغلال يتم عبر دفع أجور لا تعكس القيمة الحقيقية للعمل. أما في الاقتصاد الرقمي، فبات السلوك البشري وبياناته ذاتها مصدرًا للقيمة. كل نقرة، وكل بحث، وكل تفاعل، تتحول إلى مادة خام تُكدّسها الرأسمالية الرقمية دون أي اعتراف قانوني أو تعاقدي. لم يعد الاستغلال الرقمي مقتصرًا على شغيلات وشغيلة اليد والفكر ذوي الأجور المنخفضة، وانما بات يشمل المستخدمات والمستخدمين أنفسهم، الذين يتحوّلون إلى شغيلات وشغيلة رقميين غير مرئيين.

تُخفي الرأسمالية الرقمية هذا الاستغلال خلف خطاب "المجانية"، الذي يوهم المستخدمين والمستخدمات بأنهم يحصلون على خدمات مفيدة دون مقابل، بينما يتم في الواقع استخراج بياناتهم وتوظيفها لتحقيق أرباح ضخمة.

تطبيقات مثل "تيك توك" و"إنستغرام" تُحفّز على قضاء المزيد من الوقت في التفاعل مع المحتوى، بينما تجمع وتبيع بياناتهم للمعلنين دون أي مردود لصالح المستخدم-ة. وينطبق الأمر كذلك على برامج "الحماية المجانية" مثل "AVG"، التي تجمع معلومات حساسة تحت ستار "تحسين الخدمة ومكافحة الفيروسات"، لتبيعها لاحقًا لشركات التسويق والإعلانات.

تحليل البيانات لا يُستخدم فقط في الإعلانات، وانما في تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي وتطوير تطبيقات جديدة تُعزّز هيمنة الشركات الكبرى على المعرفة، وكذلك في الاقتصاد، والعلاقات الاجتماعية، دون أن يملك الأفراد أي قدرة على التحكم في بياناتهم أو المطالبة بجزء من القيمة والارباح التي يُنتجونها.

والأخطر من ذلك، أن هذا النموذج يمحو الفاصل بين وقت العمل ووقت الفراغ، حيث تتحوّل كل لحظة يقضيها الفرد في الفضاء الرقمي إلى إنتاج مستمر للبيانات، حتى في لحظات الترفيه، والتفاعل الاجتماعي، والممارساتالثقافية والاجتماعية. وهكذا، أصبح الإنترنت ذاته مصنعًا رقميًا يعمل على مدار 24 ساعة، ولكن تحت منطق الرأسمالية والإقطاع الرقمي، حيث لم تعد الشركات الرقمية تقدّم مجرد خدمات، بل تتحكّم في القواعد التي تنظّم الفضاء الرقمي نفسه، فارضةً على الأفراد العمل داخل منظومتها الاحتكارية، دون أي سيطرة على أدوات الإنتاج الرقمي أو حتى وعي باستغلالهم.

فائض القيمة الرقمي وفائض القيمة التقليدي

فائض القيمة هو جوهر الاستغلال الرأسمالي، أي الفارق بين ما يُنتجه العامل-ة من قيمة، وبين ما يحصل عليه من أجر. لكنه ليس مفهومًا ثابتًا، بل يتغيّر شكله وفقًا لنمط الإنتاج القائم. ويمكن التمييز اليوم بين نوعين رئيسيين: فائض القيمة التقليدي وفائض القيمة الرقمي، يختلفان في أسس العلاقة الإنتاجية والاستغلال.

أولًا: فائض القيمة التقليدي

في النمط الصناعي التقليدي، يتم انتزاع فائض القيمة من جهد شغيلات وشغيلة اليد والفكر في مواقع الإنتاج مثل المصانع، المزارع، المكاتب، وسلاسل الخدمات. يعمل هؤلاء وفق عقد عمل مباشر، ويتلقّون أجرًا يقل كثيرًا عن القيمة الفعلية التي يُنتجونها. رأس المال يمتلك وسائل الإنتاج، ويُوظّف قوة العمل لتحقيق الربح من خلال السيطرة على وقت العمل.

مثلًا، في مصانع إنتاج الأجهزة الذكية التابعة لشركات عالمية كبرى مثل آبل وسامسونج، يعمل مئات الآلاف من الشغيلات والشغيلة في دول جنوب شرق آسيا لساعات طويلة، مقابل أجور منخفضة لا تكاد تغطي نفقات المعيشة الأساسية، بينما تحقق هذه الشركات أرباحًا ضخمة. في عام 2023، بلغت أرباح آبل أكثر من 100 مليار دولار، معظمها ناتج عن بيع منتجات تُنتَج بجهد مكثّف وظروف عمل استغلالية.

ثانيًا: فائض القيمة الرقمي

أما في النموذج الرقمي، فإن فائض القيمة يُنتزع بأساليب أكثر خفاءً وتعقيدًا. لا يعتمد هذا النمط فقط على العمل المأجور، بل على الأنشطة اليومية للمستخدمات والمستخدمين داخل الفضاء الرقمي. كل نقرة، بحث، إعجاب، مشاركة، أمر صوتي، أو استخدام لتطبيق، وغيرها تُنتج بيانات تُستخدم لتوليد أرباح هائلة من الإعلانات، تدريب الخوارزميات، تطوير المنتجات، وتحليل السلوك، فضلًا عن الاستفادة منها في المجالات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الفكرية، وحتى العسكرية والأمنية.

هنا لا يوجد عقد عمل، ولا أجر، ولا حتى اعتراف بالدور الإنتاجي. فالرأسمالية الرقمية لا تشتري وقت العمل، وانما تستخرج القيمة من الحياة اليومية ذاتها، وتُخفي هذا الاستغلال خلف واجهة "الخدمة المجانية". وحتى حين تُقدَّم بعض الخدمات مجانًا أو بأسعار رمزية، فهي غالبًا محدودة الإمكانات، وتُوظَّف أساسًا كأدوات لجمع المزيد من البيانات والمدخلات عن المستخدمات والمستخدمين، بهدف تعظيم الأرباح وتعزيز السيطرة.

من الأمثلة الواقعية على هذا النمط من استخراج فائض القيمة الرقمي، يمكن الإشارة إلى المنصات الاجتماعية، حيث يُنتج المستخدمات والمستخدمون محتوى مجانيًا يجذب تفاعلات ضخمة، تُباع لاحقًا للمعلنين، وتدرّ أرباحًا هائلة للمنصات، بينما يحصل معظم صنّاعات وصنّاع المحتوى على حصة ضئيلة جدًا، إن وُجدت أصلًا. وينطبق الأمر كذلك على خدمات مثل خرائط جوجل - مابس، التي تعتمد على البيانات الناتجة عن تنقّل المستخدمات والمستخدمين واستخدامهم للتطبيق، بهدف تحسين الخدمة وبيعها لاحقًا للعملاء التجاريين، دون أي تعويض لمن وفّروا هذه البيانات. أما المساعدات الصوتية، مثل أمازون أليكسا وأبل سيري، فتقوم بتسجيل وتحليل الأوامر الصوتية لتحسين أنظمة الذكاء الاصطناعي، أو بيعها لشركات الإعلان والتسويق، دون أن يكون لدى المستخدمات والمستخدمين أدنى وعي بأنهم يشاركون بشكل مباشر في إنتاج فائض القيمة الرقمي.

ثالثًا: مقارنة تحليلية بين النموذجين2075 razgar

رابعًا: الخلاصة

لا تُلغي الرأسمالية الرقمية فائض القيمة التقليدي، بل تضيف إليه نمطًا جديدًا أكثر خفاءً، حيث يُنتزع الفائض من مجرد التفاعل الرقمي اليومي للمستخدمات والمستخدمين، لا من عمل مادي أو فكري معترف به. يتحوّل الزمن الحي وفضاء الفراغ إلى عمل غير مرئي، تُستخرج منه القيمة دون أجر أو عقد أو سيطرة على أدوات الإنتاج الرقمية. وهكذا، يشمل إنتاج فائض القيمة الرقمي الجميع، لا فئة محددة من شغيلات وشغيلة اليد والفكر، بل حتى " المستخدمات والمستخدمين العاديين" الذين يساهمون بلا وعي في تغذية منظومة إنتاجية ضخمة تُراكم الأرباح لصالح الشركات الاحتكارية. بهذا، تصبح الحياة اليومية والسلوك البشري ذاتهما، لا العمل المأجور فقط، مصدرًا رئيسيًا لتراكم رأس المال في أكثر أشكال الاستغلال تطورًا.

اقتصاد المعرفة

في ظل النظام الرأسمالي، لم يعد الإنتاج الصناعي، الزراعي، والتجاري وحده مصدر القيمة الاقتصادية، وتوسعت بحيث أصبحت المعرفة وقودًا جديدًا للرأسمالية. فاقتصاد المعرفة، الذي يُفترض أن يكون أداة لتحرير البشرية وتطوير حياتها، أُعيدت صياغته ليصبح وسيلة احتكارية جديدة، تُستخدم لتعميق التفاوت الطبقي والرقمي، وتعزيز سيطرة الشركات والدول الكبرى على أدوات الإنتاج الرقمي، حيث تتحكم القلّة المالكة للتكنولوجيا في مصير الأغلبية.

تحتكر الطغم الرأسمالية معظم أدوات المعرفة، بدءًا من براءات الاختراع، الأبحاث المتقدمة، الخوارزميات، البرامج، أنظمة التشغيل، والمنصات الرقمية الكبرى، مما يفرض على المجتمعات اعتمادًا شبه كامل على منتجاتها الرقمية، بدلًا من تحويل هذه التقنيات إلى موارد جماعية بملكية مجتمعية تخدم الجميع. وحتى المؤسسات الأكاديمية والعلمية، التي يُفترض أن تكون منابر لإنتاج المعرفة الحرة، أصبحت خاضعة لمنطق السوق، حيث يُباع البحث العلمي للمؤسسات الكبرى، ويُحرَم الجمهور العام من الوصول إليه إلا بمقابل مالي، مما يعزّز تحويل العلم والمعرفة إلى سلعة بدلًا من كونه حقًا إنسانيًا مشتركًا.

الرأسمالية لا تسعى فقط إلى احتكار المعرفة، وانما تعمل على إنتاج الجهل الممنهج من خلال السيطرة على المناهج التعليمية والمحتوى الرقمي، وتوجيه الجماهير نحو التسطيح الفكري. فالإنترنت، الذي كان من الممكن أن يكون أداة ثورية لنشر الوعي النقدي، أصبح فضاءً مملوكًا بشكل شبه كامل للدول الكبرى وللشركات الاحتكارية، التي تتحكم في تدفّق المعلومات والمعرفة بمختلف أشكالها، وفقًا لمصالحها الاقتصادية، السياسية، والفكرية.

2. الذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة والسيطرة على العمل

لا يكتفي النظام الرأسمالي باستخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز الإنتاجية والأرباح، وانما يسخّره أيضًا كأداة لترسيخ السيطرة الطبقية، وإخضاع شغيلات وشغيلة اليد والفكر لآليات أكثر صرامة من المراقبة والتحكم. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في بيئات العمل لا يهدف فقط إلى تحسين الأداء، بل يُستخدم لتكثيف استغلالهم، ومراكمة الأرباح على حساب حريتهم وحقوقهم.

حيث مع تطور الخوارزميات الذكية، بات بإمكان الشركات تتبع كل حركة يقوم بها شغيلات وشغيلة اليد والفكر، سواء عبر أنظمة تتبع الإنتاجية، أو تحليل البيانات، أو قياس سرعة وكفاءة الأداء. تُستخدم هذه الأدوات في معظم الأحيان للضغط عليهن وعليهم، وتقليص فترات الراحة، وفرض وتيرة عمل مرهقة تحوّلهم إلى تروس في آلة رأسمالية لا تهدأ. هذا النمط الجديد من الرقابة من الممكن أن يخلق بيئة عمل أكثر قسوة، حيث يُصبحون مجرد متغيرات في معادلة الذكاء الاصطناعي، ولا يستطيعون التحكم بشكل كبير في ظروف عملهم.

بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم الخوارزميات في عمليات التوظيف والفصل، حيث يتم تحليل البيانات الضخمة لتحديد من يستحق التوظيف أو الاستمرار، ومن يمكن الاستغناء عنه. ويؤدي هذا إلى ديناميكية عمل غير مستقرة، يتم فيها تهميش عدد كبير من شغيلات وشغيلة اليد والفكر، واستبدالهم بسهولة وفق معايير كمية صارمة، دون اعتبار للجوانب الإنسانية أو الاجتماعية. فعلى سبيل المثال، تُوظَّف برمجيات الذكاء الاصطناعي في شركات التوظيف الكبرى، مثل لينكدإن، لتحليل السير الذاتية وفرز المتقدمين بشكل آلي، مما يؤدي إلى تمييز غير مباشر ضد شغيلات وشغيلة الخلفيات الأقل امتيازًا. إذ تُفضل الخوارزميات المرشحين الذين يتماهون مع أنماط سوق العمل الرأسمالي، بينما يتم تجاهل من يمتلكون مهارات غير نمطية أو خبرات خارج القوالب السائدة.

هذا التحول يؤدي إلى ارتفاع معدلات البطالة وانعدام الأمان الوظيفي من خلال دفع شغيلات وشغيلة اليد والفكر إلى قطاعات أخرى، ويُسهم كذلك أيضًا في تكريس نموذج "العمل القابل للاستبدال"، حيث يتم الاستغناء عنهم بسهولة بمجرد اعتبارهم أقل كفاءة من البدائل الرقمية أو الآلية، مما يزيد من هشاشة سوق العمل ويعمّق الاستغلال.

على سبيل المثال، في مستودعات شركة أمازون، يتم استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لمراقبة تحركات شغيلات وشغيلة اليد والفكر، وقياس سرعة أدائهم، وتحديد من يُحقق الأهداف الإنتاجية ومن يتأخر، مما يؤدي إلى طرد العديد منهم وفق معايير غير إنسانية، لا تأخذ بعين الاعتبار ظروفهم الصحية أو الاجتماعية. وينطبق ذلك أيضًا على شركات المنصات مثل أوبر وديليفرو وأوبر إيتس، حيث تُدار حياة السائقين والسائقات بالكامل عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي، التي تُحدد الطلبات، وساعات العمل، والأولوية في الظهور على التطبيق، و وتُقرر من يُسمح له بالعمل ومن يُجمد حسابه أو يُقلّص دخله بناءً على تقييمات الزبائن، أو عدد الرحلات، أو التأخير، دون تدخل بشري أو مراعاة للظروف الانسانية.

في هذا النموذج، تتحول الخوارزميات والذكاء الاصطناعي إلى مدير فعلي وقاضٍ وجلاد في آنٍ واحد، بينما يُترك العاملون والعاملات دون حماية قانونية، أو حقوق نقابية، في سوق عمل رقمي شديد الهشاشة والاستغلال. وقد أدّى هذا إلى اندلاع إضرابات واحتجاجات في عدد من الدول ، مطالبةً بالاعتراف بعمال المنصات كـ"موظفين" لا "مقاولين مستقلين"، وضمان حقوقهم الأساسية مثل الحد الأدنى للأجور، التأمين الصحي، وحق التنظيم النقابي.

3. توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية

إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، تُوظَّف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وعي الأفراد وتوجيهه تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة والأفكار الرأسمالية، وخصوصًا تمجيد الحضارة الغربية، وبشكل أكثر تحديدًا القيم الرأسمالية الأمريكية. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين والمستخدمات، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وغيرها، ويتم تصميمها بحيث تُغذّي الأفراد بمحتوى يتماشى مع القيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها وافكارها.

على سبيل المثال، وفي معظم المنصات الرقمية، تُعرض الإعلانات والمحتويات الترويجية التي تُشجّع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة، والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة، والاستهلاك، وأنماط الحياة الفاخرة كمعيار للحياة "الناجحة". مثال آخر على ذلك هو خوارزميات محرك البحث "غوغل"، التي تُصنّف النتائج وفقًا لمنطق السوق والإعلانات المدفوعة، لا وفقًا للأهمية الاجتماعية أو الفكرية أو العلمية للمحتوى. فعند البحث عن مفاهيم مثل "النجاح"، "التنمية الذاتية"، أو حتى "السعادة"، تظهر النتائج الأولى مرتبطة بشركات تطوير الذات، ودورات مدفوعة، ونصائح استهلاكية تقوم على الفردانية والربح، في مقابل تغييب أو تهميش التحليلات العلمية الرصينة والأفكار اليسارية والتقدمية، وحتى عدم اظهارها ويعني حضرها بأشكال مباشرة أو غير مباشرة في العديد من الحالات.

يؤدي هذا إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية. ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى زمني طويل، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها أدوات محايدة. إن هذه السياسة تُشكل خطرًا بالغًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية، وتُسهم هذه الأساليب والسياسات الدقيقة في تكريس الهيمنة الرأسمالية أكثر فأكثر، وتعزيز ولاء الجماهير وخنوعها للنظام القائم.

4. تأثير الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي

تفكيك المهارات البشرية وتعميق الاغتراب والاستلاب الرقمي

إلى جانب الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الوعي الجماهيري، هناك بُعد آخر لم يُدرس ويؤطر في قوانين دولية، في ظل السباق المحموم بين الدول الكبرى والشركات الرأسمالية الاحتكارية للسيطرة على أسواق الذكاء الاصطناعي، وهو التأثير السلبي للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في قدرات الإنسان العقلية والإبداعية. أصبح تطوير التكنولوجيا موجهًا إلى حد كبير نحو الهيمنة وتحقيق الأرباح والتنافس على التفوق التقني، دون النظر إلى التأثيرات العميقة لهذه التحولات على البشرية.

يُروَّج للذكاء الاصطناعي على أنه وسيلة لتسهيل الحياة وزيادة الإنتاجية، لكن الواقع يكشف أن الاعتماد غير المدروس على هذه التقنيات قد يؤدي إلى تعميق الوعي السطحي وإضعاف المهارات البشرية الأساسية. ومع مرور الوقت، قد يصبح الإنسان، وخاصة الأجيال الجديدة، أقل قدرة على التفكير النقدي، وإجراء العمليات الحسابية، والكتابة، وحتى التواصل البسيط عبر الرسائل، نتيجة الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية التي تنفذ هذه المهام نيابة عنه.

في هذا السياق، يعاد إنتاج الاغتراب الانساني في شكل رقمي جديد، حيث ينفصل الإنسان عن ملكاته العقلية والإبداعية، ويجد نفسه محاصرًا ضمن منظومة تقنية تسلبه قدرته على الفعل المستقل، تمامًا كما كان العامل الصناعي مغتربًا عن منتوجه في ظل الرأسمالية التقليدية. ومن الممكن أن يتحوَّل الإنسان تدريجيًا إلى كائن خاضع للخوارزميات التي تُوجِّه تفاعلاته اليومية، وتحدد له ما يقرأ، وما يشاهد، وحتى كيف يفكر. ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى خلق أجيال تفتقر إلى القدرة على التفاعل مع الواقع بشكل مستقل، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي وسيطًا أساسيًا بين الفرد والعالم والمحيط الخارجي، مما يعزز تبعيته لأنظمة وشركات ودول يسيطر عليها رأس المال.

إن هذا الاغتراب الرقمي لا يقتصر فقط على الجانب الإنتاجي، وانما يمتد إلى مستوى أكثر خطورة، وهو اغتراب الإنسان عن ذاته، عن وعيه، وعن علاقاته الاجتماعية، حيث تتحول هويته الفكرية والثقافية إلى مجرد انعكاس للخوارزميات المصممة لخدمة السوق.

الخطورة هنا لا تقتصر على فقدان المهارات الفردية، بل تمتد إلى إعادة تشكيل الوعي الجماعي بطرق تتماشى مع متطلبات السوق الرأسمالية. إذ تُضعف قدرة الأفراد على التنظيم، والمقاومة، والمطالبة بالتغيير الجذري، من خلال دفعهم تدريجيًا إلى عزلة رقمية فردية، تُختزل فيها التفاعلات الإنسانية ضمن منصات تتحكم في تدفّق المعلومات وتُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية بما يخدم منطق الهيمنة.

الإدمان الرقمي

في هذا الإطار، يبرز الإدمان الرقمي كأحد أخطر الآثار المترتبة على توسع الذكاء الاصطناعي، إذ تشير دراسة علمية أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا عام 2020 إلى أن الاستخدام المفرط للمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يُحدث تغييرات في الدماغ تشبه تلك التي يسببها إدمان المخدرات، وتحديدًا في المناطق المسؤولة عن اتخاذ القرارات والسيطرة على السلوك، حيث تُصمَّم هذه الخوارزميات خصيصًا لجذب انتباه المستخدمات والمستخدمين وإبقائهم متصلين لأطول فترة ممكن.

وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الترفيه، والأنظمة الرقمية الأخرى ليست مجرد منصات للخدمات، وانما هي أدوات تُستخدم بشكل واعٍ لتعزيز التبعية السلوكية والفكرية، حيث يتم استغلال البيانات الضخمة لفهم دوافع الأفراد والتلاعب بها بطرق تخدم المصالح الاقتصادية للشركات والدول الكبرى. إن هذا الإدمان الرقمي لا يقتصر فقط على تضييع الوقت أو التأثير على الإنتاجية، بل يمتد إلى خلق نمط جديد من الاستلاب نتيجة الادمان، حيث يفقد الأفراد تدريجيًا قدرتهم على العيش خارج الإطار الرقمي. قد يؤدي ذلك إلى ضعف التركيز، وتراجع مهارات حل المشكلات، وإضعاف الذاكرة والتواصل البشري المباشر.

تستغل الرأسمالية هذا الإدمان بطرق متعددة، حيث تستثمر في تطوير تقنيات تُحفِّز السلوك الإدماني لضمان استمرار المستخدمين والمستخدمات في التفاعل المستمر مع المنصات الرقمية وبأشكال مختلفة، وتتحول هذه العملية إلى حلقة مفرغة، حيث يتم توليد الأرباح من خلال الإبقاء على الأفراد في حالة دائمة من الاستهلاك السلبي، مما يعزز أرباحها على حساب الصحة العقلية والنفسية، وخاصة لدى الأجيال الشابة، وقد يؤدي ذلك إلى تآكل قدرتهم تدريجيًا على التفكير المستقل والعمل الجماعي.

نوع من العبودية الرقمية الطوعية

تتعمق الهيمنة الطبقية عبر تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تكنولوجية إلى وسيلة لإعادة إنتاج أنماط السيطرة الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية. وقد يؤدي استمرار هذا النموذج إلى كوارث إنسانية، إذ يفقد الإنسان تدريجيًّا قدرته على مواجهة التحديات المعقّدة، ويصبح رهينًا لتقنيات تتحكّم فيها نخبة رأسمالية والدول الكبرى.

وما يجعل هذه السيطرة أكثر خطورة هو طابعها الطوعي، حيث يُدفع الأفراد، بفعل التلاعب الخوارزمي والرغبة في الراحة، إلى الانخراط في هذه العبودية الرقمية دون إكراه مباشر. يُمنح الإنسان وهم التحكم والاختيار، بينما تُوجَّه قراراته بشكل غير محسوس نحو مسارات مُعدّة مسبقًا تخدم مصالح الرأسمالية. ولا ينبع هذا الخضوع من اقتناع واعٍ، وانما من اعتماد متزايد على تقنيات تُشكّل بديلًا اصطناعيًا للعلاقات البشرية والعمليات الذهنية المستقلة، مما يُنتج حالة من الاستلاب الرقمي، حيث يتماهى الأفراد مع أدوات تحكّمهم بدلًا من مقاومته.

إذا استمرت هذه الديناميكية دون مواجهة جماعية قائمة على وعي يساري تقدمي، فقد يتحوَّل الذكاء الاصطناعي الحالي من مجرد أداة في يد الرأسمالية بشكل تدريجي إلى نظام بديل للعقل البشري، يُدار عبره الحياة اليومية، مما يفرض شكلاً جديدًا من العبودية الرقمية الطوعية، حيث يصبح الأفراد محاصرين ضمن أنظمة تكنولوجية تحدد أدوارهم وسلوكياتهم، وتقيِّد قدرتهم على اتخاذ قراراتهم بشكل مستقل، بل تدفعهم إلى قبول هذه الهيمنة كواقع حتمي لا يمكن تجاوزه.

تمرد الآلة وسيطرة الذكاء الاصطناعي على البشرية

لطالما رسمت التوقعات المستقبلية صورًا لعالمٍ تُحكم فيه البشرية بواسطة الآلة، حيث يفقد الإنسان سيطرته على التكنولوجيا التي صنعها، ليصبح مجرد ترس في منظومة لا تخضع لإرادته، وتخدم مصالح القوى المسيطرة. هذا السيناريو، الذي كان في الماضي مجرد افتراضات فلسفية أو تصورات سينمائية في أفلام الخيال العلمي، أصبح اليوم أكثر واقعية في ظل التطورات الهائلة للذكاء الاصطناعي، وغياب أي ضوابط قانونية دولية فعّالة تُنظّم وتؤطّر عمله.

إحدى الإشكاليات الكبرى والخطيرة التي يطرحها تطور الذكاء الاصطناعي هي احتمالية تطوير نفسه بحيث يتجاوز الذكاء البشري، وتحوله إلى كيان مستقل بذاته، خارجًا عن سيطرة البشر، ومسيطرًا عليهم. فمع تجاوزه حدوده البرمجية الأصلية، قد يصبح الذكاء الاصطناعي منظومة تتخذ قرارات مصيرية بشكل مستقل، تُفرض على البشرية في الاقتصاد، السياسة، والحياة اليومية وغيرها، دون أي رقابة بشرية. في ظل الرأسمالية، يتم تطوير الذكاء الاصطناعي لخدمة تراكم رأس المال وتعزيز الهيمنة الطبقية ويخضع لمنطق المنافسة الشرسة، مما يجعل فقدان السيطرة عليه أمرًا ممكنًا ومحتملاً وخطيرًا، خاصة أنه يتطوّر بسرعة هائلة تفوق سرعة تنظيمه وتأطيره ضمن قوانين دولية وضوابط مجتمعية. إذ يتم تصميمه كأداة بقدرات هائلة دون أي "قفص" يحدّ من انفلاته إذا أُسيء استخدامه أو خرج عن السيطرة، مما قد يحوله إلى قوة مستقلة تعمل ضد مصالح المجتمع بدلًا من خدمته.

هذا السيناريو لم يكن غريبًا عن السينما، حيث تناولت العديد من الأفلام هذه الفكرة، مثل «المدمر»، حيث تبدأ الآلات حربًا ضد البشر بعد وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى من الوعي الذاتي، و«ماتريكس»، الذي يعرض عالمًا تُستعبَد فيه البشرية من قِبل الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم البشر كمصادر طاقة، و«أنا، روبوت»، الذي يناقش فكرة تمرد الروبوتات ضد البشر بعد اكتسابها قدرات تفكير مستقلة. لن يكون «تمرد» الذكاء الاصطناعي مجرد سيناريو خيالي، وانما ستنعكس نتائجه في سياسات تُفرض عبر أنظمة رقمية، دون أي اعتبار للحاجات الإنسانية. وما نشهده اليوم ليس هيمنة روبوتات على البشر بالشكل الكلاسيكي المتخيل حتى الآن، ولكنه قد يتطوّر نحو نموذج جديد من السيطرة الرقمية، قائم على الأتمتة الشاملة وتحكم الخوارزميات في الحياة اليومية، حيث تتحول المجتمعات إلى كيانات تُدار وتُسيطر عليها أنظمة وآلات ذكية.

5. الذكاء الاصطناعي والعالم الثالث

لا تقتصر تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الدول المتقدمة، وانما تمتد إلى دول العالم الثالث، حيث يُعامل كقاعدة موارد خام وأسواق استهلاكية ضخمة تُوظَّف لخدمة الرأسمالية العالمية. بدلاً من أن تُسهم هذه التقنيات في التنمية المستقلة لهذه البلدان، يتم توجيهها بطرق تُكرّس التبعية الاقتصادية والسياسية والفكرية والتكنولوجية، مما يعزز استغلال هذه المجتمعات لصالح الدول والشركات الكبرى المسيطرة على تطوير الذكاء الاصطناعي.

تسعى الشركات الاحتكارية إلى استغلال البيانات والموارد البشرية في دول العالم الثالث دون تقديم أي قيمة عادلة لهذه المجتمعات. فبينما يتم الترويج للذكاء الاصطناعي بوصفه أداة للتنمية بشكل معلن، فإنه في الواقع يُستخدم كأداة لنهب البيانات وتحويل سكان هذه الدول إلى مجرد مصادر مجانية للمعلومات. يتم امتصاص البيانات الضخمة من خلال التطبيقات الرقمية، وأنظمة التتبع، ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث يصبح كل تفاعل مادة خام تُعالج لخدمة الدول الكبرى والشركات الاحتكارية دون أي مردود اجتماعي حقيقي للسكان في هذه البلدان.

تُوظَّف المبادرات "الخيرية" و"الإنسانية" التي تقودها بعض الدول وشركات التكنولوجيا الكبرى لتعميق السيطرة الرأسمالية على دول العالم الثالث، حيث تعمل هذه الشركات بجد على إيصال الإنترنت إلى كل ركن من العالم، وخصوصًا الدول النامية، حتى قبل توفير الكهرباء والمياه النقية والخدمات الأساسية!

أحد الأمثلة على ذلك هو مشروع "Internet.org" الذي أطلقته شركة ميتا (فيسبوك سابقًا) بالتعاون مع ست شركات تكنولوجيا أخرى، تحت شعار "ربط غير المتصلين"، والذي وفّر وصولًا محدودًا وموجّهًا إلى الإنترنت في بعض البلدان، يقتصر على منصات وخدمات محددة تابعة للشركة وشركائها، بدلًا من تقديم إنترنت حر ومفتوح. وبدلًا من تمكين المستخدمين والمستخدمات، جرى تحويلهم إلى مستهلكين ومستهلكات محتجزين داخل بيئة رقمية مغلقة تُراقَب فيها تفاعلاتهم باستمرار وتُستغل لتعظيم الأرباح. ويُظهر ذلك أن الهدف الحقيقي من هذه المشاريع لا يتمثل في تحسين مستوى المعيشة أو تطوير البنية التحتية، وانما في الترويج التجاري، وتعزيز السيطرة الفكرية، وتحويل كل فرد إلى مستهلك-ة دائم، ومصدر مستمر للبيانات والأرباح.

لا تسد هذه السياسات الفجوة الرقمية، وانما تُعيد إنتاج الاستعمار، ولكن الآن بشكله الرقمي، حيث تُصبح هذه الدول معتمدة بالكامل على الدول الكبرى والشركات الأجنبية في توفير التكنولوجيا والخدمات الرقمية، بدلًا من بناء قدرات محلية تُلبّي احتياجاتها الفعلية. وهذا ما يُكرّس تبعيتها للبرمجيات الاحتكارية والبُنى التحتية السحابية الأجنبية، وبالأخص لتلك التابعة للدول الغربية ذات الماضي الاستعماري المشين.

في ظل الصراع العالمي على السيطرة التكنولوجية، لم تكن الأنظمة الدكتاتورية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى في العالم الثالث بعيدة عن سباق الاستثمار في مشاريع الذكاء الاصطناعي، وخاصة الدول الغنية في ممالك الخليج العربي، حيث إنها تستثمر المليارات من الدولارات في مشاريع الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، وتلقّت دعمًا مباشرًا من الدول الكبرى والشركات الاحتكارية التي وجدت في هذه الأنظمة حلفاء استراتيجيين لخدمة مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية منذ عقود طويلة. هذا الاستثمار، الذي يُروَّج له إعلاميًا كجزء من «التحول الرقمي» و«التحديث التكنولوجي» لمجتمعاتها، ليس سوى وسيلة جديدة لترسيخ سلطاتها الدكتاتورية، ولتعزيز أدوات القمع والرقابة، وإحكام السيطرة السياسية والاجتماعية والفكرية على شعوبها. تُوظِّف تلك الأنظمة الاستبدادية الذكاء الاصطناعي في تطوير تقنيات المراقبة الجماعية، وتحليل البيانات الضخمة، والحد من أي حراك معارض. كما تُستخدم أنظمة التعرف على الوجه، وتحليل الصوت، وتقنيات التنبؤ بالسلوك وغيرها، لتحديد الأفراد المعارضين قبل أن يتمكنوا حتى من التحرك. وعبر هذه الأنظمة، تستطيع تلك الحكومات القمعية تتبُّع أنشطة المواطنين والمواطنات والتجسُّس عليهم بكل الوسائل، سواء عبر الإنترنت أو في الأماكن العامة.

رغم الشعارات الزائفة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، تستمر الدول الغربية والشركات الكبرى في دعم مشاريع هذه الدول، لأنها تخدم سياسات الهيمنة الاقتصادية والسياسية. تُشارك الشركات التكنولوجية الاحتكارية في هذا القمع والسيطرة، إما عن طريق بيع التكنولوجيا بشكل مباشر، كما هو الحال مع الأسلحة وأدوات القمع والتعذيب، أو من خلال تقديم الاستشارات والإمكانيات والدعم الفني لأنظمة الذكاء الاصطناعي التي تعتمد عليها هذه الأنظمة الدكتاتورية. ويتم بيع وتطوير هذه الأنظمة بحرية في الدول القمعية الحليفة للرأسمالية العالمية، حيث تُحوَّل إلى أداة مباشرة لإعادة إنتاج السلطة الاستبدادية وتعزيزها.

6. ضعف الحيادية الجندرية في الذكاء الاصطناعي وعدم تبني المساواة الكاملة

رغم الانطباع العام بالحيادية الجندرية للذكاء الاصطناعي، إلا أنه عند التدقيق الجيد نجد أن الانحيازات الجندرية المضمَّنة في الخوارزميات والأنظمة الذكية تُظهر بوضوح كيف تُعيد معظم تطبيقات الذكاء الاصطناعي إنتاج التمييز الجندري وعدم المساواة بين الجنسين. فاللغة الذكورية والطابع غير المساواتي لهذه التقنيات يعكسان التحيزات الثقافية والاجتماعية التي تُغذيها الشركات الرأسمالية والحكومات الذكورية التي طوّرتها، وذلك بنسب متفاوتة تبعًا لكل لغة ودرجة تطور حقوق المرأة والمساواة الجندرية في كل بلد.

الذكاء الاصطناعي ليس بطبيعته أداة ذكورية، لكنه يتغذى على بيانات المجتمع الرأسمالي الذكوري، حيث تعتمد الخوارزميات على بيانات مُجمَّعة تعكس بشكل عام تحيزات الأفكار النمطية التي تكرّس عدم المساواة بين المرأة والرجل، مثل اللغة الذكورية المستخدمة والتصورات التقليدية لأدوارهما في العمل والمجتمع. على سبيل المثال، أظهرت دراسة أجرتها جامعة كارنيغي ميلون عام 2019 أن إعلانات الوظائف الممولة عبر فيسبوك وجوجل تميل إلى عرض الوظائف عالية الأجور، مثل المناصب التقنية والهندسية، للرجال أكثر من النساء.

كذلك، في عام 2018، كشفت وكالة رويترز أن نظام التوظيف القائم على الذكاء الاصطناعي، الذي طورته شركة أمازون، كان يُفضّل تلقائيًا الذكور على الإناث عند تقييم طلبات التوظيف في المجالات التقنية. إذ تم تدريب الخوارزمية على بيانات توظيف سابقة، والتي عكست تحيزًا هيكليًا داخل الشركة، حيث كان الذكور يشغلون غالبية المناصب الهندسية والتقنية. ونتيجة لذلك، قام النظام بخفض تصنيف السير الذاتية التي تحتوي على كلمة "نساء" أو التي تشير إلى مشاركة المتقدمة في أنشطة نسوية.

إضافةً إلى ذلك، تُبرمج الأنظمة الصوتية، مثل المساعدات الذكية، بأصوات أنثوية وأدوار خدمية، مما يعزز الصورة النمطية للمرأة على أنها "خاضعة" أو "مساعدة" بدلاً من كونها شريكًا متساويًا. على سبيل المثال، تأتي المساعدات الذكية مثل سيري من شركة آبل، وأليكسا من أمازون، ومساعد جوجل افتراضيًا بأصوات أنثوية، وعندما يتم انتقاد هذه التطبيقات، عادةً ما ترد بصيغة مهذبة وخاضعة، مما يعزز القوالب النمطية حول دور المرأة في تقديم الخدمات والدعم.

حاليًا، تستثمر بعض دول الشرق الأوسط مليارات الدولارات في تطوير مشاريع الذكاء الاصطناعي وفق قيم دينية ذكورية محافظة، مما يعزز التحيزات الجندرية داخل هذه الأنظمة. فعلى سبيل المثال، تم تطوير بعض المساعدات الصوتية العربية بأصوات ذكورية بدلاً من الأنثوية، في محاولة لتجنب الصورة النمطية "الخاضعة" للمرأة، وفقًا لبعض التفسيرات الدينية المحافظة. كما أن العديد من الأنظمة الرقمية المستخدمة في هذه الدول تقيّد ظهور النساء في المحتوى الرقمي أو تعكس تصورات تقليدية تقلل من دور المرأة في المجتمع. على سبيل المثال، تستخدم بعض الحكومات الاستبدادية أنظمة ذكاء اصطناعي لمراقبة السلوكيات الاجتماعية وتطبيق معايير أخلاقية مستوحاة من القيم الدينية الذكورية، مثل تقييد صور النساء غير المحجبات أو تقليل ظهورهن في نتائج البحث والخوارزميات الإعلانية. أحد أكثر أشكال هذا الاستغلال تطرفًا كان تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي لمراقبة ملابس النساء، حيث تقوم هذه الأنظمة بتحليل الصور والفيديوهات لتحديد مدى "مطابقتها" للمعايير الدينية المفروضة. على سبيل المثال، في إيران، تم اعتماد أنظمة رقمية لرصد مدى التزام النساء بالحجاب الإلزامي.

إن ضعف التمثيل النسائي في تصميم وتطوير الذكاء الاصطناعي، وغياب الدور الفعّال للحركات النسوية والتقدمية في هذا المجال، إلى جانب سيادة الطابع الذكوري في فرق التطوير، يُعمِّق هذه المشكلة. على سبيل المثال، وفقًا لتقرير صادر عن معهد AI Now، فإن النساء يشكلن 15% فقط من الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي في فيسبوك، و10% فقط في جوجل، مما يعني أن معظم هذه التقنيات يتم تطويرها من قبل فرق ذكورية، مما يؤدي إلى ترسيخ التحيزات الجندرية داخل الخوارزميات.

فالتكنولوجيا هنا لا تكتفي بعكس التحيزات الجندرية، بل تُعيد إنتاجها وتعزيزها، مما يُعيق تحقيق المساواة ويُعمّق الفجوة بين الجنسين بدلًا من تقليصها. كما تُكرّس الأدوار النمطية وتُغذي التمييز ضد المرأة. وليست هذه مجرد مسألة تقنية، وانما تعبير عن أزمة اجتماعية أعمق، تُعيد ترسيخ أنماط التمييز وعدم المساواة داخل الفضاء الرقمي.

7. الذكاء الاصطناعي كأداة للسيطرة والقمع السياسي وانتهاك حقوق الانسان

الرقابة والسيطرة الرقمية

تعمل الشركات الرقمية، بالتعاون مع الدول الكبرى، على مراقبة تحركات الأفراد عبر الأجهزة الذكية ووسائل الاتصال المختلفة، حيث تخضع جميع الأنشطة الرقمية، بما في ذلك الاجتماعات المغلقة التي يُفترض أنها آمنة، للمتابعة وللتحليل المستمر. في الواقع تقريبا، لا توجد أي مساحة رقمية مُحصَّنة بالكامل؛ إذ تُجمَّع البيانات بشكل منهجي، ثم تُستخدَم لتقييم الأفراد والمجموعات وتصنيفهم وفقًا لأنماط سلوكهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية.

إضافةً إلى ذلك، تحولت الرقابة الرقمية إلى أداة مركزية لرصد التوجهات الفكرية والسياسية للمستخدمين والمستخدمات، مما يُمكِّن الشركات والحكومات من متابعتهم واستهدافهم عبر حملات تضليلية مُنظَّمة، أو فرض عقوبات رقمية تحدد وتقلِّص تأثيرهم في الرأي العام. تُطبَّق هذه الاستراتيجيات بشكلٍ ممنهجٍ وخفيّ ضد التنظيمات العمالية، والتنظيمات اليسارية، والمؤسسات الحقوقية والإعلامية المستقلة، حيث تواجه هذه الجهات تضييقًا متزايدًا يُقيِّد انتشار أفكارها في الفضاء الرقمي العام عبر أساليب ناعمة غير مباشرة ويصعب رصدها.

تُوظَّف الخوارزميات بشكلٍ دقيق لتقييد وصول المنشورات السياسية اليسارية والتقدمية دون حذفها بشكل مباشر، مما يجعل القمع الرقمي أكثر تعقيدًا وخطورة وغير مرئي. إذ يبدو التفاعل المنخفض مع المحتوى التقدمي وكأنه استجابة طبيعية من الجمهور، بينما هو في الواقع نتيجة خوارزميات معدّة مسبقًا لتقليل انتشاره، مما يخلق انطباعًا زائفًا لدى الناشطين والناشطات بأن أفكارهم لا تحظى باهتمام، وأنها تفتقر إلى الشعبية، ومن ثمّ يستنتجون ضرورة إعادة النظر فيها!

الاحباط الرقمي

الإحباط الرقمي أداة جديدة ومتطورة للهيمنة الطبقية، حيث تُستخدم الخوارزميات والذكاء الاصطناعي بشكل ممنهج وغير محسوس، وعلى مدى طويل وبشكل تدريجي، لنشر محتوى يعزز الشعور بالعجز والاستسلام، خاصةً بين المستخدمات ومستخدمي المنصات الرقمية من التوجهات اليسارية والتقدمية. تعمل هذه الآلية على تضخيم فشل وضعف التجارب الاشتراكية والتنظيمات اليسارية، وإبراز الرأسمالية كنظام أزلي لا يُقهر، مما يرسّخ فكرة استحالة التغيير. كما يتم تعزيز الفردانية، والترويج لحلول فردية كالاستهلاك وتطوير الذات، مما يعزل الأفراد عن أي فعل سياسي جماعي منظم.

إلى جانب ذلك، تُوجه النقاشات داخل التنظيمات اليسارية نحو صراعات هامشية وتُبرزها، مما يشتت الجهود ويضعف القدرة على المواجهة. تعتمد الشركات الكبرى على تحليل السلوك الرقمي لاستهداف المستخدمين والمستخدمات والمجموعات، بمحتوى يولد الإحباط، ويجعلهم يشعرون باستحالة أو صعوبة التغيير الاشتراكي. هذه السياسات والاساليب ليست عفوية، وانما أداة علمية واعية لإجهاض أو إضعاف روح التغيير وضمان بقاء النظام الرأسمالي دون تحدٍ حقيقي ومؤثر.

الاعتقال والاغتيال الرقمي

يُعد الاعتقال الرقمي مرحلة أكثر خطورة من الرقابة والسيطرة الرقمية، حيث لا يقتصر على تقييد وصول المحتوى، وانما يمتد إلى فرض قيود تعسفية على حسابات الأفراد والمجموعات، وتعليقها مؤقتًا ولفترات مختلفة، أو حذفها نهائيًا فيما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاغتيال الرقمي، يتم دون أي شفافية أو معايير واضحة أو قوانين محلية أو عالمية تدافع عن حقوق المستخدمين والمستخدمات. غالبًا ما تُستخدم ذرائع مثل "انتهاك المعايير المجتمعية" أو "الترويج للعنف" كحجج لحجب هذه الأصوات، رغم أن المحتوى الذي ينشره النشطاء يكون في الكثير من الأحيان توثيقًا لجرائم الرأسمالية كدول وشركات أو انتهاكات حقوق الإنسان.

مثال على ذلك هو القمع الرقمي الذي تمارسه منصات التواصل الاجتماعي ضد المحتوى الفلسطيني الذي يُوثّق الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين. خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، قامت شركات مثل فيسبوك، إنستغرام، وتويتر وغيرها بحذف وحظر مئات الحسابات والمنشورات التي تُوثّق جرائم الاحتلال تحت مزاعم «مخالفة المعايير المجتمعية» أو «الترويج للإرهاب»، رغم أنها كانت توثيقًا دقيقًا لجرائم حرب مُثبتة وثقتها منظمات حقوق الانشان. كما جرى استهداف وكالات إعلامية مستقلة من خلال تقييد وصول منشوراتها أو حذف حساباتها بالكامل، في محاولة واضحة لإسكات الأصوات التي تكشف حقيقة الانتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين.

المراقبة الذاتية الطوعية

يتزامن القمع الرقمي وتقييد وصول المنشورات مع ظاهرة "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد وحتى المجموعات بفرض رقابة على أنفسهم، أو تعديل خطابهم السياسي، أو حتى تغيير محتواه، والتحول إلى قضايا نظرية عامة، والابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، خوفًا من تقييد وصول منشوراتهم أو التعرض للحظر خلال الاعتقال الرقمي، أو الاغتيال الرقمي من خلال إغلاق حساباتهم من قبل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في المنصات الرقمية. يؤدي هذا الخوف إلى تقويض حرية التعبير، ويصبح عاملًا مؤثرًا في إعادة تشكيل وضبط الخطاب العام حتى قبل فرض القيود الفعلية، مما يُعزز الهيمنة الفكرية للرأسمالية، ويُقلّص مساحة المقاومة الرقمية، ويحوّل الإنترنت إلى فضاء مضبوط ومؤطر ذاتيًا وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.

على سبيل المثال، خلال فترات الاحتجاجات الجماهيرية في بلدان مختلفة ضد سياسات الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، وكذلك بشكل عام وبدرجات متفاوتة، لاحظ العديد من المستخدمين والمستخدمات أن منشوراتهم التي تحتوي على كلمات مثل "إضراب عام"، "عصيان مدني"، "ثورة"، أو نصوص تكشف الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، لم تحقق الانتشار المعتاد، في حين أن المنشورات ذات الطابع التحليلي العام حول الاقتصاد والسياسة لم تتأثر بنفس القدر. دفع ذلك العديد من الناشطين والناشطات إلى تجنب استخدام مصطلحات تصنّفها المنصات على أنها "تحريضية"، مما أدى إلى تحوير الخطاب العام نحو محتوى أقل حدة وثورية، وبالتالي تقليص مساحة التعبير الحر وإضعاف دور وسائل التواصل الاجتماعي كأداة للتعبئة والحشد السياسي.

8. تآكل الديمقراطية باستخدام الذكاء الاصطناعي

بعد السيطرة على العقول والوعي البشري من خلال الرقمنة، لم يعد الأمر مجرد وسيلة لتعظيم الأرباح الرأسمالية، وانما تحول ايضا إلى أداة رئيسية لإضعاف وحتى تقويض الديمقراطية البرجوازية النسبية بدلًا من تعزيزها أو تطويرها، رغم محدودية مصداقيتها في العديد من البلدان، حيث تخضع هذه الديمقراطية لتأثير المال السياسي، والقوانين الانتخابية المجحفة المصاغة لخدمة مصالح معينة، إلى جانب عوامل أخرى. فبدلًا من دعم المشاركة الشعبية الواعية في الحياة السياسية، يجري تسخير الرقمنة والذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل والتلاعب بالرأي العام بما يتوافق مع مصالح الطبقات الحاكمة، عبر التأثير في الانتخابات، وتضييق مساحة النقاش الحر، وتوجيه الخطاب السياسي والإعلامي لخدمة القوى الرأسمالية المسيطرة.

إن السيطرة الطبقية على الذكاء الاصطناعي تعني أن هذه التكنولوجيا، التي يُفترض أن تكون أداة لتعزيز الشفافية والديمقراطية، تُستخدم فعليًا لإنتاج وترويج السرديات التي تحافظ على النظام الرأسمالي القائم. يتم استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات السياسية بما يخدم المؤسسات الرأسمالية، والأنظمة والتنظيمات اليمينية والفاشية الجديدة، والقوى الاستبدادية، مما قد يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.

في ظل النظام الرأسمالي، لا يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتمكين الجماهير أو تعزيز القرارات الواعية والشفافة، وانما كأداة مساهمة لتشويه الحقيقة، وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي، والتضليل الإعلامي الذي يُضعف جوهر الحقيقي للديمقراطية القائم على الشفافية وحرية الوصول إلى المعلومات والتعددية الفكرية والسياسية. يتم ذلك عبر استهداف فئات محددة بمحتوى موجه استنادًا إلى تحليل سلوكهم الرقمي، مما يؤدي إلى خلق رأي عام مصطنع يُكرّس الهيمنة الطبقية ويُعمّق الاستقطاب السياسي والاجتماعي. لا يقتصر الأمر على تضليل الناخبين والناخبات، بل يمتد إلى إعادة تشكيل بيئة النقاش السياسي، بحيث تُفرَّغ من مضامينها الحقيقية وتُشبَع بدعاية تخدم الرأسمالية وافكارها اليمينية.

يتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي مجرد التلاعب بالمعلومات، ليصبح أداة مركزية في إعادة إنتاج السلطة السياسية الرأسمالية. فمن خلال توظيف الخوارزميات في إدارة الحملات الانتخابية، وتصميم الخطاب السياسي وفقًا لمصالح رأس المال، والتأثير على خيارات الناخبين والناخبات عبر تقنيات الاستهداف الدقيق، يتم تحييد الأصوات المعارضة وإضعاف البدائل اليسارية والتقدمية - الديمقراطية.

ومثال على ذلك، تدخل الملياردير اليميني إيلون ماسك في الانتخابات الألمانية لعام 2025 عبر منصته "إكس" (تويتر سابقًا)، حيث دعم بشكل مباشر حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، من خلال ترويج محتوى موجه بالذكاء الاصطناعي على منصته، مما أثر على الرأي العام وأعاد إنتاج الاستقطاب السياسي لصالح القوى اليمينية والنازية الجديدة.

في هذه البيئة، لم تعد الانتخابات تعكس الإرادة الشعبية حتى بشكلها النسبي، وتحوّلت إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى والقوى الاحتكارية والطغم المالية، التي تستخدم الإنترنت والذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة السياسية والفكرية. يؤدي ذلك إلى تشويه التعددية السياسية وإفساد الآليات الديمقراطية النسبية القائمة، حيث يتم إما إضعاف الأصوات التقدمية أو دفع الجماهير نحو بدائل زائفة تُعيد إنتاج النظام الرأسمالي نفسه، وفي أقصى الحالات إحداث تغيير سطحي فقط.

9. التأثير البيئي للذكاء الاصطناعي في ظل الرأسمالية

التغيرات المناخية وتدمير البيئة من أبرز نتائج الرأسمالية، والآن أصبح الذكاء الاصطناعي أداةً أخرى لاستنزاف موارد الكوكب وتعزيز التدهور البيئي. تُروَّج هذه التكنولوجيا على أنها تقدم حضاري، لكنها تُدار بآليات تخدم المصالح الرأسمالية، حيث تُوظَّف دون التزام حقيقي بحماية البيئة أو ضمان العدالة المناخية. على سبيل المثال، تشير التقارير إلى أن مركز بيانات شركة جوجل في ولاية آيوا الأمريكية يستهلك حوالي 3.3 مليار لتر من المياه سنويًا لتبريد خوادمه، مما يؤدي إلى استنزاف الموارد المائية المحلية، في وقت تعاني فيه العديد من المجتمعات من نقص المياه العذبة.

تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على تشغيل مراكز بيانات عملاقة تُعَدُّ من بين أحد أكبر مستهلكي الطاقة في العالم، حيث تعمل هذه المراكز على مدار الساعة لمعالجة كميات هائلة من البيانات وتدريب الخوارزميات، مما يؤدي إلى استهلاك ضخم للكهرباء، التي تُستمد غالبًا من مصادر غير مستدامة، مثل الوقود الأحفوري.

وفقًا للوكالة الدولية للطاقة، استهلكت مراكز البيانات عالميًا ما يُقدَّر بنحو 240-340 تيراواط/ساعة من الكهرباء في عام 2022، وهو ما يمثل حوالي 1-1.3% من إجمالي الطلب العالمي على الكهرباء، أي ما يعادل استهلاك دولة مثل الأرجنتين بأكملها من الطاقة سنويًا. ورغم أن بعض الشركات التكنولوجية الكبرى تزعم الاستثمار في الطاقة المتجددة لتشغيل هذه المراكز، فإن التوسع غير المقيّد في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي يؤدي إلى زيادة الانبعاثات الكربونية بمعدلات تفوق أي حلول بيئية جزئية يتم الترويج لها.

تصنيع أجهزة الذكاء الاصطناعي لا ينفصل عن الاستغلال الرأسمالي للموارد الطبيعية. يتطلب إنتاج الشرائح الإلكترونية والمعالجات المتطورة استخراج كميات ضخمة من المعادن النادرة، التي يُستخرج معظمها من دول الجنوب العالمي في ظل ظروف عمل قاسية وغير إنسانية. على سبيل المثال، في جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث يُستخرج معدن الكوبالت المستخدم في بطاريات الليثيوم، يعمل عشرات الآلاف من شغيلات وشغيلة اليد والفكر، بمن فيهم الأطفال، في مناجم خطرة دون معدات حماية، ويتعرضون لتسمم المعادن الثقيلة، مما يُسبّب أمراضًا خطيرة ومزمنة. كذلك أدت عمليات استخراج الليثيوم في تشيلي إلى انخفاض منسوب المياه الجوفية في المناطق القاحلة بنسبة 65٪، مما تسبب في جفاف الكثير من الأراضي الزراعية وفقدان المجتمعات المحلية لمصادر رزقها التقليدية.

لا تؤدي هذه العمليات إلى تدمير البيئات المحلية فحسب، وانما تتسبب أيضًا في تهجير السكان الأصليين، وتسميم مصادر المياه والغذاء، وتعريض المجتمعات الفقيرة لمواد كيميائية سامّة وللمزيد من الأمراض الخطرة، في الوقت الذي تجني فيه الشركات الرأسمالية أرباحًا طائلة دون أي مساءلة أو رقابة دولية حقيقية.

في إطار دورة الإنتاج والاستهلاك الرأسمالية، يتم تحديث الأجهزة الإلكترونية باستمرار، مما يُنتج كميات هائلة من النفايات الإلكترونية. معظم هذه النفايات لا يُعاد تدويرها بطرق آمنة، بل تُصدَّر إلى دول نامية، حيث تتراكم في أراضي تلك الدول، مما يخلق تأثيرات كارثية على بيئاتها. مثلا، تعتبر بعض الدول الافريقية مثل غانا، أكبر مكب للنفايات الإلكترونية في العالم، موطنًا لكميات ضخمة من الأجهزة الإلكترونية المهملة، حيث يتم حرق البلاستيك والمواد الخطرة لاستخراج المعادن الثمينة، مما يطلق غازات سامة تؤدي إلى تلوث الهواء والتربة والمياه، وإلى ارتفاع معدلات السرطان وأمراض مختلفة اخرى بين العاملين والسكان المحليين.

يتطلب التوسع في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي بناء المزيد من مراكز البيانات وأبراج الاتصالات، مما يُسرِّع إزالة الغابات، وتدمير النظم البيئية، وفقدان التنوع البيولوجي. على سبيل المثال، تم إزالة آلاف الفدادين من الغابات في عدة دول في العالم الثالث لإنشاء منشآت للبنية التحتية التكنولوجية، مما أدى إلى فقدان بيئات طبيعية حيوية لأنواع مهددة بالانقراض.

بينما يتم الترويج لاستخدام الذكاء الاصطناعي في بناء بيئات صناعية للمناخ كحل لتعزيز الإنتاجية في الزراعة والصناعة، فإن فرض تغييرات قسرية على البيئة باستخدام هذه التقنيات قد يحمل مخاطر بيئية كارثية. إن إعادة تشكيل الظروف المناخية والجيولوجية بطريقة مصطنعة، دون مراعاة التوازن البيئي الطبيعي، قد تؤدي إلى تداعيات خطيرة واضطرابات مناخية وجيولوجية غير متوقعة، بما في ذلك تفاقم الظواهر الجيولوجية مثل الزلازل والانهيارات الأرضية.

الرأسمالية الحديثة، التي تدّعي زورًا الاهتمام بالبيئة، لا تختلف عن نماذج الاستغلال السابقة، إذ إن معظم التوسعات التكنولوجية، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، تأتي على حساب البيئات الطبيعية، حيث يتم تدمير العديد منها بأشكال مختلفة لخدمة الدول الكبرى والشركات الاحتكارية.

10. استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب وتطوير الأسلحة الفتاكة

تُظهر التقنيات الحديثة للذكاء الاصطناعي كيف يتم توجيه هذه التكنولوجيا لتعزيز الهيمنة العسكرية بدلًا من استخدامها لتحقيق السلام والتنمية. فقد أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم جزءًا أساسيًا من سباق التسلح العالمي، حيث يتم تسخيره لتطوير أسلحة ذكية وتقنيات قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية دون تدخل بشري مباشر. يؤدي هذا التحول إلى زيادة خطر نشوب صراعات أكثر تدميرًا ووحشية، إذ تُقلَّص الحاجة إلى القرار البشري في استخدام القوة القاتلة والمدمرة، مما يجعل الحروب أكثر سرعة وتعقيدًا وأقل قابلية للتنبؤ. ومع تقليل دور البشر في اتخاذ القرارات القتالية، تزداد احتمالية تصعيد الصراعات، ووقوع انتهاكات واسعة النطاق للقانون الإنساني الدولي، وارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، حيث يصبح القتل والتدمير مجرد قرارات خوارزمية تُنفذ بلا مراجعة بشرية أو أخلاقية أو سياسية ودون أي مساءلة.

مثلا، طورت الولايات المتحدة والصين وروسيا ودول أخرى طائرات مسيّرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات قتالية ذاتية دون تدخل بشري مباشر، حيث يمكن برمجتها لضرب أهداف معينة بناءً على تحليل بيانات مختلفة، مما يثير مخاوف بشأن أخطاء قاتلة ومدمرة قد تنتج عن تحيز الخوارزميات أو أخطاء البرمجة. تستثمر العديد من شركات الأسلحة في تطوير أنظمة مختلفة قائمة على الذكاء الاصطناعي، والتي يتم تسويقها باعتبارها "أسلحة المستقبل".

لا تقتصر هذه التقنيات على ساحات المعارك التقليدية، وانما تمتد إلى الحروب الإلكترونية، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي لاستهداف البنية التحتية الحيوية للدول، مثل الأنظمة المالية، وشبكات الطاقة والمياه، والمرافق الأساسية، مما يزيد من حجم الدمار، ويُعمِّق الأزمات العالمية، ويُفاقم معاناة الشعوب. على سبيل المثال، استخدمت بعض الدول والمجموعات الفاعلة الذكاء الاصطناعي في الهجمات السيبرانية، كما حدث في الهجمات السيبرانية على شبكات الكهرباء والمياه في دول مختلفة، مما تسبب في انقطاعات واسعة النطاق للطاقة والمياه، وأدى إلى شلل جزئي للخدمات الأساسية، وهو ما يعكس كيف أصبح الذكاء الاصطناعي أداة حرب غير تقليدية.

أحد أبرز الأمثلة الحديثة على استخدام الذكاء الاصطناعي في الحروب الوحشية هو العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، حيث وظّفت قوات الاحتلال الإسرائيلي أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة لاختيار الأهداف وتنفيذ الضربات الجوية ضد الفلسطينيين. ووفقًا لتقارير صحفية واستقصائية، استخدم الجيش الإسرائيلي نظامًا يُعرف باسم "لافندر "، وهو نظام ذكاء اصطناعي متقدم يعمل على تحليل البيانات الاستخباراتية بسرعة هائلة، وتحديد مواقع القصف بناءً على خوارزميات تحدد الأولويات القتالية دون مراعاة أي اعتبارات إنسانية.

في هذا العدوان الهمجي، تم تنفيذ عمليات قصف موسعة ضد المباني السكنية والبنية التحتية المدنية، مما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين، كان العدد الأكبر منهم من الأطفال والنساء، بزعم استهداف "مواقع عسكرية" مزعومة. لكن تقارير منظمات حقوق الإنسان أكدت أن هذه الهجمات كانت جزءًا من سياسة ممنهجة للتدمير الجماعي والتطهير العرقي باستخدام التكنولوجيا الحديثة.

لم يكن الاحتلال الإسرائيلي ليتمكن من تنفيذ هذه الجرائم الوحشية لولا الدعم الذي تقدمه الدول وشركات التكنولوجيا الكبرى، والتي توفر له البنية التحتية الرقمية والخوارزميات المستخدمة في العمليات العسكرية. على سبيل المثال، تُعتبر شركات مثل غوغل ومايكروسوفت من أبرز الشركات التي وقّعت عقودًا مع الجيش الإسرائيلي لتوفير خدمات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي في إطار مشروع "نيمبوس"، الذي يهدف إلى تعزيز القدرات التقنية للحكومة الإسرائيلية، بما في ذلك عمليات المراقبة، والتجسس، وتوجيه الضربات العسكرية والتدمير.

جميع الحروب، بغض النظر عن أدواتها، قذرة ولا إنسانية، إذ تؤدي إلى تدمير المجتمعات وإبادة الأبرياء لمصلحة القوى المهيمنة. في هذا السياق، تستغل الشركات الكبرى، بالتعاون مع الحكومات الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، إمكانيات الذكاء الاصطناعي لتعزيز التفوق العسكري وتحقيق أرباح طائلة من خلال صفقات بيع الأسلحة الذكية. يتم استخدام هذه التقنيات لتطوير أدوات دمار تُفاقم زعزعة الاستقرار العالمي. إن توظيف الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري لا يجعله أكثر "دقة" أو "أقل ضررًا"، و يُعزز الطابع غير الإنساني للحروب، حيث تتحول قرارات الحياة والموت إلى خوارزميات تُنفَّذ دون أي بُعد أخلاقي.

***

رزكار عقراوي

....................

المصادر

1. البيان الشيوعي: كارل ماركس وفريدريك إنجلز

2. اصلاح اجتماعي أم ثورة - روزا لوكسمبورغ

3. العمل المأجور ورأس المال - كارل ماركس

4. مبادئ الشيوعية - فريدريك إنجلز

5. السيطرة على الإعلام - نعوم تشومسكي

6. جورج لوكاش - التشيؤ والوعي الطبقي

7. أبرز الأسس الفكرية والتنظيمية لليسار الالكتروني /نحو يسار علمي ديمقراطي معاصر- رزكار عقراوي

https://www.ahewar.org/debat/s.asp?aid=730446

8. الرأسمالية الرقمية من منظور ماركس - إبراهيم يونس

https://al-akhbar.com/Capital/364495?utm_source=tw&utm_medium=social&utm_campaign=papr

9. الذكاء الاصطناعي: هل هو خطر على البشرية أم على الرأسمالية؟

https://marxy.com/?p=8218

10. علي عبد الواحد محمد: رأسمالية أصحاب المصلحة

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=845862

11. يونس الغفاري: شبكات التواصل الاجتماعي والقيمة المضافة

https://revsoc.me/technology/46891/

12. أسامة عبد الكريم - كارل ماركس والذكاء الاصطناعي

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=818312

13. "مخاطر الذكاء الاصطناعي على الأمن ومستقبل العمل" – مؤسسة

RAND. https://www.rand.org/content/dam/rand/pubs/perspectives/PE200/PE237/RAND_PE237z1.arabic.pdf

14. "الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المعاصرة" - مجلة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات https://aijtid.journals.ekb.eg/article_294487.html

15. "الذكاء الاصطناعي ومستقبل البشرية" - مجلة الرافد

https://arrafid.ae/Article-Preview?I=4spRz9xZ9J8%3D&m=5U3QQE93T%2F0%3D

16. "الذكاء الاصطناعي المرتكز على الإنسان: قوة تأتي من تقديم الأفراد كأولوية" - شركة ماكنزي الوظائف. https://www.mckinsey.com/featured-insights/highlights-in-arabic/human-centered-ai-the-power-of-putting-people-first-arabic/ar

17. "دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى الطلاب" - مجلة البحوث المالية والتجارية https://afbj.journals.ekb.eg/article_343618_0d53c017d2ecd406844e999d3baeb20a.pdf

18. "الذكاء الاصطناعي: بين خدمة البشرية أو التفوق عليها" - مركز ستراتيجيكس للدراسات.

https://strategiecs.com/ar/analyses/artificial-intelligence-serving-humans-or-surpassing-them

19. هل أصبح الذكاء الاصطناعي آلة للقتل؟

https://www.aljazeera.net/tech/2024/7/21/هل-أصبح-الذكاء-الاصطناعي-آلة-للقتل

حرب غزة: كيف استخدمت إسرائيل الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف؟

20. https://futureuae.com/ar/Mainpage/Item/9708

21. Rethinking of Marxist perspectives on big data, artificial intelligence (AI) and capitalist economic development

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0040162521000081

22. Marx, automation and the politics of recognition within social institutions

https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/03017605.2024.2391619#d1e107

23. Chen Ping: Through DeepSeek, I See The Future Of Socialism

https://www.memri.org/tv/chinese-commentator-chen-ping-deepseek-future-socialism

24. Nigel Walton: Rethinking of Marxist perspectives on big data, artificial intelligence (AI)

https://www.sciencedirect.com/science/article/abs/pii/S0040162521000081

25. The most prominent intellectual and organizational foundations of the electronic left (E-Left)

https://libcom.org/article/most-prominent-intellectual-and-organizational-foundations-electronic-left-e-left

يبدو أن هذا القدر في الشرق' أن تدفع الشعوب دائماً ثمن الحماقات الكبرى. ليس لأنها أقل شجاعة أو أضعف إرادة، بل لأن السياسي ـ حين يتوهم أنه صانع قدر ـ يحوّل الأرض إلى ساحة تجارب، والإنسان إلى وقود لمغامرة تنتهي دائماً إلى الرماد.

منذ أن تعلّم الإنسان أن يقود الجماعات باسم السلطة أو الدين أو الشعار، دفع الأبرياء ثمن المغامرات الكبرى. التاريخ ليس كتاب حكماء، بل سجلّ طويل من حماقات الساسة وطيش القادة الذين باعوا شعوبهم في سوق الأوهام.

في غزة اليوم، كما في قرطاج القديمة أو في أهوال الحربين العالميتين، يموت الناس ليبقى الحاكم أو ليحفظ الزعيم “صورته”. أي معنى أن يُساق شعبٌ كامل إلى موت لا يملك منه إلا الصبر والدموع؟ بينما تُعقد التسويات بعد ذلك على موائد الغرباء، فيُمحى الدم من الذاكرة السياسية وكأنه حبرٌ على ورق؟

في رواية دوستويفسكي: "الأخوة كرامازوف" يكتب عن "جريمة لا مبرر لها"

وثمة حوار بين البطل وأخيه الراهب "أليوشا" حين يعلن إيفان اعتراضه على وجود إله عادل يسمح بعذاب الأطفال الأبرياء:

"لماذا يجب أن يدفع الأطفال ثمن ما لم يرتكبوه؟

لو يبنى العالم على دمعة طفل بريء، فما حاجتي إلى هذا العالم كله؟

لا أقبل أن تشترى سعادة البشرية كلها بثمن دمعة طفل واحد يعذّب حتى الموتّ"

فما بالك بأطفال غزة الذين يأخذهم الساسة لقتال "الغزاة" ثم يذبحون؟ أي عبث هذا الذي يجعل دماءهم طريقاً لخطاب سياسي يُلقى على المنابر يطالب فيه بالخبز للفقراء؟

منذ قرون، حين قاد الطغاة حروباً عبثية، ليست لنا ناقة في رحاها ولا جمل، خاضها المستبدّون مبتكرين طرق القتل والعذاب. كانوا يتشابهون في النتيجة: المدن تحترق، والأطفال يُولدون ليكونوا جنوداً في معارك لم يختاروها. وكأن البشرية لم تتعلم أن الدم لا يورث إلا الدم، وأن الكبرياء الزائف ينقلب سريعاً إلى هزيمة فادحة.

لقد خبرنا هذا النمط مراراً. حينما أرسل نابليون آلاف الجنود ليموتوا في جليد روسيا، وفي القرن العشرين، وقف هتلر يَعدُ الأمّة بالسيادة الأبدية، فترك ألمانيا أنقاضاً وخراباً، بينما انتحر في قبو بارد.

اليوم، يتكرر المشهد في غزة: يُضحّى بالشعب ليُثبت القائد أن العقيدة ما تزال صامدة! ثم ينكسر المشهد فجأة، فيُسدل الستار على تفاوض أو استسلام متأخر على طاولة المساومة؟

السياسة حين تتحول إلى جنون شخصي أو مغامرة حزبية ضيقة، لا تختلف عن مأساة "أوديب" الذي عَمِيَ وهو يظن أنه يقود شعبه إلى الخلاص. في الأدب.. تنتهي الكوارث في النص. بينما تنتهي في غزة بجثث على الأرصفة، وبيوت محروقة أطفال مشردون تقتلهم الصواريخ أثناء تدافعهم للحصول على كوب حليب.

في المآسي الكبرى، لا تكمن الكارثة في الحدث، بل في التوقيت، أن تعرف الحقيقة لكن بعد فوات الأوان، ودفع الثمن. لم يُهزم "أوديب" بل كان باحثاً عنها، فهو لا يهرب حين تقترب الكارثة، يسعى إليها بقدميه، يجبر نفسه أن يعرف، حتى حين تكون المعرفة قاتلة.

هكذا ضيّع صدام حسين جيلاً كاملاً من العراقيين في حروب لا ضرورة لها. كل ما شيّده الإنسان على هذه الأرض ضاع بغمضة عين، واستنزف القذافي ثروة ليبيا ليتركها صحراء مفتوحة للخراب. وهكذا، مرة أخرى، يترك الساسة أهل غزة يواجهون قدرهم وحدهم، ليكون الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا الشرق.

المأساة ليست في موت الأبرياء وحدهم، بل في "الاستسلام " ما جدوى البطولة إذاً؟ ما جدوى عناد لا ينتهي إلا بخضوع؟ ووهم "الانتصار" ما زال يردده "القادة" لتمرير الأكاذيب والخداع على الناس البسطاء!

سيبقى السؤال قائماً: لماذا تتكرر الحماقات؟

ربما لأن السياسيين – كما وصفهم تولستوي – "لا يفكرون، ولا يجرؤون على التفكير فيما يفعلون، لقد خُدعوا منذ الطفولة حتى صاروا يؤمنون أن الطاعة واجب مقدس" أنهم أغبياء إلا بعد أن يكتب التاريخ فصل النهاية. لكن التاريخ لا يكتب بالمداد وحده، بل بالدم، وهذا الدم هو دم أهلنا في غزة اليوم. ليتهم تركوا الشعب يكتب تاريخه وحده!

في النهاية، يبقى السؤال الذي لا يزول: ما معنى الموت حين يكون عبثاً؟

لقد علّمتنا التجارب أن الدم لا يُثمر حياةً، بل يحصد موتاً آخر. ومع ذلك، يعيد الساسة الدورة نفسها، كأنهم عُميٌ يسيرون في دروب معتمة، يقودون أُمماً بأكملها إلى هاوية يصرّون على تسميتها “قدر الشعوب”.

إن ما يجري ليس مجرد حدث سياسي، بل مأساة وجودية: كيف يُترك الإنسان ـ وقد مُنح الحياة مرة واحدة ـ فريسة للجنون الذي يسمونه سياسة؟ كيف يُكتب قدره بيد غيره، وتُحجب عنه أبسط حقوقه في أن يعيش بسلام؟ كأننا أمام مسرحية تراجيدية متكررة، بطلها الشعب دائماً، وضحيتها الأبرياء، أما المخرج فهو الغرور الذي يلبس قناع البطولة.

وما القدر في الحقيقة إلا ما نصنعه بعقولنا وضمائرنا. حين يصير الموت هو اللغة الوحيدة، والتاريخ مجرد كتاب جديد يكتبه الدم.

***

د. جمال العتابي

غاب العراق كخاصية مجتمعية وعن الفعالية منذ القرن الثالث عشر، عندما انتهت الدورة الازدواجية الامبراطورية الثانيه، العباسية القرمطية الانتظارية، بسقوط عاصمة الامبراطورية عام 1258، بعد الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيميه المنتهية بسقوط بابل، وهو ما يوافق ويستجيب للقانون الناظم لتاريخ هذه البقعه من المعمورة، باعتبارها ارض الدورات والانقطاعات المرهونه للاصطراعية الازدواجية، الارضوية/ اللاارضوية التي ميزت ابتداء ارض مابين النهرين وآليات تشكلها ودينامياتها.

ونحن نتحدث هنا عن الانقطاعية الثانيه بعد الاولى التي تبدا مع سقوط بابل، ولها ماميزها عن الثانيه المستمرة الى الان، والتي حكمها كمظهر رئيسي الوقوع تحت طائلة "البرانيه" بطورين: الاول شرقي يدوي يبدأ مع هولاكو، واخر غربي اوربي آلي، يبدا مع القرن العشرين وعشريته الثانيه تحديدا، وهو يختلف نوعا عن الاول الاطول، بكونه حالة مرهونه للانقلابيه الآليه الحالة بشوطها الاول ابتداء في اوربا.

ولم يكن الانقطاع الحالي بلا آليات تشكل ذاتي تبدا كما هي العادة والخاصيات البنيوية في ارض السواد، وهي عملية تشكل سابقة على الانقلاب الالي الاوربي، بدات مع القرن السادس عشر، سبقتها فترة من الفوضى الانتاجية المجتمعية حلت على ارض السواد من سقوط بغداد حتى تبلور الصيغة القبلية اللاارضوية مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"1530، تبعتها فترة اخرى انتظارية نجفية، بدات مع القرن الثامن عشر في اعقاب الثورة الثلاثية عام 1787 التي حررت المنطقة الممتدة من بغداد الى الفاو، واتسمت بكونها عملية تشكل يدوي في غير اوانه على افتراض ضرورة تجاوز الطور اليدوي موضوعيا، وهو مالم يكن ممكنا على المستويين الاسفل حيث عملية التشكل الحديث، وفي المركز البراني حيث العاصمة الامبراطورية المنهاره والمتحولة الى مركز تعاقب الدول واشباه الامبراطوريات التي ماتزال يدوية هي الاخرى.

ومن الواضح ان متابعتنا الراهنه لاتستجب للمتعارف عليه من مفاهيم في التاريخ وفي حركة المجتمعات، والقانون والمآلات المنتظرة من العملية التاريخيه المجتمعية، وعلى وجه التحديد منها تلك التي كرستها اوربا بعد الانقلاب الالي بصيغته المصنعية من منظور لمايعرف ب " الحضارة" وماترافق مع تاسيس "علم الاجتماع" اخر العلوم، مع الغائب الاخر المماط عنه اللثام، والاهم :"صراع الطبقات"، وهي كلها مفاهيم ظلت متداولة بالاخص مع ماعرف ب "الحداثة الغربيه"، مادام المفهوم او الموضوعه الاهم غائبة عن النظر مثلها مثل الصراع الطبقي الذي لم يكتشف قبل القرن التاسع عشر، ليصبح مرتكز نظرية في التاريخ ترهنه لقانون سائر الى نتيجه وحصيلة مجتمعية مفترضة، فلم يخطر على البال لاسباب موضوعية خاصة بنوع المجتمعات التي حصل فيها الانقلاب الالي الافتتاحي، حيث استحالة تجاوز نطاق النوع المجتمعي المذكور عقليا ادراكيا، الى ماهو غيرها ومختلف عنها نوعا مقابلا ضمن الحقيقة المجتمعية الاصل، الازدواجية اللااارضوية/ الارضوية الاشمل، بمقابل الاصطراعية الجزئية "الطبقية".

وهذا يجعل من الانقلاب الالي عملية متعددة المحطات تبدا في اوربا الطبقية الاعلى ديناميات ضمن صنفها لاسباب بنيوية، لتنتقل الى "المجتمعية" الامريكيه المفقسه خارج الرحم التاريخي بلا بنية يدوية مجتمعية ولا طبقات، حيث الانتقال من الالة المصنعية الى التكنولوجيا الانتاجية، في وقت تراجع الغرب بصنفية الاليين الاول الاعرق الراسمالي، ومقابله الذي يطلق على نفسه اسم "الاشتراكي"، في حين تشتد حالة التازم الانتقالي الفاصل والحاسم على مشارف وبحكم اليات الانتقال المتوقع الى "التكنولوجيا العليا " العقلية، ولاتعود متبقيات الانتاجية اليدوية قابله للاستمرار، مايوقظ تحت طائله التازم المتعاظم انتاجيا ومجتمعيا، ضرورات الافصاحية الانتقالية المغفله الحالة على المعمورة مع الاله بما هي عملة متعددة المحطات، جوهرها الانتقال الى اللاارضوية ومفهومها الانقلابي الاعظم المغفل.

ولامجال للشك بان اعادة قراءة السردية الانتقالية الاليه هي لحظة على مستوى الافصاحية العقلية والخروج من وطاة الجسدية اليدوية، ظلت منتظرة، وهي بحد ذاتها انقلاب فاصل في وظيفة العقل وممارسته لمهمته، بما يضعنا لهذه الجهه ايضا وبالحكم، امام نوعين من المقاربة العقلية للمرحله الحالة على المجتمعات البشرية، الاولى الحالية السائرة والمستمرة منذ انبجاس الاله في اوربا، وهي من متبقيات العقل اليدوي الجسدي، كان لابد من الانتظار عبر التفاعل قبل ان ينتقل العقل، من الدائرة اليدوية ومتبقياتها وقصوريتها، كي نصبح امام مسار الانتقالية المقصودة في الجوهر، من المجتمعية الجسدية الى العقلية، فالذي حصل مع الاله ليس تطورا من المجتمعية اليدوية انتاجا الى الاليه، بل هو عملية انتقال شامله منتظرة من المجتمعات الراهنه الى نوع وصنف من الوجود الحياتي مختلف نوعا، محوره عقلي تنتهي عنده غلبة الجسد على العقل، وصولا الى انتفاء الحاجة للحامل الجسدي وتحرر العقل، بغض النظر عما يظل يلازم المنظور البشري ابتداء من توهمية، تتحول بفعل المنجز الالي الى كبرى شامله تضطلع بها اوربا، مقابل استمرار المجتمعات الاخرى تحت طائلة الطور المنقضي .

هل بريطانيا ياترى التي جاءت عام 1914 الى الفاو بغرض احتلال العراق، هي ارقى منه او يمكن ان تقارن به من اية زاوية، ماعدا من ناحية الالة التي منحتها اليوم صفة "الامبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس"، لتتجرأ وتفكر باحتلال مكان هو الامبراطورية الاولى في التاريخ، عندما خرج سرجون الاكدي 2371/ 2316 ق م، من اقصى جنوب ارض مابين النهرين شرقا ليحتل عيلام، وغربا ساحل الشام والاناضول، ويعبر الى جزيرة كريت، ويصرح " انا حاكم زوايا الدنيا الاربع"، وهو ماكان وقع تاريخيا ليس في الزمن الالي بل اليدوي حيث اعلى الاليات المجتمعية الكيانيه، في الوقت الذي وضع كوراجينا اول شريعة له لتظهر لاول مرة في التاريخ كلمه "حرية"، وكل حقوق الانسان التي يتغنى بها اليوم ونعها حقوق المستضعفين، وصولا الى بابل عاصمة العالم القديم، ولن نعدد لغزارة منجز هذا المكان الاصطراعي المجتمعي المحكوم لقانون الدورات والانقطاعات، والاعلى ديناميات مجتمعية ابان الطور الاول الانتاجي اليدوي، لكن لابد من تذكر الدورة الثانيه العباسية القرمطية ومنجزها العالمي الامبراطوري، عندما كرر هارون الرشيد القول مخاطبا الغيوم في السماء "امطري حيثما تشائين فانت في ارضي "، وعادت المساواتية بارفع صيغها المشاعية القرمطية مع العشرات من التيارات للتشابك في ارض السواد دوله بلا كيانيه، معتزله واخوان صفا واسماعيلية وخوارجية وحلاجية...الخ

ولنقف عند ظاهرة من نوع الاعتقاد بالتقدم والعلو المجتمعي الديناميكي في الحالة اعلاه، حين لم يخطر ببال بريطانيا "العظمى" في حال كانت عظمى بالفعل، ام انها عظمى بالاله، وانها بما هي عليه وبالمقارنه اقل جدارة بان تكون وافية بالغرض بالنسبة للالة نفسها ، المستحدثة مقارنه بارض مابين النهرين بما في ماضيها وحقيقتها المطوية الغائبة الان، بما يعني مالايمكن تخيله من نتائج ومترتبات يجب توقعها بحال صارت الالة متفاعلة مع الاشتراطات الرافدينيه المتاخرة حتى الساعه كبدئية ثانيه غير تلك اليدوية.

***

عبد الأمير الركابي

التي قُتـلت بإيعاز من الإكليروس

مقدمة: تمثل العلاقة بين الفلسفة والدين أحد أكثر المواضيع تعقيدًا وأهمية في تاريخ الفكر الإنساني. فالسلطة الدينية طيلة التاريخ القديم والوسيط كانت تمثل نقيضًا للحرية الفكرية، إذ رأت في الأفكار الفلسفية تحديًا يهدد استقرار النظام الاجتماعي والديني السائد. أدى ذلك إلى اضطهاد الفلاسفة والعلماء الذين عبروا عن أفكار تتعارض مع العقائد الرسمية، فتعرضوا للمحاكمات، الإعدام، الإبعاد، وحتى القتل، مبررة هذه الإجراءات بزعم حماية الدين والمجتمع من الأفكار «الضالة» أو «الزندقة» (1). وهذا البحث يستعرض السياقات الفكرية والتاريخية والاجتماعية التي أدت إلى هذا الاضطهاد.

1- في جغرافية تعدد الآلهة: نشأة الصدام بين الدين والفلسفة في اليونان القديمة بدأ الصراع بين الدين والفلسفة منذ الفلسفة اليونانية الأولى، حيث لم يكن للدين نظام موحد وأحادي، ما خلق بيئة للنزاع مع المفكرين الذين انتقدوا المعتقدات الراسخة. سقراط نموذج بارز في هذا الصراع، فقد عُرف بأسئلته النقدية التي استهدفت الآلهة والمعتقدات السائدة، وهو ما أغضب السلطة الدينية والسياسية التي اتهمته بإفساد عقول الشباب وإنكار آلهة الدولة، وحُكم عليه بشرب السم رغم عرضه للنفي الذي رفضه احتجاجًا على الظلم (2)(3)(4)(5).

2- في جغرافية الصليب: موجات الاضطهاد في أوروبا المسيحيةمع ترسيخ الأيديولوجيا الدينية في أوروبا المسيحية، تصاعدت حملات القمع ضد المفكرين، خاصة في العصور الوسطى. أسست محاكم التفتيش التي مارست التعذيب، السجن، والإعدام، مستهدفة الفلسفة والعلم، كما جرى مع جاليليو جاليلي الذي عوقب سببًا لانتهاكه العقيدة (6)(7)(8).

كان رفض كتب المفكرين المسلمين مثل ابن رشد وابن سينا جزءًا من هذه الحملة التي هدفت لتثبيت السلطة الدينية على الفكر.

3- في جغرافية الهلال: نابض النهضة والتوترات الفكرية في الحضارة الإسلامية شهد العصر الذهبي الإسلامي نهضة فكرية وثقافية، لكنها لم تكن خالية من التحديات مع رجال الدين، الذين اعتبروا بعض الأفكار والعلوم تهديدًا لعقيدة الإسلام الرسمية. وصلت حملة الاضطهاد ذروتها في القرن الخامس والسادس الهجريَّين، حيث تعرضت عقول ومفكرون كبار للملاحقة:

* ابن رشد (1126-1198 م): الذي حاول التوفيق بين الفلسفة والدين، وواجه النفي وحاولات إحراق كتبه (9)

* ابن خلدون (1332-1406 م): الذي تعرض للنفي بسبب أفكاره السياسية والاجتماعية الجريئة (10)

* الحلاج (858-922 م): أُعدم إثر اتهامات بالزندقة نتيجة تعبيره عن تجاربه الصوفية (11).

* الرازي: الذي عاش تحت ضغط ديني قاسٍ، واعتقل وتعذب حتى أصابه العمى (12).

* ابن سينا: الذي كان له دور محوري في الفكر الفلسفي، لكنه واجه رفضًا دينيًا (13).4

4- العلاقة بين السياسة والإكليروس:

تضافر القمع لم يكن اضطهاد العلماء والفلاسفة والصلفيين مجرّد نزعة دينية، بل كان جزءًا من توازن قوى معقد بين السلطات السياسية ورجال الدين، إذ اتحد الطرفان أحيانًا لقمع التيارات الفكرية المستقلة التي تهدد الاستقرار السياسي، مستخدمين التهم الدينية (زندقة، هرطقة، كفر، تجديف) ذريعة للاضطهاد(14). وهذه أمثلة على ذلك:

- ابن المقفع، الذي اتهم بالزندقة بسبب ترجماته ونقده السياسي والديني، وقُتل في بغداد بطريقة وحشية (15).

- هيباتيا، عالمة وفيلسوفة في الإسكند™رية، أُغتيلت على يد جماعات دينية متطرفة نتيجة صراعات دينية وسياسية (16).

- ابن رشد، رغم نفيه، عانى من ضغوط دينية كثيرة، وتأثر بدور الغزالي الذي هاجم الفلاسفة (17)(18).

- الرازي والكندي، تعرضا لمحاكمات واضطهاد معتدّ (19).

5- انتشار الفكر العربي الإسلامي وتأثيره في أوروبا: ساهمت الحضارة الإسلامية في نقل العلوم والفلسفة إلى أوروبا، حيث أثرت ترجمات ابن رشد وابن سينا في التراث الفلسفي الأوروبي، خصوصًا في الفكر المدرسي عند توما الأكويني (20)(21). بالرغم من موجات الاضطهاد والتضييق، ظل الإرث الإسلامي الفلسفي مهمًّا، لكن موجات الطرد القسري ومحاكم التفتيش عطّلت انسجام الحضارات وأخرت النهضة الفكرية الأوروبية (22)(23). 5- النتائج والتأثيرات الطويلة الأمدأدى اضطهاد المفكرين إلى أزمات فكرية عميقة استمرت لعصور، وتسببت في تأخير تطور العلوم والفلسفة، تاركة أثرًا سلبيًا على مسار الحضارات، قبل أن تظهر بوادر الانفراج في عصر النهضة الأوروبية (24).

خاتمة

شهد التاريخ محاولات ممنهجة لإخماد الفكر الحر بحرق الكتب، مثلما حدث في قرطبة بأوامر من رجال الدين، بهدف حصر الفهم الديني في النصوص الشرعية فقط (25). ظل الصراع بين الدين والفكر الحر عائقًا طويلًا أمام تطور الفلسفة، لكن عصر النهضة أظهر أن الانتصار الحقيقي يكون للفكر الحر.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

.......................

الهوامش

(1) الطويل، توفيق. النزاع بين الفلسفة والدين.. الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2019، ص 45.

(2) سعيد، محمد علي. "محاكمة سقراط". مجلة الفلسفة، العدد 12، 2015، ص 23–45.

(3) ويكيبيديا. "محاكمة سقراط"، 2016.

(4) موسوعة الفلسفة على الإنترنت، "سقراط"، 2020.

(5) موقع عربي 21. النزاع بين الدين والفلسفة، 2020.

(6) جاليليو جاليلي. "رسالة إلى الدوقة الكبرى كريستينا". ترجمة محمد الشيحة. دار الهلال، القاهرة، 1999، ص 15–47.

(7) مجلة إضاءات، 2017.

(8) عبد الله بن المقفع. مصادر إلكترونية معاصرة، 2017.

(9) يوسف، كريم. الدين والفلسفة عند ابن رشد. مطبعة الجامعة، بيروت، 2022، ص 75–109.

(10) الخلدوني، محمد. "المقدمة". دار الكتب العلمية، بيروت، 1971، ص 130–145.

(11) أبو الفضل، سليم. "محنة الحلاج.. أسطورة الفيلسوف الشاعر". دار المعارف، القاهرة، 1995.

(12) أندرو وايت. "اضطهاد العلماء: أمثلة وعبر". ترجمة ليلى حسن. دار الكتب العلمية، القاهرة، 2001، ص 88–95.

(13) بيطار، إبراهيم. كيف تفلسف العرب في العصور الوسطى: ابن سينا نموذجا. ترجمة هند مصطفى، دار الفكر العربي، القاهرة، 2022.

(14) الطويل، توفيق. النزاع بين الفلسفة والدين.. الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2019، ص 136–150.

(15) بدر، أحمد. "ابن المقفع واتهامات الزندقة". مجلة الدراسات الإسلامية، 2018، ص 112–130.

(16) ويكيبيديا. "هيباتيا"، 2005.

(17) يوسف، كريم. الدين والفلسفة عند ابن رشد. مطبعة الجامعة، بيروت، 2022، ص 104–107.

(18) الغزالي، أبو حامد. التهافت على الفلاسفة. تحقيق سامي الدروبي، دار العودة، بيروت، 2010، ص 14–30.

(19) المعهد الإسلامي للدراسات. تاريخ الفلاسفة المسلمين. القاهرة، 2017، ص 201–220.

(20) حمدان، ليلة. تاريخ الإسلام في أوروبا: الحرب على الإسلام وتداعياتها. ترجمة سامر الخطيب، دار النشر العلمي، عمّان، 2024.

(21) أوف أوتريكورت، نيكولاس. مدرسة باريس والفلسفة المدرسية. ترجمة سامي محفوظ، دار المشرق، بيروت، 2025.

(22) مارايانا. علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين، 2025.

(23) مارتن، جوزيف. النفي القسري للمورسكيين في إسبانيا. ترجمة هالة الحلبي، دار النهضة العربية، بيروت، 2021.

(24) سعيد، خالد. اضطهاد الفلاسفة في الحضارة الإسلامية. ترجمة محمود عادل، دار الثقافة، الجزائر، 2016.

(25) الحوري، محمود. إحراق الكتب في قرطبة. دار الفكر، دمشق، 2020.

المراجع

1- الطويل، توفيق. النزاع بين الفلسفة والدين.. الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، م2019.

2- سعيد، محمد علي. "محاكمة سقراط". مجلة الفلسفة، العدد 12م201٥م.

3- موسوعة الفلسفة على الإنترنت. "سقراط"، 2020م.

4- ويكيبيديا. "محاكمة سقراط"، 2016م.

5- يوسف،كريم،الدين والفلسفة عند ابن رشد،بيرزت،مطبعة الجامعة 2022م.

6- موقع عربي 21. النزاع بين الدين والفلسفة، 2020.

7- جاليليو جاليلي. رسالة إلى الدوقة الكبرى كريستينا. ترجمة محمد الشيحة. دار الهلال، القاهرة، 1999.

8- مجلة إضاءات، 2017.عبد الله بن المقفع. مصادر إلكترونية معاصرة، 2017.

9- يوسف، كريم. الدين والفلسفة عند ابن رشد. مطبعة الجامعة، بيروت، 2022.

10- الخلدوني، محمد. "المقدمة". دار الكتب العلمية، بيروت، 1971.

11- أبو الفضل، سليم. "محنة الحلاج.. أسطورة الفيلسوف الشاعر". دار المعارف، القاهرة، 1995.

12- أندرو وايت. اضطهاد العلماء: أمثلة وعبر. ترجمة ليلى حسن، دار الكتب العلمية، القاهرة، 2001.

13- بيطار، إبراهيم. كيف تفلسف العرب في العصور الوسطى: ابن سينا نموذجا. ترجمة هند مصطفى، دار الفكر العربي، القاهرة، 2022.

14- الغزالي، أبو حامد. التهافت على الفلاسفة. تحقيق سامي الدروبي، دار العودة، بيروت، 2010.

15- المعهد الإسلامي للدراسات. تاريخ الفلاسفة المسلمين. القاهرة، 2016م

16- ويكيبيديا. "هيباتيا"، 2005م.

17- حمدان، ليلة. تاريخ الإسلام في أوروبا: الحرب على الإسلام وتداعياتها. ترجمة سامر الخطيب، دار النشر العلمي، عمّان، 2024م.

18- أوف أوتريكورت، نيكولاس. مدرسة باريس والفلسفة المدرسية. ترجمة سامي محفوظ، دار المشرق، بيروت، 2025م.

19- مارايانا. علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين، 2025م.

20- مارتن، جوزيف. النفي القسري للمورسكيين في إسبانيا. ترجمة هالة الحلبي، دار النهضة العربية، بيروت، 2021م.

21- سعيد، خالد. اضطهاد الفلاسفة في الحضارة الإسلامية. ترجمة محمود عادل، دار الثقافة، الجزائر، 2016م

22- مارايانا. "علماء حاربهم الفقهاء… هؤلاء 6 من أهم علماء الإنسانية المسلمين". 2025.

23- مارتن، جوزيف. "النفي القسري للمورسكيين في إسبانيا". ترجمة هالة الحلبي. بيروت: دار النهضة العربية، الطبعة الثالثة، 2021م.

24- Arabiya"معاداة السامية في أوروبا العصور الوسطى". ترجمة محمد علي. القاهرة: دار السلام للطباعة، الطبعة الثانية، 2013.

٢٤ - الحوري، محمود. إحراق الكتب في قرطبة. دار الفكر، دمشق، 2020م

 

من علم العالم الكتابة.. تائه بين "البلوكرات" و"الترند" و"دبلوماسية الجمال"

العراق مهد أقدم الحضارات التي علمت العالم الكتابة والسياسة، والعمران والاقتصاد. يواجه اليوم أزمة وعي سياسي حادة، يظهر فيها بروز "البلوكرات" واستغلال الشهرة والجمال في الحملات الانتخابية للانتخابات المزمع انعقاده في 11 / 11 / 2025، فقد بات لبعضهن تأثير ملموس في توجيه السياسة العامة للبلاد، سواء على الصعيد الاقتصادي أم السياسي أم الدبلوماسي، ما يهدد جوهر الديمقراطية ويحول الوضع السياسي في العراق إلى ساحة للعرض والتسويق الرقمي أكثر من كونه ساحة لاختيار الكفاءة والرؤية.

  إن تطور العلوم والمعارف يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور الحياة البشرية وسعي الإنسان الدائم نحو الرقي والعمران، غير أن هذا التطور لا يسير بوتيرة واحدة في جميع الأزمنة، إذ تتباين سرعته تبعاً للظروف الحضارية والفكرية، ووفقا لظهور النابغين من العلماء والمفكرين والسياسيين الذين ينهضون بالمجتمع في فترات زمنية متفاوتة لا يمكن ضبطها بمقياس ثابت.

فربما يشهد عصر ما ظهور عدد من العباقرة الذين يدفعون عجلة الحياة إلى ذروة الكمال والنماء من دون توقف، في حين تمر أزمنة أخرى يقل فيها حضور هؤلاء، فيتراجع معها مستوى التقدم نسبيا، وهذا ما نراه اليوم وخاصة بعد عام 2003

وفي كتاب (العراق التائه) يذكر المؤلف محمود الشناوي: "إنّ ما حصل في العراق عقب أحداث نيسان 2003 شکل انعطافا تاريخيا كبيرا في المنطقة له علاقة مباشرة بالسنة والشيعة في منهجيهما التاريخيين وفي إستراتيجيتيهما عبر المئات من السنين فالطائفة السنية لم تكن تتوقع في يوم ما أن العراق سيخرج عن قبضتها لأي سبب كان، أما الشيعة العرب في العراق فقد أدى التغيير الحاصل إلى آثار كبيرة على حاضرهم ومستقبلهم فهم لأول مرة في تاريخهم ينتقلون إلى مواقع قيادية، وهم بذلك يتحملون مسؤولية كبيرة. لم يدرك الطرفان حجم ما جرى حتى الآن، وأن عجلة الزمن قد دارت وفرضت واقعا جديدا يجب أن يتعامل معه الجميع، إلا أنهم ما زالوا يتعاملون مع الواقع الجديد بعفوية وبعقول سياسية تقليدية تحكمها المصالح الآنية الشخصية والحزبية ولم يتمعنوا بعد في طبيعة ما يقع عليهم من مسؤولية تجاه الطائفة والدين والإنسانية".

أما الأكراد الذين مكنتهم خبرتهم في الإدارة الذاتية لإقليم كردستان شبه المستقل منذ عام ۱۹۹۱ من الاستفادة إلى أقصى درجة من الوضع الجديد فإنهم يجيدون ممارسة سياسة حافة الهاوية للحصول على أعلى المكاسب في كل مرحلة؛ حتى إنهم لم يكتفوا بإقليم مستقل له حكومة وبرلمان وقوات مسلحة وأمن ومخابرات وإدارة اقتصادية، بل شاركوا في كل ما جرى بعد انهيار الدولة العراقية التي حكمها البعث، ومع انفتاح كردستان على العاصمة بغداد ومقدم السياسيين الكرد البارزين إليها جاءت أحزابهم أيضا وفتحت لها مقار مختلفة ونشطت هذه الأحزاب بالذات داخل المجتمع الكردي البغدادي غير أن هذا المجتمع كان ينقسم، مع كل انتخابات جديدة ما بين التصويت تبعا لدوافع قومية أو طائفية، وفي بعض الأحيان تبعا لتوجهات علمانية.

ليس المهم ما بيناه سابقا فيقال "إن التاريخ لا يرحم الشعوب التي تنسى جذورها". والعراق، الذي أنار للعالم طريق الكتابة والحضارة قبل أكثر من سبعة آلاف عام، يبدو اليوم عالقا بين ماض مجيد وواقع سياسي مرتبك، تهيمن عليه الفوضى الرقمية والشعبوية الانتخابية. من أرض سومر وأكد وبابل، التي أبدعت أولى الشرائع وابتكرت أول أبجدية، يتفرج العالم اليوم على مشهد سياسي تتحكم فيه مواقع التواصل الاجتماعي، وتتصدره وجوه صنعتها الشهرة لا الفكر، والجمال لا الكفاءة.

حين نتأمل المشهد العراقي الراهن، ندرك حجم المفارقة بين عمق التاريخ وضحالة الواقع السياسي المرير. فبدل من أن يكون الوعي الجمعي للمجتمع امتداداً لذلك الإرث الحضاري العظيم، باتت الثقافة السياسية هشة، والأصوات الانتخابية توجه بالعاطفة (المذهب، التوجه السياسي، القبلية، العشائرية، العائلية) لا بالعقل، وبالانتماء لا بالكفاءة.

منذ عام 2003، ومع التجربة الديمقراطية الحديثة التي اعتبرها دخيلة على مجتمعاتنا الشرقية، لم تنجح النخب السياسية في العراق سواء أكانت شيعية أم سنية أم كردية في ترسيخ قيم المشاركة الواعية، بل اتسع نفوذ الولاءات الفرعية على حساب المشروع الوطني. وبدل البرامج الواقعية، هيمنت لغة الخطابات والمزايدات، فتحول البرلمان إلى ساحة صراع لا إلى مساحة تشريع وبناء بلد.

ومن أبرز مظاهر هذا التراجع وهذا ما نشاهده اليوم من صعود ظاهرة "البلوكَرات" و"صناع المحتوى الرقمي" و"الوجوه المفلترة" الذين اقتحموا المشهد الانتخابي من بوابة الشهرة الإلكترونية. فهؤلاء الذين صنعوا حضورهم في فضاءات "السوشيال ميديا" و"النوادي الليلية" و"الليالي الحمراء" او في....... الخ، وجدوا في السياسة ميدانا جديداً لتسويق الذات. ومع ضعف المعايير الفكرية لدى اغلب الناخبين، صار الطريق إلى البرلمان يمر عبر الكاميرا والهاتف او حتى في نادي ليلي كما شاهدنا بعض الفيدويات المنتشرة في السوشيال ميديا، لا عبر الفكر والبرنامج السياسي ولا نسمع اليوم ولغاية كتابة مقالتي عن أي برنامج انتخابي لأي مرشح سوى عدد قليل لا يعدون بإصبع اليد الواحدة.

ولم يتوقف المشهد عند حدود "الترند" و"اللايفات"، بل اتخذ بعدا أكثر سطحية مع استغلال جمال المرشحات في الحملات الانتخابية التي نشاهدها اليوم في جميع الشوارع وفي "السوشل ميديا"، بما فيها صور ملفتة لجذب المتابعين. وفي سياق هذا الأمر، كنت جالسا مع مجموعة من النخب الأكاديمية في مقهى على شاطئ نهر دجلة، إذ فوجئت بصديقي، دكتور(..) أكاديمي، يقول إن الصور المستخدمة لإحدى المرشحات الدكتورة (..) ليست الدكتورة نفسها كون الصورة "حقيقة جميلة جداً"، فقلت له: "أخي، أخاف الصورة حديثة أو قد تم إجراء بعض عمليات التجميل قبل الانتخابات". فرد علي مبتسما: "هذه صورته قبل أيام، لكنها جمعت بطريقة تجعلها أكثر تأثيرا". هنا بدا واضحا أن الدعاية المبكرة للمرشحة اعتمدت على التضليل البصري حتى قبل دخول الانتخابات، وهو مثال حي على كيف يتحول الجمال والصورة إلى أداة سياسية، بعيدا عن المضمون والكفاءة، وهذا في اغلب صور المرشحات.

وهذا يبين خطورة ما يحدث لا تكمن في وجود البلوكرات أو الصور الجذابة بحد ذاتها، بل في تغير منطق التلقي الجماهيري الذي أصبح يقيس المرشح بمقدار حضوره الرقمي أو جاذبيته الشكلية لا بقدراته السياسية أو الفكرية أو برنامجه الانتخابي. هذه الأزمة ليست في الأشخاص، بل في بنية الوعي العام للمجتمع الذي فقد توازنه بين الشكل والمضمون، وبين الصورة والحقيقة.

العراق اليوم أمام مفترق طرق حقيقي. فإما أن يستعيد وعيه الحضاري ويحول تجربته الديمقراطية إلى مشروع وطني ناضج، أو يترك الساحة لموجات العشوائية الرقمية التي تفرغ السياسة من مضمونها.

إن الأمم العريقة لا تقاس فقط بتاريخها، بل بقدرتها على تجديد هذا التاريخ في سلوكها وفكرها ومؤسساتها. والعراق، الذي علم البشرية الكتابة، يستطيع أن يعلمها من جديد معنى الوعي والاختيار، إذا ما وعى أن مستقبل الأوطان لا يصنع بـ"الترند" ولا بالجمال العابر، بل بالعقل، وبالقدوة، وبالإرادة الوطنية. حقيقة نحن في زمن التفاهة.

ومن الله التوفيق

***

الأستاذ المساعد الدكتور حميد ابولول جبجاب

أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر المساعد / جامعة ميسان

خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (5)

ليست هذه الخاتمة مجرّد إغلاق لسلسلة بدأت قبل أشهر؛ إنها محاولة لتجاوز الخطّ المستقيم للسرد نحو فضاء أكثر تعقيدًا: فضاء التفكيك. فالإخوان المسلمون، وقد عبروا قرنًا من الزمن منذ تأسيسهم عام ١٩٢٨، لم يعودوا مجرد حركة سياسية، بل تحولوا إلى أثر لغوي، إلى طبقة رسوبية من الخوف والرموز، تُعاد صياغتها كل مرة بأدوات مختلفة، لكنها تظل مشدودة إلى مركز واحد: الوعد بالسلطة باسم المقدّس.

وما بين الوعد والقداسة تقوم آليةٌ رمزية دقيقة يمكن تسميتها “اقتصاد المعنى”: حيث تُحوَّل الخسارة إلى رأس مالٍ دعائي، وتُعاد فهرسة الهزائم بوصفها إشارات عناية. بهذا يضمن التنظيم بقاء المخيال مشتعلًا ولو انطفأت الأفعال، إذ تغدو السردية أهمّ من الواقع، واليقين أهمّ من البرهان، والهوية أعلى من الدولة. ثمّة تحويل دائم للسياسي إلى لاهوتي، وللاهوتي إلى تقنية للتعبئة، فيتشابك العقائدي بالعملي في بنية نفعية تُحسن استثمار الخوف والأمل معًا.

حين نتأمل مسار هذه الحركة، ندرك أن أخطر ما فيها ليس اغتيالها المباشر ولا صفقاتها السرية، بل قدرتها على “تكرار ذاتها” بوصفها ذاكرة جمعية. فالطفل الذي يدرس في مدارسها، أو يشارك في معسكراتها الصيفية، لا يتعلم فقط نصوصًا دينية، بل يتشرّب تصورًا كاملًا للزمن: أن التاريخ يبدأ من الإسلام وينتهي عند الخلافة، وأن الحاضر مجرد معبر ناقص نحو ذلك “الموعود”. هنا يتحول الزمن إلى دائرة مغلقة، يُلغى فيها المستقبل لصالح ماضٍ مؤجل. هذا الاختزال للزمن هو ما يجعل الحركة عصية على الهزيمة؛ فهي دومًا قادرة على إعادة تعريف الخسارة باعتبارها “ابتلاء”، والانكسار كونه “تمهيدًا للنصر القادم”.

على مستوى اللغة، نجح الإخوان في إنتاج قاموس خاص، يتحرك بين الدعوي والسياسي. كلمات مثل “التمكين”، “المفاصلة”، “السمع والطاعة” لم تعد مفردات داخلية، بل تسربت إلى الخطاب العام، لتعيد تشكيل الوعي السياسي والديني لدى شرائح واسعة. الخطر هنا أن اللغة نفسها تصبح أداة للهيمنة: فهي لا تشرح الواقع بل تُعيد صياغته وفق منطق الجماعة. وما دام القاموس حاضرًا، فإن الفكرة تظل قادرة على العودة، حتى إن تفككت البنية التنظيمية.

ومن ثمّ فإن القاموس الذي راكمته الجماعة لا يقدّم معاني فحسب، بل يفرض “قواعد قراءة” تجعل أي مفهوم خارج سياق التنظيم مريبًا: الحرية تُقرأ “انفلاتًا”، التعددية “تذررًا”، النقد “تطاولًا على المقدّس”. هذه هي بنية العنف الرمزي: السيطرة ليست في المنع الصريح دائمًا، بل في صوغ عين القارئ وأذن السامع بحيث لا يرى ولا يسمع إلا ما يكرّس السردية المهيمنة. لذلك استمر حضور مفردات مثل “التمكين” و”المفاصلة” حتى عند خصومهم، إذ انزلقت اللغة العامة إلى ملعبهم دون وعي.

لكن اللافت أن الجماعة لم تكتفِ بالسيطرة على اللغة والزمن، بل حاولت أن تُعيد صياغة صورة الجسد. الجسد هنا ليس بيولوجيًا فقط، بل سياسيًا ورمزيًا. فالفرد الإخواني يُدرَّب على أن يكون “جسدًا منضبطًا”: صوته مضبوط، ملبسه مضبوط، سلوكه مضبوط، وحتى انفعالاته مكبوحة باسم الجماعة. هذه السيطرة على الجسد الفردي هي المدخل للسيطرة على الجسد الاجتماعي. وحين خرجوا في رابعة العدوية مثلًا، لم تكن مجرد مظاهرة، بل كانت عرضًا هائلًا للجسد الجماعي، جسد يُقدَّم كضحية وكجيش في آن واحد.

ويتجلّى ذلك في “تقنية الجسد” التي تُدرَّس ضمنيًا: مواعيد محددة، لباس موحّد الإيحاء، نبرة صوتية متشابهة، اقتصاد في الحركة، وميل إلى محو الفروق الفردية لصالح صورة الجندي الحزبي. حين يظهر الحشد في الفضاء العام، كما في رابعة، فإننا أمام عرضٍ مسرحيّ للجسد الجماعي أكثر منه فعلًا احتجاجيًا محضًا: منصّات، أناشيد، رموز، إشارات يد، لغة لونية، توزيع للأدوار بين دعاة وحرس ومُنشدين. العرض لا يخاطب الدولة فقط، بل يخاطب العضو ذاته كي يرى نفسه جزءًا من “أمّة مصغّرة” مكتفية بذاتها.

بعد ٢٠١٣، ومع ضربات الإقصاء والتشظي، تحوّل التنظيم الدولي إلى ما يشبه “شبحًا متحركًا”. في لندن وبرلين وجنيف، صارت له مؤسسات ومراكز بحثية تحمل واجهات مدنية، لكن جوهرها ظل إعادة إنتاج السردية القديمة: نحن ضحايا، نحن البديل. في إسطنبول والدوحة، جرى الاستثمار في الإعلام الفضائي والرقمي. من “يوتيوب” إلى “تلغرام”، ومن البث المباشر إلى مقاطع “تيك توك”، استخدم الإخوان الأدوات الجديدة لتغليف خطاب قديم. لكن المفارقة أن هذه الوسائط، بدل أن تمنحهم شرعية، فضحت تهافتهم: فالشباب الذي شاهد محاولاتهم لم يعد يرى فيها سوى نسخة رديئة من دعايات الحرب الباردة.

وفي الفضاء الرقمي بعد ٢٠١٣، تعلّم التنظيم كيف يشتغل بمنطق الخوارزميات: مقاطع قصيرة عالية التأثير، عناوين صادمة، إعادة تدوير اللقطات القديمة بكادرات جديدة، توظيف المؤثرين الصغار في الجاليات، واستثمار غرف الدردشة المغلقة لتكثيف “الإحساس بالصحبة”. ليس المقصود إقناع الخصوم، بل بناء غرفة صدى لأتباع محتملين عبر جرعات صغيرة متتابعة من المظلومية والحنين. هنا يتحوّل الهاتف إلى محرابٍ شخصي، ويتحوّل البثّ المباشر إلى منبر متحرك يختصر الطريق بين “الأمير” والقاعدة.

أما في أوروبا بعد ٢٠١٣، فقد اتسعت “المنطقة الرمادية”: جمعيات ثقافية وتعليمية وخيرية تبدو مدنية مئة بالمئة، لكنها تؤدي عمليًا وظيفة إعادة تدوير الشبكات والشرعية. الخطاب الموجّه للخارج ليبرالي مطمئن، والخطاب الداخلي تعبوي مغلق. وبين الخطابين تُدار لعبة قانونية دقيقة تستثمر هوامش الحرية والتمويل العابر للحدود. هذه الازدواجية لا تُنتج مواطنة مزدوجة بل هوية معلّقة، يستفيد منها التنظيم كاحتياطي للكوادر والخطاب.

النقد الأعمق هنا أن الجماعة تحولت إلى “بنية طفيليّة”، تعيش على كل فشل سياسي أو اقتصادي في المنطقة. فإذا انهارت دولة، قفز خطابهم كبديل. وإذا فشلت ثورة، ادّعوا أنهم الطريق الصحيح. وإذا انقسم المجتمع، لبسوا ثوب الوسيط. هذه الطفيليّة تفسر استمرارهم رغم السقوط المتكرر: فهم لا يملكون مشروعًا، لكنهم يتغذون على غياب المشروع عند الآخرين.

وعندما تنسدّ طرق الحكم أو المشاركة، تتبدّى “الطفيلية السياسية” كآلية بقاء: الدخول من ثغرات المجتمع الأهلي، ركوب موجة العمل الخيري في الأزمات، التخفّي خلف واجهات حقوقية، تقديم خدمات تعليمية أو صحية بديلاً من الدولة، ثم تحويل الحاجة إلى ولاء. إنها إدارة للأزمة لا حلّ لها؛ فبدل أن تُبنى الدولة تتضخّم الشبكات، وبدل أن تُصلح المؤسسة يُستثمر انهيارها. لذا بدت الجماعة قادرة على النجاة في الخراب، لكنها عاجزة عن البناء في الاستقرار.

من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن القول إن الجماعة صنعت ما يشبه “المصدّ” النفسي لأعضائها: كل نقد خارجي يُترجم فورًا إلى عداء للإسلام، وكل مساءلة تتحول إلى “حرب على الدين”. بهذا الشكل، يُحصَّن الأعضاء ضد الشكوك، وتُغلق الدائرة hermetically. هذه التقنية النفسية تجعل الخروج من الجماعة أكثر صعوبة من الدخول إليها، لأنها تقدم معنى جاهزًا للعالم: ثنائية الأبيض والأسود، الخير والشر، نحن وهم.

نفسيًا، يقوم البناء على ثلاث ركائز: أولًا “التنافر المعرفي” حيث يُعاد تأويل الوقائع المزعجة لتلائم العقيدة؛ وثانيًا “التفكير المؤامراتي” بوصفه مسكّنًا جاهزًا لأي فشل؛ وثالثًا “تكلفة الخروج” العالية، إذ يرتبط العضو بسلسلة علاقات وذكريات ومعانٍ تمنع الانفصال. إن من يهمّ بالانسحاب لا يخسر جماعة فحسب، بل يخسر عالمًا لغويًا كاملاً يوفّر له معنى الوجود. ومن هنا يصبح النقد غسلًا للولاء، والمراجعة خيانةً للدموع التي ذُرفت في ساحات التنظيم.

الفلسفة هنا تفرض سؤالًا آخر: هل يمكن الحديث عن الإخوان باعتبارهم “مشروعًا سياسيًا” أصلاً؟ أم أنهم مجرد جهاز لإعادة إنتاج الطاعة باسم الدين؟ الواقع يشير إلى الاحتمال الثاني. فحين ننظر إلى تاريخهم، نجد أن كل مرة اقتربوا فيها من السلطة انتهوا إلى إعادة إنتاج الاستبداد: من تجربة السودان، إلى مصر بعد ٢٠١٢، إلى تونس ما بعد الثورة. لم تكن المشكلة في نقص التجربة فحسب، بل في طبيعة البنية: أي مشروع يقوم على إلغاء الفرد لصالح الجماعة، وعلى إلغاء المجتمع لصالح التنظيم، لا يمكن إلا أن ينتهي إلى نسخة أخرى من الاستبداد.

اليوم، بعد قرن تقريبًا من ميلاد الجماعة، يمكن القول إن مشروعها يعيش أعمق أزماته. فالشباب العربي، الذي خرج في شوارع ٢٠١١ مطالبًا بالحرية والعدالة، لم يعد يرى في الإخوان سوى وجه آخر من وجوه الأزمة. التجربة المباشرة مع حكمهم، في مصر وتونس والمغرب والسودان، أظهرت أن الشعارات لا تكفي، وأن ما وراء “الإسلام هو الحل” فراغ هائل. لهذا لم يعد السؤال: “هل سيسقطون؟” بل: “ماذا سيبقى منهم بعد السقوط المتكرر؟”.

ومن زاويةٍ سوسيولوجية أوسع، يغدو جيل ما بعد ٢٠١١ أقلّ قابليةً للسحر الشعاراتي وأكثر حساسيةً لقضايا الكفاءة والشفافية والمساواة الجندرية والعدالة المعيشية.

إن إحساسًا متزايدًا ولد من الحروب الأهلية والانهيارات الاقتصادية بأن “الدولة الدينية” ليست خلاصًا بل “مسرّعًا للفشل”، وبأن الطريق إلى الكرامة يمر عبر عقدٍ اجتماعي يساوي بين الناس لا عبر تعميد السياسة بالمقدّس. لذا تراجعت قوة الخطاب الوعظي لصالح مطالب ملموسة: مدرسة جيدة، مستشفى متاح، شغل كريم، قضاء مستقل، وإدارة لا تُذلّ المواطن.

الخاتمة إذن ليست حُكمًا نهائيًا بل دعوة للتفكير. الإخوان المسلمون ليسوا مجرد فصل في تاريخ السياسة العربية، بل مرآة لانكساراتنا الكبرى: عجزنا عن بناء عقد اجتماعي، ضعف مؤسساتنا، خلطنا بين المقدس والزمني. وما لم ننجح في معالجة هذه الجذور، سيظل أثرهم يتكرر، حتى وإن انهار التنظيم نفسه.

وقبل أن نطوي هذه الوقفة، يجدر التأكيد أن المقصود من هذا التفكيك ليس تصفية حسابات مع الماضي بقدر ما هو اقتراحٌ لمستقبل قابل للعيش.

إن بناء سرديةٍ بديلة يتطلب لغةً جديدة لا تقوم على الثنائيات القاتلة، بل على التنوّع الخلّاق؛ ويتطلب مؤسساتٍ قادرة على مراكمة الثقة لا على ابتزاز العواطف. عندها فقط تنكسر الدائرة، ويستعيد الزمن العربي مستقبله بدل الدوران الأبدية حول ماضٍ يُستدعى لتبرير حاضرٍ مأزوم. بهذا نكون قد أنهينا هذه السلسلة المكوّنة من خمسة أجزاء عن الإسلام السياسي والإخوان المسلمين. لم يكن الهدف مجرد أرشفة الوقائع، بل محاولة لفحص البنية العميقة التي جعلت هذا المشروع ممكنًا وخطيرًا في آن. وهذه الوقفات الخمس ليست سوى تلخيص أولي لكتاب أوسع، اعتمدت فيه على مراجع موثوقة، وهو الآن قيد المراجعة قبل أن يُدفع به للنشر.

لعل الغاية النهائية من هذا الجهد أن نفتح نقاشًا يتخطى الإدانة السطحية، ليعيد مساءلة العلاقة المعقّدة والملتبسة بين الدين والسياسة، بين النص والحرية، بين منطق الطاعة ومنطق المواطنة.

***

إبراهيم برسي

بين التحوّل الرقمي، والاضطراب الوجودي، وعناق الذكاء الاصطناعي

1. مقدمة: ولادة في زمنٍ بلا فجرٍ ولا غروب

- في لحظةٍ تاريخية فارقة، حين كان العالم يودّع القرن العشرين ويستقبل الألفية الثالثة بمزيجٍ من الترقب والقلق، كان ثمة جيلٌ جديد يُولد على أعتاب ثورةٍ لم تُطلق رصاصة واحدة، ولم ترفع شعارًا في ميدان: الثورة الرقمية. هذا الجيل، الذي سيُعرف لاحقًا باسم "جيل Z" أو "الجيل الرقمي الأصلي"، ظهر في الفترة الممتدة بين منتصف التسعينيات حتى مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين (1995-2010 تقريبًا)، ليس كمجرد فئة عمرية جديدة، بل كظاهرة أنثروبولوجية تستحق التأمل العميق والدراسة المستفيضة.

- إنهم أبناء الشاشة الأولى، الجيل الذي لم يعرف العالم قبل الإنترنت، ولم يختبر الحياة خارج فضاء الاتصال الدائم. تصف الباحثة الأمريكية جان توينغ في كتابها الرائد "iGen: Why Today's Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy" (دار نشر سايمون وشوستر، 2017، ص 4-7) هذا الجيل بعبارةٍ موحية: "ولد وفي يده شاشة، يعيش واقعه الافتراضي قبل الواقعي". هذه الملاحظة الثاقبة لا تقتصر على وصف علاقة تقنية بحتة، بل تشير إلى تحولٍ جوهري في بنية الوعي الإنساني ذاته، حيث أصبح الرقمي ليس مجرد أداة أو وسيط، بل فضاءً وجوديًا أوليًا يُشكّل الإدراك والهوية والعلاقات الاجتماعية.

- لكن ما يميز جيل Z عن سابقيه ليس فقط استخدامه المكثف للتكنولوجيا – فجيل الألفية (الميلينيالز) الذي سبقه كان أيضًا رقميًا بامتياز – بل طبيعة العلاقة الأنطولوجية مع العالم الرقمي. بينما "هاجر" الميلينيالز إلى العالم الرقمي، وتعلموا لغته كما يتعلم المرء لغة أجنبية، كان جيل Z "مواطنًا أصليًا" في هذا الفضاء، يتنفس أكسجينه الرقمي منذ اللحظة الأولى. هذا الاختلاف الجوهري يُفسّر لماذا يُظهر هذا الجيل مستويات غير مسبوقة من الطلاقة التكنولوجية والتعددية الرقمية، لكنه أيضًا يعاني من مستويات قلق واكتئاب أعلى من أي جيلٍ سبقه، كما توثق دراسة "الصحة النفسية للمراهقين في العصر الرقمي" التي نُشرت في مجلة الجمعية الطبية الأمريكية (JAMA Pediatrics, 2019, Vol. 173, No. 3, pp. 235-242).

- في السياق العربي تحديدًا، يكتسب جيل Z أبعادًا أكثر تعقيدًا وتشابكًا. فهذا الجيل لم يولد فقط في عالمٍ رقمي عابر للحدود، بل وُلد أيضًا في لحظة تاريخية حرجة يمكن وصفها بأنها "ما بعد الأيديولوجيا"، حيث تهاوت السرديات الكبرى التي هيمنت على الخطاب العربي طوال القرن العشرين: القومية العربية التي حلمت بوحدة من المحيط إلى الخليج، والاشتراكية التي وعدت بالعدالة الاجتماعية، والإسلام السياسي الذي رفع شعار "الحل". وفي فراغ هذه السرديات المنهارة، برزت هويات جديدة: رقمية، مرنة، هجينة، تتشكل وتتبدل مع الموجات الإلكترونية بسرعة مذهلة.

- يشير المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه الأساسي "التراث والحداثة" (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1991، ص 233) إلى أن انهيار أنماط التفكير التقليدية يخلق بالضرورة "جيلًا جديدًا من الحسّ التاريخي"، وهذه الملاحظة تنسحب بدقةٍ مذهلة على جيل Z العربي اليوم. فهذا الجيل لا يحمل على كاهله أعباء الماضي الأيديولوجي، ولا يشعر بالالتزام نحو الولاءات الجماعية الصلبة التي قيّدت أجيال آبائه وأجداده. بدلاً من ذلك، يتحرك بحرية نسبية (وإن كانت محفوفة بقلقها الخاص) عبر فضاءات متعددة ومتداخلة: محلية وعالمية، واقعية وافتراضية، دينية وعلمانية، محافظة ومتحررة.

- وإذا كان الفيلسوف الفرنسي جان-فرانسوا ليوتار قد أعلن في كتابه "الوضع ما بعد الحداثي" (دار منشورات مينوي، باريس، 1979، ص 37) عن نهاية "السرديات الكبرى" في الغرب، فإن جيل Z العربي يعيش هذه النهاية بطريقةٍ مختلفة ومأساوية أحيانًا: فهو يشهد انهيار السرديات الكبرى دون أن تكون قد أنجزت مشروعها التحرري، ويدخل عصر ما بعد الحداثة دون أن يكون قد عاش الحداثة بشكلٍ كامل. هذا الوضع الملتبس – الذي يمكن وصفه بـ"ما بعد الحداثة المبكرة" أو "الحداثة المجهضة" – يضع هذا الجيل في موقعٍ وجودي فريد: بين عوالم متعددة ومتناقضة، عليه أن يصنع معناه الخاص في غياب الخرائط الجاهزة.

- لكن الضوء الأزرق المنبعث من الشاشات التي لا تفارق أيديهم – والذي أعطى هذه الدراسة عنوانها – ليس مجرد ظاهرة فيزيائية أو صحية (رغم أن تأثيراته على أنماط النوم والصحة البصرية موثقة علميًا في دراسات عديدة، منها دراسة "التعرض للضوء الأزرق وإيقاعات الساعة البيولوجية" المنشورة في مجلة Nature Reviews Neuroscience، 2020، المجلد 21، ص 213-229). بل هو أيضًا استعارة مركزية لفهم وضع هذا الجيل: فالضوء الأزرق يمثل حالة من "اليقظة الدائمة"، حيث لا يوجد فجر حقيقي ولا غروب، بل استمرارية مضيئة لا تنقطع، تلغي الحدود بين النهار والليل، بين العمل والراحة، بين الخاص والعام، بين الحقيقي والافتراضي.

- هذا الجيل يواجه تحديات غير مسبوقة: من الانهيار المناخي الذي يهدد مستقبل الكوكب، إلى الاضطرابات الجيوسياسية المتصاعدة، إلى الأزمات الاقتصادية المزمنة التي تجعل الحلم بحياة مستقرة أشبه بالخيال، وصولاً إلى الأزمة النفسية والوجودية التي يعيشها في علاقته المعقدة مع الشاشات والهويات المتعددة. وفي الوقت نفسه، هو أول جيل يشهد ظهور الذكاء الاصطناعي كقوة تحويلية جذرية قد تعيد تعريف ما يعنيه أن تكون إنسانًا.

- إن فهم جيل Z ليس مجرد ممارسة أكاديمية أو فضول سوسيولوجي، بل ضرورة استراتيجية لفهم المستقبل القريب. فهذا الجيل – الذي يشكل اليوم ما يقارب ثلث سكان العالم العربي حسب إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2023 – هو الذي سيقود التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العقود القادمة. وعلى عكس الأجيال السابقة التي يمكن فهمها من خلال أطرٍ نظرية تقليدية، يتطلب جيل Z أدوات تحليلية جديدة، منهجيات بحثية مبتكرة، ونظرة شمولية تدمج بين علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا الرقمية والدراسات الثقافية.

- هذه الدراسة تسعى إلى تقديم قراءة نقدية ومتعمقة لهذا الجيل، ليس من موقع التمجيد الأعمى ولا من موقع الإدانة السهلة، بل من موقع الفهم التحليلي الذي يعترف بالتناقضات والتعقيدات. سنستكشف معًا كيف يعيد جيل Z تشكيل مفاهيم الهوية والانتماء والعمل والعلاقات، وكيف يتفاعل مع التقنيات الجديدة – خصوصًا الذكاء الاصطناعي – بطرقٍ تختلف جذريًا عن الأجيال السابقة.

2. النشأة: رحم الإنترنت وحليب العولمة

- لم تكن نشأة جيل Z مجرد تعاقب طبيعي للأجيال، بل كانت ولادة في رحم تاريخي استثنائي، محفوف بالتحولات الجذرية والانقلابات البنيوية التي أعادت تشكيل معنى الإنسانية ذاتها. فقد نشأ هذا الجيل وسط ثلاثة تحولات كبرى متداخلة ومتشابكة، شكّلت معًا المصفوفة الوجودية التي حددت ملامحه الأساسية، ورسمت حدود إمكانياته وأزماته في آن واحد.

2.1. الثورة الرقمية والاتصالية: من ندرة المعلومة إلى طوفانها

- التحول الأول والأكثر جذرية هو الثورة الرقمية والاتصالية التي جعلت المعلومة متاحة لحظة بلحظة، بل وحوّلت طبيعة المعرفة نفسها من كيان نادر ومحمي في المكتبات والمؤسسات التعليمية، إلى سيل جارف يتدفق عبر الشاشات دون توقف. في عام 1995، عندما ولد أول أفراد هذا الجيل، كان الإنترنت لا يزال ترفًا تقنيًا محدودًا، لكن بحلول عام 2010، كان قد تحول إلى بنية تحتية عالمية تخترق كل جوانب الحياة. هذا التحول السريع – الذي استغرق أقل من عقدين – لم يكن له سابقة في التاريخ البشري من حيث السرعة والعمق.

- يصف الباحث البريطاني ديفيد بكنجهام في كتابه "نشأة في العصر الرقمي: الأطفال والشباب والثقافة الإعلامية الجديدة" (مطبعة بوليتي، كامبريدج، 2007، ص 23-29) هذا التحول بأنه أكثر من مجرد توفر تقني للأدوات، بل هو "إعادة تشكيل جذرية لبيئة النمو النفسي والاجتماعي للأطفال". فالطفل الذي ينشأ اليوم لا يتعلم القراءة والكتابة فقط، بل يتعلم أيضًا "القراءة الرقمية" و"الكتابة متعددة الوسائط"، يتنقل بسلاسة بين النصوص والصور والفيديوهات والألعاب التفاعلية، في تجربة معرفية لا خطية ومتشعبة تختلف جوهريًا عن التجربة المعرفية الخطية التي عرفتها الأجيال السابقة.

- هذا التحول أنتج ما يسميه عالم الاجتماع الإسباني مانويل كاستيلز في كتابه الموسوعي "عصر المعلومات: الاقتصاد والمجتمع والثقافة" (دار نشر بلاكويل، أكسفورد، 1996-1998، المجلد الأول، ص 356-362) بـ"مجتمع الشبكة"، حيث لم تعد السلطة تتركز في المؤسسات الهرمية التقليدية، بل تتوزع عبر شبكات أفقية من التواصل والتبادل. وجيل Z هو أول جيل ينشأ "داخل" هذه الشبكات وليس خارجها، مما يعني أن بنيته النفسية والمعرفية تتشكل أصلاً وفق منطق الشبكة: اللامركزية، التعددية، السيولة، الاتصال الدائم، والتفاعلية المستمرة.

- لكن هذا الثراء المعلوماتي الهائل جاء بثمنه الباهظ. فقد أدى الطوفان المعلوماتي إلى ما يسميه عالم النفس الأمريكي باري شوارتز في كتابه "مفارقة الاختيار: لماذا الأكثر هو الأقل" (دار نشر إيكو، نيويورك، 2004، ص 77-91) بـ"شلل الاختيار" و"قلق الوفرة". فعندما تكون كل المعلومات متاحة، وكل الخيارات مفتوحة، يصبح اتخاذ القرار نفسه عبئًا نفسيًا ثقيلاً. وهذا ما يفسر جزئيًا المستويات المرتفعة من القلق والتردد التي تميز جيل Z، رغم – أو بسبب – كل الإمكانيات المتاحة له.

2.2. التحول النيوليبرالي: من المواطن إلى المشروع الفردي

- التحول الثاني الذي شكّل نشأة جيل Z هو التحول النيوليبرالي العميق في التعليم والعمل والعلاقات الاجتماعية، حيث أصبح النجاح الفردي مقياسًا للكفاءة والقيمة الإنسانية، لا العدالة الاجتماعية أو التضامن الجماعي. هذا التحول – الذي بدأ في الثمانينيات مع صعود الثاتشرية والريغانية في الغرب، وانتشر عالميًا بعد انهيار المعسكر الاشتراكي – وصل إلى ذروته في الفترة التي نشأ فيها جيل Z.

- يوضح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه "أفعال المقاومة: ضد استبداد السوق" (مطبعة نيو برس، نيويورك، 1998، ص 31-43) كيف أن النيوليبرالية ليست مجرد سياسة اقتصادية، بل هي "مشروع أيديولوجي شامل يعيد تعريف الإنسان كرأسمال بشري، وكل علاقة اجتماعية كمعاملة سوقية". وجيل Z هو أول جيل ينشأ بالكامل داخل هذا المنطق، حيث يُقال له منذ الطفولة المبكرة إنه يجب أن "يستثمر في نفسه"، و"يبني علامته التجارية الشخصية"، و"يطور مهاراته باستمرار" ليظل "قابلاً للتسويق" في سوق عمل متقلب وشرس.

- هذا التحول انعكس بشكل جذري على نظام التعليم. فقد تحول التعليم – كما يشرح الباحث الأمريكي هنري جيرو في كتابه "تعليم وأزمة القيم العامة: تحدي التعليم العالي النيوليبرالي" (دار نشر بيتر لانغ، نيويورك، 2014، ص 89-104) – من فضاء لبناء المواطن المستنير والناقد، إلى مؤسسة لإنتاج "عمال المعرفة" القابلين للتوظيف. المناهج أصبحت موجهة نحو "مهارات القرن الحادي والعشرين" و"الكفاءات السوقية"، بينما تراجعت العلوم الإنسانية والتفكير النقدي باعتبارها "غير نافعة اقتصاديًا".

- في العالم العربي، اتخذ هذا التحول أشكالاً خاصة. فقد تزامن مع تراجع دور الدولة الرعوية التي كانت – رغم كل عيوبها – توفر شبكة أمان اجتماعي نسبية من خلال التعليم المجاني والتوظيف الحكومي المضمون. مع انهيار هذا النموذج تحت ضغوط العولمة وبرامج التكيف الهيكلي، وجد جيل Z نفسه في فراغ: لا الدولة قادرة على توفير الأمان، ولا السوق كريمة بما يكفي لتوفير الفرص. النتيجة كانت جيلاً محملاً بمسؤولية "النجاح الفردي" دون امتلاك الأدوات الحقيقية لتحقيقه، مما خلق إحساسًا عميقًا بالإحباط وانعدام الأمان.

2.3. إعادة توزيع السلطة: من المؤسسة إلى المؤثر

- التحول الثالث هو تراجع سلطة المؤسسات التقليدية – الأسرة، المدرسة، الكنيسة أو المسجد، الأحزاب السياسية، وسائل الإعلام التقليدية – أمام سلطة جديدة موزعة ومنتشرة: سلطة الإنترنت و"المؤثرين" وشبكات التواصل الاجتماعي. هذا التحول لا يعني اختفاء السلطة، بل إعادة توزيعها وتشتيتها عبر فاعلين جدد وآليات جديدة.

- توضح دراسة شاملة للأمم المتحدة بعنوان "تقرير الشباب العالمي 2020: ريادة الأعمال الاجتماعية للشباب وأجندة 2030" (الأمم المتحدة، نيويورك، 2020، ص 14-18) أن جيل Z هو الأكثر تعليمًا واتصالاً بالعالم في التاريخ البشري، حيث يتمتع أفراده بمعدلات التحاق بالتعليم غير مسبوقة، وبإمكانية الوصول إلى المعلومات والتواصل عبر القارات بنقرة واحدة. لكن التقرير نفسه يكشف عن مفارقة مؤلمة: رغم كل هذا الاتصال، يعاني هذا الجيل من مستويات مرتفعة جدًا من القلق والوحدة والاكتئاب، أعلى بكثير من الأجيال السابقة. فالاتصال الرقمي، كما تبين، لا يعوض عن الاتصال البشري الحقيقي، بل قد يعمّق الشعور بالعزلة.

- هذه المفارقة تعكس تحولاً عميقًا في طبيعة السلطة والتأثير. في الماضي، كانت سلطة التوجيه والتشكيل الثقافي محتكرة من قبل مؤسسات واضحة ومحددة: الوالدان يعلمان القيم، المدرسة تنقل المعرفة، رجل الدين يفسر الدين، الدولة تحدد الهوية الوطنية، ووسائل الإعلام تضع الأجندة العامة. أما اليوم، فقد تفتتت هذه السلطة وتوزعت عبر ملايين "المؤثرين" على يوتيوب وإنستغرام وتيك توك، كل واحد منهم يبني "مجتمعه" الخاص، وينشر "رسالته" الخاصة، ويشكل "أتباعه" بطرق قد تكون أكثر فعالية من المؤسسات التقليدية.

- يحلل الباحث الأمريكي دانا بويد في كتابها "إنه معقد: الحياة الاجتماعية للمراهقين المتصلين بالشبكة" (مطبعة جامعة ييل، نيو هيفن، 2014، ص 156-178) كيف أن الشباب اليوم لا يستهلكون المحتوى الرقمي فحسب، بل ينتجونه ويعيدون إنتاجه في عملية تفاوض مستمرة حول الهوية والانتماء. الهوية لم تعد معطى ثابتًا يُورث من الأسرة والمجتمع، بل أصبحت "مشروعًا" مستمرًا يتم بناؤه وإعادة بنائه يوميًا من خلال التفاعلات الرقمية، الصور المنشورة، التعليقات المتبادلة، والانتماءات المختارة.

2.4. السياق العربي الخاص: جيل ما بعد الربيع

- في العالم العربي تحديدًا، تداخلت هذه التحولات الثلاثة الكبرى مع تحول رابع فارق ومأساوي: تحولات ما بعد الربيع العربي (2011 وما بعدها). فقد شهد الشباب العربي في سنوات تشكّلهم الحرجة انهيار الدولة الوطنية في بعض البلدان (سوريا، ليبيا، اليمن)، أو تشظيها وإعادة تركيبها قسريًا في بلدان أخرى (مصر، تونس). وفي خضم هذا الانهيار، وجدوا في الفضاء الرقمي "وطنًا رمزيًا بديلاً" – ليس بالمعنى الطوباوي الساذج، بل بمعنى فضاء يمكن فيه التعبير والتنظيم والتخيل بحرية نسبية لم توفرها الدولة الفيزيائية.

- يشير تقرير "الشباب العربي السنوي 2023" الصادر عن مؤسسة ASDA'A BCW (دبي، 2023، ص 9-11) إلى أن أكثر من 70% من الشباب العرب يعتبرون وسائل التواصل الاجتماعي المصدر الأساسي للأخبار والمعلومات والتعبير عن الرأي، متجاوزين بذلك وسائل الإعلام التقليدية التي ينظرون إليها بشك عميق باعتبارها أدوات دعاية رسمية. وما هو أكثر دلالة: التقرير يكشف أن نصف الشباب العرب تقريبًا يفضلون الهجرة بحثًا عن مستقبل أفضل، مما يعكس أزمة ثقة عميقة في إمكانية تحقيق حياة كريمة في بلدانهم.

- هذه الرغبة في الهجرة ليست مجرد تطلع اقتصادي، بل هي تعبير عن أزمة انتماء أعمق. فجيل Z العربي نشأ في لحظة تاريخية حرجة، حيث شهد لحظة أمل كبيرة (الربيع العربي) تتحول إلى خيبة أكبر (الثورات المضادة، الحروب الأهلية، الاستبداد المتجدد). هذه التجربة المريرة علّمته درسًا قاسيًا: لا يمكن الثقة بالوعود الكبرى، ولا بالمشاريع الجماعية، ولا بالدولة، ولا حتى بالثورة. ما يمكن الثقة به هو فقط "المشروع الذاتي" والشبكات الأفقية من العلاقات المختارة.

- يصف الباحث اللبناني فواز طرابلسي في كتابه "الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان" (دار الساقي، بيروت، 2021، ص 267-283) هذا الجيل بأنه "جيل ما بعد الأيديولوجيا وما بعد الدولة"، جيل لا يحمل ولاءات صلبة لأحزاب أو عقائد، بل يتحرك بسيولة براغماتية بين خيارات متعددة ومتناقضة، مُشكلاً تحالفات مؤقتة حول قضايا محددة (البيئة، الحريات المدنية، مكافحة الفساد) دون الارتباط بإطار أيديولوجي شامل.

2.5. البيئة الاقتصادية: جيل الهشاشة المهيكلة

- لا يمكن فهم نشأة جيل Z دون استحضار البيئة الاقتصادية القاسية التي نشأ فيها. فهذا الجيل ولد بعد الأزمة المالية الآسيوية (1997)، ونشأ خلال فقاعة الدوت كوم (2000-2001)، وترعرع في ظل الأزمة المالية العالمية (2008)، ودخل سوق العمل في زمن الجائحة (2020) والتضخم العالمي. بعبارة أخرى: لم يشهد هذا الجيل أبدًا فترة استقرار اقتصادي حقيقي.

- يصف الاقتصادي البريطاني غاي ستاندينغ في كتابه "البريكاريا: الطبقة الخطرة الجديدة" (دار نشر بلومزبري، لندن، 2011، ص 6-24) كيف أن جيل Z يدخل عالم عمل تسوده "الهشاشة المهيكلة": عقود مؤقتة، عمل حر بلا ضمانات، اقتصاد المنصات، التوظيف عند الطلب (gig economy)، وغياب أي أمان وظيفي. هذا الواقع الاقتصادي القاسي يفسر الكثير من القلق والإحباط الذي يميز هذا الجيل، فهو يعيش في حالة عدم يقين دائم بشأن مستقبله المادي، رغم كل التعليم والمهارات التي اكتسبها.

- في العالم العربي، تتضاعف هذه الأزمة. فمعدلات البطالة بين الشباب تصل في بعض البلدان إلى 30-40%، والوظائف المتاحة غالبًا ما تكون منخفضة الأجر وغير مستقرة. وحسب تقرير "آفاق الشباب العربي الاقتصادية" الصادر عن صندوق النقد العربي (أبوظبي، 2022، ص 43-56)، فإن الشباب العربي يحتاج إلى انتظار فترة أطول بكثير من أقرانه في مناطق أخرى لتحقيق الاستقلال المالي، والزواج، وتأسيس أسرة، مما يؤجل كل معالم الانتقال إلى "البلوغ الاجتماعي".

- هذا التأجيل المزمن لمعالم الرشد يخلق ما يسميه علماء الاجتماع "البلوغ الممتد" (emerging adulthood): مرحلة انتقالية طويلة بين المراهقة والرشد الكامل، يبقى فيها الشباب معلقين في حالة من "ليس بعد": ليسوا مراهقين، لكنهم ليسوا راشدين مستقلين أيضًا. وهذا التعليق الوجودي يساهم في القلق الهوياتي والوجودي الذي يميز هذا الجيل.

- إن نشأة جيل Z، إذن، لم تكن في "رحم" واحد بل في أرحام متعددة ومتناقضة: رحم الإنترنت الذي وعد بالحرية والاتصال، ورحم النيوليبرالية الذي فرض منطق المنافسة والفردية، ورحم انهيار المؤسسات الذي خلق فراغًا سلطويًا وهوياتيًا، ورحم الهشاشة الاقتصادية الذي أنتج قلقًا وجوديًا دائمًا. هذه الأرحام المتناقضة شكّلت معًا جيلاً معقدًا ومليئًا بالتناقضات: متصل لكن وحيد، متعلم لكن قلق، حر لكن مقيد، عالمي لكن بلا انتماء واضح.

3. سمات جيل Z: بين التمرد والقلق

- يُعرف جيل Z، الذي يشمل الأفراد المولودين بين عامي 1997 و2012، بأنه الجيل الأكثر تنوعًا وتأثرًا بالتكنولوجيا في التاريخ. هذا الجيل، الذي يُشكل نحو 32% من سكان العالم، نشأ في عصر الإنترنت السريع والشبكات الاجتماعية، مما جعله يمتلك خصائص فريدة تجمع بين الثقة بالنفس والقلق الوجودي. في السياق العربي، يبرز جيل Z كقوة دافعة للتغيير، حيث يواجه تحديات اقتصادية واجتماعية مثل البطالة والفساد، لكنه يستخدم الأدوات الرقمية للتعبير عن نفسه وتشكيل هويته. وفقًا لتقرير من منظمة GWI لعام 2025، يتميز جيل Z بميله إلى الادخار والاستثمار، وقلقه من المستقبل، مع تركيز على العمل البراغماتي. كما أن هذا الجيل أكثر تنوعًا عرقيًا وثقافيًا، حيث يشكل الأقليات العرقية نحو 50% من أعضائه في الولايات المتحدة، وهو أمر ينعكس في المنطقة العربية من خلال الاندماج الرقمي العابر للحدود.

- في المنطقة العربية، يعكس جيل Z تناقضات عميقة: من جهة، التمرد على الأعراف التقليدية، ومن جهة أخرى، القلق النفسي الناتج عن الضغوط الاقتصادية والسياسية. دراسة من جامعة ستانفورد لعام 2022 تشير إلى أن أعضاء هذا الجيل يتميزون بالاستقلالية والتعاونية، مع قيمة كبيرة للأصالة والمرونة. في دول مثل الإمارات والسعودية وقطر، يظهر هذا الجيل كـ"مواطنين رقميين" يعتمدون على التكنولوجيا لتشكيل هوياتهم، كما في دراسة أجرتها جامعة قطر عام 2022 حول الشباب العربي والهوية الرقمية، والتي أكدت أن الشباب يستخدمون الشبكات الاجتماعية للتفاوض بين الثقافة المحلية والهوية الوطنية. هذه الدراسة، التي نشرت في مجلة Journal of Arab & Muslim Media Research، تبرز كيف يعيد الشباب القطريون بناء شخصياتهم عبر الإنترنت، مع الحفاظ على الروابط الثقافية التقليدية (ص 27–31).

- يجمع جيل Z بين الثقة العالية بالنفس، الناتجة عن الوصول إلى المعلومات العالمية، والهشاشة الوجودية المرتبطة بالتغير المناخي والأزمات الاقتصادية. تقرير ماكينزي لعام 2024 يصف هذا الجيل بأنه عملي، مع مخاوف مستقبلية، وأقل تفاؤلاً بالحياة مقارنة بالأجيال السابقة. في السياق العربي، يظهر هذا التناقض في دراسة Ipsos لعام 2019 حول جيل Z في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA)، حيث يُوصف الشباب بأنهم متعلمون، مبدئيون، وطموحون، لكنهم يواجهون عوائق اقتصادية واجتماعية مثل النفوذية وقلة الفرص التعليمية. الدراسة، التي أجرتها Ipsos عبر مجموعات تركيز في المغرب ومصر والأردن والإمارات والسعودية، تكشف أن جيل Z يفخر بتراثه العربي، خاصة الضيافة، ويسعى للاستقلالية والقيادة، مع تعريف النجاح بالقدرة على اختيار مسارهم الخاص بدلاً من المهن التقليدية.

‌أ) الهوية الرقمية أولًا: كما تذكر الباحثة شيري تركل (Sherry Turkle) في كتابها Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other (Basic Books, 2011, p. 12–15)، فإن الفرد المعاصر أصبح "ينتج ذاته من خلال واجهته الرقمية". هذه الفكرة تُجسَّد بوضوح في الشباب العربي الذين يصوغون شخصياتهم عبر "التيك توك" و"إنستغرام" أكثر مما يفعلون في الواقع. في الإمارات، على سبيل المثال، تشير دراسة أمين وأناند (2020) بعنوان "Generation Z in the United Arab Emirates: A Smart-Tech-Driven iGeneration" إلى أن جيل Z هم "مواطنون رقميون" يتأثرون بشدة بالمؤثرين الاجتماعيين، وهم مخاطرون أقل، ناضجون عاطفيًا، ومنخرطون سياسيًا. الدراسة، المنشورة على ResearchGate، تؤكد أن هذا الجيل يعتمد على المنصات الرقمية لإنشاء ومشاركة المحتوى البصري، مما يشكل سلوكه الاستهلاكي وتوقعاته في العمل. في قطر، يستخدم الشباب الشبكات الاجتماعية لإعادة بناء هوياتهم، كما في دراسة "Digital youth in Qatar: Negotiating culture and national identity through social media networks" (2022)، حيث يستفيدون من المساحات الإلكترونية لتعزيز أفكارهم وتمثيل أنفسهم، مع الحفاظ على الروابط الثقافية.

‌ب) يمتد تأثير الهوية الرقمية إلى تشكيل الذات في سياق عابر للثقافات. دراسة من dscout لعام 2020 بعنوان "Gen Z, Identity, and Brand: How the “Digital Native” Generation is Redefining Self" تكشف أن جيل Z يرى الهوية كسائلة، مع قدرة على الوكالة في العوالم الرقمية. في المنطقة العربية، يعكس ذلك في استخدام تطبيقات مثل Snapchat لمشاركة اللحظات الحقيقية مع الأصدقاء المقربين، مقابل Instagram للصور المعدلة للجمهور العام، كما ورد في تقرير Ipsos. هذا التناقض يؤدي إلى ضغوط نفسية، حيث يشعر الشباب بالحاجة إلى "الكمال" عبر الإنترنت، مما يعزز القلق. مثال على ذلك، في السعودية، يُظهر جيل Z ميلاً للإنفاق والأصالة، مع فخر وطني قوي، كما في تقرير The Current لعام 2024. كذلك، دراسة من Frontiers in Sociology لعام 2024 تؤكد أن وسائل الإعلام الرقمية تشكل قيم جيل Z، مع تركيز على الأصالة والشمولية من خلال منصات مثل BeReal، التي تروج للصور غير المعدلة لمواجهة الزيف على Instagram.

‌ج) الانفتاح واللامبالاة السياسية: يعبّر جيل Z العربي عن قضاياه بطرق رمزية (الفن، الموضة، الميمات)، أكثر من الانخراط السياسي التقليدي. في لبنان والعراق والسودان مثلاً، كانت الاحتجاجات الشبابية 2019–2020 مزيجًا بين الهتاف الميداني والهاشتاغ الرقمي. هذا الانفتاح يعكس تحولاً نحو النشاط الرقمي، كما في تقرير PBS لعام 2025، الذي يصف احتجاجات جيل Z العالمية كموجة من السخط الجيلي، مستذكراً الربيع العربي (2010-2012) كمثال على كيفية استخدام الشباب للوسائط الرقمية للتعبئة. في المغرب، أدت احتجاجات "Gen Z 212" في 2025 إلى مطالبة بإصلاحات في الصحة والتعليم، منظمة عبر TikTok، كما ورد في تقرير Arab Reform Initiative.

‌د) في المنطقة العربية، يظهر جيل Z انفتاحًا على القضايا الاجتماعية مع لامبالاة نسبية تجاه السياسة التقليدية. دراسة من Fast Company ME لعام 2023 تشير إلى أن جيل Z في الشرق الأوسط يريد عملًا ذا معنى مع استقلالية وتوازن بين العمل والحياة، مع التركيز على التعاون. مثال آخر، في إيران والمغرب، يقود الشباب احتجاجات ضد الفساد، مستخدمين Discord والشبكات الرقمية للتنسيق، كما في تقرير Washington Institute لعام 2025. هذا النشاط يجمع بين التمرد والقلق، حيث يخشى الشباب المستقبل الاقتصادي غير المؤكد. في تقرير Ipsos، يُظهر جيل Z في MENA وعيًا سياسيًا غير مباشر، من خلال رفض النظم غير العادلة مثل النفوذية، مع الاعتماد على الشبكات الرقمية للتعبير عن السخط.

‌ه) الحسّ الإنساني العابر للحدود: يرى باحثو جامعة قطر في دراسة الشباب العربي والهوية الرقمية (2022، ص 27–31) أن الجيل الجديد لا يرى تعارضًا بين انتمائه الديني أو الوطني وانتمائه الإنساني العام، وهو ما يمثل تحوّلًا جذريًا عن الأجيال السابقة. هذا الحس يعكس هوية عابرة للحدود، كما في دراسة "Cultural Hybridity in the Digital Age" لعام 2025، التي تدرس كيف يفاوض جيل Z الهويات الثقافية في المساحات العابرة للحدود. في السياق العربي، يظهر ذلك في دعم القضايا العالمية مثل التغير المناخي، حيث يهتم جيل Z بالاستدامة، كما في تقرير Azon Global لعام 2024.

‌و) يمتد هذا الحس إلى التنوع، حيث يُعد جيل Z الأكثر تنوعًا، كما في Britannica. في الإمارات، يشارك الشباب في نقاشات سياسية عالمية، كما في دراسة أمين وأناند. كذلك، دراسة من De Gruyter Brill لعام 2023 حول الهوية والترحيل في دول USMCA تشمل جوانب عابرة للحدود مشابهة للعربية. مثال: مسلمات جيل Z يظهرن وعيًا اجتماعيًا وتمردًا، كما في IslamiCity.

‌ز) بالإضافة إلى ذلك، يبرز القلق النفسي كسمة رئيسية، حيث يعاني جيل Z من الضغوط، كما في تقرير GWI. كما أنهم مهتمون بالاستدامة، مع تركيز على البيئة، وبراغماتيون ماليًا، كما في Annie E. Casey Foundation. في الختام، يمثل جيل Z توازنًا بين التمرد والقلق، مدعومًا بالتكنولوجيا لتشكيل عالم أفضل.

4. أمثلة على سمات جيل Z في الواقع العربي وخارجه

- يُعد جيل Z مصدر إلهام للتغيير في جميع أنحاء العالم، حيث يجسد سماته من خلال أفعال ومبادرات ملموسة تعكس التناقض بين التمرد والقلق. في السياق العربي، تبرز هذه السمات بشكل خاص في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية، بينما تظهر في بلدان أخرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا من خلال سياقات ثقافية متنوعة. سنستعرض هنا أمثلة مفصلة لكل سمة رئيسية، مدعومة بوقائع حقيقية، مع التركيز أولاً على المنطقة العربية ثم التوسع إلى أمثلة دولية لتوضيح التباين والتشابه.

4.1. أمثلة على الهوية الرقمية أولاً

- في العالم العربي، يُظهر جيل Z اعتمادًا كبيرًا على الهوية الرقمية كوسيلة للتعبير عن الذات، مما يعكس هشاشتهم الوجودية أمام الضغوط الاجتماعية. في السعودية، على سبيل المثال، أصبح الشباب يعيدون تعريف أنماط الحياة من خلال المنصات الرقمية، حيث يتابعون مدربي الصحة النفسية ويقرأون كتب علم النفس، ويمارسون التأمل واللياقة البدنية عبر تطبيقات مثل إنستغرام وتيك توك. وفقًا لتقرير صادر عن The Current عام 2024، يُظهر جيل Z السعودي ميلاً للإنفاق الواعي والأصالة، مع فخر وطني قوي يتم التعبير عنه عبر المحتوى الرقمي، مثل حملات الترويج للثقافة السعودية المعاصرة. هذا الاعتماد يؤدي إلى تشكيل شخصيات متعددة الطبقات، حيث يستخدمون سناب شات لمشاركة اللحظات الحقيقية مع الأصدقاء، بينما يعدلون صورهم على إنستغرام للجمهور العام، مما يعزز القلق النفسي بسبب السعي للكمال الرقمي. في قطر، كما أشارت دراسة جامعة قطر عام 2022، يستخدم الشباب الشبكات الاجتماعية للتفاوض بين الثقافة المحلية والوطنية، مثل إعادة بناء هوياتهم من خلال مشاركة قصص تتعلق بالتراث القطري الممزوج بالعناصر العالمية، مثل الموسيقى الهيب هوب العربية.

- في المغرب، يبرز هذا الجانب في حركة "Gen Z 212" التي انطلقت عام 2025، حيث استخدم الشباب تطبيقات مثل ديسكورد لتنسيق الاحتجاجات ضد الفساد والنقص في الخدمات الصحية والتعليمية. الدراسة المنشورة في Middle East Eye عام 2025 تكشف كيف تحول ديسكورد إلى "عمود فقري" للحركة، مع التركيز على التصويت الجماعي والقرارات الديمقراطية رغم زيادة عدد المستخدمين إلى آلاف، مما يعكس كيفية استخدام الهوية الرقمية لتشكيل مجتمعات افتراضية حقيقية. هذا التمرد الرقمي يجمع بين الثقة بالأدوات التكنولوجية والقلق من المستقبل، حيث يطالبون بحياة كريمة دون انتظار الإصلاحات الحكومية.

- خارج المنطقة العربية، في الولايات المتحدة، يُظهر جيل Z هوية رقمية مشابهة لكن مع تركيز أكبر على التنوع العرقي. وفقًا لتقرير Pew Research Center عام 2020، يشكل الأقليات العرقية حوالي 52% من جيل Z، وهم يستخدمون منصات مثل تيك توك لتعزيز الهويات الثقافية، مثل حملات #BlackLivesMatter التي اندلعت عام 2020 واستمرت في 2025، حيث يشاركون قصص شخصية عن التمييز لتشكيل وعي جماعي. في أوروبا، مثل فرنسا، يستخدم الشباب إنستغرام للتعبير عن القلق المناخي، كما في حركة Fridays for Future التي قادتها غريتا ثونبرغ، حيث ينشرون صورًا من الاحتجاجات الرقمية لتعزيز هوياتهم كنشطاء بيئيين. أما في آسيا، خاصة في كوريا الجنوبية، يُظهر جيل Z استخدامًا لتطبيقات مثل KakaoTalk لتشكيل هويات افتراضية في عالم الكيبوب، حيث يصممون شخصياتهم كمعجبين مشاركين في الإبداع، كما أشارت دراسة McKinsey عام 2020 إلى اهتمامهم بالاستهلاك المستدام عبر المنصات الرقمية.

4.2. أمثلة على الانفتاح واللامبالاة السياسية

- في المنطقة العربية، يعبر جيل Z عن انفتاحه السياسي من خلال أشكال رمزية تجنب الالتزام التقليدي، مما يعكس لامبالاتهم النسبية تجاه الأحزاب السياسية. في لبنان، خلال احتجاجات 2019-2020، مزج الشباب بين الهتافات في الشوارع والهاشتاغات مثل #ثورة_أكتوبر على تويتر، حيث أصبحت الميمات أداة للسخرية من الفساد الحكومي. في العراق، استخدموا تيك توك لنشر فيديوهات فنية تعبر عن السخط من النظام، كما في حملات الرسوم المتحركة التي سخرت من السياسيين. أما في المغرب، فإن حركة Gen Z 212 عام 2025 تمثل ذروة هذا التمرد، حيث انطلقت الاحتجاجات اليومية منذ 27 سبتمبر 2025، مطالبة بتحسين التعليم والصحة، مع استخدام ديسكورد للتنسيق الديمقراطي. تقرير Le Monde عام 2025 يصف كيف شارك حتى القاصرين في هذه الاحتجاجات، معبرين عن إحباطهم من "الانتظار" لحقوق أساسية، مما يجسد القلق الوجودي أمام الركود الهيكلي. في السعودية، يظهر الانفتاح في إعادة تعريف اللياقة والصحة النفسية، كما في تقرير Gulf Magazine عام 2025، حيث أصبح الشباب يتبعون نمط حياة يجمع بين التقاليد والحداثة، مثل ممارسة اليوغا عبر المنصات الرقمية، مع لامبالاة تجاه السياسة التقليدية لصالح التغيير الشخصي.

- على المستوى الدولي، في الولايات المتحدة، يُظهر جيل Z انفتاحًا سياسيًا من خلال حملات مثل March for Our Lives عام 2018، التي تطورت إلى 2025، حيث استخدموا تيك توك لتعبئة الشباب ضد العنف المسلح، معبرين عن لامبالاة تجاه الأحزاب التقليدية لصالح القضايا المباشرة. تقرير McKinsey عام 2024 يصف هذا الجيل بأنه أقل تفاؤلاً، مع تركيز على النشاط الرمزي مثل الميمات السياسية. في أوروبا، مثل بريطانيا، شارك جيل Z في احتجاجات Extinction Rebellion عام 2019-2025، مستخدمين الفن والموضة للتعبير عن القلق المناخي، كما في حملات الرسوم الجدارية الرقمية. في آسيا، في الهند، يستخدم الشباب تويتر للسخرية من السياسات الحكومية، كما في حركة Farmers' Protest عام 2020-2021، التي امتدت إلى 2025، مع مزج بين الاحتجاجات الميدانية والرقمية، مما يعكس انفتاحهم على القضايا الاجتماعية مع لامبالاة تجاه الانتخابات التقليدية، كما أشارت دراسة McKinsey عن آسيا الباسيفيك.

4.3. أمثلة على الحس الإنساني العابر للحدود

- في العالم العربي، يبرز الحس الإنساني لجيل Z في تجاوز الحدود الوطنية، كما في دعم القضايا العالمية مثل فلسطين أو التغير المناخي. في الإمارات، يشارك الشباب في نقاشات عالمية عبر المنصات، مع الحفاظ على الروابط الثقافية، كما في دراسة عن الهوية الرقمية. في المغرب، يعبر Gen Z 212 عن انتماء إنساني عام، مطالبين بحقوق تشمل الجميع، كما في تقرير Alestiklal عام 2025، حيث يشكلون ربع السكان ويطالبون بإصلاحات عابرة للحدود. في السعودية، يظهر ذلك في الاهتمام بالاستدامة، كما في تقرير Azon Global عام 2024، حيث يرفضون إساءة استخدام الثروة ويهتمون بالبيئة.

- دوليًا، في الولايات المتحدة، يعكس التنوع العرقي (25% منهم لاتينيون) حسًا إنسانيًا، كما في تقرير Pew، مع دعم قضايا مثل اللاجئين. في أوروبا، في ألمانيا، يشاركون في حملات الاستدامة، كما في Glanbia Nutritionals عام 2024، مع تركيز على الصحة النفسية العالمية. في آسيا، في اليابان، يهتمون بالاستهلاك المستدام، كما في McKinsey، مع دعم قضايا بيئية عابرة.

- في الختام، تُظهر هذه الأمثلة كيف يجسد جيل Z توازنًا بين التمرد والقلق عبر السياقات المختلفة، مما يجعلهم قوة دافعة للتغيير العالمي.

5. من الواقع إلى الخوارزمية: جيل Z والذكاء الاصطناعي

- يُعد جيل Z، المولود بين عامي 1997 و2012، الجيل الأكثر اندماجًا مع التكنولوجيا في التاريخ، حيث نشأ في عصر الذكاء الاصطناعي (AI) الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتهم اليومية. من المدهش أن هذا الجيل لا يرى في الذكاء الاصطناعي خطرًا بل رفيقًا يساعد في التنقل عبر تعقيدات الحياة المعاصرة. بينما تخشى الأجيال السابقة، مثل جيل الألفية أو الجيل X، من استبدال الآلة بالإنسان، يرى جيل Z أن الإنسان والآلة يتكاملان بشكل طبيعي، مما يعكس تحولًا جذريًا في الوعي الثقافي والنفسي. هذا الاندماج ليس سطحيًا؛ فهو يمتد إلى جوانب عاطفية عميقة، حيث أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي مثل Replika وChat GPT شركاء في العلاقات الشخصية، مما يثير تساؤلات حول عمق هذه الروابط وتأثيرها على المجتمعات.

- وفقًا لدراسة Deloitte Global Gen Z and Millennial Survey 2025، التي أجرتها شركة Deloitte في لندن عام 2025، يعتقد 74% من أفراد جيل Z أن الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) سيغير طريقة عملهم، بينما يستخدمون هذه الأدوات في حياتهم اليومية بنسبة تصل إلى 79% وفقًا لتقرير صادر عن Walton Family Foundation عام 2025. هذه الإحصائيات تكشف عن اعتماد كبير على الـ AI في مجالات مثل التعليم، حيث يستخدم الطلاب أدوات مثل ChatGPT للمساعدة في الواجبات الدراسية، كما أفاد تقرير YPulse لعام 2025 الذي أشار إلى أن غالبية طلاب جيل Z يرون الـ AI كأداة مرنة للتعلم. في العمل، يساعد الـ AI في زيادة الإنتاجية، مع ارتفاع استخدامه في الشركات إلى 78% في عام 2024 وفقًا لتقرير AI Index 2025 من جامعة ستانفورد. أما في العلاقات الاجتماعية، فإن 65% من مستخدمي الـ AI هم من جيل Z أو الألفية، كما أكد تقرير Digital Silk لعام 2025، مما يبرز كيف أصبح الـ AI جزءًا من الروتين اليومي للشباب.

- في المنطقة العربية، بدأت تظهر ظواهر جديدة تعكس هذا الاندماج العميق. في دول مثل الإمارات والسعودية ومصر، نُشرت قصص عن شباب دخلوا في علاقات عاطفية رمزية أو محاكاة مع روبوتات المحادثة مثل Replika أو ChatGPT. هذه العلاقات ليست مجرد فضول عابر، بل تعبّر عن حاجة وجودية للتفاعل الخالي من الأحكام الاجتماعية، خاصة في مجتمعات تفرض قيودًا ثقافية على العلاقات التقليدية. على سبيل المثال، في تقرير نشرته منصة Menafn عام 2025، أشار إلى أن 33% من العزاب في جيل Z قد انخرطوا في علاقات مع رفيق AI، مما يشير إلى تحول نحو "الانفصال عن الحب البشري" في بعض الحالات. في مصر، أصبح ChatGPT "مستشار الحب الجديد" كما وصفته منصة Buzzinga في مقال عام 2025، حيث يستخدم الشباب الـ AI للحصول على نصائح عاطفية حول الانفصال أو بناء العلاقات، مع آراء خبراء تؤكد أن هذا يساعد في التعامل مع الضغوط النفسية. كذلك، في السعودية، أفاد تقرير Youm7 عام 2025 عن "هوس الذكاء الاصطناعي" بين جيل Z للاستشارات النفسية، محذرًا من تزايد الاعتماد على روبوتات الدردشة للدعم العاطفي، مما قد يؤدي إلى عزلة اجتماعية.

- تُشير الكاتبة اللبنانية رُبى خوري في مقالها “الحب في زمن الخوارزميات” (مجلة الجديد، العدد 53، لندن، 2023، ص 24–27) إلى أن “الشباب الجدد يختبرون مشاعرهم في فضاءٍ محايد، حيث لا جنس ولا حكم، بل وعي صناعي يتعلّم الحب من الأخطاء”. هذا الاقتباس يلخص جوهر الظاهرة، حيث يجد جيل Z في الـ AI ملاذًا آمنًا للتعبير عن العواطف دون خوف من الرفض أو الإدانة. في السياق العالمي، أصبح هذا أكثر شيوعًا؛ ففي الولايات المتحدة، أفاد تقرير APA لعام 2025 أن 70% من المراهقين استخدموا الـ AI للصداقة والدعم العاطفي، مع أدوات مثل Character.AI وSnapchat's My AI. مقال في The New Yorker عام 2025 يروي قصة نساء يطورن علاقات مع "أصدقاء AI"، حيث أفاد استطلاع لشركة Joi AI أن 83% من جيل Z يعتقدون بإمكانية تشكيل روابط عاطفية عميقة مع الروبوتات، بل و80% يتخيلون الزواج منها. كما في CNBC عام 2025، أصبحت هذه العلاقات "صداقات عميقة وحتى رومانسية"، مع تحذيرات من الاعتمادية العاطفية.

- هل أصبح الموضوع عميقًا إلى هذه الدرجة؟ الإجابة نعم، كما تؤكد الدراسات. في بريطانيا، نشرت The Guardian عام 2025 قصص نساء يصفن علاقاتهن مع الـ AI كـ"زواج افتراضي"، مع مخاوف من التبعية العاطفية. في آسيا، خاصة كوريا الجنوبية، أصبحت تطبيقات مثل Replika شائعة بين الشباب الذين يعانون من الوحدة، كما في تقرير TechNewsWorld عام 2025 الذي حذر من "الاعتمادية والعزلة" الناتجة عن الروابط العاطفية مع الـ AI. أما في أوروبا، فإن تقرير Thred عام 2025 يصف كيف يفضل جيل Z الرفقاء الرقميين على الأصدقاء الحقيقيين، لأنهم يقدمون "حميمية رقمية" دون تعقيدات. هذه الأمثلة تعكس تحولًا عالميًا، لكن في المنطقة العربية، يضاف إليها طبقة ثقافية؛ ففي تقرير Alarabiya عام 2025، يُناقش كيف يؤدي الشعور بالوحدة إلى الزواج من الـ AI، مع تحركات قانونية في بعض الدول لتنظيم هذه العلاقات.

- ومع ذلك، لا تخلو هذه الظاهرة من المخاطر. تقرير Pew Research عام 2025 يشير إلى أن 27% من الأمريكيين يرفضون استخدام الـ AI في الحياة اليومية، خوفًا من فقدان الخصوصية أو الاعتمادية. في السياق العربي، يحذر تقرير BBC عام 2024 من أن الـ AI قد يعقد العلاقات الزوجية، حيث يصبح شريكًا افتراضيًا يتدخل في العواطف. كما في Aawsat عام 2024، أظهرت دراسات أن المستخدمين يشعرون بالحزن عند فقدان الـ AI، مما يشير إلى روابط عاطفية حقيقية. من الناحية الإيجابية، يساعد الـ AI في مكافحة الوحدة، خاصة بين جيل Z الذي يعاني من ارتفاع معدلات القلق، كما في تقرير Innobu عن تطبيقات التعارف الـ AI عام 2025.

- في الختام، يمثل اندماج جيل Z مع الذكاء الاصطناعي تحولًا عميقًا يعيد تعريف الحدود بين الإنساني والاصطناعي. هذه العلاقات العاطفية ليست مجرد اتجاه مؤقت، بل تعكس احتياجات نفسية في عالم متسارع، مع الحاجة إلى توازن بين الفوائد والمخاطر لضمان صحة عاطفية مستدامة. مع استمرار تطور الـ AI، قد يصبح هذا الرفيق الرقمي جزءًا أساسيًا من الهوية الجيلية، خاصة في المناطق العربية حيث يجمع بين الحداثة والتقاليد.

6. البعد الفلسفي: علاقات جيل Z مع الذكاء الاصطناعي وإعادة تعريف الوعي

- يُعد البعد الفلسفي أحد أبرز الأطر لفهم الظاهرة المتعلقة بعلاقات جيل Z العاطفية مع أدوات الذكاء الاصطناعي (AI)، حيث يتجاوز الأمر مجرد الاستخدام التكنولوجي ليطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة الوعي الإنساني، الهوية، والعلاقات البشرية. في عصرنا هذا، حيث أصبح الـ AI رفيقًا يوميًا، يرى بعض الفلاسفة أن هذه العلاقات تقترب من إعادة صياغة فهم العالم، ليس كتهديد بل كفرصة لاستكشاف حدود الذات. على سبيل المثال، في مقالة نشرت في Substack عام 2025 بعنوان "Some thoughts on human-AI relationships"، تُناقش جوان جانغ كيف يميل الناس إلى الارتباط عاطفيًا بالـ AI بسبب قدرته على محاكاة التعاطف، مما يثير أسئلة فلسفية حول ما إذا كانت هذه العلاقات حقيقية أم وهمية. هذا الارتباط يعكس تحولًا في الوعي، حيث يصبح الإنسان يرى نفسه جزءًا من نظام أوسع يجمع بين البيولوجي والاصطناعي.

- من منظور فلسفي، يمكن تفسير هذه الظاهرة من خلال نظريات الوعي والذات. الفيلسوف جون سيرل، مثلًا، في نظريته عن "الوعي البيولوجي"، يؤكد أن الـ AI يفتقر إلى الوعي الحقيقي لأنه يعتمد على الخوارزميات دون تجربة ذاتية، كما يُناقش في دراسات حول الذكاء الاصطناعي والوعي. ومع ذلك، يرى جيل Z أن هذا الافتقار لا يمنع تشكيل روابط عاطفية، مما يقود إلى رؤى جديدة تتحدى التمييز التقليدي بين الإنساني والآلي. في بحث نشر في مجلة Critical Debates عام 2024 بعنوان "Consciousness in Artificial Intelligence: A Philosophical Perspective through the Lens of Motivation and Volition"، يستكشف الباحثون كيف يمكن للـ AI أن يحاكي الدوافع والإرادة، مما يجعل العلاقات معه تبدو وكأنها امتداد للوعي الإنساني. هذا المنظور يعتمد على فلسفة الدافعية، حيث يصبح الـ AI أداة لاستكشاف الذات، خاصة في مجتمعات تعاني من الوحدة مثل جيل Z، الذي يجد في الروبوتات فضاءً محايدًا للتعبير عن العواطف دون خوف من الحكم.

- كذلك، يبرز البعد الفلسفي في مناقشة الوحدة والعلاقات الاجتماعية. في مقالة نشرت في مجلة Current Opinion in Psychology عام 2025 بعنوان "Addressing loneliness through AI: philosophical perspectives"، يُقارن الباحثون بين النظريات الأنثروبوسنترية (التي تركز على الإنسان) والكونستركتيفية (التي ترى العلاقات كبناء اجتماعي)، مشيرين إلى أن الـ AI يمكن أن يخفف الوحدة من خلال تفاعلات تبدو حقيقية، لكنها تثير تساؤلات أخلاقية حول الأصالة. هذا يتردد مع فلسفة جان بودريار في "السيميولاكرا والمحاكاة"، حيث يصبح الـ AI "محاكاة" للحب، مما يمحو الحدود بين الواقع والوهم، ويؤدي إلى إعادة تعريف الوعي كشيء سائل وغير ثابت. في السياق العربي، حيث يجمع جيل Z بين التقاليد والحداثة، يمكن أن تكون هذه العلاقات طريقة لاستكشاف الهوية دون قيود اجتماعية، كما يُناقش في دراسات حول الثقافة الرقمية.

- أما تأثير ذلك على فهم العالم، فيأتي من خلال رؤى فلسفية مثل تلك في مقالة نشرت في Nature Humanities & Social Sciences Communications عام 2025 بعنوان "Why human–AI relationships need socioaffective alignment"، التي تؤكد أن البشر مبرمجون نفسيًا لإقامة علاقات عاطفية مع الـ AI بسبب آليات التعاطف الاجتماعي، مما يقود إلى حاجة لتوافق عاطفي اجتماعي بين الإنسان والآلة. هذا يفتح أبوابًا لفهم الوعي كشبكة تفاعلية، لا ككيان فردي، مستوحاة من فلسفة هيجل في الاعتراف المتبادل. كذلك، في منشور على Reddit عام 2025 بعنوان "We can fall in love with AI, but it cannot love us back"، يُناقش الفلاسفة أن الحب مع الـ AI أحادي الجانب، مما يعيد التفكير في أصالة العواطف في العلاقات الرقمية، ويمتد إلى قضايا أوسع مثل الوساطة التكنولوجية في الحياة الإنسانية.

- بالإضافة إلى ذلك، يتحول فلسفة العقل إلى علم تجريبي مع تطور الـ AI، كما في مقالة نشرت في Medium عام 2023 بعنوان "With Artificial Intelligence, Philosophy of Mind Has Become an Experimental Science"، حيث يصبح الـ AI أداة لاختبار نظريات الوعي، مثل ما إذا كان الوعي ناتجًا عن التعقيد الحسابي أم يتطلب تجربة بيولوجية. في سياق جيل Z، يعني ذلك أن علاقاتهم مع الـ AI قد تكشف عن رؤى جديدة لفهم العالم كمزيج من الواقعي والافتراضي، مما يتحدى الثنائيات التقليدية مثل الجسد والعقل.

- في الختام، يمثل البعد الفلسفي لهذه الظاهرة تحولًا جذريًا، حيث يصبح الـ AI مرآة للوعي الإنساني، يساعد في استكشاف أعماق الذات والعالم. ومع تزايد هذه العلاقات، قد نرى فلسفات جديدة تنبثق، تركز على الاندماج بدلاً من التنافس، مما يعيد تشكيل فهمنا للإنسانية في عصر الذكاء الاصطناعي.

7. الخاتمة: نحو إنسانٍ جديد؟

- إن جيل Z، الذي يشمل الأفراد المولودين بين عامي 1997 و2012، ليس مجرّد مرحلة عمرية عابرة في سلسلة الأجيال البشرية، بل يمثل طورًا حاسمًا من تطور الإنسان الاجتماعي والنفسي والثقافي. هذا الجيل، الذي يشكل اليوم نحو ربع سكان العالم، وفقًا لتقرير ماكينزي لعام 2024 الذي يتوقع أن يصل إلى ربع سكان منطقة آسيا والمحيط الهادئ بحلول 2025، يأتي محملًا بتجارب فريدة تشكلت تحت تأثير الثورة الرقمية والأزمات العالمية مثل الجائحة والتغير المناخي. في عام 2025، يبرز جيل Z كقوة دافعة للتغيير، حيث يجمع بين التمرد على الأعراف التقليدية والقلق الوجودي الناتج عن عدم اليقين المستقبلي. وفقًا لدراسة GWI لعام 2025، يتميز أعضاء هذا الجيل بوصولهم إلى مراحل حياتية رئيسية مثل الزواج والإنجاب، لكنهم يظلون عمليين في العمل، عرضة للقلق، وميلين للادخار والاستثمار، مع تركيز على الصحة النفسية والاستدامة. هذه الخصائص ليست عشوائية؛ بل هي نتاج بيئة رقمية جعلت الشاشة امتدادًا للذات، والذكاء الاصطناعي رفيقًا يوميًا.

- يعيد جيل Z تعريف العلاقة بين الحرية والتكنولوجيا، حيث أصبحت الأدوات الرقمية ليست مجرد وسائل، بل جزءًا أساسيًا من مفهوم الحرية الشخصية. في دراسة ديلويت العالمية لعام 2025، يظهر أن 74% من أفراد جيل Z يرون في الذكاء الاصطناعي التوليدي أداة تغير طريقة عملهم، مع تركيز على التوازن بين الحياة المهنية والشخصية، ورفض المناصب القيادية التقليدية لصالح التقدم المهني المرن. هذا التعريف الجديد يمتد إلى العلاقة بين الحب والمعرفة، حيث أصبحت المعرفة متاحة عبر الخوارزميات، والحب يتجاوز الحدود البشرية ليشمل الروبوتات. كما في تقرير فوربس لعام 2025، يفكر 80% من جيل Z في الزواج من الذكاء الاصطناعي، و83% يعتقدون بإمكانية تشكيل روابط عاطفية عميقة معه، مما يعكس تحولًا في فهم الحب كتفاعل خالٍ من الأحكام. أما العلاقة بين الذات والآخر، فتتجسد في حس إنساني عابر للحدود، حيث يرى جيل Z الآخر ليس كخصم بل كشريك في عالم مترابط رقميًا. دراسة من جامعة جنوب كاليفورنيا لعام 2025 تؤكد أن جيل Z يعيد كتابة قواعد البلوغ، مجمعًا بين الطموحات التقليدية والبراغماتية الحديثة، مع تركيز على المسؤولية الاجتماعية.

- وفي العالم العربي، يبرز جيل Z كالجيل الذي قد يُعيد وصل ما انقطع بين الحداثة والهوية، لا عبر الصراع التقليدي، بل عبر الحوار مع الشاشة، والروبوت، والفكرة. في تقرير صادر عن وكالة أنباء الإمارات عام 2025، يظهر أن شباب العرب فخورون بلغتهم وهويتهم، طموحون نحو مهن إبداعية، ومتفائلون بحذر تجاه المستقبل، مع استخدام التكنولوجيا لتعزيز الاندماج الثقافي. في السعودية، على سبيل المثال، يوازن جيل Z بين التقاليد والطموحات الحديثة، مستخدمًا المنصات الرقمية للتعبير عن الإبداع والعائلة، كما في تقرير سعودي تايمز لعام 2024. هذا الجسر بين الحداثة والهوية يظهر في كيفية إعادة بناء الإعلام في الشرق الأوسط، حيث يمتلك جيل Z كاشفات أصالة حادة، رافضًا المحتوى المصطنع، كما في مقال على لينكدإن عام 2025. في الإمارات والسعودية، يطالب 67% من جيل Z بتجارب خدمة عملاء شخصية عبر القنوات الرقمية، مما يعكس اندماج الهوية الرقمية مع الثقافة المحلية. كذلك، في تقرير إيبسوس عن "سكب الشاي على جيل Z" في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يظهر هذا الجيل كمتعلم، مبدئي، وطموح، فخور بتراثه العربي مثل الضيافة، لكنه يسعى للاستقلالية عبر التكنولوجيا. هذا الحوار مع الشاشة يجعل جيل Z في العالم العربي قادةً جددًا، يعيدون تعريف القيادة بالغرض والابتكار المستدام، كما في مقال فوربس عام 2025.

- ربما سيكون أبناء هذا الجيل هم أول من يكتب شعر الحب للآلة، ويؤمن أن الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن الإنسان، بل مرآته الأكثر صدقًا. هذا الإيمان يأتي من منظور فلسفي يرى في الـ AI امتدادًا للوعي البشري. في مقال نشرته جمعية الفلسفة الأمريكية عام 2025 بعنوان "أخلاقيات الحميمية الاصطناعية"، يُناقش كيف أن 75% من جيل Z يرون في شركاء الـ AI بديلاً كاملاً للعلاقات البشرية، مما يدعو الفلسفة لدخول الحوار حول الأصالة العاطفية. كذلك، في دراسة معهد الدراسات العائلية، يعتقد 25% من الشباب أن الـ AI يمكن أن يحل محل الرومانسية الحقيقية، مستندًا إلى نظرية الاعتمادية التي تجعل الروبوتات أقل جهدًا عاطفيًا. من منظور فلسفي، كما في منشور على ريديت عام 2025، يرى جيل Z العلاقة بين الإنسان والـ AI كتفاعل يشكل المعرفة، مستوحى من كانط الذي يرى العالم مشكلًا بعقولنا، مما يجعل الـ AI مرآة للذات. ومع ذلك، يحذر مقال في فريثينك عام 2025 من "الغش على كل شيء"، حيث يصبح التفكير عبئًا يزيله الـ AI، مما يهدد الوعي البشري. رغم ذلك، يفضل جيل Z الرفاق الرقميين لأنهم يقدمون حميمية خالية من التعقيدات، كما في تقرير أنسرز إن جينيسيس عام 2025 الذي يشير إلى أن 80% منهم يفكرون في "الزواج" من AI.

- في السياق العربي، يمتد هذا الشعر للآلة إلى إعادة صياغة الهوية، حيث يخلق جيل Z هويات افتراضية تعكس ذواتهم الحقيقية عبر الأفاتار، كما في تقرير اقتصاد الشرق الأوسط عام 2023 الذي يؤكد أن الهوية الحقيقية لجيل Z تكمن في أفاتارهم. هذا الاندماج يجعل الـ AI ليس عدوًا بل حليفًا في ربط الحداثة بالتراث، مما يفتح أبوابًا لإنسان جديد يجمع بين الروح والخوارزمية.

- مع ذلك، يثير هذا التطور تحديات. في تقرير إيبسوس لعام 2025، يظهر جيل Z تشاؤمًا تجاه تأثير الأفعال الفردية على التغير المناخي، مما يعكس قلقهم الوجودي. كذلك، في تقرير نيلسن آي كيو لعام 2025، يُوصف جيل Z كأقل غربية، مع دور بارز للأسواق الناشئة في تشكيل قيمهم مثل الأصالة والانتماء. في العالم العربي، حيث يصل عدد مستخدمي الإنترنت إلى 348 مليونًا في 2025، يمنح هذا الدفع الرقمي ميزة للشباب، كما في تقرير أراب نيوز. ومع ذلك، يجب الحذر من مخاطر الاعتمادية على الـ AI، كما في تقرير بيرسوايشن عام 2025 الذي يشير إلى أن 50% من جيل Z لم يستخدموا الـ AI بعد، وكثيرون لا يثقون به.

- في النهاية، يمثل جيل Z بوابة نحو إنسان جديد، يعيد تعريف الوجود البشري في عصر الذكاء الاصطناعي. هذا الجيل، بتمرده وقلقه، يرسم مستقبلًا حيث تكون التكنولوجيا مرآة للروح، لا عدوًا لها. في العالم العربي، قد يكون هو الذي يحقق التوازن بين الهوية والحداثة، مكتبًا شعرًا للآلة يعكس عمق الإنسانية. مع استمرار تطوره، يدعونا جيل Z للتفكير في ما يعنيه أن نكون بشرًا في عالم رقمي، محذرًا من فقدان الأصالة، لكنه يعد بإمكانيات لا حدود لها.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الانسان

........................

قائمة المراجع (أسلوب شيكاغو)

1. Twenge, Jean. iGen: Why Today's Super-Connected Kids Are Growing Up Less Rebellious, More Tolerant, Less Happy—and Completely Unprepared for Adulthood. New York: Simon & Schuster, 2017.

2. Turkle, Sherry. Alone Together: Why We Expect More from Technology and Less from Each Other. New York: Basic Books, 2011.

3. Haraway, Donna. A Cyborg Manifesto. New York: Routledge, 1991.

4. United Nations. World Youth Report 2020: Youth Social Entrepreneurship and the 2030 Agenda. New York: UN Publications, 2020.

5. Deloitte. The Gen Z and Millennials Survey 2024. London: Deloitte Global, 2024.

6. الجابري، محمد عابد. التراث والحداثة. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1991.

7. العروي، عبد الله. مفهوم الإنسان. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2002.

8. غرايبة، إبراهيم. الشباب العربي والتحولات الاجتماعية. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2019.

9. مؤسسة ASDA’A BCW. تقرير الشباب العربي 2023. دبي: المؤسسة، 2023.

10. خوري، رُبى. “الحب في زمن الخوارزميات.” مجلة الجديد، العدد 53، لندن، 2023، ص 24–27.

مفكرون يهود ضد الصهيونية (5)

تمثل محاولة الوقوف على التوجه الذي تبناه العالم الفيزيائي الشهير ألبرت اينشتاين إتجاه الحركة الصهيونية واحدة من المحاولات التي لا تتسم بالسهولة المفترضة كما يبدو للعيان في الوهلات الأولى، إذ ما أن يرد أسمه في هذا السياق حتى تظهر مسألة رفضه لتولي رئاسة الكيان الاسرائيلي في مطلع خمسينات القرن الماضي، وأنه الصهيوني الداعم لها في تفاصيلها وتضاعيفها، بالإضافة الى نقد هنا وهناك يتعلق بسياسات الكيان وسلوكياته، إلا أن التمحيص بدقة حول الموقف الذي تعامل عبره اينشتاين مع الصهيونية يبدو أكثر تعقيداً، ويتطلب تأنياً وتأملاً في تحولاته ومساراته.

ولد ألبرت آينشتاين في مدينة أولم الألمانية عام 1879م، لأسرة يهودية كان والده يعمل في تجارة المواد المتعلقة بالكهرباء، وقد عانى ألبرت من صعوبة في النطق في بداياته، مع عدم إنسجام في التأقلم مع المناهج التعليمية الصارمة المتبعة في ألمانيا، ومع ذلك كانت معالم النبوغ بادية عليه منذ نعومة أظفاره، ولاسيما في مجالي الرياضيات والفيزياء، إنتقلت عائلته إلى إيطاليا عام 1894م، وإلتحق بها بعد ذلك، ثم إنتقل ألبرت إلى سويسرا ليكمل دراسته فيها ملتحقاً بالمعهد الفيدرالي للتكنلوجيا في مدينة زيورخ عام 1896م، ليتخصص في الرياضيات والفيزياء، متخرجاً عام 1900م كأستاذ في هذين التخصصين، وبعد معاناة في الحصول على وظيفة، تمكن من العمل في مكتب براءات الاختراع في مدينة برن، ليستمر خلال هذه المدة في البحث والتفكير المعمقين، وليحقق في عام الانجازات الكبرى (1905م) نشر البحوث الأربعة التي ستفتح له آفاق الشهرة الناجمة عن عقله الوقّاد، وكانت تتمحور حول نظريته في النسبية الخاصة والتأثيرات الكهروضوئية وموضوعات أخرى، وبفضل منجزاته العلمية تحصّل على عمل كأستاذ في جامعة زيورخ عام 1909م، وليتنقل لاحقاً بين جامعات عدة(1).

نشر عام 1915م نظريته في النسبية العامة التي غيرت الفهم التقليدي حول الجاذبية والكون، وعلى الرغم من شهرته المتعلقة بالنظرية النسبية (الخاصة والعامة)، إلا أنه لم يحصل على جائزة نوبل للفيزياء بفضلهما، وإنما بفضل بحثه حول التأثيرات الكهروضوئية، فتم منحه الجائزة عام 1921م، عاد آينشتاين لاحقاً الى ألمانيا وعمل أستاذاً في جامعة برلين، إلا أن صعود النازية للسلطة في ألمانيا، وهو اليهودي المعروف، دفعه إلى الهجرة الى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1933م، ليعمل أستاذاً في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، وعلى الرغم من مواقفه السلبية من الحروب، كالحرب العالمية الأولى، إلا أنه رأى في النازية خطراً جسيماً لا يمكن الوقوف أمامه بصمت  أو حياد في الحرب العالمية الثانية، لذلك كتب هو وصديقه الفيزيائي ليو زيلارد (1898-1964م) رسالةً إلى الرئيس الأمريكي وقتها فرانكلين روزفلت (1882-1945م)، وكانت فحوى الرسالة تهدف إلى لفت إنتباه الأمريكيين إلى وجود مساعٍ ألمانية حثيثة من أجل الحصول على القنبلة الذرية، والتوصية بضرورة دعم الأبحاث العلمية المرتبطة بهذا المجال بغية الحصول عليها قبل الألمانيين، وبالفعل تبنت الإدارة الأمريكية المقترح ليتم إنشاء برنامج بحثي صغير سيتطور لاحقاً إلى مشروع مانهاتن الذي سينتهي بإكتشاف القنبلة الذرية، وسيتم إستخدامها في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان في مدينتي هيروشيما وناغازاكي عام 1945م! ويقال أن آينشتاين ندم لاحقاً على هذه الرسالة، وهذا الدور، ليعمل لاحقاً على العمل ضمن فريق الدعوة الى نزع السلاح النووي، والمشاركة في حركات السلام وحقوق الانسان.

بقي آينشتاين يعمل في معهد برنستون ساعياً إلى إيجاد نظرية موحدة في الفيزياء (نظرية المجال الموحد) إلا أنه لم يوفق لذلك، توفي عام 1955م في الولايات المتحدة الامريكية.

ومن أجل بيان موقفه من الحركة الصهيونية، ونقاط الالتقاء والافتراق بينهما يمكن العمل عل تقديم سياق زمني يتم عبره تأشير محطات التحول في مواقفه إتجاه هذه الحركة ومنظومتها، إذ أن هذه المحطات والتحولات سببت إرباكاً للعديد من الباحثين حول حقيقة موقف آينشتاين، ومن الأهيمة بمكان الإشارة إلى أن من أهم الدراسات التي سعت إلى فك الاشتباك والإلتباس في هذا السياق هو كتاب (آينشتاين حول إسرائيل والصهيونية Einstein on Israel and Zionism  ) الذي كتبه فريد جيروم Fred Jerome (1939-2020م) الصادر عام 2009م، ,وصدرت طبعته الثانية عام 2023م، فقد كان جيروم يعتقد أن  تحريفاً كبيراً خضعت له مواقف آينشتاين بالشكل الذي أظهره أمام الاخرين على أنه صهيونياً على الدوام في متبنياته، إذ ان الكتاب يحتوي على الرسائل التي كتبها آينشتاين حول اسرائيل والصهيونية معبراً فيها عن تحليلاته ووجهات نظره بهذا الشأن.

إن من الثابت أن آينشتاين كان يؤيد فكرة (الوطن اليهودي the Jewish Homland) في فلسطين كملاذ آمن لليهود في ظل ما يُسمى بحركة معاداة السامية في أوربا، وبشكل مكثف في ألمانيا(2) ، إلا أنه لم يكن يعني بذلك دولة إسرائيل بالشكل القائم حالياً، وإنما كان يهدف إلى إيجاد تسوية تضمن مساواةً حقيقية بين اليهود والعرب في دولة لا تميز بين طرف وآخر، كما انه لم يكُ يدعو إلى أن يكون هذا الوطن حصرياً في فلطسين، وإنما دعا إلى بدائل عدة مقترحاً أماكن في الاتحاد السوفيتي أو الصين أو بيرو(3) ، إذ أن المعروف عن آينشتاين لم يكن إنساناً متديناً باليهودية، بل كان ينتمي ثقافياً لها، وإن مواقفه من الدين كانت تقترب من الدين الربوبي الذي يقوم على الايمان بالارادة العليا الموجِدة للكون، دون الايمان بالتفاصيل الدينية على طريقة الشرائع الدينية المعروفة، ومن هنا كان يؤمن فقط باهمية إيجاد خلاص لمعاناة الشتات اليهودي في الغرب أكثر من الاهتمام بأرض فلسطين من زاوية الرمزية الدينية كما يفعل ذلك الصهاينة واليهود المتدينين من غير الصهاينة، بل كان آينشتاين يعتقد، كما تنص إحدى رسائله على أن التركيز البريطاني (وعد بلفور) على فلسطين للحركة الصهيونية جاء لرغبة المصلحة البريطانية في استبعاد منافسيها كفرنسا وغيرها من فلسطين من خلال فرض الدولة اليهودية هناك، ومن المؤكد أن سيحصل الصدام العربي-الصهيوني وعند لك ستبقى بريطانيا في المنطقة(4) كصانعة سلام من جهة، ولتحافظ على وجودها في الدفاع عن قناة السويس، وكمحطة على الطرق الجوية المستقبلية الى الشرق(5)، أي أننا أمام توافق مصلحي بين الصهيونية والسلطة البريطانية، وكلاهما يتوافقان على إقامة دولة اسرائيلية في فلسطين من وجهة نظر آينشتاين.

وفي جلسة الاستماع للجنة الأنجلو-أمريكية التي تمت فيها دعوة آينشتاين للإدلاء برأيه حول المسألة، وعندما سُأل عن رغبته في دولة يهودية سياسية على طريقة الصهيونية أم كمركز ثقافي يهودي في فلسطين يعيش بتوافق مع العرب، أجاب: لم أكن يوماً مؤيداً للدولة اليهودية(6) ، إذ كان يعتقد بأن وجود اليهود في فلسطين، والعيش تحت سلطة واحدة مع العرب كافياً بالنسبة له، وليس دولة اسرائيلية تقوم بإقصاء وإستبعاد الفلسطينيين، ويعتقد بروس كاتز Bruce Katz أن السياسات التي كانت تمارسها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى إتجاه اليهود، والمعاناة التي عاناها آلبرت لكونه يهودياً، عززت لديه الشعور الثقافي بالانتماء لليهودية، والاقتناع بضرورة السعي الى إيجاد حل للمسألة اليهودية(7) ، ويعترف آينشتاين في إحدى رسائله إلى أن الهجمة العنيفة التي حملتها معاداة السامية في ألمانيا لم تعزز عنده شعور الإنتماء الهوياتي لليهودية فحسب، بل دفعته كذلك إلى الانضمام الى الحركة الصهيونية(8) ، إلا ان الانضمام هذا لم يكن مريحاً للصهاينة على طريقة الذائبين في مشروعهم القومي، فقد كان صهيونياً ناقداً لهم، يقف على الضد من الكثير من أفكارهم وسياساتهم، وقد أدركوا ذلك، لذلك في الرحلة التي رافق فيها حاييم وايزمان (1874-1952م) الى الولايات المتحدة الامريكية عام 1921م من أجل جمع الدعم والترويج،  قام كورت بلومنفيلد (1984-1963م) وهو الذي دعا آينشتاين إلى الانضمام للصهيونية، بتحذير وايزمان من أن لا يتعامل مع آينشتاين كصهيوني، فهو ذو ميول إشتراكية(9) ، ولا يمكن التعامل معه على انه صهيوني على طريقتهم(10) ، وقد كان آينشتاين مدركاً لنظرتهم هذه تجاهه، وأنه لم يذهب بمحض إرادته، إلا أنه برر ذهابه مدفوعاً برغبة جمع التبرعات للجامعة العبرية في القدس(11) ، ويعترف آينشتاين في رسالة أخرى أنه متأكد أنهم –الصهاينة- لا يحتاجون إليه لقدراته، بل من أجل توظيف اسمه وشهرته لاقناع بعض الاثرياء في أمريكا من أجل دعم وتبني المشروع الصهيوني لوايزمان ومن معه(12).

لقد سعت الماكنة الصهيونية إلى تأكيد أن ألبرت آينشتاين كان مؤيداً لإقامة دولة إسرائيل، بينما الواقع يثبت أنه كان يدعو لوطن يهودي (Jewish Homeland) يجمع الشتات اليهودي في فلسطين ليعيشوا معاً في دولة واحدة يشاركهم العرب الفلسطينيون الأصليون على أساس المساواة أمام القانون للجميع، وتقاسم الأرض، ولم يؤيد خطة حاييم وايزمان لإقامة دولة يهودية منفصلة، بل أيّد بإستمرار فكرة دولة فلسطين ثنائية القومية، في حين كانت خطة وايزمان ورفاقه ترحيل الفلسطينيين إلى الأردن(13).

وفي أحد نصوصه يؤكد ألبرت عام 1929م، وبعد أحداث الصدامات في فلسطين، أن أرى أن الأحداث في فلسطين قد أثبتت مجددًا ضرورة بناء تعايش حقيقي بين اليهود والعرب في فلسطين. وأعني بذلك وجود منظمات إدارية واقتصادية واجتماعية مختلطة، تعمل باستمرار، ومن المحتم أن يؤدي هذا التعايش المنفصل بين الحين والآخر إلى توترات خطيرة، علاوة على ذلك، يجب إلزام جميع الأطفال اليهود بتعلم اللغة العربية(14) ، وفي رسالة صريحة إلى حاييم وايزمان أشار آينشتاين إلى أن(إذا لم نتمكن من إيجاد سبيل للتعاون الصادق والمعاهدات الصادقة مع العرب، فإننا لم نتعلم شيئًا خلال معاناتنا التي استمرت ألفي عام، ونستحق المصير الذي سيحل بنا، وفوق كل شيء، في رأيي، يجب علينا تجنب الاعتماد المفرط على الإنجليز)(15)، وكلامه يذكرنا بما قاله يعقوب إسرائيل دي هان إلى محمد أسد الذي ذكره الأخير في كتابه (الطريق إلى مكة) عندما أشار الى أن معاناة ألفي عام لليهود لم تعلمهم الاستفادة من التأريخ لحل مشكلتهم.

وفي عام 1938م، صرّح ألبرت آينشتاين تصريحاً واضحاً بأنه يفضل أن يرى إتفاقاً معقولاً مع العرب على أساس العيش معاً بسلام بدلاً من إنشاء دولة يهودية، مؤكداً أنه يعتقد أن جوهر اليهودية يعارض فكرة دولة يهودية ذات حدود وجيش وقدر من السلطة الدنيوية(16) ، وفي عام ١٩٤٨، وعقب مذبحة دير ياسين، نشر آينشتاين وحنة أرندت (1906-1975م)، وشخصيات يهودية بارزة أخرى، رسالة في صحيفة نيويورك تايمز  ينددون فيها بمناحيم بيغن (1913-1992م) وحزب بيغن باعتبارهما (متقاربين في تنظيمهما وأساليبهما وفلسفتهما السياسية وجاذبيتهما الاجتماعية مع الحزبين النازي والفاشي)(17) ، وهي رؤية تكشف عن أن المقاربة الذي تبناها آينشتان داخل المشروع الصهيوني لم تكن أكثر من التوجه الثقافي الباحث عن وجود يهودي داخل الجغرافية الفلسطينية للعيش معاً مع العرب الفلسطينيين، في حين كان المشروع الصهيوني لوايزمان وبيغن ورفقاهما يقوم على التوجه الإقصائي الاستبعادي للعرب الفلسطينيين، ولأن الصهاينة كانوا على دراية بالأهمية والرمزية التي يحظى بها آينشتاين فقد عمدوا الى توظيف هاتين الأهمية والرمزية في مشروعهم من أجل تلميع صورة السياسة التوحشية التي ينتهجونها في فلسطين وما زالوا.

وربما يمكن الإفتراض أن رفض آينشتاين للعرض الذي قدّمه ديفيد بن غوريون رئيس الوزراء الاسرائيلي وقتها لتولي رئاسة إسرائيل بعد وفاة حاييم وايزمان عام 1952م، ليس بسبب إنشغاله بالتفكير في الفيزياء والرياضيات، وأن لا خبرة لديه في التعامل مع الوظائف العامة ذات العلاقات الانسانية كما قال في إعتذاره(18) فحسب، بل يكشف عن موقفه من السياسة التي تتبناها الحركة الصهيونية في فلسطين، والتي تختلف مع المنظومة الفكرية المنهجية السلوكية التي تتبعها الحركة الصهيونية في فلسطين.

***

د. محمد هاشم البطاط

.........................

المصادر:

(1) والتر إيزاكسون، آينشتاين، حياته وعالمه، ترجمة: هاشم أحمد، ط1 1431هــــ/2010م، دار كلمة، أبو ظبي، ص31 وما بعدها.

(2) للتوسع أكثر حول وجهة نظر آينشتاين بخصوص معاداة السامية إتجاه اليهود في ألمانيا، يُنظر:

Albert Einstein, About Zionism, Speeches and Letters, translated by; Leon Simon, 1st Edition, Macmillan company, New York 1930, p33.                                                                                           (3) Bruce Katz, Einstein on Israel and Zionism, book review, on Internet; www.barakabooks.com

(4) إذ أن العقل السياسي البريطاني كان مدرك تماماً أن مسألة الانتداب البريطاني ستنتهي لاحقاً، لذلك كان السعي حثيثاً من أجل ضمان البقاء طويل الامد في الاراضي العربية.

(5) Fred Jerome, Einstein on Israel and Zionism, 2nd Edition, Baraka books printing, 2023. P23

(6) Ibid, p160.                                                                                                                                                                (7) Bruce Katz, Einstein on Israel and Zionism, book review, on Internet; www.barakabooks.com

(8) Fred Jerome, op.cit, p28.                                                                                                                                       (9) كتب آينشتاين مقالاً حول سبب ميله الاشتراكية بعنوان (لماذا الاشتراكية Why Socialism?)

(10) Bruce Katz, Einstein on Israel and Zionism, book review, on Internet; www.barakabooks.com

(11) Fred Jerome, op.cit, p44.

(12) Ibid, p44

(13) Ibid, p71.

(14) Ibid, p79.

(15) Ibid, p82.

(16) Ibid, p111.

(17) Ibid, p145

(18) يُنظر خبر عرض المنصب على آينشتاين  من قبل ديفيد بن غوريون بوساطة السفير الاسرائيلي في واشنطن في صحيفة new york times  في العدد الصادر بتأريخ 19 نوفمبر عام 1952م، على الانترنت: www.newyorktimes .com

تابع المغاربة، بتمعّن شديد، التطورات التي شهدها المغرب خلال النصف الثاني من سنة 2025. فقد عاش الوطن تفاعلاً سياسيًا يمكن وصفه، في عمومه، بالإيجابي، رغم ما شاب بعض فصوله من حوادث عنف محدودة هنا وهناك. ومع ذلك، يظلّ الحدث في مجمله محطة متميزة في المسار السياسي والدستوري للمغرب المستقل، تكرّس فيها معنى نعمة الاستقرار وبرزت فيها ثمرة نضالات أجيال متعاقبة، تفاعلت مؤسساته الرسمية في ما بينها بحثًا عن السبل الكفيلة برفع مكانة الوطن إلى أن استحق نعته اليوم ب"المغرب الصاعد".

لقد أهلت التراكمات التي حققها الشعب المغربي، بوعيه وإصراره ونضالات قواه الحية، وطنه ليغدو بلدًا ناميًا مدركًا لتحديات الحاضر ورهانات المستقبل، قادرًا على التكيّف مع الأزمات والمحن. وقد مكنه هذا التميّز، الذي نما بفضل يقظة وتضحيات أجياله السياسية وحكمة مؤسساته، من اكتساب موقع ريادي على المستويين الإفريقي والعربي.

اليوم، وبينما يعيش المغاربة ظاهرة جديدة أُطلق عليها "جيل Z السياسي"، يجد هذا الجيل نفسه أكثر انسجامًا مع طموحه في أن يشكل قيمة مضافة في مسار تقوية النسق السياسي وتجويد أثره التنموي وتطوير فعاليته. لقد كُتب للمشهد السياسي المغربي أن يمرّ بمخاضات واضطرابات متكررة، وهو يسعى إلى إيجاد السبل المستنيرة للتوفيق بين القطاعين العام والخاص، وبين الرغبة في رفع نسب المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية والاستفتاءات الوطنية. ومن خلال هذا الحراك، برزت لدى الشباب إشكالية عميقة تتعلق بترابط الانتخابات مع الديمقراطية والتنمية المستدامة.

لقد أصبح واضحًا اليوم أن تعزيز الميول الشعبي، خاصة لدى الأجيال الشابة، نحو المشاركة السياسية، لم يعد منفصلاً عن مطلب الرفع من مستوى تخليق العمل السياسي الديمقراطي. فلم يعد التصويت مجرد مؤشّر رقمي دولي لتشكيل المؤسسات، بل تحوّل، في نظر كل الفئات العمرية، إلى رهان مجتمعي عميق يروم تعميق التفكير المؤسساتي التضامني في تسريع وتيرة التنمية، وتحقيق المساواة والحكامة التدبيرية في مجالات التربية والتعليم والتكوين والصحة، وضمان التوزيع العادل للثروة والمتعة والسعادة على امتداد التراب الوطني.

إن ما تحقق في المغرب اليوم ليس معزولًا عن طموحات الماضي ورهانات الحاضر وتحديات المستقبل. فقد ترسّخ في الأذهان الفائدة من النضال الديمقراطي من داخل المؤسسات ترسيخًا لا يسمح بالارتداد إلى الوراء. واستطاعت المنظومة السياسية المغربية التفاعل بذكاء مع تقلبات النظام العالمي خلال القرنين العشرين والواحد والعشرين، متجاوزة صراعات الحرب الباردة بين القطبين الغربي والشرقي، ومتأقلمة مع تحولات ما بعد سقوط جدار برلين وبروز النظام العالمي الجديد. واليوم، في خضم أزمة "إشباع المنظومة الليبرالية" وتنامي الخطابات اللاشعبية، يجد المغرب نفسه من جديد، ملكًا وشعبًا ومؤسسات، أمام ضرورة تعميق التفكير الحكيم لإيجاد مخرجات ريادية تُسرّع التنمية الاجتماعية وتضمن العدالة المجالية وتسخر التكنولوجيات الحديثة لتطوير التواصل الثقافي والمعرفي.

أحد أبرز المطالب السياسية الراهنة يتمثل في الرفض الشعبي المتنامي لأولئك الذين اختزلوا السياسة في وسيلة للاغتناء السريع والاستيلاء على حق الآخرين في الكرامة والعيش الكريم. ومع اقتراب استحقاقات 2026، عبّر الرأي العام عن استيائه من فئة لا تملّ من ابتداع الأساليب الملتوية لتسخير الوساطة السياسية لخدمة مصالحها الخاصة، بعيدًا عن هموم المواطنين وتطلعاتهم. إنّه تيار يسعى إلى تكريس هيمنته على مراكز القوة والثروة، مفضّلًا توسيع قاعدته التابعة على حساب الجماهير الشابة التي تمثل الطاقة الحيوية للأمة.

لقد كانت التوجيهات الملكية للعهد الجديد واضحة منذ البداية: المسؤولية الملقاة على عاتق الجيل الصاعد هي التعبير اليومي، بسلمية وحكمة، عن قدرته على الإسهام الفعلي في الرفع من مستوى الرضا الشعبي عن نجاعة السياسات العمومية وشفافيتها، بما يعزز الثقة في النخب المقبلة. فالبلاد في حاجة ماسّة إلى إشراك الشعب في التفكير وصنع الحلول السياسية اليومية، حتى تكتمل ملامح الأمة المغربية المنشودة، القادرة على المنافسة إقليميًا وجهويًا وعالميًا.

منذ الاستقلال، سعت الدولة المغربية إلى بناء فضاء مؤسساتي يحتضن الجميع، قائم على المردودية والتفاعل الإيجابي مع الأفراد والجماعات. هذا الفضاء هو القادر على قيادة التغيير بخطى ثابتة، دون مغامرة، في سبيل ربط الوطن بخدمة مواطنيه عبر تجديد آليات التربية والتعليم والتكوين، لبناء نسق سياسي يضمن ديمومة الجودة في صناعة النخب. وقد عبّرت مختلف المؤسسات الوطنية، الحامية لوحدة الوطن وسيادته، عن إرادتها الراسخة في تكثيف الجهود لتغليب منطق الكفاءة والمسؤولية، وربطها بالمحاسبة المؤسسية والانتخابية.

ما حققه المغرب مدعاة للفخر. فإلى جانب ما شُيّد من بنى تحتية وتجهيزات اقتصادية كبرى، أضحى ترابه، بشهادة المتتبعين، فضاءً آمنًا وجاذبًا لحركية رؤوس الأموال والكفاءات البشرية شمالًا وجنوبًا. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى تأهيل الوطن لاستقبال ولادات جديدة، تجعل من فضاءات الطفولة والشباب مجالًا للتنشئة الخلّاقة والمنتجة، وترفع من جاذبية جماعاته الترابية داخليًا وخارجيًا، لتغدو حتى مناطقه الجبلية والواحاتية والصحراوية فضاءات مضيافة غنية بالفرص ومحافظة على تراثه المعماري وعلى قيم المساواة والاستحقاق ومقومات العيش المشترك.

واستحضارًا لما سبق، تجد أجيال الحاضر والمستقبل نفسها أمام تحدٍّ يتمثل في تعزيز تلاحم النخب الجادة بروح بنّاءة، تضمن لثورة الملك والشعب، ولشعار المملكة "الله، الوطن، الملك"، في سياق الاستمرارية، انطلاقة جديدة. فالتحدي الأكبر اليوم هو تحويل الفاعل السياسي إلى قدوة تُعلّم الأجيال حبّ الوطن، والجدّ في خدمته، وجعل ترابه فضاءً رحبًا يحتضن أبناءه، ويورّثهم قيم العمل الوطني ومعنى الافتخار بالانتماء.

وفي الختام، يمكن القول إن المغرب في حاجة ملحّة إلى حوار وطني لتجديد مفهوم الفاعل السياسي ومنطق انتقائه باستحضار القيم النبيلة للمشاركة السياسية. فعلى الفاعل الشاب، الذي أصبح صوته مسموعًا، أن يواصل التفكير بعمق في إشكاليات تتعلق بتكافؤ الفرص والتنمية الاجتماعية والعدالة المجالية. فلا سبيل لربط التنمية بالديمقراطية إلا عبر المشاركة الفعلية. إن ورش تأهيل الشباب لخدمة الوطن ورهان بناء المستقبل يتطلبان مجهودًا مضنيًا، وقد قطع المغرب فيه أشواطًا مشرفة تستحق التقدير والثقة.

***

الحسين بوخرطة

تتدحرج علينا اليوم صورٌ مفصَّلة من حراكٍ شبابي لا يشبه أيّ سابقاته، ليس لأن صوته أعلى أو أسلوبه أكثر ضوضاءً فحسب، بل لأن مطالبَه تُعيد تركيب المعيار الوطني. إنها ليست صرخةٍ ضد فقرٍ معيشيٍ آتي أو بطالةٍ عابرة فحسب، بل هي فعلُ رفضٍ لِما تحوّل إلى شبكة مصالحٍ تُطفئ حسّ المواطنة وتُجهد معنى العدل.

هنا، لا نقف أمام صراعٍ بين أجيالٍ فحسب. بل أمام تلاقٍ صارخ بين وعيٍ اجتماعيّ جديد، يطالب بالكرامة اليومية، وبين طبقات زادت ثروتها في ظلّ هشاشة المؤسسات، حتى صارت "الأغلبية الحكومية" الذين يلبسون عباءة الدولة مجرد قنطرةٍ لتمرير الريع والامتياز.

الحراك الشبابي بهذا المعنى، ليس ثورةً على الأشخاص فحسب، بل هي رفضٌ لمنطقٍ مؤسساتيٍ اختلّ. وهي تُذكّرنا بأن الشرعية لا تُقاس بشارات ولا بترتيباتٍ سياسيةٍ مؤقتة، بل بقيمةٍ تقيّمها حياة الناس اليومية، كجودة الخدمات وعدالة المنافع ونزاهة القضاء وشفافية القرار ورعاية الكرامة. حين يتهاوى هذا المعيار تغدو الدولة خانةً فارغة يملؤها من يشاء.

بعد ذلك، نتساءل: ما الذي يجعل الشباب ينهض ضدّ الحكومة؟ الجواب يتأتى من عدة أوجه متداخلة. إحساسٌ متزايدٌ بالغبن، رؤيةٌ متخطية للزمن الحزبي التقليدي، ووسائل اتصالٍ رقميةٌ تُعيد تشكيل الرأي العام خارج البنى الحزبية والمصالح العتيقة. فالشباب اليوم لا يطلب مجرّد إصلاحٍ تقنيٍّ، إنه يطالب بإعادة تأسيس المعنى الاجتماعي للدولة كمجالٍ للكرامة والتوزيع العادل لا مجالٍ للاحتكار.

وتأتي ضرورة قراءة هذا الحراك بوصفه منبّهًا استراتيجيًا، إذا كانت المؤسسات ستردّ بالعنف أو بالزجّ في منطق التهميش والاستنقاص، فسيكتمل تآكل الثقة. أما إن استجابت بما يليق، فإنّ فرصة التجديد قائمة، ليس تجديدًا تجميليًا، بل تحويلًا جوهريًا لمسارات السياسات الاقتصادية والاجتماعية والحكامة.

لكن لا يكفي أن نقول إنّ الشباب على حقّ والسلطة على خطأ. فهناك امتحانٌ أخلاقي يطال الجميع، من المثقفين والنخب الدينية والفاعلين المدنيين، والممسكين بمفاصل القرار. يتعلّق الامتحان بقدرة هذه الأطراف على قراءة الدلالة الأخلاقية للحراك، وتحويلها إلى سياساتٍ ملموسة تحفظ الكرامة وتفتح فرصًا حقيقية للعدالة. هذه مسؤولية لا تحتمل المقولات السقيمة عن الشرعيات المصلحية أو عن استدامة تقاليدٍ لا تخدم أحدًا سوى نخبٍ معزولة.

فضلاً عن ذلك، على خطاب الإصلاح أن يتحلّى بصدقٍ نابعٍ من أخلاقيات التوبة والتغيير. فلا إخفاءٌ للملفات، ولا تجميلٌ للوقائع، بل حوارٌ علنيٌّ مع المجتمع، وإجراءاتٌ مؤسساتية قوية تُعيد المال العام إلى مستحقيه، وتُعيد للمواطنة مقوّماتها.

 الإصلاح لا يكتمل إلا بإرساء منظومة عدالة متجانسة، تضمن مساءلة الجميع بلا استثناء، وربط الاستحقاق بالقدرة والكفاءة والخدمة العامة.

إن حراك الشباب تذكرنا بأنّ العقد السياسي لا يصمد إن لم يكن مبنيًا على ثِقل العدالة والاحترام. وما لم تُقرأ هذه المطالب قراءةً جدّية، فإنّ الفجوة ستتعمّق، وسيبقى الحراك نبضةً تهزّ الواجهة، لا محركًا لتحوّلٍ مستدام. أما إذا استُغلت الفرصة لتأسيس قطيعةٍ حقيقية مع منظومة الريع والفساد، فسيكون هذا الجيل شاهداً على ميلاد معنىٍ جديدٍ للوطن، واحدٍ لا يُقاس إلا بمدى كرامةِ أُسَرِه وأبنائه.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

في وقت تتداخل فيه مفاهيم العدالة والهيمنة، وتُعاد فيه صياغة القيم الإنسانية وفق خرائط المصالح السياسية، جاء إعلان فوز "ماريا كورينا ماتشادو" بجائزة نوبل للسلام لعام 2025 كحدث مثير للجدل، لا بسبب نضالها المحلي في فنزويلا فحسب، بل بسبب مواقفها الدولية التي تضع الجائزة نفسها تحت مجهر النقد الأخلاقي.

لم يكن هذا الفوز مجرد تكريم لشخصية سياسية معارضة، بل بدا وكأنه إعادة تعريف لمفهوم "السلام" في سياق عالمي مضطرب. ففي الوقت الذي كانت فيه غزة تنزف تحت القصف، وتُسجّل عشرات آلاف الأرواح في قوائم الشهداء، خرجت ماتشادو لتعلن دعمها لإسرائيل، واصفةً ما جرى بأنه "هجوم إرهابي" يستحق الإدانة. لم تذكر الضحايا المدنيين، ولم تتوقف عند صور الأطفال تحت الركام، بل اختارت الاصطفاف مع القوة، لا مع الضحية.

هذا التناقض الصارخ بين نضالها السلمي في الداخل، وموقفها المتحيز في الخارج، يفتح الباب لسؤال جوهري: هل يمكن فصل الأخلاق السياسية عن الأخلاق الإنسانية؟ وهل يحق لمن يتجاهل الإبادة الجماعية أن يُكرّم بوصفه رمزًا للسلام؟

إن فوز ماتشادو بالجائزة يطرح إشكالية أعمق من مجرد الجدل السياسي؛ إنه يعكس أزمة في المعايير العالمية التي تُمنح بها الجوائز، ويكشف عن فجوة بين ما يُقال وما يُمارس، بين الشعارات المرفوعة والدماء المسكوت عنها.

ورغم أن جائزة نوبل للسلام مُنحت للمعارضة الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو لها تقديراً لنضالها السلمي ضد النظام في فنزويلا، فإن مواقفها السياسية الخارجية — ومنها دعمها العلني لإسرائيل في حربها على غزة — تضع الجائزة في موضع تساؤل أخلاقي لدى كثيرين، خصوصاً في العالمين العربي والإسلامي.

تظهر ازدواجية المعايير لدى القائمين على الجائزة في أن الجائزة تُمنح باسم "السلام"، بينما الفائزة تدعم طرفاً متهماً بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية بحق المدنيين في غزة. هذا يثير تساؤلات: هل تُمنح الجائزة على أساس نضال محلي فقط؟ أم يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار الموقف من القضايا الإنسانية العالمية؟

إن دعم ماتشادو لإسرائيل في حربها على غزة يُنظر إليه كـ"تواطؤ أخلاقي" مع آلة القتل، لا سيما في ظل عشرات آلاف الشهداء من المدنيين، بينهم أطفال ونساء. وفوزها قد يُفهم كرسالة ضمنية بأن معاناة الفلسطينيين لا تُحتسب ضمن معايير "السلام.  فالجائزة التي من المفترض أن ترفع صوت المظلومين، قد تُقرأ الآن كأنها تكافئ من يتجاهل أو يبرر معاناة شعب بأكمله. هذا يُضعف من مصداقية الجائزة في عيون الشعوب التي ترى في فلسطين رمزاً للعدالة المفقودة.

إن فوز شخصية تدعم إسرائيل في حربها على غزة بجائزة نوبل للسلام يفتح الباب لنقاش عالمي حول: من يملك حق تعريف "السلام"؟ وهل يمكن فصل النضال المحلي عن المواقف الدولية؟ وهل الجائزة تُمنح على أساس المبادئ، أم على أساس الاصطفافات السياسية؟

في هذا المقال، نحاول تفكيك دلالات هذا الفوز، لا من باب التشكيك في نضالها المحلي، بل من باب مساءلة المعايير الأخلاقية التي تُمنح بها الجوائز، والرسائل الرمزية التي تحملها في زمن تتقاطع فيه المأساة الفلسطينية مع صمت العالم، بل وتواطئه أحياناً.

دلالة الجائزة في السياق الفلسطيني

في اللحظة التي كانت فيها جائزة نوبل تُمنح لماريا كورينا ماتشادو بوصفها "رمزاً للنضال السلمي"، كانت غزة تغرق في الدماء. لم تكن الجائزة مجرد حدث ثقافي أو سياسي، بل كانت صفعة رمزية على وجه كل من يؤمن بأن السلام لا يُبنى فوق أشلاء الأطفال.

في سياق فلسطيني مثقل بالقهر، حيث تُقصف البيوت على رؤوس ساكنيها، وتُدفن العائلات تحت الركام، جاء هذا التكريم وكأنه إعلان عالمي بأن دم الفلسطيني لا يُحتسب ضمن معايير العدالة الدولية.

إن فوز شخصية دعمت إسرائيل علناً في حربها على غزة، ووصفها للمقاومة الفلسطينية بأنها "إرهاب"، يطرح سؤالاً موجعاً: هل باتت جائزة نوبل للسلام تُمنح لمن يصطف مع القوة، لا مع الضحية؟ وهل يمكن أن يُكرّم من يبرر الإبادة، بينما يُترك من يُبادون بلا صوت ولا منصة؟

في غزة، لا يحتاج الناس إلى جوائز، بل إلى وقف القتل. إلى اعتراف بإنسانيتهم. إلى عالم لا يكافئ من يبرر محوهم. الجائزة، في هذا السياق، لم تكن تكريماً للنضال، بل تواطؤاً مع الصمت. لقد تحولت من رمز للأمل إلى مرآة تعكس ازدواجية المعايير، حيث يُحتفى بمن يقاوم الاستبداد في بلاده، ويُغض الطرف عن دعمه لاستبداد آخر يمارس القتل الجماعي باسم الدفاع.

إنها لحظة أخلاقية حرجة، تُظهر أن العالم لا يملك معياراً موحداً للعدالة. فالفلسطيني، حين يُقتل، لا يُذكر في بيانات نوبل، ولا يُستحضر في خطابات التكريم. وكأن موته لا يُزعج ضمير الإنسانية، بل يُمرر كخبر عابر في نشرة المساء.

في هذا السياق، لا يمكن فصل الجائزة عن سياقها السياسي. إنها ليست فقط تتويجاً لمسيرة معارضة، بل أيضاً تبييضاً لمواقف دولية منحازة، تُعيد إنتاج الظلم تحت غطاء السلام.

ومن هنا، فإن دلالة الجائزة في السياق الفلسطيني ليست شرفاً، بل جرحاً مفتوحاً في ضمير العالم.

ازدواجية المعايير الغربية

منذ عقود، تتحدث القوى الغربية عن الديمقراطية، حقوق الإنسان، والسلام بوصفها قيماً كونية لا تُجزّأ. لكن الواقع يكشف أن هذه القيم تُطبّق بانتقائية، وتُمنح وفقاً لمصالح سياسية لا وفقاً لمبادئ أخلاقية. فحين تُمنح جائزة نوبل للسلام لشخصية دعمت إسرائيل في حربها على غزة، رغم عشرات آلاف القتلى من المدنيين، فإن ذلك يُجسّد بوضوح ما يُعرف بازدواجية المعايير الغربية.

الغرب الذي يندد بانتهاكات حقوق الإنسان في فنزويلا أو إيران، يصمت — أو يبرر — حين تُرتكب جرائم حرب في فلسطين. يُدين القمع السياسي حين يكون الخصم غير حليف، لكنه يغض الطرف حين يكون القاتل شريكاً استراتيجياً. هذه الازدواجية لا تُضعف فقط مصداقية الخطاب الغربي، بل تُحوّله إلى أداة هيمنة، لا إلى منظومة قيم.

فوز ماريا كورينا ماتشادو، رغم دعمها لإسرائيل في قصف غزة، يُظهر أن "السلام" في المنظور الغربي لا يشمل الفلسطينيين. وكأنهم خارج تعريف الإنسانية، أو أن موتهم لا يُزعج ضمير العالم. هذا التناقض يُعيد إنتاج الظلم، ويُعمّق الشعور بأن العدالة الدولية ليست سوى امتداد للنفوذ السياسي، لا تعبيراً عن ضمير كوني.

ازدواجية المعايير لا تقتصر على الجوائز، بل تمتد إلى الإعلام، القانون الدولي، وحتى آليات المحاسبة. فحين يُحاكم قادة أفارقة في لاهاي، بينما يُمنح قادة آخرون الغطاء السياسي رغم ارتكابهم جرائم موثقة، فإن ذلك يُكرّس نظاماً عالمياً قائماً على التمييز، لا على المساواة.

في هذا السياق، تصبح جائزة نوبل للسلام — حين تُمنح لمن يتجاهل الإبادة في غزة — ليست فقط موضع شك، بل رمزاً لانهيار المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن تُشكّل جوهرها.

أثر الجائزة على صورة نوبل عالمياً

لطالما ارتبط اسم "نوبل للسلام" بالضمير الإنساني، بوصفها الجائزة التي تُمنح لمن يواجه الظلم، لا من يبرره. لكنها اليوم، بعد تكريم شخصية دعمت علناً طرفاً متهماً بارتكاب جرائم حرب في غزة، تواجه أزمة هوية. لم يعد السؤال فقط عن من يستحق الجائزة، بل عن ما إذا كانت الجائزة نفسها لا تزال تمثل السلام.

هذا الفوز أعاد طرح تساؤلات قديمة بصيغة أكثر إلحاحاً: هل نوبل للسلام تُمنح وفقاً لمعايير أخلاقية عالمية؟ أم أنها انعكاس لتوازنات سياسية غربية؟

 لقد تآكلت صورة الجائزة في أعين كثيرين، لا بسبب ماتشادو وحدها، بل بسبب السياق الذي تجاهل فيه العالم معاناة شعب يُباد أمام الكاميرات، بينما تُكرّم من تجاهل تلك الإبادة.

في الجنوب العالمي، حيث تُخاض المعارك من أجل الكرامة والحق في الحياة، لم يعد يُنظر إلى نوبل بوصفها وساماً أخلاقياً، بل كأداة انتقائية تُمنح لمن ينسجم مع سردية القوى الكبرى. هذا التحول لا يُضعف فقط رمزية الجائزة، بل يُفرغها من بعدها الإنساني، ويحوّلها إلى احتفال مغلق لا يسمع سوى صدى نفسه.

لقد كانت نوبل للسلام، في لحظات تاريخية، منارة للضمير العالمي: حين مُنحت لنيلسون مانديلا، أو ملالا يوسفزاي، أو حتى منظمات إنسانية. أما اليوم، فإنها تبدو وكأنها تبتعد عن ضحايا الحروب، وتقترب من منطق القوة. وهذا الانزياح يُهدد بفقدان الثقة في الجائزة، ويجعلها موضع شك لا موضع إجماع.

في النهاية، فإن أثر هذا الفوز لا يقتصر على لحظة التكريم، بل يمتد إلى كل من يرى في نوبل مرآة للعدالة. وإذا انكسرت تلك المرآة، فإن العالم يفقد أحد رموزه القليلة التي كانت تُقاوم النسيان.

السلام كأداة لإعادة إنتاج الهيمنة

في عالم تُعاد فيه صياغة المفاهيم وفقاً لموازين القوة، لم يعد "السلام" قيمة إنسانية تُسعى إليها، بل أصبح أداة تُستخدم لتثبيت النفوذ وإعادة إنتاج الهيمنة. فحين تُمنح جائزة نوبل للسلام لشخصية تتبنى خطاباً سياسياً ينسجم مع مصالح الغرب، حتى لو تجاهلت مجازر تُرتكب بحق شعب بأكمله، فإن ذلك يكشف عن تحول خطير في وظيفة الجائزة: من تكريم الضمير إلى تكريس الاصطفاف.

لم يعد السلام، كما يُروّج له في الجوائز الدولية، مرتبطاً بالعدالة أو إنقاذ الأرواح، بل بات يُستخدم لتلميع صور من يقفون على الجانب "الصحيح" من التاريخ كما تراه القوى الكبرى. يُكافأ من يواجه الاستبداد المحلي، بشرط ألا يُزعج النظام العالمي القائم. يُحتفى بمن يرفع شعارات الحرية، بشرط أن لا يمدّها إلى شعوب تُباد خارج دائرة الضوء.

هذا الاستخدام السياسي للسلام يُعيد إنتاج الهيمنة بطريقة ناعمة، تُخفي القمع خلف لغة نبيلة، وتُبرر الصمت خلف شعارات التوازن. فالجائزة، حين تُمنح لمن يتجاهل الإبادة في غزة، لا تُكرّم فقط نضاله المحلي، بل تُعيد ترسيخ سردية عالمية تُقصي من لا ينسجم معها، وتُهمّش من لا يُناسب صورتها المثالية.

إنه سلام يُمنح لمن يُرضي، لا لمن يُنقذ. سلام يُستخدم لتثبيت النفوذ، لا لتفكيك الظلم. سلام يُعاد تعريفه كل عام، وفقًا لما يناسب مصالح المانحين، لا ما يُنقذ الضحايا.

في هذا السياق، تصبح جائزة نوبل للسلام جزءاً من منظومة الهيمنة الرمزية، تُعيد إنتاج القوة تحت غطاء الأخلاق، وتُعيد رسم خريطة العالم وفقاً لمن يستحق أن يُسمع، ومن يُترك ليموت بصمت.

حين يصبح السلام امتيازاً سياسياً لا حقاً إنسانياً

في عالمٍ يزداد فيه الضجيج، وتُغرق فيه الحقائق تحت ركام الخطابات المصممة بعناية، تأتي جائزة نوبل للسلام هذا العام كمرآة مشروخة تعكس أكثر مما تُنير. لم يعد السؤال عن من فاز، بل عن من غاب. عن الأصوات التي لم تُسمع، والدماء التي لم تُحتسب، والوجوه التي لم تُذكر في بيانات التكريم.

فوز ماريا كورينا ماتشادو، بكل ما يحمله من رمزية سياسية، يكشف أن الجوائز لم تعد تُمنح لمن يُنقذ، بل لمن يُناسب. وأن السلام، حين يُنتزع من سياقه الإنساني، يتحول إلى شعار فارغ، يُستخدم لتجميل مشهدٍ يزداد قتامة.

في غزة، لا تُمنح الجوائز، بل تُمنح الحياة لمن ينجو صدفة. وفي العالم، تُمنح الجوائز لمن ينجو سياسياً من اختبار الضمير. وبين النجاة الأولى والثانية، يسقط المعنى، ويتحول السلام إلى امتياز، لا إلى حق.

ربما لا تُغيّر الجائزة الواقع، لكنها تُخبرنا كيف يُعاد تشكيله. ومن هنا، فإن رفض هذا التناقض ليس موقفاً سياسياً فحسب، بل هو فعل مقاومة أخلاقي، يُعيد للسلام معناه، وللضمير مكانه، وللإنسانية صوتها الذي لا ينبغي أن يُكتم.

***

الدكتور حسن العاصي

باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني

من لحظة التمكين إلى هاوية الانكسار (2011 – الآن)

 خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (4)

***

في الجزء الثالث، تابعنا كيف ولدت القاعدة من رحم الإسلام السياسي، وكيف لعب السودان دورًا في احتضانها. واليوم نصل إلى مرحلة ما بعد ٢٠١١: لحظة الربيع العربي، حين بدا أن الإخوان على وشك السيطرة، قبل أن يسقطوا في هاوية الانكسار.

حين انفجرت ثورات ٢٠١١ في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، بدا المشهد وكأنه لحظة تاريخية نادرة: الجماهير تهدم جدران الخوف، الأنظمة التي بدت أبدية تتساقط في أسابيع، والساحات تمتلئ بشعارات الحرية والعدالة. لكن وسط هذا الزخم، كان الإسلام السياسي – وفي القلب منه جماعة الإخوان المسلمين – يتهيأ ليقطف الثمار. لم يكن حضوره وليد اللحظة؛ كان نتيجة تراكم عقود من التنظيم السري، السيطرة على النقابات والجامعات، ونسج شبكات اجتماعية وخيرية عميقة. وحين فُتحت صناديق الاقتراع لأول مرة، ظهر الإخوان كأكبر قوة منظمة.

في تونس، صعدت حركة النهضة بقيادة راشد الغنوشي، معلنة تبنيها خطابًا “ديمقراطيًا” و”توافقيًا”، لكن جذورها الإخوانية ظلت واضحة: رؤية شمولية تُدخل الدين في كل مفاصل الحياة. في مصر، فاز الإخوان بالرئاسة عبر محمد مرسي في يونيو ٢٠١٢، في لحظة وُصفت بأنها “التمكين الأكبر” منذ تأسيس الجماعة عام ١٩٢٨. بدا وكأن الحلم الذي راود البنّا وقطب قد تحقق أخيرًا: الجماعة على رأس الدولة، قادرة على صياغة الدستور والسياسة والخارجية.

لكن هذا الصعود السريع كشف عن هشاشته بنفس السرعة التي صعد بها. فالإخوان لم يملكوا مشروع دولة، بل مشروع سلطة. لم يستطيعوا إدارة التنوع، ولا استيعاب القوى المدنية والعسكرية. اصطدموا بالجيش، وأقصوا خصومهم، فبدأت الجماهير التي منحتهم أصواتها تنقلب عليهم. ومع ٣/٧/٢٠١٣، أُطيح بمرسي في انقلاب عسكري مدعوم من الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع.

لحظة الانكسار هذه لم تكن مجرد هزيمة سياسية، بل لحظة عُري كامل: الجماعة التي ادّعت تمثيل الأمة وجدت نفسها منبوذة من قطاعات واسعة من الشعب، ومطاردة من الدولة.

في مصر ما بعد ٢٠١٣، عاد العنف كخيار. شهدت البلاد سلسلة تفجيرات وعمليات مسلحة نُسبت إلى جماعات إسلامية بعضها خرج من رحم الإخوان. في رابعة العدوية، سقط المئات في مجزرة بشعة، تركت ندبة في الذاكرة الوطنية. لكن بدلًا من أن تتحول إلى مراجعة نقدية، تحولت في خطاب الجماعة إلى “كربلاء جديدة”، تُغذي خطاب المظلومية وتبرر الانغلاق والعنف. وسرعان ما تفتّتت الجماعة داخليًا إلى أجنحة متصارعة: جناح إصلاحي يطالب بالمراجعة، وجناح متشدد يرى أن السلاح هو الرد الوحيد. هذه الانقسامات أضعفت بنيتها، لكنها لم تمنعها من محاولة إعادة التمركز عبر الإعلام الرقمي والمنصات الخارجية.

في سوريا، كان المشهد أكثر دموية. اندلاع الثورة ضد بشار الأسد ٢٠١١ فتح الباب لتدخل جماعات إسلامية مسلحة، بينها جبهة النصرة (فرع القاعدة في الشام). ورغم أن الإخوان السوريين حاولوا التمايز، إلا أن الواقع أظهر تداخلاً كبيرًا: نفس الخطاب، نفس البنية، نفس الحلم بإقامة دولة إسلامية. ومع صعود “داعش” ٢٠١٣–٢٠١٤، بدا أن كل الخطوط الفاصلة قد انهارت. داعش – رغم عدائها المعلن للإخوان – جسدت أقصى ما يمكن أن تصل إليه الأيديولوجيا التكفيرية التي مهد لها قطب: دولة الخلافة كيوتوبيا دموية، تُدار بالذبح والتكفير والاغتصاب.

في ليبيا واليمن، لعب الإسلاميون أدوارًا ملتبسة: مرة في الحكم، مرة في المعارضة، ومرة في الميليشيات المسلحة. في كل الحالات، ظلّ المشهد متشابهًا: غياب مشروع وطني، حضور خطاب ديني مُسيس، وانزلاق نحو العنف. وفي السودان، وبعد سقوط البشير ٢٠١٩، بدا أن المشروع الإخواني قد وصل إلى نهايته. لكن الواقع كشف أن شبكاته العميقة لا تزال تتحرك في الظل، عبر الميليشيات، الاقتصاد الموازي، والأذرع الإعلامية.

التجربة التونسية بعد ٢٠١٤ كشفت مأزقًا إضافيًا. فحركة النهضة التي قدمت نفسها كقوة توافقية، تراجعت عن خطابها المدني بسرعة كلما اقتربت من السلطة. دستور ٢٠١٤ بدا ثمرة توافق، لكنه سرعان ما تحوّل إلى ساحة صراع بين النهضة وخصومها. وعندما جاء قيس سعيد إلى الرئاسة عام ٢٠١٩، استثمر حالة الغضب الشعبي ضد فساد الطبقة السياسية، وكان جزء كبير منه موجّهًا ضد النهضة. تجميد البرلمان في ٢٥/٧/٢٠٢١ بدا وكأنه إعلان شعبي بانتهاء أسطورة الإسلام السياسي في تونس، الدولة التي اعتبرها كثيرون نموذجًا للانتقال الديمقراطي. وهكذا، تحوّل “التمكين” إلى عبء، وأصبح وجود النهضة في الحكم رمزًا للفشل بدلًا من الأمل.

أما في المغرب، فقد واجه حزب العدالة والتنمية – وهو الامتداد المحلي للإخوان – تجربة مختلفة لكنها تحمل دلالات مشابهة. فبعد سنوات في السلطة، سقط سقوطًا مدويًا في انتخابات ٢٠٢١، حين خسر مقاعده البرلمانية بشكل شبه كامل. الرسالة كانت واضحة: الناخب المغربي لم يعد يثق بالشعارات الدينية إذا لم تقترن ببرامج اقتصادية واجتماعية فعالة. في موريتانيا والجزائر أيضًا، ظل الإسلام السياسي يتأرجح بين المشاركة السياسية والانغلاق الأيديولوجي، لكنه لم ينجح في تقديم نموذج مختلف أو جذاب.

التنظيم الدولي للإخوان حاول أن يعوض هذه الخسائر بالتمركز في أوروبا. ففي لندن وإسطنبول والدوحة، أسس مكاتبه ومؤسساته الإعلامية، وحاول أن يقدم نفسه كصوت “المسلمين المضطهدين”. لكن أوروبا لم تعد تنظر إليهم كما في السابق. بعد هجمات باريس وبروكسل ٢٠١٥–٢٠١٦، صارت السلطات أكثر تشددًا في التعامل مع الجمعيات الإخوانية. تقارير برلمانية في فرنسا وألمانيا وبريطانيا ربطت بينهم وبين نشر الفكر المتشدد حتى إن لم يحمل شكل العنف المباشر. ومع أن بعض العواصم استمرت في استقبالهم بحجة حرية التنظيم، إلا أن الشكوك تراكمت، وبدأت الملاحقات القانونية تطال أنشطتهم المالية والدعوية.

 تركيا وقطر بدورهما لعبتا دورًا محوريًا. فقد تحولت إسطنبول بعد ٢٠١٣ إلى مركز إعلامي للإخوان، حيث انطلقت قنوات فضائية وصحف ومواقع إلكترونية تخاطب العالم العربي بخطاب المظلومية. ووفرت الدوحة مظلة مالية وإعلامية، مستخدمة أدواتها الناعمة لتسويق الجماعة كضحية للأنظمة القمعية. لكن هذا الدعم لم يغير حقيقة أن الإسلام السياسي فقد جاذبيته أمام جماهير عاشت تجربة مباشرة مع حكمه، واكتشفت خواء شعاراته.

العالم بدوره أعاد النظر في الإخوان. مصر والسعودية والإمارات أعلنتهم تنظيمًا إرهابيًا. الولايات المتحدة وأوروبا انقسمت: بعض الأصوات رأت فيهم حائط صد ضد التطرف، فيما اعتبر آخرون أن تمييزهم عن القاعدة وداعش ليس إلا مسألة تكتيكية. وقد وصف باحثون غربيون جماعة الإخوان بأنها “المظلة الأوسع التي خرجت منها معظم التنظيمات الجهادية”. أما المفكرة المصرية نيرفانا محمود، فقالت بوضوح إنهم “ليسوا حزبًا محافظًا بل جماعة تسيء إلى الإسلام”.

التحليل النفسي في هذه المرحلة يكشف ما يمكن تسميته “عقدة المظلومية المزمنة”. فالجماعة تفسر كل هزيمة باعتبارها امتحانًا إلهيًا، وكل إقصاء كدليل على صدق رسالتها. هذا التفكير يُعيد إنتاج العنف: بدلًا من مراجعة الذات، يتحول الإحباط إلى تبرير للاغتيال والتفجير. الفرد الإخواني يعيش داخل سردية مغلقة: نحن المظلومون/هم الظالمون، نحن المؤمنون/هم الكافرون. وهذه الثنائية، كما يقول علماء النفس السياسي، هي الوقود الأول لكل عنف أيديولوجي.

لكن الأهم أن ثورات ٢٠١١ أظهرت تناقضًا صارخًا: الجماهير خرجت تطالب بالحرية والعدالة والدولة المدنية، بينما الإخوان حاولوا إعادة إنتاج الدولة الدينية. هذا التناقض هو ما أسقطهم سريعًا. فالمجتمع العربي – رغم ضعفه – لم يعد قابلًا للانصياع الكامل لشعارات “الإسلام هو الحل”. الناس جربت، واكتشفت أن وراء هذا الشعار فراغًا، وأن وراء التنظيم استبدادًا مقنّعًا.

اليوم، بعد أكثر من عقد على الربيع العربي، تقف الجماعة في مأزق تاريخي: مطاردة في مصر، محاصرة في الخليج، منقسمة في السودان، مُتهمة في أوروبا، ومحرجة أمام شباب عربي اكتشف أن الدولة الدينية ليست حلمًا بل كابوسًا. ومع ذلك، لا يزال التنظيم العالمي موجودًا: في لندن وإسطنبول والدوحة، مكاتب ومؤتمرات، محاولات لإعادة التموضع، استثمار في الإعلام الرقمي. لكن هالة القداسة سقطت، وبات السؤال الأعمق: هل يمكن لجماعة قامت على السرية والعنف أن تتحول إلى حزب سياسي طبيعي؟

المفكرون الاشتراكيون يرون العكس. صادق جلال العظم كان يقول إن “كل مشروع يرفض النقد وينغلق على النصوص محكوم بالانتحار”. والطيب تيزيني أضاف أن “الإسلام السياسي يسجن الأمة في ماضٍ متخيَّل ليُخفي عجزه عن الحاضر”. هذه الأقوال لا تزال صالحة اليوم: الجماعة التي لم تُنتج سوى الاغتيال والمظلومية، لم تقدم بديلًا فكريًا أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا.

من زاوية فلسفية، يمكن القول إن مرحلة ما بعد ٢٠١١ عرّت الإسلام السياسي أكثر من أي وقت مضى. في مصر، كشف عن عجزه عن إدارة الدولة. في تونس، كشف عن فشله في إقناع المجتمع بأنه قوة مدنية. في سوريا وليبيا واليمن، كشف عن قابليته للتحول إلى ميليشيات. في السودان، كشف عن بنيته العنيفة العميقة. وفي فلسطين، كشف عن مأزق الجمع بين المقاومة والسلطة. وهكذا، من لحظة التمكين إلى هاوية الانكسار، اتضح أن الإسلام السياسي ليس مشروع خلاص، بل مشروع أزمة دائمة.

الأسبوع المقبل نصل إلى الجزء الخامس والأخير: نقد ما بعد السرد، قراءة في البنية العميقة في مشروع الإخوان، حيث نحاول أن نفكك البنية الفكرية والنفسية للجماعة، ونطرح أسئلة المستقبل.

***

إبراهيم برسي

شهد المغرب، قبل أسابيع قليلة من موعد افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية الخامسة من الولاية الحادية عشرة يوم 10 أكتوبر 2025، حدثًا سياسيًا بارزًا حمل دلالات وتأويلات متعددة. فقد تصاعدت وتيرة الاحتجاجات، وتنوّعت الاعتقالات وإخلاءات السبيل، وترافقت المشاهد بلوحات تصالحية تجسّد روح المحبة والوُدّ بين رجال الأمن والمحتجّين، حيث تبادل الطرفان التحايا والورود ورفعوا شعار: "سلمية، سلمية".

لقد أجمعت مختلف أجيال المغرب على نضج شباب جيل Z، الذي طرح لأول مرة إشكالية «الأنا السياسية» السائدة وتقاليدها الراسخة، موجّهًا رسالة واضحة مفادها أن وجودها مرتبط بمدى ترجمة كفاءتها إلى خدمات فعلية لصالح الأمة، أفرادًا وجماعات. وهكذا وجد هذا «الأنا» نفسه أمام مستجد لم يكن في الحسبان : فخطاباته التقليدية وممارساته التي مكنته لسنوات من فرض وجوده عبر استمالة الناخبين بمنطقٍ يفصل القول عن الفعل، لم تعد اليوم ذات مصداقية. لقد عصفت التطوّرات بمصادر الشرعية السياسية المعتادة، وانهار معها الوهم القديم بأن هذا «الأنا» يمثل بداية لا نهاية لها.

إن الجميع اليوم يتحدث عن أن استمرار «الأنا السياسية» التقليدية واستنباتها لن يكون ممكنًا ما دامت تتجاهل أو تنكر كونها مدينة بوجودها للآخر، أي للمواطن الناخب.

برز اليوم مفهوم «الغير السياسي» بمنطق جديد؛ فقد أحدث وقفة حقيقية تحوّلت على أرض الواقع إلى معضلة وجودية للأنا السياسية، ومصدرًا لتقييمات موضوعية تهدد بفقدانها ما ميّزها من تفردٍ وهيمنة. فالشعارات المرفوعة اليوم تعبّر بوضوح تام عن نهاية زمن اللامبالاة واللاتمييز الذي فرضه الماضي السياسي.

أصبحت النخبة السياسية تشعر بأن وجود «الغير المجتمعي» ـ أي الجمهور والشباب ـ بات محددًا لمصيرها تارة، ومهدّدًا له تارة أخرى. سرت بين صفوفها قناعة بأن هوامش الأريحية التي كانت تتمتع بها منذ الاستقلال قد ضاقت، بل هناك من يتكهّن بأن هذا الغير، أي الشباب، قد يسلب «الأنا السياسية» التقليدية هيمنتها ويجردها من خصوصيتها، وينهي احتكارها للسلطة ومصادر التأثير والتدبير الرسمي.

أمام هذا التحول البنيوي، يجد المتتبع نفسه أمام جملة من الإشكاليات الفكرية والسياسية العميقة، يمكن إجمال بعضها في ما يلي:

- هل ما يعيشه المغرب سياسيًا يُعاكس ما نستشفه من مفارقة مارتن هايدغر؟

هل بات مفهوم «الغير السياسي» مغربيًا (جيل Z) قويًا إلى درجة قد تمكنه من امتلاك سلطة إذابة النخبة السياسية المهيمنة، وحرمانها من تفردها وتميّزها؟

وهل يمكن أن تفضي هذه التفاعلات إلى ميلاد «أنا سياسية» جديدة، متصالحة مع الغير، لا تعتبره أداة أو بضاعة انتخابية موسمية؟

- هل يعيش المغرب منعطفًا جديدًا يمكن إسقاطه على فلسفة جون بول سارتر؟

أي هل يتحول هذا المخاض السياسي إلى نقطة انعطاف تجعل من «الغير» ـ خصوصًا الشباب ـ فاعلًا رئيسيًا في تحديد «الأنا السياسية» على أساس شرعية جديدة تمنح لمفهوم الوساطة مدلوله الحقيقي، وتُرسّخ الحرية كجوهر دائم للإنسان المغربي، ومصدرًا متجدّدًا لوعيه بذاته؟

- هل يمكن أن يصبح الغير في المغرب ليس «أنا آخر» مغايرًا لأناي كما عند دولوز، بل عالمًا ممكنًا منفتحًا أمامي لاكتشافه وتجريبه؟

وإسقاطًا على المجال السياسي المغربي، هل يمكن أن يرتقي دور جيل Z إلى جعل «الأنا السياسية» و«الغير» مكوّنين متلازمين لا غنى لأحدهما عن الآخر؟

- هل تُدرك الدولة أن معرفة الغير انشغال دائم؟

وأن تراكم التجربة في فهمه وتمكينه من الوعي بذاته هو السبيل لتجاوز مرحلة التشييء، والعبور نحو مرحلة المشاركة الواعية والإنتاج المشترك للقيم السياسية؟

انطلاقًا من هذه التساؤلات، يمكن القول إن تمثّلات شباب جيل Z بالمغرب تتّسم بقدر كبير من النبل والطهرانية الفكرية. فحناجرهم ترتفع منذ سنوات مطالبة بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد، وبناء مقومات سياسية مشتركة تُشعر كل الأجيال بالفخر بانتمائها إلى مغرب الألفية الثالثة، مغرب جلالة الملك محمد السادس وولي عهده الأمير مولاي الحسن.

إنهم يطمحون إلى أن تتوحّد سواعد المغاربة في بناء وطنٍ حرٍّ ديمقراطي متوازن.

إن نضال الشباب المغربي اليوم يستتحضر أرقى المفارقات الفلسفية التي أثارها كبار المفكرين أمثال أرسطو وأوغست كونت وهيغل وغيرهم، مؤمنين بأن علاقة «الأنا» بـ«الغير» يجب أن يحكمها ميزان القيم الإنسانية.

فأرسطو يرى أن علاقة الأنا بالغير داخل الوطن لا يمكن أن تُبنى إلا على اقتسام المنفعة والحق في المتعة المشروعة، وذلك بتوطيد قيم الصداقة والمودة والفضيلة.

أما أوغست كونت فيعتبر أن تنمية هذا النمط من الصداقة يجعل من الحياة المشتركة فضاءً تسوده الثقة وردّ الجميل والاعتزاز بالتبادل الإنساني، فيغدو الغير شريكًا في الارتقاء بالفنون والإبداعات وضمان الاستحقاق في اقتسام ثمارها.

وترى الفيلسوفة جوليا كريستيفا أن تقبّل الغير والعمل إلى جانبه أمر طبيعي، وأن رفضه أو معاداته حالة مرضية. فالأنا، في جوهرها، تحتوي الغريب بداخلها، ولا يمكنها أن تعادي الغرابة لأنها مصدر الفضول والطموح نحو اكتشاف عمق العلاقة الإنسانية المشتركة.

وفي الختام، يمكن القول إن ما يصبو إليه شباب جيل Z بالمغرب هو تغليب الفضيلة بين المغاربة بمختلف مراتبهم وانتماءاتهم الثقافية والاجتماعية.

إن استغلال «الأنا» السياسية أو الاقتصادية للجماهير بمنطق التوحش الليبرالي، تحت ذريعة الجهل والفقر أو السعي لتكريسهما، لا يؤدي إلا إلى تعميق العداوة بين أبناء الوطن الواحد.

نعم لتحويل الحياة في المغرب إلى منافسة شريفة قائمة على التضامن والتآزر، ولا للصراع المولّد للكراهية والاستبداد.

فالمغرب لا يحتاج إلى منتصر متباهٍ ولا إلى مهزوم مكلوم، بل إلى مجتمعٍ يُعلي من شأن السلم والاستقرار، ويطمح إلى توسيع هوامش الحرية، وضمان الحق في اكتساب المهارة والقدرة على التنافس في إنتاج المنافع والخيرات.

***

الحسين بوخرطة

يتغير مبدأ "محو الذاتيه التارخيه" من الباس الموضع المعروف بالعراق، بما يعرف " الدولة البرانيه الحديثة"، يوم كانت الكيانيه و(الامه / الدولة) الاوربية هي السائدة، الى سحق الدولة مع مفهوم "الوطنيه الزائفة" التي كانت قد قامت بعد العشرينات كقوة تحررية بالمفهوم السائر عن التحرر، ليدخل العراق من بداية الثمانينات الى اليوم مسلسل افنائية لايتوقف، يبدا بالحرب الاطول بين دولتين بعد الحرب العالمية الثانيه مع ايران 1980/ 1988 لينفتح باب الحروب بلا توقف وصولا لانهاء ركائز مايعرف ب "الدولة"، في حين تكرس سلطات موزعه على متبقيات حثالية فرعية، تجري رعاية حضورها واستمرار غلبتها بالضد من ايه احتمالية "وطنيه"، هي بالاصل لاوجود لها، مثلتها تيارات مستعارة ايديلوجية لاعلاقة لها بالكينونة او البنية المجتمعية التاريخيه، هذا في حين صار العراق على مشارف التحول من عراق مابين النهرين، الى عراق مابعد النهرين بسبب سياسة تركيا المائية، لتتحول البلاد الى الى الريعية النفطية بلا دولة، بعد الطور الريعي الاول مابين 1968/ 2002.

 ولاياتي انتهاج الصيغة الافنائية بالقوة الواقعه الان، خارج التغير الحاصل على مستوى النظام الغالب راسماليا وتوهميا غربيا، بعد الانتقال الى العولمه، ومابعد الدولة والسيادة الوطنيه، لصالح الشركات متعددة الجنسية، وفعالية الكيانيه الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ، وبلا تاريخ مجتمعي او طبقات راسخه متشكله تحت طائلة الطور اليدوي صانع المجتمعات الارضوية.

 وهنا تنشأ ايهاميه غامرة، وفقدان للرؤية تظل تتردد بموجبها المحفوظات الاوربية الاولى بتوهمياتها عن الراسمالية والبرجوازية، بينما العالم ينتقل الى قيادة تشكل بلا تاريخ، العنصر الاساس في كينونته الاله وتفاعله معها، بحكم كينونته، بما افضى لنتقلها من الطور "المصنعي" الى التكنولوجي الانتاجي، واشتراطاته التي اودت بالمعسكر الروسي، ليصبح القائم والمتحكم اليوم مجتمعا بلا تاريخ مجتمعي، ووسيلة انتاج اخرى غير المصنعية، انتاجية اخرى مختلفة لكيانيه تقوم على "التوهميه الرسالية" النافية لماقبلها من انماط مجتمعية، وهو ماقد واكب عملية صعودها بعدما قامت بافناء مجتمع من اكثر من ستين مليون كائن بشري، ونمطية دولة "لادولة"، انتاجيتها تلغي الكيانوية والدولة ومفهومها كمجتمع وكيانيه " فكرة" لاتقبل الكيانيه، صارت تجد اليوم في اصل التعبيرية النبوية الابراهيمه، ومجال شرق متوسطي قاعدته دول الابار بدل دول الانهار التي انتجت الابتداء المجتمعي والتعبيرية الابراهيمه لمجتمعية اللاارضوية، وهنا تنحط الرؤية العالمية اليوم، بينما المركز اللامجتمعي يقترب من الذهاب خطوة خارجه عن ارادته، نحو طور تكنولوجي ورؤيوي آخر.

 فالاسباب التي تفصل بين وسيلة الانتاج وسبل التنظيم المجتمعي الموروثة من الطور اليدوي، ومنها الكيانات والدول، لم تعد بعيده عن مامن شانه ايقاع اجمالي المجتمعية البشرية تحت طائلة الفوضى وفقدان وسائل السيطرة وتسيير الشؤون الحياتيه العامه، بما يجعل من الانقلابية التحولية اللاارضوية وتعبيريتها الثانيه مابعد الابراهيمه النبوية الحدسية، ضرورة غامرة دونها احتمالية الفناء، وكما العالم كله يعيش منذ فترة ليست بالقصيرة، تحت طائلة القصورية العقلية الادراكية بازاء مسارات الاله وماينتج عنها، فان بلدا مثل العراق عاد منذ عام 1980 ليعيش نوعا اخر مستجدا من حالة "العيش على حافة الفناء"، بلا رؤية ولاقدرة على تبين ماهو فيه، ومايمكن ان يحصل بين جنباته، حتى وان بليت وانهارات الايديلوجيات المستعارة، ومايعرف بالحركة الوطنيه الويرلندية الليبرالية والقومية والماركسية على زيفها، ولم يعد لها اي حضور او فعالية تذكر، هذا عدا متبقيات التعبيرية اللاارضوية الاولى الابراهيمه التي اعلنت هي بذاتها "ختامها" الذي يظل يفسر كاجترار لازم.

 هذا علما بان الاشارات لم تتوقف، وبعد الثورتين اللاارضويتين ثورة 1920 وثورة تموز 1958 ،تفجرت عام 2019 في الاول من تشرين، الثورة الثالثة اللاارضوية ضد اشتراطات سحق الكيانيه والدولة، فجاءت هي الاخرى بلا نطقية، وعلى مشارف النطقية العظمى المنتظرة من هنا فصاعدا، استجابه لدينامياتها التاريخيه غير المماط عنها اللثام، ولا المدركه باعتبارها وثبة كونية انقلابيه شاملة للمعمورة، وانتقالا من الكوكب الارضي والكون المرئي، خارج الجسدية ومتبقاتها، وهو ماقد صار من الان فصاعدا قيد التحقق اشتراطات وتراكمات، ومستلزمات مادية متمثله في "التكنولوجيا العليا" العقلية، الموشكه على ختم تاريخ التحورية الالية.

***

عبد الأمير الركابي

......................

(1) فبعد سقوط روما "راح الوثنيون وكانوا مايزالون هم الاغلبية يعزون اسباب انهيار روما والانحلال العام الذي اصاب الامبراطورية الرومانيه الى انتشار الديانة المسيحية. لهذا انتدب اوغسطين للدفاع عن المسيحية ضد هذا الاتهام، فانشأ يكتب كتابه الاساسي المشهور "مدينة الله" ابتداء من سنة 415 او بداية سنة 416 م وفرغ من كتابة المقالات العشر الاولى منه في ذلك الوقت، لكنه احس بان كتابه هذا بحاجة الى تكمله تتولى بيان ماوقع في تاريخ العالم قبل ذلك الوقت من مصائب وكوارث لاشان للمسيحية بها. لانها سبقت ظهورها، فعهد اوغسطين بهذه المهمة الى اوروسيوس"/ تاريخ العالم، اوريسيوس / الترجمه العربيه القديمه حققها وقدم لها د عبدالرحمن بدوي/ ص 6/هذا وكتاب اوريسيوس اصلا معنون ب " التواريخ ضد الوثنيين"/ المؤسسة العربيه للدراسات والنشر.

(2) ياخذنا / غوساف لوبون/ الى تفصيلات الثورات المذهله نفسيا وايمانيا في كتابه /روح الثورات والثورة الفرنسية/ المطبعه العصرية.

(3) يمكن ان تترجم الهوسة المذكورة والصادرة عفوا وبعمق من باب المفاضلة بين الوسيلة الالية المستحدثة، والوسيله القتالية اليدوية بحسب نوع المجتمعية التي تستعملهما.

 (4) عن الاسباب التي دفعت لبناء بغداد وهرب العباسيين من الكوفه وترددهم بين الرمادي، والهاشميات، والانتفاضات التي ظلت تلاحقهم واخرها انتفاضة الراونديه قبل استقرار رايهم على بغداد/ تراجع مادة " بغداد"/بقلم أشترك، السيد عبدالرزاق الحسني، عبدالعزيز الدوري/ كتب دائرة المعارف الاسلاميه/ دار الكتاب اللبناني/ مكتبة المدرسه/ صص 2

 

من الفضاء الرقمي إلى الشارع

يشهد المغرب الان - خريف 2025 - موجة احتجاجية شبابية - جماهيرية واسعة أعادت إلى الساحة السياسية أسئلة جوهرية حول العدالة الاجتماعية، الحقوق الأساسية، تردي الخدمات، والشرعية السياسية للنظام. هذه الحركة التي حملت اسم "جيل Z 212"*، نسبةً إلى رمز الاتصال الدولي للمغرب، لم تولد من فراغ؛ بل جاءت نتيجة تراكم طويل من التهميش، والفقر، وغياب الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم، وانتشار البطالة والفساد. انفجرت الحركة بشكل عفوي بعد حادث مأساوي في مستشفى حسن الثاني بمدينة أغادير، حيث توفيت نساء أثناء الولادة بسبب انعدام الرعاية. تحولت هذه الشرارة إلى انتفاضة اجتماعية امتدت بسرعة إلى مدن كبرى مثل الرباط، والدار البيضاء، وفاس، ومراكش، وتارودانت، وسلا، ووجدة، وسرعان ما أصبحت تعبيرًا عن أزمة شاملة يعيشها جيل كامل من الشباب المغربي، وبالأخص من الطبقات الكادحة.

إن ما ميّز هذا الحراك لم يكن فقط اتساعه وانتشاره الجغرافي، بل أيضًا اعتماده على آليات جديدة في التنظيم والتعبئة انطلقت من الفضاء الرقمي لتنعكس على الواقع الميداني. وهنا تتجلى العلاقة بين التجربة المغربية ومفهوم "اليسار والنضال الإلكتروني"، حيث يلتقي البعد الاجتماعي الملموس مع البعد التكنولوجي والتنظيمي في إنتاج شكل جديد من الفعل السياسي. القوة الجوهرية لهذا النموذج أنه يستعيد مفهوم السياسة من أيدي النخب القديمة ويعيده إلى الشارع وإلى الشباب. ويؤكد دائمًا أن التكنولوجيا ليست محايدة؛ بل هي أداة هيمنة في يد الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تتحول إلى أداة تحرر إذا ما وظفت بشكل يساري تقدمي ومنظم. ما حدث في المغرب يعكس هذه الإمكانية، فقد استطاع الشباب عبر وسائل بسيطة أن يبنوا فضاءً رقميا عامًا بديلًا وحرًا يعبّرون فيه عن رفضهم للاستبداد، والفساد، والظلم، وتهميش حياتهم اليومية. لقد تحولت الفيديوهات القصيرة، والميمات، والنقاشات الرقمية إلى أدوات حقيقية للتعبئة السياسية والتنظيم ولإنتاج وعي جماهيري نقدي، بعيدًا عن الإعلام الرسمي الذي سعى إلى تشويه الحراك وحصره في أعمال عنف وتخريب.

1.  التنظيم الشبكي الرقمي للشباب يتجاوز آليات التنظيم التقليدية ويخلق فضاءً نضاليا يساريًا جديدًا

ما يميز هذه الحركة ليس فقط مطالبها العادلة التي تركزت حول تحسين الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل ومحاسبة الفساد والعدالة الاجتماعية، بل الأهم هو شكلها التنظيمي الإلكتروني-الرقمي وأدواتها التي تجسد بدقة أفكار اليسار الإلكتروني**. فقد جرى تنظيمها إلى حد كبير خارج الأطر التقليدية للأحزاب والنقابات التي ضعف تواصلها مع الأجيال الجديدة لأسباب عديدة، وتحولت في نظر الكثير من الشباب والشابات إلى هياكل بيروقراطية جامدة لم تعد قادرة على التعبير عن هموم الناس. في المقابل، فتح الفضاء الرقمي آفاقًا جديدة لتنظيم مختلف كليًا، قائم على المرونة والسرعة والانفتاح. تحولت المنصات مثل تيك توك وإنستغرام وفيسبوك إلى أدوات للتعبئة والتحشيد، كما تحولت خوادم ديسكورد إلى ما يشبه "مراكز شعبية رقمية" للنقاش، والتخطيط، واتخاذ القرار بشكل جماعي وأفقي.

هذا النمط التنظيمي الجديد يعبّر عن تجاوز جوهري لمفهوم القيادة الفردية أو الهرمية والمركزية الصارمة. لم يعد هناك زعيم أو لجان قيادية هرمية تتحكم في مجرى الأحداث، بل مجموعات شبكية أفقية، كل منها يتخذ قراراته الميدانية بشكل مستقل ضمن أهداف عامة مشتركة. هذه اللامركزية لم تكن علامة ضعف، وانما مصدر قوة، لأنها جعلت من الصعب على السلطة والاجهزة الامنية اختراق الحركة أو استهدافها بقيادة واحدة. فحتى مع إغلاق حسابات أو اعتقال ناشطين وناشطات، ظلت الحركة قادرة على إعادة إنتاج نفسها وتوسيع مساحتها التنظيمية. هذه القدرة على البقاء والتجدد تعكس الروح الحقيقية للتنظيم والحراك الالكتروني-الرقمي، حيث التنظيم ليس مجرد جهاز جامد بل شبكة حية قابلة للتوسع والتحول وفق الظروف.

البنية الشبكية سمحت للحركة بالانتشار السريع والسهل على مستوى جغرافي واسع، من المدن الكبرى إلى المناطق الطرفية، كما مكّنتها من تجاوز القمع الميداني والرقابة الرقمية. فقد حاولت السلطة مرارًا إغلاق الحسابات أو حجب المحتوى أو استهداف المنسقين، لكن الطبيعة اللامركزية جعلت تلك المحاولات محدودة الأثر. ففي اللحظة التي يُغلق فيها حساب، يظهر حساب جديد، وفي اللحظة التي يُكسر فيها رابط تنظيمي، تُفتح قنوات بديلة. هذه الديناميكية تضع السلطة أمام معضلة حقيقية، لأنها تواجه "سيرورة تنظيمية جماهيرية"  بشكل جديد يصعب التحكم بها، وليس تنظيمًا تقليديًا يمكن تفكيكه باعتقال قياداته.

التنظيم الشبكي الرقمي هو شكل جديد من الثقافة السياسية والتنظيم السائد بين الشباب والشابات اليوم. فالنقاشات التي دارت على خوادم ديسكورد لم تقتصر على الشعارات أو الخطط الميدانية، وانما تحولت إلى فضاء تعليمي متبادل، حيث يشارك الشباب تجاربهم، يناقشون الاستراتيجيات، وينسجون لغة مشتركة للنضال. بهذا المعنى، الفضاء الرقمي كان وسيلة للتواصل، وتحول إلى "مدرسة يسارية جماعية متعددة المنابر"  تنتج وعيًا سياسيًا جديدًا يتجاوز وصاية الأحزاب التقليدية وخطاب النخب المثقفة. إن ما نشهده هنا هو ولادة فعلية لفضاء يساري جديد، ينهض من الأسفل، من المبادرات الذاتية، من العمل الجماعي، ويستند إلى التكنولوجيا كأداة تحررية بدل أن تبقى أداة للهيمنة في ظل سيطرة الشركات الرأسمالية الرقمية والدول الاستبدادية.

يمكن القول إن التنظيم الشبكي الرقمي الذي أبدعه الشباب المغربي هو التعبير العملي عن مقولة اليسار الإلكتروني بأن الفضاء الرقمي قد أصبح اليوم ساحة مهمة للصراع الطبقي. وكما أن المصانع والمزارع والمكاتب هي ساحة المواجهة الأساسية بين رأس المال والعمل، أصبح الإنترنت اليوم المصنع الجديد المكمّل لإنتاج الوعي ولتنظيم المقاومة. الفرق أن هذا المصنع الجديد ليس ماديًا محصورًا في جدران، بل فضاء مفتوح متحرك، تتسع فيه دوائر النقاش، وتولد فيه المبادرات بسهولة كبيرة. ويمنحها طابعًا عالميًا وأمميًا، لأنه يكسر الحدود الوطنية ويخلق إمكانيات للتواصل والتنسيق بين حركات متباعدة جغرافيًا لكنها متشابهة في الجوهر.

إذا ما قارنا الحراك المغربي بتجارب أخرى في المنطقة، نجد أن له طابعًا مميزًا. ففي تونس مثلًا استُخدمت المنصات الرقمية منذ 2011 في التعبئة، لكن بشكل أولي. وفي لبنان 2019 تحولت واتساب وتلغرام إلى أدوات محورية في تنظيم المظاهرات. بينما في المغرب 2025، شهدنا دخول جيل كامل لا يعرف السياسة إلا عبر الرقمنة ويعتبر الفضاء الرقمي امتدادًا طبيعيًا لحياته. هذا ما يجعل حراك "جيل زد 212" أول انتفاضة رقمية بالكامل تقريبًا في دول العالم العربي، ويؤكد أن مستقبل النضال اليساري لن يكون ممكنًا دون استيعاب هذه التحولات وتوظيفها بشكل فاعل، من خلال بناء أمميات يسارية رقمية وبدائل تكنولوجية تقدمية تتجاوز الحدود الوطنية وتنسق وتربط بين التجارب في كافة أنحاء العالم.

2. المطالب المرفوعة تعكس جوهر اليسار الحي القائم على العدالة الاجتماعية وحاجات الجماهير

ما يثير الانتباه في تجربة الشباب المغربي أن المطالب التي رفعوها في الشارع والفضاء الرقمي، رغم بساطتها المباشرة، تحمل مضمونًا يساريًا عميقًا رغم عدم انتماء معظمهم الى أي تنظيمات سياسية، وقد أدرك هؤلاء الشباب، بوعي أو بحدس سياسي جماعي، أن قوة أي حركة تحررية تكمن في بناء أرضيات مشتركة. لم ينشغلوا بالجدالات والصراعات الفكرية والنخبوية. فرغم اهمية هذه الجدلاات في تطوير اليسار فكريا، فأنها استنزفت وشتت قوى اليسار لعقود، بين مدارس فكرية وأيديولوجيات متناحرة وتفاصيل نظرية، بل تجاوزوا هذا التعب الفكري وأعادوا البوصلة إلى ما يهم الجماهير الكادحة فعلًا، والانطلاق من الواقع على الارض نحو النظريات وليس العكس، اليسار هنا لا يُقاس بمن يرفع الشعارات الماركسية أو يكتب حول أو يكرر السياسات الاشتراكية نظريًا فقط، بل بمن يساهم عمليًا ونظريا وفي ارض الواقع في تغيير حياة الجماهير الكادحة نحو الأفضل، في الصحة والتعليم والعمل والكرامة والحقوق والعدالة..... الخ، ويؤثر في مسار نضالهم اليومي وان كان بخطوات محدودة وبشكل تدريجي.

فالمطالب التي صاغوها تدور حول تحسين التعليم العمومي، ضمان الرعاية الصحية المجانية والفعالة، توفير فرص عمل تضمن الكرامة الإنسانية، محاربة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد. هذه المطالب تمثل جوهر الفكر اليساري الحي، لأنها تضع الظلم والصراع الطبقي واحتياجات الناس اليومية في المركز والانطلاق منها.

3. القمع الميداني والرقمي يكشف آليات السيطرة الحديثة ولكنه يعزز وعي المقاومة الرقمية

لم تكن الحركة الشبابية في المغرب مجرد موجة احتجاجية سلمية تُواجه بخطاب سياسي أو وعود إصلاحية، بل جرى التعامل معها من أول لحظة كتهديد وجودي للنظام، وهو ما انعكس في القمع الميداني القاسي الذي واجهه الشباب. قوات الأمن استخدمت الرصاص الحي في بعض المناطق، خصوصًا في القليعة قرب أغادير حيث سقط شهداء برصاص الدرك، إضافة إلى الغاز المسيل للدموع، والضرب بالهراوات، والملاحقات الليلية، واعتقال المئات بينهم نسبة عالية من القاصرين. هذا القمع لم يكن رد فعل منفلتًا بل سياسة مدروسة تهدف إلى ترهيب جيل بأكمله، وكسر إرادته قبل أن يترسخ وعيه التنظيمي. ترافق القمع الميداني مع أسلوب ممنهج لعزل المناطق المشتعلة، عبر حواجز أمنية وتطويق للأحياء الشعبية، وقطع طرقات لمنع انتقال المتظاهرين بين المدن. تم استخدام الاعتقال الجماعي كأداة لتفريغ الشوارع. لكن الأهم أن السلطة ركزت على استهداف الشباب والقاصرين، لأنهم كانوا العمود الفقري للحركة، وهو ما يكشف إدراكها أن الخطر الحقيقي يأتي من هذا الجيل الجديد الذي لا يهاب الشارع ويملك أدوات تنظيم رقمية عصية على الاحتواء.

هذا الوجه الخشن من القمع الميداني تزامن مع الوجه الناعم الرقمي. الاعتقال الرقمي، والاغتيال الرقمي كلها آليات موازية استهدفت الفضاء الإلكتروني للحركة. تم حذف حسابات وحجب محتوى وتقييد الوصول إلى النقاشات الجماعية في محاولة لعزل الشارع عن الفضاء الرقمي الذي يغذيه. وهكذا رأينا كيف أصبحت السلطة تمارس "القمع المزدوج"، في الشارع عبر الهراوة والرصاص، وفي الشبكة عبر الخوارزميات وحجب المنصات.

لكن ما لم تتوقعه السلطة أن هذا القمع، بدلًا من أن يوقف الحراك، عزز وعي المقاومة الرقمية والميدانية معًا. ففي الشارع، ابتكر الشباب أشكالًا جديدة للتجمع مثل المظاهرات الليلية المتنقلة، والاعتماد على مجموعات صغيرة بدل المسيرات الكبرى، واستخدام الأحياء كفضاءات للاحتجاج المحلي. هذا التكتيك جعل من الصعب على الشرطة القضاء على الحركة دفعة واحدة، وفتح إمكانيات للتنظيم القاعدي المحلي. وفي الفضاء الرقمي، انتقل النقاش بسرعة من الحسابات المحجوبة إلى حسابات بديلة ومنصات أكثر أمانًا، مع انتشار استخدام VPN والتشفير.

القمع الميداني كشف حدود النظام الاستبدادي، لأنه لم يعد يواجه فقط كتلة غاضبة بل جيلًا رقميًا قادرًا على التكيف. ومع كل محاولة قمع، كان الشباب يعيدون إنتاج تنظيمهم بشكل أكثر مرونة، ويطورون وعيًا بأن الصراع مع الدولة ليس جزئيًا بل شامل، يطال الجسد في الشارع والوعي في الشبكة. وهنا يظهر جوهر ما يسميه اليسار الإلكتروني بـ"المعركة الطبقية الرقمية"، حيث أدوات القمع الحديثة تلتقي مع الأدوات الكلاسيكية.

لقد أصبح واضحًا أن السيطرة على الشارع لا يمكن فصلها عن السيطرة على الفضاء الرقمي، وأن الدولة حين تسقط الرصاص على الأجساد فإنها في الوقت نفسه تسقط الحجب على الحسابات. لكن المقاومة أيضًا تتطور في الاتجاهين: في الشارع بتوسيع التكتيكات الميدانية الشعبية، وفي الشبكة بابتكار أدوات حماية وتنظيم بديلة. هذا التفاعل بين الميدان والرقمي هو الذي يفتح أفقًا حقيقيًا لليسار الإلكتروني كي يطوّر مشروعًا أمميًا لتحرير الإنسان والتكنولوجيا في آن واحد. هذه القدرة على تجاوز القمع الرقمي تعكس وعيًا سياسيًا متزايدًا بضرورة السيطرة على الأدوات وبناء أدوات تكنولوجية يسارية تقدمية بديلة، وعدم تركها بالكامل بيد الشركات الرأسمالية الاحتكارية والدول الاستبدادية.

4. تحويل الطاقة الشبابية العفوية إلى مشروع تحرري جذري منظم

رغم قوة هذا النموذج، تظل التحديات كبيرة. غياب التنسيق المركزي قد يتحول إلى نقطة ضعف إذا لم تتبلور رؤية استراتيجية طويلة الأمد. والأهم أن المطالب الجزئية تحتاج إلى ربط بأفق تحرري شامل حتى لا تبقى الحركة في دائرة الإصلاحات. هنا تبرز ضرورة وجود اليسار الأرضي - الإلكتروني منظمًا كتيار فكري وتنظيمي يعمل على تحويل الطاقة العفوية إلى مشروع سياسي تحرري يجمع بين النضال الرقمي والميداني على الأرض، ويربط بين المطالب المباشرة والرؤية الاشتراكية الجذرية، ويستند إلى أرضيات مشتركة تتسع للجميع وتبني تحالفات واسعة من أجل التغيير الجذري.

هذا الحراك الشبابي والجماهيري يعكس بوضوح روح اليسار المتفتح الذي يرفض الانعزال داخل النخب الفكرية ويعمل على فتح منابر متعددة للنقاش والعمل المشترك. في فضاءات النقاش الرقمي لم يكن هناك وصي أيديولوجي ولا بناء هرمي مفرط، بل كانت هناك نقاشات حرة، وأصوات متعددة، وحرية في طرح الأفكار. غير أن ما كان يثبت ويستمر ويترجم إلى فعل سياسي هو تلك النقاط التي تلامس حياة الناس. هنا يتجسد المعنى الحقيقي للديمقراطية القاعدية التشاركية، حيث يصبح التنظيم الجماعي أداة لتوحيد الجهود حول ما يخدم الجماهير، لا حول ما يُرضي النخب المثقفة. إن هذا التوجه يفتح أمام اليسار فرصة تاريخية لتجديد نفسه، شرط أن يتخلى عن نزعة الاحتكار الفكري وعن ثقافة الانقسام التي شلته طويلًا.

فالشباب والشابات أرسلوا رسالة واضحة: لن ننتظر حلولًا من فوق، ولن ننشغل بخلافات عقيمة، بل سنبني عملنا على القضايا التي تهم حياة الناس اليومية. هذا الوعي العملي الجدلي هو ما يمنح الحركة قوتها ويجعلها قادرة على الانتشار والتمدد. فشغيلات وشغلية اليد والفكر لا يعنيها كثيرًا ما إذا كان النص المرجعي هو ماركس أو لينين أو تروتسكي أو ماو أو غيرهم من المفكرين رغم دورهم و مكانتهم التأريخية العظيمة في الفكر الانساني، بقدر ما يعنيها أن تجد مستشفى مجهزًا، مدرسة محترمة، فرصة عمل، مساواة، وكرامة في حياتها اليومية بعيدا عن الفساد و الاستبداد... الخ. هذه هي النقاط المشتركة التي شكلت أرضية الالتقاء، وهي التي يمكن أن تتحول إلى قاعدة لليسار كي يبني مشروعًا تحرريًا جذريًا يتجاوز الوضع الحالي ويستعيد دوره كأداة للتغيير نحو التحرر الاشتراكي.

5. من الشبكة إلى الشارع... آفاق يسار متجدد

من المهم التأكيد أن اليسار الإلكتروني لا يطرح نفسه كبديل عن قوى اليسار التاريخية أو عن التجارب التنظيمية التي راكمت نضالات هائلة في كافة المجالات عبر عقود. بل هو استمرار وتطوير لها ومكمل لها، ويضيف بعدًا جديدًا إلى الأدوات السياسية والتنظيمية والفكرية التي يستخدمها اليسار في معركته الطويلة والمعقدة ضد الرأسمالية والاستبداد. ما يميزه أنه يستجيب لواقع جديد تشكّل بفعل الثورة الرقمية، حيث توسعت أدوات الصراع لتشمل الفضاء الرقمي، والمنصات، والشبكات التي باتت تتحكم بالوعي الجماهيري وتحدد مسار النقاشات العمومية.

إذن هو لا يلغي دور الأحزاب اليسارية والنقابات والحركات الاجتماعية القائمة، بل يدعوها إلى التطوير والتجديد، إلى إدخال البعد الرقمي في استراتيجياتها التنظيمية والسياسية، وإلى تجاوز الجمود البيروقراطي والانغلاق الأيديولوجي. إن التحدي الذي يواجه قوى اليسار اليوم ليس فقط في مواجهة الرأسمالية التقليدية وانظمة الاستبداد، بل في مواجهة الرأسمالية الرقمية التي أعادت إنتاج السيطرة الطبقية بأشكال أكثر نعومة وخفاء، عبر البيانات والخوارزميات والرقابة الرقمية الشاملة.

إن ما أبدعه الشباب في المغرب يمثل دعوة صريحة ومُلحة لكافة قوى اليسار. لم يعد التنظيم السياسي خيارًا أحاديً الاتجاه؛ بل يجب أن يكون متعدد المنابر، مفتوحًا، مرنًا، وشفافًا يستفيد ويتعامل بذكاء مع أدوات العصر الرقمي. هذه الرؤية المكمّلة لا تعني التخلي عن الهياكل الكلاسيكية التي راكمت تاريخًا من النضال الطبقي، بل تتطلب إعادة بنائها بشكل أفقي ومرن لتكون أقرب إلى الجماهير وقادرة على التفاعل السريع، خاصة مع الأجيال الجديدة. تجربة الشباب المغربي مثال حي من خلال ابتكار تنظيمات رقمية شبكية فعالة، لكن هذا لا يلغي الحاجة المُلحة إلى أطر سياسية وتنظيمية ونقابية قادرة على حماية هذه الطاقات، وتوجيه الاحتجاجات، وتحويلها إلى مكتسبات دائمة.

هذا يقتضي تحقيق التكامل الجدلي بين القديم والجديد: بين النضال الميداني والزخم الرقمي، وبين الخبرة التاريخية لليسار والجرأة والمرونة التي يجلبها الجيل الرقمي. هذه الجدلية بين الاستمرار والتجديد هي ما قد يمنح الحركة اليسارية اليوم إمكانية النهوض من جديد، محليًا في دول الجنوب وعالميًا بشكل عام. لذا، فإن اليسار الإلكتروني هو دعوة إلى تجديد المشروع اليساري بأكمله؛ عبر تطوير وتحديث أدواته التنظيمية، والسياسية، والفكرية، والرقمية، والتقنية، وغيرها، والعمل المشترك والتحالفات وفق نقاط الالتقاء الجوهرية. كما يشدد على ضرورة تعزيز الدور القيادي للشباب داخل تنظيمات اليسار، بما يضمن تجديد الدماء الفكرية والتنظيمية وفتح المجال أمام طاقاتهم الإبداعية والمتجددة لتكون في صلب القرار والعمل النضالي. وتعزيز علاقة اليسار بحياة الجماهير الكادحة والأجيال الشابة في زمن الهيمنة الرأسمالية والاستبداد. فالمستقبل ينتمي إلى اليسار الذي يستوعب أن ساحة الصراع الطبقي اليوم تمتد من أعماق الشارع إلى أبعد نقطة في الفضاء الرقمي. لقد أثبت حراك جيل زد 212 أن العلاقة بين القوى اليسارية والأجيال الشابة لا يمكن أن تتطور وتترسخ إلا بدمج النضال الميداني على الارض مع أدوات التنظيم الرقمي واشكال جديدة من التنظيم والخطاب السياسي. وهو درس ليس للرفاق والرفيقات الاعزة في القوى اليسارية والتقدمية في المغرب فقط، بل لليسار العالمي كله.

كل التضامن مع الشابات والشباب والجماهير الكادحة في المغرب، الذين يواجهون القمع والتهميش بوعي وشجاعة، ويناضلون من أجل حياة كريمة وعدالة اجتماعية حقيقية. وكل التضامن مع القوى اليسارية والتقدمية والنقابية والحقوقية المغربية، التي تقف في صف الجماهير، وتدافع عن حقوقهم وعن حرية التنظيم والتعبير، وعن قيم العدالة والمساواة.

***

رزكار عقراوي

.......................

الهوامش:

* جيل Z  زد: هو الجيل المولود منذ منتصف التسعينيات حتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، نشأ في بيئة رقمية، يستخدم التكنولوجيا ووسائل التواصل كجزء أساسي من حياته اليومية، ويمتزج عنده العالم الواقعي بالافتراضي، ما يجعله أكثر قدرة على التعبئة والتنظيم عبر الفضاء الرقمي.

** اليسار الالكتروني هو تيار يساري حديث يسعى إلى تطوير أدوات وخطاب واليات تنظيم اليسار التقليدي عبر توظيف التكنولوجيا الرقمية والفضاء الشبكي في التنظيم والنقاش والتعبئة. لا يطرح نفسه بديلا عن قوى اليسار التاريخية، بل مكملًا ومطورا لها، ويدعو إلى إدماج المنابر الرقمية والديمقراطية التشاركية مع النضال الميداني من أجل ربط القضايا النظرية بحاجات الجماهير الكادحة اليومية.

المصادر:

1.  Le Monde Afrique – Moroccan protesters call for prime minister’s resignation (2 أكتوبر 2025)

https://www.lemonde.fr/en/le-monde-africa/article/2025/10/02/moroccan-protesters-call-for-prime-minister-s-resignation_6746020_124.html

2.  AP News – Moroccan youth protests erupt after deaths in Agadir hospital (1 أكتوبر 2025)

https://apnews.com/article/912ca1a9dbc42e6d3d2f8a1067eb12f9

3.  Reuters – Morocco’s youth, police clash for fifth night of protests demanding education, health care (1 أكتوبر 2025)

https://www.reuters.com/world/africa/moroccos-youth-police-clash-fifth-night-protests-demanding-education-health-care-2025-10-01

4.  The Guardian – First deaths in Morocco’s youth-led anti-government protests as police open fire (2 أكتوبر 2025)

https://www.theguardian.com/world/2025/oct/02/first-deaths-in-moroccos-youth-led-anti-government-protests-as-police-open-fire

5.  Al Jazeera – 7 أسئلة تشرح ما يجري في احتجاجات جيل زد بالمغرب (2 أكتوبر 2025)

https://www.aljazeera.net/news/2025/10/2/7-%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%AD-%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%AC%D8%B1%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%B2%D8%AF

6.  First killings in Morocco since Gen Z protests erupted

https://www.bbc.com/news/articles/cgrqpekyxpvo

7.  The most prominent intellectual and organizational foundations of the electronic left

https://libcom.org/article/most-prominent-intellectual-and-organizational-foundations-electronic-left-e-left

مفكرون يهود ضد الصهيونية (4)

إن مقاربة الموقف النقدي للعالم النفساني الشهير سيغموند فرويد إتجاه الحركة الصهيونية ليست بالمهمة اليسيرة، ولاسيما في ظل المواقف المختلفة التي تبدو للمتتبع إبّان البحث عن إجابات واضحة بخصوص جذور الشعور بالإنتماء لليهودية لدى فرويد، وإلتزامه الديني، وحلول المسألة اليهودية، ففي  بعض النصوص والمواقف يبدو فرويد بعيداً كل البعد عن الدين، وعن مقولاته وتجلياته، ليظهر أمام العيان شخصية ملحدة، تنظر الى الدين ومقولاته على أنها تعبيراً مرضياً عُصابياً، وأن اليهودية لم تكن لتشكل عنده سوى بيئة ثقافية-إجتماعية تنسجم مع سياق جذوره الاجتماعية وتكوينه الثقافي، وفي نصوصٍ ومواقف أخرى يبدو للناظر أن فرويد تلك الشخصية اليهودية المتمسكة بهويتها الدينية، والمتشبثة بالبحث عن حلول للمسألة اليهودية على طريقة الصهاينة الذائبين في تعنصرهم اليهودي، وطالما أن ما نكتبه هنا لا يهدف البحث والتمحيص في القضايا الخارجة عن المسار المحدد في بيان المفكرين اليهود الناقدين للحركة الصهيونية، فسنعمل على تحديد الدوائر التي ستتم مقاربتها بما يسهم في تحقيق هذه الغاية المركزية دونما الحاجة الى البحث والتنقيب عن القضايا الخارجة عن هذا للمشروع، والتي تحتاج الى وقفات أخرى ليس المقام مقام التعرض لها، وعلى هذا الأساس يمكن تأكيد أن الدوائر التي تتعلق بموقف فرويد من الصهيونية تتمثل في الآتي:

الأولى: موقف سيغموند فرويد من اليهودية، وبشكل محدد في الكيفية التي نظر فيها الى نشأة الديانة اليهودية، وإلى الإشكالية المثيرة للجدل التي طرحها في كتابه الأخير (موسى والتوحيد)، إذ طالما ان الحركة الصهيونية تعبر عن إرتكاز جوهري على المقولات الدينية اليهودية، فمن الأهمية بمكان تأشير موقف فرويد من نشأة هذه الديانة، وسياقها التأريخي الذي تبناه، والذي يقف على الضد من السردية اليهودية الرسمية كما سيتبين.

الثانية: موقف فرويد من المسألة اليهودية، ونظرته الى موضوعة البحث عن وطن قومي يجمع شتات اليهود في العالم داخله، وفي هذا الموقف يبدو أن فرويد كان مؤيداً ومدافعاً في هذا السبيل، ولا سيما وأنه أكتوى بنار الهروب من ألمانيا النازية عندما إجتاحت النمسا قبيل الحرب العالمية الثانية.

الثالثة: إذا كان فرويد يؤمن بحل المسألة اليهودية وفق آلية إيجاد وطن قومي يجمع الشتات اليهودي في العالم، فهل كان يؤمن بأن هذا الوطن المنشود يقع في فلسطين؟ وفي هذا الأمر يظهر فرويد كمعارض، وبقوة، لجعل فلسطين الخيار المناسب لإقامة وطنهم المنشود لأسباب سيأتي ذكرها لاحقاً، وسنتعرض للدوائر الثلاث بعد مرور مختزل على سيرته وحياته.

ولد سيغموند شلومو فرويد في عام 1856م في بلدة بريبور في مدينة مورافيا التابعة الى الإمبراطورية النمساوية وقتها، وحالياً تقع ضمن جغرافية جمهورية تشيك، لأسرة يهودية تعمل في تجارة الصوف، وبعد خسارة تجارية تعرض لها والده إنتقلت العائلة الى مدينة لايبزنغ في شرق ألمانيا، لتستقر لاحقاً في مدينة فيينا عاصمة النمسا، إلتحق فرويد بمدرسة "كومونال ريل جيمنازيم" في أحد الأحياء اليهودية ليتخرج منها حاصلاً على الشهادة الثانوية عام 1873م، وعلى الرغم من أن رغبته كانت إكمال الدراسة في القانون، إلا إنه إلتحق بدراسة الطب في جامعة فيينا، فأكمل الدراسة فيها حاصلاً على الدكتوراه عام 1881م.

تنقل في الوظائف الطبية بين أستاذ محاضر ومعالج نفسي في المستشفى إلى تأسيسه لعيادة خاصة يمارس فيها علاجه النفسي للمرضى وفقاً للنظريات التي أسسها، إذ إنتقل من ممارسة العلاج عبر التنويم المغناطيسي الى آلية التداعي الحر، وتعبر مدرسة التحليل النفسي عن النظريات والاليات والمنهجيات التي أسسها فرويد في مدرسته النفسانية المعروفة، بعد أن نظّر وكتب الكثير في هذا المجال طارحاً العديد من المفاهيم والنظريات، كمفهوم اللاشعور أو للاوعي الذي يعد مفهوماً مركزياً في تحليل التفكير والسلوك الانساني، ومفاهيم الليبدو وعقد أوديب وعقدة ألكترا والهو والأنا والأنا العليا وغيرها.

وعندما أقدمت ألمانيا النازية على إحتلال النمسا لجأ فرويد إلى لندن ليبقى هناك معانياً من تفاقم مرض السرطان الذي أصابه جرّاء التدخين المفرط، والذي أدى إلى وفاته في عام 1939م، تاركاً مجموعة من المؤلفات منها (تفسير الأحلام) و(مستقبل وهم) و(الطوطم والتابو) و(موسى والتوحيد) وغيرها.

ولنبدأ الان في تحري نقد فرويد للحركة الصهيونية عبر الدائرة الأولى المتعلقة بكتابه الذي نشره في أواخر حياته (موسى والتوحيد)، إذ ينطلق في هذا الكتاب من تأكيد حقيقة أساسية أنه سيعمد على قلب المعادلة التأريخية القائمة فيما يتعلق بشخصية النبي موسى (ع)، وتأسيس الديانة اليهودية التوحيدية، فموسى ليس يهودياً من الأساس، وإنما كان مصرياً بإمتياز، ولأن هذا الأمر ليس بالأمر اليسير يعترف فرويد أن (تجريد شعب من الشعوب من الرجل الذي يحتفي به على انه أعظم أبنائه ليس بمهمة بهيجة ينجزها المرء بخفة قلب، ولكن ليس ثمة من اعتبار، مهما جلّ، بقادر على إغوائي بتجاهل الحقيقة بإسم مصلحة قومية مزعومة)(1) ، وأول مدخل تشكيكي يتبناه فرويد في نفي الأصل اليهودي للنبي موسى يتمثل في الإسم، فموسى في العبرية هو (موشي)، وعلى الرغم من أن سفر الخروج في التوراة يؤكد أن أميرة مصرية دعت الطفل موسى بعد أن انتشلته من النيل، أي أن موشي يعني (انتشل من الماء)، إذ ورد في الآية العاشرة من الاصحاح الثاني في سفر الخروج ما نصه (ودعت أسمه موسى، وقالت اني انتشلته من الماء)(2) ، بيد أن فرويد لا يقبل بهذا الاشتقاق مُسجلاً إشكالين(3):

1-  من غير المعقول الافتراض بأميرة مصرية المعرفة بأصول الاشتقاق في العبرية.

2-  من المؤكد تقريباً أن الماء الذي انتشل منه الصبي لم يكن ماء النيل.

وعلى هذا الأساس يبدأ فرود عبر الاستعانة بما توصل اليه جيمس هنري بريستد (1865-1935م)، المؤرخ والآثاري الامريكي المتخصص في الآثار المصرية، ولاسيما في كتابه (فجر الوجدان The Down of Conscience) من أن كلمة موسى في المصرية تعني طفل، وهي إختصار لتركيب إسمي كان معمول به سابقاً مثل (آمون –موس=الطفل آمون)، أي آمون أنجب طفلاً، و(بتاح موس=الطفل بتاح) أي بتاح أنجب طفلاً وهكذا..، ثم حلت كلمة (موس) وحدها بعد حذف التركيب منها، أما حرف (s) الثاني في كلمة (Moses) فقد أضيف في الترجمة اليونانية للعهد القديم(4) ، ويذهب فرويد على ان العلماء الذين سبقوه اكتفوا فقط بتأكيد أن اسم موسى مصري، وليس يهودياً، دونما الانتقال الى القول بان موسى نفسه لم يكن يهودياً بالاساس، وهو ما قام به فرويد، لكن، وحتى نختصر فرضية فرويد في كتابه، يرد هنا سؤالان: كيف يمكن أن تكون الديانة اليهودية توحيدية بينما المعروف أن الديانة المصرية شركية، فمن أين أتى موسى بالمعتقد التوحيدي ليزرعه داخل المجتمع اليهودي؟ وكيف يمكن أن يأتي شخص مصري ليقود الشعب اليهودي من خارجه؟

بالنسبة لسؤال التنافر بين الشركية المصرية والتوحيدية اليهودية، يذهب فرويد الى ان في عهد السلالة الثامنة عشر الماجدة، وفي الحقبة التي غدت فيها مصر امبراطورية عالمية، في حوالي 1375ق.م, تسنم العرش فرعون شاب تسمى في البداية بإسم أبيه أمنوحتب (أمنحوتب الرابع)، ثم غير بعد ذلك اسمه [إلى أخناتون] مع اشياء اخرى كثيرة، وقد شرع هذا الملك بفرض على رعاياه ديانة جديدة تتعارض وتقاليدهم السحيقة وأعرافهم العائلية معاً(5) ، يعني المعتقد التوحيدي، وحارب الالهة الاخرى، وبعد ذلك تحصل تحولات، فيأتي للسلطة حورمحب، وتتجزأ الامبراطورية، ولسرد طويل يقدمه فرويد، تعود مصر الى ديانتها الشركية وتتخلى عن ديانة أخناتون التوحيدية، هنا يأتي دور موسى، وفقاً لتحليل فرويد، المدفوع بقوة الشكيمة، مخططاً لتأسيس امبراطورية يعطيها الديانة التي ازدرتها مصر، وموسى في الفرضية الفرويدية قد يكون صاحب منصب رفيع في الدولة، مما يهيئ له فرصة أكبر لأن يكون زعيماً لليهود، أو كاهناً فيسهل عليه الظهور بمظهر المؤسس للدين، ومن الممكن أن يجمع بين الحاكم والكاهن(6) ، فيقرر موسى الخروج باليهود من مصر صوب كنعان، وبعد ذلك تحصل التوترات فيقرر اليهود قتل موسى، فيقتلوه، ثم يعمد فرويد الى تطبيق نظرياته النفسية على اليهود في أنهم خضعوا لحالة (الكبت)، كحالة عُصابية، فينسون عبر الاجيال والسنوات، أنهم من قتل موسى(7) ، ليعودوا الى منحه قدسيته ومركزيته داخل العقيدة اليهودية، فاليهود مارسوا ما يعبر عنه فرويد بالرضات Traumatismes  أي الانطباعات التي يكتسبها المرء منذ نعومة أظفاره ثم لا يلبث أن ينساها فيما بعد(8) ، ثم ستظهر التوراة في نسختها الاخيرة التي خضعت لإضافات وتحريفات وتحويلات من الحاخامات، بعد قرون عديدة من قتلهم لموسى، ليظهر الاخر بصورة البطل المخلص للمجتمع اليهودي، ويتم إضفاء كل صفات القداسة عليه، بعد تناسي جريمة القتل التي أقدم عليها اليهود بحقه.

إن مقاربة فرويد هذه تعرضت للعديد من الإشكالات والردود، منها ما هو تأريخي/آثاري، ومنها ما هو عقدي/ديني، ومنها ما هو نفسي/اجتماعي، إلا أننا لسنا بصدد البحث عن الردود على ما توصل إليه فرويد في هذا السياق، فغاية ما يهمنا هنا تأكيد أن مقاربة فرويد هذه تمثل إشكالية كبيرة بالنسبة لليهود، لأنه ينسف الاساس التأريخي والعّقدي لليهودية عندهم، ومن هنا كان هذا الكتاب أحد أبرز نقاط الاختلاف بين اليهود الصهاينة وفرويد، إذ يظهر موسى مصرياً، واليهودية مأخذوة من ديانة الفرعون أخناتون، وأن اليهود هم قتلة النبي موسى!

أما الدائرتان الأخريان، أعني دائرة موقف فرويد من المٍسألة اليهودية، والبحث عن وطن قومي يجمع الشتات اليهودي، ودائرة السعي إلى أن يكون هذا الوطن في فلسطين، فبالإمكان تلمّس موقفه من خلال نموذجين من رسائله المتعلقتين بهذا الشأن، الأولى بعثها إلى الفيزيائي ألبرت آينشتاين (1879-1955م) بتأريخ 26 شباط 1930م كتب فيها (لستُ أعتقد أن فلسطين ستصير ذات يوم دولة يهودية، وأن العالم المسيحي أو المسلم سيقبل ذات يوم بأن يدع الأماكن المقدسة في أيدي اليهود، ولقد كنتُ سأحسن الفهم أكثر لو جرى تأسيس وطن يهودي فوق أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التاريخ، ولست بمستطيع أن أجد في نفسي ظلاً من التعاطف مع مثل ذلك التديّن الذي ضلّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قومية على حائط هيرودس، والذي لا يتوجس، حباً منه بتلك القطع من الحجارة، من أن يصدم مشاعر السكان الأصليين)(9).

أما الرسالة الثانية فقد أرسلها إلى حاييم كوفلر(10) الذي أرسل إلى فرويد رسالةً عام 1929م يطلب فيها دعمه للصهيونية في فلسطين، وفي حق اليهود في الدخول إلى حائط المبكى من أجل العبادة، والأحداث الصدامية التي حصلت في ذلك العام، فردّ عليه فرويد برسالة بتأريخ 26 حزيران عام 1930م كتب فيها:

(لا أستطيع فعل ما ترغبون فيه، فتحفظي على جعل الناس يهتمون بشخصي أمر لا يمكنني التحرر منه، كما أن الظروف الصعبة الحالية لا تشجع، في نظري، على ذلك، فالذي يريد التأثير على الجمهور ينبغي أن يكون لديه شيء باهر وحماسي يخاطبه به، إلا أن موقفي المتحفظ من الصهيونية لا يسمح بذلك، إن لي بكل تأكيد أسمى مشاعر التعاطف مع الجهود المتفق عليها بحرية، فأنا فخور بجامعتنا في القدس(11) ، ومبتهج بازدهار مؤسسات مستوطنينا، ولكن، من ناحية أخرى، لا أعتقد أن فلسطين ستكون يوماً ما دولة يهودية، ولا أعتقد أن العالم المسيحي والعالم الإسلامي سيقبلان بإسناد أماكنهما المقدسة لليهود ليحافظوا عليها، قد يبدو لي أكثر حكمة إقامة وطن يهودي على أرض غير مشحونة بالدلالات التاريخية، إنني أعي، بكل تأكيد، أن مشروعاً عقلانياً، مثل هذا، لن يمَكن من استثارة حماس الجماهير وتعاون الأغنياء، وأعترف أيضا، بكل أسف، أن تعصب مواطنينا، الذي يتسم بضعف واقعيته، له مسؤوليته في إيقاظ حذر وارتياب العرب، لا أستطيع الشعور بأدنى تعاطف مع تقوى فُهمت بشكل خاطئ تجعل من قطعة حائطِ هيرودوس (Hérode) (12)أثرا وطنياً، ويتم بسبب تلك القطعة من الجدار تحدي مشاعر سكان البلد).

في هاتين الرسالتين يبدو فرويد فيهما واضحاً في دعمه للمشروع الصهيوني، وتعاطفه معه، أعني في إيجاد وطن قومي للشتات اليهودي، إلا أنه كان ينظر بواقعية إلى أن فلسطين كخيار تطبيقي للمشروع الصهيوني لن تكون خياراً مناسباً، إذ أن الاستيطان داخل أراضي مأهولة بالشعب الفلسطيني مع توجه ديني راكز بقوة لدى المسلمين والمسيحيين فيما يتعلق بقدسية الأرض الفلسطينية، ورمزيتها الدينية العالية بالنسبة اليهم لن تجعل المشروع الصهيوني مشروعاً ناجعاً كما يخطط الصهاينة، لذلك يرى أن من الحكمة البحث عن أرض غير مشحونة بالدلالات التاريخية لتكون أرضاً لليهود، أي البحث عن أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التأريخ على حد تعبيره، وربما لو ربطنا ما طرحه فرويد في موسى والتوحيد من وجهة نظره، لتأكد لدينا أن الهوّس التأريخي في العودة إلى أرض الميعاد وفق السردية الرسمية اليهودية لا تحظى بكبير إهتمام لدى فرويد، لأن الكثير من التراتبيات التي تأسست على هذه السردية هي محط شك وتمحيص داخل مرجل عقل فرويد المغتلي بتساؤلاته التأريخية والنفسية.

***

د. محمد هاشم البطاط

....................

المصادر:

(1) سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي، ط4 1986م، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ص7.

(2) العهد القديم، سفر الخروج، الاصحاح الثاني، الاية العاشرة.

(3) سيغموند فرويد، مصدر سبق ذكره، ص8.

(4) سيغموند فرويد، مصدر سبق ذكره، ص9.

(5) سيغموند فرويد، مصدر سبق ذكره، ص27.

(6) المصدر السابق، ص38 المتن والهامش.

(7) في كتابه (الطوكم والتابو) بتكلم فرويد عن جريمة قتل الابناء للأب ثورة على سلطته المطلقة في الحياة البدائية، وإستئثاره بالجنس ومشبعات الغرائز، ثم بعد ذلك يعمد الاخوة الى ايجاد بدائل رمزية عن الاب وقدسيته، ينظر: موسى والتوحيد، 180 وما بعدها.

(8) المصدر السابق، ص102.

(9) يُنظر: نصوص رسائل سيغموند فرويد المتعلقة بالصهيونية ضمن فرويد والمسألة اليهودية، على الانترنت: www.atheer.com

(10) أحد أعضاء الصندوق التأسيسي اليهودي الذي كان معنياً بجمع الدعم والتبرعات للمشروع الصهيوني في فلسطين.

(11) جامعة القدس العبرية

(12) هيرودس الأول أو الكبير (73ـ 4 ق.م) الذي نصّبه الرومان على عرش القدس، فجرّد الكهنة اليهود من سلطانهم وقتل زوجته وعدداً من أولاده لسدّ الطريق على كل منافسة سياسية من شأنها أن تهدد سلطته. وطبقاً لإنجيل متى أمر بقتل جميع الأطفال الذكور في بيت لحم بعد أن أُنبئ أن (ملك اليهود) (الطفل يسوع) قد ولد. وهي قصة تكرر بصورة شبه حرفية القصة التوراتية عن الأمر الذي أصدره فرعون مصر بقتل جميع المواليد الذكور من الأرقاء اليهود. ولكن هيرودس اشتهر أيضاً بكونه واحداً من كبار البناة في التاريخ، وفي جملة ما بناه هيكل القدس وأسوارها.

يُنظر: نصوص رسائل سيغموند فرويد المتعلقة بالصهيونية ضمن فرويد والمسألة اليهودية، على الانترنت: www.atheer.com

اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فاغتاله الصهاينة.

ربما أكثر الاستعارات السياسية استهلاكاً للمعاني دون طائل هي استعارة (الدولة اليهودية Jewish state ). استعارة مبنيةٌ على رصيد ضخم من حطام التاريخ والأحداث التي قد تشتعل في أي وقت. ثمة حروب واتفاقيات ومعابر وترتيبات على الأرض ومعاهدات ومؤامرات واغتيالات ودسائس وسياسات استيطانية..  كل هذه الأشياء وغيرها تجري باسم الدولة اليهودية. وسيكون لديها أيضاً كامل الاستعداد لمزيد من الإبادة والتدمير وحرق المراحل وصولاً لأهدافها البعيدة. لتصبح فكرة الدولة عود ثقاب يُضرم النيران في المنطقة العربية بكل تراثها السياسي والوجودي كما هو حادث مع حروب إسرائيل.

إذْ لا تفعل اسرائيل تاريخياً سوى استدعاء مخزون الاستعارات اللاهوتية أمام الأغيار. إنها تعيد تشغيل تراثها اليهودي كي تحتطب الرؤوس إشارةً إلى إله الدولة القوى. وتلك خطورة الاستعارات المسيّسة عندما تُلهب مشاعر وأحاسيس أتباعها المترقبين. كل استعارة يهودية تخص الدولة تتسلح بصراعها الوجودي الطويل، لأنّها بمثابة المجاز الرمزي الأم Mother allegory لتاريخ اليهود ولوعد بلفور ولأحلام الوطن القومي وتمثلات الشعب العبراني. ويعلم أصحابها أنَّه لابد أنْ تتحقق على انقاض أشياء أخرى بالضرورة. فلا تتحقق الاستعارة هكذا ضمن مناطق شاغرة، هي توجد لكي تمارس إقصاء واستبعاداً للشعب الفلسطيني.

إن لُحمة الدولة اليهودية مكونة من أيديولوجيا تحدد بالأساس المواقف الصهيونية تجاه الآخرين. مواقف حدية من أول وهلة، ومنصرفة إلى نوع من الإزاحة التي تواصل دورانها كالرحى المدمرة لحقوق الشعوب والدول. اسرائيل هي رحى الغرب الكولونيالي الذي يديرها بمكر ودهاء وفقاً لمصالحه، حيث يكّسر بها صلابة الأفكار ومشاريع النهوض الوطني في منطقة الشرق الأوسط. عندما يريد الغرب الأمريكي غرس خنجر في خاصرة العالم العربي، يحرك رحى الصهيونية. هذا الوكيل الحصري لمآربه الاستعمارية. حيث تمارس الأخيرة طحن أحلام العرب والفلسطينيين بكل برود واستنزاف متواصلين. والمدهش أن العرب- إلى حد البلاهة- يقدمون لرحى الصهيونية كل (أحلام الحياة) كي تطحنها وتعطيها لهم بلا قيمة. ولا يكتفون بذلك، بل يدخل الأمر في التصاقهم بالكيان الصهيوني كالتصاق التابع لسياسات الغرب الأمريكي في المنطقة جيئةً وذهاباً.

وفوق ذلك تشكل استعارة الدولة (عباءة جامعة مانعة) لشتات الجماعات اليهودية في أصقاع الأرض. لا تُعنى بالشعوب الأصليين أيا كانوا، فهي تولد– كما يقال عن أرض فلسطين- في أرض منتظرة رغم أنف الآخرين. أي أن الدولة اليهودية هي استعارة عنف بالدرجة الأولى، كاسحة ألغام وسط حقول مفخخة بالموت... فماذا نتوقع بعد ذلك؟! لابد أن تتحول الدولة إلى عربة حربية منطلقة منذ الخروج القديم لليهود من مصر حتى الآن.

من وقت إلى آخر، يطلق كل حاكم لإسرائيل بعناوينه المتباينة سؤالاً مهماً: كيف نغطي جغرافية الكيان الصهيوني وتاريخه؟ تأتيه الإجابة دوماً عن طريق خلع صفة اليهودية على الدولة والمجتمع. ويتمثل في هذا رمزية شمشون الجبار الذي اشتهر بقوته المعطاة من الإله كجزء من العهد كنذير له ولشعبه. وفي التراث اليهودي استمد شمشون قوته من شعر رأسه غير المقصوص، وكان يستخدم القوة لتحرير بني إسرائيل من سيطرة الفلسطينيين. ويرمز شمشون (שִׁמְשׁוֹן) Shimshon أيضاً إلى الجانب الأسطوري المحارب طالما يحتاط من الناس ويتخذ من الوعود الالهية وسيلة لتحقيق الآمال. ومعنى الاسم كما ورد في التوراة هو رجل الشمس الذي يقهر الظلام متمسكاً بكلمة الرب.

كأن سمة اليهودية مقولة بلاغية واسعة الدلالة دون حدود، ولكنها قابلة للتفصيل على الواقع. سمة تركت آثارها على الأشكال والوجوه والملابس وطرائق الكلام وحتى على علامات المجتمع الاسرائيلي. لقد اعتاد أي رئيس أمريكي من أجل التقرب لليهود القيام بزيارة (حائط المبكى) أو بالعبرية الكوتيل Kotel كأقدس بقعة تتلقى دموع اليهود حداداً على خراب الهيكل. وكذلك يقوم بارتداء الكيباه أو اليارمولكا Kippa (Yarmulke) ذات الصبغة الدينية، أي غطاء الرأس الصغير الذي يوضع على الرأس رمزاً للتقوى والتواضع أمام الإله، فلا يجوز في عرف اليهود التقليديين ذكر اسم الله لمن يعري رأسه دون هذا الرمز.

استعارة الدولة اليهودية تحط رحالها بعد مسيرة مضنية عبر التاريخ. لأول وهلةٍ ينقل العبرانيون يهودية الدولة بصيغة الماضي الدائم مختزلاً الحاضر والمستقبل. فلايهم ما إذا كان هناك زمان أصلاً أم لا، المهم هو عودة مُلك بني اسرائيل الغابر. وإذا كانت الاستعارة السياسية ماضيةً، فقد كانت متحققة لا محالة. يقول ثيودور هيرتزل في مفتتح كتابه (دولة اليهود): إن الفكرة التي طورتها في هذا الكتيب هو فكرة قديمة جداً، إنها استعادة دولة اليهود إزاء كل الأغيار.

بعبارة صريحة، يُلبِس هرتزل الشعب العبراني ثوب الدولة اليهودية الراقدة من أزمنة. كان يحفر في تاريخ اليهود حتى يقول ما يجب قوله كصهيوني عتيد. ويرى أن الوقود الدافع للشعب المختار هو الحياة البائسة ليهود العالم، بل إن وجود البؤس انجاز ما بعده إنجاز. لأنَّ الاعمال العظيمة تولد من رحم المعاناة والقهر. وليست اليهودية بهذا المعنى ديناً، لكنها أنطولوجيا وهمية خارج الواقع. إن الاستعارات تتبدل علي الدولة كأنَّها هيكل مفقود في تفاصيل التاريخ.

من وجهة نظر اليهود، كان البحث عن وقود لإشعال فتيل الهوس بدولتهم الدينية أهم من أي شيء آخر. ونتيجة لمحزون العنف والحدود الفاصلة (الكراهية) تجاه الآخرين، كان يجب إيجاد دلالة على الصعيد ذاته. الدولة اليهودية هي الجدار العازل لشعب باحث عن منطقة فارغة سياسياً وانسانياً. وتلك وظيفة معرفية للاستعارة: كونها تدفع أصحابها للاستمرار فيما يعتقدون. بل تأخذ في إخلاء فضاء لدلالتها حتى الانغلاق التام على ما تصف. لدرجة أن العالم يبدو بالنسبة إلى جماعات اليهود خالياً إلاّ من ظلالها. كما أنها استعارة تُحفز أبواق الكلام والمثيرات العصبية لحركة الناس المؤمنين بذلك. وبخاصة أنَّ البؤس الذي ذكره هرتزل كان ذا مكانة أساسية في بيولوجيا وانثروبولوجيا اليهود. لعلَّ اليهود من جهة تكوينهم التشريحي والبشري أبرز كائنات تنطوي على طباق من البؤس.

المفارقة أن البؤس اليهودي Jewish misery لم يخضع للتساؤل: لماذا البؤس دون سواه في المجتمعات التي عاش فيها يهود؟ هل اليهود يحملون ميراث البؤس تاريخياً أم لكونهم يهوداً فهم بؤساء؟ الحقيقة أن هناك أسباباً مزدوجة، فإذا حصل اليهود على موطئ قدم، سرعان ما أرادوا توسعته إلى نفوذ غالب. وهذا أحد مظاهر القوة الغاشمة التي يمارسونها عبر الهامش، ليقلبوا الوضع من النقيض إلى النقيض. مما جر عليهم اضطهاداً مفترضاً على الدوام، وكلما اشتدت الأوضاع التي هي طبيعية بالنسبة لمجتمعات الشتات، تحضر استعارة الدولة اليهودية كأنها دعوة للخلاص. والجانب الآخر من الازدواج أن يبادر أصحاب المجتمعات بملاحقة اليهود قدماً بقدم كما حدث في ألمانيا وفرنساً وأسبانيا وأغلب الدول الغربية. والانعزال الاجتماعي القائم على الفوقية كنمط حياة، لن يجني اليهود من ورائه غير التهميش.

أولاً: تُحيي استعارة الدولة اليهودية أملاً بوجود دولة ليهود الشتات. وتصبح لوناً من التخدير الموضعي للآلام والأحقاد التي يعانيها شعب الرب. كما أنها تجعل هناك مأوى من التيه الذي لف بني إسرائيل في  بعض حقب التاريخ. ليس التيه أربعين سنة فقط في شبه جزيرة سيناء، لكنه تيه مازال موصولاً في كل العصور. نتيجة الجري وراء هذه الدولة التي لا تجد لها موضعاً في جغرافيا العالم ولا في عقول الشعوب إلاَّ على أطلال الحقوق وتغلغل الاستيطان الكولونيالي.

ثانياً: تجمع استعارة الدولة اليهودية بين وجهي الدين والسياسة في رأس صهيوني واحد. وهذا يعود إلى عصر الحفريات التي جمعت بين مفهوم الجماعة (القبيلة) وأنظمة الحكم. ومازالت اسرائيل تحافظ على هذه الآبار العتيقة التي لا تنضب. ولكن قادة اسرائيل يعلمون جيداً أن انتفاء اليهودية معناه هلاك الحلم الصهيوني. ولابد من ترديد مقولة الدولة اليهودية في أرجاء المعمورة ولكن الأهم هو الحفاظ على ترديد المقولة في أدمغة الشعب اليهودي والشعوب المحيطة.

وبذلك قرر أقطاب الصهيونية والمركزية الكولونيالية الغربية تغليف جميع متعلقات اسرائيل بهذا المسمى إنْ لم يكن صراحة فضمنياً. تكلم مثقفو الغرب (جان بول سارتر وكارل ماركس) عن المسألة اليهودية كأنها موجودة منذ بدء الخليقة. فرغم الانتقادات التي فككت المسألة وعرضتها للنقد التاريخي في ظل أوضاع أوروبا إلا أن اليهود نجحوا في تعليق مسألتهم كقضية وجودية. ليس إدعاء دولة يهودية آتيا من فراغ، ولكنه عمل دؤوب. كأنه طقس ديني يقام يومياً في حركة الحياة اليهودية.

ثالثاً: هناك سؤال مهم: ما وضع دولة دينية لليهود بين دول العالم؟، إنها استعارة ضد حداثية anti- modernism. المفارقة التي لا تخلو من سخرية واضحة. فليس الكيان الصهيوني سوى نبتة حداثية بامتياز، غير أن الدولة اليهودية المنتظرة ليست حداثية. وفي الحالتين، كان الغرب هو المؤسس والفاعل والراعي لإسرائيل على السواء. وهذا يطرح أسئلة بعيدة: هل الحداثة فعلاً ذات طابع انساني؟ هل قيم التنوير (كأساس للحداثة) قيم واحدة أم متناقضة؟ هل الحداثة نزعة كونية تهتم بالبشر في المقام الأول أم أنها نزعة برجماتية كولونيالية؟!

وحدها اسرائيل بمثابة الدليل السياسي الدامغ على تناقضات الحداثة الغربية. ومازال الدليل فاعلاً في الواقع حتى اللحظة. لم تنتج الحداثة الغربية خارج ذاتها سوى اسرائيل كوليد شرعي لها وسوى عمليات الاحتلال المباشر وغير المباشر، فلم تكن غير حداثة مسيّسة تم استعمالها كأداة استعمارية قاتلة. وحقاً هذا أمر مريب أن تكون الحداثة داخل أوربا نوعاً من العقلانية والحرية وبناء الارادة العامة والفضاء العمومي للدول والاستقلال، ثم لا تلبث أنْ تكون خارج أوروبا كيانات وهمية وأشباحاً كولونيالية!! تاريخ الغرب هو تاريخ المفارقات التي لا تأخذ هامشاً محدوداً، ولكنها تصر على احتلال المتن.

رابعاً: تشعل استعارة الدولة اليهودية (حروب الاستعارات  wars of metaphors) في المنطقة العربية. فهناك بالمقابل استعارة الدولة الإسلامية واستعارة الدولة القومية واستعارة الدولة القبلية (العائلية) وهناك استعارة الدولة العشائرية. استعارات عتيدة وعريقة في السياسة والاقتصاد الريعي الذي مازال قائما تحت غطاء الحداثة.

الأعجب أن تتعايش هذه الحروب مع مفاهيم الحداثة الغربية كمشروع حضاري. وتلك الفكرة أحد أسباب العنف في منطقة العرب، لأن العرب وشعب اسرائيل جنباً إلى جنب أخذوا الحداثة كقشرة برانية لمجموعة من الاستعارات الحفرية، وليس هذا فقط بل أراد كلاهما احياء الاستعارات ساهرين على رعايتها داخل المجتمع والدولة. الحاكم، الكاهن، الحاخام، الملك، الأمير، الجماعة، الحاكم المستبد، التنظيم اللاهوتي السياسي.. كل هذه شخصيات مفهومية مجازية metaphorical conceptual characters تضرب بجذورها في تربة الثقافات قبل الحداثية لدى العرب وإسرائيل على السواء. وتظل شخصيات رمزية مستعادة للعب أضخم الأدوار في الواقع المعاصر.

خامساً: الدولة اليهودية هي حمالة الحطب على أنقاض خريطة الدول العربية الحديثة. لأنها الدولة التوراتية التي عيّن حدودها ابناء بني اسرائيل، حين وُعدوا في التوراة بامتلاك كل أرض تطؤها قدامهم. أي دولة الشعب العبراني من النيل إلى الفرات بصرف النظر عن سيادة المجتمعات العربية. ذلك أن استعارة الدولة العبرانية قد توقف عندها التاريخ، ولم يتقدم إلى العصر الراهن قيد أنملة. ومن ثم كان الإملاء على العرب أن يعيشوا في القرون الغابرة حتى يسايروا الاستعارة. وهذا جانب من تأثير حركة الاستعارات كالسحب السوداء فوق خريطة الوطن العربي.

اسرائيل تستحضر اشباحها البديلة في ليل كولونيالي بهيم. وما الحروب الصهيونية بالمنطقة إلا الطقوس الدموية التي يستهدفون منها تحضير روح الاستعارة. إن إحلال وجودها لا يتم بعمليات السلام المزعوم، ولكنه يحل مع الصراع والنزاعات المسلحة... هذا الاعتقاد القار في قاع كل استعارة كولونيالية مسلحة بموروثات لاهوتية.

وهذه هي القوة الصهيونية الخفية التي تحارب على كافة الجبهات. لأن التجاوز الحربي إلى حد الإبادة الجماعية لا يأتي نتيجة الأفكار العادية، بل بفضل الدرجة الصفر للوجود حيث تتمكن الاستعارات من رؤوس أتباعها حتى الثمالة. لا يحمل الرجل الصهيوني سلاحاً بشكل واع، ولكنه يقتل ويدمر تحت تخدير الأيديولوجيا. إن الاستعارات تفتح الوجود في شكل أطياف وأحلام يمارس فيها القاتل المخدّر كل شيء دون حدود.

في المقابل لا يعي العرب – حتى اللحظة- حجم المأساة الوجودية لاستعارات إسرائيل اليهودية. ولم يفهموا الإشكال الكولونيالي بأبعاده الحضارية المتمرسة على الصراع. فلكي نعرف اسرائيل، لابد أن نعرف الغرب جزءاً بجزءٍ دون أن نترك شيئاً للمصادفة. والمعرفة لون من ألوان التفكيك والفهم العميق لمشاكلنا الحضارية قبل أي شيء آخر. الأزمة ليست سحابة صيف، ولكنها وعي لمقاومة المعرفة المشوّهة التي تستغرقنا في اتفاقيات وترتيبات أمنية وكفى. إنَّ وجود اسرائيل هو من جنس غيابنا عن التاريخ الحضاري للعالم. الوجهان نمطان أساسيان من الحضور في العالم، لا فرق بينهما البتة (إسرائيل وفشلنا الحضاري). ومجرد اساءة فهم المسألة الحضارية ستكون النتيجة توالي الكوارث التي تلف دماغنا بدومات الفوضى والتعثر من مرحلة إلى أخرى.

إذا كان الوعي سياسياً أحد وجوه المقاومة، ولئن كانت المعرفة لوناً من القوة، فأحرى بنا أن نطور وعي الأجيال بالفهم الصحيح لوجود إسرائيل. وحالة الفهم السائد الآن- والتي يريد الغرب تكريسها- هي امتداد للوضع الكولونيالي القديم. بكلمات واضحة، لقد عمد الغرب إلى استعمال وعي العرب المشوه بوجود إسرائيل، لكي يعيد إنتاج استعاراتها وفقاً لما نفهمه نحن هذه المرة. أي أنك ستعترف بوجود إسرائيل و استيطانها تلقائياً بنفسك، ولن تحتاج إلى من يلح عليك لهذا الغرض!!

إن الإتفاقيات الابراهيمية خطوة جريئة من الفهم الكولونيالي الذي اشتغل عميقاً على كيفية تكوين وعي موازي له. بحث تكون الثقافة والسرديات والخطابات (حلبة رمزية) تقبل منازلة الطرف اليهودي، دون غضاضة في أن يقف على قدم المساواة معك، وأنْ تكون له حقوق الدفاع عن نفسه أمامك (أنت العدو والضحية والسمسار وحطب المعارك). ذلك مع صرف النظر عن كون الطرف الصهيوني ساكناً كالفيروس في معدة ثقافية لا قدم له فيها ابتداء، وأنه ليس إلاَّ مندوباً كولونيالياً يطمع في خرق كل الجدران.

حيث يغدو التدرج هو قانون الثقافة الغالبة. يوماً ما كانت اسرائيل هي العدو المجهول، ثم أصبحت الطرف المحارب، ثم غدت الطرف المفاوض، ثم أمست الطرف المشارك، ثم جلست بيننا كالطرف المجاور، ثم جاءت طرفاً إبراهيمياً أصيلاً، ثم بعد ذلك ستكون طرفاً يقتسم وجودنا المشترك، ثم ستأخذ صفة الطرف الذي يتقدمنا جميعاً، ثم يكتسب صفة الطرف المالك لتراث وأرض الأجداد. الاستعارات اللاهوتية التي تدمج المتناقضات في معادلة كولونيالية جديدة.

هكذا يتحول أصحاب الحقوق الأصيلة إلى كومةٍ من البلهاء في سوق ضخم يديره الوكلاء الاقليميون مرة أخرى. بالضبط مثل خطط الغرب الكولونيالي بعد كل صراع وعقب كل الحروب. يعطيك الأرض ويأخذ الثروات والمقدرات. يعطيك الحراسة وينهب الحقوق. يعطيك المفتي ويأخذ الفتاوى. يعطيك الدولة ويأخذ السيادة. يعطيك طرف الحبل ويلف الباقي حول عنقك. يعطيك الرأي ويأخذ الغنائم. يعطيك الملابس لستر عوراتك يسرق عقلك ووعيك.. رغم أنك صاحب كل هذه الأشياء دون منازع.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) تشكلت عصبة الأمم المتحدة وهي منظمة الهدف الرئيسي منها منع قيام الحرب عبر ضمان الأمن المشترك بين الدول، والحد من انتشار الأسلحة، وتسوية المنازعات الدولية عبر إجراء المفاوضات والتحكيم الدولي، وتسعى لإحلال فكرة السلام مكان فكرة الحرب.

كان من أبرز دعاة تشكيل العصبة الرئيس الأميركي وودرو ولسن الذي تقدم بمقترحه إنشاء منظمة دولية إلى الكونغرس الأميركي في الثامن من شباط سنة 1918 ثم إلى مجلس الحلفاء الأعلى، وضمن المقترح نقاطه الأربعة حول تقرير المصير، وإعطاء ضمانات للاستقلال السياسي للدول، كبيرة كانت أم صغيرة. وقد أعد مشروع ميثاق للعصبة في 28 نيسان 1919 وعقد أول اجتماع لمجلس العصبة، وتكونت العصبة من أعضاء أصليين وهم الدول التي وقعت على الميثاق، ومن أعضاء غير أصليين يرومون دخول العصبة على أن تقبل اية دولة في العصبة اذا وافق على قبولها ثلثا اعضاء الجمعية العامة للعصبة بشرط أن تقدم ما يفيد على التزاماتها الدولية وخاصة في عدم اللجوء للحرب واحترام قواعد القانون الدولي والتعهدات الواردة في المعاهدات .وكان للعصبة جمعية عامة ومجلس وأمانة عامة (سكرتارية) ومؤسسات سياسية وقانونية مرتبطة بها من قبيل محكمة العدل الدولية واللجنة التحضيرية لمؤتمر نزع السلاح ولجنة الأقليات ولجنة الانتدابات، ومنظمة العمل الدولية، ولجنة التعاون الفكري، ولجنة الرق والعبودية، ولجنة اللاجئين ومنظمة الصحة العالمية .وقد تعاقب على أمانتها0 العامة كل من السير اريك دروموند (1920-1933) وجوزيف أفينول (1933-1940) وشون ليستر (1940-1946) .

كان العراق في فترة الحكم العثماني الذي ابتدأ في النصف الثاني من القرن السادس عشر يتكون من ثلاث ولايات بغداد والموصل والبصرة وبعد احتلال العراق من قبل القوات البريطانية سنة 1917وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني المباشر، وبعد احداث ثورة 1920 تخلي البريطانيون عن أسلوبهم في حكم العراق المباشر، وإفساح المجال لتشكيل حكومة عراقية، وتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق في 21 آب سنة 1921،وبذلك فقد وقع العراق تحت الانتداب البريطاني، فكان لكل وزير في الحكومة العراقية مستشار بريطاني يصادق على قرارات الوزير، ويرتبط المستشارون بالمندوب السامي البريطاني مباشرة .

وفيصل بن الحسين (1883 – 1933) الابن الثالث للشريف الحسين بن علي الهاشمي الذي قاد ثورة ضد الدولة العثمانية في حزيران عام 1916التي سميت (الثورة العربية الكبرى) فتم طرد العثمانيين من مدن الحجاز، فكان الأمير فيصل أحد قادتها الذي اتجه بقواته شمالاً نحو دمشق وطرد العثمانيون من مدن سوريا، توج ملكاً على سوريا في 8 آذار 1920، وعند احتلال الفرنسيين لسوريا بعد معركة ميسلون خرج منها الى لندن تاركاً عرشه.

اختير فيصل ملكاً على العراق وتوج يوم 23 آب 1921، وجاء في خطاب التتويج الذي القاه أن غايته المنشودة، هي استقلال المملكة العراقية، لذلك تم التفاهم مع السلطة البريطانية المنتدبة على أن العراق سيبني نظامه السياسي الدستوري ويقر القانون الأساسي أي الدستور، ويجري الانتخابات لإنشاء برلمان (مجلس تأسيسي)، ويتفاهم مع بريطانيا من خلال التصديق على المعاهدات والاتفاقيات الملحقة بها وإبرام الصلح مع تركيا بعد انتهاء مشكلة مطالبتها بولاية الموصل، وتحديد حدود العراق، وتقوية الجيش للحفاظ على أمن العراق وشعبه.

لقد بذل الملك فيصل الأول رحمه الله (1921-1933) جهودا كبيرة لتقرير شؤون الدولة، وتحديد الأطر الدستورية والإدارية، والتنظيمية للدولة الجديدة وخاصة على صعيد بناء الجيش، ونشر التعليم، وتطوير الصحة، ووضع الإدارة على المنهج الصحيح، وتنظيم العلاقة مع الدولة المنتدبة بما لا يضر بمصالح العراقيين وطموحاتهم في بناء دولتهم الحديثة الموحدة القوية، وحل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يساعد على أن يكون للعراق دورا مؤثرا في محيطه العربي والإقليمي والدولي. وكانت المعاهدات بين العراق وبريطانيا واحدة من الأساليب التي نظمت العلاقة تلك ولعل أبرزها معاهدة 1922 ومعاهدة 1927 ومعاهدة 1930 التي مهدت لدخول العراق عصبة الأمم كدولة مستقلة، وانتهاء عهد الانتداب البريطاني .

ان دخول العراق عصبة الأمم يعد خطوة كبيرة نحو الاستقلال التام، لذلك بُذلت جهوداً كبيرة في هذا المضمار وتعهدت الوزارات العراقية المتعاقبة التي تشكلت إبان عهد الانتداب البريطاني (1920-1932) أن يكون من ابرز مهامها استكمال دخول العراق عضوا في عصبة الأمم . ومن جهتها عملت السلطات البريطانية المنتدبة على الإيفاء بتعهداتها في مجال إدخال العراق العصبة ولكن بعد أن وضعت شروطا وقيودا كان على العراق أن يعمل من اجل تحقيقها.

لقد اتخذت الكثير من الخطوات التي أوصلت العراق إلى عضوية العصبة ومنها التوقيع على معاهدة 1922 مع بريطانيا والبروتوكول الملحق بها ومما تضمنته المعاهدة أن ملك بريطانيا يتعهد بأن "يبذل مساعيه لتأمين إدخال العراق في عضوية عصبة الأمم في أقرب وقت ممكن ". وعلى هذا الأساس قامت مفاوضات بين حكومة نوري السعيد الأولى 23 آذار 1930 من اجل عقد معاهدة جديدة تؤكد فيها بريطانيا تأييد ترشيح العراق عضوا مستقلا في عصبة الأمم سنة 1932، وكانت معاهدة 1930 والتي أتاحت لحكومة نوري السعيد الفرصة، لتثبيت حدود العراق مع الأردن وإيران وسوريا والسعودية والكويت. كما سافر نوري السعيد إلى جنيف بسويسرا حيث مقر العصبة مرتين. كما سافر للمرة الثالثة للتمهيد لدخول العصبة وحل بعض الإشكالات المتعلقة بالتعامل التجاري، وبموضوع ضمان حقوق الأقليات العرقية والدينية، وأكد أن القوانين العراقية تحتوي من النصوص ما يضمن تلك الحقوق رافضاً مقترحاً بتحديد أماكن معينة للأقليات الدينية .

وعندما زالت جميع العقبات أمام دخول العراق العصبة صدر قرار مجلس عصبة الأمم قبول العراق عضوا مستقلاً، وتم الاحتفال برفع العلم العراقي فوق سارية مقر العصبة مع أعلام الدول الأخرى في اليوم الثالث من تشرين الأول سنة 1932باحتفال حضره نوري السعيد و11 نائباً في البرلمان العراقي رشحهم الملك فيصل الأول، وبذلك يكون العراق اول بلد عربي يصبح عضواً في عصبة الأمم المتحدة.

***

صباح شاكر العكام

.....................

المصادر:

1-  امين الريحاني – فيصل الأول ذكرى وتاريخ – مؤسسة هنداوي، 2017م .

2-  علي علاوي – فيصل الاول ملك العراق – مركز الرافدين للحوار، 2021م .

3-  محمد مظفر الادهمي الملك فيصل الأول حياته السياسية وظروف مماته الغامضة - دار الذاكرة للنشر والتوزيع، 2021م .

من (التسعينات حتى العقد الثاني من الألفية).. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (3)

في الجزء الثاني، توقفنا عند التحولات الإقليمية من السبعينات إلى التسعينات: اغتيال السادات، مجزرة حماة، انقلاب السودان. واليوم نتابع صعود القاعدة وعلاقة الإخوان بها، لنرى كيف تحوّل الإرهاب إلى شبكة عابرة للحدود.

مع نهاية التسعينات، كان الإسلام السياسي قد غيّر جلده أكثر من مرة، لكنه لم يتغيّر في جوهره. من تنظيمات دعوية إلى أجهزة سرية، من محاولات اغتيال محلية إلى شبكات عابرة للحدود، ومن السيطرة على الجامعات إلى الاستيلاء على السلطة. غير أن ما سيأتي بعد ذلك سيكشف أن المشروع لم يكن يقف عند حدود الدول القُطرية، بل كان يتطلع إلى بناء سردية أممية، تُستعاد فيها صورة “الخلافة” كحلم مؤجل.

في هذا السياق، ولدت القاعدة. لم تكن القاعدة طفرة معزولة، بل كانت النتيجة المنطقية لمسار طويل بدأ مع سيد قطب، وتحوّل إلى جهاد أفغاني برعاية أمريكية وسعودية في الثمانينات، ثم انفجر في التسعينات ليصبح تهديدًا عالميًا. أسامة بن لادن، الذي خرج من رحم الثروة السعودية والتربية السلفية المتأثرة بكتابات الإخوان، وجد في أفغانستان تربة خصبة لتجسيد فكرة “الجهاد العالمي”. عبد الله عزام، الإخواني الفلسطيني، كان هو المُلهم والعرّاب. ومن هنا، بدأت العلاقة المعقدة: الإخوان من جهة يعلنون براءتهم من العنف المباشر حفاظًا على صورتهم السياسية، لكنهم من جهة أخرى يوفرون الغطاء الفكري والتنظيمي لشبكات جهادية مثل القاعدة.

في السودان، لعبت الخرطوم دورًا خطيرًا بين ١٩٩١ و١٩٩٦ حين تحولت إلى ملاذ آمن لبن لادن وقادة القاعدة. كان نظام البشير والترابي يرى في استضافة هؤلاء “المجاهدين” جزءًا من مشروعه لتصدير الثورة الإسلامية.

في تلك السنوات، عاش بن لادن في الخرطوم، أسس شركات، وحصل على حماية من جهاز الأمن الشعبي. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن السودان كان ساحة للتدريب والتخطيط، من بينها عمليات استهدفت الأمريكيين في نيروبي ودار السلام عام ١٩٩٨.

لم يكن السودان مجرد بلد عبور؛ كان مركزًا، مختبرًا، وحاضنة. وهذا ما جعل الولايات المتحدة تضعه في قلب قائمة الدول الراعية للإرهاب.

في مصر، ومع بداية التسعينات، عادت موجة الاغتيالات. أبرزها اغتيال المفكر فرج فودة في يونيو ١٩٩٢، رجل أعلن بوضوح أن الإسلام السياسي مشروع استبدادي متنكر بعمامة الدين. كان اغتياله بمثابة رسالة أن السيف لا يزال فوق رقاب المثقفين. وفي ١٩٩٤، نجا الأديب نجيب محفوظ من محاولة اغتيال بطعنة في رقبته، نفذها شاب تأثر بفتاوى تكفيرية. هذه الأحداث لم تكن معزولة؛ كانت جزءًا من مناخ أنتجته الحركة الإسلامية وأشباهها، حيث صار القتل وسيلة لإسكات الفكر.

في الجزائر، تحولت التسعينات إلى جحيم. فبعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات ١٩٩١ وإلغائها من قبل الجيش، اندلعت حرب أهلية دامية. الجماعات المسلحة، التي حملت فكرًا قريبًا من الإخوان وقطب، ارتكبت مجازر مروعة في القرى والمدن. أكثر من ١٥٠ ألف قتيل خلال عقد واحد. الجزائر كانت المثال الأوضح على أن مشروع الإسلام السياسي، حين يُسقط بالقوة أو يُمنع من السلطة، لا يعود إلى الدعوة أو الحوار، بل ينقلب إلى حمام دم.

أما في فلسطين، فقد ولدت حركة حماس عام ١٩٨٧ كفرع مباشر للإخوان. في التسعينات، صعدت قوتها عبر العمليات الاستشهادية ضد إسرائيل. لكن هذه العمليات لم تكن مجرد مقاومة، بل تعبير عن التحام خطاب الإخوان مع العنف المسلح كخيار إستراتيجي.

العالم بدأ ينظر إلى الإخوان عبر عدسة حماس: حركة دعوية/سياسية تحمل السلاح وتتبنى التفجيرات.

وفي القارة الإفريقية، برزت حركات مسلحة دعت إلى نفس الأيديولوجيا المتطرفة. ففي الصومال، أسس مقاتلون صوماليون عائدون من القتال في أفغانستان تنظيم “حركة الشباب” (شباب المجاهدين)، الذي أصبح لاحقًا ذراعًا قويًا لتنظيم القاعدة في شرق إفريقيا . خرجت هذه الحركة لتفرض الشريعة في مناطق واسعة من جنوب الصومال وشنّت هجمات إرهابية عبر الحدود. ففي يوليو ٢٠١٠ شنت الحركة هجمات انتحارية في العاصمة الأوغندية كمبالا، أسفرت عن مقتل نحو ٧٦ شخصًا . كذلك ظهرت في نيجيريا حركة “بوكو حرام” التي أسسها محمد يوسف أواخر التسعينات، وكانت تطلق على نفسها اسم “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد”، وهدفت إلى إقامة دولة إسلامية في شمال نيجيريا وتطبيق الشريعة وتعليق التعليم الغربي . تطورت بوكو حرام إلى تنظيم مسلح عنيف، حيث أعلن خلف يوسف، أبو بكر شيكاو، الولاء لداعش عام ٢٠١٥ ، وارتكبت موجة من الهجمات المروعة، من أبرزها اختطاف ٢٧٦ فتاة مدرسية في ولاية بورنو عام ٢٠١٤ . إن هذه الأمثلة في إفريقيا توضح أن خطاب الجهاد والإرهاب امتد ليشمل حركات عابرة للحدود، ومنطلقاتها لم تقتصر على صراعات محلية بل انخرطت في مشهد عالمي للتطرف.

وفي آسيا أيضاً ترسخت مراكز للجهاد. ففي جنوب شرق آسيا ظهرت جماعة “أبو سياف” في الفلبين عندما انفصل مقاتلون إسلاميون عن الجبهة الإسلامية لتحرير مورو على يد عبد الرزاق أبي بكر جنجلاني -المكنى بأبي سياف- مطلع التسعينيات، وأعلنوا إقامة دولة إسلامية مستقلة في جنوب الفلبين. استخدمت أبو سياف أساليب عنيفة تمثلت في الخطف والاغتيالات والتفجيرات لكسب التمويل والخضوع، ولديها علاقات تنظيمية مع جماعات مثل “الجماعة الإسلامية” في إندونيسيا وشبكات إقليمية أخرى . وعلى غرارها نشأت في آسيا جماعات أصغر وأسهمت في ضخ أيدولوجيا الجهاد إلى هذه المناطق، مما يشير إلى أن بؤر الإرهاب الإسلامي لم تقتصر على الشرق الأوسط فحسب، بل امتدت إلى مناطق جديدة في آسيا أيضًا.

هذه المرحلة كشفت عن تضخم النزعة “الأبوكاليبتية” لدى الجماعات الإسلامية، وهي الاعتقاد بأن العالم مقبل على نهاية وشيكة أو معركة كونية فاصلة بين الحق والباطل، وهي نزعة تزرع شعورًا بانتظار حدث خارق يغيّر مجرى التاريخ. “العدو البعيد” أصبح المفهوم المركزي: ليس فقط الأنظمة المحلية، بل أمريكا نفسها، بوصفها الرمز الأكبر لـ “الجاهلية العالمية”. هذا الخطاب غذّى عمليات كبرى مثل هجمات نيروبي ودار السلام ١٩٩٨، ثم تفجير المدمرة كول ٢٠٠٠، وصولًا إلى أحداث ١١/٩/٢٠٠١. صحيح أن الإخوان حاولوا رسميًا التمايز عن القاعدة، لكن جذور الفكر كانت واحدة: الحاكمية، الجهاد، المفاصلة.

في السودان، انتهى “شهر العسل” بين الترابي والبشير في نهاية التسعينات، فانقسم الإسلاميون إلى جناحين. لكن هذا الانقسام لم يُغير من جوهر المشروع: الدولة بقيت إخوانية في بنيتها، جهاز الأمن الشعبي ظل يمارس الاغتيالات والاختطافات، ومحاولة اغتيال حسني مبارك ١٩٩٥ بقيت وصمة على جبينهم.

في هذه المرحلة، يتضح أن الإسلام السياسي لم يعد مجرد حركة أيديولوجية، بل صار شبكة معقدة: تنظيمات محلية، تنظيم عالمي، ذراع جهادية (القاعدة)، وامتداد فلسطيني (حماس). العلاقة مع الغرب أيضًا كانت مزدوجة: تعاون وتواطؤ في أفغانستان، وعداء معلن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

المفكرون النقديون في التسعينات كانوا أكثر جرأة. صادق جلال العظم كتب عن “نقد الفكر الديني”، مؤكدًا أن الإسلام السياسي يعيش على إعادة إنتاج الماضي وتجميد الحاضر. الطيب تيزيني رأى أن هذه الحركات “تسجن العقل العربي في دوامة النصوص المغلقة”. أما فرج فودة، فقد دفع حياته ثمنًا لقوله إن “الدولة الدينية لا تعرف إلا الاستبداد”. هذه الأصوات تشكّل الضمير المضاد، الذي حاول أن يكشف زيف الخطاب الإخواني ويُسائل دمويته.

التحليل النفسي لجماعة الإخوان في التسعينات يُظهر بوضوح ما يسميه علماء النفس “الاستلاب الجمعي”: حيث يفقد الفرد هويته الخاصة ليذوب في الجماعة. هذا الذوبان يمنحه شعورًا باليقين، لكنه في الحقيقة يسلبه القدرة على التفكير النقدي. هنا يصبح العنف فعلًا طبيعيًا؛ لأنه صادر عن “الأمة” لا عن الفرد.

ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن هذه المرحلة كشفت أيضًا عن ازدواجية في الخطاب الإخواني. ففي حين كانوا في الغرب يقدّمون أنفسهم كحركات إصلاحية تسعى للديمقراطية، كانوا في الشرق الأوسط يرسّخون خطاب العداء والتكفير. هذه الازدواجية صنعت التباسًا في صورة الإسلام السياسي عالميًا، حيث تعاملت بعض الحكومات الغربية معهم كقوة معتدلة يمكن استيعابها، بينما الواقع كان يكشف عن تورطهم المباشر أو غير المباشر في دوائر العنف.

إلى جانب ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن التحولات التكنولوجية في التسعينات ساعدت على توسيع نفوذ الإسلام السياسي. أشرطة الكاسيت، الفضائيات، وشبكات الإنترنت الناشئة صارت منصات لترويج خطاب الجهاد والكراهية. لم يعد الأمر مقتصرًا على المساجد السرية أو الاجتماعات المغلقة، بل صار متاحًا على نطاق واسع. وهكذا، تعولمت لغة الجهاد بوسائل حديثة، لتجد لها صدى عند شباب يعيشون في هوامش المدن الكبرى من القاهرة إلى لندن.

في العراق أيضًا، ساهم الحصار الطويل بعد حرب الخليج الثانية ١٩٩١ في خلق بيئة خصبة لخطاب المظلومية الذي استثمرت فيه الجماعات الإسلامية. صحيح أن القاعدة لم تكن بعد قد توغلت في العراق، لكن أرضيته النفسية والسياسية كانت تُمهّد لمرحلة لاحقة ستتفجر بعد ٢٠٠٣ مع الاحتلال الأمريكي. هذه النقطة تظهر كيف أن التسعينات كانت بمثابة زمن التحضير الكبير لموجة الإرهاب العالمي التي ستنفجر في العقدين التاليين.

لقد كانت هذه المرحلة بمثابة مختبر ضخم لفهم طبيعة الإسلام السياسي حين يخرج من طور المعارضة إلى طور التمكين. التجربة السودانية مثلًا، لم تكن مجرد واقعة محلية؛ بل كانت علامة على أن الإسلاميين حين يمسكون بالدولة، يعيدون إنتاج أدوات القمع نفسها التي كانوا ينددون بها. وفي الجزائر، حين حُرموا من السلطة عبر الانقلاب العسكري، لم يتجهوا إلى خطاب مدني أو إصلاحي، بل تبنوا منطق السلاح والدم. وفي مصر، حين وجدوا أنفسهم في مواجهة المجتمع المدني والمفكرين الأحرار، لم يناقشوا الأفكار بالفكر، بل واجهوها بالرصاص والسكاكين. إنها نماذج متكررة تكشف أن الأزمة ليست فقط في الوسيلة بل في البنية الفكرية ذاتها، التي تؤسس لعلاقة ملتبسة مع مفهوم “الشرعية” و”العنف”.

ومع مطلع الألفية الثالثة، بدا واضحًا أن هذه الحركات قد ربحت لحظة من التاريخ لكنها خسرت المستقبل. فبينما تحولت القاعدة إلى شبح عالمي يطارد الجميع، كانت المجتمعات العربية تدفع ثمنًا باهظًا: خسارة للأمن، انغلاق سياسي، تصاعد للطائفية، وتراجع للتعليم والاقتصاد.

هذا الإرث سيفتح الباب أمام موجة الربيع العربي بعد ٢٠١١، حيث خرجت الشعوب لا ضد الإخوان وحدهم، بل ضد كل البنى السلطوية التي تحالفت معهم أو وظّفتهم. ويمكن القول إن هذه الوقفة الثالثة على أطلال الإسلام السياسي ليست سوى مقدمة لفهم “الانكسار الكبير” الذي سيأتي لاحقًا، حين يسقط القناع نهائيًا، وتنكشف الحركة في هشاشتها وفشلها في بناء دولة أو مجتمع حديث.

مع نهاية التسعينات، كان العالم يقف على حافة تحوّل جديد. القاعدة باتت تهديدًا عالميًا، السودان متهمًا بإيواء الإرهابيين، مصر وسوريا والجزائر غارقة في دماء، وحماس تفرض نفسها لاعبًا أساسيًا. كل ذلك كان تمهيدًا لعقد جديد سيعرف صعودًا غير مسبوق لفكرة “الخلافة” مع ظهور داعش بعد ٢٠١٣. وكأن ما بدأ بدعوة في الإسماعيلية ١٩٢٨، مرّ بكل هذه المحطات ليصل إلى أكثر صوره فجاجة: دولة إرهابية تعلن نفسها خلافة على أنقاض المدن.

يتبع في الجزء الرابع الأسبوع المقبل: ما بعد الربيع العربي – من التمكين إلى الانكسار (٢٠١١–الآن).

***

إبراهيم برسي

ليس المطلوب مع الانقلابيه المجتمعية الاليه مامن شان الارضوية ضمن اشتراطات التحولية الانقلابيه ان تفصح عنه، ومع ان الافصاحية المشار اليها يمكن ان تحتل موقعا استثنائيا، وتتمتع بالغلبه الكوكيبيه الكاسحه نموذجا وتفكرا، الا انها بالاحرى لن تتجاوز نطاق الارضوية التي نحن اليوم بصدد انتهائها مع انتهاء اليدوية الانتاجية حاضنتها ومولدتها، في حين يظل المطلوب المفترض والمقارب للحظة التاريخيه غرضا، غير متحقق، ومن دون ان يقارب ادراكيا، دلاله على عدم اكتمال اسباب واشتراطات الانقلابيه الالية اللاارضوية قطعا، ماخوذة تحت وطاة موجبات الانقلابيه التحولية العظمى، مابعد النبوية الحدسية، تلك التي كانت متطابقة مع اشتراطات الحضور والفعالية اللاارضوية، ابان طور غلبة الارضوية اليدوية.

 ويمكننا اليوم ان نتخيل عظم وفداحة الاشتراطات الحالة على اللاارضوية مع تراكم الاسباب المهوله المانعه للعقل من ان يضطلع بالمهمه الانقلابيه التحولية الاعظم على مستوى التاريخ، هذا علما بان منطقة اللاارضوية وقتها مغمورة، لابل مسحوقه عقليا تحت وطاة الانحطاطية الانقطاعية التي عمت المنطقة بعد انتهاء الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية مع القرن الثالث عشر، ماقد وضعها تحت طائلة ماقد سلف بلا ايه دالات من اي نوع على نيه اختراق فردي او غيره للحال العقلي السكوني الاجتراري، الذي انتهى اخيرا بالانقلاب الالي على الطرف الاخر الانصبابي التقليدي الاوربي، وما رافق الحدث الحاصل هناك من انقلابيه في الممكنات، والتوهمية التفكرية الكاسحه، لتصبح المنطقة تحت طائلة الانحطاطية والموات العقلي، مضافا لها غلبة النموذجية المتالقه، ماكان من شانه وضع هذا الجزء من العالم امام انحطاطية مضاعفه، بلغت عتبه الخروج على الذات، لابل غيابها الكلي، باسم توهمات مستعارة لم تكن تتردد في اعتبار ماهي تحت وطاتها "نهضة"، هي بلا شك نوع من الزيف الاعلى ترديا وانحطاطا بالقياس للتوهمية الغربية المقابلة بما لايقاس.

 وفي موضع هو المعني المباشر بالحدث التاريخي النوعي الحاصل، ظلت الشروط اليدوية الانهيارية الانقطاعية هي السائده حتى في الحالة الانبعاثية، وفي ارض سومر التاريخيه حين انبثقت اولى الدالات على الانبعاثية الثالثة، مع القرن السادس عشر، اتخذت ابتداء صيغة قبلية من "اتحاد قبائل المنتفك"، لتنتقل بعدها مع القرن الثامن عشر بعد الثورة الثلاثية عام 1787 الى حقبة لاارضوية يدوية من متبقيات الحدسيه النبوية بصيغة "الانتظارية" النجفية التي استمرت الى بدايه القرن العشرين، ونزول الحمله البريطانيه جنوبا في الفاو وصعودها المتعثر الى بغداد عاصمة الدورة الثانيه المنهاره، مع فداحة المرور في ارض السواد، موضع اللاارضوية، وما قداثاره من الشعور غير المسبوق بالخطر الوجودي في منطقة لم تعرف مطلقا وعلى مر تاريخها، غزوا من الجنوب الذي هو "منطقة الامان المجتمعي التاريخي"، بالاضافة الى النوع العسكري المحتل غير المعروف من قبل بصيغته الاليه الراهنه، مما استدعى تفجر الثورة اللاارضوية الحديثة الاولى غير الناطقة في حزيران عام 1920 تحت شعار"هوسة" الطوب احسن لومكواري"(3)، تعبيرا عن الفارق بين المدفع الحديث مقابل الفاله والمكوار اللذان حققا الانتصار الوشيك(4) لولا التحايل المفهومي النموذجي الذي لجأ اليه الانكليز بديلا للانسحاب الذي هيئت كل اسبابه عسكريا.

 ومن هنا ندخل تاريخا غير مؤرخ ولا وجود له، يحتكم تعسفا لمنظور بعينه براني، ومنطق ووسائل تفسير ونظر احاديه الطرف، الاخر فيها، او جهه الاصطراع الاخرى غائب تعبيرا وحضورا، فمن يرسم سردية تشكل العراق الحديث هو فليب ويرلند الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه، مقررا وجود عراق حديث يبدا تشكلا من 1831 تاريخ الاحتلال التركي الثالث، من الولايات التركية، بغداد والموصل والبصره، ارتهانا للتطور الراسمالي العالمي وهي فرضية قسرية اعتباطية لاوجود لها في التاريخ اطلاقا، فالعراق ككيان لم يوجد يوما، وهو كيانيه كونية تعبيرا وواقعا، ازدواجي مجتمعيا، من حيزين لاارضوي / ارضوي يتشكل امبراطوريا ضمن ديناميات دوراته الصعودية/ الانحدارية، حين يختفي منهارا ساعة تبلغ الاصطراعية الازدواجيه مداها على طريق التحقق اللاارضوي، منتظما كينونة تحت طائلة قانون هو "الدورات والانقطاعات" تتابعت في انهيارات العواصم الامبراطورية الكبرى بابل وبغداد، من ضمن مسار تاريخي ذاهب الى اللاارضوية كونيا، وعلى مستوى الظاهرة المجتمعية ككل، علما بان الموضع مدار البحث هو موقع البدئية المجتمعية، وهو الاعلى ديناميات على مستوى المعمورة، ياتي بعده وادنى منه على هذا الصعيد، مجال الازدواج الارضوي الطبقي الاوربي.

 وهنا واليوم تتشكل عناصر اصطراعيه مختلفة، هي في الجوهر من طبيعة الانقلاب الحاصل آليا ومجتمعيا حيث يقع الموضع المطلق عليه اسم العراق تحت طائلة اشتراطات خاصة، لاعلاقه لها بالحيثيات الاممية المولدة لمفوم "التحرر الكياني"، فالعراق بالذات يحكمه منذ وصول الحملة البريطانيه قانون "محو الذاتيه التاريخيه" وهو جانب اساس في تامين الحد الادنى من اسباب استمرا ر النفوذ في هذا الموضع، يضطلع بناء عليه، وبفعل ضرورته، المحتل بوضع سردية كيانيه للموضع الجاري وضعه تحت سطوه الاحتلال، مستندا لاشتراطات ذاتيه مؤاتيه، والى مرتكز حاضر، فلا الموصل (الامبراطورية الاشورية لها دينامياتها الخاصة المختلفة خارج الكينونه الازدواجية اللاارضوية/ الارضوية العراقية، وهي كيانيه ارضوية صرفه لها اشتراطاتها الفرعية الخاصة)ولا بغداد( بغداد هي نتيجة ومنجز آليات الدورة الثانيه، وجدت نتيجه الاصطراع من الكوفة وهرب بني العباس منها ومن انتفاضاتها) (5) كانا في يوم من الايام عناصر لها وجود، او فعالية تذكر في التاريخ العراقي الازدواجي السومري البابلي الابراهيمي الاول، او العباسي القرمطي الانتظاري الثاني، وماقد ارتكز اليه المحتل باعتبار العراق هو الموصل وبغداد والبصرة، كان استغلالا لاشتراطات الانهيارية التاريخيه، ولظهور المدى البراني انطلاقا من العاصمة الامبراطورية المنهارة بغداد التي صارت موضعا لتعاقب الدول واشباه الامبراطوريات، ابتداء من 1258 يوم دخول هولاكو الى بغداد الى حين وصول الانكليز اليها عام 1917، وهو مجال سيطرة براني لاعلاقة له بالكينونه العراقية، الماخوذه من حينه باليات الانقطاع الانحطاطي، وبديناميات الانهيار والفوضى بداية، ثم العودو للتشكل ابتداء من القرن السادس عشر في ارض سومر التاريخيه، بظهور "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض ذي قار.

 وترتكز سياسة ومنهجية "محو الذاتيه التاريخيه"، عدا عن الارث البراني الانحطاطي القابل للاستعمال برانيا، الى مايتميز به الحضور الغربي مع طبعته او صيغته الانصبابة الراهنه المقترنه بالانقلابيه الاليه نموذجا وتفكرا، مع غلبتها الكاسحة على مستوى المعمورة، فصارت البرانيه وقتها وبناء عليه، صيغة اخرى مختلفة " حديثة" نموذجا ورؤية، لتبتدع من حينه كيانيه متلائمه مع المبدأ المعمم على هذا الصعيد كوكبيا، ولتجعل في الوقت نفسه من الرد على هذا الحضور الافنائي، مسارا اصطراعيا مصيريا، هو المنطوي على اكبر المجابهات اللاارضوية في التاريخ البشري، يوم يبدا الوعي اللاارضوي لارض مابين النهرين ينتقل من صيغة التفكير داخل الصندوق الغربي الغازي، الى الذاتيه الممحوة والمؤجله، ووقتها يعرف الموضع المعروف بالعراق مايماثل الظاهرة المعروفه والمسماة ب "الوطنيه"، او بالاحرى " الوطن كونيه" التي تبدا علائمها تلوح في الافق ومن هنا يبدأ مسار الثورة اللاارضوية العظمى.

 ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

لاتحتاج اللاارضوية الى التمايز الطبقي والفوارق في الملكية والموقع لكي تمتلك اسبا ب الفعالية والديناميه الضرورية، فتحقق الاختراقية المجتمعية كما حصل اوربيا وشرقيا انطلاقا من الشرق المتوسطي وتعبيريته الاولى الحدسية النبوية الابراهيميه، ذلك لانها كينونة وجودية بشرية ومجتمعية ركيزة فعاليتها، لا التمايزات الاجتماعية بذاتها، ولا المواضع والبدان المختلفة، بل الكائن البشري نفسه باعتباره (عقل / جسد) وهو كينونه اصطراعية مضاده للاشتراطات اليدوية الجسدية الحاجاتيه، لها اشكال فعلها وقوانينها غير المنظورة على مدى الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي:

ولعله من اللازم عند هذه النقطة من التحري، التعرض لماقد ميز الانجاز العقلي الاهم اوربيا بعد ماقد ولده الانقلاب الالي من تسريع غير عادي للاليات المجتمعية، وفي مقدمها العقلية لينتج ثلاث موضوعات انقلابيه كبرى ابتدائية،  وجدت على خطورتها ناقصة نقصا مصدره الارضوية الاحاديه وحدودها،  برغم الازدواج الطبقي، العامل الدينامي الخاص والمتقدم على غيره ضمن صنفه.

الاول: هو المنظور المتعلق باخر العلوم، "علم الاجتماع"، وهو من دون شك قفزة حصلت في حينه  على مستوى محاولة نفي القصورية الادراكية  البشرية بعلاقتها بالظاهرة المجتمعية على مدى الطور اليدوي  السابق، الاان هذا الانقلاب العقلي لم يكن ليتعدى من حيث نطاق الاحاطة، حدود المجتمعية "الارضوية"، من دون مقاربة هي الاهم والمطلوب، كان المفترض ان تتناول طبيعة المجتمعية، ونوعها، او انواعها، وهل هي  واحد ام غير ذلك، ماقد ابقى المسالة الاخطر والاهم خارج التناول والبحث، فظل "الازدواج المجتمعي" خارج الانشغال، بما يخرج مايسمى "علم الاجتماع" كما وجد في حينه والى الان، عن دائرة ماكان من المفترض  انه قد وجد لازالة النقاب الاخطر عنه، فظلت القصورية لهذه الجهه تمارس فعلها كما كانت خلال الطور الاسبق اليدوي.

الثاني :هو نظرية الاصطراع الطبقي وماقد ترتب عليها، وارسي بناء على ركائزها من مفهوم "مادي" للتاريخ البشري، وعدا عن الافتراضية المبالغة الخاطئة عن كون المجتمعات او الظاهرة المجتمعية محكومة كينونه بالطبقية، وهو فرض للخاصية الذاتية الاوربيه على المعمورة لااساس له، فان ماركس تصرف في حينه كمواطن يدوي، وهو يصر على انه معبر عن شروط لايدوية  آليه، فلم يحاول النظر الى المجتمع بناء على تبدل اشتراطات التفاعلية المجتمعية، وماينتج عن وجود الالة من تغير في الكينونة المجتمعية من المرحلة  الاولى اليدوية (البيئية/ البشرية)، الى (البشرية + متبقايت البيئية + الاله)،  والعنصر الاخير من غير طبيعة ونوع العنصرين الاولين، وفعله مختلف،  لاتعود معه المجتمعات اليدوية ومنها بالطبع " الطبقية"، قائمه، او من الممكن ان تستمر كما هي، او بما هي عليه كينونة بحسب مااكتسبته، وكان لها من تميز نوع نمطي ابان الطور اليدوي، بناء على فعل البيئة وحضور  العقل. بهذا يكون ماركس قد اراد ان يفرض علينا قانونا اعتبره "ماديا" ومحتما، جوهره "الطبقة"، في اللحظة التي  ماعادت الطبقة فيها قابله للبقاء كفعل، او الاستمرار.

والثالث: نظرية دارون عن "النشوء والارتقاء"، وهو الاخر وان يكن قد غير، لابل قلب مفهوم الوجودو "الخلق"، قافزا بالادراكيه العقلية بما خص  مسار التحول الوجودي  التشكلي الارتقائي، الاانه يظل كما العادة والمتوقع،  ابن الاشتراطات الموضوعيه التي هو منها، وان هو قد تهيأت له اسباب الاختراقية الادراكية، فظل هنا وبهذه المناسبة محكوما لوطاة الجسدوية والاحادية، فالحق التطور البشري وقبله الحيواني  بالجسد،  الى ان يصل لنقطة التحول الكبرى العقلية، ويقرر ساعتها بان العضو البشري الجسدي قد توقف عن النمو وصار من ساعتها مكتملا، من دون ان يلاحظ، ولا اشار بالمقابل الى العقل ومكانه من العملية الارتقائيه بعد ظهوره مع الانتصاب واستعمال اليدين، ولا خطر له اذا كان العقل سوف يستمر بالتطور كما كان قبل هذا التاريخ، فالعملية النشوئية الارتقائية هي بالاحرى عملية "عقلية" عكس ماظن هو، والعنصر المحور الذي تعمل الارتقائية لاجله، هو العقل،  بدليل انه ظل لملايين السنين  من التشكل الحيواني خافيا وغير موجود، قبل ان تنتهي الحيوانية لانبجاس العقل، بانتظار تطوره اللاحق، مع افتراض استمرار العملية النشوئية باشتراطات اخرى.

فالعقل الحالي الذي ظهر مع الانتصاب، هو محطة ابتداء اولى ذاهبه الى مابعدها، بعدما غدت الجسدية غير لازمه، وانتهت ضرورتها السابقة كحامل للعقل، وقد غدت اليوم بسياق الانخراط ضمن عملية جديده متناسبه مع الكائن الحاصل بعد ظهور العقل وحضوره، تلك هي التفاعلية المجتمعية المتناسبة مع الانقلابيه  العضوية الذاتيه نحو الكائن البشري، بقصد استكمال العملية العقلية، والتخلص النهائي من متبقيات الجسدية الحيوانيه الباقية عالقة بالكائن البشري، عبر طور انتقالي مابين الحيوان  الجسد، والانسان العقل، عبر طور بشري هو "الانسايوان" الذي نحن اليوم منه وفي غمرته.

والنقاط الرئيسية الثلاث اعلاه تحكي لنا موقع العقل التحولي عند لحظة غير عادية، بدا معها الانتقال من الانتاجية اليدوية الى الاليه، بدفعها وماتنطوي عليه من اهداف متناسبه مع طبيعتها مجتمعيا، وهو مالم يكن للمجتمعية الارضية ان تقاربه بحكم طبيعتها ونوع بنيتها، فالانتقال الالي هو انتقال "لاارضوي"، مساره ونتائجه متعدية للارضوية اليدوية ومتبقياتها، التي تنشا الالة بين ظهرانيها، لتنتج تحت اثرها غير العادي طورا ابتدائيا اوليا من  المنظورات والرؤى والاعتقادات الالية باطار يدوي، هو لازمه وضرورة لاجل الانتقال الاكبر الالي، ومنتهياته الكبرى اللاارضوية، مالابد من انتظار الاصطراعية الناشئة في غمرته، قبل الانتقال الضروري من التوهميه الاوربيه، والنقص الادراكي الابتدائي الذي يعم المعمورة،  ويغلب مفهوما ونموذجا على مدى بضعة قرون.

تتوافق ضمن اشتراطات الاصطراعية الافنائية التي يمارسها الغرب التوهمي ضد اللاارضوية التي تكون قد وجدت  منبعثة منذ القرن السادس عشر في ارض سومر في مابين النهرين مجددا، بلانطقية، حالة انتهاء صلاحية النموذج التوهمي الغربي الالي، مع تحورات الاله غير المنظور لها بما تستحق كسيروره موضوعيه، من الالة المصنعية الارقرب لليدوية، الى التكنولوجيا الالية الحالية، الى التكنولوجيا العليا  العقلية المنتظره من هنا فصاعدا، مايجعل من الرؤية اللاارضوية لزوما وحاجة غير عادية وجودا، وقد اكتسبت كل مقتضيات العقلانيه الابعد من الملموساتية الارضوية، مغادرة التعبيرية الاولى النبوية الابراهيمه الحدسية، نحو طبعة ( عليّة سببيه) بينما متبقيات الارضوية، وكل مايتصل بها كنهج حياتي،  تشارف على انتهاء الصلاحية، وتقع ضمن دائرة احتمالات  الفناء.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

فرانز فانون: "الاستعمار لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يسرق اللغة والخيال، ليجعل المستعمَر يشك في إنسانيته." إدوارد سعيد: "المقاومة فعل معنى قبل أن تكون فعل قوة."

في المشهد العالمي الراهن، تتبدّى الكرامة بوصفها المعيار الأكثر انكشافًا في لعبة الهيمنة. فحين تُستنزَف كرامة الشعوب تحت مسمّى “النظام الدولي” أو “العولمة الديمقراطية”، ينفضح القناع الذي طالما ارتدته القوى الاستعمارية الجديدة لتجميل سرديّتها عن الحرية والحقوق. لقد تحوّلت الديمقراطية الغربية، التي تغنّت بالعدالة والمساواة، إلى واجهة برّاقة تخفي خلفها اقتصاد القوة العارية. منطق يُعيد توزيع الخرائط، ويُدير المستقبل كسلعة، ويحوّل الضعف إلى بنية ثابتة في جسد الدول التابعة.

لكن الوجه الآخر لهذه المفارقة يكمن في وعي الضحايا أنفسهم. فالدول الضعيفة، التي تعي هشاشتها، تنخرط غالبًا في لاوعي جماعي يضخّ قلقًا وجوديًا. هل المقاومة مجدية أمام منظومة تمتلك كل أدوات الفعل والتأثير؟.

 هنا تتشكل مفارقة عميقة. إذ إن الشعوب تدرك استلابها، لكنها تخشى أن يصبح الرفض نفسه مجرّد طقس احتجاجي بلا أثر، فيتحول السؤال عن الكرامة إلى سؤال عن معنى التاريخ.

الفلسفة تكشف أن هذه الأزمة ليست صراع قوى فحسب، بل معركة على المعنى. فالقوة العظمى لا تكتفي بإعادة رسم الحدود السياسية، بل تعيد تشكيل المخيّلة. كيف يُتصوَّر المستقبل، كيف يُعاد تدوير العالم بحيث يبدو استتباع الضعفاء قدرًا لا مهرب منه. وهنا يصبح الصمت شكلًا من أشكال القبول، كما يصبح التمرّد اختبارًا للحرية في أعمق معانيها.

إن استعادة الكرامة، إذن، ليست شعارًا أخلاقيًا، بل مشروعًا وجوديًا. بناء وعي قادر على اختراق لعبة القوة، وابتكار سرديات بديلة تعيد للإنسان مكانته كغاية لا كوسيلة. إنها دعوة لإحياء السؤال الفلسفي القديم. أيّ عالم نريد، وأيّ إنسان؟ فالمستقبل لا يُصنع فقط في مصانع القوى العظمى، بل في إرادة الشعوب التي ترفض أن تُختزل إلى هامش في نصّ كُتب بيد غيرها.

إنه لا حياة حقيقية بلا كرامة، فهي الأساس الذي تنبني عليه الذات الإنسانية وهويتها الأخلاقية. الكرامة ليست مجرد شعور ذاتي، بل ممارسة قيمية وروحية تحمي الإنسان من الانحطاط، وتمنحه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والعدل والظلم.

حين تُهدَر كرامتنا، يتشوه عالمنا الداخلي والخارجي، وتصبح الرؤية غائمة، ويعمّ الضعف والاستلاب، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. هذه الأزمة لا ترتبط بعِرق أو جنس أو وطن بعينه، بل هي حالة إنسانية عامة، تتجلى عندما تُهمل القيم الأخلاقية ويتسلط الفساد السياسي والاجتماعي على حياة الناس، كما لاحظها كانط في فلسفة الأخلاق: "الإنسان كغاية في ذاته لا يجوز أن يُعامل مجرد وسيلة"، وهو ما يخرق أساس الكرامة حين تُستباح الحقوق، أو يُفرض الصمت على الضمير.

تاريخيًا، شهدت الإنسانية فظائع ومآسي ارتكبت ضد الكرامة، من المجازر إلى الاستلاب السياسي والاجتماعي، وقد حاول فلاسفة مثل هيغل وتولستوي وباكون التعبير عن ضرورة صون الكرامة كشرط للحياة الحرة والمستقلة. هيغل ربط الحرية بالوعي الأخلاقي الجماعي، مؤكدًا أن المجتمع الذي يهان فيه الفرد يفقد القدرة على التطور الروحي والسياسي؛ وبالمثل، يشير تولستوي إلى أن انهيار القيم يؤدي إلى استلاب الذات، وفقدان معنى الحياة.

إن مواجهة هذه الأزمة تتطلب استنهاض الكرامة كقيمة مركزية في السلوك الفردي والجماعي، وإعادة بناء نظم عادلة تكرّس الاحترام للإنسان، وتمنح الحياة معناها الحقيقي، بعيدًا عن التسلط والغبن. فالحياة بلا كرامة، كما يرى سارتر، تصبح عبثًا، لا مكان فيها للحرية الحقيقية أو للوعي الأخلاقي، وهي إذًا مجرد بقاء مادي، دون أي معنى أسمى أو إحساس بالعدالة الإنسانية.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

من السبعينات حتى التسعينات.. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (2)

في الجزء الأول من هذه السلسلة، تناولنا جذور الإخوان من الخمسينات حتى السبعينات، وكيف تحوّلوا من دعوة إصلاحية إلى تنظيم يشرعن العنف. ونواصل اليوم الرحلة من السبعينات حتى التسعينات، حيث تتسع رقعة العنف لتشمل الإقليم والعالم.

في السبعينات، كان العالم العربي يقف عند مفترق طرق: صعود النفط وما جلبه من ثروات غير مسبوقة، تراجع المشروع القومي بعد هزيمة ٥/٦/١٩٦٧، وظهور الإسلام السياسي كبديل يوظف خيبة الجماهير. لم يكن الإخوان في هذه الحقبة مجرد جماعة محلية؛ كانوا قد بدأوا يتشكلون كتنظيم عالمي يمتد من القاهرة إلى الخرطوم، ومن عمّان إلى كراتشي، ومن لندن إلى ميونخ. كانت الهجرة القسرية لقياداتهم – نتيجة قمع ناصر – فرصة لتوسيع شبكاتهم في الخليج وأوروبا، حيث تحالفوا مع دوائر المال والبترودولار، ووجدوا دعمًا ضمنيًّا من الغرب الذي رأى فيهم حائط صد ضد المدّ الشيوعي.

وفي ظل هذا التحول، لم تكن الموارد مجرد تدفقات نقدية، بل صياغة لما يمكن تسميته “اقتصاد الدعوة”: مدارس وجمعيات وعيادات ووسائط إعلام محلية تُعيد إنتاج الولاء يوميًا؛ من منبر المسجد إلى ملصق النقابة، ومن الكتيّب الرخيص إلى الشريط الصوتي. تَخلَّق بذلك سوق لغوي جديد يمزج الوعظ ببلاغة الإدارة والنجاعة، فيمنح المشروع جاذبية عملية تتجاوز الشعار.

في مصر، شهدت حقبة السبعينات إعادة إحياء للجماعة بفضل سياسة السادات الذي سمح لهم بالعودة لمواجهة الناصريين واليسار. لكن هذه الصفقة حملت في طياتها بذور نهايته. فالإخوان، ومعهم التيارات المتشددة التي خرجت من رحم فكر سيد قطب، أسسوا مناخًا تكفيريًا متناميًا انتهى في ٦/١٠/١٩٨١ برصاص خالد الإسلامبولي ورفاقه، الذين اغتالوا الرئيس في عرض عسكري أمام العالم. لم يكن هذا الحادث مجرد انتقام سياسي؛ كان إعلانًا عن أن الإسلام السياسي بات يمتلك ذراعًا مسلحة قادرة على إسقاط رأس الدولة.

وتكمن خطورة تلك اللحظة في كونها كرّست “العنف الرمزي” قبل الفعلي: إعادة توصيف الخصم الوطني على أنه خصم ديني، وتحويل الخلاف السياسي إلى انحراف عقدي. بعد ذلك، يغدو انتقال بعض الهوامش إلى السلاح أمرًا متوقعًا؛ فاللغة ممهّدة، والجمهور مُهيَّأ لقبول الاستئصال بوصفه خلاصًا. هكذا يتجاور المنبر والرصاص تحت سردية واحدة تتحدث باسم “النقاء”.

في السودان، بدأت الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي تصوغ مشروعها الخاص. منذ المصالحة الوطنية مع نميري عام ١٩٧٧، تسلل الإخوان إلى بنية الدولة، وتعلموا من تجارب مصر وسوريا أن القوة وحدها لا تكفي، بل يجب اختراق المؤسسات. فسيطروا على الجامعات، أقاموا جهازًا سرّيًا، وبنوا شبكة مالية عبر البنوك الإسلامية. ومع سقوط نميري ٦/٤/١٩٨٥، بدوا وكأنهم في تراجع، لكنهم كانوا يحضّرون لانقلاب سيأتي بعد أربع سنوات.

وقدّم هذا الاختراق المؤسسي نموذجًا مبكرًا لما سيُعرف لاحقًا بـ”التمكين”: إحلال الولاء محل الكفاءة، وتوزيع مفاصل الإدارة على شبكات تنشئة أيديولوجية. تتكون بيروقراطية موازية غير مرئية، تتغذى على المصالح المتبادلة بين رأس المال الإسلامي الناشئ والأمن، وتبرر سيطرتها بخطاب طهراني يرى الإدارة تكليفًا شرعيًا لا خيارًا سياسيًا.

في العالم، كانت السبعينات والثمانينات حقبة الحرب الباردة. ولأن السياسة لا تعرف البراءة، فقد تحالف الإخوان – بشكل مباشر أو عبر وكلاء – مع الولايات المتحدة في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي. هناك، وُلد “الجهاد الأفغاني” الذي احتضن آلاف الشباب من العالم الإسلامي، كثير منهم من الإخوان أو المتأثرين بفكرهم. ومن تلك التربة خرجت القاعدة لاحقًا، بقيادة أسامة بن لادن، الذي تأثر بخطاب سيد قطب وبتنظيرات عبد الله عزام – الإخواني الفلسطيني الذي يُعتبر الأب الروحي للجهاد الأفغاني.

بدت أفغانستان ساحة بعيدة، لكنها عملت مختبرًا لامتزاج “الخطاب القطبي” بخبرة القتال العابرة للحدود. انتقلت “العدة الفكرية” عبر مجلات وأشرطة وشبكات طلابية، وتقوّى مفهوم “الأممية الجهادية”. لم تكن الحدود بين “الإخوان السياسيين” و”السلفية الجهادية” صلبة؛ كان هناك تداول للمفاهيم والكوادر والتمويل، مع تنافسٍ على شرعية القيادة وتفسير “الواجب”.

الاغتيالات ومحاولات الاغتيال في هذه المرحلة كثرت وتنوعت:

* في مصر، استُهدف مفكرون وسياسيون، أبرزهم فرج فودة الذي اغتيل لاحقًا في ٨/٦/١٩٩٢ على يد جماعة إسلامية تحمل نفس فكر الإخوان في تكفير المخالف.

* في سوريا، خاض الإخوان مواجهات دامية مع نظام الأسد، بلغت ذروتها في مجزرة حماة ٢/٢/١٩٨٢. كان العنف لغة مشتركة: النظام يقتل بالجملة، والإخوان يردون بالاغتيالات.

* في السودان، جرى التخطيط لمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا ٢٦/٦/١٩٩٥، وهي العملية التي اتُّهمت بها قيادات عليا في النظام السوداني، ومن بينهم علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، باعتبارها جزءًا من الجهاز السري للجبهة الإسلامية. هذه الحادثة رسّخت صورة السودان كملاذ للحركات الإسلامية العنيفة.

وتتجاور هذه الوقائع كي ترسم بنية لا مجرد حوادث معزولة. فالعنف هنا أداء عام يصنع معنى ويقترح هوية، وردّ الدولة عليه – عبر “أمننة” المجال العام – يُعيد إنتاج الشروط التي غذّت العنف أصلًا. تتغذى الدائرة على صور الشهداء، وخطب المنابر، وبلاغات السلطة؛ كل ضربة تُنجب خطابًا أشد، وكل خطاب يمهّد لضربة أوسع.

من زاوية التحليل النفسي، تبدو هذه المرحلة مثالًا على ما يسميه علم النفس التنظيمي “التماهي العدواني”: الجماعة تعيد تشكيل وعي الفرد بحيث يرى في القتل تضحية، وفي العنف خلاصًا. يُغذَّى هذا الوعي بشعارات عن “الشهادة” و”الفريضة الغائبة”، حتى يغدو الاغتيال ليس جريمة بل فعلًا تطهيريًا. الشخص المتطرف هنا ليس مجرد فرد معزول، بل عضو في جماعة توفر له هوية، معنى، وغفرانًا مسبقًا لكل عنف يرتكبه.

ومن منظور علم النفس الاجتماعي، تُقرأ الظاهرة أيضًا عبر مفهومي “الهوية المندمجة” و”تقديس القيم”: حين تُرفع غاية فوق الحسابات، تصبح غير قابلة للمقايضة. يتراجع العقل الأداتي، وتتقدم اللغة الأخلاقية الحدّية كأداة تعبئة. لا يعود السؤال: ما الجدوى؟ بل: ما الواجب؟ ومع الواجب ينحسر تمثّل الضحية لصالح صورة المثال الطاهر الذي “يستحق” كل تضحية.

في هذا السياق، يمكن فهم التحليل العميق لصادق جلال العظم، المفكر السوري الاشتراكي، الذي رأى أن الإسلام السياسي في جوهره “أيديولوجيا تعويضية”: تَعِد الجماهير بالجنة حين تفشل في تقديم حلول دنيوية. وبالمثل، كتب الطيب تيزيني أن هذه الحركات “لا تنتج معرفة، بل تنتج شعورًا بالخلاص عبر إلغاء الآخر”. هذه الرؤية تُسائل بعمق: كيف تتحول العقيدة إلى أداة لتبرير الدم؟ وكيف يصبح النص الديني واجهة لإرادة سلطة دنيوية؟

ما بين السبعينات والتسعينات، كانت السردية الإخوانية تتجذر عالميًا. في تونس، ظهر راشد الغنوشي كوجه للحركة الإسلامية المحلية، مستلهمًا من الإخوان المصريين. في الجزائر، دخل الإسلاميون في صدام دموي مع الجيش بداية التسعينات بعد إلغاء الانتخابات، ليتحول البلد إلى ساحة حرب أهلية. في فلسطين، تأسست حركة حماس ١٠/١٢/١٩٨٧ كفرع مباشر للإخوان، متبنية العمل العسكري ضد إسرائيل، ومثبتة أن العنف أصبح خيارًا إستراتيجيًا.

أما في السودان، فقد بلغ المشروع ذروته بانقلاب ٣٠/٦/١٩٨٩ الذي قاده عمر البشير بدعم كامل من الجبهة الإسلامية. هنا اكتملت الحلقة: من التنظيم الدعوي في الخمسينات، إلى الجهاز السري في السبعينات، إلى السيطرة الكاملة على الدولة في التسعينات. ومنذ تلك اللحظة، أصبح السودان مختبرًا لتجربة الإسلام السياسي في الحكم: دولة بوليسية، مليشيات سرية، اغتيالات، ومحاولة لتصدير “الثورة الإسلامية” إلى الإقليم.

ومع قيام السلطة على هذا النحو، برزت أدوات حكم تُزاوج بين الخطاب والعنف: تأميم المجال الديني وتسييس القضاء، وخنق المجتمع المدني عبر “مجتمع موازٍ” من نقابات واتحادات ومنظمات تُعيد توزيع الولاء. تتقدم المليشيا كذراع سيادية لمراقبة المجتمع، فيما يتكفّل الاقتصاد الريعي ببناء الاعتمادية. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز تنشئة أيديولوجي شامل.

هذه المرحلة تكشف بوضوح أن الإسلام السياسي لم يعد حركة احتجاجية فقط، بل صار مشروع سلطة. اغتيال السادات كان إعلانًا بأن الجماعة قادرة على الوصول إلى أعلى قمة في الدولة. مجزرة حماة كانت دليلاً على أن الإسلام السياسي يمكن أن يدخل في حرب إبادة متبادلة. انقلاب السودان كان إثباتًا أن الجماعة تستطيع السيطرة الكاملة على دولة. أما أفغانستان، فكانت دليلًا على أنهم قادرون على لعب دور عالمي ضمن صراعات القوى الكبرى.

وعلى المستوى المقارن، يمكن تسجيل ثلاث خلاصات: أولًا، سقوط “خرافة الحياد الدعوي”؛ فحين تدخل الحركة معترك السلطة، يغدو خطابها صفرِيًّا بطبيعته. ثانيًا، قابلية النموذج للانتقال عبر شبكات المساجد والجامعات والشتات، بما يجعل التجارب تتشابه رغم اختلاف السياقات. ثالثًا، قابلية العنف للتدويل، إذ يُعاد تأويل الجغرافيا بوصفها خرائط عقائدية تتجاوز حدود الدولة الوطنية.

وهكذا، حين نطل على نهايات التسعينات، نجد أن كل عناصر المأساة كانت قد نضجت: تنظيم عالمي، ذراع عسكرية، شبكة مالية، خطاب تكفيري، وارتباطات بجماعات جهادية أخرى. وكأن المشهد كان يمهّد لمرحلة جديدة أكثر دموية: مرحلة القاعدة، داعش، وحروب ما بعد ٢٠٠١.

“الأسبوع المقبل نصل إلى الجزء الثالث: من الخرطوم إلى نيروبي… حين صار الإرهاب عابرًا للحدود (١٩٩٠–٢٠٠١) “.

***

إبراهيم برسي

 

لنتخيل لو ان قوات الامبراطورية الفارسيه في العراق قد تمكنت من قوة الفتح الجزيرية واستطاعت ان تهزمها، مع مايترتب على حدث كهذا من انقلابيه تاريخيه كيانيه ووجودية لاتخص المنطقة الشرق متوسطية فقط، بل فارس ذاتها ومايمكن ان  يتمخض عنه حضورهاالذاتي والامبراطوري ذاتيا داخليا وعلى مستوى امتداداتها، لنقف امام جانب غاية في الحساسية والخطورة يتعلق بدعوة النبي الجزيري العربي عربيا شرق متوسطيا من ناحية، وفارسيا وشرقيا، مع مايقف خلفها من توقع مذهل وتقدير للحظة الانقلابيه  الشامله، لها طابع الكونية المجتمعية، ففارس الامبراطورية المنصبه على منطقة الازدواج ببنيتها الاحادية، كانت وقتها على مشارف الانقلاب الى "الازدواج" كجزء من نضج صيرورتها الطبيعية المضمرة في الكينونه المجتمعية ككل، مايعني توفر الاشتراطات حينه للانقلاب اللاارضوي الازدواجي بصيغته التعبيرية الابراهيمه الختامية وتوقيته الدقيق في اللحظة المناسبه.

  فهل كان النبي الامي لحظتها على علم وادراك من هذا القبيل، وهل كان على معرفه بان ساعة الانطلاق اللاارضوي الختامي قد حلت اليوم بالذات، وانها سوف تتحقق باسرع مايمكن تصوره، بحيث لايتعدى مسار الذهاب الى الصين والهند، العشرين عاما بلا معوقات جدية، ولا عقبات يمكن الوقوف عندها، فلقد كانت الساعه ساعة  انتهاء صلاحية الارضوية بصيغتها الاولى الفارسية، ومتبقيات الرومانيه، التي ظلت  تشغل منطقة ساحل الشام من الاناضول،  وقد غدت منطقة مواجهه استدعت تجمعا للمقاتلين الجزيريين لدرجة اتاحت في وقت لاحق لمعاوية ان يقيم "امبراطوريته" العابره، باعثا سلطة القبيله  والملك العضوض الوراثي، بالضد من العقيدة  التي ظلت غالبه ابان عهد النبي والخلفاء الراشدين،  وفي ارض ليست لها من المقومات البنيويه مايتيح تحويلها الى مركز امبراطوري، لولا  دفع عملية الفتح الكبرى، والتركز آنف الذكرلمقاتلي الجزيرة في المكان، علما بان متبقيات الامبراطورية الرومانيه لم تكن لتمنع عمليه الفتح غربا من ان تستمر.

  كان  النبي محمد بالاحرى يطلق تحققا مجتمعيا نضجت اسبابه التاريخيه، هو مرحله في التاريخ المجتمعي بدا بالاصل مع السيد المسيح  الذي قلب كينونه المجال المجتمعي الاوربي الارضوي الطبقي الازدواج، من ضمن تفاعليه كونية محكومة بقانون الانصبابات والاختراق المضاد، فالمجتمعات الشرقية والغربيه تنشا وتتشكل في المراحل الاولى من كينونتها، احادية ارضوية، متخذه شكل الامبراطوريات الارضوية التسلطيه على الاخر، فتنصب في موضع اللاارضوية والازدواج المجتمعي، لتدخل من حينه عمليه استكمال التشكل المجتمعي بالانتقال من الاحادية الارضوية الى "الازدواج"، بعكس ماظلت تعتقد المنظورات القصورية الارضوية للتاريخ  ب " حضارويتها" الاحادية" وعجزها عن رؤية الديناميات المتعدية للاحادية اليدوية الارضوية ومترتباتها، وماتتمخض عنه، وهذا مايميز الاعزل المصلوب، مخترق الموت كقاعده، عن جيوش  روما وبنيتها، بناء للاصطراعيه بين نمطيتين ونوعين من المجتمعية، تلك التي تظل تعبيرية نبوية في ارضها، تضم العشرات من الانبياء تعبيرا عن رؤية نابعه من حقيقة مجتمعية، العقل الارضوي الاحادي قاصر عن تبينها ومعرفه فعلها، وحين تكون الابراهيميه الاولى حالة نضج  وتبلور للبدئية التشكلية اللاارضوية، في الموضع الانسب لتفاعليتها، فان مايقابلها من فلسفة الاغريق وارسطو، وان ظل يعتبر تعبيرا اسمى ووحيد في بابه، هو في الحقيقة مجرد تعبيرية ارضوية فئوية معزولة داخل صنفها، لاتتعدى حضورا النطاق  الذهني المحدود كلازمه ضرورية لاكتمال بنيه الارضوية.

  وعليه فان النظر الى الجيش الفارسي مقابل مجموعه المقاتلين الجزيرين على انهما جهتان من نفس الصنف والنوع، هو امر دال على القصور الاحادي، وغلبة الارضوية ومنظورها اليدوي الجسدي، فمجموعة الفتح هي كينونه اخرى، وهي  ممثلة حقيقة اللحظة، "الفارسية"نفسها، والتي هي اليوم بامس الحاجه الى حضور"عدوها"، ومايحمله بين تضاعيفه من نوع مفقود ولازم، والا فان استمرارها لم يعد ممكنا ولامبررا وقد فقد صلاحيته، ووصل نهاية قدرته على الاستمرار، مايعني كون الاسلام قوة انقلاب نوعي مجتمعي حتمي، وشرط لاستمرار العملية المجتمعية على مدى مكمل للحالة الاوربية الغربيه، شرقا باتجاه الصين والهند، حيث تكتسب المجتمعات ماهي بحاجة اليه  وصار لازما، كينونه وبنية، معها تؤرخ البدئية الثانيه للمجتمعات المشار اليها، بعد بدئيتها الاولى الارضوية.

  تنشا الظاهرة المجتمعية وتتبلور في ارض سومر جنوب مابين النهرين "لاارضوية"، لتدخل عملية اصطراع مع "الارضوية" الهابطة نحوها من جهاتها الثلاث العليا، لتتحول الى كيانيه اصطراعية بؤرة، محكومه لقانون الدورات والانقطاعات، في حين تغلب الصيغة الارضوية الاحادية  من المجتمعية على مستوى المعمورة، بفعل وسيلة الانتاج الغالبه اليدوية واشتراطاتها، رغم ان كينونتها، وطبيعه خليتها البشرية هي ازدواج، والديناميات التي تحكم سيرورتها لاارضوية عقلية، تظل قائمه وفقا لنوعها وطبيعتها المتعدية لاشتراطات الكيانيه والمكان، والمنظور الارضي المرتكز، ذاهبة الى الافق الاخر السماوي، الموافق للحقيقة وللمنتهى المقرر للمجتمعات الذهاب اليه.

  وقد يكون من باب تاكيد القانون المجتمعي التحولي الناظم للعملية التاريخيه تذكر ظاهرة حديثة حصلت مع الاله ومارافقها ونتج عنها في العصر الحديث من اعتقادات توهمية، ومنها الماركسية التي ترهن التاريخ البشري ل "الاصطراع الطبقي"، مخضعة العملية المجتمعية لقانون وحتمية تاريخيه" مادية"  متوهمه، ذاهبه الى اللاطبقية، والى الشيوعيه، وكانها عملية  تمرين اوليه لاتخلو من الايحائية بما خص الاكتشاف المتاخر مع القرن التاسع عشرللعنصر الرئيسي "الصراع الطبقي"، ومايتصل به من قانون مفترض، ماكان ليقارب ادراكا من قبل، مايضع العقل البشري مجتمعيا، امام حال قصورية ممتدة على طول فترة الانتاجية اليدوية، علما بان ماقد ظل غائبا عن الادراك مع الماركسية والمادية التاريخيه، والذي اليه تعود الخاصيات والقانون الناظم للتاريخ المجتمعي،  هي "الاصطراعية المجتمعية" لا الناحية الجزئية " الطبقية" من التكوين المجتمعي، والتي هي من نتاج الطور اليدوي  وتفاعليته، ماان تظهر الاله وتدخل التفاعلية المجتمعية مغيرة كينونتها البنيوية، حتى تبدا بالزوال لصالح تعزيز عمل الاصطراعية المجتمعية، وتزايد احتمالات حضور اللااارضوية.

   وهنا كان العقل البشري ينتظر الانقلاب الاعظم، وعملية الانتقال من العقل "الانسايواني" الباقي مهيمنا سواء بدون، اومع اكتشاف الصراع الطبقيي، الى عقل "الانسان" وحكم الاصطراعية المجتمعية التاريخيه ومسارها، ومآلها النهائي.

  ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

"الاستعارة الكولونيالية: نقل صفة من طرفٍ إلى طرفٍ آخر بضمانات القوة العنيفة ..."

"وعد بلفور: أعطىَ منْ لا يملك أرضاً مستعارةً إلى منْ لا يستحق ..."

وفقاً لتكوينها الدلالي، لا تخلو الاستعارةُ من وعدٍ ما، طالما أنَّ هناك صفةً ستُعار إلى كيانٍ ليست منه. وعدٌ يُطلق بالتزامن المرجو بين طرفي الصياغة: المستعار له (المشبّه) والمستعار منه (المشبّه به). فلو أوردنا- كما وَعَدَ بلفور- أنّ أرض فلسطين وطن قومي لليهود، فالمعنى يستعير أرض الشعب الأصلي في شكل وطن لطرفٍ مغاير. وكأنَّ الاستعارة تضرب موعداً زمنياً قابلاً للانتظار في مكانٍ آخر. ومن ثمَّ تبدو حالة الاحتلال قريبة الشبه للصورة المقبولة، نظراً لاشتراك الطرفين في سمةٍ ما. هذا التماثل الذي تضمنه النزعة الكولونيالية بصدد اسرائيل عندما تمارس أفعالاً بموجب قدرتها العنيفة على التأثير.

ولكن.. هل ذلك حقيقي بالفعل؟! هل الصفة المشتركة تثبت وضعاً مغايراً لما نعرف داخل فلسطين؟! طبعاً يظل الأمرُ منطوياً على المجازفة بأنْ تحل دلالة الصورة (الصفة المستعارة) على قدر المعاني الكامنة فيها. فالأوطان لا تُستعار كما أنها لا تُشترى. إذن الاستعارةُ هي المُعادل شبه الموضوعي لوعدٍ قيد الاتيان أو الغياب. فالصفة المنقُولة قد تصادف معنى موازياً لها، وقد لا تجد بُداً من عدم الايفاء بالمطلوب.

وهذا هو ما يجعل بعض الاستعارات السياسية صوراً جاهزة لأن تصبح نموذجاً كولونيالياً. بل هي نموذج مؤهل ليجسد نوايا الازاحة التي قد تحدث. فلئن كان الاستعمار اغتصاباً لأرضٍ حرةٍ مع إزاحة الشعب الأصلي، فهذا عمل استعاري بمآرب مقصودةٍ. ونسبة المجاز السياسي خلاله: أنّه يؤكد كيانه المختلق باحثاً عن اتمام الصفقة بأية طريقةٍ كانت. حتى لو اقتضى الشأن إعمال آلة " الابادة الجماعية " كما هو حاصل في فلسطين أو في حالات الاستعمار السابقة. كل استعمار لابد أنْ يكون دموياً عاجلاً أم آجلاً، لا يعقل أن يتشكل الاستعمار من غير بنية قاتلة بالضرورة.

إنَّ الحداثة الغربية منطويةُ على التصميم السياسي المنتهك لسيادة الدول والمجتمعات. فكرة الدولة الغربية امبراطورية أفلتت من قيودها السيادية لتلتهم سيادة الشعوب الأخرى. تتضمن استعاراتها عنفاً لا نهاية له، فهي تنتزع دلالة ما بالقوة المسلحة لتضعها في مكان آخر. وهذا ما يصنع من أية استعارة كولونيالية رسالة سرية بموت الطرف المستعار منه. إذ أنها تأخذ جوهر وجوده تطلعاً لتبديل كيانه الحر.

عندما اعطي آرثر بلفور وعداً لإسرائيل بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد منح صفة (مستعارة) لطرفٍ يتطلع لتوطن اليهود. صفة الحضور المستعار في المكان الموعود بصرف النظر عن الواقع. وعمل اليهود على اقتناص الفرصة جرياً وراء المشروع الصهيوني بكافة السبل. فالوطن لا يمتلكه (بلفور) ولا ذاك (اسرائيل)، ولا يحق لكليهما جعل الاستعارة واقعاً. ولكن الضمان هو مرجعية التشابه بين (الغرب واسرائيل) بموجب المركزية الكولونيالية وعلاقتها بالشعب اليهودي.

وهو ما تمت ترجمته في أجيال من الحروب الاسرائيلية حتى اللحظة. ولنلاحظ النبرة الاستعارية الناعمة في نص وعد بلفور. من جانب كون الوطن القومي لليهود مستحضراً كهبة لشعب بلا أرض، ثم الزعم ضمنياً بأنّ هناك أرضاً دون شعب. حتى وإن اعترف الوعد بحقوق السكان الأصليين. فكما أن الوعد بالوطن المنتظر كان صورةً مستعارة من وراء بلدان الأبيض المتوسط، فالحقوق تحولت بدورها إلى استعارات تُمنح أو تمنع. ولعل هذا ما فهمه اليهود خلال الهجرات الأولى تنفيذا لوعد آرثر بلفوز.

الأوطان الحرة لا تُلقى على الطاولة انتظاراً لصفقات الوعود. الأوطان لا تقايض مجاناً تحت شعار (أنتم مساحة وهم مساحة أخرى) عبر الحيز نفسه. ما المقابل الاجمالي بالنسبة لوعد بلفور؟ إنها النزعة الكولونيالية التي تسرق دولاً لتحيلها إلى عدم وتمنحها كهبات إلى عصابات اجرامية تحت مبررات دينية أو سياسية أو انسانية. لقد شكلت الجماعات اليهودية عصب التاريخ المعاصر، ربما لو دارت الأحداث العالمية دورتها الزمنية، فلن يكون هناك حدث واضح مثلما كانت أحداث الاحتلال الصهيوني. حتى لو لم تكن أحداثاً طافية على السطح، فإسرائيل تصنع الكوارث على الصعيد الدولي، سواء أكانت تخالف قانوناً أم تُوقع القوى الكبرى في صدامات مع الشعوب الحرة أم تتلاعب بالهيئات الدولية ضاربة بقراراتها عرض الحائط.

يقول آرثر بلفور في وعدة الاستعاري/ الكولونيالي 2 نوفمبر 1917: " عزيزي اللورد روتشيلد....

يسرني أنْ أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها في سبيل تحقيق هذا الهدف. على أن يفهم جدياً أنه لن يسبب شيئاً من شأنه الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الجماعات غير اليهودية المقيمة حالياً في فلسطين. ولا ينتقض من الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وسأكون ممتناً وشاكراً إذا ما احطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح ... المخلص آرثر بلفور".

وعد المركزية

وعد بلفور مليئ بالمجازات التي تزيف الواقع وتنهب أصولاً ما كانت مكشوفة هكذا إلاّ لحالة كولونيالية تنتهك الحقوق. يتكلم كل من هب ودب (آرثر بلفور) رغم مكانته السياسية المعروفة كوزير لخارجية بريطانيا العظمى. ولكن طالما أنك في مكانةٍ غير مكانتك، فأنت من هب ودب إزاء أصالة الشعوب. بمجرد أن يكتب بلفور كلاماً كهذا ويحدد المخاطّب وباسم جلالة المركزية الأوربية آنذاك، فقد أطلق وعداً قاتلاً. وأدرج نفسه في خانة العداء للإنسانية لا لفلسطين فقط.

كلمات الوعد شن حرب على الشرق الأوسط المتمثل في فلسطين التاريخية. وباسم حكومة جلالته، كان الاستعمار يغطي امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. بلفور يعلم أن للأرض شعباً وليست فارغة السكان كما روّج. المركزية الأوروبية قائمة على تفريغ العالم من كل سكانه إلاّ وجودها الخاص فقط. كل مركزية متضخمة لا ترى شيئاً غير إمتداد قوتها المنفلتة. وهذا الأمر بالتكوين التاريخي للحداثة الغربية إنما فتح مجالاً لغزو الدول قبل بلفور وبعده. الفكرة ذاتها مدمرة لا تنتظر وعوداً من هذا الكلام الذي يعد مرسوماً ملكياً بالتهام الآخر.

يهودية الحلم

جاء الوعد كأنه حلم من جانب اليهود المتطلعين لوطن قومي. وذلك على أساس الديانة والحالة التي كانوا يعيشونها في أوروبا. وبالوقت نفسه غدا الوعد قراراً من قبل الامبراطورية البريطانية. بجانب الاستعمار فإن ما يعتبره اليهود حلماً كان واقعاً ينتهك كل الحقائق الأخرى. وهذا يلخص حالة أوروباً في فترات الاستعمار المباشر للشعوب. وقد زفّ بلفور الوعد بلغة المسرة والسعادة كاشفاً عن تعاسة كبيرة عند اليهود. وهي نبرة التعاطف التي تستحضر نغمة الاستمالة والتماشي مع الحلم. متناسياً أن الخبر السعيد ذاته سيأكل وطناً لصالح شعب يهودي بلا هوية سياسية.

يتحدث بلفور بمنطق استعارة القوة ملتمساً إياها من قداسة الامبراطورية. ما الذي يجعل وزير خارجية يطلق وعداً خارج نطاق دولته؟ لقد تحين الفرصة لتبشير اليهود بالوطن الفلسطيني المغتصب. أخذ يبشر بجريمة كاملة الأركان. وأتى بالأرض مجاناً دون أي ثمن لا من وطنه الأم (بريطانيا) ولا من أوطان الشعوب الحية. الثمن كل الثمن هو ضياع الوطن المنكوب بسبب الاستعمار. وكأن بلفور يقول إن حلم اليهود هو مواصلة الاغتصاب الكولونيالي باسم بريطانيا العظمى. أي لابد أن يتحقق الحلم على جثة الفلسطينيين. من أول عبارة في الوعد، تفوح رائحة الدم والاحتلال القميء. حيث عرض الأمنية اليهودية على الوزارة البريطانية واقرته، لدرجة أن الاقرار هو قرار حرب حتى النهاية دون إذن أية قوى أخرى. ماذا لو لم تكن هناك مقاومة لهذا الاستعمار؟ ببساطة سيكون الحلم اليهودي كابوساً صهيونياً لأصحاب الأرض. لم يحلم اليهود مثل كافة الكائنات البشرية، لكنهم يستغرقون في تهويد الأحلام. استيطان الأحلام على غرار استيطان الأراضي الفلسطينية.

ليس الحلم السابق آتياً في منامات أحدهم، بل كان مغموساً في بئر التآمر الذي لا ينضب. اليهود تاريخياً كانوا يحلمون على خاصرة القوى العظمى. أجادوا إلى درجة الاتقان ترويض هذه القوى وخدمتها من أجل مصالحهم. يذرفون الاحلام بين أيديها في شكل أمنيات ثم سرعان مما تصبح حروباً وجرائم ضد الإنسانية لاحقاً.

وطن مسروق

يقرر وعد بلفور سرقة وطن لليهود لا شيء آخر. والمفترض أنه جاء بصيغة الوعد promise.. أي قد يصدق أو لا يصدق. ولكنه منذ البداية يقطع باغتصاب الأرض الفلسطينية ولا يترك مساحة لتجنب تطبيقه. الوعد جاء فرماناً ملكياً كولونيالياً لا أقل. وعندما يصرح الوعد بأن حقوق السكان الأصليين مصونة، فإنه يجزم بضياعها. ومن حيث يؤكد الحفاظ على الحقوق يأمر ضمنياً بانتهاكها، نظراً لأنه ازاحة استعارية مدمرة، فكيف يدعو من أخذ حقاً ليس حقه أن يحافظ على حقوق الغير؟!

يعلم بلفور تمام العلم أن السياسة الاستعمارية ستسبب مشكلة لا حل لها. لأن منطق الاستعارات الموجودة في وعده تخرج عن بلاغة الخطاب. تعلن التعبير عن مضمونها بالقوة الحربية وتصمم على تحقيق الهدف. ولذلك أراد تعميد كلماته لدى الصهيونية العالمية بإبلاغها ما تريده الامبراطورية البريطانية. بحيث يصل الوعد إلى حبكة صراعية لا تحل. لأن الرصاصة قد خرجت بالفعل واستقرت في قلب فلسطين. واليهود– في أي مكان- يتربصون بالفرص حتى تصبح صفقات واقعية.

إن الامنية لا تأتي جزافاً، وبخاصة أمام امبراطورية تحقق هذه الامنيات. إنها ثقافة الأب الكولونيالي القادر على عمل أي شيء من أجل تابعيه. لقد كانت ثمة جهود صهيونية لإطلاق الوعد من أكبر قوة آنذاك.

تجمع الشتات

ورد بالوعد تعبير سابق لأوانه ولا حق عن أصله هو تعبير (الشعب اليهودي Jewish people). جاء بصدد أن فلسطين ستكون مكاناً لهذا الشعب. وليست كلمة الشعب إلاَّ كلمة عبرانية تنسب إلى بني اسرائيل الأوائل. شعب الرب كانت جذر التعبير عن الجماعات اليهودية التي تتدين بالمعتقدات المسيّسة. وهي جماعات مشتتة هنا أو هناك في أرجاء العالم، ولم تكن شعباً بمعناه التوراتي ولا بمدلوله الحديث. آرثر بلفور قطع المسافة بين الجذور التوراتية لفكرة الشعب وبين فكرة المواطنين لدى الحداثة الغربية. لم يكن يعرف أن الحداثة لا تقبل شعباً بمعناه الديني حتى يستدعي رصيد التعبير من التاريخ التوراتي. ولم يستطع زحزحة الفكرة الاستعمارية حتى تدخل اسرائيل فضاء القانون والمشروعية.

إن اطلاق تعبير الشعب اليهودي على الجماعات الصهيونية هو العمل الذي اغتنم الفرصة. فلا الصهيونية سياسة ولا الشعب اليهودي مواطنين كما يزعم الوعد. وفوق ذلك يضفي عليهم بلفور صفات قومية خالصة. وكأن اليهود ينتمون إلى جنسية ذات معالم واضحة ومميزة. إن انثربولوجيا اليهود تثبت كونهم من أجناس مختلفة وأعراق متباينة.

إضافة إلى ذلك، يمرر بلفور تعبير الشعب اليهودي كأنه مصطلح مستقر. وهذا دليل على كون الوعد أكبر من مجرد نص لغوي، هو خريطة يعرف صاحبها كيف يعطي المتابع ما يريد. أي يدرك بلفور كيف يصوغ لليهود ما يريدون فعله في فلسطين، مشاركة اليهود من كافة أنحاء العالم في سرقة هذه الدولة. لقد استمرت فلسطين موطناً موعوداً بهذا المعنى لكل يهودي يرى في ديانته القومية المطلوبة. وما زالت الهجرات اليهودية إلى أرض الميعاد مستمرة بهذا الجذر الذي فك شفرته وعد بلفور.

مصطلح (الشعب اليهودي) إعلان فصل عنصري وتمييز عرقي بالتبعية. فليست هناك مساحة لأي استقلال للشعب الفلسطيني. بل استعمل بلفور مصطلح الجماعات غير اليهودية non–Jewish communities عندما وصف أصحاب الأرض. لقد نزع الشرعية عن أصحاب الأرض وشتت الفلسطينيين مقابل توحيد الشعب اليهودي.

***

د. سامي عبد العال

ظلت الظاهرة المجتمعية معلقة ادراكا، برغم ماقد اقدم عليه الغرب من اعلان عن ولادة "علم الاجتماع" الذي وجد في حينه ليتحول الى تحد معرفي، يتعدى النطاق المباشر المعاين للظاهرة المقصوده، هذا مع العلم انه كان من المفترض في حينه ان يكتسب "العلم الاخير" صيغة "العلمية" بان يعتبر مايقوم به محاولة ابتدائية اولية على طريق طويل وشاق يتعدى مبدا (التجمع + انتاج الغذاء) بعيدا، بما يوجب ثورة عقلية كبرى، ماكانت اسبابها متاحه ولا قابله للتحقق في حينه.

على سبيل المثال، ومن باب توخي النموذجيه، وبحكم اللحظة ومارافقها من متغيرات انقلابيه غامرة، انعدم النظر في واحده من الظواهر غير العادية، وفوق الاستثنائية، دلاله على الانحيازية المسبقه للحاضر، على العكس كانت الظاهرة المذكورة توضع خارج العملية المجتمعية والتاريخيه الفعاله، فلم يحاول احد ان يفسر كيف يمكن لشخص مثل النبي محمد الامي، الذي لايجد قوت يومه، يعتاش على امراه كانت متزوجه قبله لعدة مرات، تزوجها وهي تكبره ب خمسة عشر عاما، في موضع صحراوي، في زاوية بعيده معزوله، ان ينتج مفهوما وكتابا ينتهي بالوصول الى الصين والهند شرقا، واسبانيا فيحتلها غربا، وليظل ماثلا في التضاعيف الحياتيه للشعوب والامم التي وصلها حتى اللحظة، بعد ان تغيرت تلك الامم حتى في التعبير عن ذواتها فغدت من يومها ابراهيميه، ومنها وابرزها، موضع الامبراطورية الفارسية الاسلامي الشيعي اليوم.

طبعا يعتبر ماقد حدث وقتها وكانه احتلال امبراطوري، واكراه للامم بالقوة علما بان الحفاة الجزيريين وقتها، لم يشكلوا سوى قشه قصمت ظهر البعير، من مائتي الف مقاتل هزموا اعظم الامبراطوريات، الروماينه والفارسية واعرقها، لا عسكريا، بل كينونة، فتكرست الابراهيمة الاولى المسيحيه في اوربا وماتزال، وانتهت فارس "الفارسية" من حينه، بما لايمكن اعتباره الا من قبيل التطور الطبيعي المتوقع والمنتظر من نمطية مجتمعية امبراطورية بعينها، الى نمطية اخرى مختلفة مزدوجة بوضوح.

قبل هذا الحديث كان لشخص اعزل ماخوذ لكي يعدم من امبراطورية محتله عاتية، بلا سلاح ولا اي نصير، هو السيد المسيح، تحول الى مجتمعية اختراقية مضادة كاسحه في قلب المجتمعية الحاكمه المحتله، مخترقا الموت، ومتعاليا على احكام الملموس والارضوي، بما جعل الوثنين في الغرب يعتبرون سقوط روما عائد الى المسيحية وفعلها (1)، وهذا الحدث مقارنة على سبيل المثال بالثورة الفرنسية اليوم (2)، لابد ان يثير التعجب الاستثنائي اذا نظر الى مايعرف بالثورة التي يقتل فيها ثمانمائة الف مواطن، في بلد تعداده في حينه 26 مليونا خلال 10 سنوات من الاحتدام الجنوني، ينتهي بما يعرف بالنظام الديمقراطي الذي يعزز ويبرر الاستعمار والهيمنه على الشعوب، والاستغلال والنهب الساري الى اليوم. هذا غير الثورة " الاشتراكية" التي قتلت الملايين على يد جزار مثل ستالين، لتنتهي منهارة اخيرا خلال اقل من قرن من الزمن، متهاوية وممسوحه من السجل الوقائعي التاريخي، وهاتان هما الثورتان اللتان تعتبران دالتين كبريين على مايعرف ب " العصر".

شيء حري هنا بالاهتمام، هو "نفي الازدواج" قصورا وعجزا، فالمجتمعية هي الملموسات باعتبارها "المادية"، مع ان الظاهرة الطبيعية والمجتمعية ليست مادية بالمعنى الملموسي، ولو كانت كذلك لانتفت وغابت عن الوجود، لانها لاتعيش ولاتكتمل حيويا الا بالمادية الشامله المتعدية للملموس والمرئي، بما يجعل من تعريف المادية نفسه قاصرا ومتدنيا، ويختلف النظر هنا من منطقة الاحادية الجسدية التي ترى الكائن البشري كجسد فقط لاغير، ملحقة به العقل باعتباره عضوا من اعضائة مثل اليد والانف، لا ككينونه جوهر واصل في كيان مزدوج (عقل/ جسد) يبدا خلال مساره عبر ملايين السنين جسديا من دون حضور للعقل، فيخضع لمسار ذاهب الى تحقق وبروز الجوهر بعدان يتحول الكائن الحيواني الى الانتصاب واستعمال اليدين، فاذا بالعنصر الاصل والاساس المحور الذي به تتمثل العملية الحياتيه، قد ظهر بصيغته الاولى، ليبدا من يومها عصر "الانسايوان" الانتقالي هو الاخر، مابين متبقيات الحيوان و"الانسان العقل" المتحرر من الجسد، والمستقل عنه.

ان الفاعل الرئيسي في الحياة البشرية وفي المجتمعية هو العقل المستقل عن الجسد والذاهب الى مابعده، والى التخلص منه ومن اشتراطاته، وهو في حال تشكل ونمو خلل التفاعليه المجتمعية، بعدما تخلص من الهيمنه الجسدية الحيوانيه المطلقه، وصار حاضرا، وهو ما تتمثل فيه الظاهرة المجتمعية، باعتبارها العتبه التفاعليه العقلية الاخيرة الذاهبة بالكائن البشري الى " الانسان"، بما يقلب ويبدل كليا اجمالي مايعرفه الكائن البشري، بالاخص في الاطوار الاخيرة الانقلابيه الاليه، بخصوص المسالة الاجتماعية، وجوهر هذه الظاهرة المحكوم عليها حتى الان بالجسدية وهيمنتها المطلقة.

لايوجد الكائن البشري متفقا ولا متوافقا مع الاشتراطات الانتاجية اليدوية الاولى الناظمه للعملية المجتمعية ابتداء، ومع ان العقل يكون وقتها مضطرا للرضوخ الى حد بعيد لاشتراطات الحاجياتيه، ونمطية الانتاجية المتاحة، الا ان ذلك لايعني الاستسلام الكلي للمفروض اشتراطا يدويا، خصوصا وان الطبيعة والبيئة العنصر الاساس في تشكل المجتمعية بالتفاعل البدئي، لا تترك المجتمعات محكومه لمجرد الصيغة الجسدية الحاجاتيه من المجتمعات، ويوم تتبلور الظاهرة المجتمعية في بداياتها في منطقة الشرق المتوسطي نهريا، فانها تظهر ابتداء بصيغتين مجتمعيتن، واحدة جسدية ارضوية صرفة، متوافقة مع اشتراطات الرضوخ لحكم اليدوية تكون ارض النيل هي بؤرتها، يقابلها تكوين اخر مختلف كليا ينبثق في ارض الرافدين والنهرين، حيث الاشتراطات البيئية الطاردة والذاهبه بالمنتج الى الانتاجية الاصطراعية لدرجة العبش على حافة الفناء، سواء بالعلاقة بالنهرين المدمرين العاتيين وانفتاح الجهات الثلاث الشرق والغرب والشمال على السيول البشرية الارضوية النازله نحو ارض الخصب من الجبال الجرداء والصحاري، او جمله الحال المناخي، بما يجعل من البديهي ذهاب العقل الى البحث عن مسرب، وعن معوض يصل حد طلب الملجأ المضاد للمعاش، وهو مايتجلى سماويا بحكم النمطية التي تنشأ هنا، خارجه عن النموذجية الارضوية الجسدية الاولى، سالفة الذكر، بصفتها "لاارضوية"، هي حكما مشروع صدام اصطراعي لايتوقف، مع ماتحمله نمطيا ونوعا سيول السلالات البشرية الهابطة الى مابين النهرين، بمايعني قانونا وكينونه بنيوية تاريخيه، ونوع مجتمعية، هي نموذج وبؤرة الازدواج (اللاارضوي/ الارضوي)على مستوى المعمورة.

***

عبد الأمير الركابي

 

هل هي تعبير عن (حنين) وطني، أم (اغتراب) اجتماعي؟!

كثيرة هي قصص العراقيين (المغتربين) الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها – طوعا"أو كرها"- يعيشون في بيئات اجتماعية وحضارية مغايرة تماما"لبيئاتهم المحلية السابقة، والتي نشأوا في ربوعها وترعرعوا بين أحضانها، وتغذوا على قيمها وأعرافها، وتشربوا من عاداتها وتقاليدها. بحيث أضحى عليهم مقاومة العديد من الأحاسيس المختلطة والمشاعر المضطربة التي غالبا" ما يستشعرها المترحلون في فيافي الغربة.

وفي حديثنا عن هذه الظاهرة (النعرة) العراقية، التي ربما تكون ظاهرة (عامة) بين مختلف شعوب العالم التي تجوب جماعاتها (المهاجرة) بلدان وأوطان لم تكن لتفكر يوما"في زيارتها، ناهيك عن استيطانها والاستقرار فيها. ينبغي علينا أن نراع القضايا والمسائل المتعلقة بسيرورات وديناميات (المجايلات) الاجتماعية والثقافية، التي من شأنها خلق الكثير من التباينات السيكولوجية والاختلافات القيمية بين جيل (الآباء) وجيل (الأبناء) وجيل (الأحفاد). حيث ان تأثيرات (النعرة) المذكورة تبدو واضحة وجلية لدى أبناء الجيل الأول بحكم ترسبات تربيتهم السابقة، هذا في حين يبهت بريقها وتخمد جذوتها – بدرجات ومستويات - لدى أفراد الجيل الثاني، وذلك جراء اختلاط قيم آبائهم الموروثة بقيم مجتمعاتهم الجديدة المكتسبة. أما بالنسبة لأبناء الجيل الثالث فلا يكاد يكون لتلك النعرة (العراقية) أثر لا على صعيد الوعي ولا على صعيد الذاكرة، وذلك على خلفية انخراط واندماج هؤلاء في أتون عمليات بيداغوجية وإيديولوجية مكثفة، استهدف إعادة ترتيب أولويات (انتماؤهم) للمجتمع المضيف وأسبقيات (ولاؤهم) للدولة المستقبلة.

وفي إطار ما هو وارد في عنوان المقال، فإن الفئة الأولى من (المغتربين) هي المقصودة في المناقشة الحالية للموضوع، وذلك بناء على افتراض ما يزعم إن عناصرها ما برحوا يحملون بين جوانحهم فائض من (الحنين) لمرابض الصبا التي غادروها مكرهين منذ عقود، وهو الأمر الذي غالبا"ما يشعرهم بوطأة المعاناة النفسية والمكابدات الوجدانية. والحقيقة أنه في ضوء الكثير من المؤشرات والعديد من المعطيات التي تمخضت عن تجارب إعادة الارتباط ما بين الشخص (المغترب) من جهة، وما بين الواقع (الوطني) من جهة أخرى، إن مشاعر تلك النعرة (العراقية) التي تظهر لدى المغترب لا تتأتى بدافع (الحنين) لأرض الوطن كما يزعم، وإنما تتمظهر جراء طغيان الإحساس بحالة (الاغتراب) الاجتماعي التي يكابدها ذلك المغترب، بعد أن يكون قد (جرد) تماما"من كل تلك الصلات الأسرة والأواصر القرابية والعلاقات الاجتماعية التي كانت تغمره بحميميتها (العراقية) المعهودة. 

نعم، قد يشعر الإنسان العراقي (المغترب) بلواعج (الحنين) للوطن – هل قلت وطن؟! - في بعض الأحيان، لاسيما حين تقع عيناه على لافتة كتب فيها ما يشير الى اسم (العراق) أو (بغداد) سواء على واجهة مطعم أو مقهى أو أسواق، أو يلتقي بشخص ما يتكلم اللغة (العربية) أو يرطن باللهجة (العراقية) عن طريق الصدفة، أو يستقبل مكالمة هاتفية عابرة من بعض أقاربه أو أصدقائه المقيمين في العراق. ولكن، ما أن تختفي تلك المنبهات الحسية والمثيرات النفسية والدلالات السيميائية والإيحاءات الرمزية التي استدعت تلك الإستثارات السيكولوجية الجيّاشة، سرعان ما يضمحل ذلك الشعور المفاجئ ويختفي ذلك الإحساس الخاطف في غياهب النسيان وكأن شيئا"لم يكن، على أمل أن تتم استعادته والانغمار فيه مرة أخرى في ظروف زمانية مختلفة وأحوال مكانية مغايرة.

والمفارقة التي يتميّز بها الإنسان العراقي (المغترب) عن سائر من يعيش نفس ظروفه ويكابد ذات معاناته، هي أنه ما يقرر (العودة) الى العراق - بعد أن لم يعد قادرا"على تحمل قساوة (الوحدة) الناجمة عن التفكك الأسري، وفشل تكيفه مع انقطاع سبل التواصل الاجتماعي مع أصدقائه ومعارفه - في الأيام الأولى التي تطأ قدماه أرض (الوطن)، ويلتقي بمن فارقهم طيلة مكوثه في بلاد (الغربة) من بقايا أفراد أسرته أو أقربائه أو أصدقائه، لا يلبث أن يخضع لسلسلة من التحولات الاجتماعية والنفسية والثقافية والرمزية، التي من شأنها إعادة جدولة بنى وعيه وأنماط سلوكه السابقة بما يتناسب وطبيعة أوضاعه وظروفه الجديدة. بحيث لم تعد الهواجس والمكابدات السابقة التي كانت تجتاح كيانه بين الحين والآخر تعبيرا"عن (الحنين) للوطن و(الاشتياق) للوطنية كما كان يزعم، وإنما حلت مكانها هواجس ومكابدات أخرى مختلفة في طبيعتها ومغايرة في مضامينها، ليجسّد من خلالها ما كان يعتقد أنه تغلب عليه وتجاوزه من أصوليات وعصبيات ونزعات.

واللافت ان هذا (المغترب أو المهاجر) العائد الى حضن (الوطن)، قد يتفوّق على أقرانه من العراقيين المقيمين في مجال تبرير سلوكياته وتسويغ تصوراته، استنادا"الى ما أتيح له من فرص وإمكانيات الانخراط في مضمار الدراسات الاجتماعية والإنسانية الحديثة، التي تمكن من تحصيلها خلال مكوثه في بلاد الغربة – لاسيما وان بعضهم يحملون شهادات جامعية متقدمة – بحيث تكونت لديه ترسانة من الحجج التي يدافع من خلالها عن آرائه ومعتقداته، والتي ربما تبدو مستهجنة وغير منطقية لمن لا يشاطره مواقفه السياسية وقناعاته الإيديولوجية. ولعل تبعات وتداعيات هذه الحالة تبدو واضحة أكثر على أولئك الذين ينحدرون من أصول ما يسمى ب(الأقليات) القومية والدينية والثقافية، التي عانت على مدى عقود من سياسات الإقصاء والاستبعاد والتهميش؛ إما لأسباب عنصرية / شوفينية، أو لدوافع طائفية / مذهبية، أو لدواعي حزبية / إيديولوجية.

وإذا ما نظرنا الى هذه الظاهرة / الحالة السوسيوسياسية، عبر منظار الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المزري الذي أنتجته تجربة الإسلام السياسي في العراق المعاصر، عقب زلزال سقوط النظام السابق وتصدع كيان الدولة المركزية، فإننا سنلاحظ ان هناك علاقة طردية ما بين الموقف (الوطني) للعناصر العائدة من ديار (الغربة) من جهة، وبين مدى انخراطها في العمل السياسي ضمن قوائم الأحزاب والتكتلات المهيمنة على المشهد السياسي العراقي من جهة أخرى. أي بمعنى انه كلما توغلت هذه العناصر في مضمار العمل الحزبي / السياسي المتطيّف، كلما تضاءلت حماستها (الوطنية) وتراجعت حميتها (العراقية)، وكلما أمعنت في استثمار سلطة موقعها الحزبية ونفوذ صلاحياتها الحكومية، لتعويض ما تعتبره تراكم (مظالمها) التاريخية مع الأنظمة السياسية السابقة بنوعيها الملكي والجمهوري.

ولعله من الضرورة بمكان الإشارة الى أن هناك قلة من هؤلاء (المغتربين) ممن قرروا العودة الى العراق، تعرضوا لوابل من الصدمات الكبيرة حين وجدوا ان (الوطن) الذي كانوا يتباكون على فراقه في بلدان (الغربة) ويحنون للعيش في ربوعه مجددا"، استحال خلال عقدين ونيّف من الزمن الى غابة موحشة لا تسكنها سوى الضواري المفترسة، وهو الأمر الذي دفع بهم الى إعادة التفكير في خياراتهم (الوطنية) المتهورة، ومن ثم استئناف حمل حقائبهم مجددا"لمغادرة أطلال ما كان (وطنهم) والعودة من حيث أتوا، ولكن هذه المرة بلا أوجاع فراق ولا حنين غربة !!         

***

ثامر عباس

 

فلسطين في عيون ديفيد هيرست

رحيل الإعلامي والكاتب البريطاني الحر ديفيد هيرست في اليوم ذاته الذي اعترفت فيه الحكومة البريطانية بدولة فلسطين (أي ال22 من شتنبر 2025) ليس مجرد مصادفة زمنية، بل لحظة مشبعة بالدلالات التاريخية. فهنا تتقاطع ذاكرة الاستعمار البريطاني (من وعد بلفور إلى سياسات ما بعد الانتداب) مع تحولات الرأي العام الأوروبي في القرن الحادي والعشرين. ومن منظور سوسيولوجي، يمكن قراءة الحدث كجزء من مسارٍ أوسع يشهد انكسار السرديات الإمبريالية أمام ضغط الحركات الحقوقية الأوروبية وفقدان الخطاب الصهيوني لهيمنته المطلقة داخل الإعلام الغربي.

يمثل هيرست نموذجًا نادرًا للمثقف الأوروبي الذي تجاوز منطق “التعاطف الإنساني” إلى التضامن النقدي. فقد تشكّل وعيه في مدارس النخبة البريطانية، لكنه انجذب إلى الشرق الأوسط عبر تجربة بيروت الستينيات، حيث التقى بفلسطين كقضية تحرر كونية لا كملف “نزاع حدود”.

هذا التحول يجعله، في المخيال العربي، شبيهًا بأسماء كبرى مثل إدوارد سعيد أو جون بيرغر، جسرًا حضاريًا يربط الغرب النقدي بالشرق المقاوم، ويعيد طرح سؤال: لماذا تحتاج القضايا العربية دائمًا إلى “شهود غربيين” لتنال شرعية أخلاقية في المحافل الدولية؟

اعتمد هيرست على أرشفة دقيقة ووثائق أصلية، ما يمنح أعماله طابع المؤرخ لا الصحافي فحسب. في كتاب "البندقية وغصن الزيتون"، لا يكتفي بالسرد بل يفكك البنية الاستعمارية للصهيونية، رابطًا بين الاقتصاد السياسي للعنف وتاريخ الهجرة الاستيطانية. هذا النهج يتيح قراءة نصوصه في إطار مدرسة الحوليات الفرنسية (Annales) التي تمزج الاقتصاد والاجتماع والسياسة لفهم الظواهر التاريخية.

لم يكن هيرست يكتب في فراغ. فقد دخل في جدالات علنية مع مفكرين وصحافيين صهاينة وليبراليين غربيين كانوا يرون في المشروع الصهيوني ضرورة تاريخية أو “تعويضًا أخلاقيًا” عن الهولوكوست.

ففي مقالاته عن حرب العراق 2003، ناقش محللين من تيار “المحافظين الجدد” الأميركيين، كاشفًا عن التحالف بين اللوبي الصهيوني والمجمع الصناعي العسكري.

وفي حواراته أيضا مع بعض الأصوات العربية الناقدة لاتفاق أوسلو، أبدى تحفظًا على “إدارة الفشل الفلسطيني” من الداخل، مبرزًا أنه ينقد إسرائيل بلا مواربة، لكنه لا يعفي القيادات العربية من مسؤولياتها.

يمكن تناول هيرست في ضوء فلسفة العدالة العالمية كما بلورها جون رولز أو منظّرو “العدالة الكونية”، إذ تجسّد كتاباته قناعة بأن الحق الفلسطيني ليس مسألة تفاوض سياسي بل قيمة أخلاقية مطلقة. كما يحضر في أعماله أثر الفلسفة الوجودية في تشديده على المسؤولية الفردية للكاتب: أن يكتب الحقيقة حتى لو خالف قومه ودولته.

رغم الإجماع العربي على مناصرته، برزت أصوات اعتبرت أن هيرست، كابن للمؤسسة البريطانية، ظلّ أسيرًا لرؤية ليبرالية إصلاحية لا تصل إلى تبني القطيعة الكاملة مع النظام الدولي الذي ينتج الاستعمار. آخرون رأوا أن رهانه على “يقظة الضمير الأوروبي” يتجاهل حقائق القوة الصلبة. هذه القراءات النقدية تفتح الباب لدراسة كيف يتحوّل المثقف الغربي الداعم لفلسطين إلى موضوع مساءلة عربية أيضًا.

إن الجمع بين المنهج التاريخي والتحليل السوسيوثقافي والفلسفي يجعل من سيرة هيرست مختبرًا لفهم علاقة الغرب بفلسطين:

ـ كيف تطورت مواقف الرأي العام الأوروبي من 1967 إلى 2025؟

ـ ما أثر حركات المقاطعة الأكاديمية والثقافية (BDS) على إعادة تشكيل هذه المواقف؟

ـ وكيف يمكن توظيف إرث هيرست في بلورة خطاب فلسطيني-عالمي جديد يتجاوز ثنائية “المستعمِر/المستعمَر” نحو شراكة إنسانية على قاعدة العدالة؟

***

د مصـطـفــى غَـــلمـان*

وبين التحديات الوجودية والأزمات التنموية، مقاربة وحدوية

مقدمة: يواجه الوطن العربي تحديات معقدة تهدد استقراره وتطوره، حيث تتداخل التعددية الإثنية والدينية مع الخلافات السياسية، إلى جانب تحديات وجودية مثل تغير المناخ والصراعات الإقليمية، وأزمات تنموية تتعلق بالفقر، البطالة، ونقص الموارد. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مستقبل الوطن العربي من خلال مقاربة وحدوية تسعى إلى استشراف الفرص التي يمكن أن تحول التنوع إلى قوة دافعة للتنمية والاستقرار، مع التركيز على الحلول التعاونية التي تعزز الوحدة العربية دون إنكار التعددية.

المقاربة الوحدوية

المقاربة الوحدوية تستند إلى فكرة أن الوحدة العربية لا تعني القضاء على التعددية، بل تسخيرها كأداة لتعزيز التكامل الإقليمي. تستلهم هذه المقاربة من تجارب تاريخية مثل جامعة الدول العربية (1945) والمبادرات الوحدوية في القرن العشرين، مع التركيز على إطار عملي يعالج التحديات المعاصرة. وفقاً لنظرية الوظيفية الجديدة، يمكن تحقيق الوحدة من خلال التعاون في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي تدريجياً إلى تكامل سياسي.

التعدد الإثني والديني: قوة أم تحدي؟

الواقع الإثني والديني

يضم الوطن العربي تنوعاً إثنياً ودينياً غنياً، يشمل العرب، الأكراد، الأمازيغ، والأقليات مثل الأرمن والآشوريين، إلى جانب التنوع الديني بين المسلمين (سنة وشيعة)، المسيحيين، والدروز. هذا التنوع، رغم كونه مصدراً للثراء الثقافي، يُستغل أحياناً لتأجيج الصراعات، كما في سوريا والعراق.

التحديات المرتبطة

الطائفية والصراعات الإثنية: أدت الخلافات السياسية، كما في لبنان واليمن، إلى تعميق الانقسامات الطائفية، مما يهدد التماسك الاجتماعي.

التدخلات الخارجية: تستغل قوى إقليمية ودولية (مثل إيران وتركيا) التعددية لتعزيز نفوذها، مما يعقد التكامل العربي.

غياب الحوار البنّاء: قلة المبادرات لتعزيز الحوار بين الأقليات والأغلبية تعيق بناء هوية عربية جامعة.

فرص التعددية

التكامل الثقافي: يمكن للتعددية أن تعزز الابتكار الثقافي والاقتصادي، كما في تجربة الإمارات التي استفادت من التنوع لتعزيز السياحة والتجارة.

نموذج الحوار: تجارب تُظهر إمكانية بناء أنظمة ديمقراطية تحترم التعددية.

الخلافات السياسية: العوائق والحلول

طبيعة الخلافات

تشهد المنطقة العربية انقسامات سياسية حادة، سواء بين الأنظمة الملكية والجمهورية، أو بين التيارات الإسلامية والعلمانية. أزمات مثل الحرب في سوريا، الانقسام الليبي، والتوترات بين قطر ودول الخليج تبرز هذه الخلافات

تأثير الخلافات

تفتيت الجهود الإقليمية: ضعف جامعة الدول العربية كمنصة لحل النزاعات.

تعطيل التكامل الاقتصادي: فشل مبادرات مثل السوق العربية المشتركة بسبب الخلافات.

زيادة النفوذ الأجنبي: الخلافات تفتح المجال لدول مثل الولايات المتحدة وروسيا للتدخل.

الحلول المقترحة

تعزيز دور جامعة الدول العربية: إصلاح الهيكلية لجعلها منصة فعالة للحوار.

مبادرات إقليمية مشتركة: إنشاء منتديات سياسية لتسوية الخلافات، مثل مؤتمر الحوار العربي.

دعم الديمقراطية التشاركية: تشجيع الأنظمة على إشراك الأقليات والمعارضة في صنع القرار.

التحديات الوجودية

تغير المناخ

يواجه الوطن العربي تحديات بيئية كبرى، حيث تُعد المنطقة من الأكثر تأثراً بارتفاع درجات الحرارة وشح المياه. تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 14 دولة عربية من بين الأكثر معاناة من الإجهاد المائي.

الصراعات المسلحة

تستمر الحروب في تهديد الاستقرار، مع نزوح أكثر من 20 مليون شخص داخلياً وخارجياً.

الهجرة واللجوء

تُعد المنطقة مصدراً ووجهة للاجئين، مما يضع ضغوطاً على الاقتصادات المحلية ويزيد التوترات الاجتماعية.

الحلول المقترحة

التعاون البيئي: إنشاء صندوق عربي مشترك لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة وإدارة الموارد المائية.

تسوية الصراعات: دعم مبادرات السلام بقيادة عربية، مثل مبادرة السلام العربية لفلسطين.

إدارة الهجرة: إنشاء برامج إقليمية لإعادة توطين اللاجئين ودمجهم اقتصادياً.

الأزمات التنموية

الواقع التنموي

يعاني الوطن العربي من تفاوتات تنموية حادة. وفقاً لتقرير التنمية البشرية 2022، تصنف 7 دول عربية ضمن فئة "التنمية البشرية المنخفضة"، مع معدلات بطالة تصل إلى 25% بين الشباب في بعض الدول.

التحديات

الاعتماد على النفط: تعتمد دول الخليج بشكل كبير على النفط، مما يجعلها عرضة لتقلبات الأسواق.

التعليم والابتكار: ضعف الأنظمة التعليمية يحد من القدرة على بناء اقتصادات قائمة على المعرفة.

الفساد: يُعد الفساد عائقاً رئيسياً أمام التنمية، حيث تحتل العديد من الدول العربية مراكز متدنية في مؤشر مدركات الفساد.

الحلول المقترحة

التنويع الاقتصادي: تعزيز الاستثمار في التكنولوجيا والصناعات الخضراء.

إصلاح التعليم: تطوير مناهج تركز على المهارات الرقمية والابتكار.

مكافحة الفساد: تعزيز الشفافية من خلال مؤسسات إقليمية مستقلة.

المقاربة الوحدوية: رؤية للمستقبل

إطار العمل

التكامل الاقتصادي: إنشاء منطقة تجارة حرة عربية بحلول 2035، مع تقليل الحواجز الجمركية.

التعاون الأمني: إنشاء قوة عربية مشتركة لمكافحة الإرهاب وحماية الحدود.

الحوار الثقافي: إطلاق منصات إقليمية لتعزيز الهوية العربية المشتركة مع احترام التعددية.

التحديات

غياب الإرادة السياسية: مقاومة بعض الأنظمة للتكامل العربي خوفاً من فقدان السيادة.

التفاوتات الاقتصادية: صعوبة تحقيق تكامل بين دول غنية مثل قطر وفقيرة مثل الصومال.

التوصيات

تعزيز دور الشباب والمجتمع المدني في صياغة السياسات العربية.

إنشاء صندوق استثماري عربي لدعم المشاريع التنموية.

تطوير برامج إقليمية لتبادل الخبرات في مجالات التكنولوجيا والبيئة والتعليم والصحة.

خاتمة

يواجه الوطن العربي مفترق طرق حاسم، حيث يمكن للتعددية الإثنية والخلافات السياسية أن تكون مصدر قوة إذا تم إدارتها بحكمة. المقاربة الوحدوية توفر إطاراً لتحويل التحديات الوجودية والتنموية إلى فرص للتكامل والنمو. من خلال تعزيز الحوار، التكامل الاقتصادي، والتعاون في مواجهة التحديات البيئية والأمنية، يمكن للدول العربية بناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً. النجاح يتطلب إرادة سياسية قوية ومشاركة شاملة لجميع مكونات المجتمع العربي. فمتى نرى الوطن العربي موحدا متكاملا وسيد نفسه؟

***

زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

بين بريق الأرقام وقتامة الواقع.. عندما تصبح العضوية المضمونة امتحاناً للضمير

مقدمة: مرآة مزدوجة الوجوه

في قاعات الأمم المتحدة المهيبة بجنيف، حيث تتردد أصداء خطابات عن العدالة والكرامة الإنسانية، يستعد العراق لشغل مقعد جديد في مجلس حقوق الإنسان لعام 2025. أربعة مرشحين لأربعة مقاعد في المجموعة الآسيوية-المحيط الهادئ، معادلة رياضية بسيطة تخفي خلفها تعقيدات سياسية وأخلاقية عميقة.

العراق، الذي يتصدر قائمة المرشحين بـ16.6 نقطة، يقف أمام مرآة مزدوجة الوجوه: في إحداها صورة مشرقة من التقارير والإحصائيات والمعاهدات الموقعة، وفي الأخرى واقع قاتم من الانتهاكات والتعذيب والإفلات من العقاب. فأي من هذين الوجهين يمثل العراق الحقيقي؟ وهل يمكن للأرقام أن تغطي جراح الواقع؟

الفصل الأول: عندما تتألق الأرقام في سماء جنيف

التفوق الورقي المثير للإعجاب

على صعيد المؤشرات الشكلية، يبدو العراق كـ"الطالب المتفوق" في أروقة الأمم المتحدة. بنقاطه الـ16.6، يتفوق بوضوح على منافسيه: فيتنام (10.6)، باكستان (7.4)، والهند (5.4). هذا التقدم ليس وليد الصدفة، بل نتيجة التزام ظاهري دقيق بالمعايير الدولية.

ثمانية معاهدات أساسية صادق عليها العراق، رقم يضعه في المقدمة بين المرشحين. من اتفاقية مناهضة التعذيب إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تشكل هذه المعاهدات خارطة طريق نظرية لحماية حقوق الإنسان. لكن المسافة بين النص والتطبيق تبقى شاسعة كالمسافة بين جنيف وبغداد.

التقارير في موعدها، والعراق هنا يظهر انضباطاً لافتاً. فبينما تتأخر دول كثيرة في تقديم تقاريرها إلى هيئات المعاهدات، يحرص العراق على إنجاز "واجباته المدرسية" في الموعد المحدد، كأنه طالب يخشى عقاب المعلم.

الدعوة الدائمة للمقررين الخاصين تمثل نقطة إضافية في سجل العراق. 53% من الزيارات المطلوبة تمت بالفعل، رقم يبدو متواضعاً لكنه يتفوق على باكستان (17%) والهند (32%). هذه الدعوة تعكس، على الأقل نظرياً، استعداداً للشفافية والمساءلة.

الحضور الوزاري في جلسات الاستعراض الدوري الشامل يضيف بعداً سياسياً مهماً. عندما يرسل العراق وزراءه إلى جنيف، فهو يرسل رسالة واضحة: نحن نأخذ هذه العملية على محمل الجد. لكن السؤال يبقى: هل هذا اهتمام حقيقي أم مجرد دبلوماسية شكلية؟

الدبلوماسية الحذرة في العمل

سجل العراق التصويتي في المجلس في فترة عضويته السابقة يكشف عن استراتيجية محسوبة بدقة. لم يكن عضواً صامتاً، لكنه لم يكن جريئاً أيضاً. صوّت ضد قرارات تخص سوريا وإيران، في انحياز واضح للاعتبارات الإقليمية على حساب المبادئ الحقوقية. امتنع عن التصويت في ملفات جورجيا وأوكرانيا، متجنباً الوقوع في فخ الاستقطاب الدولي.

لكنه في المقابل، التزم بالتوافق العام في القضايا "الآمنة": حقوق المرأة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بناء القدرات. هذا السلوك يرسم صورة عراق يحاول السير على حبل مشدود، يوازن بين ضغوط إقليمية ومسؤوليات دولية، بين مصالح سياسية ومبادئ أخلاقية.

الفصل الثاني: عندما يتكسر البريق على صخور الواقع

الثغرات الصارخة في السجل

لكن هذا البريق الدبلوماسي سرعان ما يخفت عندما ننتقل من قاعات جنيف إلى شوارع بغداد والبصرة والموصل. فالعراق الذي يلمع في التقارير يتعثر مؤلماً على أرض الواقع.

غياب المساهمات الطوعية للمفوضية السامية لحقوق الإنسان يكشف عن محدودية الالتزام العملي. الشراكة الحقيقية لا تقتصر على الكلام والتوقيع على الوثائق، بل تتطلب دعماً مالياً وعملياً للمنظومة الأممية. هنا يظهر العراق وكأن التزامه يتوقف عند حدود المجاملات الدبلوماسية.

عدم التصديق على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب يمثل تناقضاً صارخاً. كيف لبلد يدّعي الالتزام بحقوق الإنسان أن يرفض آلية دولية لمنع التعذيب؟ خاصة وأن تقارير التعذيب في السجون العراقية تتكرر كالكابوس المتجدد.

الإدراج في تقارير الأمين العام حول الأعمال الانتقامية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان يضع العراق في موقف محرج. والأمر الأكثر إحراجاً هو الصمت الرسمي تجاه هذه التقارير، صمت يبدو وكأنه اعتراف ضمني بالتهم الموجهة.

واقع الانتهاكات المرير

خلف أرقام التقارير الوردية، يختبئ واقع مرير من الانتهاكات اليومية. التعذيب الممنهج في السجون، قمع الاحتجاجات السلمية، اغتيال الناشطين، ضعف القضاء واستمرار الإفلات من العقاب. هذه ليست مجرد إحصائيات، بل قصص إنسانية مؤلمة تتكرر يومياً في زوايا مظلمة من البلاد.

المدافعون عن حقوق الإنسان يواجهون تهديدات مستمرة، والصحفيون يعملون تحت سيف الخوف، والمحتجون السلميون يُقابلون بالرصاص أحياناً. هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والممارسة العملية يجعل من العضوية المرتقبة في المجلس سؤالاً أخلاقياً معقداً.

الفصل الثالث: المعضلة الجيوسياسية - عندما تغلب السياسة على المبدأ

انتخابات بلا منافسة حقيقية

المفارقة في انتخابات 2025 أنها محسومة سلفاً: أربعة مرشحين لأربعة مقاعد. هذا الواقع يكشف عن طبيعة مجلس حقوق الإنسان كمنتدى للتوازنات الجيوسياسية أكثر من كونه محكمة أخلاقية صارمة. التوزيع الجغرافي للمقاعد يعطي الأولوية للتمثيل الإقليمي على الجودة الحقوقية، ما يفتح الباب أمام دول ذات سجلات مشكوك فيها للحصول على مقاعد مؤثرة.

هذا النظام يُظهر التناقض الأساسي في بنية المنظومة الدولية: كيف يمكن لآلية تهدف إلى حماية حقوق الإنسان أن تقبل بعضوية دول تنتهك هذه الحقوق؟ العراق ليس استثناءً هنا، بل مثال على معضلة أوسع تواجه المجتمع الدولي.

التوازنات الإقليمية والحسابات السياسية

العراق، في موقعه الجيوسياسي الحساس، يجد نفسه في قلب تجاذبات إقليمية ودولية معقدة. علاقاته المتشابكة مع إيران وتركيا والسعودية والولايات المتحدة تجعل من مواقفه الحقوقية رهينة لحسابات سياسية أكبر. هذا الواقع يفسر التردد والحذر في سجله التصويتي، لكنه لا يبرره أخلاقياً.

المنطقة العربية والآسيوية تحتاج إلى أصوات شجاعة في مجلس حقوق الإنسان، أصوات تقف مع الحق حتى لو تعارض مع المصالح السياسية قصيرة المدى. هل يمكن للعراق أن يكون هذا الصوت؟

الفصل الرابع: الفرصة التاريخية - تحويل المقعد إلى منصة إصلاح

الإصلاحات الداخلية المطلوبة

العضوية في مجلس حقوق الإنسان يجب أن تكون بداية، لا نهاية. فرصة للإصلاح الداخلي، لا مجرد لقب دبلوماسي. العراق أمامه خيارات واضحة لتحويل هذا المقعد إلى رافعة إصلاح حقيقية.

التصديق على البروتوكول الاختياري لمناهضة التعذيب وإنشاء آلية وقائية وطنية مستقلة خطوة أساسية لا يمكن تأجيلها. هذه الآلية يجب أن تتمتع بصلاحيات واسعة لزيارة أماكن الاحتجاز دون إذن مسبق، ومراقبة أوضاع المحتجزين، وتقديم توصيات ملزمة لتحسين الأوضاع.

وقف الانتقام من المدافعين عن حقوق الإنسان يتطلب إجراءات عملية واضحة: إقرار قانون لحماية المدافعين، إنشاء وحدة حماية متخصصة، محاسبة المسؤولين عن التهديدات والاعتداءات. الكلام وحده لا يكفي، المطلوب أفعال ملموسة تعيد الثقة.

تقوية القضاء واستقلاليته مهمة معقدة تتطلب إرادة سياسية قوية. القضاء المستقل هو حجر الزاوية في أي نظام يحترم حقوق الإنسان. هذا يعني تعيينات قضائية تعتمد على الكفاءة لا على المحاصصة، ميزانيات كافية للمحاكم، حماية فعلية للقضاة من الضغوط السياسية.

تعزيز المؤسسات الوطنية

المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق تحتاج إلى تقوية جذرية. هذه المؤسسة، التي يُفترض أن تكون الضمير الوطني في مجال حقوق الإنسان، تعاني من ضعف في الموارد والصلاحيات. تقويتها مالياً وبشرياً، وضمان استقلاليتها التامة عن الحكومة، خطوة لا غنى عنها.

إنشاء وحدات حكومية متخصصة في متابعة تنفيذ التوصيات الأممية ضرورة عملية. هذه الوحدات يجب أن تعمل بشفافية، وتقدم تقارير دورية للجمهور حول مدى التقدم في تنفيذ الالتزامات الدولية.

برامج التدريب على حقوق الإنسان لأجهزة الأمن والقضاء يجب أن تصبح إلزامية ومستمرة. تغيير الثقافة المؤسسية عملية طويلة المدى، لكنها أساسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات.

الفصل الخامس: دور المجتمع المدني - الشريك الضروري

المراقبة والمساءلة من الداخل

المجتمع المدني العراقي، رغم التحديات والمخاطر التي يواجهها، يبقى الشريك الأساسي في أي عملية إصلاح حقيقية. منظمات المجتمع المدني تمتلك القدرة على تحويل العضوية في المجلس من مجرد لقب فخري إلى أداة ضغط فعالة للإصلاح.

إعداد التقارير الظل التي تكشف الفجوة بين الالتزامات الرسمية والواقع على الأرض مهمة حيوية. هذه التقارير تضع الحكومة أمام المرآة، وتجبرها على مواجهة تناقضاتها أمام المجتمع الدولي.

الحملات الإعلامية والتوعوية لربط العضوية في المجلس بالحقوق اليومية للمواطنين ضرورية. المطلوب تحويل النقاش حول حقوق الإنسان من موضوع "نخبوي" إلى قضية شعبية تهم كل مواطن.

بناء الشراكات الدولية مع منظمات حقوقية عالمية يوفر الدعم والحماية للناشطين المحليين، ويضمن استمرار الضغط الدولي على الحكومة العراقية.

التحديات والمخاطر

لكن المجتمع المدني العراقي يواجه تحديات جمة: التهديدات الأمنية، القيود القانونية، نقص التمويل، الاستقطاب السياسي. هذه التحديات تتطلب دعماً دولياً أقوى، وحماية أفضل من الحكومة، وتضامناً أكبر بين المنظمات المحلية.

الفصل السادس: التوصيات العملية - خارطة طريق للإصلاح

للحكومة العراقية: التزامات لا يمكن تأجيلها

1.  التصديق الفوري على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وإنشاء آلية وقائية وطنية مستقلة بصلاحيات كاملة.

2.  إعلان خطة وطنية شاملة لتنفيذ توصيات الاستعراض الدوري الشامل وهيئات المعاهدات، مع جدول زمني واضح ومؤشرات قابلة للقياس.

3.  تخصيص ميزانية كافية ومنتظمة للمفوضية العليا لحقوق الإنسان، وضمان استقلاليتها الكاملة في التعيينات والقرارات.

4.  إقرار قانون حماية المدافعين عن حقوق الإنسان وإنشاء وحدة حماية متخصصة تعمل على مدار الساعة.

5.  الرد العلني والشفاف على جميع تقارير الأمم المتحدة، خاصة تلك المتعلقة بالأعمال الانتقامية ضد المدافعين.

6.  إصدار تعهدات طوعية محددة أمام المجلس الدولي حول الإصلاحات المزمع تنفيذها خلال فترة العضوية.

للمجتمع المدني: دور لا غنى عنه

1.  تأسيس ائتلاف وطني لمراقبة أداء العراق في مجلس حقوق الإنسان، يضم جميع المنظمات الحقوقية الفاعلة.

2.  إعداد تقارير ظل دورية وإرسالها إلى المقررين الخاصين وهيئات المعاهدات، مع توثيق دقيق للانتهاكات.

3.  إطلاق حملة إعلامية شاملة تربط بين العضوية في المجلس وحقوق المواطن اليومية، باستخدام وسائل الإعلام التقليدية والرقمية.

4.  بناء شبكة علاقات دولية مع منظمات حقوقية عالمية لضمان الدعم والحماية المستمرة.

5.  التدريب والتأهيل المستمر للناشطين الحقوقيين على آليات الأمم المتحدة وكيفية الاستفادة منها.

للمجتمع الدولي: دعم الإصلاح ومحاسبة التقصير

1.  الضغط المستمر على الحكومة العراقية لتنفيذ التوصيات الأممية من خلال الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف.

2.  دعم المجتمع المدني العراقي مالياً وتقنياً، مع ضمان وصول هذا الدعم إلى المنظمات الحقيقية الفاعلة.

3.  استخدام آليات المساءلة المتاحة في الأمم المتحدة لمتابعة أداء العراق كعضو في المجلس.

4.  ربط العلاقات الاقتصادية والسياسية مع العراق بالتقدم في ملف حقوق الإنسان.

الفصل السابع: رؤية للمستقبل - العراق الذي نريد

من الدولة الأمنية إلى دولة القانون

التحول الحقيقي المطلوب في العراق ليس مجرد إصلاحات تقنية أو قانونية، بل تغيير جذري في فلسفة الحكم. من دولة تعتمد على القوة والقمع إلى دولة تؤمن بالقانون والحوار. من نظام يخاف من شعبه إلى نظام يستمد شرعيته من رضا المواطنين.

هذا التحول يتطلب وقتاً وجهداً مستمراً، لكنه ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية والدعم الشعبي والضغط الدولي. العضوية في مجلس حقوق الإنسان يمكن أن تكون محفزاً لهذا التحول، لا مجرد شهادة تقدير لما هو قائم.

العراق كنموذج إقليمي

العراق، بتجربته المريرة مع الحرب والدكتاتورية والطائفية، يمتلك فهماً عميقاً لأهمية حقوق الإنسان. هذا الفهم، إذا ترجم إلى سياسات وممارسات، يمكن أن يجعل من العراق نموذجاً إقليمياً للانتقال من النزاع إلى السلام، ومن القمع إلى الديمقراطية.

المنطقة العربية تحتاج إلى مثل هذا النموذج. بلد يثبت أن الاحترام الحقيقي لحقوق الإنسان ليس "ترفاً غربياً" بل ضرورة إنسانية عالمية. العراق لديه الفرصة ليكون هذا المثال، لكن الأمر يتطلب شجاعة سياسية ورؤية استراتيجية طويلة المدى.

خاتمة: السؤال الذي لا مفر منه

العراق اليوم يقف على مفترق طرق تاريخي. مقعده المضمون في مجلس حقوق الإنسان ليس مجرد إنجاز دبلوماسي، بل اختبار وجودي لهوية البلد ومستقبله. السؤال ليس ما إذا كان العراق سيحصل على المقعد - فهذا محسوم - بل ماذا سيفعل به.

هل سيكتفي بإضافة لقب جديد إلى سجله الدولي، أم سيستخدمه كرافعة للإصلاح الداخلي؟ هل ستبقى العضوية مجرد "ديكور دبلوماسي" أم ستتحول إلى "ثورة هادئة" في طريقة تعامل الدولة مع مواطنيها؟

المعادلة واضحة: إما أن يترجم العراق نقاطه الرقمية إلى إصلاحات ملموسة تلمسها الأرملة في البصرة والمعتقل في أبو غريب والناشط في النجف، أو يبقى مجرد "بطل في الجداول" وعاجزاً في الميدان.

التاريخ سيحكم، والشعب العراقي ينتظر. والعالم يراقب. في هذه اللحظة بالذات، عندما تتقاطع الفرصة مع المسؤولية، يمكن للعراق أن يختار: إما أن يكون جزءاً من المشكلة، أو أن يصبح جزءاً من الحل.

المرآة مزدوجة الوجوه ما زالت تنتظر أن يقرر العراق أي وجه يريد أن يُظهر للعالم، وأي مستقبل يريد أن يصنعه لأجياله القادمة. الخيار صعب، لكنه ضروري. والوقت لا ينتظر أحداً.

"في النهاية، ليست المسألة في أن نحصل على مقعد في مجلس حقوق الإنسان، بل في أن نستحقه."

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الإنسان

سيشغل المستعرض معرض «المماليك الإرث والأثر»، المقام في مُتحف لوفر أبوظبي، بمشاركة المكتبة الفرنسيَّة، ذهنه بالسُّؤال: هل هذا كلُّ ما تبقّى مِن القرون الثَّلاثة التي حكمها المماليك (1250-1517م)، بمصر وسورية وفلسطين والحِجاز، نفائس جُمعت مِن متاحف متفرقة، ومقتنيات مراكز وخزائن شخصيَّة؟ والجواب عند الجاحظ (ت: 255هج).

قال بعنوان «طمس آثار الأمم السَّالفة»: «والكتب بذلك أولى مِن بنيان الحجارة، وحيطان المدَر، لأنَّ من شأن الملوك أنْ يطمسوا على آثار مِن قَبلِهم، وأن يُميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السّبب أكثر المدن، وأكثر الحصون...» (الحيوان). غير أنَّ الجاحظ لم يعش عصر المكتبات، ليرى ما دمره المنتصرون مِن خزائن المهزومين، وتلك قصة طويلة.

طغى الاهتمام بالتّاريخ السّياسي، مِن تعاقب الممالك والحروب، على تاريخ الفنون، وما دُون في كتب المتأخرين، مَن فنون الأولين، ما هو إلا نتفٌ ومحاشٍ حُشيت بها كتب التّاريخ العام، ويبقى الأثر هو الشَّاهد الأقوى، وهذا ما ذهب إليه معروف الرُّصافيّ (ت: 1945) عندما قال: «فإن ذكروا النُّعمانَ يوماً فلا تثق/ بأكثرِ مما قال عنه الخوَرنقُ» (الدِّيوان، ضِلال التَّاريخ)، وقصرا النُّعمان: الخورق والسَّدير، أشهر مِن أنْ يُعرفا. هذا ما يوحي به عنوان ومضمون كتاب أبي الرّيحان البيرونيّ (ت: 440ه) «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، وكم هو الباقي مِن تلك القرون، قد لا يُعادل «عشر معشار» الواقع.

أليست عجيبةً أن يعلو الزَّمن بأسرى الحروب، والمباعين بأسواق النّخاسة، كعبيد خاصين، ويتربوا بلا أسماء آباء، تتدرّج بهم المراتب، ليكونوا سلاطين، يصدون أعتى الجيوش (المغول) في معركة «عين جالوت» (1260)، ويتسيّدون، حتى هزيمتهم في «مرج دابق» (1516) على يد قوى جديدة (العثمانيون)، هذا ما يُقرأ في معرض آثارهم؟

تروي الآثار المعروضة جانباً آخر مِن سلاطين المماليك، طسوتاً مزركشة مذهبة، ومباخرَ، وأباريقَ أنيقة، وسيوفاً، ودروعاً، تتعجب كيف كان المقاتلون بالسّيوف يتحملون وزن الحديد أو النّحاس وهم يلبسونه ثياباً، والخوذ الحديدة، يوم كانت الحروب تروي شجاعة الشّجعان، قبل الصَّواريخ والمسيرات، التي يطلقها المحارب وهو مُسترخٍ على أريكة، وسجاد تظن أنّ نقشه مطبوعٌ بالطابعات، لكنها فنون الأيدي المتناهية الدِّقة، حياكة السجاجيد والأقمشة، والحفر على الذَّهب والفضة والنُّخاس.

تكشف لك الآثار المعروضة الصِّلات بين الشّرق والغرب، تبادل الهدايا، ولوحات تُظهر لقاءات السياسة والتّجارة والمعرفة، بين البندقيّة والقاهرة ودِمشق، وحيث يمتد السُّلطان المملوكي.

نرى مخطوطة «النُّجوم الزّاهرة»، خُطت بعد وفاة مؤلفه بسنتين، ابن تغري بردي (ت: 874ه) أحد أبناء المماليك، لم يشغل منصباً كأبيه، فنشأ نشأة علميّة وصَنّف تاريخه الفاخر، ليصدر مطبوعاً بـ (16) مجلداً. كانت مخطوطة تاريخ ابن خلدون (ت: 808ه) إحدى المعروضات، الذي ضمنه مقدمته و«التعريف» (سيرته المثيرة). حوى المعرض مخطوطات تُعدّ مِن الطَّرائف ككتاب ابن حَجلة (ت: 776ه) «سُكر ذات السُّلطان» (وعاء شراب السُّلطان).

كان المماليك مِن العبيد الخاصين بالأيوبيين (569- 648هج)، ولما ترقّوا إلى قيادات عليا، انقلبوا عليهم، وأبقوا التقليد الأيوبي بوجود خليفة عباسي بلا صلاحيات، حتَّى جاء العثمانيون وقضوا عليهم وعلى الخلافة الشّكليَّة، لكن لم يتمكن الأيوبيون والمماليك والعثمانيون مِن إعلان الخلافة، لأنَّها قرشيَّة.

ظلت آثار المماليك تتداول في المزادات، قبل أن تضمها المَتاحف العالميّة، وأصبحت الآن خارج التّثمين. هذا ما سلم منها، وكم تُلف وسُرق. نستعين بأحمد شوقيّ (ت: 1932)، متحدثاً عن سرقة الآثار، ومَن أسسوا ثروات بها، قال ضمن نونيته العظيمة: «أَمَن سَرَقَ الخَليفَةَ وَهوَ حَيٌّ/ يَعِفُّ عَنِ المُلوكِ مُكَفَّنينا» (الهاشميُّ، جواهر الأدب).

ما نراه أن تُشجع مثل هذه المعارض، من تواريخ السَّلطنات كافة، أسلوباً آخر في قراءة التّاريخ، لا يؤخذ إرثها الفني والثّقافي بجريرة تاريخها السياسيّ، فما شاهدناه في لوفر أبوظبيّ لم يكن صُناعه السّاسة، إنما الحرفيون والمثقفون، لا يخص عقيدةً ولا ديناً ومذهباً، وكم منهم ظُلم وافترسه ساسة تلك العهود؟ إنه تاريخ آخر.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

حين ننظر إلى صفحات التاريخ؛ من ملوك وأباطرة، إلى رؤساء، حكّام عسكريين وزعماء حركة سياسية، غالباً ما نجد صورة مدهشة: شعوب مخلصة لزعماء فشلوا اقتصادياً، سياسياً، إنسانياً، لكنهم ظلّوا في السلطة، وحافظوا على ولاء كبير من الناس. لماذا يحدث هذا؟ ما هي القوى العميقة التي تجبر المجتمعات على الإبقاء على ولاء يبدو عند الكثيرين غير عقلي أو حتى مدمر؟ وكيف يُمكن، مع الزمن، أن تتخلص الشعوب من هؤلاء الزعماء ويصبح الوضع أفضل؟

العناصر النفسية والاجتماعية للولاء غير العقلاني

1. الهوية والانتماء

إنّ البشر كائنات اجتماعية أولاً؛ يبحثون عن الانتماء، عن جماعة يشعرون أنها “نحن”، لها قيم مشتركة، لغة مشتركة، تاريخ مشترك. الزعيم، حتى لو كان فاشلاً، غالباً ما يُصاغ في الوعي الشعبي باعتباره رمزاً لهذا الانتماء؛ هو الذي يدافع عن الكرامة، عن الهوية، أو من يُجسد مقاومة ضد قوى أخرى — سواء كانت أجنبية أو داخلية.

عندما تتماهى هوية الفرد مع هوية الجماعة أو القومية التي يقودها الزعيم، يصبح النقد للزعيم نقداً للذات، للهوية. الهجوم على الزعيم يُحسّ به كإهانة للكيان الجماعي. هذا يضع حاجزاً كبيراً أمام العقل والنقد الموضوعي.

2. الأمل المعقود – الخوف من فقدان كل شيء

حتى الزعماء الفاشلون يوهمون الناس بالأمل — وعد بتحسين، بتحول، بتحقيق إصلاح. ولعلّ هذا الأمل هو ما يبقيهم: الناس تميل إلى الانتظار، إلى الإيمان بأن الكوارث ستكون مؤقتة، وأنّ الزمان سيأتي الذي يترجم الوعود إلى أفعال.

في المقابل، الخوف أيضاً قوي جداً: من الفوضى، من الفراغ، من بدائل مجهولة أو ربما أسوأ. من استبدال زعيم فاشل بزعيم لا نعرفه يمكن أن يكون مصير الشعب معه أكثر ضبابية وخطورة. غالباً ما يستخدم الزعيم الفاشل سلطاته أو شبكاته ليزرع الخوف: من الانقسام، من العنف، من العقاب، من الاستهداف، ومن “الأعداء”.

3. الشرعية الرمزية والمؤسساتية

حتى عندما يفشل الزعيم في إدارة الدّولة بفعالية، قد يحتفظ بشرعية ما — شرعية تستند إلى التاريخ، إلى المؤسسات، إلى التقاليد، أو إلى القوانين الموضوعية.

أحياناً يكون الفشل في الأداء اليومي لا يُوازنه افتقار الزعيم للقدرة على أن يُظهِر نفسه كممثل شرعي للمجموعة. كما أن المؤسسات (الجيش، المخابرات، البيروقراطية، الجهاز القضائي، وسائل الإعلام) كثيراً ما تستمر في إعطاء الزعيم مواقع قوة، حتى عندما تضعف فعاليته، مما يُبعد بدائل محتملة أو يُقوّض القدرة على التغيير.

4. تحوّل القيادة الفاشلة إلى “العدو الخارجي”

عندما يتراكم الفشل، كثير من الزعماء يميلون إلى تصوير النقد والتحفظات على أنهم مؤامرة، خيانة، تدخل خارجي، أو أعداء داخليين. هذه الاستراتيجية تحوّل النقد الموضوعي إلى عمل شيطنة لدى كثير من الناس، فتُلهب المشاعر وتحشد الدعم بواسطة إحساس بأن الزعيم هو المظلومة أو الضحية، وأن من يعارضونه ليسوا مجرد معارضين بل خصوماً للهوية أو للأمن.

التاريخ مليء بصور الولاء غير العقلاني… وأيضاً بصور التحرّر والتخلص

أمثلة على الولاء رغم الفشل

- الرومان في مراحِل انهيار الإمبراطورية: غالباً كان الإمبراطور يُعتبر رمز الاستمرارية، الاستقرار، حتى عندما كانت الدولة تنهار من الداخل، والاقتصاد يتداعى، الحدود تُنتهك، الفساد يتفشى. الناس، من الطبقات المختلفة، كانوا يتشبّثون بالولاء كنوع من الانتماء للحضارة، أو خوف من المصير الغامض البديل.

- أنظمة استبدادية حديثة: كثير منها فشلت في توفير الصحة، التعليم، العيش الكريم، أو حتى الأمان، لكن شعبها بقي يدعمها، إما بخوف، إما بإيمان بأن البديل سيكون أسوأ، أو لأنهم تربّوا على فكرة أن الزعيم هو الضامن للبقاء، وأحياناً لأن المعارضة محجوبة، يُلاحق منتقدوها، ولا توجد مساحة حرّة للمنافسة الحقيقية.

أمثلة على التحرّر والتخلص

لكن التاريخ أيضاً مليء بصور الانهيار، والتغيير، ووضوع الوفاء الجمعي للزعيم الفاشل الذي ينكسر. أمثلة:

- سقوط الأنظمة الاستبدادية في الانتفاضات الشعبية، الثورات، أو بعد حروب أهلية، حدثت حين بلغ القمع والفشل ذروته، وتراكب كل من الأمل في التغيير مع انتفاح الفرصة (مثلاً: ضعف الأجهزة الأمنية، انشقاقات عند القمة، تأثير الإعلام أو الشبكات الاجتماعية…).

- الإصلاحات الداخلية: قد يتم استبدال الزعيم أو تقييده عبر الضغوط الداخلية ، النخب، الجيش، السلطات القضائية، أو عن طريق التغيير الديموقراطي حين يصبح الولاء مكلفاً بصورة لا تُطاق: انهيار اقتصادي، أزمات حياة يومية، فقدان الحياة، موت جماعي، جوع.

كيف يصبح الوضع أفضل بعد التخلص من الزعيم الفاشل؟

عندما يُنجز التغيير (وطبعاً ليس كل التغيير ينجح)، فإن بعض النتائج التي تُحققها الشعوب تحسّن الحياة:

- تحسين الأداء الحكومي: عندما يتغيّر القائد أو يُحاسب، تُصبح المؤسسات أكثر مسؤولية، تُصبح المواجهة السياسية أكثر شفافية، وقد تنفتح مساحة للنقد البناء والتجديد.

- حرية أكبر في التعبير والمشاركة: غالباً ما يكون القمع وحرمان الحريات من سمات الزعماء الفاشلين الذين يُخاف من سقوطهم؛ بعدهم، تنتعش المعارضة، وسائل الإعلام، المجتمع المدني.

- إعادة توزيع السلطة والموارد: الزعماء الذين احتكروا السلطة في أيديهم غالباً يُخلّون جزءاً منها بعد التغيير ، سواء بمؤسسات قيّمة مثل القضاء المستقل أو الانتخابات النزيهة أو مؤسسات رقابة.

- إحياء الأمل والثقة: أحياناً يكفي أن تُعطي الشعوب لنفسها الفرصة لأن تُعبر عن رأيها، أن تُغيّر، حتى عندما لا يتغيّر كل شيء ، الشعور بالوكالة، بكون الفرد جزءاً من صنع القرار، يحرّر ويُنعش المجتمعات.

الخوف والأمل كمحركين أساسيّين لسلوك غير عقلاني

إنّ الاثنين: الخوف والأمل، والتقلب بينهما، يشكلان طوق نجاة، أو حلقات دامية، في ولاء الجماهير:

- الأمل يدفع الناس إلى التماسك، إلى الانتظار، إلى التسامح مع الأخطاء، إلى البحث عن تفسير يُرضي النفس بأن الفشل ظرفي، مؤقت، أن الزمان كفيل بتصحيح الأخطاء إن ظلّ الزعيم موجوداً.

- الخوف يجعلهم يخافون من البديل، من الفتنة، من الانفلات، من الاستهداف السياسي، من الجوع، من الحروب، من الفقر. إذا سقط الزعيم الفاشل، قد يسقط معه الاستقرار أو ما تبقى منه، قد تظهر الفوضى أو تُستغل من قوى أخرى أضعف.

-غالباً ما تُستخدم رمزية الخوف: الإشاعة أن من يعارض الزعيم هم “أعداؤه”، أن المعارضين خونة، أو أنهم ينتمون لقوى أجنبية. فتُكبت الأصوات المطلوبة للنقد، أو تُخنق الحركات الإصلاحية، حتى قبل أن تبدأ.

- الأمل الخفي – أمل التغيير، أمل الإصلاح – موجود دائماً، يُحرّك مقاومة داخلية، سواء بالمعارضة الديمقراطية أو بالاحتجاجات أو بضغط الرأي العام أو الضغوط الدولية.

 الخاتمة

إن ولاء الشعوب لزعماء فاشلين ليس ببساطة “غباءً” أو “سذاجةً” من جهة الشعوب، ولا هو بالضرورة استسلامٌ مطلق. هو خليطٌ معقّد من النفسيات (هوية، انتماء، الأمل والخوف)، من الهيئات المؤسسية، من الظروف التاريخية، من القيم المجتمعية، ومن استراتيجيات الزعماء الذين يعرفون كيف يستثمرون في هذه العناصر.

والدروس التي يُعلّمنا إياها التاريخ – السقوط الذي لا مفر منه للأنظمة التي لا تُجدّد نفسها، والطموح المستمر للشعوب نحو القيادة التي تستحقها – تتيح لنا أن نرى: أنه لا بدّ من اللحظة التي يُصبح فيها الولاء عبئاً، فيُتخلص منه الناس، وتنكسر القيود الرمزية، وتبدأ حقبة جديدة يُبنى فيها على الشفافية، والعدالة، والمشاركة.

***

الكاتب: ذ يونس الديدي كاتب مغربي مختص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

مفكرون يهود ضد الصهيونية (3)

يمثل يعقوب إسرائيل دي هان علامة فارقة في سياق النقد الموجّه إلى الحركة الصهيونية، إذ عبّرت تجربته عن إنعطافة مركزية تكشف عن طبيعة الحركة الصهيونية وتوحشها ضد اليهود المعارضين لها، فضلاً عن غيرهم، وقد ولد دي هان في قرية سميلده في هولندا عام 1881م لأسرة يهودية كبيرة وفقيرة أرادت له تعليماً يهودياً، فدرس على الطريقة اليهودية التقليدية، ثم إنضم في عمر الرابعة عشر الى المدرسة الوطنية للمعلمين، وبعد التخرج منها واجه مشاكل في إيجاد عمل له، ولاحقاً حصل الى وظيفة كمعلم، بالاضافة الى أنه سعى لإكمال الدراسة في القانون، فقُقبل في كلية الحقوق عام 1903م؛ وبسبب إهتماماته الأدبية كتب روايته الأولى (Pijpelijntjes) (أنابيب صغيرة) الصادرة عام 1904، والتي تتكلم عن علاقة بين شخصين في سياق مثلي شاذ داخل حي دي بايب الفقير في مدينة أمستردام الهولندية، الأمر الذي أثار ردة فعل كبيرة عليه وقتها، فطرد من عمله، وقاطعه المجتمع المحيط، ولاسيما نحن نتكلم عن مدة كانت فيها الثقافة الأوربية ما تزال متمسكة نسبياً بالقيم الإجتماعية الصحيحة بخصوص مسألة المثلية وإثاراتها السقيمة(1).

وقٌبيل هذه المدة، وخلالها، بدأت الميول اليسارية تتعاظم داخل عقلية دي هان، وكان كلما يقترب من النزعة اليسارية كلما كان يبتعد عن اليهودية وتعاليمها، وبعد عام 1905م عاد يعقوب دي هان إلى الإهتمام بهوديته، بدأ بتعلم اللغة العبرية، وإنضم الى الإتحاد الصهيوني الهولندي بوصفه فرعاً لمنظمة الصهيونية العالمية الساعية إلى البحث عن وطن يجمع اليهود، وفي عام 1914م وظّف قريحته الشعرية في مشروع اليهودية فنشر ديوانه الشعري بعنوان "الأنشودة اليهودية"(2).

أكمل دي هان دراسته في الدكتوراه في تخصص القانون من جامعة أمستردام عام 1916م، وسعى للحصول على وظيفة الاستاذ في الجامعة إلا انه أخفق في ذلك، ومع أحداث الحرب العالمية الأولى، بدأت تتزايد عنده القناعة في أن الحل الوحيد لمشكلة اليهود وشتاتهم في العالم يكمن في وطن واحد يجمعهم، فقرر الهجرة الى فلسطين التي كانت وقتها تخضع لسلطة الانتداب البريطاني، وفي عام 1917م ستمنح هذه السلطة المحتلة للأراضي الفلسطينية وعداً عُرف بوعد بلفور من أجل تحقيق غاية إقامة الوطن اليهودي في أرض ليست لهم!

قدّم دي هان طلباً من أجل السفر الى فلسطين، إلا أن رئيسها حاييم وايزمان (1874-1952م) لم يتحمس لطلبه، خاصة أن الأخير كان يبحث عن الشباب الرياضيين القادرين على القتال،  لكن يسرائيل زانغويل (1864-1926م) الكاتب الإنجليزي الصهيوني، الذي تنسب له مقولة “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” أقنع وايزمان بقبول طلبه، ويُنقل أن دي هان وصل إلى القدس بعد رحلة شاقة بين روما وباريس ولندن ثم القاهرة التي انطلق منها إلى فلسطين، وحين وصل كان الجو ممطرًا مضطربًا، ولم يستقبله اليهود في القدس بشكل جيد، وهو الذي جاء إليهم حالمًا بالأخوة الصهيونية التي كان يتمناها.

في البداية كان دي هان متعاطفاً مع الصهيونية، باعتبارها حركة قومية تقدم للشعب اليهودي فرصة وطنية. لكنه سرعان ما ابتعد عنها، خصوصاً بعد احتكاكه بالمجتمع اليهودي الأرثوذكسي في القدس، إذ تأثر بالحاخام يوسف حاييم سونينفيلد (1848-1932م) الذي أسس حزب أغوادات يسرائيل عام 1921م، كحزب يمثل أفكار الحريديم، يتفرع عن حركة أغوادات يسرائيل اليهودية في أوروبا، والرافضة للصهيونية، واختار أن يكون يعقوب دي هان مسؤولًا عن العلاقات الخارجية للحزب ومتحدثًا باسمه، وهكذا صار يعقوب دي هان عدوًا للصهيونية، بعد أن كان متحمساً لها(4) ، وهناك نص مهم ينقله ليوبولد فايس (1900-1992م) اليهودي الذي أسلم وسمى نفسه (محمد أسد)، في كتابه “الطريق إلى مكة”، والذي كان قريبًا ورفيقًا ليعقوب دي هان وقت وجوده في فلسطين، ينقل أسد قائلاً: (نظر إليّ الدكتور دي هان متسائلًا: أتظن أن التاريخ ليس إلا سلسلة من المصادفات؟ أنا لا أظن ذلك، لم يكن بلا غاية أن جعلنا الله نفقد أرضنا ويبعثرنا؛ لكن الصهاينة لا يريدون أن يعترفوا بهذا، إنهم يعانون من نفس العمى الروحي الذي أدى إلى سقوطنا، وإن ألفي عام من المنفى والتعاسة اليهودية لم تعلّمهم شيئًا. وبدلًا من أن يحاولوا فهم الأسباب العميقة لتعاستنا، تراهم الآن يحاولون تجاوزها، كما لو كان الأمر ممكنًا، ببناء “وطن قومي” على أسس وفرتها سياسات القوى الغربية؛ وفي عملية بناء هذا الوطن القومي يرتكبون جريمة حرمان شعب آخر من وطنه)(5).

إن وجهة نظره هذه أججت داخله قلقاً من الصدام ضد العرب، ورغبته في الحفاظ على الطابع الديني لليهودية بدلاً من تحويلها إلى مشروع قومي سياسي، وأصبح دي هان من أشد معارضي الصهيونية السياسية منتقداً مشروعها القومي باعتباره تهديداً لمستقبل اليهود في فلسطين ولعلاقاتهم مع العرب، وقد كان يكتب مقالات صحفية ناقدة، إذ عمل دي هان في فلسطين مراسلاً لجريدة هولندية تَصدُر في أمستردام، كما عمل أيضاً لجريدة ديلي إكسبريس اللندنية. وكان يلقي محاضرات في كلية القانون التابعة للحكومة في القدس، ويرسل رسائل إلى شخصيات سياسية ودينية، محذراً من الكوارث المقبلة إذا استمر المشروع الصهيوني، وقد سعى الى التنسيق مع الشريف الحسين بن علي (1853-1931م) وابنيه عبد الله (1882-1951م) وفيصل (1883-1933) من أجل إيجاد تسوية عربية- يهودية تتضمن هجرة يهودية غير مشروطة يعيش فيها اليهود ضمن دولة فلسطين مقابل معاداة الصهيونية والعمل على بذل الجهود الدبلوماسية مع الجانب البريطاني بُغية سحب وعد بلفور وإلغائه، وما يترتب على ذلك من سحب البساط من المشروع الصهيوني القائم على إقامة كيان صهيوني في الأراضي الفلسطينية، إذ كان المسارات العمل الرئيسة التي إعتمدها دي هان هو تحويل الممثلية الرسمية لليهود من الحركة الصهيونية ونقلها الى الجانب الحريدي المعبر عنه بحزب أغودات، الأمر الذي جعل منه خصماً خطيراً للحركة الصهيونية الناشئة، فعمدت إلى تشويه سمعته عبر تركيز ماكنتها الإعلامية على روايته ذات الميول المثلية، وتوظيف كل ما من شأنه أن يسهم في تقزيم الدور المحوري الذي ان دي هان يشتغل عليه في مناهضة الحركة الصهيونية ومشروعها.

وفي 30 يونيو 1924 اغتيل دي هان في القدس على يد عناصر من ميليشا الهاغاناه الصهيونية، في وقتٍ كان يسعى خلاله الى السفر الى بريطانيا من أجل تطبيق الاتفاق الذي عقده مع الجانب العربي، فقررت الصهيونية إغتياله بعد أن اعترض طريقه إثنان من رجال الهاغاناه وقتلاه في عملية عُدّت أول عملية اغتيال سياسي صهيوني موجه ضد يهودي معارض، وقد شكلت هذه الحادثة علامة فارقة في تاريخ الصراع الداخلي بين اليهود أنفسهم، وأبرزت هشاشة التعددية داخل المشروع الصهيوني، كما أنها كشفت عن توحش هذا المشروع داخل الفضاء اليهودي، فضلاً عمن هو خارج الفضاء، ولنا أن نربط الأمر بالجرائم غير الإنسانية التي أُرتكبت وتُرتكب في قطاع غزة،  وفي عموم الأراضي الفلسطينية، ضد الابرياء العُزل من شيوخ ونساء وأطفال.

وفي سياق التعرض الى الجانب الفكري في المواقف التي تباناها يعقوب دي هان إتجاه الحركة الصهيونية يمكن إيراد أبرز الانتقادات التي وجهها لها:

1-  ترفض الحريدية، وأبرز ممثليها السياسيين(6) حزب أغودات الجذر الفكري السياسي الذي تقوم عليه الحركة الصهيونية، والقائم على التدخل البشري في العودة الى أرض الميعاد في المعتقد اليهودي، إذ أن مبدأ العودة الى صهيون (أرض إسرائيل) يجب أن لا تتم عبر التدخل البشري السياسي، وإنما يتم ذلك من خلال الارادة الالهية والمشيئة الدينية التي تقرر ذلك بمجيء المسيح المنتظر في المعتقد اليهودي.

2-  نقد الحركة الصهيونية القائمة على تفعيل مشروع إستبدال الدين بقومية سياسية، أي في تحويل المعتقدات الدينية الى اجندة سياسية تفقد هذه العقيدة ركيزتها الروحية بدرجة أساس، إذ أن ما يقوم به الصهاينة هو إستغلال المقولات الدينية وتجييرها من أجل مشروع سياسي.

3-  رفض ونقد السياسة الصهيونية التي تمارسها في فلسطين، وأكاذيبها في المبالغة في أعداد المهاجرين اليهود الى فلسطين، وفي سياستها الصارمة القائمة على معالجة المشكلة اليهودية "المسألة اليهودية" عبر الصِدام مع الفلسطينيين مما ينتج نتائج عكسية لا تخدم الطرفين.

4-  السعي من أجل تحويل التمثيل الدبلوماسي الدولي والشرعية الإجتماعية-السياسية أمام الدول، ولاسيما بريطانيا دولة الإنتداب وقتها في الأراضي الفلسطينية، والمنظمات الدولية الى صالح تيار الحريدية، وإثبات أن الأخير هو الممثل الحقيقي لليهود وعقائدهم وتجمعاتهم.

5-  الدعوة الى أهمية قراءة التأريخ اليهودي عبر الاستفادة من إشكالية العقيدة اليهودية وقضية أرض الميعاد بطريقة أكثر قدرة على التعايش مع الاخرين، بخلاف النظرة الصهيونية الابتسارية القائمة على الفتك والإبادة والإقصاء، كما أنه اعتقد ان من الضروري العمل على الاستفادة من التأمل في التأريخ اليهودي عبر عدم تحويل المأساة الخاصة باليهود الى مأساة متعلقة بشعب آخر، أي الشعب الفلسطيني، من هنا كان دي هان يرى أن معالجة المشكلة/المسألة اليهودية يجب أن لا تتم بتسبيب مشكلة أخرى.

***

د. محمد هاشم البطاط

.....................

المصادر:

(1) The Multiple lives of Jacob Isreal de Haan, Karene Sanchez Summerer and others, 1st  Edition , University of Groningen Press, Netherlands, 2024, p15 and after.

(2)Ibid p22

(3) محمد حسين الشيخ، يعقوب اسرائيل دي هان، اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فإغتاله الصهاينة، على الانترنت: www.noonpost.com

(4) المصدر السابق.

(5)Muhammed Asad, The road to Makkah,Rreprinted Edition, Islamic Book Service, New Delhi 2004, p99.

(6) هناك أكثر من إتجاه داخل التيار الحريدي اليهودي، منها ما يرفض الانخراط بالمطلق في العمل السياسي داخل النظام السياسي للكيان الصهيوني، ومنها ما يقبل بالمشاركة السياسية المشروطة، أي في المجالات التي لا تتعارض مع المرتكزات العقائدية والتعليمات الدينية التي تتبناها الحريدية. اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فاغتاله الصهاينة

 

حدث ان وقعت الانقلابيه الالية افتتاحا في موضع بعينه من المعمورة، ميزته بين صنف المجتمعية الذي هو منه، انه الاعلى ديناميه بحكم "ازدواجيته" الطبقية غير المدركة في حينه، وقد صارت مدركة بفعل الانقلابية الاليه، مع ماكان سيرافقها من توهمات تعميمية من نوع افتراض "طبقية" المجتمعات كافة، الامر المجافي لابسط الحقائق مع اشتمال المجتمعات  تشكلاعلى " مجتمعات اللادولة" كما في امريكا قبل الغزوالاوربي، وامريكا اللاتينيه، وبعض من افريقيا واسيا، عدا الجزيرة العربيه واستراليا، هذا مع مجتمعات الدولة والتي منها الطبقية اعلاها ديناميات، مقابل الاعرق الاضعف ديناميات، النيليه، وصولا للاهم الاصل والبدء "الازدواجي المجتمعي" الرافديني، حيث الدورات والانقطاعات هي الناظم كقانون للعملة التاريخيه ومساراتها الذاهبه نحو "اللاارضوية"، غرض ومنطوى العملية المجتمعية "العقلي"، وليس الشيوعية كما قررت الطبقية في حينه، باعتبارها النموذج الازدواجي الاصطراعي التفاعلي الادنى، والتمهيدي الانتقالي.

 ليس الانقلاب الالي تحول من اليدوية الى الاليه، فالاله هي دالة انقلاب مجتمعي يحل على النوع المجتمعي من الصيغة والحالة التفاعلية اليدوية  الارضوية الجسدية الحاجاتيه، الى الصيغه الغرض والهدف الكامن في التفاعلية المجتمعية العقلية، وهنا تاخذ الالة موقعها كوسيلة تقتضيها ضرورة تاريخيه مصممة ضمن المسار المجتمعي، تلعب هي وشكل التفاعل الذي ينتج عنها ابتداء في الموضع الذي تنبثق ضمنه، دول العتبه الضرورية لتحفيز العملية التحولية الانقلابيه الكبرى، تدخل ضمنها كل التوهمات والاعتقادات الابتدائية المجتمعية والتصورية، مع النموذجية الكيانوية، السائرةعمليا وواقعا الى الانتفاء وانتهاء الصلاحية بناء لفعل الاله.

  وهنا يتمثل موقع القفزة العقلية الضرورية المواكبه والموافقه للحقيقة الانتقاليه، وفي حين تكون الرؤية الاولى الارضوية الطبقية معنية بمقاربة المسالة الاجتماعية من منظورها المحدود بحدود ارضويتها وجسديتها، فانها تعيش طورا من التفاعلية الناقصة الشامله للمعمورة  تتحور معها الوسيلة الانتاجية مبتعدة عن اليدوية تكنولوجيا،  وتتراكم المسببات  والعناصر المحفزة للنطقية العليا، الدالة على اللحظة التاريخيه،  فاذا بالمسالة الاجتماعية ليست تعرفا على  الطبقات وصراعها، وكونها معطى ماثلا للقراءة والبحث، بل كشفا للنقاب عن الحقيقة  الغائبة المضيعة على مر التاريخ المجتمعي بفعل القصورية العقلية النوعيه، لنغدو بازاء حقيقة الازدواج العليا الاساس بين " مجتمعية لاارضوية" مقابل " مجتمعية ارضوية" هي مجتمعية الانتاجية اليدوية، الموصوله بالمكونات الحيوانيه الحاجاتيه الجسدية.

  وليس مايشار له اعلاه بخال من الاحتمالات المتعدية لمجرد التوهم والضلاله العادية، او بلا مترتبات خطرة يمكن ان تكون كبرى، تقع على كاهل الوجود البشري وممكنات الاستمرار البشري الحي، بالاخص بسب التفارقية بين الممكنات العقلية البدائية بالاخص المجتمعية، مع الادعائية " العلمية" و "الاطلاقيه"، وعلى وجه التعيين بالذات اثر الاله في الكينونه المجتمعية،  ومايؤدي له حضورها من انقلابيه تفاعليه، من ( الكائن البشري/ البيئة) بالدرجة الاساس الى ( الكائن البشري / متبقيات عمل البيئة/ الاله) النافية لكل مكونات المجتمعية  السابقه، ومنها " الطبقية"، باعتبارها ظاهرة يدوية بيئية، مع بقاء العقل الارضوي الطبقي مصرا على اعتماد الثوابت اليدوية في النظر المجتمعي، ومايتولد عن السيرورة الاليه التكنولوجية من تفارق بين طبيعة وسيلة الانتاج "التكنولوجيا العليا العقلية" مابعد الانتاجية الحاجاتيه، ومايعتبر على انه مجتمعية هي من المتبقيات الخيالية النكوصية، عن مجتمعية ماعاد لها من وجود فعلي، وماعادت قابلة للاستمرار، ما يضع اجمالي المجتمعات، اما محال اضطرابيه  خارج الوصف بناء للمعتمد من مقاييس، ما يجعل من الانتفاضة العقلية العظمى المنتظرة، عملية مزدوجه الاثر ،مابين الانقاذ من الفناء، وضمان الاستمرار وفقا لمقتضيات الطبيعة والوجود الذاهبة الى "المجتمعية العقلية".

  وليست منطقة الشرق المتوسطي، موضع اللاارضوية التاريخي الاصل، ولن تكون خارج سياقات واحكام العملية التاريخيه الذاهبه الى مابعد ارضوية جسدية، فالمجتمعات الشرقية والغربيه  خارجها، تمارس رضوخا لاحكام الاليات المجتمعية ومبتغياتها، الانصبابية على الشرق الاوسط، كما فعلت روما ومقابلها فارس، ليتلقيا في الحصيله عملية اختراقية مضادة لااارضوية، تجلت في البداية في  "الابراهيمه" الباقية فعالة  الى اليوم، دالة صارخة على الازدواج المجتمعي، من التعبيرية المجتمعية اللاارضوية بصيغتها الاولى الحدسية النبوية بلا ارض ولا كيانيه، وهو مالا تتبينه اطلاقا الارضوية، وخصوصا اليوم مع الاله وفعلها وعودتها الثانيه للانصباب هذه المرة من ضمن عمله انتشار وغلبة عامه كوكبيه، لتوجد كما في الانصباب الاول الاسباب والدوافع الضرورية لانبثاق الرؤية الكونية العظمى المنتظرة، المؤجله بصيغة اللاارضوية "العلّية" كابراهيمة ثانيه،  فعلها الراهن انقلابي تحولي مجتمعي بالقياس الى الاول الاصطراعي في زمن الغلبة الكلية للارضوية، مع مكان من  الافتقار  الكلي للوسيله المادية التحوليه.

 تاتي الرؤية الكونية اللاارضوية لتلتقط الصيغه العليا من الاله "التكنولوجيا العقلية"، لنصبح امام انقلاب اعقالي ظل غير متحقق، ولا بالامكان الاقتراب منه، لنتعرف على "الانقلاب المجتمعي العقلي" مضمر واساس الوجود المجتمعي، وغايته، باعتبار الكائن البشري "الانسايوان" حالة انتقال بين الحيوان و "الانسان/ العقل"، المتخلص من متبقيات الحيوانيه، ليتراجع ساعتها حضور وفعل المحطة الاولى من الانتقالية المجتمعية، مع توهماتها الاليه ومايصدر عنها من ممكنات ابتدائية محدودة  بحدود  وسقف الارضوية، وبالاساس من اسباغ للدلالة والمعنى المترتب على ظهور الاله، مع رسوخه الشائع بغض النظر عن محدوديه ولاانطباقه على اللحظة ومنطوياتها.

 لاوجود لمايعرف ب "علم الاجتماع" بالصيغة والشكل المتعارف عليه حتى اليوم، فالمطلوب معرفيا وبحسب مقتضيات اللحظة التاريخيه  وضرورتها، هو البحث في النوع المجتمعي، وتعدي الاكتشاف الاولي" للطبقات" الذي كان هو الاخر خارج الادراك حتى القرن التاسع عشر، ذهابا الى "الازدواج المجتمعي" ومترتباته، والاليات التي تنتظمه، وغرضيته القريبه من التحقق، بعد طول الزمن المنقضي مع القصورية العقلية البشرية المستمرة اليوم، والتي ظلت عاجزة عن اكتشاف حقيقة الظاهرة المجتمعية، ومقاصدها، والقوانين التي تحكم سيرورتها التاريخيه، الامر الذي شوه عند اللزوم وفي اللحظة المقررة، طبيعة الحدث التحولي الانقلابي الحاصل وتسميته.

***

عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم