آراء

آراء

أفضل من يقيم طبيعة الديمقراطية هم أهل البلد وليس مؤسسات أو هيئات أو مقيمون من غير أهله، أي أولئك الذين يتفاعلون ويتأثرون يوميا بمجريات وقواعد السلوك الديمقراطي وإجراءاته القائمة في مؤسسات الدولة، وطبيعة تلك الإجراءات المتخذة لعلاج المشاكل التي تحددها اعتراضات وشكوى الناس واحتياجاتهم.

مثل هذا التقييم يمثل الحلقة الأهم لشرعنة العلاقة بين السلطة والشعب. فهو يؤدي إلى تبسيط المشاركة الجماهيرية في الكشف عن المميزات الإيجابية لأعمال السلطة، وأيضا إظهار العيوب التي تتعرض لها مسيرة الديمقراطية. ويقدم العون ويساعد على رفع مستوى وعي الجماهير، ويمكنهم في كل مرة من معرفة المعايير التي يحتكم لها التقييم. ويسهم أيضا في تحديد أولويات الإصلاح المرجو لإنجاح مسيرة الديمقراطية.  لذا يخضع هذا المسعى للعديد من الاشتراطات والأسس التي يستعان بها لتقييم المسيرة الديمقراطية.

من أولويات التقييم معرفة العقبات التي تعترض تطبيق المعايير الديمقراطية في علاقة المؤسسات السلطوية بالمنتفعين منها أو من يمسهم يوميا ومباشرة عمل تلك المؤسسات، وما هي المظاهر المميزة للتطور الديمقراطي في التعامل مع المرتبطين نفعيا معها. وقبل هذا البحث في وجود نظام مؤسساتي يدعم حقيقة تمثيل تلك المؤسسات لجمهورها، ومدى قدرة هؤلاء الناس على تحصيل حقوقهم دون مماطلة أو عناء. وهذه العلاقة التبادلية هي من يعطي عملية التقييم مصداقيتها. ويرحل هذا على باقي الفعاليات المؤسساتية الدستورية  للدولة.

الديمقراطية معطى اجتماعي ثقافي يقدم  للناس الضمانات لممارسة حقوقهم وواجباتهم وفق نظام تبادلي مع مؤسسات الدولة، ويبدأ هذا من تعريفهم وإرشادهم عن الكيفية في ممارسة الحق الانتخابي المقام على وفق طرق الشفافية والنزاهة، بعيدا عن الضغوط وفرض الخيارات المحددة. لتكون بالنتيجة وسيلة مهمة  للقبول بحق الجميع بالتداول السلمي للمسؤوليات، وصولا لمبادئ التعامل المتكافئ بين الناس على أساس المساواة بالمواطنة واحترام حرية الرأي وضمانة حق التعبير دون تمييز وانتقائية، وقبل كل ذلك خضوع مؤسسات الدولة لرقابة الرأي العام، وفي المقدمة منه الإعلام غير الحكومي.

إقامة نظام ديمقراطي يستوجب توفر بيئة اجتماعية ثقافية سياسية تساعد وتساهم للقبول بفكرة الديمقراطية، بدءا من تبني رجال السلطة منهجا واضحا وصريحا في تركيبة دولة المؤسسات وفق مبدأ استشارة الشعب ومشاركتهم في اتخاذ القرارات المصيرية، وعندها يمكن الحديث عن تلك الطبيعة،  وعن الشروط الموجب توفرها لمسمى التكوين الديمقراطي في هيكلة الدولة والمجتمع، ابتداءً من وجود أحزاب سياسية بأنظمة داخلية ديمقراطية تؤمن بالتعددية، وتعلن دون ريب، وبلا مماطلة عن قبولها التداول السلمي للسلطة، بعيدا وبالمطلق عن تركيبة التشكيلة المموهة والازدواجية  بشطريها السياسي والمسلح. وعلى أن يتقدم قواعد عملها وجود برنامج سياسي اقتصادي مكشوف ومعرف للجمهور، مثلما مطروح للتداول وسط التنظيم الحزبي.  وعلى أن تتطابق وتتوافق أنظمتها الداخلية مع سنن التشريع الدستوري للبلد. وتعلن دون مماطلة وتمويه عن مصادر تمويلها. وهذا ما يضمن وجود بيئة شعبية تدرك مسؤوليتها، وتتقبل من الحزب أطروحاته، وتساعد على إنضاج وتنفيذ مشاريعه، إن شعرت بحقيقة مساعيه الذاهبة للإصلاح الحقيقي  والديمقراطية.

ولكن ومن خلال مراقبة طبيعة ومجريات البناء الحزبي الداخلي الممارس في العراق، يمكن ملاحظة استحواذ بعض الكتل والأفراد على مصادر القرار ومصادرتهم لوسائل التأثير والنفوذ، مما ينعكس على مشهد السلطة ليتم وسمها بالتمايز والتوزيع غير المنصف للقدرات والثروات، وهذا بدوره انعكس على تركيبة وأداء تشكيلات السلطة نفسها، وتأثيره السلبي في صناعة القرار السياسي السيادي.

منذ التشكيل الأول للسلطة بعد سقوط نظام البعث، لجأت الأطراف الحزبية إلى ما سمي بمصطلح التوافقية في إدارة السلطة، حيث لا يتخذ ويمرر أي قرار ومهما كانت طبيعته ومنفعته  للشعب، دون توافق ورضا القوى السياسية الحاكمة عليه، وهذا يعني التخلي عن أي نوع من أنواع الاحتكام للمعايير الديمقراطية، ومشاركة الجماهير بصنع القرار، بالرغم من وجود برلمان وطني يعال عليه  تشريع القوانين وإصدار النصوص لمعالجة الاختلال .

هناك أيضا وبشكل فج وسافر، تجري عمليات مصادرة واستحواذ مفزع للكثير من الثروات الوطنية والمال العام والسيطرة على أملاك وعقارات الدولة. ويرافق هذا النهب المستمر وغير القانوني،  استعانة ظاهرة بقوى القمع الرسمية والشعبية، المتمثلة بقوى الأمن والمليشيات المسلحة وعصابات الجريمة، وتتسم تلك التعديات بالعنف المصاحب لفقدان الحقوق وإخفاء الأدلة بعيدا عن مساءلة ومقاضاة من القضاء .

ويلاحظ أن هناك عمليات فرض وتدخل سافر بشؤون القضاء لتغيير سير الوقائع وقمع المعترضين أو المطالبين بالحقوق أو تغيير نتائج التحقيق، وهذا ما أعلنه وبشكل سافر عبر تصريح إعلامي أحد أقطاب إدارة الدولة، دون أن يتعرض للمساءلة والحساب،وكأن الأمر بعيد جدا عن السلطة القضائية، ولا يشكل خرقا قانونيا وطعنا بشرعية المؤسسة القضائية والنصوص الدستورية. ولا يقتصر هذا الأمر على تلك الشخصية القيادية، بل هناك غيرها الكثير من المتبجحين والمفاخرين بقدراتهم على خرق القانون وإبطال قرارات القضاء. وهذا يعني بالمطلق عدم خضوع أصحاب المناصب الرسمية والسياسيين لحكم القانون وتحقيقات هيأة النزاهة ومحاسبة القضاء. ويمثل هذا الخرق الفاضح والفعل المستهجن حقيقة ناصعة عن ابتعاد الأحزاب والقوى المشاركة بالسلطة وعدم قناعتها بالنص الدستوري الخاص باستقلالية القضاء، وبسبب هذا وغيره من الخروق والتعديات على القوانين وقرارات القضاء، ما عادت للجمهور ثقة في النظام الحاكم بصفة عامة والقضاء بمقدمة ذلك، ولذا تثار الشكوك حول بعض قراراته وتصبح قدرته على تحقيق العدالة والنزاهة مصدر للريبة والظنون،  وهذا وحده يفصح عن وجود هوة عميقة تمنع توفير البيئة السياسية والقانونية  للمواطنة الصحيحة، والسلوك الرسمي المعني بتوفير الظروف المادية والمعنوية للديمقراطية، ولهذا يندفع الناس للنأي والابتعاد عن القواعد الدستورية والبناء الديمقراطي،ومن ثم يفضلون الاحتكام للمقاضاة خارج القضاء وحل خلافاتهم مجتمعيا. ويمثل هذا الملح اختبارا يوميا للنظام السياسي ومدى خضوعه لأحكام القانون والدستور، وتمسكه بالمعايير الديمقراطية مثلما يدعي قادته.  وبسبب هذه المشاكل والخروق تتكشف صورة عدم قدرة السلطة على توفير الحماية لكافة أبناء الشعب ضد الانتهاكات والاضطهاد أو الخوف وتغييب الحقوق أو ثلمها، وانعدام الضمانات الكافلة لحق المواطن للوصول إلى العدالة بدرجة متساوية.  ويعني هذا وبشكل صريح  تجريد  لوقائع نص عليها الدستور، وكفلت في مقدمة ما احتوته، حرية التعبير وعدم خضوع الناس للإكراه والقمع ووقوفهم سواسية أمام القانون والمقاضاة دون تمييز. ولكننا نلاحظ وعلى مدى سنوات طوال ومنذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921 ولحد اليوم، بأن  قدرة المواطن تضمحل وتضعف أمام سطوة القوى الحاكمة واذرعها، وهذه القوى وحدها من يمتلك الإمكانات على كبح دعاوى أصحاب الشكاوى ومنعهم بالإكراه من الوصول إلى القضاء وضمان حصولهم على حقوقهم بدرجة متساوية مع المسؤول. 

نطلع ونشاهد كل يوم الإجراءات المبتورة والقاصرة للحكومة الاتحادية، التي تؤكد حقيقة ناصعة عن كون ما يتخذ من معالجات وبسبب الصراع للاستحواذ على مصادر القوة والثروة، بأن حلولها ما عادت تمثل العلاج المفيد والناجح والمناسب لمشاكل عدة، هي من صلب حاجات الناس واهتماماتهم والمتمثلة  بالغذاء والسكن والتعليم والصحة والماء والكهرباء والبيئة النظيفة وغيرها. مما ولد شعورا مستداما بعدم الثقة بقدرة الحكومة على حل تلك المشاكل التي باتت متراكمات كبيرة وكثيرة من معضلات عصية على الحل. ولا يقتصر الأمر على تلك العقد اليومية المتعلقة بتقديم الخدمات والمنافع للناس، وإنما تتعداها لمساحة واسعة من معضلات سياسية اجتماعية ثقافية اقتصادية تعجز السلطة عن وضع الحلول لها أو في الأقل تحجيمها وتقليل أضرارها.

ولا يقتصر الأمر في هذا التقصير الواضح ويقف عند حدود الحكومة الاتحادية ومؤسساتها، فالقصور يتعداها إلى مستويات أخرى ممثلة بالحكومات المحلية حيث تعاني اغلب المحافظات والإقليم أيضا، من ذات المشاكل المستعصية والغائبة عنها الحلول الناجعة، ولذات الأسباب التي تحيق بعمل السلطة الاتحادية.

***

فرات المحسن

التنمر الرقمي مصطلح ربما يستخدم للمرة الأولى لكني آثرت استخدامها كصفة من صفات عالم المعلوماتية والتطورات الهائلة في عالم الاتصالات الرقمية والافتراضي والذي نعيش فيه اليوم. واعني بهذا المصطلح ليس فقط بمعناه العام وجميع الآثار السلبية لاستخدام أنظمة المعلوماتية وتأثيرها في السلوك السلبية للبشر وخاصة التنمر بصورة عامة في كافة مجالات الحياة. التنمر كذلك يستخدمه الأطفال والمراهقين في علاقاتهم مع اقرأنهم في المدارس وساحات اللعب وحياتهم اليومية.

التنمر هو أحد أشكال العنف و إزعاج الآخرين مقصودا (مع سبق الإصرار) بطريقة متعمدة ومتكررة. وقد يأخذ التنمر أشكالًا متعددة كنشر الإشاعات، أو التهديد، أو مهاجمة الطفل المُتنمَّر عليه بدنيًا أو لفظيًا، أو عزل طفلٍ ما بقصد الإيذاء أو حركات وأفعال أخرى تحدث بشكل غير ملحوظ. ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بدا استخدامه كأداة للتنمر كذلك عن طريق نشر الصور المزيفة. وحتى إجراء تعديلات على الصور والأفلام ودمج الصور بصورة مخلة للشرف وغير أخلاقية.

الثورة الهائلة في عالم الرقمي والاتصالات مع تطور وسائل الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي وحرية الحركة الرقمية وخاصة الجيل الجديد من الذكاء الصناعي (AI) الذي بدا يغزو كافة مجالات الحياة وتتحول الى هاجس مخيف للبشرية بدلا من ان يكون للخيرها.

راجع مادتنا حوا الموضوع تحت الرابط التالي:

توفيق التونچي: مسار "قطار" الذكاء الاصطناعي وأفاق المستقبل (almothaqaf.com)

ومع كل كشف علمي متطور يبدأ نقاش حول الفائدة والخسارة. لكن هل التطور في خدمة البشرية او هل يجعل من بني البشر خيرين ويتركون طريق الشر؟ طبعا يمكن استخدام هذا التطور في امور لخير البشرية خاصة في مجال البحوث العلمية والطبية. "السايبرنتك" Cybernetik علوم التحكم والكلمة في الأصل يونانية وتعني آلة التحكم في السفن الذي يوجه به دفة السفينة. التطورات الحديثة في عالم المعلوماتية ادى الى توظيفها من قبل الأشرار في عمليات ابتزاز وتزيف للحقائق بحيث ان بعض تلك العمليات ادى حتى الى حوادث الانتحار هؤلاء ممن تنمر عليهم رغم ان الإحصائيات غير متوفرة لإجراء بحث علمي في الموضوع. الا ان التنمر حالة مستمرة ونراه خاصة بين المشاهير في عالم الفن والمال والسياسة. لا بد إدراك خطورة الأمر عند الشباب والمراهقين وخاصة في الصفوف الدراسية في المدارس. التزوير والنزيف والاستنساخ أمور باتت طبيعية في عالم الذكاء الصناعي كل ما تحتاجه تلفون خلوي ( موبايل) وبعض البرامج. هذا ما يجعل من المؤسسة التعليمية تقف امام خطورة زحف الذكاء الصناعي بإبعاده السلبية الى المدارس خاصة يجب ان لا ننسى بان الهيئة التدريسية نفسها لم تتمكن منتسبيها من مواكبة كل تلك التطورات في عالم المعلوماتية.

الجهل ألمعلوماتي صفة عامة في الجيل القديم وبين الكبار وقد نرى حتى ذلك بين مواطني الدول الأوربية والغربية المتطورة تقنيا وحتى استخدام الانترنت غير منتشر ويحتاج الكبار في السن الى كورس لمعرفة كيفية التعامل مع كل تلك التطورات في عالم الاتصالات. حتى القوانين المرعية في معظم دول العالم لم تتمكن من مسايرة تلك التطورات وسن القوانين لجرائم النظام الرقمي لذا يبقى مرتكبي تلك الجرائم بعيدين عن أيادي العدالة بينما نرى زيادة في اعدد الضحايا يوما بعد اخر.

المشكلة متفاقمة في الدول الفقيرة وخاصة بين المجتمعات الأمية ( الجهل بالقراءة والكتابة) حيث يكون الوالدين امام مشكلة كبيرة مع ابنائهم اللذين يجيدون استخدام المعلوماتية وعلى كافة الأصعدة. تلك العوائل ليس لهم اي رقابة على أفعال أبنائهم في البيت، في المدرسة وخارج الدار. هذا البون الشاسع بين معارف الأبوين والأبناء يؤدي الى مشاكل عديدة. خاصة ان الانترنت اليوم يسمح للمرء الولوج الى عالم الجريمة وبسهولة وحتى وهو جالس في إحدى المقاهي مع أصحابه لذا نرى زيادة ملحوظة في الجرائم المرتبطة باستخدام الانترنت خاصة الجرائم الاقتصادية بابتزاز الكبار في السن كما ان العديد من الجرائم ترتبط اليوم بالمعلوماتية مباشرة.

كما انها تستخدم في النزاعات والحروب وهناك دلائل على استخدامها في الانتخابات العامة في العديد من دول العالم. كما تمثل اداة يستخدمها الجهات الأمنية للدول في السيطرة على الراي العام في دولهم والتأثير عليهم بطرق مختلفة. الوعي بأهمية المعرفة في تطور الشعوب والوصول الى مجتمعات مفتوحة وتعددية في عالمنا اليوم تحدي كبير يواجه جميع المجتمعات البشرية.

***

د. توفيق رفيق التونچي - الأندلس

 ٢٠٢٤

لربما تخلق ثقافة الحزن في البلاد حلقة من الشقاء والبؤس

بقلم: كورس زيا باري

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

في الساعة 6:12 صباحًا، في 8 يناير 2020، أقلعت طائرة بوينغ 737-800 من مطار الإمام الخميني الدولي في طهران بعد تأخير دام ساعة. كانت تحمل 176 راكبًا وطاقمًا، بما في ذلك 15 طفلًا. الطائرة كانت تابعة لشركة الخطوط الجوية الأوكرانية الدولية، وتشغل رحلة مسجلة تحت رقم PS752 من الجمعية الدولية للنقل الجوي. بعد ثلاث دقائق من الإقلاع وأثناء صعودها، تم إسقاطها بصاروخين من طراز TOR-M1. قُتل جميع الركاب على متن الطائرة. بعد ثلاثة أيام، اعترف الحرس الثوري الإيراني بالمسؤولية عن إسقاط الطائرة التجارية، واعتبر "الخطأ البشري" السبب في هذه المأساة المروعة.

قبل خمس ساعات من إسقاط الطائرة، أطلق الحرس الثوري الإيراني وابلًا من الصواريخ الباليستية على قاعدة الأسد الجوية في محافظة الأنبار العراقية، حيث تتواجد فرقة الأسد. تفاصيل الخسائر الناجمة عن ما أطلق عليه اسم عملية الشهيد سليمانــي تظل غامضة، لكن قيل إن 110 من أفراد الجيش الأمريكي أصيبوا بإصابات في الدماغ.

أطلق الحرس الثوري وابل الصواريخ انتقامًا لقتل قائد قوة القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليمانــي، الذي اغتيل في غارة بطائرة مسيرة الأسبوع السابق في 3 يناير أثناء زيارته لبغداد. الغارة التي أذنت بها الولايات المتحدة قتلت تسعة آخرين، بما في ذلك خمسة من أعضاء مجموعة شبه عسكرية عراقية.

تُركت مراسم جنازة سليمانــي من 4 إلى 7 يناير، وشملت ثماني مدن في العراق وإيران. في 7 يناير، حدث تدافع في موكب الجنازة في مسقط رأسه كرمان، حيث كان من المفترض أن يُدفن، مما أسفر عن مقتل 56 شخصًا وإصابة 200 آخرين. كانت الحالة الوطنية بعد قتل سليمانــي تتميز بمزيج من القلق، والانتقام، وعدم الاستقرار. نشأت هذه المخاوف من الإزالة غير المتوقعة للشخصية الثانية في إيران، التي كانت دائمًا تُعتبر بطلاً، والإهانة التي تعرضت لها الحكومة بسبب الطريقة التي قُتل بها.

كان الدافع لتوحيد الأمة حول قضية مشتركة مستوحاة من إرثه وإصلاح تقدير الذات المتضرر الذي يعتمد عليه النظام الإسلامي في تقديم قوته الناعمة قويًا. في بلد يضم 85 مليون نسمة، كان هناك من يندب خسارة سليمانــي ومن يحتفل بها علنًا، ولم يكن النظام الكهنوتي ساذجًا ليتجاهل الاستقطاب المتصاعد.

لذا، استهل النظام فترة طويلة من الحداد، بهدف إحياء الدعم للحرس الثوري الإيراني والموقف الهجومي ضد الغرب. لم يكن هناك أداة أفضل من استدعاء "ثقافة الحداد" ما بعد عام 1979 من أدوات الدبلوماسية التقليدية.

على الرغم من أن الحزن الديني لم يُستدعَ فور الثورة، فقد رعت الجمهورية الإسلامية ثقافة الحداد التي تفوق الاحتفالات التقليدية مثل نوروز، احتفال رأس السنة الفارسية، مما حول عادات الإيرانيين الثقافية.

أصول ثقافة الحداد التي تشكل المجال السياسي في إيران ليست دينية فقط. الحداد يُستخدم عمدًا كأداة للسيطرة الاجتماعية تغذيها الحزن المؤسسي وتعيد إنتاجه في علاقة تآزرية يقودها الدين.

تسبب ميل الحكومة إلى تكرار مناسبات الحداد وتقليص تجارب الفرح في حالة من الحزن المستمر التي تحدد النبرة العاطفية في إيران. حتى لو كان الإيرانيون على المستوى الفردي  معروفين بأنهم اجتماعيون وذوو روح مرحة وودية، فإن البلد بشكل جماعي يبدو أنه يمتلك روحًا غير سعيدة ومحطمة.

في ظل خلفية تحكم الجمهورية الإسلامية في السكان، التي كانت مرئية في تراجع الناس التدريجي عن التعبير عن الفرح إلى احتضان اليأس، توفر العاطفة الجماعية مقياسًا لضعف إيران. بعد فترة وجيزة من الثورة الإسلامية عام 1979، بدأ الباحثون في التعمق في ما وجدوه عرضًا غير عادي: التضخيم المتعمد للحزن الديني من قبل الحكام الجدد لتحقيق أهداف سياسية، مما دمر حيوية المجتمعات في هذه العملية.

قامت ماري-جو ديلفيكيو غود، عالمة اجتماعية متقاعدة وعالمة أنثروبولوجيا طبية في كلية هارفارد الطبية، عاشت وعملت في إيران لسنوات قبل وبعد ثورة 1979. في عام 1988، بالاشتراك مع  بيورن ج. غود، وهو عالِم نفس أنثروبولوجي في هارفارد، بنشر دراسة رائدة في مجلة الثقافة والطب والطب النفسي، تسرد تحول الخطاب العاطفي في المجتمع الإيراني.

بدأ اهتمام المؤلفين بالحزن في الثقافة الإيرانية قبل وقت طويل من قيام الجمهورية الإسلامية بإبراز الحزن كالسلوك المناسب والضروري الذي يجب على المواطنين تبنيه. من خلال المقابلات مع الإيرانيين، سواء في الوطن أو في المجتمعات المهاجرة، لاحظا أن الحكومة كانت تعطي قيمة خاصة للرثاء. قال أحد المشاركين في الدراسة، وهو مهاجر إلى الولايات المتحدة، في عام 1985: "لقد أصبح الحزن العمل الرمزي للمسلم الجيد. لا يُفترض بك أن تبتسم، أو تبدو سعيدًا، أو تبدو نظيفًا. هذه هي الشخصية التي تُعجب الآن."

في الوقت الذي كانت فيه الأبحاث تُجرى، أشار المؤلفان إلى أن النظام فرض الحزن كرمز للإخلاص الديني والسياسي، مما وضع المسار للأمة "من خلال البث اليومي لمراسم الحداد، و'الرثاء' [مرثية إيقاعية] التي يغنيها الملالي المرتدون العمائم على التلفاز والراديو، تقريبًا باستثناء برامج أخرى." لم تتغير الأمور منذ ذلك الحين.

في "تقرير السعادة العالمي 2024"، الذي هو شراكة بين جالوب ومركز أكسفورد للرفاهية وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، والتي تستخدم ستة معايير لقياس السعادة (بما في ذلك الدعم الاجتماعي، ومتوسط العمر المتوقع، والحرية)، تحتل إيران المرتبة 100 من أصل 143 دولة. في التصنيف، حيث تظهر فنلندا والدنمارك وآيسلندا والسويد كأول أربع دول بشكل غير مفاجئ، تقع إيران تحت فنزويلا وجمهورية الكونغو والعراق.

وبالمثل، في أحدث إصدار من مؤشر كوكب السعادة، الذي ينشر بشكل أقل تكرارًا ولكن موثوق، والذي يقيم متوسط العمر المتوقع، والرفاهية، والبصمة الكربونية، تحتل إيران المرتبة 115 من أصل 147 دولة، متأخرة عن بيلاروسيا وباكستان وميانمار. على مقياس من صفر إلى 10، حيث يعتبر 10 الأكثر سعادة، قيم الإيرانيون رفاهيتهم بـ 4.8 وفقًا لنتائج استبيان غالوب العالمي، التي تم دمجها في التصنيف.

سواء كان ذلك بسبب ثقافة الحداد في البلاد أو بسبب اضطرابات حكومية أخرى، فإن نوبات الغضب والحزن والضغط والألم تبدو شائعة بين الإيرانيين. بالفعل، وجدت تقرير جالوب للانفعالات العالمية 2022 أن إيران هي البلد العاشر الأكثر غضبًا في العالم، حيث قال 39% من الذين شملهم الاستطلاع إنهم شعروا بالغضب "خلال الكثير من يوم أمس." في فنلندا، البلد الذي يُعتبر الأقل غضبًا، أشار فقط 6% من الذين شملهم الاستطلاع إلى أنهم شعروا بالكثير من الغضب في اليوم السابق.

في غياب بيانات أكثر موثوقية، يمكن أن تساعد الاستطلاعات في فهم حالة عقلية معقدة تؤثر على إيران. ومع ذلك، قد لا تتمكن من تقديم صورة كاملة عن مزاج المجتمع الجماعي، خاصةً واحد يكافح باستمرار لاستعادة نفسه من عواقب سوء الإدارة قبل أن يتم إعادة صدمه. يعتمد بعض الإيرانيين على السخرية كآلية للتعامل لتقليل حدة الخسائر، والأزمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية. بينما يعبر آخرون عن استيائهم السياسي في التجمعات العائلية وأماكن العمل. وبالتالي، يمكن أن يُفقد الكثير أو يبدو غير واقعي في مثل هذه التصنيفات.

هنا، الأدلة القصصية على التجارب المشتركة للأشخاص توفر الأساس لاستنتاج: إيران ليست مشرقة بالسعادة. بدلاً من ذلك، هناك كل سبب للاعتقاد بأن القيادة العليا أصبحت مهووسة بالكآبة. قلة المناسبات الاحتفالية في التقويم والتدخل النشط من قبل الدولة وأجهزتها القمعية لقمع حفلات الزفاف، والحفلات الموسيقية، وحتى معركة بالمسدسات المائية بين مجموعة من المراهقين في حديقة هي بعض الأمثلة على المقاومة المستمرة للفرح.

مع إغلاق السلطات الصارم لطرق التخفيف من التوتر والراحة باسم العفة والروحانية، فإن مؤشرات الصحة العقلية في البلاد تنبئ بالسوء. وجدت دراسة في عام 2023 أن 31.03% من سكان إيران يعانون من شكل واحد على الأقل من اضطرابات الصحة العقلية. النظام الثيوقراطي الذي أسسه آية الله روح الله الخميني ملزم بتكريم هوس ثابت بالألم.

في مارس 1989، خطب الخميني مجموعة من الناس في عطلة دينية حيث جادل بأن مقاومة القوى الإمبريالية العالمية وإقامة حضارة إسلامية جديدة "تتطلب الضغط، والمشقة، والشهادة، والجوع، وقد اختار شعبنا هذا الطريق بأنفسهم، وسيدفعون الثمن ويشعرون بالفخر بذلك." وأضاف أن هزيمة حضارات الغرب والشرق "مستحيلة بدون الشهادة."  لقد تم غرس تمجيد الجروح الذاتية واليأس في نفسية الأمة ما بعد 1979 منذ المراحل الأولى.

إلى أي مدى يُعزى هذا البؤس إلى عواقب طبيعية للقمع والركود الاقتصادي الذي يميز حياة الإيرانيين؟ وكم هو مصطنع من قبل نظام سلاح أسلوبه الحزين الفريد في الإسلام الشيعي؟

في دراسة نادرة لآثار الإسلام السياسي، استكشف الباحث الإيراني البارز آصف بيات المبررات وراء قلق الإسلاميين من التعبيرات عن الفرح، والتي يعرّفها بأنها مجموعة من السلوكيات المبهجة، من الألعاب، والنكات، والرقص إلى طرق معينة في الكلام، والضحك، والتصرف. في مقاله في سبتمبر 2007، "الإسلاموية وسياسة الفرح"، لمجلة الثقافة العامة، جادل بيات بأن الفرح يتحدى الانضباطات الصارمة والقواعد السلوكية المقررة غالبًا من قبل السلطات.

افترض بيات أن "الخوف من الفرح" هو نفور من إضعاف السلطة الذي تشاركه العديد من التقاليد الدينية. من خلال قمع تجلي هوية الناس عبر الموضة، وتجريم اختلاط الجنسين، وتحظر الأفعال غير الضارة مثل حلق الرجال لذقونهم أو وضع النساء للمكياج، تسعى الأنظمة الثيوقراطية في أفغانستان وإيران لتحقيق أهداف أساسية من نشر كتب الأخلاق الخاصة بها.

"وبدلا من أن تكون مجرد مسألة عقائدية، فإن معاداة الأصولية هي مسألة تاريخية، وهي مسألة تتعلق بشكل كبير بالحفاظ على السلطة"، كما كتب.

هذه النية الخفية تتجلى بشكل أفضل من خلال تصريحات محمد تقي مصباح يزدي، رجل الدين الشيعي الراحل وعالم الدين الذي كان يُثنى عليه كثيرًا من قبل المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي. كان مصباح يزدي يُعرف غير رسميًا بـ "نظرية العنف" بسبب آرائه الراديكالية ورفضه للانتخابات الشعبية كوسيلة لتبرير الحكومات الدينية.

وقد صرح قائلاً: "إن أخطر ما يهدد الإنسانية هو أن ينسى الرجال عبادة الله، وأن يقيموا المراكز الثقافية بدلاً من المساجد والكنائس، وأن يتبعوا السينما والفن بدلاً من الصلاة والدعاء".

بتأثر بمثل هذه المعتقدات التي تؤكد تفاهة المتعة والضحك، توقفت إيران منذ فترة طويلة عن كونها مجتمعًا مبهجًا.

في أحدث إصدار لتقريرها حول نفقات الأسر الحضرية حسب الفئة المنشور في عام 2019، قدرت المركز الإحصائي الإيراني أن الترفيه والأنشطة الترفيهية تشكل فقط 2.9% من الإنفاق الروتيني للأسرة العادية شهرياً. في حين أن 48.2% من النفقات مخصصة للإسكان و12.5% لتكاليف النقل والاتصالات، فإن ما ينفقه الإيرانيون على الأنشطة الترفيهية مثل الذهاب إلى الحفلات الموسيقية والأفلام يكاد يكون معدومًا.

يؤكد العديد من العلماء أن انتشار الحزن بطريقة رسمية ليس ظاهرة إيرانية بحتة، حتى وإن كان شكلها الأكثر تطرفًا يمكن العثور عليه في إيران بعد عام 1979. في البلدان الكاثوليكية والإنجيلية أيضًا، ليس من غير المألوف أن تلجأ الحكومات إلى تصوير الماضي بطريقة كارثية لتحقيق أهداف محددة في المستقبل.

يعتقد يونس ساراميفار، أستاذ مساعد في العلوم الإنسانية بجامعة فريجي في أمستردام، أنه سيكون من الخطأ قبول التعميمات الواسعة حول كيفية تعامل الدول "الغربية" مع الحزن.

وقال: "إن الجدل الدائر حول عدم تكرار ما حدث مرة أخرى وإحياء ذكرى الهولوكوست في ألمانيا، والاحتفال بالماضي الاستعماري في فرنسا، والعديد من المتاحف الحربية والمواقع التذكارية في الولايات المتحدة، كلها أمثلة جيدة على أن ما يسمى بالثقافات الغربية تتأمل في الماضي وتبقيه حياً في الحاضر"

ومع ذلك، هناك إجماع على أن قِلة من الحكومات تقضي على مناسبات الابتهاج، مثل المهرجانات العائلية، فقط لضمان انتصار نسختها المفضلة من الوحدة والسيادة. وعندما أطاح الإسلاميون بالملكية العلمانية في إيران، نالوا الثناء من بعض المفكرين البارزين في العالم، الذين تكهنوا بأن الثورة كانت انقلاباً معجزياً للنظام العالمي لصالح الروحانية.

ولكن بمجرد أن دخلت روح الله الخميني في مرحلة التنفيذ الكامل، نشأ نقاش حول ما إذا كان نوروز، وهو أهم عيد وطني، ذو صلة أم ينبغي التخلص منه لأنه لم يكن دينيًا بما فيه الكفاية، أو أنه يذكر بالوثنية أو يمثل أسطورة ما قبل الإسلام.

بالنسبة لملايين الإيرانيين الذين ترتبط أجمل ذكريات طفولتهم بالاحتفالات البسيطة ولكن الملونة لنوروز، فإن الجهود المنهجية للنظام الثيوقراطي لتشويه وتهميش مهرجان رأس السنة الجديدة غالبًا ما تؤدي إلى المرارة وعدم الرضا.

قال أحمد صدري، عالم الاجتماع ورئيس كرسي الدراسات الإسلامية في كلية ليك فورست في إلينوي: "أشعر بنفس الاستياء من تقليص نوروز وأيضًا من الأعياد مثل يوم الأربعاء الأحمر وسيزده بي-دار، والتي هي أقرب إلى قلوب الأطفال."

يوم الأربعاء الأحمر / تشهرشانبه سوري هو مهرجان النار الذي يُحتفل به في عشية الأربعاء الأخير من السنة. تعود أصوله إلى الزرادشتية، ويُعتقد أنه بدأ الاحتفال به حوالي عام 1000 قبل الميلاد. يجتمع أفراد العائلات في مساء يوم الثلاثاء ليقفزوا فوق النيران التي يضرمونها باستخدام الأوراق وجذور الأرز والحطب. الغرض من هذا الحدث هو التخلص من المشاعر السلبية للعام المنقضي ودرء الحظ السيئ.

في اليوم الثالث عشر من الربيع، يسافر الإيرانيون إلى الحدائق والغابات والشواطئ والحدائق، عادةً بأعداد كبيرة ومع الأسرة الممتدة، لتكريم سيزداه بي-دار. وهذه أيضًا واحدة من الطقوس المرتبطة بأفق نوروز، حيث تؤكد الأسر على روابطها بالطبيعة قبل حلول السنة الجديدة وعند نهاية العطلة التي تستمر أسبوعين.

بدأت الجمهورية الإسلامية في جهود لتهميش المناسبات السعيدة بتغيير أسمائها. في التقويم الرسمي واللغة الحكومية، يُشار إلى يوم الأربعاء الأحمر باسم "آخر أربعاء في السنة" ويُسمى سيزداه بي-دار "يوم الطبيعة". يمكن أن يكون محو الاسم مقدمة لمحو الواقع الذي يمثله.

لم يكن تراث إيران القديم وتنوع الاحتفالات التي تجسد تلك الهوية مخصصًا للقتال المستمر مع الواقع الجديد الذي نشأ بعد الفتح الإسلامي لفارس في عام 654 ميلادي. قد لا يكون الإيرانيون قد قبلوا الإسلام طوعاً في البداية، ولكن تسوية ما تجسدت مع مرور الوقت، ووجد الناس أنهم يستطيعون التوفيق بين القيم الوطنية والدين.

ولكن مع ظهور الجمهورية الإسلامية، اختفى هذا الفهم، وفرض الإسلام السياسي بقوة على كل بُعد من أبعاد الحياة اليومية قد مزق المجتمع. يشعر الإيرانيون الوطنيون الذين يتخيلون المجد المفقود للأمة بالاستياء لأن نسخة الإسلام التي يروج لها رجال الدين فُرضت على الاحتفالات مثل نوروز. حيث يزعم أتباع آية الله أنهم لم يعجبهم الفجور والانحلال الذي تمثله هذه المناسبات.

تقول أزاد نافيسي، الكاتبة المشهورة عالميًا بكتاب "قراءة لوليتا في طهران: مذكرات في كتب" والفائزة بجائزة فريدريك و. نيس للكتاب، "أن إيران اليوم هي مسرح مواجهة مستمرة بين اتجاهين فكريين. أحد المعسكرات يقدس الموت لتبرير حكمه، والآخر يعشق الحياة ويقاتل عقلية القدر."

قالت نافيسي: ""على النقيض من عبادة النظام الإسلامي للبؤس والضحية والموت، فإن وجهة النظر الأخرى التي يتبناها غالبية الشعب الإيراني متجذرة في الاحتفال بالحياة والجمال". وأضافت "إن عيد النوروز وعيد التركمان وغيرهما من الأعياد الإيرانية تستند إلى هذه المفاهيم. وعلى مدى 45 عامًا، احتفل الإيرانيون بالحياة من خلال الاحتفال بالحرية".

من خلال اتخاذ موقف من العروض العامة للفرح، يستدعي رجال الدين الشيعة العقلانية لاقتراح أن الإسلام يدعم أي تقليد مستند إلى العلم والمنطق ولكن يرفض الخرافات. هذا الإطار يضع فعليًا حظرًا على جميع أشكال الفرح غير الديني. ومع ذلك، لم تكن المصداقية العلمية أبدًا مقياسًا لتقييم المبادئ التي يروج لها رجال الدين كحقائق، بما في ذلك الطقوس التي هي من اختراعهم بالكامل.

قال صدري لنيو لاينز: "الأمر المضحك هو أن المتطرفين على التلفاز يدينون هذه الأشياء باسم الخرافات. هذا أمر غريب قادم من أشخاص قاموا بتطوير تقاليد الشيعة الإسلامية بأكملها لتناسب أغراضهم."

وأضاف: "هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين يعارضون الرقص والموسيقى، ولكن في احتفالاتهم السرية بعيد الزهراء، أو ما كان يسميه الناس العاديون عمر كوشان، يشاركون في كل ذلك وأكثر من ذلك."

يُلاحظ بعض المسلمين الشيعة في إيران عيد عمر كوشان، وهو عيد سنوي يبدأ في اليوم التاسع من ربيع الأول، الشهر الثالث من التقويم الإسلامي، وينتهي بعد 18 يومًا، ويحتفل باغتيال الخليفة الإسلامي الثاني، عمر بن الخطاب. يعتقد الشيعة أن حقوق الخلافة بعد وفاة النبي محمد قد أُخذت بشكل غير عادل من الإمام علي، ولهذا السبب، يحتفل بعضهم، لإزعاج إخوانهم السنة، بقتل الصحابي عمر بن الخطاب على يد عبد فارسي ساساني في عام 644 ميلادي.

نظرًا لأن سيطرة الحزن قد تم تثبيتها بعمق في نفسية المجتمع الإيراني لدرجة أن لا الممارسون للتقاليد الدينية ولا المراقبون النقديون يتساءلون عن ضرورتها، فإن حتى أقصى درجات المبالغة تعتبر طبيعية.

تستمر عملية الجلد العام للنفس لتكون عنصرًا شبه مقدس خلال فترات الحزن السنوية الطويلة في ذكرى معركة كربلاء، عندما قُتل الإمام حسين وخلد في الميثولوجيا الشيعية كشاهد. في بعض المدن والقرى الإيرانية، أصبحت هذه الأفعال الذاتية مؤلمة لدرجة أن، بالإضافة إلى ضرب أنفسهم باستخدام السكاكين والسلاسل الحديدية، مما يؤدي إلى برك من الدماء الحقيقية في الساحات العامة، يقوم بعض الآباء بإحداث إصابات طفيفة على جباه أطفالهم لإظهار عمق عذابهم الديني.

رفض عدد من رجال الدين الشيعة هذه الممارسة، المعروفة باللغة العربية بـ "التطبير"، مؤكدين أنها ضارة بدنيًا وعاطفيًا. لكن معظم الآخرين إما قد وافقوا عليها ضمنيًا، أو أعطوا الضوء الأخضر لها، أو على الأكثر حكموا بأنها يجب أن تتوقف مؤقتًا.

لقد أصبحت الثقافة الشعبية الإيرانية تعظم الحزن وتقدّر الاكتئاب، ليس كأزمة صحية عقلية ولكن كموقف من الحياة، مما يترك مجالاً ضئيلاً للفرح. على مدى خمسة عقود، تم غرس قدسية الحزن، وضرورة الانطوائية، وتركز التفكير في الموت في الناس. لقد تم تدريب الجماهير على تجاهل الابتسامات وتمجيد الدموع.

ليس فقط رجال الدين الحاكمين الذين ينشرون عقلية المأساة. بل إن الأسر العادية قد استوعبت   أيضًا هذه القيم. عندما يكون هناك حفلة عيد ميلاد أو زفاف في مبنى سكني، من المحتمل جدًا أن يتصل أحد الجيران بالشرطة للشكوى. ومع ذلك، إذا أقيمت مراسم حزن أو مناسبة دينية في نفس الموقع، فلن يشتكي أحد. إذا اشتكى أحدهم، فإن المجتمع قد يلصق بهم تهمة عدم التدين أو التشكيك في العقيدة.

قالت سحر حكيمي، الصحفية والكاتبة الإيرانية، إن هذه "الفاتورة الثقافية" التي دفعها الإيرانيون على مر الأجيال تعكس قسوة هذا الموقف في حياة الناس اليومية. وتابعت قائلة: "كلما كانت الدولة أكثر قمعية، كان من الصعب الحصول على فترات من الراحة، خاصة من الحزن الشديد".

" في الواقع، تنكر الدولة نفسها دورها في هذه الأنماط الثقافية وتجعل الناس يشعرون وكأنهم مسؤولون عن مشاعرهم، على الرغم من أن جميع المظاهر تُجسد الأسس الأيديولوجية للنظام".

تُشير الحكمة التقليدية إلى أن التركيز على الحزن قد أدى إلى موجة من سوء الحظ التي ألحقت الضرر بالبلاد، بشكل مباشر وغير مباشر. البلدان التي تعرف بكونها مبتهجة لا تضطر للعيش في ضيق غير إرادي يُفرض عليها من قبل قادتها. في إيران، يُفترض أن تكون الأماكن العامة أماكن للحزن، ويُتوقع من المواطنين ألا يتجاوزوا الحدود المقبولة في احتفالاتهم.

قال إريك لوبي، أستاذ مساعد في العلوم السياسية بجامعة فلوريدا الدولية: "في كل مكان ينظر المرء إليه، يرى لوحات إعلانات، جدران مغطاة بالرسوم، ملصقات، لافتات شارع، صور إعلامية، وأشياء أخرى تعرض قادة ثوريين ودينيين وقادة حرب وشهداء." وأضاف: "في هذه العملية، أنتجت الدولة واستمرت في خلق مساحة عامة من التقوى، الالتزام، النضال، التضحية والشهادة."

أشار لوبي إلى مثال ستة شبان إيرانيين تلقوا أحكامًا مع وقف التنفيذ تصل إلى عام واحد في عام 2014 بسبب نشرهم فيديو لأنفسهم وهم يرقصون على أغنية "Happy" لفاريل ويليامز على أسطح طهران. قبل أن تطلب الشرطة إزالة الفيديو من يوتيوب، حصل على أكثر من 200,000 مشاهدة خلال أربعة أيام. حتى الرئيس حسن روحاني انتقد حملة القمع ضد منتجي الفيديو.

يعتقد ميساج بارسا، مؤلف كتاب "الديمقراطية في إيران: لماذا فشلت وكيف يمكن أن تنجح" الصادر في عام 2016، أنه ليس من المستغرب أن نرى فترات من المعاناة الاقتصادية والقمع التي تستنزف البلدان حيث تهيمن الميل إلى السلبية.

قال بارسا: "من المنطقي تمامًا أن نناقش ونفترض أن مثل هذه الممارسات تزيد من خطر الغضب والاكتئاب والعجز." وأضاف: "بدلاً من زيادة الإنتاجية والتنمية الاقتصادية، فإن انشغال الدولة بالاهتمامات الأخروية يعرضها لمخاطر اتباع سياسات اقتصادية غير ملائمة ويقوض التنمية والنمو."

وفقًا لبارسا، فإن انشغال النظام الثيوقراطي بتدعيم امتيازات رجال الدين، وتقييد التحرك الاجتماعي، والحد من الفرص الاقتصادية للطبقة الوسطى قد حول إيران إلى واحدة من الدول التي تعاني من أعلى مستويات الهجرة الخارجية. وتزيد من هذه المشكلة البصمة السلبية لنفسية الحزن التي تروج لها الحكومة.

عندما توفي الرئيس إبراهيم رئيسي في حادث تحطم طائرة هليكوبتر في 19 مايو، وهو تاريخ يصادف عيد ميلاد الإمام الشيعي الثامن، الإمام رضا، ألغت الدولة جميع الاحتفالات بالمناسبة الدينية. كان عيد ميلاد الإمام الشيعي الوحيد الذي يحتوي على ضريح في إيران يعتبر عادةً أهم مناسبة في تقويم الدولة. وأبرز تعليق الاحتفالات المنتظرة للغاية أن في نمط الحياة الثوري، فإن السعادة الجماعية لا تقتصر فقط على كونها دون الحزن، ولكن الطقوس الدينية ذات الطابع الاحتفالي كذلك.

ومع ذلك، على الرغم من كل ما فعلته الدولة لتشويه البحث عن الفرح وتحويل الحزن إلى قيمة ثمينة، لا يقتنع كل المراقبين بأن الجمهورية الإسلامية هي المسؤولة بالكامل عن هذه الحزن الشامل.

لقد تم التحقيق من وقت لآخر في الدور الرائد للحزن في الثقافة الشعبية الإيرانية وأهمية الموت في تشكيل رؤية العالم للمتوسط الإيراني بعد عام 1979. لكن هناك القليل مما يسلط الضوء على كيفية أن هذا التيار الإيديولوجي المهيمن قد أدى إلى دورات من الأحداث المؤسفة التي لم تكن لتحدث لو كانت إيران مجتمعًا يروج للإيجابية.

في عام 2011، اكتشف الباحثون في جامعة كولومبيا وجامعة ستانفورد والمؤسسات الهندية الشريكة أن البيئات تثير مشاعر معينة وأن هذه الروابط يمكن أن تفسر تصور الجمهور لتلك الأماكن. هذه الظاهرة التي أطلقوا عليها "بقايا عاطفية" مسؤولة عن تقارير الزوار إلى معسكرات الإبادة في أوشفيتس ببولندا عن مشاعر الضيق في صدورهم، واهتزاز أيديهم، والاكتئاب.

في بيئة مثل إيران، التي تعاني من العزلة العالمية والسياسات المدمرة ذاتيًا، يمكن اكتشاف آثار البقايا العاطفية بشكل أسهل. عندما تكون المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الأمة مملوءة بمحاولة متعمدة لفرض الإحباط، من المحتمل أن تمتص ككيان جغرافي خصائص المزاج الجماعي الذي تم تدريبه على زراعته.

قال جامشيد شوشي، أستاذ متميز في قسم الدراسات الأوراسية الوسطى في جامعة إنديانا: "الأسس الدينية والسياسية للأصولية للجمهورية الإسلامية الإيرانية تقودها إلى مواقف محلية ودولية تخلق وتسبب وتديم وتكرس دورة من البؤس، وتؤسس للعبوس وحالة من العداء."

وأضاف: "أزل الفرح، اللون، المزاح والتفاعلات الإنسانية الطبيعية، واستبدلها بالسواد، الرقابة والتفاعلات الموجهة نحو رؤية مظلمة ودائمة التوبة للعالم بدلاً من رؤية المجتمع كواحد من المعرفة والشعر والتفاعلات الدولية التي كان الإيرانيون القدماء والوسطى مشهورين بها، وستحصل على الدولة الإيرانية الحديثة."

على الرغم من الخطاب المهيمن الذي يركز على أهمية الموت، والذي استخدمته الجمهورية الإسلامية لتعزيز أجندتها في إدارة الرعب، لم يمتثل الإيرانيون دائمًا للأوامر الرسمية. لقد وجدوا طرقًا لجعل حيويتهم معروفة واستغلوا رأس المال الاجتماعي الخاص بهم لإحداث التغيير عند الإمكان.

قالت سارا ميفار، الباحثة المقيمة في أمستردام: "يجب أن نتذكر أن الناس لديهم القدرة على مقاومة الثيوقراطية، واحتجاجات المرأة، الحياة، الحرية هي مثال جيد على رفضهم للقبول بالهندسة من قبل الدولة."

التفكير في المآسي الماضية هو بالطبع سمة من سمات اللاهوت الشيعي. تمامًا كما أن الضحية التي أثارها الهولوكوست تستمر في ملاحقة الشعب اليهودي، فقد جاء الشيعة ليتناولوا قهرهم التاريخي، الذي يتجسد في استشهاد إمامهم الثالث، كبداية لسلسلة من الظلم الذي لا يزال يظللهم.

لكن في إيران، لم يعد ثقافة الحزن تخدم غرضًا دينيًا، وأصبح مشروع السيطرة الاجتماعية والقمع السياسي أكثر إلحاحًا. التحذير هو أن أولئك المشاركين في هذا المشروع يواجهون أزمة في الشرعية.

قال كامران تالاتوف، أستاذ الدراسات الفارسية والإيرانية في جامعة أريزونا: "لطالما روجت المؤسسة الشيعية لهذه الأفكار، وتبنى الكثيرون الذين واجهوا صعوبات في حياتهم هذه الأفكار، باكين ليس فقط لضحايا قصة مشبوهة ولكن أيضًا لصعوباتهم الخاصة."

وأضاف: "ومع ذلك، فإن هذه المشاريع الإيديولوجية الآن مفلسة، حيث يلجأ النظام إلى القوة والإكراه والقمع للحفاظ على السيطرة. علاوة على ذلك، أدى تورط الوعاظ في الفساد وقتل الإيرانيين إلى جعل الناس يشككون ليس فقط في الرسل ولكن أيضًا في الرسالة نفسها."

يجب بذل جهد كبير لإثبات أن هذه الإفراطات هي التي تجعل الإيرانيين يتنازلون عن تدينهم. بعض الاستطلاعات قد قدمت إشارات مشابهة عن سباق الأمة نحو العلمانية، لكن نتائجها قوبلت بالجدل. ومع ذلك، هذا ما يردده تالاتوف: "إذا تم إجراء مسح لرؤية العالم في إيران اليوم، فلن يكون من المفاجئ العثور على أنها قد تكون واحدة من أكثر الدول إلحادًا في العالم."

من المؤكد أن هناك بعض الدراسات التي تشير إلى أن عناصر التدين بين الإيرانيين تتعرض للتقويض. يجب توسيع هذه الاستطلاعات لتقديم صورة أوضح. لكن كنقطة انطلاق، فهي مؤشرات قوية على نبض أمة يتم فهمها بشكل خاطئ.

في استطلاع لمركز بيو للأبحاث عام 2018، صرح 78% من المسلمين الإيرانيين أن الدين كان "مهمًا جدًا في حياتهم"، في حين وافقت أعداد أكبر في دول ذات أغلبية مسلمة على نفس التصريح، بما في ذلك 94% من المستجيبين في باكستان، و92% في أفغانستان، و83% في العراق، و81% في بنغلاديش. كان الاستطلاع جزءًا من مشروع بيو-تمبلتون لمستقبل الأديان العالمي.

أظهرت نفس الأبحاث أيضًا أن معدل حضور العبادة لدى الإيرانيين كان أقل بكثير من ذلك في الدول المسلمة الأخرى. بينما قال 38% فقط من الإيرانيين في استطلاع 2018 إنهم يحضرون خدمات العبادة "مرة واحدة على الأقل أسبوعيًا"، أفاد 72% من الإندونيسيين، و62% من المصريين، و59% من الباكستانيين، و44% من الأتراك بأنهم يذهبون إلى المساجد للصلاة خلال نفس الفترة.

تشير نتائج مسح القيم العالمية 2017-2022، الذي كلفته جمعية مسح القيم العالمية التي تتخذ من ستوكهولم مقرًا لها، إلى تحول محتمل ومؤثر في موقف الإيرانيين تجاه الممارسة الدينية. في تصنيف المسح لـ 64 دولة بناءً على درجات تدينها، جاءت إيران في المرتبة 16 بعد دول مثل إندونيسيا، الأردن، تونس، المغرب، باكستان وماليزيا، وكذلك دول غير مسلمة مثل أرمينيا، نيكاراغوا، كولومبيا واليونان.

العلاقة بين تفضيل الدولة للحزن وفصل الجمهور الإيراني عن المبادئ الدينية هي مسألة تخمينية، حيث يمثل الحداد جانبًا واحدًا فقط من ممارسة الإيمان. لكن الظاهرة الأوسع لتغير إيران بعيدًا عن التوحيد والألوهية التي يشير إليها تالاتوف لها أسس تجريبية.

الادعاء بأن الترويج النشط للحزن من خلال الهوس بالتأملات المأساوية قد أرهق الإيرانيين ليس موثوقًا به لأولئك المكلفين بتأطير الحزن. بعضهم، خاصة من رجال الدين الشباب الذين يسعون لجذب الجمهور من جيل الألفية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يعترفون أن الاستثمار في الحداد كان غير متناسب مع ذلك في الاحتفالات السعيدة، بما في ذلك الاحتفالات الدينية. ولكن حتى في تقديم هذا الاعتراف، يصرون على أن الحداد الإلهي هو شرط أساسي للتغذية الروحية للمجتمع، مما يضمن أن الناس متدينون بما فيه الكفاية، ومستنيرون وعميقو التفكير. التفكير العميق ليس بالضرورة أن ينتج مواطنين مبتكرين ومبدعين.

إن حقيقة أن رجال الدين الإيرانيين قد عارضوا المنتجات الجديدة للتكنولوجيا في السنوات الأخيرة لها دلالات على مصداقية تأييدهم للتفكير والمعرفة. كان آية الله العظمى ناصر مكارم الشيرازي قد حكم في فتوى مثيرة للجدل عام 2013 أن المكالمات الفيديو، التي ظهرت في البلاد لأول مرة، والتي قدمها مشغلو الاتصالات 3G، غير جائزة. وقد جادل بأنها ستنتج فسادًا وأن عيوبها تفوق فوائدها، إن وجدت.

تحدثت إلى حسين إبراهيم، رجل دين يعيش في مدينة مشهد المقدسة ولديه متابعون كثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي. في الفترة التي سبقت انتخابات 28 يونيو الرئاسية، كان ينشط في حملته لصالح المرشح المحافظ، محمد باقر قاليباف، عمدة طهران السابق ورئيس البرلمان.

قال: "كطالب في العلوم الدينية الذي شارك في هذه الأنشطة لأكثر من 20 عامًا، أعتقد أن هناك انحرافًا في بلدنا، ونحن نتعامل مع بعض القصور عندما يتعلق الأمر بالفرح الديني والسعادة الحلال."

وأضاف: "تم تخصيص أوقات معينة للاحتفال الديني، لكن جودتها، سواء من حيث الامتداد أو من حيث التنسيق، لا تتطابق مع فترات الحداد الديني."

وواصل إبراهيم شرح أن ما يسميه "السعادة العميقة" هو أولوية الإسلام. "السعادة العميقة تعني مساعدة شخص ما لحل مشكلاته وفك تعقيدات حياته. هذا هو ما يسعى الإسلام لتحقيقه."

وأضاف: "بصرف النظر عن ذلك، من المهم بالطبع إظهار الابتسامة على وجه شخص ما، ولكن هناك فرامل وحدود حمراء عندما يتعلق الأمر بالأدبيات الدينية."

الأرقام الدقيقة حول مدى إنفاق الحكومة الإيرانية على الأنشطة الترويجية لفعاليات الحداد، بما في ذلك المواد المطبوعة، الإعلانات في الشوارع، الكتب، والمنتجات متعددة الوسائط، نادراً ما يتم الكشف عنها. هذه النفقات هي مصاريف متكررة، وقد نمت صناعة إعلامية وعلاقات عامة كاملة حول دفع المجتمع إلى حالة من الكآبة المستمرة.

أبرز مثال على ذلك هو الميزانية غير المقيدة المخصصة للترويج لذكرى قاسم سـليمانــي وأربع ذكريات له بعد عام 2020. تم طباعة عدد لا يحصى من اللوحات الإعلانية، والملصقات، واللافتات، وأغطية الحافلات، وأغطية أثاث الشوارع في فترة زمنية قصيرة، مما غلف المدن الإيرانية باللون الأسود. كانت جميع المواد تعرض صوراً للجنرال وهو ينظر بجدية إلى المتابعين.

على الرغم من نقص الشفافية، يمكن استخلاص بعض الأرقام من المصادر المتاحة. وفقًا لوكالة الأنباء شبه الرسمية ISNA، تم نشر 1,202 كتابًا عنه منذ وفاة سليمانــي، تحتوي عناوينها على اختلافات في اسمه. ومن المتوقع أن معظم هذه الكتب تم طباعتها باستخدام دعم حكومي سخي لا يُخصص للناشرين أو المؤلفين المستقلين.

وفقًا للأرقام الرسمية والمحلية، في مدينة القدس، إحدى مدن محافظة طهران، طبعت البلدية 16,000 ملصق، كان من المقرر توزيعها بعد مباشرة بعد اغتيال سليمانــي. في مدينة مشهد، تم تغطية 5,000 تاكسي بصور القائد، بتمويل من عمدة المدينة. في الذكرى الأولى للهجوم الذي قتل سليمانــي، طبعت نفس المدينة الشمالية الشرقية ووزعت 70,000 ملصق تحتوي على صورته.

في مدينة بوكان، التي يبلغ عدد سكانها 194,000 نسمة، طبعت الفرع المحلي لمنظمة التنمية الإسلامية 2,000 ملصق بعد قتل القائد. في عام 2021، وزع مسجد واحد في مدينة شيراز 1,000 ملصق بمناسبة الذكرى الأولى لوفاته.

من المعقول أن نستنتج أن ملايين الدولارات من الأموال العامة قد تم إنفاقها لتكريم شخصية عسكرية مفقودة، والمواد الترويجية التي يتم إنتاجها هي مجرد تجسيد واحد لجهد دعاية متعدد الجوانب. هذه الطريقة في التذكير تختلف جوهريًا عن كيفية تكريم "الأبطال الراحلين" في حرب فيتنام في الولايات المتحدة أو من تذكرهم ذكرى القتلى في القصف الذري لهيروشيما وناجازاكي، على سبيل المثال.

يؤكد صادري أنه من المبالغة أن نقول إن إيران تبرز في طقوسها الاستثنائية للوفاة: "الصرب لا يزالون يتأملون هزيمتهم المدمرة في معركة كوسوفو في عام 1389. ذات مرة، حضرت مراسم مفصلة في اليونان تندب ذكرى سقوط القسطنطينية بيد محمد الثاني في عام 1453."

" الأمريكيون لا يزالون يتذكرون هزيمتهم في عام 1836 على يد الجيش المكسيكي تحت قيادة الجنرال أنطونيو سانتا آنا"، قال صادري. "إنهم لا يحاولون النسيان، بل 'تذكروا الألامو'."

"  والآن، لدينا أيضًا شعار 'تذكروا 11/9'"، أضاف صادري.

هذه وجهة نظر ليست نادرة. يتفق كيفان هاريس، أستاذ مساعد في علم الاجتماع بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، على أن زراعة الحزن والمأساة ليست فريدة من نوعها في الرموز السياسية الإيرانية.

" الديكتاتورية في البرازيل خلال السبعينيات، كما فعلت الاتحاد السوفيتي في الستينيات، ادعت أن الفرح الجماعي خطير وفاسق، وهو نتاج الفساد الغربي"، قال هاريس.

"تسبق هذه المشاعر عام 1979 في الأدب الإيراني والإنتاج الثقافي، تمامًا كما تسبق السخرية أو الميلودراما عام 1979 أيضًا. محبوب إيران روبرت دي نيرو يعاني من شعور بالذنب الكاثوليكي ويشخص حياته"، أضاف هاريس.

كان العديد من الأكاديميين الذين تحدثت معهم حذرين بشأن تقديم تقييمات تصور المجتمع الإيراني كمجتمع متجانس وتجاهل تطوراته السريعة. وكانوا واعين بعدم تخصيصه كأول دولة يتم فيها تسليح الدين. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل التفاصيل عندما نحلل "ثقافة الوعي بالوفاة" السياسية الفريدة في إيران بعد عام 1979.

عندما ينعى النظام الإسلامي نخبته أو القديسين الشيعة المحترمين، فإنه يفعل ذلك بينما يفرض جوًا من المأساة، المعزز بعدم الراحة. لم يساعد هذا فقط في تشكيل عبادة شخصية لا يمكن الطعن فيها حول شخصيات مثل سـليمـانـي— الذين من المتوقع أن يُخلدوا في التاريخ كرموز مقدسة للجمهورية الإسلامية — ولكنه أيضًا شجع على الخضوع بين السكان الذي يتطلبه النظام.

تقول الصحفية تارا كنجارلو: " إذا نظرت إلى كل عطلة أو كل حدث يحتفل به النظام الإسلامي، فإنه غالبًا ما يكون استشهاد شخص ما، أو وفاة شخص ما، أو قتل شخص ما".

وتضيف:  "في حالات نادرة جدًا عندما يحتفلون بعيد ميلاد إمام، فإنها لا تزال ليست مفرحة وتظل تتماشى مع سلوك ديني ليس بالضرورة مفرح. من خلال إزالة الفرح والسعادة، قاموا بدمج المجتمع بنسختهم الخاصة من الحياة، وهي طريقتهم في التسلط الديني في هذه الحالة".

في كتابها "نبض إيران: أصوات حقيقية من بلد وشعبه"، تستكشف كنجارلو موضوع الحزن وتلمس ميل الحكومة لانتقاد نوروز بانتظام. وتقول إنه حتى دون العثور على علاقة بين الثقافة الرسمية للبؤس والأزمات النفسية التي تجتاح إيران، من الممكن أن نستنتج ملاحظات معقولة حول الصحة العاطفية للمجتمع.

قالت: عندما يُحرم المجتمع من الفرح ويتلقى باستمرار سردًا عن التضحية والاستشهاد والموت، حيث يُحتفل بالموت بدلاً من الأمل، النجاح، الأحلام والطموحات، إذا كان لديك طفل ينشأ في ظل كل هذا، فمن الطبيعي أن يكون لذلك تأثير على رفاهيته عندما يكون في سن المراهقة أو الجامعة"

ليس من السهل إلقاء اللوم فقط على هذه الثقافة من الحداد، التي تحفظها الحكومة بدقة، في الحوادث المؤسفة التي تحدث بوتيرة مثيرة للقلق في إيران. لكن من وجهة نظر المواطن العادي، فإن معظم هذه المصائب حصرية لإيران، وفي أماكن قليلة أخرى في العالم يمكن رؤية عدد كبير من المحن المتعاقبة.

يسأل الناس، لماذا لا يمكن لإيران أن تكون مثل فنلندا أو الدنمارك، حيث يكون الناس سعداء فقط؟ لماذا يخاف رجال الدين من سعادتنا؟ لماذا أصبحت الأفعال الأساسية مثل الرقص، وتماسك الأزواج، أو اجتماع الأصدقاء في الحدائق خطوط صدع مزمنة تتطلب تدخل الأجهزة الأمنية؟ لماذا الحياة هنا معقدة للغاية؟

على الرغم من الاتفاق العام بين العلماء الذين تحدثت إليهم على أن الحكومة قد قامت بتأصيل ثقافة الحداد، إلا أن معظمهم كانوا حذرين من الربط المباشر بين هذا والوضع المأساوي للاقتصاد، مؤشرات الصحة والأمن. اعترفت إحدى الأساتذة الجامعيين بأن هذه حجة مقنعة. لكنها قالت إن الوقت الحالي قد يكون مبكرًا لاستنتاج.

تحت قيادة الرئيس الأكثر تطرفًا، إبراهيم رئيسي، بدا أن الحرب ممكنة في عدة مناسبات. انتُهكت سيادة إيران لأول مرة عندما هاجم الجيش الباكستاني محافظة سيستان وبلوشستان في يناير. ثم في أبريل، استهدفت إسرائيل مواقع عسكرية بالقرب من مدينة أصفهان ردًا على عملية الجمهورية الإسلامية بالصواريخ والطائرات المسيّرة ضد الدولة اليهودية.

من المنطقي أن نفترض أن الإدارة التي عملت على تضخيم التوترات الاجتماعية من خلال حملة قمع عنيفة ضد النساء، وسوقت الحداد باعتباره أحد المساعي الثقافية القليلة التي تستثمر فيها، وشنت حربا خاطفة ضد مظاهر الفرح العام، ستجني في النهاية بيئة اجتماعية واقتصادية كئيبة تتخللها أزمات سياسية نادرة. ولكن هذا ليس صحيحا.

أصدرت مؤسسة ليجاتوم، وهي مركز أبحاث مقره لندن، النسخة لعام 2023 من مؤشر الازدهار، والتي رتبت 167 دولة بناءً على 12 مقياسًا للرخاء. وعند تعديل النتائج وفقًا لدرجات الدول في محور الحرية الشخصية، الذي يشمل أيضًا التسامح الاجتماعي، احتلت إيران المرتبة 165. وفي مؤشر تشاندلر للحكم الجيد لعام 2024، الذي يقيم الدول وفقًا لقوة مؤسساتها، سمعتها العالمية، سيادة القانون و"مساعدة الناس على الارتقاء"، تحتل إيران المرتبة 107 من أصل 113.

لا يوجد الكثير من أوجه التشابه بين الوضع الراهن في إيران، سواء في جوارها أو بين البلدان ذات الحجم والتركيبة السكانية المماثلة. فعلى مدى عقود من الزمان، كان اقتصادها مدمراً تحت وطأة العقوبات العقابية، ولكن بسبب عدم حدوث أزمة إنسانية فورية، لم تكن محنة شعبها في قلب نقاش عالمي. والفساد متفشٍ إلى الحد الذي يجعل الناس يتوقون إلى التعرف على المسؤولين التنفيذيين غير المتورطين في فضائح اختلاس شيطانية.

إن حكومتها المتعنتة، المكروهة في الداخل والمنتقدة دوليًا بسبب مغامرتها النووية المستمرة، لا تزال تمتلك قاعدة كبيرة من المؤيدين المحافظين الذين لا يقاومون فقط جهود المجتمع المدني للتغيير، بل يعملون أيضًا كمساعدين للقمع ضد مواطنيهم. يمكن أن تحدث هذه المجموعة من الظروف في أي مكان. هناك دول تتعامل باستمرار مع تعقيدات تشبه إلى حد كبير واقع إيران، بما في ذلك لبنان وكوبا وفنزويلا وليبيا. ولكن في أي من هذه البلدان لم تتول الحكومة حمل لواء الحزن والترويج له بهذه القوة.

هذه الحالة من التفكك العاطفي تُعتبر رمزا للمجتمع الإيراني. السبب، ربما، هو هيمنة غير متنازع عليها لثقافة الحزن. والنتيجة هي حلقة مدمرة من البؤس.

***

............................

المؤلف: كورس زيا باري / Kourosh Ziabar هو صحفي أمريكي من أصل إيراني يعيش نيويورك. وزميل معهد الصحافة العالمي لعام 2022 بجامعة سانت توماس. وهو خريج كلية الصحافة بجامعة كولومبيا وحاصل على درجة الماجستير في الصحافة السياسية. وفي عام 2022، حصل على جائزة التميز المهني من جمعية مراسلي الصحافة الأجنبية.

منذ أسابيع مضت، كتبْتُ هنا عن الانتخابات الأمريكية، وتساءلت: هل يمكن أن يأتي اليوم الذي يناظر فيه ترامب كامالا هاريس؟! جاء سؤالي هذا حتى قبل أن يقرر بايدن الانسحاب من السباق الرئاسي؛ إذ كانت حالته الصحية تشير لحتمية انسحابه لمصلحة الحزب الديمقراطي..

 وبعد مقالي السابق بأيام حدث الانسحاب وتمت تزكية كامالا هاريس باعتبارها المرشحة الأكثر حظاً، وظللت على يقيني بأن المناظرة قادمة بالتأكيد، حتى وإن أعلن ترامب غروراً وتكبراً أنه لن يحاور هاريس مطلقاً حتى لو ثبت ترشحها رسمياً. لكنه نزل مضطراً على حكم المسار الانتخابي، وها هي المناظرة التي وصفت بأنها تاريخية قد أجريت.

 فما هي دلالات هذه المناظرة وما تبعات نتائجها؟ وهل يصير حاكم الولايات المتحدة الأمريكية القادم ديمقراطياً فتُصبغ باللون الأزرق، أم جمهورياً فيُطلي وجهها باللون الأحمر؟!

مناظرة الحسم

 البعض يحلو له أن يقلل من قيمة المناظرات بين مرشحي الانتخابات الأمريكية، ويقع في ظنه أنها لا تستطيع التأثير على نتائج التصويت أو حسم أمر أحد المرشحين، غير أن الواقع يكذّب هذا الزعم؛ إذ أن المناظرة السابقة بين بايدن وترامب حسمت أمر ترشح بايدن واستبعدته من السباق الرئاسي في غضون أسابيع من المناظرة.

 الأرقام والإحصائيات لها دور في تحريك الكتلة المستقلة، وجذب انتباه أولئك الذين يقفون من المرشحين في منتصف الطريق. هناك سبع ولايات متأرجحة، وتصويتها القادم سوف يكون هو الحاسم. لهذا تم اختيار أهم ولاية من الولايات المتأرجحة لتستقبل المناظرة بين كامالا وترامب، وهي ولاية بنسلفانيا، وهي من أكبر الولايات من حيث عدد أصوات المجمع الانتخابي. وفيما أظهرت استطلاعات الرأي الأولية تعادلاً بين ترامب وهاريس قبل المناظرة لدي جمهور تلك الولاية، فإن الاستطلاعات التي تلتها أكدت تفوق هاريس على ترامب.

 اليوم التالي للمناظرة امتلأت فيه عناوين الأخبار في أشهر الصحف والقنوات الأمريكية معلنة فوز هاريس في أغلب استطلاعات الرأي، وفي مقدمتها استطلاع CNN الذي أكد تفوق هاريس بنحو 26 نقطة، وبنسبة 63: 37. وهو فوز أكبر من كل التوقعات.

 المحللون والمراقبون قبيل المناظرة توقعوا أن خبرة ترامب الكبيرة وأسلوبه الهجومي الحاد سيضمن له هزيمة هاريس الأقل خبرة بالضربة القاضية. ثم جاء اللقاء الذي بدأ بينهما بمصافحة باردة ونظرات متحفزة من هاريس. والغريب أن الهجوم الأول في المناظرة أتي من جانب كامالا، ثم بدا واضحاً لسائر المتابعين أن هاريس استعدت لهذه المناظرة بخطة مدروسة، وأن مدربتها أجادت اصطياد ترامب بعدد من الشراك والأفخاخ، لدرجة أن الصحفيين سألوا ترامب بعد اللقاء بقولهم: كيف التقطت الطُعم الذي ألقمتك هاريس إياه؟

 أكثر من هذا أن مناصري ترامب أنفسهم هاجموا ترامب بعد المناظرة، وأكدوا أن غروره أوحي له ألا يعد خطة للحوار، وأن يعتمد على العبارات المحفوظة التي يحلو له أن يكررها ويرددها في كل المؤتمرات الانتخابية واللقاءات الصحفية. تلك العبارات الجوفاء التي لا تخرج عن كونها اتهامات لأداء الحزب الديمقراطي خلال الأربعة أعوام الماضية. لهذا استطاعت كامالا أن تبادر بالهجوم ضد ترامب، ووصفته أكثر مرة بأنه كاذب وأن أداءه خلال فترة رئاسته يمثل عاراً على الرئاسة وأن الحكام والقادة يعتبرونه مهرجاً وأنه لا يتحلي بالجدية أو المسئولية في قيادة أمريكا. كما استطاعت هاريس الرد على جميع الاتهامات الجزافية التي ألقي بها ترامب في جعبتها نتيجة لاستعدادها وتدريبها المكثف بخلاف ترامب الذي اعتمد على ثقته الزائدة في ذاته.

انتخابات نارية

 انتخابات أمريكا هذا العام هي الانتخابات الستين، وسوف تجري في الخامس من نوفمبر القادم على أن يتم تنصيب الفائز بالانتخابات في 20 يناير 2025. وهي انتخابات شاملة لمقعد الرئاسة ومقاعد مجلس الشيوخ والكونجرس وحكام الولايات. ولها طريقة معقدة في احتساب أصوات كل ولاية، تعتمد في الأساس على أصوات المَجمع الانتخابي لا الأصوات الشعبية. ويبلغ عدد أصوات المجمع الانتخابي 538 صوتاً موزعة على جميع الولايات. ويلزم المرشح الرئاسي عدداً من الأصوات يبلغ 270 صوتاً أو أكثر للفوز بالرئاسة.

 فأما أصوات الجمهور رغم أنها مؤثرة، لكنها أصبحت عُرضة للتأثير الخارجي بشكل متزايد، خصوصاً وأن الأجيال الجديدة كلها صارت تتأثر في اختياراتها بمواقع التواصل الاجتماعي التي بات لها التأثير الأكبر على اختيارات الناخب الأمريكي. وربما نذكر في انتخابات 2016 كيف أن الاختراق السيبراني الذي قام به هاكر روسي للإيميل الخاص بهيلاري كلينتون تسبب لها في حرج بالغ مما أدي لفوز ترامب بمقعد الرئاسة. وقد نشر موقع إكسيوس مؤخراً خبراً عن عملية يقودها هاكر صيني يسيطر من خلالها على عدد من الحسابات المزيفة لأشخاص يزعمون أنهم أمريكيين ويبث من خلالها خطاب عدائي يؤلب الأمريكيين على بعضهم البعض.

 مثل هذه الاختراقات قد تزداد بشكل أكبر خلال الشهرين القادمين، وسوف تتسبب في زيادة حالة الاستقطاب بين نسيج المجتمع الأمريكي الذي شهد خلال السنوات الماضية تغيرات ضخمة تحولت على إثرها إحدي الولايات الديمقراطية على ولاية متأرجحة بسبب تغيرات ديموجرافية واسعة النطاق، وهي ولاية نورث كارولينا.

 يضاف إلى ما سبق تهديدات ترامب بأن فوز الديمقراطيين سيهدد استقرار المجتمع الأمريكي، وكأنه ينوي تكرار المشهد القديم لأنصاره باقتحام مبني الكونجرس وربما ما هو أسوأ.

قضايا شائكة

 قضية غزة فرضت نفسها كأهم القضايا المؤثرة على تصويت الناخبين الأمريكيين على غير عادة القضايا الخارجية. فالمعروف أن التصويت الانتخابي يعتمد في الأساس على قضايا الداخل الأمريكي وفى مقدمتها الاقتصاد.

 كلا المرشحين الديمقراطي والجمهوري أكدا دعمهما الكامل لإسرائيل من أجل استمالة اللوبي الصهيوني في أمريكا وهو من أقوي اللوبيات المسيطرة على تصويت المجمع الانتخابي سلباً أو إيجاباً. المدهش أن اليهود الأمريكيين أنفسهم يشهدون انقساماً حاداً في الرأي، البعض منهم ينحاز لرؤية نتنياهو وبن غفير في استمرار حرب الإبادة ضد غزة، والأكثرية يحضون على إبرام صفقة لإنهاء الحرب وتبادل الأسري. ما يعني أن أصوات اللوبي الصهيوني نفسها منقسمة على ذاتها ولا يمكن ضمانها.

 القضية الثانية من حيث الأهمية قضية الهجرة وأمن الحدود. أما بايدن فقد قام خلال فترة رئاسته بتوفير مسارات قانونية لتوفيق أوضاع المهاجرين وتسهيل إجراءات الحصول على تأشيرة للخريجين الأجانب، لضمان عدم تكرار تدفق المهاجرين غير القانونيين. وهو ما أدي لارتفاع معدلات الهجرة القانونية خاصة من المكسيك ودول أمريكا اللاتينية.

 على الناحية الأخرى توعد ترامب المهاجرين بإجراءات أكثر صرامة وأشد قسوة. وأنه سوف يستعين بالجيش الأمريكي لتأمين الحدود، وسوف يستكمل بناء الجدار العازل على الحدود الجنوبية. وقد لوحظ أن خطاب ترامب ازداد حدة ضد المهاجرين، فوصفهم بأنهم حيوانات وأنهم يسممون دماء البلاد، وزعم أن دول الجنوب يصدرون لأمريكا المجرمين والمدانين!

 قضايا أخري جدلية شغلت الرأي العام باتت هي الشغل الشاغل للفريق الرئاسي لكلا المرشحين مثل الحرب الأوكرانية وقضية الإجهاض والحرائق الناجمة عن التغير المناخي وقضايا التعليم والاقتصاد والرعاية الصحية. وكلها قضايا رغم أهميتها إلا أنها غير قادرة على حسم الصراع الدائر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لأن حالة الاستقطاب لدي الجمهور من ناحية، وحالة الهجوم المتبادل بين المرشحين من ناحية تجعلان التصويت العقلي يتقهقر أمام سطوة العاطفة والانحياز. لهذا فإن الانتخابات الأمريكية القادمة سوف تشهد أضخم حالة انقسام مجتمعي لم يسبق لها مثيل. وأتوقع ألا تهدأ تلك الحالة من الانقسام حتى بعد إجراء الانتخابات وإعلان الفائز برئاسة أمريكا. إنها انتخابات استثنائية في نتائجها ومجرياتها ولها تبعات خطيرة على كل المستويات داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.

***

د. عبد السلام فاروق

تُستخدم القنابل الغازية السامة والقاتلة المسماة "المسيلة للدموع" لتفريق التظاهرات والحشود والتجمعات الجماهيرية، المطالبة بحقوقها المشروعة. ويعرف ُ مستخدموها جيداً ما تسببه من أضرار لمستنشقي غازاتها أثناء إنفجارها، والتي تتراوح بين إلتهاب العينين، والأنف، والحنجرة، والعمى المؤقت، وتهيج البشرة، والسعال، الى صعوبة التنفس، والإختناق، والتهاب الرئتين، وخفقان القلب، وإرتفاع ضغط الدم، والنزف الدماغي، والموت.إضافة لما تسببه من  حروق شديدة، وتقود في حالات إلى تقيؤ متواصل يفضي إلى الموت. ويكون تأثيرها أشد على الأطفال، والنساء الحوامل، وكبار السن، ومرضى الربو، وضغط الدم  العالي، وعجز القلب، وغيرهم.

لذا تعتبرها المنظمات الدولية الإنسانية والحقوقية أداة قمعية بيد الحكومات المتسلطة على رقاب شعوبها ، والحكومات المحسوبة " ديمقراطية" وهي تصادر الحقوق وتخنق الحريات العامة، تمسكاً بكرسي الحكم.

لليوم، لا تتوفر شفافية كافية في صناعة إنتاج هذه الأداة القمعية. ولا يُطلبُ من الشركات المصنعة لها الإفصاح عن مكوناتها.ولذا لا يُعرفُ إلا القليل عن المزيج الدقيق الموجود داخل كل ماركة من عبوات القنابل. ويختلف تركيز  مركبات الغازات المستخدمة فيها اختلافاً ملموساً بين المنتجات..

بيد أنه رغم التعتيم يعرف الخبراء المختصون ان العبوة تحتوي مركبات كيميائية، تتكون من جزيئات صلبة ،متناهية الصغر، تتحول عند إطلاق القنبلة في الجو إلى غازات سامة وقاتلة. وغالباً يُستخدم أكثر من مادة ومركب كيماوي سام في العبوة. وتكون المكونات عادة  صلبة عند حرارة الغرفة، وعندما تُسخّن أثناء إطلاقها تُنتج العامل الفعال الحارق والمهيج والمدمر، على هيئة غاز ضبابي، يتكون أساسًا من مجموعة من مركبات صناعية، كيمياوية عضوية، تحتوي على كبريتات الألمنيوم أو نترات البوتاسيوم (الملح الصخري) أو الكلور أو البروم. وكذلك السليكون، وكاربونات المغنيسيوم، والسكروز، والنيترو سيليلوز ، والفحم.

المركب الأكثر شيوعاً في الأدبيات العربية هو المكون من رذاذ الفلفل الأسود ومواد كيميائية يرمز لها بالحروف: (CS)- إختصار لسيانو كربون، و (CN)- اختصار لكلورو أسيتوفينون، و( (CR- اختصار لدايبنزوكسازبين، و(Bava)- اختصار لـ بلارغونيك أسيد فانيليلامايد (نونيفامايد)،ومركب (KNO) الذي يحتوي على كلورات البوتاسيوم والأوكسجين والبوتاسيوم والكلورين. ولكل واحد منها مفعوله الضار.ويعد الغاز (C.S) أكثر خطورة وهو محرم دوليا، وتبلغ قوة هذا الغاز نحو 10 أضعاف الغازات الأخرى ، وتعد القنابل التي تعتمد هذا الغاز نادرة الاستخدام ومحرّمة دوليا لآثارها بعيدة المدى، فضلا عن أنها قد تسبب الإصابة بالسرطان.

عموماً، تصنع هذه القنابل، في الغالب، من جسم خارجي من الألمنيوم، على شكل عبوة، توجد بأعلاها خمسة ثقوب، وأسفلها ثقب واحد، مغطاة بطبقة من الشمع اللاصق، تذوب عند إطلاق القنبلة، وينبعث منها مركب الغاز، مكوناً سحابة غازية ضبابية، عند إستنشاقها تحصل الأضرار السالفة.

تقول منظمة العفو الدولية: " جعلونا نعتقد أن استخدام الغاز المسيل للدموع يعد أسلوبًا آمنًا لتفريق المشاركين في الاحتجاجات"، بينما إتضح بأنها أسلحة كيمياوية. وعلى الرغم من توقيع معظم دول العالم على معاهدة عدم استخدام هذه الأسلحة، الا أن الكثير من الحكومات تستخدمها بشكل مفرط.

وتوصف بأنها أقل فتكاً، ولكنها ليست غير فتاكة، إذ تظل هناك إمكانية لإحداث تأثير مميت برغم أنها ليست مصممة للقتل. وغازاتها سامة، وتختلف مستويات سميتها باختلاف مواصفات المنتج، والكمية المستخدمة، والبيئة التي تُستخدم فيها القنابل.

علماً بان قانون الأسلحة النارية والمتفجرات وقانون التجارة الخارجية الدولية تُصنف:" الغاز المسيل للدموع" ضمن “المتفجرات” و”المواد الستراتيجية”.وتُلزِمُ بالحصول على إذن لتصديره من وكالات الشرطة الإقليمية وإدارة برنامج المشتريات الدفاعية.كما وتُلزِمُ قوانين الأنظمة الموصوفة بالديمقراطية قوات الشرطة بالتدرب جيدا على استخدام هذه القنابل، وعدم إطلاقها  مباشرة على التجمعات البشرية، وإنما في الهواء فقط.ولا تستخدمها إلا في حالة الضرورة، مع مراعاة المعايير القانونية المحددة لهذا الغرض. ونظراً لخطورتها لا يجوز بتاتاً إطلاق القنابل او المقذوفات أو عبوات الغاز المسيل للدموع، مباشرة على الأشخاص. ففي هذه الحالة يُعدُ إطلاقها كمقذوفات خطرة.ويمكن لارتطامها المباشر بأجساد الأشخاص أن يؤدي إلى إختراقها وحرقها،إضافة للعمى، لاسيما عند إطلاقها من مسافة قريبة أو استهداف أجزاء محددة من الجسد.

المعايير المذكورة لا يتم الإلتزام بها، ولا الالتفات إليها من قبل الدول التي تستخدمها أجهزتها الأمنية. وتثير إساءة استخدام هذه القنابل على نطاق واسع أسئلة حول غياب الأنظمة واللوائح المتعلقة بالاستخدام الصحيح، أو تحديد تركيباتها السامة، وكذلك وجوب تدريب أفراد الشرطة على إستخدامها الآمن.وعلى الرغمن من بواعث القلق الخطير ذات العلاقة بحقوق الإنسان، وبالإرشادات التي أصدرتها الأمم المتحدة في هذا الشأن، يستمر سوء التنظيم مرافقاً لصناعة الغاز المسيل للدموع وتجارته.

وقد وثَّقَت منظمة العفو الدولية إساءة استخدام الشرطة للقنابل الغازية السامة بعدة طرق، تضمنت إطلاقها على التظاهرات السلمية، ومباشرة على المتظاهرين، بما فيهم أشخاص أقل قدورة على الهرب، أو أكثر عُرضةً للتضرُر من آثارها، كالأطفال والمُسنين والأشخاص ذوي الإعاقة.

وشهد العالم إساءة استخدام قوات الأمن للقنابل الغازية السامة والقاتلة على نحو مُروِّع في إطار حملاتها القمعية الوحشية ضد المتظاهرين في فاسطين المحتلة، وإيران، والعراق، وبيرو، وسري لانكا، وبنغلاديش.

الى هذا، دعت ماريا ريستيتش، مديرة فريق التدقيق الرقمي في منظمة العفو الدولية الى: " وجوب إحترام السلطات في جميع أرجاء العالم  الحق في التظاهر السلمي، ومساءلة أي شخص يستخدم القنابل الغازية السامة ضد الأشخاص الذين يُمارسون حقوقهم الإنسانية الأساسية "!.

لكن هذه الدعوة وغيرها لم تتحقق، وبتواصل إنتاج الملايين من القنابل الغازية السامة والقاتلة، حيث كشفت وسائل الإعلام، قبل أسبوعين، ان كوريا الجنوبية هي أكبر مصنع وبائع لها ، مع ان قانونها يمنع قواتها الأمنية من إستخدامها ضد المتظاهرين. ووفقا للبيانات التي قدمتها (وكالة الشرطة الوطنية) إلى النائبة (يونغ هيه إن)،عضوة لجنة الإدارة العامة والأمن البرلمانية، صدرت كوريا الجنوبية 4 ملايين و730 ألف قنبلة غازية خلال الفترة 2019 إلى  حزيران 2024.

والطامة الكبرى ان العراق "الديمقراطي" جاء على رأس القائمة، مستحوذاً على أكثر من ربع صادرات كوريا الجنوبية من هذه القنابل،مستورداً خلال الـ 18 شهراً الأخيرة  مليوناً و 210 اًلاف قنبلة، منها 732 ألف قنبلة في العام 2023، و 478 ألف قنبلة إضافية في النصف الأول من العام الجاري..

جرى هذا والعراقيون لم ينسوا بعد مشاهد قتل المتضاهرين إيام انتفاضة تشرين، في عام 2019 عبر الاستخدام الكثيف  للآلاف من "أجود" انواع القنابل الغازية السامة والقاتلة التي وجهتها القوات القمعية للسلطة، ومليشياتها المسلحة وبلطجيتها، عشوائياً، الى أجساد المتظاهرين المطالبين بحقوقهم المشروعة التي كفلها الدستور النافذ (الرأس والوجه والصدر والبطن) ، فإنفجرت فيها وأحرقتها ومزقتها.

وفي وقتها أثبتت منظمة العفو الدولية استخدام نوعين من القنابل المسيلة للدموع، لم يسبق استخدامهما من قبل، لقتل المحتجين السلميين بدلاً من تفريقهم؛ وذلك بعد أن خلصت تحقيقاتها إلى أنهما تسببا في وفاة ما لا يقل عن خمسة محتجين خلال خمسة أيام. وقد أظهر التحليل أنه بالإضافة إلى القنابل الصربية الصنع (Sloboda Ĉaĉak M99) فإن جزءاً كبيراً من المقذوفات الفتاكة هو في الواقع قنابل غاز مسيل للدموع (65 (M651، وقنابل دخان (713  (M713 صنعتها منظمة الصناعات الدفاعية الإيرانية. وقد باعت الشركة البلغارية، “آ” Arsenal، القنابل اليدوية والأسلحة الأخرى إلى العراق، بما في ذلك قنابل الدخان التي ألقيت باليد.

وصرحت لين معلوف، مديرة البحوث للشرق الأوسط في منظمة العفو الدولية بان جميع الأدلة أكدت قيام قوات الأمن العراقية باستخدام هذه القنابل العسكرية ضد المحتجين في بغداد، في تشرين الأول 2019، مستهدفة رؤوسهم أو جسدهم من مسافة قريبة وبصورة مباشرة. وكان لهذا نتائج مدمرة، في حالات متعددة اخترقت جماجم الضحايا، مما أدى إلى جروح مروعة وموت بعد أن تنغرس القنابل داخل رؤوسهم.

والحصيلة: إستخدام القنابل الغازية القاتلة والرصاص الحي أدى الى إستشهاد أكثر من ألف، وأصيب أكثر من 30 ألف شاب وشابة، منهم نحو 7 اَلاف معوق بعاهات جسدية مستديمة. وجرى ذلك أمام أنظار " نواب الشعب"، الذين كانوا يتفرجون ولا يحركون ساكناً، وكأن الأمر لا يعنيهم.. وذات الموقف وقفه الإدعاء العام ومجلس القضاء الأعلى..

وفيما تواصل عوائل الشهداء إنتظار معرفة قتلة ابنائها وبناتها، ويتم الافراج عن المتهمين بقتلهم، تقوم حكومة السوداني بإستيراد المزيد من القنابل الغازية السامة والقاتلة..ومع أنها صدعت رؤوس المواطنين بالوعو، خاصة بشأن الخدمات وفرص العمل، والتي لم تنفذها، مبررة التقصير بـ" ضعف الموارد"، بينما هي تنفق عشرات ملايين الدولارات على الوسائل القمعية.فرغم غياب الشفافية، والتستر على التعاقدات، والقومسيونات،تشير مصادر الكترونية إلى أن سعر القنبلة الواحدة يتراوح بين 15 و50 دولارًا. وبناء عليه، فإن الحكومة تكون قد استوردت قنابل بقيمة تقارب 20 مليون دولار، في حال كانت من  النوع الاسوأ. اما اذا كانت قد استوردت أفضل الأنواع، فإن ما انفقته عليها يصل الى 60 مليون دولار، وهذ هو المرجح طبعاً، من اجل ضمان التأثير الفعال لتلك القنابل في اسالة دموع المواطنين، وذلك كاجراء احترازي لتوفير الامن لهم ! "طريق الشعب" ليوم 20/8/2024.

وهنا، لابد من التساؤل: يدعي المتنفذون في السلطة ان نظامهم " ديمقراطي"، وهم يمثلون الغالبية، فلماذا إذا هم  مرعوبون من التظاهرات السلمية، ويستوردون بملايين الدولارات أداة لقمع أبناء وبنات شعبهم ؟!!.. وبأي حق، ووفق يا قانون " ديمقراطي" تشترونها وتستخدمونها ؟!

أليس الأحق بهذه المبالغ اَلاف الأُسر العراقية، التي جعلتها منظومة المحاصصة والفساد، تبحث في المزابل لسد رمق جوع أطفالها ؟ أو لدفع رواتب اَلاف الموظفين والمتقاعدين،الذين لم يستلموا رواتبهم منذ عدة أشهر؟!!

***

د. كاظم المقدادي

ظهر قبل الإسلام تعبير «أهل الله»(الأزرقيّ، أخبار مكة)، ومع تبلور المذاهب الإسلاميَّة برز مرادفه «الفرقة النَّاجيَّة»، وحديثاً طلع علينا «مشروع السماء»، شاهدنا كتاب «المرجعيَّة الدِّينيَّة: مشروع السماء في زمن الغيبة». لا أناقش المشروع، لأنه مشروع الله، ومن يناقشه جعل نفسه خصماً لصاحبه، شأنه شأن «حزب الله».

لقد أُغفلت المقولة المُثلَى: «الاختلافُ رَحمةٌ». لا ندري هل تمعنها مؤلف الكتاب أم لا، وكأن أول مبرزيها «إخوان الصّفا»(الرَّابع الهجري)، ثم تلقفها فقهاء، إلا أنَّ العمل بها فعلاً، على مدى تاريخ المذاهب، ليس بمستوى تداولها قولاً. مع أنْها ليست غريبة عن التُّراث القديم، فقد جرت على لسان شاعر.

شاع قبل الإسلام البيت التَّالي، واستشهدتُ به لمرات شغفاً بلفظه ومعناه: «نحن بما عندنا وأنتَ بما عن/ دك راضٍ والرَّأي مختلفُ»(الجاحظ، البيان والتبيين)، وبغض النَّظر عن المناسبة، يُخبرنا البيت بقبول الرَّأي المختلف مبكراً. قاله عمرو بن امرئ القيس(جاهليّ)، وقيل لغيره. لم نجد عند مؤرخي البيت الأولين، تفسيراً على أنّ معناه القبول بالآخر، إنما قصد الاعتصام بالرَّأي.

لكنْ نجد في القرآن ثلاث آيات واضحات جاهرات، في أنَّ الاختلاف هو «مشروع السَّماء»، لا مشروع مذهب مِن صنعة الرّجال، يخطئون ويُصيبون: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً»(المائدة: 48)، «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي مَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(يونس: 19)، «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ»(هود: 118).

لم ينل «النَّاسخ والمنسوخ» هذه الآيات بآية السّيف وغيرها، والمعنى ليست بين ما عُطل من آيات المسامحة(البغدادي، النَّاسخ والمنسوخ، وابن حزم، النّاسخ والمنسوخ). ناهيك عمَّا اعتبروه منسوخاً جزافاً، ويقرُ الاختلاف شرعةً: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(الحج: 17)، ومثلها ورد في «البقرة»: 62، و«المائدة»: 69، فهذا هو مشروع السَّماء واضح، لا يقبل تأويلاً.

نقرأ مقولة «اختلاف العلماء رحمة» في التّراث الفلسفيّ(إخوان الصّفا، الرسالة الأولى في الآراء والديانات)، وجاءت كتاباً «رحمة الأمة في اختلاف الأئمة» لمحمد العُثمانيّ(ت: 780 هجرية)، ولمحمد الحفنيّ(ت: 1181هجرية): «رسالة في قول النَّبيّ اختلاف أمتي رحمة». كما وردت «اختلاف أمتي رحمة» حديثاً (السِّيوطي، جامع الأحاديث).

على أرض الواقع، صَنف محمّد بن جرير الطّبريّ(ت: 310 هجرية) «اختلاف الفقهاء»، وبسببه اضطر ملازمة داره، ولما مات دُفن خفيةً، لمطاردته مِن قِبل حنابلة بغداد(مسكويه، تجارب الأُمم)، ثم جاءت بعده كتب بعنوان الاختلاف.

حسب ما تقدم، يكون الاختلاف بين المذاهب بريئاً مِن التزمت، ذلك إذا أُخذ بقول الفقيه سُفيان الثّوريّ (ت: 161 هجرية): «إنما العِلم عندنا الرّخصة مِن ثقةٍ، فأمَّا التّشدد فيُحسنه كلُّ أحدٍ»(ابن عبد البرِّ، مختصر جامع بيان العِلم).

نعرف أنَّ الثَّوريَ قصد علوم الدّين، وهذه هي المشكلة اليوم، فالنّزاع بين المذاهب، والسباق على الكسب، للمسلمين وغيرهم، في ظل قحم الدِّين في الحزبيّة، أصبح محفوفاً بالمخاطر، فلا تبقى رحمة في الاختلاف، وقد قيل «الاختلاف رحمة»، ومعلوم أنَّ قصد الكسب المذهبيّ السّطوة، وما درجة خطورتها إذا اعتبر كلّ مذهب مقالاته «مشروع السَّماء»؟

أقول: إذا كان القائلون بالحاكميّة، وهو «مشروع السَّماء» نفسه، فبم فسر هؤلاء آيات الاختلاف، وهنّ باعتقادهم نازلات مِن السَّماء، ولا حِجُّة، إذا كانوا ينظرون إليها وفق «الناسخ والمنسوخ»، فلسنَ مِن المنسوخات، وحسب الآيات المذكورات يكون مشروع السّماء: الاختلاف رحمة، لا مقالات مذهب بعينه.

ختاماً، أياً من المراجع يمثل «مشروع السّماء»، فهم كثرٌ: الولاية الكبرى (السُلطة السّياسيَّة) أم الوسطى (السياسة دون السلطة) أو(الحُسبية) الصُّغرى (الصّغير، أساطين المرجعيَّة العليا)؟!

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

توطئة: منذُ أيام الشباب وأنا أبحثُ عن أجابة مقنعة للسؤآل الذي يفرض نفسهُ: هل ممكن تحقيق التفاؤل الجاد للفيلسوف الألماني كارل ماركس الوصول إلى التغيير الشامل ؟!

وسأكون صريحا ومتواضعا مع توقعات هذا الفيلسوف السياسي الجاد بان حلمي وأمنيتي هوتحقيق (دولة مدنية – ديمقراطية) تسود فيها العدالة الأجتماعية، لقد نضجت في ذاتي وعقلي الباطني هذه الأمنية الوطنية ربما لتقادم العمر مرورا بمحطات الخيبة وفوبيا الحكومات الشمولية من أحلامنا الممنوعة، وكان للحرم الجامعي أثر كبير في تنمية قدراتنا الثقافية وتعميقها وخاصة في فضاءات دراسة (الأقتصاد السياسي) وبأشراف أساتذة كبارأكاديميين ماركسيين حقيقيين أكفاء أمثال الراحل الدكتور أبراهيم كبه في جامعة بغداد في ستينات القرن الماضي، والدكتور عبدالمنعم السيد علي في جامعة المستنصرية في سبعينات القرن الماضي، أضافة لتداول كتاب رأس المال سراً بين الطلاب في مرحلة الثانوية والجامعة للجو المكهرب وسنوات الجمر لأصحاب القرار السياسي في خمسينات وستينات القرن الماضي .

وكانت حصيلة محطات العمر ودراسة مستفيضة عن الفيلسوف الألماني كارل ماركس أن أحصل على مفهوم واحد لا غيره عن الأشتراكية العلمية لا الرشيد ولا المجيدة، لذا أقتضى الأمر للوصول الجاد لمفهوم الأشتراكية السياسية العلمية مطابقا لأفكار الفيلسوف السياسي كارل ماركس أعتمدتُ نظريتهُ وتتلخص بركيزتين: النشاط والعمل !؟

أعتبر ماركس (العمل) جوهر الوجود الأنساني الذي يمثل النشاط الأيجابي للأنسان، وأعتبر (الأمل) هو نضوج الوعي والأدراك للجمهور المضطهد أي بتوضيحٍ أدق: حصول القناعة المطلقة في طلب الأصلاح وهي شفرة ماركس (كود التغيير) بترميزة أيحائية ذاتية للبروليتاريا للثورة وأزاحة الرأسمالية البورجوازية الطفيلية المستلبة لكينونة الطبقة العاملة وحينها وجه ماركس نقداً لاذعاً للرأسمالية التي تعتبر العمل سلعة نفعية وفردية والعمال أدوات أنتاج لا غير! كما أضاف: إن العمل في النظام الرأسمالي (أنفرادي) كل يطلبُ لليلاه ومبتغاه حيث تكون مخرجاته السلبية أنقسام المجتمع وتشظيه وأستغلال الطبقة العاملة وسلبها فائض القيمة الذي هو عرق وجهد العمال، ومآلات النتيجة النهائية تراكم المال والسلطة بيد الطبقة الحاكمة الرأسمالية وبالمقابل فقر مدقع للطبقة العاملة وسوء توزيع الثروة حتى عالميا .

نقد الرأسمالية من خلال الواقع الأقتصادي "للعامل"

- ماركس يتحدث عن أغتراب العامل أو أنسلابه أي تجريده من حقهِ الطبيعي فهو (يمزج) أواصر كيمياوية وعناصر ديناميكية فلسفية في المضمون المستقبلي للطبقة العاملة كالصراع الطبقي وحتمية التأريخ والجدلية التأريخية، ولتوضيح هذا المفهوم الماركسي الجديد وهو أن العامل مجبر يمتلكهُ الرأسمالي جسداً وقوّة بحيث يمتص منهُ ناتج عمله، ويخرجه من (وسائل الأنتاج) لأنها في حوزته أصلاً حسب النظام الذي يبدو كقوة غريبة مستعبدة، وهنا يعلن ماركس حربهُ بنقدٍ دقيق ولاذع ومخيف للخصائص المميّزة للنظام الرأسمالي .

- أكد كارل ماركس في هذا النهج أبتعادهُ عن السفسطائية السالبة وبمعنى أدق الصد عن (اللاهوتي النقدي) حيث يقول في هذا الصدد: (إن اللاهوتي النقدي شكل آخر غير ناضج للنقد لكونه خارج الذات)، وإن ماركس ذكر في منجزهِ المشهور (المخطوطة) 1844 موضوعاً أجتماعيا خطيراً هو مزيج فلسفي وجدلي في العلاقة بين الأقتصاد السياسي والدولة والقانون والأخلاق والحياة المدنية وهذا هو نتاج ما حركهُ الصراع الطبقي الذي أفرز حالة العمال المزرية في ظل الرأسمالية، وأثبت ماركس فشل وحماقة عراب الرأسمالية (مالثوس) ونظريتةُ البائسة (المالثوسية) وألقمهُ حجرا ب(تطوير قوى الأنتاج) .

 - وأن أرتفاع الأجور وزيادتها تدفع العامل ألى عبودية شهوة المال على حساب وقته وصحته البدنية، وأحياناً كثيرة يزج بأبنائه وزوجته ألى أطول مدة عمل مضنية، {ولأن العامل لا يستطيع شراء كل شيء بل يجب بيع نفسه وآدميته وشخصيته الأنسانية ولا يبدو أكثر من مسخ مهان في خضم هذا العالم الأناني، أن ماركس ينتقد الأقتصاديين البورجوازيين من وجهة نظر (أشتراكية) مبيناً التناقضات المتبادلة بين العمل ورأس المال ويعلن معادلته الفلسفية في عالم الأقتصاد السياسي {هو أنهُ كلما زاد أنتاج العامل من الثروة أزداد بؤساً وفقراً}!؟ .

- حيث يصبح أكثر فقراً كلما زادت الثروة التي ينتجها وكلما زاد أنتاجهُ من حيث القوّة والكم، عندها يصبح العامل سلعة أرخص مما مضى كلما صنع المزيد من السلع، وأن العامل لا يكسب بالضرورة حين يكسب الرأسمالي لكنه يخسر بالضرورة حين يخسر الرأسمالي.

- أنخفاض قيمة العالم الأنساني يزداد في علاقة مباشرة مع زيادة قيمة الأشياء، نعم أذا تدهورت ثروة المجتمع فأن الذي يدفع فاتورة الغلاء والكساد والبطالة والبؤس هو العامل وعموم طبقته أكثر من الطبقات الأخرى .

- لا يخلق جهد العامل السلع فقط، ولكنهُ ينتج أيضاً نفسهُ ويخلق العامل كبضاعة وبنفس المعدل .

- ويعلن في مدونتهِ الأقتصادية الفلسفية المشهورة (المخطوطة) حقيقة علمية دقيقة هي { أن الثورة نتيجة التطور الأقتصادي للرأسمالية } أي أن النظام الرأسمالي هو نفسهُ يقود إلى الثورة من باب أنعدام الرؤية لحقيقة حتمية التأريخ في التغيير، وبالنهاية يبشر ماركس بأن هذا التناقض والعداء والفروق الطبقية تقود إلى تحرير العامل .

- يتحدث ماركس عن الأجور حيث تتحقق من خلال الصراع التأريخي بين الرأسمال والعامل، والرابح بالتأكيد هو الراسمالي الذي يستطيع أن يعيش بغير العامل (أطول) مما يستطيع العامل أن يعيش بغير الرأسمالي، ولأن أتحاد أرباب العمل لتكوين الكارتلات مسموح، بينما أتحاد العمال محظور، يضيف ماركس أن في العالم الرأسمالي البورجوازي تكون خيوط اللعبة في تحريك العامل بيد رب العمل الذي يغيير مسار اللعبة (بخبث) حيثما تتسارع الأرقام الريعية والنفعية ألى جيوبه حينها يكون العامل مجبرا على أن يبذل قصارى جهده تعبا وعرقا لأرضاء سيده النظام الرأسمالي البورجوازي!؟

معالجة الحالة العراقية المتردية ببروستاريكا وطنية عراقية !؟

1- من الصعب الخوض في مثل هذا الموضوع الشائك بالخصوص للأقتصاد العراقي المأزوم بالريعي الاعتماد على النفط في فضاءات الأنفاق، وسوف أتحدى اليأس والقنوط والسوداوية وأتحدث بواقعية ما علينا وما لنا بتوجه أيجابي بظل سيمياء عنوان البحث في ما يخص (مركسة)أقتصاد بلدي العراق ببعض الأفكار الماركسية الملائمة والمقبولة للسوسيولوجية الجمعية للعراق بعض الشيء .

2- البحث في حيثيات دولة مدنية ديمقراطية وبخطا جادة واقعية وبهدى النظرية الماركسية والتماهي مع التجارب الأستثمارية المجربة والناجحة لدى الشعوب التواقة للتحرر من ربقة اللبرالية الحديثة المرتبطة بالرأسمالية البطريركية الذكورية ذات النزعة الأستهلاكية المتجهة إلى تدمير مسارات التنمية الوطنية، وهنا يستوجب حضور السيادة الوطنية على الأسواق المالية والنقدية وأحياء بث الروح في النقابات والمنظمات العمالية لكونها تمثل الضمانات الوطنية لأعادة بناء عالم آخر افضل متعدد ألآقطاب مدني ديمقراطي (بديلا) عن بربرية الرأسمالية الجشعة، حينها تتوسع الدولة في الأنفاق على المشاريع الأستراتيجية الكبيرة وأكتشاف المهارات والأبتكارات عند الجيل الناهض الذي يلجأ إلى أستخدام (الأستدامة المالية) التي تدفع إلى التوازن بين الأنفاق والأيراد ت عندها توفر للدولة خمسة روافد نقدية لدعم موجودات البنك المركزي وهو تحريك ديناميكي للأستغناء التدريجي عن النفط كمصدر رئيسي للموازنة ببناء هياكل للأقتصاد المستدام الغير نفطي .

3- مراقبة جادة لمؤسسة البنك المركزي بأختيار محافظ كفوء صاحب خبرة بالأمور الصيرفية، مع دراسة وطنية جادة لمنافذ بيع العملة الأجنبية وتفعيل قانون مكافحة غسيل الأموال للسيطرة على أضطرابات مؤشر بوصلة قيمة الدينار العراقي مقابل الد ولار الأمريكي في السوق الموازية .

4- لا ضير بالأستأناس بأفكار بعض أساطين الأقتصاد السياسي العالمي والعربي نموذج معلم الطبقة العمالية كارل ماركس، والدكتور سمير أمين مفكر أقتصادي ماركسي مصري، أشتهر بنقده للبرالية الحداثوية ومشروعه المعرفي ونظريته الأقتصادية " التطور اللامتكافيء " التي صاغها في سبعينات القرن الماضي محاولا تفسير تخلف المنطقة العربية ومنها مصر، وخرج بملخص تجربته الأقتصادية { إن النظام الأشتراكي هو الذي سيسود العالم بعد أنهيار وتفكيك الرأسمالية، وتتم عملية الأنتقال أنطلاقا من العالم الثالث أي أطراف المركز الرأسمالي العالمي (منجزهُ كتاب ما بعد الرأسمالية المتهالكة)، والدكتور العراقي الفقيد فالح عبدالجبار وكتابه (اللادولة) والتي يسميها الدولة الغيررسمية أو الدولة العميقة تظهر فيها هياكل موازية للدولة مستندة على المال والسلاح .

5- التحرر من فايروس أسطورة تمجيد الفرد ما حدث في مصر تمجيد المنظر القومي " جمال عبدالناصر " وفي العراق تأليه الزعيم عبدالكريم قاسم قائد ثورة 14 تموز 1958.

6- مجسات وطنية أخرى: مثل

-التوأمة بين مكافحة الأرهاب وهيئة النزاهة .

- معالجة مشكلة التصحر الجاثم على جغرافية العراق في السنوات الأخيرة .

- مواجهة جادة لمشكلة السكن يجب أن تكون من أولويا ت البرنامج الحكومي .

- معالجة ظاهرة السكن العشوائي المستشري في عموم العراق .

***

عبد الجبار نوري أبورفاه - كاتب وباحث عراقي مغترب

أيلول سبتمبر2024

...........................

المصادر والهوامش

-كتاب مخطوطات كارل ماركس – ترجمة محمد مستجيرمصطفى - القاهرة 1975

- كتاب ثروة الأمم - لآدم سميث طبعة فريمان – المجلد الأول صفحات 50، 51، 60، 61، 71، 72 .

- كتاب دراسات في تأريخ الأقتصاد والفكر الأقتصادي – للدكتورأبراهيم كبة

- كتاب مدخل في علم الأقتصاد بجزئين 1984-و1986 – الدكتور عبدالمنعم سيد علي

في اليوم العالمي لمحو الأمية، الذي يُحتفل به كل عام في الثامن من سبتمبر، يتأمل العالم قاطبة القوة التغييرية لبرامج محو الأمية وتأثيرها على الأفراد والمجتمعات. وإذا كان محو الأمية التقليدية - القراءة والكتابة – يظل أساسيا في اهتمامات الحكومات، فقد أدخل الازدهار السريع للتكنولوجيا أشكالًا جديدة من محو الأمية، بما في ذلك محو الأمية الرقمية والإعلامية ومحو الأمية على وسائل التواصل الاجتماعي. وفي عالم اليوم المترابط والمتشابك، تعد أشكال محو الأمية الجديدة ضرورية للتنقل عبر تعقيدات الحياة الحديثة، من الوصول إلى المعلومات إلى المشاركة المدنية. وبينما نحتفل بهذه المناسبة هذه السنة، من الأهمية بمكان أن ندرك الطبيعة المتطورة لمحو الأمية والحاجة إلى شموليتها.

لقد كان مفهوم محو الأمية يعني تقليديًا القدرة على القراءة والكتابة، وهي مهارة أساسية شكلت لفترة طويلة حجر الأساس للتعليم والتطور الذاتي. تاريخيًا، مكّن محو الأمية التقليدي الأفراد من المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من خلال منحهم إمكانية الوصول إلى المعلومات والمنتجات الثقافية وفرص المبادرة والشغل.

وكثيراً ما ننظَر إلى محو الأمية التقليدي باعتباره بوابة عريضة لفهم الأعراف الثقافية والمجتمعية الأوسع نطاقاً. وفي العديد من الثقافات، تُستخدم معدلات محو الأمية كمؤشر للتنمية والتقدم الشامل. على سبيل المثال، تؤكد المنظمات العالمية مثل اليونسكو على أهمية محو الأمية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وتربطها بتحسين النتائج الصحية، والمساواة بين الجنسين، والحد من الفقر. وفي هذا السياق، فإن القدرة على القراءة والكتابة هي أكثر من مجرد مهارة عملية؛ فهي تمثل شكلاً من أشكال رأس المال الاجتماعي الذي يمنح الأفراد القدرة على الوصول إلى السلطة وفرص التنمية.

ورغم أن محو الأمية التقليدي يظل بالغ الأهمية، فقد شهد القرن الحادي والعشرين ظهور ما يطلق عليه العلماء "محو الأمية الجديدة". وتشمل هذه "محو الأمية الرقمية" و"محو الأمية الإعلامية" و"محو الأمية الاجتماعية"، وكل منها ضروري للعمل النشيط في عالم اليوم المترابط الذي تحركه اختراعات التكنولوجيا. وعلى النقيض من محو الأمية التقليدي، فإن هذه "المحو الأمية الجديدة" لا تنطوي فقط على القدرة على استهلاك المعلومات، بل وأيضاً على القدرة على تحليل وإنتاج المحتوى بشكل نقدي في البيئات الرقمية والإعلامية.

تشير الثقافة الرقمية إلى القدرة على استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات للعثور على المعلومات وتقييمها وإستهلاكها وتوصيلها. ويشمل ذلك فهم كيفية استخدام الأدوات الرقمية والتنقل عبر الإنترنت والتفاعل مع المنصات الرقمية. وفي عالم حيث يتم التوسط بشكل متزايد في العمل والتعليم وحتى التفاعلات الاجتماعية من خلال التكنولوجيا، فقد أصبحت الثقافة الرقمية ضرورية بقدر الثقافة التقليدية. فهي لا تنطوي فقط على القدرة على استخدام أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية، بل تشمل أيضًا فهم الآثار الأخلاقية والأمنية للتفاعل الرقمي، مثل قضايا الخصوصية وحماية البيانات.

أما محو الأمية الإعلامية فتعني القدرة على التعامل بشكل نقدي مع أشكال مختلفة من وسائل الإعلام، مثل الأخبار والإعلانات والترفيه. ومع انتشار المعلومات في العصر الرقمي، يساعد محو الأمية الإعلامية الأفراد على التمييز بين المصادر الموثوقة والمعلومات المضللة، وفهم التحيزات في التمثيل الإعلامي، والتعرف على تأثير الإعلان والدعاية. في عصر "الأخبار المزيفة"، يعد محو الأمية الإعلامية أمرًا بالغ الأهمية للمشاركة الديمقراطية، مما يسمح للأفراد باتخاذ قرارات مستنيرة والمشاركة في الرأي العام.

إن محو الأمية الاجتماعية هي أيضا إضافة حديثة إلى طيف محو الأمية الجديدة. وهي تنطوي على فهم كيفية عمل منصات وسائل التواصل الاجتماعي، والخوارزميات التي تتحكم في ظهور المحتوى، والتأثيرات المحتملة لوسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية والخصوصية والاتجاهات المجتمعية. وتشمل محو الأمية الاجتماعية أيضًا القدرة على إنشاء المحتوى ومشاركته بشكل مسؤول، والمشاركة في مناقشات هادفة عبر الإنترنت، والتنقل بين تعقيدات العلاقات الرقمية. ونظرًا للدور الذي تلعبه منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وأنستغرام وإكس (تويتر سابقا)  في تشكيل الرأي العام والهوية الشخصية، فإن محو الأمية الاجتماعية قد أصبح مهمًا بشكل متزايد.

وعلاوة على ذلك، فإن الوتيرة السريعة للتغيير التكنولوجي تعني أن مهارات القراءة والكتابة الجديدة تتطور باستمرار. ولا ينبغي للأفراد أن يكتسبوا هذه المهارات فحسب، بل يتعين عليهم أيضا أن يكونوا قادرين على التكيف مع بيئتها، وأن يتعلموا باستمرار كيفية التنقل بين المنصات والأدوات الرقمية الجديدة عند ظهورها. وقد أدى الانقسام بين أولئك الذين يتمتعون بالقدرة على القراءة والكتابة الرقمية وأولئك الذين يجهلونها إلى ما بات يعرف ب"الفجوة الرقمية" التي تؤدي إلى تفاقم التفاوتات الاجتماعية، حيث يتم استبعاد أولئك الذين يفتقرون إلى مهارات القراءة والكتابة الرقمية في كثير من الأحيان من الفرص التعليمية والاقتصادية.

وعلى الرغم من الأهمية المتصاعدة لمحو الأمية الجديدة، فإن هناك تحديات كبيرة تعوق تبنيها على نطاق واسع. فالوصول إلى التكنولوجيا غير متكافئ، حيث تفتقر المجتمعات المهمشة في كثير من الأحيان إلى الموارد اللازمة لتطوير مهارات محو الأمية الرقمية والإعلامية. بالإضافة إلى ذلك، كانت أنظمة التعليم في العديد من أنحاء العالم بطيئة في التكيف، ولا تزال تركز في المقام الأول على محو الأمية التقليدية وتفشل في دمج محو الأمية الجديدة في المناهج الدراسية.

إن دمج أساليب جديدة لمحو الأمية في التعليم من شأنه أن يخلق مواطنين أكثر انخراطا ووعيا وتمكينا. وعلاوة على ذلك، توفر التكنولوجيات الرقمية فرصا غير مسبوقة للتعلم والإبداع. على سبيل المثال، تمكن المنصات الإلكترونية الأفراد من الوصول إلى ثروة من المعلومات، والتواصل مع الآخرين في مختلف أنحاء العالم، ومشاركة أفكارهم وإبداعاتهم.

***

عبده حقي

 

"الثقافة هي أسلوب حياة، الأسلوب المشترك لمجتمع بأكمله من علمائه إلى فلاحيه" مالك بن نبي

في أواخر تسعينيات القرن الماضي، أطلقت شخصيات ثقافية وفكرية من مختلف المشارب والاتجاهات، نداء ثقافيا بمراكش، قارب بالنقاش والتحليل، أهم التحديات المشتركة التي تواجهها المدينة في تسخير قوة الثقافة لإنشاء بيئات حضرية أكثر حيوية وتماسكًا وشمولاً.

وكشفت الجلسات النقاشية المستفيضة التي هيأت لإطلاق النداء إياه، مدى أهمية إشراك الفعاليات الثقافية والفنية في باراديجم التفكير الجماعي، في سيرورة هذا الفعل، وإيلائه ما يستحق من الاهتمام، في ظل سيطرة "الخرافة" و"الميوعة الشعبوية" واكتساح الأكاذيب السياسية للمجتمع، وانفضاض المواطنين عن تاريخ عمرانهم وثقافتهم وقيمهم الأصيلة، وتمنعهم عن مواجهة تحديات العصر الجديد وتحولاته.

وعلى ضوء ذلك، استنتج المجتمعون، وضعية الهشاشة الهيكلية في القطاع الثقافي والفني بمراكش، واندحار رمزية المدينة، كنافذة حضارية للتراث والثقافة، وتضاؤل قدرة الإدارة السياسية على تملك زمام المبادرة، لتشكيل طفرة جديدة، منحازة للشرطية المتجددة للهوية الثقافية، مع ما يواكب ذلك من موارد مستدامة، وتهيئة الظروف اللازمة لتأسيس واجهة متماسكة من المواهب، القادرة على الابداع والتأثير وتطوير الأدوات.

ومن موقع مسؤوليتها، ككتلة ثقافية اقتراحية، مدركة لما يمكن للمدينة أن تتقمصه كلاعب أساسي في طليعة الاستراتيجيات الكلية التي تؤثر على التخطيط الحضري، والتنمية الاقتصادية، والتماسك الاجتماعي، والاستدامة البيئية، وغير ذلك، وجهت اللجنة المفكرة نداء يدعو إلى إعادة تقييم السياسة الثقافية ببلادنا، وجعلها في صلب جداول الأعمال والبرامج التي تخطط لتنمية المدينة، وذلك بإشراك الفاعلين والخبراء والباحثين، وانخراط الأجيال الشابة في تطوير السياسات الثقافية، من أجل تعزيز الثقة وسد الفجوات الثقافية بين الأجيال. مع ما يشكل جانب جذب الاستثمار من مصادر مختلفة، من فعالية واستحقاق على المستوى المنظور والحاسم. والنماذج الثقافية الأوربية الناجحة، الدالة على التخطيط وبعد النظر دليل ساطع بهذا الخصوص، نستدل مثلا، بتجمع مبادرة "المواثيق الثقافية" بالمملكة المتحدة، والتي تجمع بين قطاعات القطاع الثقافي والتعليم والصحة والتنمية التجارية لإعطاء الأولوية للثقافة في جذب الاستثمار والمواهب إلى الداخل.

نفس الشيء بالنسبة لمشروع "تعاون دوسلدورف" مع شركة مختصة من قطاع الطاقة في البنية التحتية الثقافية ونماذج الرعاية الثقافية المتنامية التي تجتذب التمويل من الأفراد ذوي الثروات العالية والمؤسسات المحلية والمقيمين.

وعلاوة على كون المدينة أصبحت بشكل رئيس في طليعة التحديات التنموية - كالفقر، وعدم المساواة، وزيادة التوتر، والتدهور البيئي. إذ غالبا ما يؤدي التحضر السريع وغير المنضبط إلى تجزئة اجتماعية ومجالية ونفسية، وتدهور حاد في نوعية البيئة الحضرية. وهو ما لا ينبغي النظر إليها كمصدر للتحديات فحسب، بل أيضًا كمقدم للحلول من أجل مستقبل أكثر استدامة. وفي سياق تتفكك فيه المجتمعات بشكل متزايد، تبرز المدينة كأرضية موثوق بها للممارسة الكاملة للتنوع الثقافي والاعتراف به، كمساحات تم فيها صياغة التنوع والاحتفاء به عبر التاريخ.

وهنا يمكن استحضار مشروع اليونسكو، الذي يؤكد على دور المدن كمختبرات في الهواء الطلق أو الفضاءات المفتوحة، من بينها الأحواز والجبال والمداشر، كتعددية سيكون حاسما للتعايش السلمي وتعزيز الحقوق الأساسية في المستقبل، حيث أن التنوع الثقافي هو عنصر جوهري في مجتمعاتنا، لا سيما داخل المناطق الحضرية، في ظل المجتمع الدولي المشترك.

مدينة الثقافة

تقع المدينة في صلب مفهوم الحضارة، أو يقع شكلها المثالي، كنتاج للتحضر والتطور التقني والمادي، دون تناسي ضلعها الرمزي والاعتباري. بنفس الوجه الذي تعتبر فيه الثقافة تراثًا للمعرفة والتمثلات الثقافية والعمرانية وطرق العيش والتفكير، حيث تُترجم في نطاق ذلك، على أنها ثقافة مخصوصة أو خاصة لشعب أو أمة.

أما عرض الثقافة، الذي هو جزء من فهمنا لعوالم التحضر ونهضته، فترتبط بالقاعدة البنيوية الصلبة، التي تقوم عليها، ومن خلال ذلك، تتمظهر الهندسة المعمارية، والمؤسسات الممثلة لها، كالمتاحف والأوبرا والمسارح والمكتبات ودور النشر. إنها حاضرة دائمًا في النسيج الحضري، وهي العلامات الثقافية للعصر وخطاب الأمة ورؤية الحداثة.

وفي سياق تعاطينا مع الثقافة، تقوم الجهات الفاعلة بوضع استراتيجيات متعددة لتحريك برامجها وتعزيز أصولها التراثية، ومن خلال ذلك تتنافس الأطراف مع المركز، وتتنوع المرافق والفعاليات وتتعدد المخالص والارتهانات، الشيء الذي يؤدي إلى تقوية وترسيخ ما نسميه ب"التشابك الثقافي" والتشاركيات المتفاعلة بين المدن والضواحي والريف، حيث تتوطن العلاقات التفاعلية بين الثقافات الكلاسيكية والثقافات الناشئة، بين الجماهير المؤتزرة والجماهير المفتوحة.

نطرح هنا سؤالا جوهريا، يتعلق بطرق وإمكانيات تطور الثقافات الطرفية périphériques التي تتشكل لتحول نفسها من أجل أن تتكيف مع البيئات، فتشارك ثقافات الضواحي والمهرجانات والثقافات التراثية والمهرجانات الحضرية الكبرى في هذه التوشيحة الحية، مما يسمح للمقيمين بنشر معارفهم وأفعالهم وإعادة تحديد مكانهم في المجتمع؟.

هل مأمول في هذه الامتدادات الاستيتيكية الواسعة، أن تتدبر بحكامة داعمة، وروح انتصار للفعل الثقافي وانتظاراته، من خوض رهانات النهضة واستخلاص نظام عصري يستجيب لمتطلبات إنسان اليوم، وقيم الحداثة والعولمة الجديدة؟.

مراكش في صحوتها البطيئة

ينشغل الناس اليوم في المدينة الحمراء، في متاهة الاجحاف وسوء الطالع والتقدير السيء، التي ترزح تحت نيرانها مدينتهم التاريخية. ففي الوقت الذي تتسارع أخبار التحولات التنموية بمدن أخرى، ومقدراتها النهضوية المتعددة، في مجالات البنى التحتية والتفكير والتخطيط الاستراتيجي على المددين القصير والمتوسط، تتعالق أسئلة التيه والتلف وانعدام الرؤية، في وعاء جماعة مراكش، وتطرح كمائن ومفارقات ثاوية، من قبل دور المدينة كمحرك للنمو الاقتصادي مع تزايد التحضر في العالم. وأين نحن من ملاءمة وضعها الاعتباري في أفق استعادتها لهبة قوية وصادمة كمدينة استراتيجية تفتح أدرعها لتنمية الشباب واستثمار الكفاءات من أجل الاستفادة من الفرص.

وكثيرا ما تتساءل النخب عن استراتيجية تنمية المدينة كأداة تساعد في تسخير إمكانات التحضر. حيث تمكن من تطوير إمكانيات التطوير والموارد البشرية والعلمية والإدارية، والربط بين النمو الاقتصادي وأهداف الحد من الفقر، بما في ذلك، في كثير من الأحيان استراتيجيات تطوير الأحياء الفقيرة على مستوى المدينة. لكن، يصطدم هذا المعطى، مع ما تتعسفه مفاهيم تنمية المدينة، وارتداداتها السلبية على مستوى الاستدامة والتطوير والجودة، وافتئات تعزيز النمو العادل في المجال الحضري والمناطق المحيطة بها، التي تختفي فيها مضمارات تحسين نوعية الحياة لجميع المواطنين.

إن استراتيجيات التنمية المستدامة تساعد المدينة على دمج نهج التنمية الاستراتيجية بمنظور طويل الأجل في تخطيطها الحضري. ومن خلال استراتيجية التنمية المستدامة المتوخاة، تنتقل المدينة إلى ما هو أبعد من التخطيط حول دورة القوى السياسية ناجعة وفعالة تتفاعل مع الأدوار المؤسساتية الموازية، وكذا الخطوات التي يتعين اتخاذها لتحقيق هذه الأهداف. إلى جانب ما يقوم به المجتمع المدني الذي يتم إشراكه بشكل جيد وفي التوقيت المناسب حتى يتمكن من الإسهام في التغير بشكل كبير مسار تنمية المدينة وتحسين أدائها.

ماذا بعد ..؟

يبقى سؤال الثقافة مرهونا بمدى قدرة النخب ونشطاء المجتمع المدني والقوى السياسية الحية، على استلهام عبر التاريخ، تأسيسا على احتفاظ الثقافة ببعدها الاجتماعي، لكي يكون بإمكانها أن تمثل نقداً فاعلاً ومؤثراً، كما لم يعد باستطاعتها أن تقفز عائدة إلى معناها الباكر حسب وصف تيري إيجلتون.

على المثقفين وصناع الأفكار وفلاسفة النقد، أن يستعيدوا أدوارهم لمواجهة سيول التفاهة والقبح وسقوط القيم.

عليهم أن يبدعوا في عرض أصواتهم واختياراتهم، بنسق خطابي مقنع ومتفاعل مع المنظورات الجديدة لوسائط الإعلام وعولمياته، وطرق تصريفها التكنولوجي والمعلومياتي.

على الفاعل الثقافي أن يواكب انتقالات المجتمع الثقافي، ومدى تدبيره لمشكلات العصر، وأولوياته الراهنة، كالهوية والتعدد الثقافي واللغوي، ومنهجيات التعليم وخصوصياته البيداغوجية والديداكتيكية.

ولا يمكن الحديث هاهنا، عن الثقافة، دون استحضار منظومة الإعلام والصحافة، التي هي مركز السلط الأخلاقية والثقافية، وبوصلتها في نشر المعرفة واستقبال المعلومات ونقد ومراقبة المشاريع.

إن التفكير في تشاركية مجتمعية شاملة، يكون إطارها الرئيس قائما على تحديد الأهداف  والأولويات وتوجيد آليات التنفيذ والمراقبة والتقييم، هو الوجهة السليمة، لأي مبادرة من شأنها أن تستبشر أملا في استعادة الجذوة وتنبيه الغافلين، من خطورة الإقصاء والتسخيف. على أن تتشكل إحفازات محورية متجددة حول رص الصفوف وتأسيس جبهة مناضلة وذات مصداقية، لجعل الثقافة عمودا فقريا في تنمية المدينة والإنسان.

***

د. مصطَفَى غَلْمَان

الدّولة المركزيّة هي الدّولة القطريّة القائمة على وحدة المساواة في ذات المواطنة، لهذا تسمّى الدّولة المركزيّة أو الدّولة القطريّة أو الدّولة الوطنيّة، والجامع بينها هي الوحدة المركزيّة الواحدة من حيث القوّة، والحاميّة للجميع، مع المساواة من حيث الذّات، ومن حيث الحقوق والواجبات، في ضوء صورة التّعاقد المتفق عليها وفق قانون البلد الواحد.

وأمّا الميليشيات كما يعرّفها المركز الأوروبيّ لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات (ECCI) هي "جماعة منظمة، لديها هيكل تنظيمي محدّد، وقيادة منظمة للعمل خارج سيطرة الدّولة باستخدام القوّة لتحقيق أهدافها السّياسيّة، وتستخدم العنف لتحقيق أهدافها، فهي بشكل عام جيش أو منظمة قتاليّة أخرى تتكوّن من جنود غير محترفين أو مواطنين من دولة أو رعايا دولة".

لهذا بتكوّن الميليشيات في دولة ما، لا يوجد في الواقع دولة مركزيّة واحدة، وبالتّالي لا يمكن تحقّق وحدة القوّة، ولا وحدة المواطنة، وإنّما هناك دولة أو أكثر في قطر معين، ممّا يؤدّي إلى الصّراع والعنف، وضعف أو انهيار الدّولة المركزيّة ذاتها، وهذا ملحظ بشكل كبير، في الدّول الّتي تجد فيها الميليشيات أرضا خصبة للنّمو؛ يسودها الاضطراب والصّراع، وقد يؤدي ذلك إلى الاحتراب والانشقاقات الدّاخليّة المؤدية إلى حروب أهليّة، ينتج عنها الفقر والمرض وتشريد مواطنيها بحثا عن الأمن ولقمة العيش.

والخطورة إذا التصقت هذه الميليشيات بتوجهات أيدلوجيّة معينة، أو ارتبطت بحركات خارجيّة، فالأولى حراكها وولاؤها وفق الأيدلوجيا الضّيقة، وهذا يتعارض مع المساواة في ضوء المواطنة، وقد تمارس العنف لمن خالف هذه الأيدلوجيا، وإن تمكنت مارست الإقصاء والاستبداد، والثّانيّة لا يكون حراكها وولاؤها في ضوء الوطن أيضا، وإنّما هي تتحرّك وفق أجندات خارجيّة، وإن تظاهرت بالمواطنة حينا، ولكن ما إن تتمكن يظهر أين يكون اتّجاهها، وعليه لا يكون هناك استقلال حقيقيّ للدّولة المركزيّة.

ولا يمكن بحال المقارنة بين الأحزاب البرلمانيّة والسّياسيّة وبين الميلشيات، وإن كانت قبل تبلورها تحمل ذات الصّبغة الأيدلوجيّة كما يرى وجيه قانصو في بحثه "الأحزاب السّياسيّة" حيث كانت "كلمة الأحزاب قبل ظهور التّمثيل البرلمانيّ تطلق على الرّمز والطّوائف والفرق الاعتقاديّة، والجماعات المغلقة الّتي تشاكلت أهواء أفرادها، وعلى الولاءات الّتي تتمحور حول شخص ذي صفات كاريزميّة، أو شخص مقتدر ماديّا، أو ذو صفة معنويّة، مثل قادة المرتزقة إبان عصر النّهضة في إيطاليا، أو النّبلاء والأمراء في العصر الوسيط، والفرق الّتي ظهرت لاحقا وتمحورت حول التّجار والصّناعيين وأصحاب البنوك ورجال الأعمال".

ويرى قانصو أنّه "رغم دور الأحزاب في تفعيل العمليّة الدّيمقراطيّة، فقد بقت الأحزاب تحمل بطبيعتها صفة متناقضة، فهي من جهة هيئة منظمة يفترض بها أن تعبّر عن تطلّعات النّاس، وتمثل قضاياهم، وتنقل همومهم بشفافيّة وأمانة ... وهي من جهة أخرى تحمل أجندتها الخاصّة، وشبكة مصالحها ومعتقداتها الذّاتيّة، وتعمد إلى استقطاب الجماهير على أساسها، وإدارة حملات انتخابيّة لكسب التّأييد والولاء لشخصيّة مرشحة، تكون منابرها ووسائل إعلامها أدوات أيديولوجيّة وتوجيهية"، لهذا إذا ضعفت الدّولة المركزيّة؛ قد تتحوّل هذه الأحزاب مع مرور الوقت إلى ميلشيات مسلحة، مستغلة توجهات أيدلوجيّة معيّنة، يمينيّة كانت أم يساريّة.

لهذا وجدت العديد من النّظريّات الّتي توسع من دائرة الشّراك الاجتماعيّ، مع المحافظة على مركزيّة الدّولة، كنظريّة العقد الاجتماعيّ عند جان جاك روسو (ت 1778م)، ونظريّة العقد الاجتماعيّ تطوّر لنظريّة توماس هوبز (ت 1679م)، فهو وإن كان مع الملكيّة المطلقة، إلّا أنّها لابدّ أن ترتبط بعقد اجتماعيّ، وهذا لا يتعارض في نظره "حين يتنازل عن سلطتهم لصاحب السّيادة"؛ لأنّ هذه السّلطة "تشكل بها إرادتهم لصياغة السّلام في الدّاخل، والدّفاع عن الدّاخل أمام الخارج".

كما استفاد أيضا روسو من جون لوك (ت 1704م)، فنظريّة الحكامة عنده لا تقوم "على أساس القوّة والإكراه، بل تقوم على أساس الاختيار والرّضى المتبادل بين الأفراد، وإنّ الغاية من ذلك الاجتماع المدنيّ هي المحافظة على الملكيّة الّتي تعني حقّ الحياة والحرّيّة والتّملك"، وهو وإن كان لاهوتيّا، إلّا أنّه مع علمنة الدّولة، بمعنى "كلّ سلطات الحكومة المدنيّة لا تتعلّق إلّا بالمصالح المدنيّة".

وكلّ النّظريّات اللّاحقة هو تطوّر أو شرح لنظريّة العقد الاجتماعيّ، وهي نظريّة تحفظ مركزيّة الدّولة، وفي الوقت ذاته توسع من دائرة الشّراك الشّعبيّ في ضوء المواطنة، كما أنّها توسع من دائرة الحريّات، والاستفادة من الجانب النّقديّ، في وسائل مدنيّة، أو عن طريق الأدوات البرلمانيّة، بحيث يكون الحراك بشكل مدنيّ إيجابيّ، لا يقود إلى العنف واستخدام القوّة من أطراف متباينة عدا مركزيّة الدّولة، قد تقود إلى حروب أهليّة، أو انتماءات ولائيّة خارجيّة.

وعليه التّدافع في الدّولة المركزيّة الواحدة كلّما اتّسعت فيه الحريّات المدنيّة، وتقلّص فيه دائرة الاستبداد، وفق رؤية قانونيّة واحدة وواضحة، تحمي التّعدّديّة والشّراك التّعاقديّ المدنيّ؛ كلّما ابتعد المجتمع عن تكوّن الميلشيّات، وحافظ على مركزيّة الدّولة القطريّة ذات المركزيّة الواحدة، والعكس صحيح، إذا توسع فيه دائرة الاستبداد الشّامل، قد تنمو فيه بعد فترة جماعات ذات توجه ميليشيّ، إذا تجد بذوره تربة خصبة لنمو مثل هذه الجماعات المتطرّفة، وفق انتماءات ولائيّة لشخص أو مذهب أو دين أو توجه سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ، تتحوّل لاحقا إلى جماعات مسلحة، تستخدم القّوة في الحراك السّياسيّ والمدنيّ، ممّا لا يكون للدّولة المركزيّة لها حضورها الّذي يحمي مظلّة الدّولة، وبالتّالي انهيارها ودخولها في دائرة الفوضى والصّراع والاحتراب، الّذي ينتج عنه التّشريد والفقر والمجاعة والجهل، فحتّى تعود إلى مركزيّتها يحتاج إلى شيء من الوقت، والّذي تخسر فيه إبداعاتها وتقدّمها واستقرارها.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

....................

* مراجع المقالة: بحث الأحزاب السّياسيّة لوجيه قانصو، وكتاب نظريّات الحكم والدّولة لمحمّد مصطفويّ.

رسخت الثّنائيَّة بين الحسين (قُتل: 61 هجريَّة) ويزيد (ت: 64 هجريَّة)، وكأن الدُّنيا، بحاضرها ومستقبلها، خندقان، علويّ وأمويّ، بينما للمقابلة زمنها، بدأت بصفين (37 هجرية)، فلابن تيمية(ت: 728هجرية)، رأيه: «الحُسين رضي الله عنه أكرمه الله تعالى بالشَّهادة في هذا اليوم (العاشر مِن محرم)، وأهان بذلك مَن قتله، أو أعان على قتله، أو رضى بقتله، وله أسوةٌ حسنةٌ بمَن سبقه مِن الشَّهداء، فإنه وأخاه سيدا شباب أهل الجنة...»(فتاوى شيخ الإسلام)، وهذا رأي كلِّ مَن يُحسب تعسفاً على يزيد. ليس محبة للحُسين استخدام دمه في نزاعات اليوم.

القصد أن التمييز كان معروفاً، لكنَّ اعتبار الحدث حيّاً في كل آنٍ، حتّى نُحت القول: «كلّ يومٍ عاشوراء وكلّ أرض كربلاء»، ما لا يمكن تمييز المصلحة فيه، والإشارة به إلى الأجيال المتعاقبة، لذا يُفهم أنَّ دمَ الحُسين «كنز لا يفنى»، تُحرك به السِّياسة، أما تفسير ذلك فإنه إشارة إلى الخير والشّر، فمِن متى احتاج تقابلهما إلى كنايةٍ تزكي الكراهيَّة؟!

أمَّا عمَّا بين الأمويين والهاشميين، فهاشم وعبد شمس شقيقان، وعبد المطلب وأميَّة أولاد عمّ خلصاء، وكان الخلاف على الزَّعامة بمكة، ولنقل الإمامة، موجوداً قبل الإسلام (المقريزيّ، النِّزاع والتَّخاصم فيما بين بني أميَّة وبني هاشم)، ومع كلِّ ما بينهما، فالتَّداخل الأُسري ظل قائماً، قبل وبعد كربلاء (انظروا: القمي، الكُنى والألقاب، وابن عنبة، عمدة الطّالب).

تزوج الحُسين ليلى ابنة ميمونة بنت أبي سفيان، أخت معاوية(ت: 60 هجريّة)، وهي أم ولده عليّ الأكبر، فقيل: «علي الأكبر هاشمي مِن جهة أبيه، ثقفي أمويّ مِن جهة أمِّه»(القميّ، منتهى الآمال)، وقس قرابة يزيد لعلي الأكبر، وفي المصدر الشّيعي نفسه نجد حظوةَ عليّ بن الحُسين السَّجاد، بعد كربلاء، عند الأمويين، ففي «الحَرة»(63 هجرية)، في عهد يزيد، كانت دار السّجاد حمى للمطلوبين، حتَّى ضم إلى «عياله أربعمئة امرأة كثيرات الأبناء مع عيالهنَّ وحشمهنَّ»(منتهى الآمال)، وقائد الجيش الذي استباح المدينة قال للسجاد: «سلنَّي حوائجك، فلم يسأله في أحدٍ ممَن قُدّمَ إلى السّيف إلا شفعه فيه»(منتهى الآمال).

كلُّ قضية ومعركة لها ظرفها، والتّاريخ ميز فيها الحقّ عن الباطل، وأبناء الخندقين تصالحا وتصاهرا، نشأت منهما أُسرٌ متشابكة في هاشميتها وأمويتها، فما المطلوب اليوم، والثَّأر أخذه التَوابون مِن قتلة الحُسين فرداً فرداً، بعد ست سنوات، ثم زاد العباسيون بنبش القبور، وانقرض أحفاد يزيد، وتسنم أحفاد الحُسين السُّلطة، وتحت عناوين شتى، كإسماعليين وزيديين واثني عشريين، لكنهم لم يشيدوا العدل المتباكى عليه، لأنَّه مجرد خيالٍ، لا وجود له إلا في الشّعارات.

فهذا أحد أحفاد الحُسين، زيد بن موسى الكاظم «خرج بالمدينة وأحرق وقتل، وكان يسمى زيد النَّار»، فنهره أخوه، ولي عهد عبدالله المأمون(ت: 218هجرية)، عليّ الرّضا(ت: 203هجرية): «يا زيد أغرك قول سفلة أهل الكوفة»(المجلسيّ، بحار الأنوار)! يقصد الغلاة، الذين فكرهم يُثقف به من على المنابر، والرّضا الإمام الثّامن عند القائلين بالخندقين. ماذا لو استلم زيد السُّلطة، ألا يظلم ويبطش؟ وهو ابنُ إمام وأخو إمام وحفيد إمام، وهذه تجارب الإسلاميين، ماذا عرضوا قبل السُّلطة، وماذا فعلوا بعدها؟

ليس حقَّاً، يمسي دم الحُسين سلماً إلى السُّلطة، ويُتحنى به لحصانتها، ويُحسب خراب البلدان وعسكرتها فداءً له. حتَّى صار بيت أبي عطاء السّنديّ(ت: نحو 180 هجرية)، مثلاً سائراً: «يا ليتَ جَور بني مروان عاد لنَّا/ وأنْ عدلَ بني العبَّاس في النَّارِ»(ابن قُتيبة، الشّعر والشّعراء).

عندما تستمر الدّنيا حرباً بين الحُسَين ويزيد، يسقط مِن الحساب «القناعة كنزٌ لا يَفني»(القشيريّ، الرّسالة القشيريَّة)، باعتبارها دعوة صوفيَّة كسلى، ليجري محلها «دم الحُسين.. كنزٌ لا يفنى»، فيه الغنائم السَّوائم!.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

اثار اهتمامي خبر عزم وزارة التعليم العالي على فتح كلية متخصصة بالذكاء الاصطناعي في جامعة بغداد. اود ان اعبر عن قلقي بشان هذا المشروع، حيث يبدو لي انه غير مدروس بشكل كاف بناء على الخبرات العالمية. في الوقت الذي تتريث فيه معظم الجامعات العالمية في فتح برامج دراسات متخصصة في الذكاء الاصطناعي نجد ان هذا القرار قد يكون متسرعا لاسباب تتعلق بالتحديات التقنية التي تتطلب تجهيزات تقنية متقدمة مثل الحواسيب الفائقة والشبكات السريعة.

من الضروري ان ناخذ بعين الاعتبار ان الذكاء الاصطناعي هو مجال معقد يتطلب بنية تحتية متقدمة، واعضاء هيئة تدريس مؤهلين وذو خبرة عالمية في الخوارزميات وعلم البيانات والبرمجة وتطوير النماذج الرياضية والشبكات العصبية والتعلم العميق ومعالجة اللغة الطبيعية والروبوتات والاخلاقيات، وبرامج دراسية متطورة تتماشى مع المعايير الدولية، وسوق عمل صناعي لاستيعاب الخريجين. بدون هذه العناصر، قد يكون من الصعب تحقيق الاهداف المرجوة من هذا المشروع، مما قد يؤدي الى نتائج عكسية.

لذلك، ارى انه من الافضل ان يتم التريث في اتخاذ هذا القرار حتى يتم اجراء دراسات جدوى شاملة، والاستفادة من تجارب الجامعات العالمية التي سبقتنا في هذا المجال، وتركيز الاهتمام على الدراسات الهندسية بضمنها علوم الحواسيب التي هي القاعدة الاساسية للانتاج الصناعي والزراعي. يجب ان يكون الهدف هو بناء مؤسسة تعليمية قوية ومستدامة قادرة على تقديم تعليم عالي الجودة في مجال الذكاء الاصطناعي. ولنتعض من تجربة النانوتكنولوجي وما اغرقه من انتشار الشهادات التي لا علاقة لها بسوق العمل او باحتياجات المجتمع والدولة.

التطور في مجال الذكاء الاصطناعي يجب ان يكون تدريجيا ومدروسا، وليس عبارة عن قفزات هائلة تهدف فقط الى جذب الانتباه والاعلان عن انجازات غير مستدامة. وهنا لابد من التأكيد على اهمية الدراسات والبحوث والتطبيقات في الذكاء الاصطناعي والتي تدفع بالاقتصاد الوطني وتساهم في تطوير الصناعة والزراعة وعلى صعيد الاقسام والمراكز العلمية. من المهم ان نركز على بناء اساس قوي ومستدام يعتمد على البحث العلمي الرصين والتطوير المستمر، بدلا من السعي وراء الشهرة والتباهي بانجازات غير مدروسة.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

الحقوق الرقمية هي في الأساس حقوق الإنسان في عصر الإنترنت. على سبيل المثال، تعد حقوق الخصوصية على الإنترنت وحرية التعبير امتداداً للحقوق المتساوية وغير القابلة للتصرف المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة. ووفقاً للأمم المتحدة، فإن قطع اتصال الأشخاص بالإنترنت ينتهك هذه الحقوق ويتعارض مع القانون الدولي. وتتعهد بعض الدول بمنح جميع المنازل والشركات فيها إمكانية الوصول إلى النطاق العريض السريع في المستقبل، ويرون أن الوصول إلى الإنترنت لا ينبغي أن يكون ترفاً، بل يجب أن يكون حقاً. لماذا تعتبر الحقوق الرقمية مهمة؟ بينما نمارس حياتنا بشكل متزايد عبر الإنترنت - التسوق والتواصل الاجتماعي وتبادل المعلومات - أصبحت حقوقنا الرقمية، وخاصة الحق في الخصوصية وحرية التعبير، أكثر أهمية. نحن بحاجة إلى فهم كيفية استخدام بياناتنا من قبل الشركات والحكومات وعمالقة الإنترنت مثل فيسبوك وجوجل. هل يتم التعامل معها بشكل عادل ودقيق، أم يتم بيعها أو مشاركتها دون موافقتنا؟

ومع ذلك، فإن كيفية تطبيق المبادئ الراسخة لحرية التعبير على المحتوى والاتصالات عبر الإنترنت لا تزال قيد التحديد بعدة طرق. على سبيل المثال: ـ كيف يمكن تنظيم الإشراف على المحتوى دون المساس بحرية التعبير؟ ـ كيف نوازن بين استخدام التقنيات الجديدة للأمن أو المراقبة دون المساس بالحريات المدنية والقدرة على المعارضة؟ ـ كيف ينبغي للدول أن تنظم إعادة التغريد أو إعادة مشاركة خطاب الكراهية؟ ـ ماذا عن القواعد التنظيمية المتعلقة بالبيانات التشهيرية الصادرة عن حسابات مجهولة أو مشفرة؟ ـ كيف ينبغي للدول أن تضمن الأمن السيبراني، وخاصة في ضوء ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، دون الإفراط في القمع؟

الحق في الحصول على الحقوق الرقمية

 خلقت جائحة فيروس كورونا (COVID-19) تداعيات سلبية كبيرة على المواطنين والحكومات. لم يخلق الوباء بيئة عامة مدفوعة بالمخاطر تشمل مجموعة واسعة من نقاط الضعف الاقتصادية فقط، ولكن أيضاً قام بتعريض الناس لمخاطر رقمية واسعة النطاق، مثل المراقبة البيولوجية، والمعلومات المضللة، والتهديدات الإلكترونية، التهديدات الخوارزمية للديمقراطية. علاوة على ذلك، فقد أثار حتماً الحاجة إلى الاستجابة بمرونة وتقنية وسياسية للتهديدات التي تنتجها المجتمعات شديدة الارتباط والفيروسية. وبالتالي على مدار فترة الوباء، ظهر نقاش في العديد من المدن الذكية العالمية التي تركز على الناس فيما يتعلق بالاستجابة التقنية والسياسية المناسبة عندما تستخدم الحكومات تقنيات مراقبة الأمراض بهدف معالجة انتشار فيروس كورونا (COVID-19)، مما يشير إلى الانقسام بين السيطرة السيبرانية بين الدولة والطغاة والحريات المدنية من نواحٍ عديدة.

 أدى الوباء إلى تسليط الضوء بشكل غير مسبوق على قضايا الحقوق الرقمية التي كان يعمل عليها العديد من الوكلاء لسنوات في مدن حول العالم. وبالتالي يمكن النظر إلى المطالبة بالحقوق الرقمية بشكل مباشر باعتبارها ابتكاراً اجتماعياً يتطور نحو الابتكار المؤسسي. وتقدم المطالبة بالحقوق الرقمية حالياً، والتي تم التعبير عنها عبر شبكات المدن، أنماطاً جديدة من الإدارة الحضرية لتجريب السياسات في إدارات المدن في جميع أنحاء العالم. على هذا النحو، تحاول هذه الأنواع من المشاريع القائمة على الحقوق الرقمية والمبنية على تجارب السياسات تقويض السياسات الحضرية الجارية والحكومة التي تفتقر إلى الاستدامة، مع بقاء إدارات المدن التقليدية المعزولة عقبة رئيسية أمام التنمية الحضرية المستدامة والمدن الذكية التي تركز على الناس.

كتبت المؤرخة الألمانية الأمريكية "حنة أرندت" Hannah Arendt في عام 1949عبارة أصبحت تدريجيًا واحدة من أكثر الكلمات المقتبسة والمفسرة في كثير من الأحيان: "الحق في الحصول على حقوق". وقد لخصت هذه العبارة شكوكها حول مفهوم حقوق الإنسان - تلك الحقوق التي ـ من الناحية النظرية ـ تنتمي إلى كل شخص بحكم وجوده. وفقاً لأرندت فإن الطريقة الوحيدة لضمان هذه الحقوق هي ألا تكون شخصاً فحسب، بل مواطناً أيضاً.

قد يشبه هذا الاقتباس الأوقات الخوارزمية الحالية، عندما يشكل التعامل بمسؤولية مع حقوق المواطنين وبياناتهم، في عصر الرقمنة وتحويل البيانات، معضلة: فمن ناحية، هناك القيمة المضافة الملموسة لمعالجة بيانات المواطنين الشخصية أي البيانات التي تقدمها منظمات القطاع الخاص، ولكن من ناحية أخرى، هناك ادعاء بأن الأفراد يجب أن يحتفظوا بالسيطرة على هذه البيانات وبالتالي الحقوق المدنية الأصيلة.

وسط رأسمالية المراقبة وما وراء النهج القائم على حقوق الإنسان في إدارة الذكاء الاصطناعي، فإن آليات مراقبة البيانات القائمة على الدولة مثل القياسات الحيوية، وجوازات السفر اللقاحية، والبنوك الحيوية، والإنترنت في سياق المواطنة تجبرنا حتماً على استعادة "الحق في الحصول على الحقوق الرقمية". الحقوق الرقمية هي حقوق أساسية في العصر الرقمي تتعلق بحماية الخصوصية في المدن الذكية. وفي هذا السياق، شجعت الأمم المتحدة على القيام بدور المناصرة فيما يتعلق بـ "الحق في التمتع بالحقوق الرقمية" وإنشاء مركز لحقوق الإنسان والتكنولوجيا الرقمية.  بينما تسعى المجتمعات للتعافي من الوباء، يجب أن يتعلم ويتعاون الجميع معاً كيفية الحد من تداعيات الوباء، والاستخدام الضار للتكنولوجيا الرقمية وإطلاق العنان لقوتها بشكل أفضل كقوة ديمقراطية وعامل تمكين.

وقد أسفرت الدعوات لحماية الحقوق الرقمية للمواطنين عن عدد لا يحصى من التقارير والبيانات والمنظمات والمشاريع والإعلانات السياسية في سياقات إقليمية ووطنية وفوق وطنية وعالمية مختلفة. لقد أعاد المواطنون تقليدياً تأكيد مواقفهم تجاه الدولة من خلال المطالبة بحقوق الإنسان والحقوق المدنية. ومع ذلك، فإن المثلث بين الدولة والسوق والمواطنين يتطلب توازناً دقيقاً لحماية الحقوق والحريات الرقمية المدنية، وتمكين المشاركة والمواطنة النشطة. وقد أدت ظاهرة التعطيل الخوارزمي المنتشرة عالمياً إلى عواقب جديدة - مثل الاستهداف المفرط من خلال البيانات التحليلات، والتعرف على الوجه، والتنميط الفردي - التي يتلقاها الكثيرون كتهديدات وتؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها، مثل التلاعب والسيطرة على نطاق واسع من خلال دفع رأسمالية المراقبة في الولايات المتحدة و"نظام الائتمان الاجتماعي" في الصين.

 في المقابل، أثارت هذه المخاوف التقنية والسياسية جدلاً في أوروبا تبلور في لائحة الحماية (GDPR)، التي دخلت حيز التنفيذ في مايو 2018. أدى ظهور الاضطراب الخوارزمي إلى تحفيز المدن في الاتحاد الأوروبي (EU) على الدعوة إلى العمل، مما أدى إلى تحديد الحاجة إلى رسم خريطة للنقاش التقني والسياسي حول "تحويل البيانات". أو "البياناتية". علاوة على ذلك، سلط هذا الاضطراب الضوء أيضاً على المتطلبات المحتملة لإنشاء أطر تنظيمية لحماية الحقوق الرقمية من الابتكار الاجتماعي والابتكار المؤسسي.

 تغطي أطر تجربة السياسات الخاصة بالحوكمة الحضرية متطلبات الخصوصية، والملكية، والثقة، والوصول، والأخلاق، وشفافية الذكاء الاصطناعي، والأتمتة الخوارزمية، وفي نهاية المطاف، المساءلة الديمقراطية. وإلى جانب الظواهر التخريبية الخوارزمية، لا تغير تقنيات البيانات مجموعة حقوق المواطنين فحسب، بل أيضاً الطريقة التي تتصور بها المدن وتقدم السياسات والخدمات العامة لحماية هذه الحقوق.

يشمل هذا التحول الرقمي على نطاق واسع جميع زوايا تجربة السياسات في إدارات المدن: توفير الخدمات، وتخصيص الموارد، ونهج حل المشكلات الاجتماعية، وحتى عملية صنع القرار المعقدة، تتحول بشكل متزايد إلى خوارزميات برمجية وتتطور نحو اعتبار المواطنين مجرد بيانات. - مقدمو الخدمات بدلاً من صناع القرار. وكثيراً ما يُنظر إلى هذه العملية التحويلية، الناشئة عن زخم خوارزمي "الصندوق الأسود"، على أنها آلية تزيد من كفاءة الأساليب القائمة أو مجرد عملية لتعديل السياسات.

 ومع ذلك، يبدو أن المزيد من تجريب السياسات والدعوة النابعة من الابتكار الاجتماعي والابتكار المؤسسي أمر ضروري في ضوء المطالب الحالية من إدارات المدن في جميع أنحاء العالم. الابتكارات الاجتماعية والمؤسسية والتكنولوجية: تجارب السياسات لاستكشاف فهم التكنولوجيا الرقمية وتحديد أولويات الحقوق. وكانت النتيجة المباشرة لهذه الدعوة للسياسة هي إعلان بيان تحالف المدن من أجل الحقوق الرقمية، والذي تمت ترجمته إلى سياسة البيانات من خلال بناء البنية التحتية والمؤسسات للبيانات المتصلة بالشبكة جنباً إلى جنب مع توصيات السياسة الخاصة بـ "المدن الذكية التي تركز على الناس". تم تشكيل تحالف المدن من أجل الحقوق الرقمية (CCDR)، وهو تحالف دولي للمدن الذكية العالمية التي تركز على الناس، في عام 2018 من قبل مجالس مدن برشلونة، وأمستردام، ونيويورك (NYC) لتعزيز الحقوق الرقمية للمواطنين على نطاق عالمي. توسعت هذه الحركة الواسعة تدريجياً تحت قيادة برشلونة وأمستردام ومدينة نيويورك. اليوم، تضم الحركة 46 مدينة إضافية: أثينا، باليكسير، برلين، بوردو، براتيسلافا، كلوج نابوكا، دبلن، غلاسكو، غرونوبل، هلسنكي، لاكورونيا، ليدز، لايبزيغ، ليفربول، لندن، ليون، ميلان، موسكو، ميونيخ، نيس، بورتو، رين ميتروبول، روما، ستوكهولم، وتيرانا، وتورينو، وأوترخت، وفيينا، وسرقسطة في أوروبا؛ عمان في الشرق الأوسط؛ وأتلانتا، وأوستن، وكاري، وشيكاغو، وغوادالاخارا، وكانساس سيتي، ولونج بيتش، ولوس أنجلوس، ومونتريال، وفيلادلفيا، وبورتلاند، وسان أنطونيو، وسان خوسيه، وساو باولو، وتورونتو في الأمريكيتين، وسيدني في أستراليا.

الحقوق الرقمية في المدن الذكية

أدى الانتشار المتزايد لأجهزة الاستشعار وآلات جمع البيانات فيما يسمى بـ "المدن الذكية" من قبل كل من القطاعين العام والخاص إلى خلق تحديات ديمقراطية حول الذكاء الاصطناعي ورأسمالية المراقبة والحماية، وحقوق المواطنين الرقمية في الخصوصية والملكية. من الواضح أن زوال الديمقراطية هو بالفعل أحد أكبر تحديات السياسة في مجتمعات ما بعد كوفيد-19 شديدة الترابط والمنتشرة بشكل كبير في "المدن الذكية العالمية التي تركز على الناس". ليس هناك شك في أن الخيارات السياسية والتنظيمية المتعلقة بالتقنيات الرقمية فيما يسمى بالمدن الذكية تثير مجموعة متنوعة من المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان، بدءاً من حرية التعبير إلى الوصول والخصوصية وغيرها من المسائل السياسية والأخلاقية.

من الواضح أن انتهاكات الخصوصية، وزيادة مراقبة البيانات، والمعاملات التجارية والمدنية الرقمية الافتراضية تؤدي إلى تآكل المجال الديمقراطي من خلال تقويض تصور المواطنين لحقوقهم الرقمية. وفي ظل هذه الخلفية، فإن مفهوم المدينة الذكية، الذي كان موضع معارضة شديدة من الأكاديميين النقديين تمت إعادة صياغة وجهة النظر الناشئة عن الابتكار الاجتماعي مؤخراً وصاغها برنامج تابع للأمم المتحدة على أنها "مدن ذكية تركز على الناس". لا يخلق التصنيف الجديد نموذجاً حضرياً للشمال العالمي فحسب، بل أيضاً للجنوب العالمي من خلال إنهاء استعمار وجهة النظر الحضرية. إن استخدام مصطلح "المدن الذكية التي تركز على الناس" يدعم مساعي الأمم المتحدة لدعم (من بين شبكات المدن الأخرى) المدن العالمية CCDR، وبالتالي تشكيل مستقبل رقمي يضع الناس في المقام الأول ويساعد على سد الفجوة الاجتماعية والرقمية والمتعلقة بالبيانات.

إن تعريف برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية "المدن الذكية التي تركز على البشر" ــ والذي يتردد صداه بوضوح مع الابتكار الاجتماعي ــ يسلط الضوء على حقيقة مفادها أن المدن الذكية ينبغي أن تخدم الناس وتحسن الظروف المعيشية للجميع. وبعيداً عن تجاوزه، فإن الجانب الرئيسي لهذا التعريف هو الاعتراف بأن الحكومات الوطنية والبلديات غارقة في تعقيد السياسات الرقمية، في حين نادرا ما تمتلك البلديات المهارات الداخلية اللازمة لإنشاء مشاريع "مدينة ذكية تركز على الناس" أو تنفيذ تقييمات الأثر الشامل على الاتفاقيات التي توقعها مع الشركات الخاصة. بالنسبة للأمم المتحدة تعد الحقوق الرقمية أمراً أساسياً في جوهر "المدن الذكية التي تركز على الناس" بقدر ما تتمتع المدن بوضع متميز لوضع استراتيجية الابتكار المؤسسي ونشر الجوانب المتعلقة بالحقوق الرقمية بين مواطنيها. ظهرت الحقوق في وجهات نظر تأديبية مختلفة، إلى جانب مجموعة كبيرة تشمل تقارير رفيعة المستوى، وإعلانات مؤسسية في سياقات فوق وطنية ووطنية وإقليمية وعالمية مختلفة، بالإضافة إلى مجموعات البيانات التجريبية مثل الأطالس والتصنيفات. فمن ناحية أثار الاضطراب الخوارزمي بالنسبة للعديد من المؤلفين مسألة كيفية إعادة تعريف المواطنة من خلال دمج الحقوق الرقمية الجديدة المتعلقة بوضع المواطن في الفضاء السيبراني - الوصول، والانفتاح، وحياد الشبكة، والخصوصية الرقمية، وتشفير البيانات، والحماية. والتحكم والسيادة الرقمية/البيانات/التكنولوجية. ومن ناحية أخرى لا يشمل مؤلفو الإعلانات الأخيرة منظمات المجتمع المدني فحسب، بل يشمل أيضاً تحالفات مختلفة من الدول والمنظمات الدولية والجهات الفاعلة في الصناعة - التي تؤطر الحقوق الرقمية من حيث المسؤولية الاجتماعية للشركات.

لقد كانت الحقوق الرقمية حاضرة إلى حد ما في المناقشات الأكاديمية على مدى السنوات الماضية خاصة تحت شعار "إدارة الحقوق الرقمية" الذي يُفهم على أنه نهج منظم لحماية حقوق النشر لوسائل الإعلام الرقمية. يركز هذا النهج على مجموعة من تقنيات التحكم في الوصول لتقييد استخدام الأجهزة الاحتكارية والأعمال المحمية بحقوق الطبع والنشر. ومع ذلك، فُهمت الحقوق الرقمية مؤخراً بطريقة تكاملية على النحو التالي: جادل المخرج الأمريكي "مايكل بانجرازيو" Michael Pangrazioوالأكاديمي الأمريكي "جوليان سيفتون جرين" Julian Sefton-Green بأن الحقوق الرقمية هي حقوق إنسانية وقانونية تسمح للمواطنين بالوصول إلى المحتوى الرقمي واستخدامه وإنشائه ونشره على أجهزة مثل أجهزة الحاسوب والهواتف المحمولة، وكذلك في الفضاءات والمجتمعات الافتراضية.

الحقوق لا تتجزأ

في الوقت الحالي، الحقوق الرقمية ليست مجرد مجموعة من الحقوق في حد ذاتها، ولكنها مرتبطة أيضاً بحقوق الإنسان الأخرى، وخاصة حرية التعبير والحق في الخصوصية في البيئات الإلكترونية والرقمية. ومن الناحية العملية، يمكن النظر إلى حقوق الإنسان على أنها حماية ضد التهديدات القياسية - مثل القمع والحرمان والعنف - التي تعرض للخطر المصالح الإنسانية المرتبطة بشكل كبير بمفهوم الاغتراب وعدالة البيانات. واستكمالا للمقاربات السابقة تدافع منظمات المجتمع المدني عن الحقوق الرقمية بهدف بناء الهوية الاجتماعية والسياسية والثقافية لجيل يتمتع بالمعرفة والنشاط السياسي والوعي بحقوقه في العصر الرقمي. إن منظمات المجتمع المدني تحاول من خلال الدعوة إلى الحقوق الرقمية من أجل تقديم معلومات تكنولوجية وسياسية دقيقة، ودفع المواطنين نحو المشاركة، وبيع البضائع للمواطنين. ومع ذلك، فإنه في الاستجابة المبكرة لـCOVID-19، لم يكن هناك اعتبار كافٍ للحقوق الرقمية.

إن العواقب المترتبة على الحريات المدنية، أو السياسة الحيوية، أو رأسمالية المراقبة، سواء كانت الفوائد المفترضة تفوق أي آثار جانبية سلبية متناسبة، أو ما إذا كان من الممكن تحقيق طموحات الصحة العامة مع حماية الحريات المدنية. حتما في أعقاب كوفيد-19 ـ وحتى في رد فعل سريع مرن لحالات الطوارئ ـ تُظهر الاستجابة التي قدمتها المدن الذكية التي تركز على الأشخاص في CCDR مدى أهمية قيام صناع السياسات بتوضيح كيفية جمع البيانات، ومن يقوم بجمعها، ولأي غرض، وكيفية الوصول إليها ومشاركتها وإعادة استخدامها.

مثال مدن CCDR بما في ذلك أمستردام (تنفيذ "Unlock Amsterdam" للتحقق من التكنولوجيا التي يمكن استخدامها لتخفيف عملية الإغلاق)، برشلونة (اختيار تمديد الرعاية عن بعد لكبار السن الذين يعيشون بمفردهم)، هلسنكي (التأكيد على الحاجة إلى الحصول على البيانات الصحيحة عن الصحة والحياة الاجتماعية والاقتصاد)، ومدينة نيويورك (توزيع الأجهزة اللوحية على المجتمعات الضعيفة والمنفصلة)، وسان أنطونيو (تطوير مركز بيانات مفتوح للمواطنين وأصحاب المصلحة المهتمين للوصول إلى المعلومات الإحصائية المحدثة حول كوفيد-19 على أساس يومي) ليست سوى أمثلة قليلة لإظهار أهمية المطالبة بالحقوق الرقمية في أوقات الوباء.

 تلتقط الحقوق الرقمية التوتر التكنولوجي السياسي بين "موضوعات الحقوق والأهداف والقيود وإطار الحوكمة". ومن ثم فإلى جانب وضعها كالتزامات قانونية قائمة، يمكن التعبير عن الحقوق الرقمية من خلال مجموعة متنوعة من القضايا السياسية واستخدامها من قبل جهات فاعلة مختلفة لأغراض مختلفة. على هذا النحو، ومن وجهة نظر نقدية، ينتقد العديد بشكل ملحوظ تلك المناقشات الحالية لفشلها في الاعتراف بأن الحقوق ليست مجرد قواعد ودفاعات ضد السلطة: فالمطالبات بالحقوق قد تنشأ في كثير من الأحيان من المجتمع المدني، ولكن يمكن استخدامها أيضاً كأدوات للسلطة وهياكل الحكم.

علاوة على ذلك، يرى هؤلاء المؤلفون أن مفهوم الحقوق الرقمية في حد ذاته "يظل غامضاً ومرنًا". ومع ذلك، وتماشياً مع دراسة حالات مدن CCDR من منظور الابتكار الاجتماعي والمؤسسي، فإنهم يجادلون أيضاً بأن الجهات الفاعلة التي تشارك في هذه المبادرات والعمليات تساهم جميعها في التبادل الخطابي حيث تتم بلورة المبادئ وربما إضفاء الطابع المؤسسي عليها في النهاية. كما هو الحال بوضوح مع CCDR. ربما كانت المساهمة الأكثر شمولاً في وضع الحقوق الرقمية في سياقها هي التي قدمها أستاذ السياسة البريطاني "إنجين إيسين" Engin Isin

 ينبع موقفه من فهم أرندت للحقوق من الناحية القانونية وليس الأدائية، وهو ما يعني في الأساس أنه لا يمكن أن تكون هناك حقوق رقمية للإنسان دون حقوق المواطنة: إما أن تكون الحقوق الرقمية للإنسان هي حقوق أولئك الذين ليس لديهم حقوق رقمية أو حقوق أولئك الذين لديهم بالفعل حقوق رقمية.

ومن ثم قام إيسين بتحديد قائمة شاملة وتعريفات لخمسة حقوق رقمية: (أ) التعبير باعتباره حجباً للرقابة على الإنترنت. (2) الوصول والنفاذ باعتباره يعزز النفاذ الشامل إلى الشبكات السريعة والميسورة التكلفة. (3)  الانفتاح باعتباره إبقاء الإنترنت شبكة مفتوحة يتمتع فيها الجميع بحرية الاتصال والتواصل والكتابة والقراءة والمشاهدة والتحدث والاستماع، والتعلم، والإبداع، والابتكار. (4) الابتكار باعتباره حماية لحرية الابتكار والإبداع دون إذن. (5) الخصوصية باعتبارها حماية الخصوصية والدفاع عن حقوق الأشخاص والقدرة على التحكم في كيفية استخدام بياناتها وأجهزتها.

عندما تتم معالجة المعلومات الخاصة بك في الدنمارك على سبيل المثال، يكون لديك عدد من الحقوق يجب أن تُصان من قبل الجهة أم الشخص الذي يقوم بمعالجة معلوماتك. لديك الحق في الحصول على مجموعة من المعلومات عندما تقوم الشركات والسلطات والمنظمات بمعالجة المعلومات الخاصة بك.

ـ الحق في الوصول: لديك الحق في الاطلاع على البيانات الشخصية التي يعالجها مراقب البيانات عنك والحصول على مجموعة من المعلومات حول المعالجة.

ـ الحق في التصحيح: لديك الحق بشكل أساسي في تصحيح البيانات الشخصية غير الصحيحة عنك.

ـ الحق في الحذف: لديك الحق بشكل أساسي في حذف بياناتك الشخصية إذا تم استيفاء أحد الشروط المذكورة في لائحة حماية البيانات.

ـ الحق في تقييد المعالجة: لديك الحق في تقييد معالجة بياناتك الشخصية في حالة استيفاء أحد الشروط.

ـ الحق في إمكانية نقل البيانات: في بعض الحالات، لديك الحق في تلقي بياناتك الشخصية وطلب نقل البيانات الشخصية من مراقب بيانات إلى آخر.

ـالحق في الاعتراض: لديك الحق في الاعتراض على المعالجة القانونية لبياناتك الشخصية.

ـالحق في عدم الخضوع لقرار تلقائي: لديك الحق في عدم الخضوع لقرار آلي يعتمد فقط على المعالجة الآلية، بما في ذلك التوصيف.

ـ الحق في معرفة المسؤول عن معلوماتك: عندما تتم معالجة معلوماتك، لديك الحق في معرفة المسؤول الفعلي عن معلوماتك. وفي هذا الصدد، من المهم تحديد من هو "مراقب البيانات". إن الشخص، أو الشركة، أو الجمعية، أو السلطة، وما إلى ذلك، هو الذي يقرر لأي غرض وبأي وسائل تتم معالجة بياناتك الشخصية. "معالج البيانات" هو الشخص الذي يعالج بياناتك الشخصية نيابة عن مراقب البيانات.

ـ الحق في تقديم اعتراض: إذا قمت بتأكيد حقك ضد مراقب البيانات دون امتثال الأخير لطلبك، فيمكنك الاتصال بهيئة حماية البيانات الدنماركية للحصول على إرشادات بشأن حقوقك وربما تقديم شكوى بشأن مراقب البيانات.

كيف نعرف ما إذا كانت حقوقنا الرقمية تُحترم؟

إذا قمت بالنقر فوق "موافقة" دون قراءة شروط خدمة شركات الإنترنت، فأنت لست وحدك. الكثير منا لا يكلف نفسه عناء النظر إلى عدد من النصوص الصغيرة عندما نستخدم خدمة عبر الإنترنت لأول مرة. لكن مبادرة بحثية غير ربحية تسمى "تصنيف الحقوق الرقمية" قامت بالعمل الشاق نيابةً عنا، حيث قامت شركة Ranking Digital Right، التي يقع مقرها في معهد أبحاث New America Open Technology Institute، بتقييم سياسات اتفاقيات المستخدم الخاصة بـ ست عشر من أكبر شركات الإنترنت والاتصالات في العالم من أجل مؤشر مساءلة الشركات لعام 2022. يتيح المؤشر للمستخدمين والمستثمرين والناشطين وصانعي السياسات مقارنة كيفية - وما إذا - تبذل الشركات جهوداً لاحترام حقوقنا الرقمية.

ووجدت أن شركات الإنترنت والاتصالات تفشل ـ بدرجات متفاوتة ـ في احترام حقوق مستخدميها في الخصوصية الرقمية وحرية التعبير. وقالت "ريبيكا ماكينون" Rebecca McKinnon مديرة تصنيف الحقوق الرقمية: "أملنا هو أن يؤدي المؤشر إلى قدر أكبر من الشفافية في الشركات، مما يمكن المستخدمين من اتخاذ قرارات أكثر استنارة حول كيفية استخدامهم للتكنولوجيا".

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

قبل الدخول الى الموضوع لا بُدّ من لمحة مُوجًزةٍ عن صاحبنا الحبوبي:

وُلِدَ الأستاذ أحمد عبد الهادي الحبّوبي في مدينة النجف محلة الحويش سنة 1931م (1) ودخل الكُتّاب عند المُلة سعودة، يقول الحبوبي عنها:

سعودة هذه إحدى خالات أمي ترمّلت وهي شابة ولها ولد صبي فانصرفت الى مهمة تعليم أولاد العائلة قراءة القرآن الكريم، وقد عُرف عنها رحمها الله قسوتها الشديدة على تلاميذها (2).

دخل المدرسة الابتدائية من خلال المصادفة، وكان حسين الشبيبي القطب الشيوعي المعروف أستاذاً له فيها، يصفه الحبوبي:

كان الشبيبي طويل القامة ونحيفاً ومتجهم الوجه دائماً، أسمر اللون، كان لا يضيع دقيقة من الوقت، إذ يقضي المدة 45 دقيقة كلها قراءة وشرحاً للدرس (3).

دخل الحبوبي لكلية الحقوق في العام الدراسي 1951 ـ 1952م (4)، وقد حرمته قصيدة ألقاها أمام الملك فيصل الثاني وولي عهده عبد الاله من البعثة الدراسية لفرنسا، رغم أنه الثالث على الدفعة (5).

هرب في عهد الزعيم عبد الكريم قاسم الى العربية السعودية ثم الى مصر (6).

أصبح أحمد الحبوبي وزيراً للشؤون البلدية والقروية في حكومة طاهر يحيى عام 1965م (7). لم يمضٍ وقتٌ طويل على استيزاره حتى عزم على الاستقالة، يقول:

لم تنجح محاولاتي من أجل تنقية أجواء التيار القومي ولًمّ الصفوف، بل زاد التباعد وانصرف كل حزب وتنظيم الى العمل منفرداً واتخاذ المواقف التي قد تتناقض مع الآخرين، وراح كل حزب يعمل ويجتهد من أجل كسب المزيد من الأنصار، وزاد من اضطراب الحكم وتخبطه عودة القتال في شمال العراق .. فارتأيت أن لا جدوى من بقائي في الوزارة وتحمّل المسؤولية (8).

يذكر الحبوبي حادثة جديرة بالنقل والتأمل:

ذات صباح اتصل بي عبد الله مجيد "سكرتير عبد السلام عارف" قائلاً: ان الرئيس عبد السلام عارف كلفني أن أرسل إليك كتاباً وقد بعثته الآن مع مندوب في طريقه اليك. فسألته: وما فحوى الكتاب؟ أجاب: سيصلك وتعرف. وما ان وضعت السماعة وإذا بالسكرتير يطلب الإذن لمندوب الرئاسة، فدخل وسلّمني مظروفاً مقفولاً مكتوباً عليه "سري وشخصي" قرأت فيه الآتي: كلّفني السيد رئيس الجمهورية عبد السلام محمد عارف أن أبلّغ سيادتكم بأنه قد تم تخصيص مبلغ وقدره أربعون ألف دينار من ميزانية القصر الجمهوري قد وُضِعَ تحت تصرفكم ويُصرف حسب معرفتكم في الأمور التي تنسبونها. والتوقيع عبد الله مجيد سكرتير رئيس الجمهورية (9).

استغرب الحبوبي من ذلك، وكلّم عبد الله مجيد عما جاء في الكتاب، فقال الأخير: ان السيد الرئيس هو الذي طلب أن يُوضع المبلغ تحت تصرفكم كمخصصات سرية تُصرف من قِبلك وبمعرفتك ولا أعرف أكثر من هذا.

طلب الحبوبي الرئيس عارف تلفونياً:

وبعد التحية قلت لقد وصلني الكتاب الذي أمرت بإرساله وهو أمامي الآن، فهل لي أن أسأل مزيداً من الإيضاح، فقال: هذا مبلغ مستقطع من ميزانية القصر الجمهوري ارتأيت ان يُوضع تحت تصرفك، فقلت: انني أعرف أن كُلاً من وزارة الداخلية والدفاع ورئاسة الوزارة فقط لها مخصصات سرية وليس منها وزارة الشؤون البلدية والقروية، فقال: أعرف ذلك ولكن هذه مخصصات من القصر الجمهوري؟ فسألته وهل خُصص مبلغ آخر مماثل لبعض الزملاء من الوزراء؟ أجاب لا. فسألته ولِمَ أنا بالذات؟ فأجاب لأني أعرف أن أعباءك كثيرة والتكاليف عليك باهضة لكثرة ضيوفك وطُلاب الحاجة فأردت مساعدتك. فقلت والله يا أبو أحمد ان ضيوفي وطلاب الحاجة يقصدون بيتي من قديم وقبل استيزاري فكيف تريدني أن أصرف عليهم من أموال الدولة. فقال وبان على صوته الضيق: أرجوك أبو شهاب لا تكن حساساً لهذه الدرجة، ولم أدعه يسترسل بكلامه وقاطعته قائلاً: اني أرفض المبلغ (10).

وفعلاً رفض الحبوبي المبلغ وأشّر على كتاب الرئيس بكلمة "مرفوض". ويذكر الحبوبي أن مدير الأمن العام رشيد محسن قد أخبره بأن الرئيس عارف قد حاول معه نفس المحاولة ولكنه رفض (11).

كتب بعدها الحبوبي مسودة الاستقالة، والملفت للنظر هنا انه قد خالف الأصول المتبعة:

حرصت على أن أُعنون وأرفع كتاب الاستقالة الى رئيس الجمهورية مباشرة متخطياً رئيس الوزراء خلافاً للأصول المتبعة (12).

كلّمه الرئيس عارف تلفونياً بصوت عالِ مجلجل: هاي شنو أبو شهاب لويش مستقيل؟ فقال له الحبوبي: تعرف الأسباب وهي مذكورة في كتاب الاستقالة. فدعاه عارف لمكتبه صباح الغد:

استقبلني باهتمام شديد وأخذ يدافع عن نفسه وكثرة مشاكله وطموحاته وأنه بحاجة الى مساعدة المخلصين من أمثالي، فقلت: يتطلّع الشعب لحكم يقوم على أسس صحيحة مستمدة من دستور دائم فيه حقوق وواجبات المواطن العراقي... ظل مستمعاً ولم يقاطعني ثم سألني: يعني تريد انتخابات وأحزاب وبرلمان؟ اجبته نعم هذا هو الطريق الصحيح (13).

سحب الرئيس عارف ورقة من مكتبه وطلب من الحبوبي كتابه أسماء الوزراء المقترحين، وعندما كتبها علّق عارف: هذا بلوشي، هذا ما عنده خبره، هذا راسه ناشفة. ليقاطعه الحبوبي محتجاً على أسلوبه التعجيزي.

كانت النهاية أن داوم الحبوبي في غرفة المحامين بدلاً من الوزارة، ليعاتبه الرئيس عارف على هذا التصرف المحرج، وليرد الحبوبي بأنه قد أعطاه وقتاً طويلاً للمراجعة وتنفيذ الوعد ولكنه لم يتخذ أي خطوة في هذا الطريق، فاستعمل الحبوبي هذا الأسلوب لكي يحرجه ويجبره على قبول الاستقالة، فوافق الرئيس عليها أخيراً (14).

النتيجة التي نبغي الوصول إليها (إن صحّ ما رواه الحبوبي ونحن نميل لتصديقه):

1ـ كان الحبّوبي وزيراً قومياً نظيف اليد، بدليل رفضه لهذا المبلغ المخصص من الرئيس عارف.

2ـ وجود مساحة من الحرية ليست بالهيّنة بين الرئيس ووزرائه.

هذه صورة من صور "العراق الجمهوري" جديرة بالتأمل، فلماذا عندما نتحدث عن الجمهورية يتم القفز فوراً لما بعد 1968م؟! لأشد صورها قتامة؟ لكي يصل الشخص للمُثبَت في ذهنه سابقاً، ألا وهو ادانة ما حصل في 14 تموز 1958م؟! ف"الحرية" التي يتم الحديث عنها دائماً في "العراق الملكي" ليست حكراً عليه! وإلا فها هو "الدكتاتور" عبد السلام عارف وهو يتقبّل النقد الشديد من أحد الوزراء!! فهل يختلف هنا عن رموز النظام الملكي؟

وختاماً، هذا مثلٌ إيجابي واحدٌ من ضمن أمثلة متعددة في العراق الجمهوري.

***

بقلم: معاذ محمد رمضان

باحث في تاريخ العراق المعاصر

.......................

الحواشي:

1ـ مذكرات أحمد الحبوبي ـ رسالة اعتذار الى الشعب العراقي، دار الحكمة لندن ط1 2018 ص13

2ـ المصدر السابق ص15

3ـ المصدر السابق ص23

4ـ المصدر السابق ص35

5ـ المصدر السابق ص45

6ـ المصدر السابق ص101 وما بعدها

7ـ المصدر السابق ص154 و 155

8ـ المصدر السابق ص165

9ـ المصدر السابق ص165 و 166

10ـ المصدر السابق ص166

11ـ المصدر السابق ص167

12ـ نفس المصدر والصفحة

13ـ المصدر السابق ص167 و 168

14ـ المصدر السابق ص168 و 169

 

أساطير عديدة انتشرت بين الناس؛عكست حيزاً واضحاً من تدني الوعي السياسي وكشفت بشكل جلي عن نسيان الانسان العادي لأبسط مبادىء الديمقراطية.

أحد مشاهد فيلم – نيكولاس والكسندرا- المشهور يرينا كيف يتوجه العمال البسطاء الى مقر قيصر روسيا؛ وذلك من خلال مسيرة سلمية اقترحها قسيس يكره العنف والظلم؛ يشكون خلالها سوء أحوالهم الى القيصر.

ويسير الموكب السلمي بكل هدوء وعلى رأسه أو في مقدمته القس الذي كان يصيح طوال الوقت (لقد جئناكم مسالمين).

وفي الطرف الآخر يقف الجنود وهم يوجهون بنادقهم نحو البسطاء من عامة الناس؛ وفجأة يبدأ جنود القيصر بإطلاق النار على المسيرة السلمية؛ وبذلك وقعت (مذبحة قصر الشتاء الشهيرة) في عام 1904.

وفي نهاية المشهد يقف القس مشدوها يرقب القتلى والدماء الغزيرة التي تنتشر في كل مكان؛ انتصب صائحا – نيكولاس أيها الشرير ! أيها القيصر الملعون!.

ومن ثم يأتي المشهد الذي ينتقل بنا الى القصر حيث نجد القيصر واقفا يسأل رئيس وزرائه بكل غضب (لماذا لم تقولوا لي؟) من الذي أمر بإطلاق النار؟

لماذا افتعلتم هذه المذبحة؟ من المسؤول عن قتل هؤلاء الناس؟.

فيجيب رئيس وزرائه بحكمة:

هل كنتم ياجلالة القيصر ستلبون مطالب هؤلاء البسطاء لو وصلوا إليك؟.

فأتاه الرد كما كان متوقعا بالنفي.

فقال له رئيس وزرائه (وبعد ذلك تسأل من المسؤول؟).

في هذه اللقطات تتوضح أمامنا مشكلة أساسية في الحكم الفردي الدكتاتوري من عدة زوايا:

- الشعب ينظر الى الحاكم على أنه طاغية.

- أما الحاكم فيرى نفسه بريئا لأنه لم يكن يعرف؛ ويلقي اللوم على أتباعه.

- إن صوت الحكمة يقول إن الحاكم بمبادئه وأساليبه في الحكم هو المسؤول الحقيقي بغض النظر عن التفاصيل وعمن يكون مذنباً عند ارتكاب هذا الخطأ الجزئي أو ذاك.

في بلادنا حيث الحكم الفردي وأحياناً العائلي و(الملكو جمهوري) هو القاعدة العامة التي لا توجد لها إلّا استثناءات قليلة، تنتشر (اسطورة الحاكم الذي لا يعرف) وفي أغلب الأحيان يروّجها النظام ذاته أو الواقفون إلى جانبه؛ كما أن الحاكم ذاته قد يلجأ إليها في نهاية المطاف وخاصة في أوج الأزمات؛ حين لا يعود في الامكان كتمان فضائح مالية أو جرائم انسانية أوتصرفات قمعية ارهابية أو اعتقالات بالجملة؛ عندئذ تعلو الاصوات :

ان الحاكم رجل رحيم تجيش نفسه بالمحبة والانسانية وحب العدل؛ لكن العيب كل العيب في المحيطين به من كل صوب وجانب؛ انهم مجموعة من الأشرار الذين لا يكتفون بارتكاب جرائمهم؛ بل يخفونها عن الحاكم أيضا؛ ويصوّرون الأحوال دائما أمامه بصورة وردية مضيئة.

وما داموا هم وحدهم الذين يمثلون أمامه أو يصلون اليه؛ لذا يظل الحاكم جاهلاً أو غير ملماً بممارساتهم التي تشوّه صورته أمام الناس وتنتشر اسطورة (الحاكم الذي لا يعرف) عندما يضطر أنصار الحاكم الى الاعتراف بوجود تناقض صارخ في تصرفاته؛ ويعجزون عن تفسير ما يحدث؛ فهو من جهة يبدو حاكماً وطنياً صامداً؛ لكنه من جهة اخرى يسجن بلا حساب ويعتقل بدون أدلة ويقمع كل معارض ولا يسمح لصوت بأن يرتفع إلا صوته وأحيانا صوت أعوانه وباذنه.

فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟.

نصير الحاكم يلجأ الى اسطورة الحاكم الذي لا يعرف؛ويؤكد أن الايجابيات من صنع الحاكم امّا السلبيات فمن صنع المحيطين به وهو لا يعلم عنها شيئاً.

وفي أحوال اخرى تحوّر هذه الاسطورة فلا يعود الحاكم هو الذي (لا يعرف) بل يصبح هو الذي (لا يقدر)، وهنا تبدو رغبة الحاكم متجهة دوما نحو الخير غير أن الذين يحيطون به يفرضون عليه اجراءاته الظالمة ولا مفر له من ذلك من أجل مراعاة (توازن القوى) في الحكم؛ حتى تسير دفة الحكم والسلطة بأكبر قدر ممكن من الهدوء والانسياب؛ وهكذا يضطر الحاكم الفرد إلى توزيع بعض سلطاته على الأعوان الذين يملكون بدورهم قدراً من القوة ويترك لكل منهم الحرية في مجاله الخاص به. فإذا أساء أحدهم التصرف فإن الحاكم لا يمكن أن يكون مسؤولاً عما حدث؛ بل هو مضطر إلى المضي في لعبة التوازن بلا توقف لأن سلامة الحكم وتماسكه ولعبة الكراسي تحتم ذلك وهي أهم من مصير ومستقبل الأمة.

في مقابل هذه الاسطورة تظهر في بلادنا اسطورة اخرى تسير في الاتجاه المعاكس؛ فالحاكم هنا لم يترك له شيئا يتنازل عنه؛ فالحاكم هنا هو الذي يمسك زمام كل شيء؛ والتابع حتى ولو كان الرجل الثاني فإنه لا يملك إلا أن ينظر إلى ما يحدث في صمت؛ لأن رأيه غير مطلوب؛ وإذا طلب فهو غير مسموع.

هنا تنسب السلبيات كلها للحاكم الذي تكون لديه قدرة كاملة ومعرفة شاملة؛أما الأعوان فانهم عاجزون كل العجز حتى ولو كانوا من الفضلاء؛ فان محاربة الفساد تفوق طاقتهم؛ لأن كل القرارات تصدر من سلطة واحدة.

المدهش في الأمر هو أن الاسطورتين على الرغم من تناقضها؛ كثيراً ما تطلقان على حاكم واحد. وأنصاره يروجون الأسطورة الاولى وربما اعتنقوها عن إيمان؛ ويلتمسون له العذر عن أخطائه المنسوبة دائما الى المحيطين به؛ وخصومه ينشرون الاسطورة الثانية؛ ويلتمسون العذر لأنفسهم، فهل يعقل أن يكون الحاكم نفسه عارفاً بكل شيء وغير عارف بالكثير ؟، وهل يعقل أن يكون في الوقت نفسه خيراً وشريراً؛ رحيماً وطاغية.

المشكلة الحقيقية في الأسطورتين لا تكمن في تناقضها فحسب؛ بل انهما تمثلان وهماً كبيراً وقعت به شعوبنا وما زالت معرضة للوقوع فيه؛ والأدهى من ذلك أن الاسطورتين أصبحتا وكأنهما من طبائع الأشياء ومن ضرورات السياسة. وتُرددان وكأنهما محاولة لتفسير ظواهر تبدو غير قابلة للتفسير على أي نحو آخر؛ وأعني:

كيف يمكن أن يكون الحاكم وطنياً وطاغية في الوقت ذاته؟ وكيف يكون التابع فاضلاً وشاهداً على القمع والظلم والفساد؟.

إن أبسط تفكير يقنعنا بأن الحاكم الوطني الذي تحيط به مجموعة من الأشرار إنما هو خرافة؛ فالحاكم الذي يكون في هذا النمط من الحكم الفردي هو الذي يختار معاونيه وهو الذي يملك قدرة تغييرهم؛ ولولا أنه يرتاح لعملهم وأسلوبهم في التعاون معه لما بقوا في مناصبهم لحظة واحدة.

والصورة التي يتخيلها البعض في أنظمة الحكم التسلطية عن حاكمٍ خيّر يحيط به معاونون أشرار هي ببساطة صورة تتنافر أجزاؤها ويستحيل أن تتجمع عناصرها.

والنظرة الواقعية إلى الأمور تثبت أن الحاكم المتسلط يعرف كل شيء عن معاونيه المحيطين به وعن جرائمهم لكنه يغض الطرف عنهم ماداموا يسايرونه ويخدمون أهدافه؛ أمّا اذا خالفوا أوامره فان الملفات المحفوظة تخرج من الأدراج وتبدأ الفضائح.

ويوظف الحاكم ذلك من أجل تحقيق مصالحه الخاصة في نهاية الأمر واحكام سيطرته ونفوذه ومكاسبه.

ولكن لنفرض جدلاً أنه لم يكن يعرف؛ فهل يعفيه هذا من المسؤولية؟.

يجيب التفكير السياسي الساذج بالإيجاب؛ ولكن الحقيقة هي أن الحاكم مسؤول عن عدم معرفته؛ ومن ثم فهو مسؤول عن كل ما يترتب على ذلك من أضرار.

إن معرفة الحاكم بأوضاع البلاد لا تتم إلا من خلال تقارير معاونيه والمحيطين به؛ والأجهزة السرية والأمنية والبوليسية؛ فيبقى الحاكم حبيس جدران إرهابه؛ وهي جدران صماء نوافذها الوحيدة هي التقارير السرية المخابراتية.

وبوسع الحاكم لو شاء أن يفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها عن طريق السماح بحرية الرأي والإعلام والنقد والمعارضة الوفية لوطنيتها؛ وعندئذ يستطيع أن يعرف كل ما يدور حوله بالطرق والقنوات الطبيعية. من صحافة حرة واجتماعات وندوات ولقاءات بمحض إرادته؛ فكيف ندافع عنه بعد ذلك بحجة أنه لم يكن يعرف؟.

هل سمعتم يوما عن حاكم لدولة ديمقراطية اعتذر عن أخطاء حدثت في حكمه على أساس أنه لم يكن يعرف؟، وهل سمعتم عن شعب في دولة ديمقراطية اقتنع يوما بمثل هذا العذر؟.

فإذا تبين يوما ما أن تقصير الحاكم في معرفة ما يحدث قد ترتبت عليه نتائج خطيرة وجب عليه أن يتنحى فورا؛ ويترك الحكم لمن هو أجدر منه ووطنيا بالفعل.

لقد لجأ المحيطون بهتلر في محاكمات نورمبرج التي أجريت بعد الحرب إلى اسطورة (الحاكم الذي لا يتنازل)، ودافعوا عن أنفسهم بحجة أن هتلر كان يتخذ كل قراراته بنفسه، ولم يكن يترك لهم سوى التنفيذ؛ ولكن المحكمة أدانتهم جميعا وحكمت عليهم بالإعدام.

والملك فرانكو عندما كان على فراش الموت وبجانبه كبير أطبائه كان الشعب الاسباني يتظاهر بغضب ضد فرانكو ويطالبه بالرحيل؛ ولقد سمع فرانكو ذلك الضجيج؛ فطلب من رئيس أطبائه أن يخبره ما الأمر؛ فقال له: جلالة الملك إن الشعب الاسباني قادم ليودعك!، فقال له فرانكو : عجبا إلى أين سيسافر الشعب؟.

وشاه ايران لم يكن يصدق ما كان يجري من مظاهرات عارمة في بلاده خلال الأسابيع الأخيرة من حكمه؛ وفي نهاية المطاف أرسل خادمه العجوز ليستطلع له الأمر! وما يجري في شوارع طهران بعد أن تزعزعت ثقته بتقارير(السافاك)، وهكذا وقع الحاكم الفرد في شرك أخطائه؛ ويأتي سؤاله المأساوي:

هل كل هؤلاء يتظاهرون ضدي؟.

نفس سؤال القيصر (نيكولاس) الذي بدأنا به موضوعنا: (لماذا لم تقولوا لي)؟.

وهنا تنكشف طبيعة الصيغة الأخرى لهذه الاسطورة؛ التي يكون فيها الحاكم عارفا ولكنه (لا يقدر). ذلك لأن الحاكم الفرد هو الذي ارتضى نظاما من شأنه أن يكون الحكم فيه صراعاً للقوى؛ يتحقق في نهايته توازن يكون مفروضاً على الحاكم.

النظام الذي وضعه الحاكم هنا هو الذي جعل من الحكم غابة يتصارع فيها الوحوش ولا يعيشون معاً في هدوء إلا إذا أكل كل منهم وشبع هو وعائلته وعشيرته.

أمّا الاسطورة الاخرى؛ اسطورة التابع المغلوب على أمره؛ حيث الحاكم يمسك بيده زمام الأمور كلها فهي بدورها ظاهرة لا تقوم إلا في ظل نظام تسلطي يجعل من التابعين أذناباً طائعين. أو شهوداً صامتين. وأبسط فهم لطبيعة المشاركة في عملية الحكم يقنعنا بأن التابع يظل مسؤولا حتى لو كان متفرجاً؛ وعليه أن يتخلى عن مكانه فوراً إذا لم يقتنع بممارسات رئيسه.

إن الاسطورتين رغم التناقض الظاهري تفترضان أن الحاكم يمارس حكمه بسلطة فردية مطلقة؛ امّا عن طريق اختياره للأعوان وأساليب توصيل المعلومات؛ وامّا عن طريق امساك كل الخيوط في يديه مباشرة.

وأقل وعي سياسي وأبسط فهم لطبيعة المشاركة في الحكم يحتم علينا أن نكف عن التماس العذر للحاكم الفرد بحجة أنه لم يكن يعرف الأخطاء وأن المحيطين به هم الذين ارتكبوها؛ أو تبرير سلبية التابع بحجة أن الحاكم كان يرفض أن يتنازل عن شيء.

إن ذيوع هذه الأساطير بين جموع شعبية هائلة انما يعكس قصور الوعي السياسي؛ وهو يكشف بوضوح عن نسيان الإنسان العادي في أحيان كثيرة لأبسط مبادىء الديمقراطية ومعنى مسؤولية الحكم؛ وهو نسيان لا يمكن أن يعد هذا الانسان ذاته مسؤولاً عنه؛ وانما هو نتيجة تربية سياسية تراكمت أخطاؤها على مدى عشرات السنين و فرضتها الأنظمة القمعية القائمة.

(لماذا لم تقولوا لي)؟، هو نفس سؤال كل حاكم متسلط يضع هو ذاته النظام الذي يحجب عنه معرفة الحقيقة والواقع، ويمارس من خلاله كل ضروب القمع؛ ويردد هو ذاته في النهاية - دائما في النهاية - اسطورة الحاكم الذي لا يعرف.

انه الواقع المرير الذي تحياه شعوبنا المتعطّشة للحريةِ وللديمقراطية.

***

بقلم: أنور ساطع أصفري

هل نظام الكفيل يسمح بالعبودية والرق؟ ام انه نظام اقتصادي يؤمن الحياة الحرة للعامل وعائلته ولاقتصاد الوطني لدولة الوافد. نظام الكفيل معروف في العديد من دول العالم وبدا به كذلك في إقليم كوردستان لتنظيم للموارد البشرية للعمالة الأجنبية الوافدة في قطاع الخدمات.

يحدد النظام المتعارف علبه العلاقة بين صاحب العمل والعامل الأجنبي. حيث ان المواطن له الحق ان يتكفل اي شخص اجنبي قادم للعمل في البلد بعقد عمل وتسجيله لديه كعامل نظامي. وبذلك يكون ذلك العامل مرتبط اقتصاديا ولدية ديون ومستحقات لصاحب العمل يجب عليه إيفاءه في المستقبل. النظام كما عليه كل الأنظمة له محاسنه ومساوئه.

هذا النظام قانوني متبع في الغالب في الدول الخليجية والأردن والعراق ولبنان. وقد شهد العراق بعد (اتفاقية كامب ديفد) تدفق العمالة المصرية وازداد أعداد العمالة الوافدة الأجنبية ابان الحرب العراقية الإيرانية ١٩٨٠ الى ١٩٨٧. بعض الدول الغى هذا النظام او تم تعديله وسن قوانين لتنظيمه. يحدد العلاقة بين صاحب العمل والعامل الأجنبي. النظام لا يزال ينتقد من قبل المنظمات الدولية وقد قام دولة قطر المثير بتغييره بقانون آخر يمنح العمال الأجانب العاملين في البلاد مرونة أكثر في الحركة والسفر ونقل عقود عملهم إلى جهات عمل أخرى. اما المملكة السعودية فقد قام وزارة الموارد البشرية بإجراء تغيرات على نظام الكفيل وتتضمن النظام الجديد العديد من التعديلات، حيث تم استبعاد بعض المهن من نظام الكفالة في البلاد، ومن بين هذه المهن:

العاملين في إدارة الحسابات و الحاصلين على شهادة في هندسة الطاقة الكهربائية کما العاملين في الإدارة التنفيذية.

کذلك الحاصلين على شهادة الهندسة المدنية. العامين في إدارة المبيعات. العاملين في السكرتارية التنفيذية. العاملين في أعمال المقاولات و الحاصلين على درجة الهندسة في الميكانيكا. بذلك أصبح بإمكان العمالة الوافدة التنقل بحرية بين اماكن العمل المختلفة وعليهم الالتزام بالإجراءات القانونية. استغلال البعض لهذا النظام معروف ولا يمكن مراقبة سلوك البشر خاصة الأشرار منهم والطامعين والذين بفعلهم يقومون باستعباد البشر والعودة الى نظام العبودية والرق الذي الملغاة من قبل الرسالة المحمدية السمحة. المشكلة تكمن عند صاحب العمل الذي يقوم بمصادرة جواز العامل الوافد ويقيد حركته او انتقاله الى مكان اخر للعمل او عند كفيل اخر. وهناك طبعا نماذج لسوء معاملة الكفيل لهم الى درجة العبودية ومصادر حقوقهم الإنسانية. يبقى ان نعلم ان الفقر المنتشر في العديد من الدول يزود قوة عاملة في العديد من دول الخليج في المنطقة وحتى بات العمالة الاجنبية اكبر عددا سكانيا من المواطنين أنفسهم وخاصة في دولة الإمارات التي زرت جميع إماراتها وراعني عدم رؤيتي لمواطني البلد بل كان الجميع من الاجانب. 

تتطلب علاقة عمل مباشرة ووثيقة مثل: سائقي السيارات الخاصة والحراس. وكذلك العمالة المنزلية بما معظم العمالة الوافدة تعمل في اشغال منزلية او في الرعي والفلاحة وهم من دول فقيرة من الهند وسريلانكا والفلبين ونيبال ودول اخرى عربية كمصر وفلسطين والمغرب. 

نظام الكفالة الذي تنظم تواجد العمالة الوافدة ويكون فيها الكفيل فسؤلا من تجديد الإقامة الخاصة بالوافد في مواعيدها المحددة، وفي حالة هروب او ارتكاب الوافد جريمة او اعتداء او سرقة على الكفيل إبلاغ ذلك والتعاون مع الجهات الأمنية وهناك قوانين تنظم ذلك وخاصة هروب الوافد وترحيله الى بلده الأصلي اثناء المخالفات لأنظمة والقوانين المرعية في البلاد. استيراد القوة العاملة كانت من أسباب تقدم الغرب بعد الحرب العالمية الثانية خاصة في المانيا حيث كانت أهوال الحرب كارثية فيها فكان العمال المهاجرون سندا قويا لإعادة الأعمار وجاء عشرات الألوف من العمال من تركيا يسمونهم ب گاست اربايتر (Gastarbeiter) اي العمال الضيوف . كما ان الدول الاسكندينافية قد استورد العمالة من دول البلقان وكانوا يمنحونهم ميزات وعطايا وكان وفود من الموظفين يزورون تلك الدول وعمل دعاية لتحبيب العمل في دولهم. وكان لموجات العمال المهاجرين من دول أوربية ك بلجيكا و مملكة الأراضي المنخفضة (هولندا) الى مملكة السويد مثلا الأثر الأكبر لتطور القطاع الصناعات الخفيفة .

هنا تجدر الإشارة الى ان العمالة الوافدة في الغرب لهم حق التجنس بعد فترة زمنية والاستفادة من جميع حقوق المواطنة في حين نرى بان في دول الشرق يبقى الوافد محتفظا بجنسيته الأصلية حتى أولاده واحفاده ويتحول في بعض الدول الى مجموعة تسمى ب البدون كما هي في دولة الكويت. يبقى الفلسطينيين استثناء لكونهم من ألاجئين اللذين ينتظرون العودة الى وطنهم لذا لا يمنحون جنسية الدول العربية التي يقيمون فيها. ختاما من الطبيعي ان الدول لها الحق في السيطرة على العمالة الوافدة الرسمية من قبل الحكومات وهي مهمة من الناحية الأمنية والاقتصادية والجيد في النظام يتعلق بضمان الحالة الأمنية لمواطنين البلد وضمان امن دولهم.

***

د. توفيق رفيق التونچي

الأندلس ٢٠٢٤

...................

اشارات:

  للمزيد حول قانون الكفيل أرجو زيارة الصفحة الرسمية لوزارة الموارد البشرية السعودي الرسمية.

 

أنتجت المنظومة السلطوية القائمة على المحاصصة الطائفية والإثنية، وتقاسم النفوذ والمليارات، والمناصب والإمتيازات، ظواهر بغيضة، كالتسلط والهيمنة على مقدرات البلد، بدأتها بإفراغ الوزارات ومؤسسات الدولة الأخرى من الموظفين الكفوئين إدارياً وذوي الخبرة والتجربة، والحريصين وطنياً، وأحلت محلهم المحسوبين والمنسوبين والفاسدين والولائيين، الذين صالوا وجالوا، وعاثتوا خراباً وفساداً، جنباً الى جنب " اللجان الإقتصادية" التابعة للإحزاب المتنفذة، التي نهبت المليارات من المخصصات في ميزانية الدولة للوزارات والمؤسسات الحكومية الأخرى، ومن العقود والصفقات والفضائيين،رغم أنف الحكومة والقضاء.

بالمقابل، لم تحقق المنظومة المتسلطة شيئاً يذكر لغالبية أبناء وبنات الشعب، سوى نجاحها بإحباط  أي توجه حكومي للأعمار والبناء،عبر تجاهل وتسويف  وتدمير المشاريع والبرامج الوطنية المقترحة، حتى بلغ معدل البطالة نحو 30 %، خاصة بين شريحة الشباب، وإنتشر الفقر، بحيث أصبح يعيش أكثر من 13 مليون عراقي وعراقية  تحت خط الفقر، وتردت الخدمات العامة، وتفاقمت الأحوال المعيشية لغالبية الأُسر العراقية. ونتيجة الفشل والنهب والإستحواذ، وصل العراق الى المرتبة 99 في تكلفة المعيشة ضمن المؤشر العالمي (Cost of Living) وبياناته لمنتصف العام الجاري(2024)، وهو أدنى مستوى بتكلفة المعيشة طيلة الـ10 سنوات الماضية، والتي يتم احتسابها على أساس أسعار ايجار المنازل، والبقالية، والقوة الشرائية.وقد حصل العراق على 29.3 نقطة، وجاء في المرتبة 99 عالميًا من اصل 121 دولة (" طريق الشعب"،23/7/2024).

وفي هذا السياق، تجسدت " بركات " منظومة المحاصصة و الفساد في مؤسسات وزارة الصحة في هيمنة إداريين جهلة، بما فيهم ضباط أمن بعثيين دمج، ومعممين مزورين، وعصابات مسلحة، قامت بقتل وإختطاف وتغييب المئات من خيرة ذوي المهن الطبية والصحية، وأرغمت مئات العلماء والأكاديميين وأطباء إختصاص وإستشاريين كبار، على مغادرة البلد. وقامت " اللجان الأقتصادية " بسرقة المليارات من المخصصات السنوية الصحة، ونهب أملاكها ومعداتها وأدويتها، وأفشلت كافة خطط وبرامج تطوير القطاع الصحي الحكومي والإرتقاء بالرعاية الصحية.

وأصبح القطاع الصحي الحكومي تحت سيطرة المافيا، وهوى في مستنقع  الفوضى، واللاأخلاقية واللاإنسانية، ووصل لحافة الهاوية،وهو الذي ظل يُعاني من العدد المحدود للمراكز الصحية والأولية، وعدم كفاية المستشفيات الحكومية، التي يرجع تاريخ بناء بعضها إلى سبعينيات القرن الماضي، والإهمال الذي تعرضت له طيلة عقدين، ولليوم تعاني من قدم الأجهزة والمعدات الطبية، ومن شحة وإنعدام الأدوية، بما فيها المنقذة للحياة، لسرقتها من مذاخر المستشفيات، ومن نقص الكوادر الطبية والصحية التخصصية، وتعطيل العمل بـ" قاانون التدرج الطبي" الذي يُلزم الطبيب الخريج ان يُقضي سنة إقامة في إحدى المستشفيات الكبيرة والتعليمية، ومن ثم ينسب للقرى والأرياف،وبعدها الإقامة الأقدم في مستشفى تعليمي في بغداد لمن يرغب في التخصص.وقد أُوقِفَت تعيينات الخريجين، واليوم يوجد 32 ألف خرّيج من المجموعة الطبية بمختلف الاختصاصات، لم يتمّ تعيينهم حتى الآن- كما أعلنت لجنة الصحة والبيئة النيابية ("السومرية نيوز"،22/8)، وعندما تظاهروا سلميا في بغداد والمحافظات الأخرى،مطالبين بتعيينهم، تصدت لهم "قوات الشغب" القمعية بكل وحشية،وإصابات العشرات منهم حرجة.

ولم يعد سراً تذيّل العراق مؤشرات الرعاية الصحية، وهبط الى مستوى  أفقر دول العالم خلال الأعوام العشرة الأخيرة، بعد ان كان يمتلك أفضل نظام للرعاية الصحية في الشرق الأوسط- بإعتراف كبار خبراء منظمة الصحة العالمية والزوار من دول الجوار.

وشهد الجميع مؤشرات التدهور الصحي الفظيع، وإنعكاس تداعياته على الغالبية العظمى من المواطنين، لدرجة ان الصحفي الأجنبي كانتان مولر تساءل عن وزارة الصحة عقب تفقده للمستشفيات الحكومية: أهي وزارة للصحة أم وزارة للموت؟ ("Orient XXI"، 20/8/2020).

ولليوم، لم نلمس إهتمام جدي من قبل المتنفذين لا بوضع الحلول والمعالجات الفاعلة والعاجلة، ولا الأخذ بما قدم لها أو نشر بشأن المشكلات الصحية القائمة. ولم يجيدوا سوى التصريحات والوعود المتكررة بـ " نية الوزارة تحسين الرعاية الصحية"، واَخرها ما أعلنه رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني،في اَذار الماضي، خلال إفتتاحه لبناية مستشفى السيّاب التعليمي في محافظة البصرة: " قرب تنفيذ رؤية جديدة بتقديم الخدمة في قطّاع الصحة، تتمثل بالتعاقد مع شركات عالمية لإدارة وتشغيل المستشفيات". وأضاف: " إن إكمال المستشفيات جزء من أولويات الحكومة، والقطاع الصحي يأتي في المقدمة من برنامج عملها ". وقال: "وضعنا خطة لإنجاز المشاريع المتلكئة، ونعمل على إنهاء ظاهرة اضطرار المواطن للسفر إلى خارج العراق من أجل العلاج، وتوفيره بدلاً من ذلك داخل البلد" (شفق نيوز"،12/3/2024)..

وقبله، ذكر مستشاره عمر شاكر الحاج:" سيتم خلال العام الحالي حل جميع المشاكل الخاصة بالمشاريع الصحية المتلكئة ". وأشار إلى "تسلم قاعدة بيانات جميع المشاريع الصحية في العراق ونسب إنجازها من قبل المحافظات والوزارة " ("الصباح"،10/2/2024).

من جهته، أعلن وزير الصحة الدكتور صالح مهدي الحسناويّ بان العام الجاري هو"عام الرعاية الصحية الأولية ضمن البرنامج الحكومي"، مشيرا الى "خطة موسعة لتطوير مراكز الرعاية الصحية الأولية، وزيادة وتطوير عمل المراكز الصحية في عموم البلاد، والتي ستقدم خدماتها لـ 80% من مراجعي المستشفيات" (" نينا"، 20/4/2024). وقال في كلمته أمام الدورة 77 للجمعية العامة للصحة العالمية في جنيف، في 28/5/2024: "ان برنامج الحكومة العراقية وضع الصحة ضمن أولوياته من خلال موازنة عادلة ساهمت بتوفير الادوية والمستلزمات الطبية والأجهزة الحديثة للمؤسسات الصحية بمختلف اختصاصاتها. كما وتحضى الرعاية الصحية الأولية في العراق باهتمام بالغ، اضافة الى الكشف المبكر للأمراض المزمنة،وسرطان الثدي، مع تقديم الخدمات العلاجية اللازمة في كل محافظات العراق"..

وجميع التصريحات المذكورة لم تخل عملياً من مبالغة، وعدم دقة، وتناقض، ولذا لم يصدقها المواطنون ضحايا التدهور الصحي وسوء الخدمات الطبية الحكومية، لاسيما وان وزير الصحة أقر بأن " المراكز الصحية الموجودة في عدد من المحافظات بحاجة إلى أجهزة لعلاج أمراض القلب والسرطان" ودعا الحكومة " رفع نسبة التغطية الخاصة بشراء الأدوية " ( قناة "الرافدين"، 28/8/2024).

ولعل الأهم، هو إنقضاء 8 أشهر من العام الجاري، ولم يتحقق من الوعود شيئاً يذكر..فهل ننتظر من الوزارة توضيحات " تكذبنا"، بتعداد ما الذي تحقق خلال الأشهر المنصرمة، والإجابة على الأسئلة التالية:

هل تم حلُ المشاكل الخاصة بالمشاريع الصحية المتلكئة؟

وهل تم تنفيذ الرؤية الجديدة بتقديم الخدمة في قطّاع الصحة؟

وهل أصبح العام 2024 عام الرعاية الصحية الأولية؟

وهل تم تطوير عمل مراكز الرعاية الصحية الأولية؟ وكم زاد عددها في العام الجاري؟

وإذا كانت موازنة وزارة الصحة "موازنة عادلة" فهل تم رفع نسبة التغطية الخاصة بشراء الأدوية، وتوفيرها، وتوفير المستلزمات الطبية والأجهزة الحديثة للمؤسسات الصحية بمختلف اختصاصاتها في كافة للمؤسسات الصحية الحكومية؟

وهل تم تحسين الخدمات الطبية العلاجية والوقائية في جميع المحافظات العراقية؟..

وحتى يحصل المواطن على أجوبة إيجابية شافية لهذه وغيرها من الأسئلة، نُذَكِر المسؤولين المتنفذين بان العراقيين شبعوا حد التخمة من كثرة وعودكم التي أطلقتموها طيلة عقدين عجاف، ولم تحققوا غالبيتها، فكفوا ضحكاً على ذقون المواطنين البسطاء !

والأحرى بكم ان ترجعوا لما نص عليه الدستور العراقي الساري في المادة (30)- أولاً: " تكفل الدولة للفرد وللأسرة، وبخاصة الطفل والمرأة، الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرةٍ كريمة ". وورد في المادة (31)- أولاً: " لكل عراقي الحق في الرعاية الصحية، وتعنى الدولة بحماية الصحة العامة، وتكفل وسائل الوقاية والعلاج بإنشاء مختلف أنواع المستشفيات والمؤسسات الصحية "..

وان ترجعوا لوثائق وزارة الصحة وتقاريرها السنوية، التي تنص:" تعمل الوزارة على اتاحة الرعایة الصحیة المتكاملة والشاملة لكافة افراد المجتمع، وبأعلى مستوى من الجودة، وبإستثمار المواد المتاحة بكفاءة، وفقاً لاخلاقیات المھنة وقیم المجتمع، لضمان التنمیة الصحیة المستدامة للحد من المراضة والوفیات وبمشاركة اصحاب الشأن "..

فأين " تحقق" كل ذلك عملياً في الواقع الصحي الراهن؟!!

***

د. كاظم المقدادي

نُدركُ تماماً أن الحرب الإعلامية هي بمثابة أخطبوط شرير يُروّج لأفكارٍ هدّامةٍ هدفها تمرير مصالح دولةٍ بعينها أو دول أخرى متعاونة معها، بعد تمرير هذه الأفكار لإختبارٍ دقيق ومدروس  وبشكلٍ مُركّز.

ويبقى الهدف هو نشر معلوماتٍ إعلامية فحواها إشاعات تستهدف البعض أو الجميع بدون أي إعتبار لنتائجها.

وعادةً تُمارس هذه اللعبة الإعلامية من قِبل الدول الكبرى التي تملك تكنولوجيا متطورة مدعومة بمؤسساتٍ إعلاميةٍ نشطة ومتخصّصة.

ومن خلالِ هذا النشاط المشبوه يتم الاستحواذ على الرأي العام ومقاومة ردة فعل الشعوب بقبضةٍ حديدية، من أجل تهجين وتدجين السلوك البشري بشكلٍ عام، وخاصّة في الدول النامية أو المتخلّفة، كشكلٍ من التضليل والإلهاء، وحصدِ تأييد من الشارع بهدفِ الحصول على إمتيازات ومآرب أمّنيّة وفكرية وسياسية وإقتصادية، في ظلِ تنافس إستراتيجي محموم بين الدول، أو بين الشرق والغرب، أو في قارةٍ بمجملها مثل القارة الأفريقية.

وهذه الحرب الإعلامية قولاً واحداً تتنافى والسمو الأخلاقي، وثوابت وقيم رسالة الإعلام والحقيقة.

الحرب الإعلامية والتضليل والتقنيات المُدمّرة كلها تعرّض الحدث والمواقف للسخرية من الآراء والأفكار والبرامج المطروحة، وكل مبتغاها أن تُقدّم المعلومات الخاطئة، وإستفزاز الآخر من خلال نشر الشائعات، ويبقى الهدف هو السيطرة على الفضاء الإعلامي، وتجاهل الآراء ووجهات النظر الأخرى ونفيها، وانتهاك العلاقة المنطقية للأحداث، والتقليل من أهمية العديد من المواضيع غير المرغوبة، وتضفي الرداء الجميل حتّى على الرذائل، مثل زواج المثليين، والإعتداء الجنسي والإغتصاب، وأكل لحوم البشر، والتجارة بالأعضاء البشرية.

بصريح العبارة هي تجريد نهائي من الإنسانية، وتدمير أُسس القيم الإجتماعية التي تربط البشر بعضهم ببعض.

كلّنا تابعنا كيف سلّطت وسائل الإعلام الأمريكية الضوء على عمليات الاغتيال التي قام بها الكيان الصهيوني ضد قادة حماس وحزب الله، والتي قد تتسبب في اندلاع حرب واسعة في الإقليم.

صحيفة نيويورك تايمز وسواها تتبنّى فقط الرواية الاسرائيلية فهي لا تشرح السياق والتاريخ والدوافع المحتملة وراء هذه الاغتيالات، وإضافةً إلى ذلك أن الكثير من التغطيات الإعلامية الأمريكية تؤكّد أن عمليات القتل الإسرائيلية هي أعمال بطولية للدفاع عن النفس وصد المعتدي، بدلاً من حقيقة الواقع التي تؤكّد أن القتل والإبادة هي انتهاكات للقانون الدولي وتهديد مباشر للأمن العالمي.

إن الحقيقة تؤكّد أن نتياهو سيبقي البلاد في حالة حرب ليحافظ على مكانته في السلطة، محاولاً إستدراج أمريكا إلى الحرب، بعد أن قام باغتيال كبير مفاوضي الجانب الفلسطيني.

إن الحرب الإعلامية أصبحت كالفزّاعة الحقيقية التي إمتدّ تأثيرها لجميع طبقات المجتمع، لما يتم الترويج له من حربٍ نووية وحرب المياه والمناخ، والإستغناء عن العنصر البشري، كلّ هذه الأمور تتم في ظلّ سمو وتطور التكنولوجيا الحربية التي تُحاط بمزيدٍ من الكتمان والسرية، إضافةً إلى المُسيّرات والصواريخ متوسطة المدى وبعيدة المدى، والتي ظهرت مؤخراً في الحرب الروسية الأوكرانية، وفي حرب كيان الإحتلال ومحور المقاومة.

الحرب الإعلامية تُصوّر لنا العالم أنّه سينتخبّط ويُصاب بالتصدّع  بالضغط على الزر النووي في أي لحظة، عندها سنفقد أمننا الفكري والأمني لتعمّ الفوضى وينعدم الإستقرار، كما سيتصدع أمننا السياسي من جذوره، ونفقد سيطرتنا في كل الجبهات والإتجاهات.

كما أن المواطن العربي مُصابٌ بالإحباط من المؤسسات الإعلامية العربية وخطابها المهترىء، وهذا الإحباط وصل إلى مرحلة الطلاق بين الطرفين، فالمؤسسات الإعلامية العربية ومن خلال التبعية التي تملّكتها أصبح خطابها رماديّاً بكل أبعاده، إن كان في العناوين العريضة أو في المقالات والتقارير، وخاصّة في هذه المرحلة التي نعيشها من خلال الصراع الصهيوني - الفلسطيني ومحاور المقاومة، بغض النظر إن كان من الإعلام المسموع أو المرئي أو المقروء.

الإعلام العربي نفسه يؤكّد بأن الدول العربية لديها ترسانات من الأسلحة الفتّاكة باختلاف أنواعها وصنوفها.

 لكنها في المستودعات وأصابها الصدأ والاهتراء لعدم استخدامها، إنّه النفاق في المواقف، المفروض من خلال التبعية العمياء.

الوجدان العربي يؤكّد بأنه لا بُدّ من مساءلة الإعلام العربي والقائمين عليه، وهذه المُساءلة هي فرض لا يقبل أي شكلٍ من أشكال التهاون أو التأجيل أو التردد، احتراماً للمواطن العربي وتقديساً لمكانة الأمّة.

أي كائنٍ بشري بطبعه هو يميل للأمن والاستقرار، والشعور بالأمان، وهناك عوامل مهمة لتحقيق ذلك، ويتطلب في المقام الأول:

* أمن البلاد، ونمو الاستقرار الاقتصادي الذي يُعتبر العمود الفقري للحياة، وبدونه تتبعثر كل الأمور، وتنقلب رأساً على عقب.

* والأمن السياسي، الذي يعتبر البوابة الرئيسية للعالم الخارجي، بهدف كسب رهانات الرقي والازدهار والمرتبط بأمن الدولة، وتحررها، والذي يدعم متانة الثبات في اعتماد القرارات الحاسمة.

* والأمن الإجتماعي المهم جداً في الإستقرار بمفهومه الشامل.

* والأمن الفكري الذي يُعتبر أهم حقيقةٍ بحد ذاته، والتي تدور في فلك وجودنا كأمّة تسعى بكلِ جهدٍ لتأمين خطوطها الدفاعية المتقدمة وفي كل الإتجاهات، تحسّباً لكل الايديولوجيات الدخيلة الموجّهة نحونا كغزو، وصدّ هذه الحرب الإعلامية والايديولوجية وهذا الخطر الداهم.

وبكلّ أسفٍ نقول، نعم لقد تمّ استهدافنا وبقوة، بسبب تبعية أنظمتنا  العربية، وتخلّفنا كثيراً، ووصلنا إلى حافة الهاوية، وعلينا عمل المستحيل من أجل إدراك واقعنا، ولملمة الشتات، ومعالجة كل أسباب الانكسارات والتصدعات التي أصابتنا والأمّة.

إن الفكر لا تتحكّم به الحدود الجغرافية، ولا جغرافية المكان، ولا شيء يتحكم بالفكر سوى القيم والثوابت، ولا يخضع لتأشيرة مرور أو لجواز سفر.

لقد تم صناعة وصياغة  الحرب الإعلامية المشبوهة والشريرة بهدف الوصول لغاياتٍ إستراتيجية، لذا من الواجب علينا تحصين وجودنا المقدّس، وإيجاد حلولٍ جذرية ورادعة كي نتمكّن من مواجهة هذا الاخطبوط المشبوه، وتأمين أُمّننا السياسي والفكري والأمني والاقتصادي، كأمّة تسعى لترقية نفسها وشعوبها، وحماية وجودها الجغرافي والاقتصادي والسياسي والفكري، ومواجهة التحديات التي فرضها الواقع الدولي بكل ايجابياته وسلبياته.

وأمام هذا الواقع المرير، يجب على الكتاب والمفكرين والمثقفين العرب أن يتحملوا شيئاً من المسؤولية الفكرية، بهدف العمل على وضع استراتيجية واضحة تخدم أهدافنا الوطنية والقومية، من أجل مواجهة تيار الفتنة، وفضح أساليب الحرب الإعلامية، والتبعية التي تهدف إلى تغييب الوطن.

***

د. أنور ساطع أصفري

  

إن "الأمل" هو فطور جيد، لكنه عشاء سيئ، كما قال الفيلسوف الانجليزي "فرانسيس بيكون" Francis Bacon. كان الأمل قبل ربع قرن فقط يشكل قوة فاعلة في السياسة العالمية. واليوم أصبحت السياسة في مختلف أنحاء العالم مدفوعة بالغضب واليأس والاستياء. وقبل كل شيء الحنين. "لنجعل من X عظيما مرة أخرى" هو الشعار الغوغائي في عصرنا، وليس فقط مع الترشح الرئاسي لدونالد ترامب في الولايات المتحدة، بل في الهند أيضاً التي بدأ رئيس وزراءها مسيرته المهنية من خلال الترويج للـ "هندوتفا" Hindutva وهي قومية هندوسية خيالية تمجد الحضارة الهندية قبل وصول المسلمين، وتؤمن بأيديولوجية سياسية تشمل التبرير الثقافي للقومية الهندوسية والإيمان بتأسيس الهيمنة الهندوسية داخل الهند.  في أوروبا تتحرك أحزاب اليمين المتطرف في مختلف أنحاء القارة بماض متخيل مماثل، وتحقق مكاسب في عدد من الدول.

نحن نعيش في عصر رجعي. يؤمن الثوار بالأمل. ويتمنون أن يعتقد الآخرون أن الانفصال الجذري عن الماضي أمر ممكن، وأنه سيفتتح حقبة جديدة من التجربة الإنسانية. ويعتقد الرجعيون أن مثل هذا الانقطاع قد حدث بالفعل وكان كارثياً. وبينما يبدو للعين غير المدربة أن نهر الزمن يتدفق كما كان دائماً، فإن الرجعي يرى حطام الجنة ينجرف أمام عينيه. يرى الثوري المستقبل المشرق. يفكر الرجعي في الماضي بكل بهائه. وهو يعتقد أنه الوصي على ما حدث بالفعل. وهذا ما يفسر اليأس المبهج بشكل غريب والذي يتدفق عبر الأدب الرجعي والخطاب السياسي. وعلى حد تعبير محرري المجلة الأمريكية "ناشيونال ريفيو" National Review اليمينية في عددها الأول، فإن المهمة تتمثل في الوقوف "ضد التاريخ".

الرجعيون ليسوا محافظين. هذا هو أول شيء يجب أن نفهمه عنهم. لقد نظر المحافظون دائماً إلى المجتمع باعتباره نوعاً من الميراث الذي نتلقاه ونتحمل مسؤوليته. ويعتقد المحافظون أن الطريقة الأكثر صحة لإحداث التغيير هي من خلال التشاور والتحولات البطيئة في العادات والتقاليد، وليس من خلال الإعلان عن برامج إصلاح جريئة أو اختراع حقوق فردية يفترض أنها غير قابلة للتصرف. لكن المحافظ أيضاً متقبل لحقيقة أن التاريخ لا يتوقف أبداً وأننا مجرد عابرين. يسعى الفكر المحافظ إلى غرس فكرة متواضعة مفادها أن التاريخ يدفعنا إلى الأمام، وليس العكس، وأن المحاولات الجذرية للسيطرة عليه ستؤدي إلى كارثة.

ويرفض الرجعيون هذه النظرة المحافظة. إنهم متطرفون على طريقتهم مثل الثوريين ومدمرون بنفس القدر. تبدأ القصص الرجعية دائماً بحالة سعيدة ومنظمة، حيث يتقاسم الناس عن طيب خاطر مصيراً مشتركاً. ثم أدت الأفكار الغريبة التي روج لها المثقفون - الكتاب والصحفيون والأساتذة - إلى تقويض هذا الانسجام. (إن خيانة النخب هي أمر أساسي في كل أسطورة رجعية). وسرعان ما انخدع المجتمع بأكمله، بما في ذلك عامة الناس. فقط أولئك الذين احتفظوا بذكريات الأساليب القديمة - الرجعيون أنفسهم - هم الذين يرون ما حدث. ما إذا كان المجتمع سيعكس اتجاهه أو يندفع إلى هلاكه النهائي يعتمد كلياً على مقاومتهم.

اليسار الرجعي

يمكن العثور على الرجعيين ليس في اليمين فقط، يل في صفوف اليسار. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي والآمال الثورية في عالم ما بعد الاستعمار تنحسر. استبدل اليسار الأوروبي خطاب الأمل بخطاب الحنين إلى الماضي. الحنين إلى قوتها الماضية. إن الحنين إلى ثقافة الستينيات، واقتصاد الخمسينيات، وسياسة الثلاثينيات هو دليل على فشل اليسار. ولم يعد اليسار قادراً على الإلهام برؤية طوباوية للمستقبل، مما اضطره إلى العودة إلى ماضيه. وبالتالي فإن فشل اليسار يشكل انتصاراً لليمين.

إن القصة التي يرويها اليسار الرجعي لنفسه تبدأ مع ثورات القرون الماضية، والانتفاضات، والإضرابات العامة. ثم جاء الخريف مع مارجريت تاتشر ورونالد ريجان. على من يقع اللوم؟ مرة أخرى: المثقفون الغربيون، وهم في هذه الحالة عصابة دولية من الاقتصاديين "النيوليبراليين". لقد تمكنوا بطريقة أو بأخرى من إقناع الحكومات والناخبين الذين كانوا ينتمون إلى الطبقة العاملة سابقاً بأن الثراء هو أمر مجيد. وعندما لم تصل الثروات قط، أقنع السياسيون العنصريون هؤلاء الناخبين بإلقاء اللوم على المهاجرين والأقليات. ولا يمكن تبديد هذا الوهم إلا إذا جعلنا اليسار عظيماً مرة أخرى ــ على الرغم من أن ما سيفعله اليسار المنتعش يظل لغزاً.

 ولم يقم أي من الأحزاب الجديدة المناهضة للعولمة في أوروبا "بوديموس" Podemos في إسبانيا، و"سيريزا" Syriza في اليونان، وحركة الـ "خمس نجوم" the Five Star في إيطاليا بطرح برنامج معقول عن بعد للمستقبل.

 لقد كانت هناك علاقة بين شعبية هذه الأحزاب، وتصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، والحماس لترامب في أمريكا الوسطى. لقد أدت العولمة الاقتصادية وشلل المؤسسات الديمقراطية إلى شعور الناس العاديين في المجتمعات الغربية بالحرمان من حقوقهم. وكذلك الأمر بالنسبة لحقيقة أنه لم يقدم أي حزب أو حركة من مختلف ألوان الطيف السياسي الغربي رؤية معقولة للمستقبل استناداً إلى الحقائق الحالية، التي تتغير بسرعة متزايدة. إن عيش حياة عصرية في أي مكان في العالم اليوم، خاضعة لتحولات اجتماعية وتكنولوجية دائمة، يعني تجربة المعادل النفسي للثورة الدائمة. والآن أصبح القلق في مواجهة هذه العملية تجربة عالمية، ولهذا السبب تجتذب الأفكار الرجعية أتباعاً في مختلف أنحاء العالم لا يشتركون إلا في القليل من الشعور بالخيانة التاريخية.

كل تحول اجتماعي كبير يترك وراءه جنة عدن جديدة يمكن أن تكون بمثابة موضوع حنين لشخص ما. وقد اكتشف الرجعيون في عصرنا أن الحنين يمكن أن يكون حافزاً سياسياً قوياً، وربما أقوى من الأمل. الأمنيات يمكن أن تكون مخيبة للآمال. الحنين لا يمكن دحضه.

اليسار النظري

كل شيء بدأ في أواخر الستينيات، عندما ابتعد فصيل من اليسار عن العمال واتجه نحو المثقفين لدعمهم. أصبح هذا اليسار الجديد القائم على النظرية النقدية، والذي قدم انتقادات لا نهاية لها قائمة على النظرية للمجتمع الحالي. مع مرور الوقت، أدت التغيرات الثقافية الناشئة عن هذا اليسار القائم على النظرية إلى سلسلة من التأثيرات الاجتماعية، والتي دفعت بشكل مطرد عدداً كبيراً من الناس نحو المحافظة الرجعية المتشددة. وربما تسارعت هذه العملية في السنوات الأخيرة، مع ظهور موجة جديدة من اليسار النظري في العقد الماضي. والنتيجة هي أن هناك الآن مقاومة كبيرة لإصلاحات العدالة الاجتماعية بجميع أنواعها.

مشكلة اليسار النظري هي أنهم متجذرون في الفلسفة النظرية، وليس في الحقائق العملية للعالم الحقيقي. وهذا يعني أنهم يقدمون تشخيصات خاطئة للمشاكل الاجتماعية، ويقدمون الحلول الخاطئة. والأكثر إشكالية هو أن لديهم أيضاً تحيزاً قوياً ضد المؤسسات الاجتماعية القائمة منذ فترة طويلة مثل الزواج والأسرة وغيرها من ركائز المجتمعات التقليدية، وذلك بسبب النظرة النقدية للعالم التي ترى أنها تدعم نظاماً "قمعياً".

أحد التأثيرات الرئيسية لأفكار وممارسات نظرية اليسار، وخاصة محاولاتهم لتفكيك و"تحرير" كل شيء، هو أنها عملت على إضعاف النسيج الاجتماعي بشكل كبير على مدى العقود الخمسة الماضية. وقد أدى هذا بدوره إلى حرمان ما يحتاجه الكثير من الناس بشدة، ألا وهو شبكات الدعم الأسرية القوية والمستقرة، والشعور القوي بالانتماء للمجتمع، فضلاً عن الشعور بالأمان الذي يوفره ذلك. ومن الطبيعي أن ينجذب هؤلاء الأشخاص إلى النزعة المحافظة الرجعية، التي تَعِد بوقف التدهور، وإعادة المجتمع إلى حالته السابقة. وعلى الرغم من أنهم لم ينجحوا في القيام بذلك من الناحية العملية، إلا أن الوعد ذاته، والفكرة ذاتها، كانت جذابة لكثير من الناس، الذين ليس لديهم مكان آخر يلجأون إليه.

وفي العقد الماضي، كانت هناك موجة أخرى من نشاط اليسار النظري والتي دفعت المزيد من الناس إلى اليمين بطريقة أخرى، من خلال إصرارهم غير المعقول على قبول أفكارهم دون مناقشة. هذا الموقف متجذر في النظرية القائلة بأن المعرفة والخطاب متجذران في السلطة والقمع، وهو ما يتعارض تماماً مع المنطق العملي السليم ومُثُل التنوير. ولكن الأهم من ذلك، أن هذا الموقف لن يكون مقبولاً لدى معظم الناس. خلال العقد الماضي تحول الكثير من الأشخاص التقدميين المعتدلين سابقاً إلى اليمين المتشدد بعد أن واجهوا الموقف غير المعقول لليسار النظري. يحب البعض إنكار هذه الحقيقة، لكنني أعتقد أن هذا شيء حدث بالفعل إلى حد كبير.

كيف إذن نستطيع أن نبدأ في معالجة هذه الفوضى، حتى نتمكن من إعادة التقدم الإصلاحي إلى جدول أعمال؟

نحن بحاجة إلى وضع حد للتأثير المهيمن لليسار النظري على تحديد السياسات. على وجه الخصوص، طالما أن النظرية النقدية اليسارية ذات المحصلة الصفرية والهدامة والمناهضة للمجتمع في الأساس لا تزال باقية في ضميرنا، فلن نتمكن حقاً من البدء في إعادة بناء نسيج اجتماعي قوي. ومن دون نسيج اجتماعي أقوى وأكثر صحة، لن تتوفر الإرادة اللازمة لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة لحل مشاكلنا. وهكذا، فإن كل قضية جديدة وكل تطور جديد يتحول إلى مزيد من الوقود للحروب الثقافية، الأمر الذي يعود بالنفع على كل من اليسار النظري واليمين الرجعي، وبالتالي استمرار الحلقة المفرغة. ليس هناك مجال لإلقاء نظرة غير متحيزة على أشياء مثل الأتمتة، والمساواة العرقية، والحقوق المدنية، والمناخ وما إلى ذلك. ومن هنا، سأتحدث أكثر عن كيفية إزالة تأثير خمسة عقود من النظرية النقدية في أفكارنا وثقافتنا. وهذا أمر يتعين علينا أن نعمل معا من أجله، لأنه أثر علينا جميعاً تقريباً بدرجات متفاوتة.

والشيء المهم الآخر الذي ينبغي علينا القيام به هو إعادة أولئك الذين وقعوا بالفعل في فخ المحافظة الرجعية المتشددة، لأنهم يرون أن ذلك هو السبيل الوحيد لإعادة مجتمع صحي. ويتعين علينا أن نبني بديلاً أفضل: طريق العودة إلى مجتمع صحي، ولكن يتطلع إلى الأمام بدلاً من النظر إلى الوراء. ومن ثم نحتاج إلى إقناع هؤلاء الناس بأن طريقتنا ستنجح، ويمكننا إصلاح الفوضى التي خلقها اليسار النظري بطريقة لا تستطيع الأيديولوجية الرجعية القيام بها.

لا يمكن إلا أن نُبقي الناس في حالة من الحنين إلى الماضي الأفضل، ولكن يمكننا أن نمنحهم شيئاً يأملون فيه بالفعل: مستقبل أفضل. إنه طريق طويل، لذلك أعتقد أننا يجب البدء في أقرب وقت ممكن.

النموذج الإسباني

جاهدت وزيرة المساواة الإسبانية إ"يرين مونتيرو" Irene Montero لفرض قانون يهدف إلى منح وضمان حقوق الإنسان الأساسية للأشخاص المتحولين جنسياً، والذي أدت مسودته إلى صراع على السلطة داخل الحركة النسوية المؤسسية (PSOE وPodemos). البعض في الحكومة أعطى صوتا للفرع النسوي الإقصائي الرافض للتشريع، مما فتح جدلاً في اليسار لم يكن موجوداً من قبل في البلاد، فكانت النتيجة زيادة في حملات الكراهية. في الآونة الأخيرة، شنت "المنظمة شيوعية" communist organization حملة مناهضة لقانون المتحولين جنسياً، حيث ظهرت في الشوارع ملصقات تحمل عبارة "ابنتي متحولة جنسياً" وكتبت بدلاً من ذلك "ابنتي لا تستطيع تحمل تكاليف الدراسة الجامعية".

بدأت هذه المناقشة مع "قانون الترانس"  Trans Law في إسبانيا الذي صدر عام 2023 ويتيح التعريف الذاتي للجنس في إسبانيا. كما يسمح القانون للأفراد بتغيير هويتهم الجنسية قانونياً. ولكن هذه المناقشة نموذجية لكيفية وجود موجة رجعية في جميع أنحاء اليسار الأوروبي: اليسار الذي يتفاعل مع الهويات المتنوعة للطبقة العاملة فقط لاحتضان هوية شيوعية أكثر اختزالا. إذا كان هناك قاسم مشترك لتفسير اليسار الأوروبي الرجعي، فهو كلمة "استيقظ" لليمين البديل. ومن خلال القيام بذلك، فإنهم يقومون بتوسيع صورة مزيفة، وهي مشكلة خلقها المحافظون لتقديم حلول تناسب أيديولوجيتهم.

ما الذي حدث حتى أصبح العامل الصناعي الإنجليزي في القرن التاسع عشر، كما وصفه ماركس، هو المرجع الوحيد لسلسلة كاملة من اليساريين الذين يتمتعون بسلطة خطابية متزايدة في المجال العام؟

إن ظهور الخطاب الرجعي لليمين البديل في الولايات المتحدة في عام 2012 ونجاحه النسبي - وهو دفاع عن الرجل الأبيض والمغاير جنسياً - أعطى المجموعات الهامشية الرجعية في كل من أوروبا وإسبانيا حجة مركزية: لقد كان اليسار مهتماً بالقضايا الثقافية، وليس مع "السياسة الطبقية".  المفكر اليساري الأمريكي "فيفيك تشيبر" Vivek Chibber يؤكد أن الاشتراكية لا يمكن تحقيقها بدون الطبقة العاملة، وهذا أمر واضح فكل حركة سياسية تبدأ من موضوع سياسي. ومع ذلك، فإن الاشتراكية لا تقوم على هوية يجب المطالبة بها "الطبقة العاملة"، بل على العكس تماماً فهي تعلن عن هوية سلبية، شيء يجب نفيه أو تدميره. علاوة على ذلك، فإن الحركة (الاشتراكية) برمتها تدور حول كيفية إنكار هويتها جدليا من خلال الثورة أو حتى الإصلاح التقدمي، وبالتالي غرس السيف في قلب الرأسمالية. بالإضافة إلى ذلك، يذهب تشيبر إلى حد القول بحزم أن جميع العمال يصوتون وفقاً لـ "مصالحهم المادية"، وبالتالي، فإنهم يصوتون لليمين لأنه قد يكون لديهم خطاب أكثر توجهًا طبقياً، مما يوحي بأن اليسار فقد قيمته. مكان في مناقشات الهوية.

اعتبر البعض أن هذا التحليل فيه مغالطات معادية للماركسية على أقل تقدير. أولا: لقد أظهر لنا التاريخ بالفعل أن "المادة" لا تقتصر على الأشياء التي تغذي الإنسان وأن العمال لا يصوتون للسياسيين الذين يعدون بتلبية "احتياجاتهم المادية". على سبيل المثال، لا يصوت العمال لصالح الساسة الذين يعدون بتوفير الغذاء أو الإسكان أو التعليم بأسعار معقولة للجميع. لو كان الأمر بهذه البساطة، لكانت البشرية تعيش في ظل الاشتراكية لمدة قرن من الزمان. ثانيا: إن الإيحاء بأن "المادة" هي الطريقة الوحيدة لتسييس ذاتية العمال يتجنب رؤية البياض، والأمة، والجنس - وحتى "التقاليد" - باعتبارها هياكل مادية. تعد العنصرية ورهاب المثلية والتمييز الجنسي أيضاً جزءًا من موضوع "الطبقة العاملة" وتمنعهم من اكتساب القدرة السياسية أو تعبئتها بمصطلحات مناهضة للنظام.

أخيرًا، بدءًا من أعمال الماركسيين النسويين مثل الأكاديمية الأمريكية "نانسي فريزر" Nancy Fraser أو عالمة الأنثروبولوجيا الدومينيكية "أوتشي كورييل" إلى أعمال منظري النظام العالمي مثل عالم الاجتماع الأمريكي "إيمانويل والرشتاين" Immanuel Wallerstein، والاقتصادي وعالم الاجتماع الإيطالي "جيوفاني أريجي"  Giovanni Arrighiورفاقهم.  من المعروف جيداً أن شروط إمكانية الاستغلال (الاقتصادي) من قبل الرأسماليين يقوم على المصادرة (السياسية)، سواء كان ذلك العمل الحر أو شبه العبودي للنساء والعمال السود.

لقد ظهر نوع من "الماركسية المبتذلة"، الملتزمة سياسياً بتعزيز مؤسسات مثل الدولة أو "الأسرة" - والتي تُفهم على أنها غير تاريخية، وليست نتاجاً للرأسمالية. إنه يسار رجعي لأنه يعيش في الماضي - وتحديداً في ذروة العصر الفيكتوري الأخير - ويشعر بالحنين إلى الرفاهية الأوروبية، وحتى الأمريكية.

تحاول هذه المواقف إحياء العصر الذهبي حيث كان من المفترض أن تلبي الدولة احتياجات الطبقة العاملة، وحيث لم يكن للحركات الاجتماعية صوت في المجال العام للتعبير عن مدى تنوع الطبقة العاملة. ولكن، كيف يمكن أن توجد مثل هذه الحركة إذا لم يتم الاعتراف بالعمل الحر الذي قدمته زوجات رجال الشرطة والجيش والتجار - أو عمل السود في مستودعات السفن الذي ساعد في توسع الإمبراطورية البريطانية؟

أزمة بعد أزمة

ومع ذلك، فإن هذه اليسارية الرجعية لم تظهر بين عشية وضحاها، بل يمكن إرجاعها إلى أزمة عام 2008، حيث دمر الانفجار المالي «الحكومات اليسارية»، وبقيت في السلطة تلك الحكومات التي ركزت برامجها السياسية على الليبرالية الاجتماعية المحاصرة داخل النموذج النيوليبرالي.

وبدلاً من الاستفادة من هذه الأزمة لإعادة التفكير في الاستراتيجيات اليسارية، ظهر تطبيق سياسي: زخم شعبوي، لم يكن نظرية متطورة للغاية، بل فرضية أو استراتيجية للاستيلاء على السلطة. وفي بعض البلدان، كانت هذه المقترحات تنتمي بوضوح إلى طيف اليمين المتطرف؛ وهذا هو الحال في فرنسا (FN)، والمملكة المتحدة (UKIP)، والولايات المتحدة (Alt-Right & Trump)؛ بينما في دول أخرى، كان للنافذة الشعبوية طابع يساري أو تقدمي واضح، كما هو الحال في إسبانيا حزب "بوديموس"  Podemos أو اليونان حزب "سيريزا" Syriza ، أو مزيج من الاثنين، كما هو الحال في الولايات المتحدة، حيث اليسار يعارض ترامب وكلينتون بين الأحزاب اليسارية مثل شخصية عضو مجلس الشيوخ الأمريكي "برنارد ساندرز" Bernard Sanders . ويمكن اعتبار حلم زعيم حزب العمال البريطاني "جيريمي كوربين" Jeremy Corbyn في المملكة المتحدة مثالاً آخر.

ويمكن القول إن السابقين يشربون من المنظر السياسي والأكاديمي الأرجنتيني "إرنستو لاكلاو" Ernesto Lacla وشريكته "شانتال موف" Chantal Mouffe بالإضافة إلى ما يسمى باشتراكية أمريكا اللاتينية في القرن الحادي والعشرين، في حين أن الشعبوية اليمينية، أو بالأحرى الرجعية، ستفعل ذلك من كتابات المؤلف السياسي اليميني المتطرف الفرنسي "آلان دي بينويست" Alain de Benoist مؤسس الحركة اليمينية Nouvelle Droite.

في إسبانيا، ألهم المؤلفان الأولان الممارسة السياسية لحزب بوديموس، بينما أصبح الثاني يُقرأ بشكل متزايد -بسبب الترجمة الإسبانية، ويقدمه اليسار الرجعي الإسباني على أنه "مؤلف مستعرض". وليس من قبيل الصدفة، بالنسبة لـ دي بينوسيت، أن الهدف بعد الثمانينيات ــ مع وفاة الحداثة واستنفاد الديمقراطية الليبرالية ــ يجب أن يكون التركيز على المعركة من أجل الأفكار والثقافة. باتباع الإجراء الغرامشي Gramscian حاول اليمين الاستفادة من أزمة الأيديولوجية المهيمنة لتحفيز النيوليبرالية وفرض نظام جديد. وهذه هي الطريقة التي وقع بها اليسار الرجعي في الفخ: فقد خدمت الشعبوية اليسارية ــ وحدودها النظرية والاستراتيجية في تغيير الحس السليم للعصر ــ كرجل قش لصالح اليمين عندما تضاءلت قواه وتقلصت طاقاته الراديكالية.

والحالة النموذجية هي الحالة الإسبانية: كان على القوة اليسارية، حزب بوديموس، أن تتفق مع الحزب الاشتراكي العمالي، وعلى الرغم من أنه كان لديهم دائماً أفق لاستعادة دولة الرفاهية في منتصف القرن العشرين ومن ثم التقدم نحو نوع من الاشتراكية الديمقراطية. – الحقيقة هي أنهم لم يتمكنوا من كسر النموذج النيوليبرالي داخل الحكومة. هذه المعركة "الخاسرة" لا تترك سوى اليسار محكوماً عليه بإدارة رأس المال، مع الاضطرار إلى توزيع الفتات بين الطبقة العاملة، كونها الأخيرة لا تثق تماماً في الوعود الكاذبة.

ومع ذلك، فإن اليساريين من "النمط الجديد" لديهم إرادة متعددة الجوانب داخلهم: فهم يفهمون السياسة الطبقية على أنها ضرورية، ولكنهم يحاولون توسيع الحقوق السياسية خارج هوامش المصنع. حتى أنهم وقعوا في فخ النموذج النيوليبرالي، كانت إجراءاتهم تهدف إلى تحسين تنوع الطبقة العاملة: زيادة الحد الأدنى للأجور، والمحاولة الفاشلة للحد الأدنى من الدخل الحيوي، وتوسيع الحقوق لتشمل الأشخاص المتحولين جنسياً، وقانون الإجهاض الجديد، والمزيد من الحماية للأشخاص المتحولين جنسيًا. وإذا لم يتمكنوا من توسيع نطاق جدول الأعمال ليشمل المزيد من القضايا المادية، فهذا أمر يستحق اللوم على القادة السياسيين، وليس المجموعات المستبعدة. بل على العكس من ذلك، ينبغي استخدام هذا التقدم في مجال العدالة الاجتماعية كأمثلة إيجابية.

لكن اليسار الرجعي، الذي يقف مع العنصرية بنى خطاباً مفاده أن هذه الحركات والنضالات كانت "نضالات جزئية" تهدف إلى "خداع" الطبقة العاملة. في أوروبا ـ وخاصة في إسبانيا ـ لم تتسبب الرأسمالية في تقسيم الطبقة العاملة المتنوعة، كما فعل الرجعيون. وكما ذكر أحد ممثليهم الرئيسيين، "إذا كان نضال المثليين يشكل خطراً على الرأسمالية، فلن تتبناه رأسمالية قوس قزح، وقد تم التعبير عن نفس الحجة حول الحركات النسوية والمناهضة للعنصرية. مثال آخر هو الكتاب الذي نشره الكاتب الإسباني "دانييل برنابي"  Daniel Bernabéعام 2018، بعنوان "فخ التنوع" The Diversity Trap والذي يحذر من أن الوحدة الطبقية مكسورة الآن بسبب مناهضة العنصرية. وهناك أيضاً مثال الكاتبة وكاتبة العمود الأكثر مبيعاً "آنا إيريس سيمون" Ana Iris Simón التي تقدم نفسها على أنها "يسارية" ولكنها تقتبس من مؤلفين فاشيين إسبان للدفاع عن نفسها. وبما أن اليسار الرجعي يلعب بهوية وطنية بالإضافة إلى كونه أبيض ومغاير جنسيا وذكوريا - على عكس الأجانب، بغض النظر عما إذا كانزا من الطبقة العاملة - فإن أفضل طريقة لاسترضاءهم هي الدفاع عن الأممية بكل معانيها.

***

د. حسن العاصي

أكاديمي وباحث فلسطيني مقيم في الدنمرك

بعيداً عن أنباءِ مطاردةِ ميليشيا لجيشِ الدَّولة، وإعلان القتال بين عشيرتين، مِن طائفة واحدة، دعت كلٌّ واحدة أنها العلوية والأخرى الأموية، ودعوةُ شاعرٍ للصيدليات استبدال بيع الخُرافة بالأدويّة، وفضائح سرقات القرن، وسن قوانين الهدم واحداً بعد آخر، وانتظار عودة «الدَّعوة»، عبر إتلاف جديد، إلى الوزارة لاتمام خراب 2014، هنا يكون الصّمتُ أولى. أقتبسُ مِن صاحب الدُّرر والجواهر: «وحينَ تطغَى على الحرَّان جمرتُهُ/ فالصَّمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليهِ فمُ».

تُعد دزني باريس واحدةً مِن أكبر ملاهي الصِّبيان، لكنها جذبت الكبار أكثر، ومنذ تأسيسها (1992) صارت جزءاً مِن الخيال، بإحضار الماضي: قراصنة، وعلاء الدين وفانوسه السّحريّ، قصة «ألف ليلة وليلة» بالتماثيل، تدهش الأجداد والآباء قبل الأبناء، علاء الدين (ألادن)، الصَّبي الفقير رفعه فانوسه السحري، ليرضى به الملك زوجاً لابنته. إنها واحدة من خيالات الشَّرق، أنَّ يطير البساط بين البلدان، وقد حققها الغرب واقعاً باختراع الطائرات. مازالت «ألف ليلة وليلة» مجهولة المؤلف، وبتقدم فن التمثيل وصناعة الرسوم، صار الماضي خيالاً جميلاً.

قبل عصرنا كان للصبيان التهيأة للرجولة، لا شيء يخص الطّفولة، وإن وجدت ملاعبُ، فهي ما يخترعونه للهوهم، لا فضل للكبار به، وتُسمى «ملاعب الصّبيان»، ذِكرها أبو هلال العسكريّ(ت: 399هجريَّة)، ومنها: الزُّحلوقة، التَّزلّق على الرّمل والطِّين، والأرجوحة، والمفايلة، وغيرها مِن الملاعب(التَّلخيص في معرفة أسماء الأشياء)، تلك الملاعب لصبيان العامة، ليس لأولاد الملوك نصيبٌ فيها.

ما خص صبيان الملوك دزنيلاند، لكنَّ مِن نوع آخر، وهي ما عُرفت بـ «القرية الفضية»، شيدتها زوجة المعتضد العباسيّ(ت: 289هجرية)، لابنها المقتدر(حكم: 295- 320)، وربّما تفرد في ذِكرها القاضي والأديب المُحسّن التّنوخيّ(ت: 384هجرية)، وأخذها عنه ابن الجوزيّ(ت: 597 هجرية) في منتظمه.

«كانت القرية، على صفة قرية، فيها مثال البقر، والغنم، والجمال، والجواميس، والأشجار، والنبات، والمساحي، والنَّاس، وكلّ ما يكون في القرى»(التّنوخي، نشوار المحاضرة). فُسر إنشاؤها برغبة أمِّ المقتدر لتعريفه، وكان صبياً حين كُلف بالخلافة، بالقرى التي يحكمها، وملهاة له. لم تشغل الرُّواة القرية نفسها، والفن المبذول فيها، لم يذكروا أسماء النّحاتين، لتماثيل النّاس، والحيوانات، وأدوات الزِّراعة.

شغلهم عن ذلك قصة القَهرِمانة «نظم»- كان العهد عهد القَهرَمانات والقَهْارمة(وكلاء وأمناء)- إحدى المتنفذات، وهي الأقرب مِن السَّادة (أم المقتدر وأختها وأخوها الخال)، فلما أراد أحد المتصلين بالقَهرَمانة الاحتفال بتطهير ولده، بذلت له أمُّ الخليفة ما بذلت، وظلت في نفسه «القرية الفضية»، وهذه روضة الخليفة، فتقدمت القَهرَمانة إليه، سائلةً: «يا سيدي يلتمس أنْ تعيره القرية، فإذا رآها النَّاس عنده ارتجعت، فقال: يا ستي هذا والله ظريف، يستعير خادم لنا شيئاً، وتكونين أنت شفيعة فأعيره، ثم ارتجعه! هذا مِن عمل العوام لا الخلفاء، ولكن... وهبتُ له القرية، فامري بحملها بجميع آلاتها»(النشوار).

لم يبق مِن تماثيل القرية شيء، فما وصلنا مِن ذهب لحضارات بادت، بسبب تقاليد الدّفن، تُدفن متعلقات الملوك الشّخصية معهم، بأمل الرَّجعة بها. قُلتُ: ولا المؤرخون أفادونا بأكثر مِما تعلق بشأن يوميات دار الخلافة، وأين حلَّ الزَّمن بما أُنفق مِن فضةٍ في القرية، مع أنها كانت أعجوبة الدّهر، بهذا عبر المهداة إليه: «ويرى عندي ما لم يرَ في العالم مثله»، وهي لو كان يعمل للصبيان ملاهيَ، لكانت دزنيلاند زمانها.

بغض النّظر عمَّا حصل في الخمسة والعشرين عاماً مِن حكم «السَّادة»، في القصة تاريخ الفن الضَّائع، في الحروب والغزوات، حتَّى لم يبق لبغداد أثرٌ، والأمر أمامنا، جاء الخراب على تاريخها المدون، ليُكتب لها تاريخ آخر، و«القرية الفضية»! التي لولا تجاوز المُحْسِن التّنوخيّ، التّاريخ السِّياسي إلى الاجتماعيّ والعمرانيّ، ما عرفنا شيئاً عنها.

***

د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

 

عندما يتبع البلد نظام آلية السوق في ادارة وتوجيه الاقتصاد الوطني يصبح بلداً رأسمالياً . ان جعل البلد رأسمالياً بين ليلة وضحاها وبقرارات حكومية، لا يستطيع جعله بلداً رأسمالياً حقيقياً.

بعض البلدان تمتلك إرثاً ثقافياً موروثاً من حقبة الدولة الراعية (او التي تزعم انها اشتراكية)، له جذور عميقة في كل مظاهر الحياة وفي عقلية وسلوك الأفراد الذين سلبتهم الدولة الشمولية حرية القرار والمبادرة والاستقلالية حتى في شؤونهم الخاصة وفي معيشتهم ووظائفهم الخ.. ثقافة ونمط حياة من هذا النوع لا يمكن ان يمحوه قرار حكومي سريع.

الرأسمالية او اقتصاد السوق هو اقتصاد حرية المبادرة الفردية وحرية اتخاذ قرارات الاستثمار والانتاج والاستهلاك .. انه اقتصاد تقديس وحماية الملكية الخاصة ووجود قوانين صارمة لهذا الغرض..

انه اقتصاد سيادة القانون والقضاء النزيه والمستقل واقتصاد البرلمانات الحقيقية التي تشرّع القوانين وتراقب دقة تنفيذها.

انه اقتصاد ثقافة الاعمال والاستعداد للمغامرة المحسوبة في ريادة الاعمال وفي تخصيص الاموال للمشاريع الجديدة..

الآن يمكن ان نتسائل: هل تتوفر هذه الشروط في البلد الذي يعلن فجأة انه رأسمالي؟

من يرفعون هذا الشعار يريدون تحويل البلد الى مجموعة من المتاجر التي تبيع كل ماهو مستورد والتي يحارب اصحابها كل محاولة لتطوير القطاع الصناعي والزراعي!!

الرأسمالية لا تعني الاعتماد على الاستيراد في توفير كل شيء. ولا تعني ان يقوم اصحاب رؤوس الاموال بفتح العشرات من المراكز التجارية ومحاربة المنتج الوطني وعدم السماح له بالنهوض بكل الوسائل.

الدولة الرأسمالية صحيح انها لا تمتلك المصانع والمزارع، لكنها تتبنى سياسات تشجيع نمو تلك القطاعات.

السياسة المالية والنقدية من ادوات الدولة لتحقيق اهدافها دون تدخل مباشر .. عندما تقتضي مصلحة الاقتصاد، تتدخل الدولة باشكال مختلفة.

***

د. صلاح حزام

الإستراتيجية الأولى تسمى (تفعيل الأذرع) المؤسسه للمنطقة. والإستراتيجية الثانية المقابله وتسمى (تفكيك الأذرع).

ماذا تعني هاتين الإستراتيجيتين (التفعيل) و(التفكيك)، وهل إنهما إستراتيجيتان واقعيتان؟ وما هي اهدافهما في في صراع المنطقة؟ وما هو دور النظم العربية وشعوبها في واقع التفعيل والتفكيك، وهل يخدمان الواقع العربي؟

إستراتيجية (تفعيل) الأذرع هي في حقيقتها معولاً للتهديم، يستخدمه الرأس بمهارة فائقة ويدير الأذرع استراتيجياً وعسكرياً (يهاجم حين تكون الفرصة سانحة، ويتراجع حين يرى الضغط يتراجع، ويستكين للهدنه حين يصبح الخطر وشيكاً).. فهي استراتيجية تقوم على المخادعة والمراوغة والكذب والنفاق السياسي.

أما إستراتيجية (تفكيك) الأذرع، فهي مشاغلة جيو- إستراتيجية، فارغة ومكشوفة تعكس حالة تناحر فارغ وصراع متفق على خطوطه العامة .. فمن الصعب التصديق بوجود (تفكيك) أذرع، بينما يظل (تفعيل) الأذرع مستمراً، ياخذ اشكالا متعددة كالرشق بالصواريخ المعينة والتفجير بالمسيرات التي لم تسفر عن قتلى ولا جرحى ولا اضرار مادية. والتراشق يأتي من ذراع الشمال ويأتي من ذراع الجنوب او اليسار، وتظل الألعاب النارية تفرقع بيافطات الحرب في ملاعب الشرق الاوسط .

استراتيجية (تفكيك) الاذرع هي استراتيجية غير مجدية ولا نفع منها طالما اعتمدت على استراتيجية سبقتها والتي سميت بـ(الإحتواء المزدوج)، وازدواجية هذه الاستراتيجية فقدت قيمتها وتحول نصفها الى أداة اقتصادية ضاغطة لا جدوى منها، طالما هناك موارد بديلة لتفعيل الاذرع، وما دام الرأس يعمل على (تفعيل) الأذرع كما يشاء، فيما تبقى استراتيجية التفكيك مشغولة بالاذرع التي لن تتفكك.

المنطق العقلي يعلن، عندما يسقط الرأس تموت الأذرع، ولكن استراتيجية (التفكيك) لا تريد ذلك لتحافظ على إلتزاماتها تجاه اداة التهديم الإستراتيجي في المنطقة ولحساب طرف آخر معني بالأمن ومعني بمخطط خاص من البحر إلى النهر. 

استراتيجية التفكيك لا تسمح لإستراتيجية التفعيل بأن تأحذ مداها كما تشاء إلا بضمانات، وإن الضمانات التي تقدمها استراتيجية التفعيل غير مضمونة كليا بفعل المرامي التي (تظهر خلاف ما تبطن) حيث تسقط الثقة من التعامل.

لو كان امر (الصراع) جدياً لحسم الأمر منذ زمن بعيد، ولكن استراتيجية التفكيك بعيدة عن حسمية الصراع الوهمي المخادع، لكي تبقى المنطقة تعيش على وهم الخلاص من الخوف.!!

***

د. جودت صالح

22 / 08 / 2024

 

ليست نصرة المرأة مِن قِبل الشّعراء العّراقيين، في العشريتين الأوليتين مِن القرن الماضي، محصورة في الأربعة الذين سنُذَكّر بمواقفهم الجريئة، فالعدد أكبر.

لكنَّ هؤلاء الأربعة، جمعتهم عمائمهم، اعتمارها والتّخلي عنها، ولم نقصد المناصفة، بين السّنَّة والشّيعة، فلا هم يرضون، ولا نحن راضون بهذا التصنيف، إذا تعلق الأمر بالأدب والثّقافة والحقّوق، ومِن أولوياتها، آنذاك والآن، حقّوق النّساء، فالعراقيات اليوم أقمنَ الدّنيا ولم يقعدنها، واتحدنّ، مِن شتى الطّوائف، عندما تعلق الأمر بحقوقهن المكتسبة، في قانون (188/1959)، والقوم مجتمعون لسلبها. كان وضع المرأة، في الأمس، لا يعينها على المطالبة، فتقدم الرّجال مطالبين لهنَّ، أما اليوم فظهرت المحامية والأكاديمية والطبيبة والفنانة، مِن داخل البرلمان وخارجه، أحرجنَ بحججهنَّ كوادر الأحزاب الدينية، مدافعات عن بناتهنَّ، وحضانة أطفالهنَّ، وعقود زواجهنَّ وطلاقهنَّ، التي يريدون تسليمها لمَن شرع جواز تملُك الرَّضيعة، والبناء في التاسعة، ولا دخل للدولة في حماية مواطناتها.

كان الأربعة: جميل صدق الزّهاويّ(ت 1936)، ومعروف الرُّصافيّ(ت: 1945)، ومحمَّد مهدي الجواهريّ(ت: 1997)، وصالح الجعفريّ(ت: 1979)، بسبب مواقفهم نبذتهم أسرهم وأترابهم، مِن المعممين. كتب الزّهاوي قائلاً(1910): «المرأة أول مَن حنَّت عليَّ، عندما كُنت ضعيفاً، احتاج إلى حنو قوي يتعهدني، ويدرأ عني مزاحم الحياة، عندما كنتُ طفلاً أرضع اللّبان مِن ثدي أمِّي... والمرأة أول معلم علمني...»(الرشوديّ، الزَّهاويّ دراسات ونصوص). كذلك أغضبتهم دعوته للمساواة: «علموا المرأة، فالمرأة عنوان الحضارة/ إنما المرأةُ والمرء سواءٌ في الجدارة» (الغبان، المعارك الأدبية).

طالب الزّهاوي للعراقيّة، أن تكون برلمانيّة وقاضية، يوم كانت البرلمانات خالية منهنَّ، قائلاً: «للمرأة اليوم في مجلس القضاء محلٌ/ للمرأةِ اليوم في البرلمان عقدٌ وحلُ/ للمرأة اليوم في استكشاف الحقائقُ شغلُ». (عزُّ الدِّين، الشّعر العراقيّ الحديث). إذا كان الزّهاوي ابن مفتي بغداد، وأخو مفتيها، وكان معمماً، كُفِّر وفُسقَ، لم يكن مجايله الرُّصافي أقل وصماً بالإلحاد والزَّندقة، وهو تلميذ محمود شُكري الآلوسيّ(ت: 1924). قال: «ظلموكِ أيتها الفتاة بجهلهم/ إذ أكرهوك على الزَّواج بأشيبا/هل يعلم الشّرقيّ أنَّ حياته/ تعلو إذا ربى البنات وهذبا/ وقضى بالحقِّ دون تَحكمٍ/ فيها وعلمها العلوم وأدبا»(عزَّ الدّين). ما إنْ امتنع الوسط الدّيني مِن السّماح بفتح مدرسة للبنات بالنَّجف(1929)، ثار الجواهريّ بتائيته «ليقرأ الرّجعيون»، فاجتمع المنددون، وفي مقدتهم آل الجواهريّ ضد ابنهم، وكان احتجاجه شديداً، قبل التخلي عن عمامته، قال فيها، وهي القديمة الجديدة: (ستبقى طويلاً هذه الأزماتُ/ إذا لم تُقصر عمرها الصَّدماتُ/ إذا لم ينلها مصلحون بواسلُ/ جريئون في ما يدعون كفاةُ/ بيوتٌ على أبوابها البؤسُ طافحٌ/ وفي داخلهنَّ الأُنس والشّهواتُ/ غداً يمنع الفتيان أنْ يتعلوا/ كما اليوم ظلماً تمنعُ الفتياتُ)، ومحذراً: «وما هي إلا جمرةٌ تنكرونها/ ستأتيكمُ مِن بعدها جمرات»(الغبان). ثارت على الجعفريّ، للسبب نفسه، النَّائرة في دار ذويه آل كاشف الغطاء، فقال لهم: «إنني اليوم سوف لا أحملُ لقب أسرتنا»- كاشف الغطاء- فأخذ ينشر باسم جده جعفر الكبير(ت: 1812)، فكانت قصيدته «هذبوها» (1930): «النّواميس بينكم شرعٌ/ فهي أُنثى والآخر ذَكرُ/ كيف يعطي ثمارَهُ شجرٌ/ في الحصى والتّراب مُنقبرُ». ثم قال: «وقيدٌ طالما قُيدتُ فيه/ وأهونُ بالرّجال مقيدينا/ نبذتُ به ورائي لا أُبالي/ وإنْ غضب الكرام الأقربونا/حناناً يا أماثُلنا حناناً/ حناناً أيها المستبدونا/ تبعناكم على خطأٍ سنيناً/ فأسفرت الحقيقة فأتبعونا»(الغبان). هذا، ولعلّ تراث الأربعة، يُفجر همة شعراء اليوم، بقصائد ومواقف، صحيح أنَّ الدَّاعين إلى تسليم أمور النِّساء للفقيه، بعزل الدّولة عنها، بدأوا بالشتائم ضد النساء المحتجات وبالنّجف، وما هي إلا خطوةٌ قبل الكواتم، لكنّ الأربعة سجلوا ملاحمَ، ارتفع بها المجتمع، وانتكس المتزمتون، فذاك زمانهم، وهذا زمانكم، فأين أنتم؟

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ذبلت سنوات العمر بسبب وصول الطاغية صدام لكرسي حكم العراق عام 1979، وكان وصوله للحكم اكبر مصيبة حصلت للعراق في اخر مائة عام، فادخل العراق في حروب عبثية دمرت اقتصاد البلد وجعلت من شباب العراق وقودا لحرب لا نفع منها، فكانت حرب ايران (1980- 1988)، ثم حرب الكويت (1990 – 1991)،  ثم الحصار الاقتصادي الدولي الذي سحق المجتمع (1990 - 2003)،  وقام الطاغية صدام بتحويل العراق الى سجن كبير، واعتمد سياسة نشر الرعب داخل نسيج المجتمع، واعتمد نهج تفتيت وحدة المجتمع عبر دعم طائفة على حساب باقي الطوائف، لهذا نجد من المهم دراسة كيف يتم صناعة الطاغية؟ 

تتجسد ظاهرة الطغيان في التاريخ والسياسة عبر أشخاص وموارد متنوعة تتعاون لتشكيل شخصيات تمارس السلطة بشكل تسلطي، لكن دعونا نتسائل: كيف يتم إنتاج الطاغية؟ وما العوامل التي تسهم في صنعه؟

 اولا: العوامل الثقافية والاجتماعية

تبدأ صناعة الطاغية من السياق الثقافي والاجتماعي الذي ينشأ فيه، فغالبًا ما تكون المجتمعات التي تفتقر إلى التعليم الجيد، وحرية التعبير، أكثر عرضة لظهور الطغاة، وهو ما حصل (كما حدث مع صدام)، وما زال يحصل في مجتمعنا بالأصنام الجدد، ويمكن أن تؤدي هذه الأيديولوجيات الثقافية التي تعظم من قيمة الزعامة الفردية إلى خلق بيئة تمجد الطغاة وتمنحهم الشرعية.

ويمكن القول ان صناعة الطاغية تتأثر بعدد من العوامل التي تلعب دورًا مهمًا في تشكيل القادة الاستبداديين وكيفية ظهورهم واستمرارهم في السلطة. وإليك أيها القارئ بعض هذه العوامل:

1. التقاليد والثقافة السياسية: المجتمعات التي لديها تاريخ من الحكم الاستبدادي أو التي تفتقر إلى تقاليد ديمقراطية قوية، قد تكون أكثر عرضة لظهور الطغاة. حيث إن التقاليد الثقافية التي تروج للسلطة المطلقة والاحترام الأعمى للزعامات تلعب دورًا كبيرًا في صناعة الطاغية.

2. الاقتصاد والبطالة: الأزمات الاقتصادية، تكون بيئة مناسبة لولادة طاغية، مثل ارتفاع معدلات البطالة والفقر، حيث يمكن أن تخلق حالة من عدم الرضا بين الشعب، مما يؤدي إلى دعم شعبي للطغاة الذين يعدون المقهورين بتحسين الأوضاع الاقتصادية وتحقيق احلامهم.

3. الرقابة الإعلامية: ان السيطرة على وسائل الإعلام وتوجيه الرسائل الإعلامية من قبل الدولة، يمكن أن يسهم في خلق صورة إيجابية عن القائد الاستبدادي، مما يساعده في الحفاظ على سلطته، كما فعلها صدام في سنوات حكمه.

4. الدعاية الشعبية: استخدام الدعاية لتعزيز صورة القائد وبث الخوف من "الأعداء" الخارجيين والداخليين، وهذا الامر يعزز من مكانة الطاغية، ويكثف من الشعور بالولاء بين الجماهير... وهكذا نجح صدام في زرع الخوف والرعب في كل شارع وفي كل زقاق، وتحول العراق لجمهورية الرعب والقلق.

5. توظيف الدين: بعض الطغاة يستخدمون الدين لتبرير سلطتهم أو لتأكيد شرعيتهم، مما يعمق من ارتباطهم بالجماهير ويعزز من شرعية حكمهم، كما فعلها صدام بعد هزيمته في حرب الكويت، حيث لجاء للخطاب الديني، وتبنى مشروع الحملة الإيمانية! وانه عبدالله المؤمن الذي يسعى للاصلاح.

6. العوامل النفسية: الشخصية الكاريزمية للقائد (الطاغية) تلعب أيضًا دورًا؛ فتأثير القادة القوي وقدرتهم على التخاطب مع مشاعر الناس يمكن أن يسهل عليهم الاستحواذ على السلطة، والمجتمعات الجاهلة تنجذب للقوي المتجبر، وهكذا كان صدام شديد القسوة هو وجماعته.

7. ثقافة الطاعة: في بعض المجتمعات، قد تكون هناك تقاليد ثقافية تعزز الاحترام الأعمى للسلطة، مما يسهل قبول الطغاة كجزء من النظام الطبيعي. يتم تعليم الأفراد أن الطاعة للسلطة أمر ضروري، مما يقلل من الدعوات للاعتراض أو المعارضة.

إن فهم هذه العوامل يمكن أن يساعد في التعامل مع التحديات التي تطرحها الأنظمة الاستبدادية، ويعزز الجهود نحو تحقيق الديمقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان.

ثانيا: الظروف الاقتصادية

تعتبر الظروف الاقتصادية من العوامل الرئيسية التي تساهم في ظهور الطغاة، مثل الفقر والبطالة والفساد الاقتصادي، وجميعها تعزز من حالة الاستياء بين الجماهير، مما يمهد الطريق لظهور سياسي واثق يعد بتحسين الظروف، في هذه الحالة، يستخدم الطاغية القضايا الاقتصادية كوسيلة لكسب الدعم وتوسيع الشعبية، وقد شهدنا عبر التاريخ ان الظروف الاقتصادية تلعب دورًا محوريًا في ظهور الطغاة واحتفاظهم بالسلطة.

وفيما يلي بعض النقاط التي توضح كيف تؤثر الظروف الاقتصادية في صناعة الطاغية:

1. الأزمات الاقتصادية: عندما تعاني البلاد من أزمات اقتصادية، مثل الركود، التضخم المرتفع، أو البطالة العالية، يصبح الناس أكثر عرضة للتوجه نحو قادة يعدونهم بالاستقرار والازدهار، هذه الأزمات تخلق بيئة يسهل استغلالها من قبل الطغاة.

2. الفقر وعدم المساواة: في المجتمعات التي تعاني من فقر مدقع وعدم المساواة الاقتصادية، يمكن للقادة الاستبداديين أن يستغلوا مشاعر اليأس والإحباط بين الناس، من خلال وعود بتحسين الأوضاع كما فعلها صدام، أو تقديم الدعم الاجتماعي لمجموعات معينة.

3. الفساد والاستغلال: الفساد المستشري في المؤسسات الاقتصادية يمكن أن يعزز من قوة الطغاة، حيث يمكنهم تقديم أنفسهم كـ "مخلصين ومصلحين" يحاربون الفساد وينظفون النظام، بينما يسيطرون في الحقيقة على الثروات من خلال أساليب غير قانونية.

4. التوزيع غير العادل للموارد: ان تقاسم الثروات بشكل غير عادل بين الفئات الاجتماعية يمكن أن يكون له آثار خطيرة، حيث يستغل القادة الاستبداديون هذه الانقسامات لتعزيز ولاء قواعدهم، ويطلقون وعودهم بتحقيق العدالة الاجتماعية بهدف كسب اكبر عدد من الجماهير،  من دون السعي لتحقيق ذلك.

5. التدخل الخارجي: في بعض الحالات يمكن أن يدعم قادة دول ذات مصالح اقتصادية معينة أنظمة استبدادية لتأمين وصولهم إلى الموارد أو الأسواق، مما يمكّن الطغاة من الاستمرار في السلطة بغض النظر عن الظروف المحلية.

6. استخدام الأزمات كفرصة: الطغاة عادة ما يستغلون الأزمات الاقتصادية لتبرير الإجراءات القمعية أو توسيع سلطاتهم، متذرعين بأن الحفاظ على الاستقرار يستدعي اتخاذ تدابير غير ديمقراطية.

 بالتالي فإن الظروف الاقتصادية ليست فقط عاملاً مسهمًا في صعود الطغاة، بل أيضًا أداة يستخدمها هؤلاء القادة للبقاء في السلطة.

 ثالثا: القمع والرقابة

يمتاز الطغاة باستخدام القوة والقمع كأدوات أساسية في حكمهم، وترتكب انتهاكات حقوق الإنسان، وتُفرَض الرقابة على الإعلام، وتُقضى على أي معارضة تحت غطاء السعي لتحقيق الأمن والاستقرار، ويصنع الطاغية نظامًا يخدم مصالحه الشخصية والسياسية على حساب حقوق الناس وحرياتهم (كما كان يفعلها صدام)، ان القمع والرقابة يلعبان دورًا حاسمًا في "صناعة" الطاغية والحفاظ على سلطته.

وإليك أيها القارئ الكريم كيف تساهم هذه العوامل في تعزيز الأنظمة الاستبدادية:

1. إسكات المعارضة: ان القمع يهدف إلى تكميم الأصوات المعارضة للحكومة، من خلال استخدام العنف أو التهديد ضد المعارضين، ويمكن للطغاة أن يمنعوا أي تحركات جماهيرية أو احتجاجات ضد حكمهم، مما يسهل عليهم البقاء في السلطة دون تحديات، وهكذا كان صدام يقمع بكل قسوة اي صوت معارض، كما فعلها  بالمقابر الجماعية لشيعة الوسط والجنوب.

2. أجهزة الأمن: ضمن الدولة القمعية يتم إنشاء أجهزة الأمن والاستخبارات القوية لرصد الأنشطة السياسية والاجتماعية، ويهتم الطاغية كثيرا بهذه الاجهزة، حيث تعمل على تجريم المعارضة وتشويه سمعتها، مما يمنح النظام القدرة على التحكم في الديناميات الاجتماعية والسياسية.

3. مراقبة المعلومات: الرقابة على وسائل الإعلام وتقييد الوصول إلى المعلومات المستقلة يسهم في تشكيل وعي الجمهور، حيث تقتصر المعلومات المتاحة على رواية واحدة وهي السلطة، وتُروج للنظام وتقلل من شأن المعارضة، ويصبح من الصعب على الناس تنظيم أنفسهم أو مقاومة القمع.

4. زرع الخوف: من خلال استخدام أساليب التخويف، مثل الاعتقالات التعسفية والاحتجاز والسجون السرية، يعمل النظام على خلق خوف دائم بين الناس، وهذا الخوف يحبط أي محاولة للتغيير أو الاحتجاج، مما يمكن الطغاة من المحافظة على سلطتهم.

5. تفكيك المجتمع المدني: القمع يؤثر سلبًا على منظمات المجتمع المدني والجماعات المستقلة، والتي قد تكون قادرة على تحدي السلطة، عند تقويض هذه المؤسسات يصبح من الأسهل على الأنظمة الاستبدادية السيطرة على المجتمع.

6. ترويج الإيديولوجية الرسمية: من خلال استخدام الرقابة، يمكن للطغاة تعزيز الإيديولوجية الرسمية التي تدعم شرعيتهم، وتسمح الأنظمة الاستبدادية بترويج روايات معينة حول القوة والنفوذ، ومن كثرة الترويج لسنوات وبشكل يومي تصبح قناعات في عقول الناس، مما يعزز من قبول الجمهور لسلطتهم.

7. التلاعب بالهوية الوطنية: الطغاة يقومون أحيانًا باستخدام الخطاب القومي أو الديني لتبرير القمع، للضحك على السذج، وتبرير افعالهم الشنيعة، مما يساعد في تجنيد دعم شعبي، ومن خلال أسلوب الخبث حيث يتم تصوير المعارضين على أنهم أعداء الوطن، عندها يسهل تبرير استخدام القوة ضدهم.

 بهذه الطرق، يسهم القمع والرقابة في بناء نظام استبدادي، يعزز من قوة الطاغية ويقلل من فرص التغيير الديمقراطي.

***

الكاتب: اسعد عبد الله عبدعلي

 

بذريعة تجنب القلاقل والتظليل طلبت نقابة المحامين العراقيين قبل أيام من هيئة الإعلام والاتصالات، أمرا إداريا خطيرا، يدعوها اتخاذ إجراءات قانونية بحق المحامين الذين يظهرون لإبداء الرأي والمشورة في وسائل الإعلام دون "ترخيص" مما أثار استياء المحامين. وعلى ما يبدو أن توجهها هذا يرتبط لرأي جهة سياسية تتربص لمنع الآراء التي تشغل الرأي العام حول ممارساتها على الصعيدين السياسي والمؤسساتي. إلا أنها، أي النقابة، أكدت التزامها مسألتين: لا يجوز للمحامين الظهور للتعبير عن رأيهم دون الحصول على "ترخيص" مسبق منها.. ثانيا، إن لم يحدث ذلك: فسيعرض المحامي نفسه للمساءلة القانونية. لكنها، في الوقت نفسه، لم تعلن صراحة عن نواياها الحقيقية من وراء تبني مثل هذا الشروع الذي يدعو إلى القلق، لأنه، يؤخذ نوع من تكميم الأفواه ومصادرة حقوق الإنسان وحرية التعبير التي يكفلها الدستور والأعراف القانونية والمدنية وأيضا، النظام الداخلي للنقابة ذاتها، يؤكد على مبدأ الدفاع عن أعضائها.   

التحليل العلمي والقانوني المرتبط بمهام المحامي والقاضي كرجال قانون يلعبون أدوارا محورية في حياة المجتمع من خلال ضمان تطبيق القانون وتحقيق العدالة. يشير إلى: حق المحامي بالدفاع عن حقوق الأفراد والمؤسسات ويقدم لهم المشورة القانونية. بينما القاضي يفسر القانون ويفصل في النزاعات. هذه المهام تتطلب مسؤولية أخلاقية كبيرة ودورا علميا في تطوير اللوائح القانونية وتعزيز العدالة الاجتماعية. لذا؛ لا يجوز بأي حال من الأحوال لمؤسسات الدولة أو مؤسسة نقابية منع المحامي من أداء دوره الأخلاقي والإنساني في الدفاع عن حقوق أبناء المجتمع. مثل هذا المنع يعد انتهاكا واضحا لحقوق الإنسان وسيادة القانون والعدل ويؤدي إلى تقويض المجتمع.

إن تقييد المحامين من المشاركة في النقاشات العامة والظهور في وسائل الإعلام لإبداء المشورة حول القضايا التي تؤثر على حقوق المجتمع يعتبر تعد صارخ على حقوقهم في التعبير ويضعف دورهم الأساسي لحماية وتعزيز حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. إن حرية التعبير والمشاركة في النقاشات العامة جزء لا يتجزأ من دور المحامي كمدافع عن تلك العدالة المجتمعية. ويعتبر هذا الحق جزءا أساسيا من حقوق الإنسان التي تكفلها المواثيق الدولية، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (المادة11) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 14). وبالتالي، فإن تقييد هذه الحرية يمكن أن يؤدي إلى ممارسة الفساد وانتهاك الحقوق المدنية للمجتمع، وهو ما يتناقض مع المبادئ الأساسية لسيادة القانون والعدالة الاجتماعية.

كحلقة وصل بين الأفراد ومؤسسات الدولة، أو يعمل على تمثيل الأفراد أو الكيانات أمام المحاكم والجهات الرسمية وغير الرسمية أو الظهور في وسائل الإعلام لإبداء المشورة. يسعى المحامي وفق مبادئ وقيم منها المسؤولية القانونية: تقديم المشورة الصادقة والمبنية على أساس قانوني سليم. عدم القيام بذلك يمكن أن يؤدي إلى فقدان الموكل حقوقه أو تعرضه للمساءلة القانونية. كذلك، المسؤولية الأخلاقية: الالتزام بأعلى المعايير في التعامل مع موكليه من مختلف أصنافهم الجنسية والعقائدية، أن يكون صادقا ونزيها لرعاية قضاياهم. والأهم، دوره في المجتمع الحديث: تمثيل الأفراد والفئات المستضعفة وتقديم المشورة لمواجهة المؤسسات الرسمية وغير الرسمية لتحقيق العدالة الاجتماعية. ومن واجبه أيضا تقديم الرأي القانوني في القضايا العامة وأن يشارك في صياغة التشريعات الجديدة.

فماذا يعني إذن، حرمان ـ المحامي ـ من لعب دوره لتوضيح حقوق المواطنين في المجالس الحقوقية والسياسية أو في وسائل الإعلام المختلفة، والذي يمثل انتهاكا جسيما لأسس العدالة وحرية التعبير؟. من الناحية "القانونية": المحامي الضامن الأساسي لهذا الحق، حيث يقدم الدفاع القانوني والمشورة لموكليه. منعه من أداء هذا الدور يشكل انتهاكا مباشرا للحقوق الدستورية والقانونية. وإذا ما تدخلت الدولة أو أي مؤسسة أخرى ومنها النقابية في عمل المحامي، فذلك يعرض استقلاليته للخطر كما يؤثر سلبا على عدالة الإجراءات القانونية. فالنقابات المهنية، بما في ذلك نقابات المحامين، يفترض أن تدعم حقوق أعضائها وتعمل على حمايتهم من أي تدخلات غير مشروعة، لا أن تفرض قيود عليهم تمنعهم من أداء مهامهم الأساسية لتوضيح الأمور المتعلقة بحياة ومستقبل كافة فئات المجتمع دون تمييز.

أما من الناحية "الإنسانية"، بغض النظر عن الضغط السياسي أو الاجتماعي. فإن أي محاولة لمنع المحامي من أداء دوره، هو انتهاك لهذا الالتزام الأخلاقي لتقديم دفاعات عادلة ومنصفة. وعندما يتم منع المحامين من أداء دورهم، فإن المجتمع يفقد إحدى أهم دعائم العدالة وقد يؤدي إلى تشويهها، حيث يمكن أن تصدر أحكام غير عادلة نتيجة لعدم توفر دفاع كاف أو مناسب، مما يشكل تهديدا خطيرا لحقوق الأفراد أمام المحاكم.

إذن، على الدولة أن تكفل للمحامين الاستقلالية الكاملة للقيام بمهامهم دون تدخل أو ضغوط، ذلك لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الأفراد والكيانات المدنية.

في بعض الأنظمة القمعية، تم تقييد أو منع المحامين من الدفاع عن حقوق الأفراد والكيانات المجتمعية، مما أدى إلى انتهاكات جسيمة للحقوق والحريات. في مثل هذه الأنظمة، يعتبر القضاء أداة للقمع بديلا عن  أن يكون وسيلة لتحقيق العدالة. وغالبا ما تؤدي إلى تفشي الظلم وزيادة الفجوة بين النظام القانوني والمجتمع، مما يقلل من ثقة الجمهور بالنظام القضائي.

خلاصة القول للدولة والمجتمع: عندما تسمح الدولة أو المؤسسة النقابية بتقييد حرية المحامين من الظهور في وسائل الإعلام، يصبح النقاش في قضايا العدالة وحقوق الإنسان أقل توازنا وشمولية. هذا يمكن أن يؤدي إلى تراجع في مستوى الحوار المجتمعي ونقص في التنوع الفكري في المناقشات العامة. وفي الوقت نفسه يكون: رسالة سلبية حول مفهوم الدولة ومؤسساتها للديمقراطية وحقوق الإنسان. أيضا، ما يمكن أن يثير الشكوك حول نزاهة النظام السياسي للدولة وأحزاب أصحاب السلطة ـ على حد سواء!. 

 ***

عصام الياسري

بقلم: إد سيمون

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يتحدث إد سيمون  عن "أهم قصة رويت على الإطلاق،" عن  التعامل الإنساني  مع الشر.

إن قصة عقد الشيطان هي القصة الأكثر روعة، والأكثر إثارة، والأكثر بصيرة، والأكثر أهمية على الإطلاق. إنها يتعامل مع الإنسانية العالقة بين السماء والجحيم، القديس والشيطان؛ كيف يمكن للإنسان أن يبيع روحه للقوى العظمى، ويوقع عهدًا مع الشيطان حتى يعيش كإله لفترة قبل أن يُجر إلى الجحيم. كثيرًا ما ترتبط هذه المسرحية الإليزابيثية بمسرحية دكتور فاوستس لكريستوفر مارلو، ولم تكن أصل تلك الأسطورة، لكن مسرحيته هي بالتأكيد مثال رائع على هذا النص الأبدي. ومع ذلك، قبل وقت طويل من مسرحية عصر النهضة تلك وبعدها بفترة طويلة، يمكننا العثور على آثار حبر لتوقيع فاوست اللعين في العديد من الأعمال العالية والمنخفضة، التقليدية والشعبية. والأمر الأكثر إثارة للقلق من ذلك هو الطريقة التي يمكن بها العثور على آثار حوافر الشيطان عبر مجموعة واسعة من التاريخ، في استعدادنا لاحتضان السلطة والانخراط في الاستغلال، واستدعاء المصلحة الذاتية واستحضار القسوة.

بفحص بعض آثار الحوافر الميفستوفيلية التي تم اكتشافها في موقع بناء في ساوثوارك، لندن، في عام 1989. تم هدم مسرح روز، حيث عُرضت مسرحية مارلو لأول مرة في أواخر القرن السادس عشر، في عام 1606، ودُفن تحت طبقات من الفترات الزمنية المختلفة: الجاكوبية، والفترة الانتقالية، والاستعادة، ثم الفترة الهانوفرية، والريجنسي، والفيكتوريانية، حتى عُثر عليها من قبل مقاولي عصر ثاتشر الذين كانوا يقومون ببناء برج مكاتب فارغ من الروح. وجد العمال الذين كانوا ينخلون التربة علامات تدل على وجود مسرح، بدءًا من بقايا قشر البندق المحروق المحفوظة التي كانت تُباع كوجبات خفيفة، إلى قِدور الطين المكسورة التي كانت تُستخدم لجمع التذاكر. وعادت أنقاض المسرح مجددًا لتتعرض لأشعة الشمس. الآن، تقع بقايا مسرح الروز في قبو هذا البرج المكتبي الفارغ فوق نهر التيمز، وهو الموقع الأثري النشط النادر الذي يدعو أيضًا الجمهور للاستمتاع بعرض على قمة ركام المسرح حيث تم تقديم المسرحيات قبل أربعة قرون.

هناك عدد قليل من النصوص النموذجية في ثقافتنا لا تقل أهمية عن أسطورة رجل يبيع روحه للشيطان.

كانت العروض الأولى للدكتور فاوستوس تشوبها ارتباطات خارقة للطبيعة. وادعى المشاهدون أن كلمات الكاتب المسرحي تسببت في ظهور الشياطين أثناء مشاهد الاستدعاء السحري. "كيف سئمت هذا الغرور!" يتساءل فاوست في الفصل الأول من مسرحية مارلو. "هل أجعل الأرواح تأخذني إلى ما أريد، / أحرر نفسي من كل غموض، / أنفذ هدفي اليائس؟" هذا ظاهريًا وصف لقوى الفنون المظلمة، ولكنه ينطبق على القدرات الغريبة لأي فن بالتأكيد وكذلك المسرح. كيف اختلف مارلو عن فاوست؟ لأنه يستطيع أن يجبر أرواح الخيال على جلب ما يريد، على أداء ما يريد، على خلق كون ظاهري من لا شيء سوى الكلمات والإيماءات. ومثل فاوستوس، عوقب مارلو أيضاً، حيث طعن حتى الموت في عينه في إحدى الحانات في ديبتفورد، بعد عام من العرض الأول لمسرحيته الأكثر شهرة، بسبب مشاجرة حول فاتورة الحانة.

إذا صدقنا الأساطير اللاحقة، فمن الواضح أن السحر حدث في مكان يبدو اليوم أنه ليس أكثر من كومة من الحطام المنخل. خلال عروض فاوستوس، تمكنت التعويذات اللاتينية والدوائر السحرية المطبوعة على أرضية المسرح من استدعاء الشياطين، كما لو كان الممثلون مستحضري الأرواح. من تلك الدوائر المرسومة بعصا في التراب بالأسفل، كان يُعتقد أن الساحر يمكنه استدعاء مواطني الجحيم للظهور: عزازيل بقرون الماعز المنحنية، والثور ذو العين الحمراء والشخير مولوخ، أو بعلزبول بأجنحة الحشرات. فكيهم لزجة بالدم. وربما حتى ميفيستوفيليس، تلك الرواية الشيطانية لأسطورة فاوست، الذي ظهر في البداية كجثة متحللة مع لحم متعفن من جمجمته ويرقات تتسرب من محجري عينيه وأنفه، ثم يتصرف بطريقة محترمة مثل المتسول الفرنسيسكاني . الآن، بالنسبة لأي زائر للمسرح المبني على جثة سلفه، فإن الخط الرفيع من ضوء النيون الأحمر الداكن الذي يرسم حدود الدائرة الخشنة للأساس الأصلي لمسرح روز يبدو بشكل مثير للأعصاب مثل تلك الدوائر السحرية الملصقة برموز وأرقام كيميائية غريبة حيث سيحاول مستحضري الأرواح في عصر النهضة استدعاء جميع شياطين الهرج والمرج الملعونين وحيث اختبأ الشيطان في ليلة الافتتاح لانتقاد مدى نجاح الكاتب المسرحي في تقديمه.

عندما حضرت عرضًا في مسرح الروز لمسرحية أخرى من عصر النهضة معروفة بمواضيعها السحرية - فكر في اسكتلندا، والسحرة، وملوك قتلوا - كانت تلك الأضواء النيون على حافة الحفرة السفلية المظلمة والرطبة، والتي تنبعث منها رائحة الرطوبة، هي التي لفتت انتباهي بشكل أكبر. كانت الدائرة المضيئة المتلألئة تبرز في الزوايا البعيدة من قبو المسرح، والتي كانت محاطة بركام القرون التي لا تزال تُنخل. العرض كان جيدًا، على الرغم من التحديثات الحديثة التي أصبحت أمرًا معتادًا الآن، لكن وأنا جالس على الرافات في ذلك القبو الذي يعطره رائحة الماء والتراب، كانت الأخوات الغريبة ومكبث ليسا بمثل الجذب مقارنة بما لم أستطع رؤيته، بلامتناهي في حافة الرؤية المظلمة، خلف شريط النيون المصمم ليخبرني بمكان جدران الروز في الماضي.

عندما أتخيل هذا العرض الأول لدكتور فاوستوس منذ أكثر من أربعمائة عام – وكل هذا غير قابل للوصول إلينا في هذا البلد الغريب والبعيد من الماضي – لم أستطع إلا أن أستحضر تلك الأساطير الشيطانية حول جمهور مارلو في تلك الليلة. هناك، في ذلك الفضاء الأسود فوق المحيط، هل كان الشيطان جالسًا هناك على العوارض، متنكراً في هيئة رجل نبيل إليزابيثي مرتدياً المخمل الأسود والأحمر؟ لكن لا، الشيطان ليس حقيقيًا، هذه القصص مجرد بروباغاندا تطهيرية معادية للمسرح، حكايات شعبية تهدف إلى تخويف السذج. لم يتم استحضار أي شيطان في أي عرض لفوستوس، لأنها مجرد شخصيات، والشخصيات ليست سوى خيال.

في صباح اليوم التالي لإنتاج مسرحية مارلو عام 2013، سافرت إلى ديبتفورد لمقابلة الكاتب المسرحي نفسه. عندما قُتل مارلو في غرفة علوية في حانة إليانور بول، كانت ديبتفورد جزءًا من منطقة كنت وكانت تعتبر منطقة بعيدة وقذرة من العاصمة، مدينة مرفأ بائسة جنوب لندن يحكمها تجار فاسدون. أثناء سيري في شارعها الرئيسي، وجدت أن سمعتها قد تلطخت قليلاً على مر القرون. أثناء مروري بالحانات الضيقة بنوافذها المتصدعة وأبوابها المفتوحة على الظلام، ورائحة السمك والبطاطس المقلية النفاذة وموسيقى البوب البريطانية التي تُعزف بداخلها، قضيت معظم الساعة بحثًا بلا جدوى عن فناء كنيسة سانت نيكولاس، بينما كنت أراقب السماء الرمادية والرياح الباردة القادمة من التايمز بقلق، لأنه في ذلك الوقت لم أكن أستخدم الهواتف الذكية.94 semon

على الرغم من أنه كان شهر يوليو، إلا أن ذاكرتي تجعله دائمًا أكتوبر، ديبتفورد مستنقع من الشوارع الملتوية المرصوفة بالحصى، تتخللها كنائس معارضة قديمة منذ قرون ومنازل صغيرة من الطوب بسواتر نوافذ مشدودة بإحكام. بالتأكيد كانت هناك أوراق خضراء على الأشجار، لكن في ذاكرتي، كل تلك الفروع هيكلية، عظام جردت من اللحم وذبلت تحت سماء بلون المياه المالحة. ازدادت ميولي القوطية فقط بعد أن وجدت أخيرًا مقبرة مارلو، حيث كانت الأعمدة الحمراء المتقابلة عند مدخل الأرض تعلوها جماجم تبتسم منحوتة من الحجر، ابتسامات بلا أسنان ومآخذ بلا أعين هي تذكار للموت نُصبت بعد قرن من دفن أشهر مقيم فيها في قبر فقير مجهول. جدار من الطوب الأحمر المغطى باللبلاب يميز المقبرة عن عوالم الأحياء، حيث تم تثبيت لوحة صغيرة من الرخام الأبيض تنعى وفاة الشاعر "غير المتوقعة"، بينما تعلن أن في مكان ما داخل هذه الأرض توجد رفات مارلو، عظامه مختلطة مع رفات الآخرين في مملكة الموت. يقول ضريح مارلو: "لقد تم قطع الفرع الذي كان من الممكن أن يكون مستقيماً". هذا من دكتور فاوستس.

فحص الفراغات المزدوجة في الجماجم المنحوتة التي ترحب بي عند مدخل كنيسة سانت نيكولاس أكد لي ما يجذبني في هذه القصة عن عقد مع الشيطان. عندما كنت أمشي على تلك الأرض المقدسة، كانت ذرات مارلو تتراكم مع الأوساخ على نعال حذائي، ولم أستطع - رغم شكوكي - إلا أن أشعر بحماسة خفية قديمة، ذلك الشعور بأن هناك شيئًا ما وراء حجاب واقعنا، شيئًا يمكننا الوصول إليه ولكن لا نستطيع التحكم فيه.

تعود رغبتي في كتابة تاريخ ثقافي لأسطورة فاوست  إلى بضع سنوات قبل رحلتي إلى مقبرة ديبتفورد، تقريبًا في الوقت الذي حضرت فيه تكييفًا للمسرحية بعنوان "فاوستUS" الذي قدمته الفرقة المسرحية 404 ستراند في مسقط رأسي بيتسبرغ. استند النص إلى النسخة الأقصر، المسماة "النص أ" من مسرحية مارلو، وهو عمل أكثر إحكامًا وغموضًا يقطع الهزلية التي تفسد الإنتاجات التقليدية لمسرحية دكتور فاوستوس، وكانت العرضية هلوسية، طقوسية، نفسية، تعويذية. عمل استحضار. مع دعوة الجمهور للجلوس في مسرح دائري تم إنشاؤه على مسرح مسرح كيلي ستراهورن، كنا جميعًا نواجه قفصًا حديديًا صدئًا حيث ستجري أحداث المسرحية. كنت في الصف الأمامي.

كانت أكثر ذكرياتي تميزًا عن هذا الأداء هو الممثل الذي لعب دور فاوست، عاري الصدر ومفتول العضلات، يتلألأ بالعرق تحت أضواء المسرح القمعية، ويرفع قناعًا وحشيًا أشعثًا لثور ملتوي القرن فوق رأسه، ويومئ بعنف ليضرب المعدن هكذا. بصوت عالٍ أن حشواتي كانت تدندن، ثم أخذ مستحضر الأرواح رغيفًا كاملاً من الخبز الأبيض من حقيبته المطهرة وقام بتمزيقه في فتحة القناع البقري، فتتناثر قطع من البياض الإسفنجي على جميع الجالسين في الصف الأمامي. كان الأمر غريبًا ومن المستحيل عدم مشاهدته، جزء من فن الأداء الطليعي وجزء من الحفل الوثني. جعلت جسدية الأداء الأمر يبدو غريبًا وغريبًا وخطيرًا. أثناء خروجي في الهواء الخريفي في إيست ليبرتي في بيتسبرج، وهو حي يضم بنايات شاهقة من العصر الذهبي وكاتدرائيات ناطحات سحاب قوطية تتخللها الأزقة والحانات، أقسمت أنني في يوم من الأيام سأوقع عقدًا لكتابة حكاية فاوست الخاصة بي. كان هذا هو الإنتاج الوحيد الذي رأيته من مسرحية مارلو. هذا النوع من الأشياء التي قد يأتي الشيطان ليرىها إذا كان يتساءل عن كيفية تصويره.

نادرًا ما تُنتج المسرحيات السبع القليلة لمارلو اليوم؛ باستثناء العرض الذي قدمته شركة شكسبير المسرحية في واشنطن العاصمة عام 2007 لمسرحية "تيمورلنك العظيم" أو التكيف السينمائي المثير لمسرحية "إدوارد الثاني" الذي أخرجه ديريك جارمان في عام 1991. عند مقارنته بمنافسه وزميله المحتمل ويليام شكسبير، الذي يتم تقديم إنتاجاته كل يوم من كل عام في كل مدينة كبرى على الأرض، والذي ليس مجرد كاتب بل "الشاعر"، المعيار الذي يُقيم به الأدب الكبير، قد يبدو مارلو فكرة لاحقة، أو هامشًا، حتى لو كان بعيدًا عن ثاني أشهر كاتب مسرحي إليزابيثي تُعرض أعماله حتى الآن.

أعتقد أن مارلو، الذي سبق شكسبير في استخدامه للشعر الخالي من القيود وفي كثير من الأحيان تجاوزه فيه، يعادل شكسبير تمامًا. في بعض النواحي، يُعتبر مارلو أكثر تقديمًا، رغم سمعته بالإلحاد إلا أنه كان يميل نحو العصور الوسطى. ومع ذلك، هذا ما منح الزنديق الكبير إحساسًا عميقًا بالروحانيات، فبغض النظر عن علاقته الشخصية بالرب، لا يمكن اتهام مارلو بعدم اهتمامه بالمقدس والمتسامح والمتجلي. بالطبع، كان لدى شكسبير أيضًا إحساسه الخاص بالروحانيات - كان من المستحيل عدم وجود ذلك في عصر النهضة. ولكن ككافر إلهي، يظل مارلو كمبدع يوازي شكسبير في عالم موازٍ، كشخصية مظلمة مضادة له، الشاعر والكاتب الكبير، المثير والمدان بالتجديف بالمقدس.

لقد كانت قصة فاوست دائما حديثة إلى حد كبير، وربما كانت أول قصة حديثة.

بصرف النظر عن تمرد "تامبورلاين العظيم" واستهتار "يهود مالطا"، لا يوجد عمل في مجموعة مارلو الأدبية المسيئ للأديان يتجاوز في عمقه مسرحية "دكتور فاوستوس". إن العالم الذي يبيع العالم للشيطان من أجل الخداع والسحر قد يكون استعارة تعبر عن الحداثة، لكن مارلو لم يكن مبتدعًا لهذه الأسطورة. كما ستقرأون في الفصول القادمة، قام مارلو بتجريد شخصية يوهان فاوست التاريخية من التقاليد الشعبية الألمانية، على الرغم من أن أسطورة التعاقد مع الشيطان كانت موجودة قرون قبل أن يقوم الكيميائي الباطني السيء الحظ بمزج نترات البوتاسيوم مع الكبريت. وبالطبع، لم يكن إعداد مارلو هو الكلمة النهائية، حيث تم إنتاج آلاف النسخ المختلفة للقصة الأساسية على مدى نصف الألفية الماضية، من جوته إلى الموسيقى المسرحية "الأمريكيون اللعينون"، توماس مان إلى الأغاني الشعبية مثل "ذا ديفل ونت داون تو جورجيا" لفرقة تشارلي دانيالز. وتتضمن الثقافة العالية مثل سيمفونية فاوست لفرانز ليست والسيمفونية رقم 8 لجوستاف ماهلر؛

، والثقافة الشعبية مثل كتب الكوميكس "جوست رايدر" وفيلم جاك بلاك "تيناشيوس دي في بيك أوف ديستيني".

يكتب جيفري بيرتون راسل في كتابه الكلاسيكي 'مفيستوفيل: الشيطان في العالم الحديث'، أن شخصية فاوست هي - بعد المسيح ومريم والشيطان - الشخصية الأكثر شهرة في تاريخ الثقافة المسيحية الغربية. ومن بين هذه الشخصيات، فاوست هو الأكثر إنسانية بالنسبة لنا، في غروره وفشله، في مفاوضاته واستسلاماته، في جميع أوجه السوء التي يمكن للروح الملتهبة أن تلحق بها بنفسها. لا يعد ادعاء راسل مبالغة، ولكن إذا قمنا بتعديل كلمة 'شخصية' إلى 'سرد'، فإنني أقول إنه من القليل من السيناريوهات الأسطورية في ثقافتنا تتمثل في أهمية أسطورة رجل يبيع روحه للشيطان. آلاف الأعمال الأدبية والسينمائية والموسيقية والفنية تتناول هذا الصراع حيث يتبادل الفرد أعظم ما يملك من أجل السلطة أو الثروة أو التأثير أو المعرفة.   فقط أسطورة طرد آدم وحواء من جنة عدن هي التي تتنافس مع فاوست من حيث التأثير، ويمكن القول إن هذه القصة هي إحدى التنويعات المبكرة على عقد الشيطان."

وهذا هو السبب في أن الندرة النسبية للمعالجات النقدية للأسطورة المتغيرة مثيرة للدهشة للغاية. من المؤكد أن هناك عددًا كبيرًا من الكتب والمنشورات والدراسات والأبحاث حول أشهر إصدارات الأسطورة؛ وتعيين أساتذة في الجامعات بناءً على دراسات مارلو واحتراف جوته، إلا أن القصة الكاملة لفاوست، سواء باسمه هذا أو باسم آخر، لم تُروى بعد بشكل كامل. هذا الكتاب الذي أكتبه هو محاولتي المتواضعة في هذا الصدد. فرغم وجود أسماء كبرى مثل مارلو وجوته ومان في محتواه، إلا أنه ليس كتابًا يتناول بالضرورة هؤلاء الكُتاب، ولا حتى شخصية واحدة تُدعى "فاوستوس".

وعلى الرغم من أنها تبدو في الأساس تاريخًا، وتتقدم هذه السردية بشكل زمني، فإنني أفضل أن أعتبر القصة التي تحكيها عن شخصية تعيش خارج الزمن، تعيش بتوازٍ مع الماضي والحاضر والمستقبل. قصة خالدة. لأن ما يهم هذا الكتاب هو الآثار - ثقافيًا وسياسيًا ولاهوتيًا - لهذه الروايات المحملة بالرموز بشدة حول التنازل عن الروح، والاستسلام لما هو جوهري فينا، والمفاوضات التي تشكل كل حياة فاشلة، وهو ما يعني كل حياة. لذا، فإن عقد الشيطان، أكثر من مجرد تاريخ، بل هو وصف لما يعنيه أن تكون إنسانًا في جميع إخفاقاتنا.

هذا هو حساب الإنسانية في الوقت الراهن. على الرغم من كل الأساطير القديمة، والكلمات المنطوقة اللاتينية، وسحر الكيمياء، فإن قصة فاوست كانت دائما حديثة، وربما أول قصة حديثة. على النقيض من آدم وحواء، اللذين رويت قصتهما الغامضة عن العصر البرونزي بلغة قديمة وأجنبية للغاية، حتى أن اللاهوتيين اختلفوا لقرون حول المعاني الضمنية لكل جانب من جوانب القصة، فإن التفاصيل في أسطورة فاوست تخص عصرنا. لا مفر منها.  هذه، بعد كل شيء، قصة العقد. تتضمن خاتمة معظم إصدارات قصة فاوست التوقيع على وثيقة ملزمة قانونًا، وهي تجربة غريبة عن مؤلفي سفر التكوين ولكنها مليئة بحياتنا، سواء كان التفاعل مع الموارد البشرية أو النقر على اتفاقية مع شركة الهاتف الخاصة بنا. قد تتعامل حكاية فاوست مع الروحاني والمتعالي، لكنها أيضًا تدور حول البيروقراطية والأعمال الورقية، وجحيمنا المعاصر وسرّه، على التوالي. نحن نتعرف على فاوست بطريقة لا يمكن لأي شخصية في الكتاب المقدس أن تكون معاصرة لنا على الإطلاق.

إن مسألة التوقيع على الخط المنقط هي مسألة سطحية عندما يتعلق الأمر بأهمية فاوست    للقراء المعاصرين، لأن حكاية عقد الشيطان، أكثر من أي أسطورة أخرى، هي تلخيص موجز للمأزق البشري على مدى القرون الخمسة الماضية، تمامًا كما هو الحال في القرن العشرين. لقد حملت الحداثة، وولدت، وازدهرت، وهي الآن في مخاض موتها.

قدم مارلو مسرحيته في بداية ما يسمى  بعصر الأنثروبوسين، العصر الجيولوجي الذي تمكنت فيه البشرية أخيرًا من فرض إرادتها (بطريقة تكاد تكون غامضة) على الأرض. هناك تكاليف لأي عقد من هذا القبيل، كما تقول حكمة الأسطورة، لذلك من المفيد أن نأخذ في الاعتبار بعد خمسة قرون من الهيمنة البشرية على الكوكب أننا قد نواجه الآن موعدنا الجماعي في ديبتفورد. يبدو أننا أخيراً نواجه الفصل الأخير، المضمون المروع لعصرنا، من تغير المناخ إلى سياسة حافة الهاوية النووية، مما يجعل استمرار بقاء البشرية مسألة مفتوحة، ومأزقنا المحزن هو نتيجة الغطرسة والجشع والمجد الباطل. قد يكون من المناسب إعادة تسمية هذا العصر بالفاوتوسيني.أنه سواء كان الشيطان حقيقيًا أم لا، فإن آثاره في العالم هي كذلك. عندما يتعلق الأمر بـ "الحقيقة" و"الحقائق"، فإن الكلمتين ليستا مترادفتين، ولن أتفاجأ على الإطلاق إذا تمكنت من رؤية دخان بعض الوهم الشيطاني خلف خط النيون في مسرح روز، عميقًا في ظلام دامس لدرجة أنه لا يمكن لذرة ضوء أن تفلت منه.

***

...........................

* مقتبس من عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوسية بقلم إد سيمون. حقوق الطبع والنشر © 2024.

الكاتب:  إد سيمون /  كاتب في Lit Hub، محرر مجلة Belt، ومؤلف العديد من الكتب، بما في ذلك أحدث الكتب، الجنة والجحيم والفردوس المفقود، الجنة: تاريخ مرئي لعلم الملائكة، وبقايا، جزء من سلسلة دروس الكائنات . في صيف عام 2024، سيصدر ملفيل هاوس كتابه عقد الشيطان: تاريخ الصفقة الفاوستية، وهو أول تقرير شامل وشعبي عن هذا الموضوع.

 

بقلم: أوين ماثيوز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

إن الحرب في أوكرانيا وتزايد التنافس بين الولايات المتحدة والصين هما المحوران اللذان سيشكلان بنية الأمن العالمي، وتوفير الغذاء والطاقة، وتوازن القوة العسكرية والتحالفات. لقد ترددت أصداء حرب أوكرانيا بشكل أعمق بكثير عبر العالم مقارنةً بهجمات 11 سبتمبر، وستحدد نتائجها العلاقة بين الغرب والإمبراطوريات الآسيوية المتبقية، روسيا والصين.

كيف وصل العالم إلى هذه النقطة الحاسمة هو موضوع كتاب حروب باردة جديدة: صعود الصين، غزو روسيا، وصراع أمريكا للدفاع عن الغرب، وهو تقرير بارع من ديفيد إي. سانجر يروي بتفصيل مذهل التغيرات في العلاقات بين واشنطن وموسكو وبكين على مدار العقدين الماضيين. من موقعه كصحفي أمني كبير في نيويورك تايمز، يجمع سانجر بين التفاصيل المذهلة والرؤية الشاملة شبه التولستوية لتفكير المسؤولين الأمريكيين في القصة، سواء من خلال المقابلات أو من خلال وجوده في الغرف التي شهدت الأحداث الكبرى. في ليلة صيفية عام 2002، يجد سانجر نفسه مع فلاديمير بوتين وجورج بوش على متن يخت فخم يبحر في نهر نيفا. يتم تقديم الكافيار الأسود وشرائح اللحم من قبل مطعم بطرسبرج يدعى يفجيني بريجوزين، الذي كان لاحقًا مؤلف هجمات القرصنة على الانتخابات الأمريكية في عام 2016، بالإضافة إلى تمويل مجموعة فاجنر المرتزقة، والتي حاول بشكل مميت تحويلها ضد موسكو في عام 2023. في مؤتمر ميونيخ للأمن، قبل أيام فقط من إطلاق بوتين غزوه الكامل لأوكرانيا، يتناول سانجر الإفطار مع أنتوني بلينكن المتوتر، الذي يتم تجاهل تحذيراته بشأن الحرب الوشيكة تقريبًا. "سيحدث هذا"، يقول وزير الخارجية الأمريكي للمؤلف. "لا أستطيع أن أعطيك يومًا محددًا، ولكنها على بعد أيام فقط." يجري سانجر مقابلة مع رئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك، مارك ميلي، الذي يقول له: "لفترة اعتقدنا أن هذه ستكون حربًا إلكترونية. ثم اعتقدنا أنها ستبدو كحرب دبابات قديمة الطراز، من الحرب العالمية الثانية. ثم... هناك أيام كنت أظن أنهم يخوضون حربًا عالمية أولى." هذه التفاصيل والعديد من الجواهر الأخرى في التقرير تعطي تحليلات سانجر ليس فقط لونًا، ولكن أيضًا قناعة.

كما في أفضل كتب التقارير، يتجنب سانجر خطأ قراءة التاريخ عكسيًا من النتيجة إلى السبب. من بين العديد من المفاجآت، يتم تذكيرنا بمدى قرب الحكومة الروسية، وحتى بوتين، من واشنطن في بداية حكمه. في اجتماع مع الطلاب في موسكو عام 2002، بدا بوش وبوتين "مستريحين مع بعضهما البعض"، بينما كان الطلاب أنفسهم "مهتمين بعمق في تكامل روسيا مع أوروبا – وآفاقهم في الدراسة والعمل في الخارج، وفي النهاية، العثور على وظائف مربحة في روسيا". بالنسبة لسانجر، "شعور الأمسية، وكل الرحلة، لم يكن مجرد أن الحرب الباردة انتهت، بل كان مع الجهد يمكن محوها تقريبًا من التاريخ."

لكن حكاية توضح تمامًا مدى هشاشة الصداقة الجديدة. يتذكر بول كولبي، رئيس محطة وكالة المخابرات المركزية في موسكو آنذاك، حفلة نظمتها الوكالة للزملاء في جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) في مقهى بوشكين الفخم في موسكو عام 2004:

"كانت الساعة متأخرة في الليل، كما تعلم، وكانت الحطام البشري متناثراً في كل مكان. وكنت واقفاً أتحدث مع أحد ضباط الاتصال الكبار، وهو عميد من جهاز الأمن الفيدرالي. وضع ذراعه حولي وقال: 'أوه، السيد كولبي' - وكان يقف هناك مع مساعده - وقال: 'أوه، السيد كولبي، أنا من جهاز الأمن الفيدرالي، وأنت من وكالة الاستخبارات المركزية. كنا أعداء في السابق، لكن الحرب الباردة قد انتهت. الآن نحن أصدقاء وحلفاء.'"

"وكان يبتسم ويتمايل قليلاً. والضابط الشاب الذي كان واقفاً معه نظر إليه - وهو يحدق فيه بتركيز - وقال: 'جنرال، هذا هو السبب في أن جيلي يكره جيلكم. لأنكم خسرتم الحرب الباردة ونحن عائدون لاستعادتها.' وكان الموقف محرجاً تماماً."

"كان كولبي، على سبيل المثال، مقتنعاً في تلك 'اللحظة المبلورة' أن روسيا لن تنضم إلى الغرب."

يصف سانجر ببراعة سلسلة الفرص الضائعة والإهانات وسوء الفهم التي أدت إلى تعثر العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، بدءًا من الجولة الأولى من توسع الناتو، مرورًا بقصف كوسوفو، وصولاً إلى "الثورات الملونة" في جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان. وبقدر أهمية تتبع أسباب الانهيار النهائي، يذكرنا أيضًا أنه لم يكن هناك شيء حتمي. حتى أوائل عام 2021، كانت عبارة "الحرب الباردة الجديدة" تشير تقريبًا حصريًا إلى علاقة أمريكا بالصين؛ كانت روسيا لا تزال فكرة ثانوية، قوة عظمى قديمة بالكاد تستقطب الانتباه باستثناء أنها لا تزال تمتلك ستة آلاف سلاح نووي. عندما شن بوتين غزوه الواسع النطاق لأوكرانيا، كان بإمكان جو بايدن أن يبقى بعيدًا عن الأمر، كما توقع بوتين وكما فعل باراك أوباما بعد ضم القرم في عام 2014. الفرق بين الرئيسين الأمريكيين هو أن بايدن، في أول مؤتمر صحفي له كرئيس، قدم التنافس بين الولايات المتحدة والصين باعتباره "معركة بين فعالية الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين والأنظمة الاستبدادية" - وإذا تخلى الولايات المتحدة الآن عن أوكرانيا، فإن رسالة بايدن كمدافع على نمط ترومان عن الديمقراطية ستكون خالية من المصداقية

بشكل مفيد، يحتفظ سانجر بالصين بقوة في الصورة. قد تكون روسيا هي المزعزع العنيف والمشكوك فيه للعصر الحديث، وبوتين هو المثال الأبرز للعداء المتقلب ضد أمريكا، لكن الصين هي "خصم استراتيجي محتمل أوسع بكثير من الاتحاد السوفيتي على الإطلاق... كانت تهديدًا تكنولوجيًا، وتهديدًا عسكريًا، وخصمًا اقتصاديًا في آن واحد – بينما، بشكل محير، ظلت شريكًا تجاريًا حاسمًا".

كتاب سيرجي رادشينكو الرائع التحكم بالعالم: محاولة الكرملين للحرب الباردة من أجل القوة العالمية يغير نظرة سانجر التي تركز على الولايات المتحدة ليقدم سردًا لمحاولة روسيا الفاشلة في النهاية للحفاظ على وضعها كقوة عظمى اكتسبتها خلال الحرب العالمية الثانية. يبدأ رادشينكو قصته بتجارب زمن الحرب لثلاثة من القادة السوفييت المستقبليين: نيكيتا خروتشوف وهو يحرق جثث الألمان في ستالينجراد، ليونيد بريجنيف يتلقى جرحًا في رأسه على متن قارب إنزال يعبر نهر الدنيبر، وميخائيل جورباتشوف البالغ من العمر عشر سنوات ينجو بصعوبة من المجاعة التي قتلت الكثيرين في قريته. "لقد أحرقتنا الحرب العالمية الثانية، تاركة انطباعًا على شخصياتنا، على نظرتنا للعالم بأسره"، تذكر جورباتشوف. وكما تنبأ الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان في برقيته الطويلة عام 1946، فإن العقلية الجغرافية السياسية لروسيا لا تزال متجذرة في تلك الحرب. تلك التجربة لم تخلق فقط خوفًا من الحصار والغزو الخارجي (كما كان حجة كينان)، ولكن أيضًا قناعة بأنها قد حصلت على هيمنتها الإقليمية بدمائها: "الانتصارات السوفييتية ضد ألمانيا والمعرفة الفخورة بأنها هي – المنبوذة لفترة طويلة من أوروبا – التي أجبرت النازيين على الركوع، ولدت شعورًا بالاستحقاق، شعورًا بأن الاتحاد السوفيتي كان له الحق الكامل في إعادة تشكيل أوروبا بطرق تضمن أمانه وتزيد من مكانته كقوة عظمى وحيدة في القارة".

ومع ذلك، كان وراء هذا الشعور بالحق، بالنسبة لكل قائد سوفييتي وروسيا من خروتشوف إلى بوتين، عقدة نقص عميقة. "خروتشوف كان يغار من أمريكا لثروتها وقوتها، وكان يشعر بالاستياء من غرورها الذي لا يُحتمل، ومع ذلك كان يائسًا للحصول على قبول أمريكي لدرجة أنه عندما تم قبوله، كان يمكنه أن يسب أمريكا في وجهها"، يجادل رادشينكو. بالفعل، يجب عدم قراءة التاريخ بشكل عكسي، لكن التشابه مع مطالب بوتين المزعجة بالاحترام بعد ستين عامًا أمر لافت. "هل أنا مخلوق يرتعش أم لدي الحق؟" هو السؤال الذي يطرحه روديون راسكولنيكوف، بطل فيودور دوستويفسكي في الجريمة والعقاب، أثناء تفكيره في قتل مرابي عجوز. وهكذا، يكتب رادشينكو، "همس السوفييت راسكولنيكوفات، بينما كانوا يزرعون أعلامهم بشكل عدواني على الشواطئ النائية، دون أن يدركوا ربما أن حتى طرح هذا السؤال أظهر أنهم كانوا خارج نطاقهم."

التحكم بالعالم مليء بتفاصيل رائعة عن العلاقة الثلاثية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة والصين، وتأثيرها على السياسة العالمية من مؤتمر يالطا إلى غزو أوكرانيا. من كان يظن أن خروتشوف وماو ناقشا كيف سيبنيان "دورات مياه عامة بالذهب النقي"، أو أن ماو أراد أن يتم تفجير الأمم المتحدة واستبدالها بمدينة عائمة في وسط المحيط يمكن لجميع الدول إرسال ممثلين إليها؟ أو أن ستالين كان قد دعا إلى إنشاء حزب نازي في منطقة الاحتلال السوفيتي في ألمانيا، على أساس أنه "ما لم يكن لدى النازيين السابقين حزبهم الخاص، فسوف يميلون نحو الغرب"؟ كان خروتشوف وماو يراقبان بعضهما البعض بقلق بينما كانت منافستهما تزيد من توتر تحالفهما الشيوعي الطبيعي، ويظهر رادشينكو كيف أصبحت الصين مركزية في التفكير الجيوسياسي للكرملين.

أما بالنسبة لعلاقة الاتحاد السوفيتي، ثم روسيا، بالولايات المتحدة، يقدم رادشينكو بشكل غير بديهي عقود الحرب الباردة كتاريخ للتعاون، وليس المعارضة. هكذا كانت الديناميكية بين بريجنيف وريتشارد نيكسون بينما كان الزعيمان يسعيان إلى مشروع مشترك "للتحكم بالعالم"، وبين جورج إتش. و. بوش وجورباتشوف. ذهب جورباتشوف أبعد من أي من أسلافه من خلال تقديم القيادة العالمية لموسكو من خلال شراكة نشطة مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، كل ما حصل عليه في النهاية كان شراكة مع بيتزا هت، التي قام بتصوير إعلان لها في عام 1997. بالنسبة لرادشينكو، تعود أصول حرب أوكرانيا إلى تدهور أحلام جورباتشوف وبوريس يلتسين بالتعاون، حيث تم تجاهل روسيا كأمر غير ذي أهمية من قبل الغرب المنتصر.

كانت روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، التي كانت تتطلع بغيرة إلى القوة الهائلة التي يتمتع بها الغرب، تسعى إلى الحصول على مقعد على الطاولة دون أن تفهم الثمن الذي يتعين عليها أن تدفعه مقابل القبول، إذا ما تم قبولها على الإطلاق (وهذا لم يكن وارداً على الإطلاق). كان لزاماً على روسيا أن تغير نفسها، وأن تعترف بعيوبها، وأن تحاول معالجتها. وكان الأمر بالغ الصعوبة، بل وربما كان مهيناً. وكان من الأسهل كثيراً أن تغلق الباب بقوة... وكان هذا هو المسار الذي اختاره بوتن.

في السلام الضائع: كيف فشل الغرب في منع الحرب الباردة الثانية، يوجه ريتشارد ساكا اللوم لإغلاق ذلك الباب إلى مزيج من الغرور، والإهمال، وافتقار الرؤية للغرب بشأن العالم ما بعد السوفيتي. مشيرًا إلى حكم مارشال فوش القاسي، والذي كان بعيد النظر، بشأن معاهدة فرساي عام 1919 بأنها "ليست سلامًا [بل] هدنة لعشرين عامًا"، يصف ساكا التعامل مع روسيا بعد عام 1989 بأنه "سلام آخر على نمط فرساي، بمعنى أنه كان جزئيًا وأدى في النهاية إلى تجدد الصراع". كان الإصلاحيون السوفييت يعتقدون أن نهاية الحرب الباردة ستؤدي إلى التعاون المتعدد الأطراف بينما تخفف من التنافسات التقليدية في الجغرافيا السياسية وبين القوى العظمى. ولكن، كما يجادل المؤلف، بدلاً من نظام جديد "استنادًا إلى الأمم المتحدة ومؤسساتها [التي تخلق] إطارًا للقانون الدولي، والحكم العالمي، والانخراط الإنساني"، فرض الغرب "جدول أعمال أكثر طموحًا للهيمنة الليبرالية [التي] أظهرت سمات أحادية الجانب وقسرية، خاصة عندما تم التعبير عنها من خلال الاستثنائية الأمريكية".

يتتبع السلام الضائع القوس الحزين لروسيا من حليف محتمل للغرب، مرورًا بالإهانة التي تعرضت لها في التسعينيات، إلى الانتقامية في العقد الأول من الألفية التي أدت في النهاية إلى الصراع الحالي. بالنسبة لساكا، يمكن العثور على جذور الانهيار الحالي في رفض الغرب الجماعي الاعتراف بتأكيد موسكو وبكين بأن الدول الاستبدادية يمكن أن تتمتع بنفس حقوق الدول الديمقراطية – وهو إنكار "قوض المبدأ الأساسي للمساواة السيادية". وقد تم تعزيز هذه الظلم، كما يراه، من خلال التوسع غير المدروس في الناتو – وهي منظمة "تبررها الحاجة للتعامل مع عواقب وجودها الخاص". كما يقتبس عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية، وليام بيرنز، قوله إن توسع الناتو "ظل على الطيار الآلي كمسألة سياسة أمريكية، لفترة طويلة بعد أن كان من المفترض إعادة تقييم افتراضاته الأساسية. الالتزامات التي كانت في الأصل تعكس المصالح تحولت إلى مصالح بحد ذاتها".

كانت روسيا هي الدولة الأولى التي تحدت الاستثنائية الغربية – أي الادعاء بالحق الأوحد في مراقبة العالم بعنف، من كوسوفو إلى العراق – من خلال ضمها لشبه جزيرة القرم في عام 2014. وقد أدى ذلك إلى "خط أحمر جديد في أوكرانيا"، إلى جانب الصين التي تخلت عن سياسة "الاختباء والانتظار" لتأكيد سلطتها، مما خلق نظامًا عالميًا جديدًا. يجادل ساكا بأن القرن الحادي والعشرين سيُعرَف بالصراع حول كيفية عمل هذا النظام الجديد، وما إذا كانت القوى الليبرالية ستستمر في التمتع بـ "امتيازات الوصاية". يشير إلى أن الهند، والبرازيل، واليابان، وإندونيسيا، والمكسيك، وفيتنام والعديد من الدول الأخرى "تكتسب ثقة أكبر وتسعى إلى تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية والمسؤولية" خارج نطاق سلطة الولايات المتحدة أو أوروبا، ويكتب: "إنهم يجدون صوتهم، واللغة التي يتحدثون بها هي القومية السيادية".

الحل الذي يقترحه ساكا هو إحياء فكرة "التوازن التشاركي للقوى": نوع من "حفل أوروبا" العصري، مُحدث ليشمل الكرة الأرضية بأكملها. رؤيته لهندسة الأمن الجديدة في شرق أوروبا هي واحدة من الحياد الدائم للدول الحاجزة بما في ذلك فنلندا والسويد؛ أوكرانيا ومولدوفا؛ بيلاروسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان؛ وأخيراً، قبرص وصربيا. (على الرغم من أن فنلندا والسويد قد انضمتا إلى الناتو كأعضاء كاملين منذ كتابة الكتاب.) النقطة الأساسية لدى ساكا هي أنه "في نهاية الحرب الباردة الأولى، أصبحت الليبرالية الدولية راديكالية لتصبح الهيمنة الليبرالية، مما يمثل انتصار الليبرالية المناهضة للتعددية". من خلال هذه الرؤية، يمكن تحقيق السلام في وقتنا فقط من خلال الاعتراف بنهاية تلك الهيمنة.

إن الجوهر الأساسي لعصر ما بعد الحرب الباردة، كما يجادل سيرجي رادشينكو بشكل صحيح، هو أن "القوى العظمى المسلحة نوويًا كانت ببساطة غير قابلة للتدمير من الخارج. الحروب الكبرى للتوسع التي غيرت مجرى التاريخ كانت ببساطة غير ممكنة الآن. كل ما تبقى هو التعايش الدائم حتى ينهار أحد القوى العظمى من تلقاء نفسه". ومع ذلك، لا تُظهر روسيا والصين أي علامات على الانهيار. غزو بوتين لأوكرانيا، بدلاً من أن يكون آخر اهتزاز للإمبريالية التوسعية في التاريخ الأوروبي، ويشير إلى النهاية النهائية لعصر الإمبراطوريات في الغرب، يبدو أنه مقدمة لعصر جديد من التنافس بين القوى العظمى. يبدو النظام العالمي الجديد مشابهًا بشكل محبط للنظام العالمي القديم قبل أن يتوقف بسبب فترة قصيرة مليئة بالأخطاء من الصعود الغربي.

***

.........................

المؤلف: أوين ماثيوز /  رئيس مكتب موسكو السابق لمجلة نيوزويك ومؤلف Overreach: The Inside Story of Putin’s War on Ukraine (2022)، الذي فاز بجائزة بوشكين هاوس للكتاب في عام 2023.

https://www.the-tls.co.uk/politics-society/politics/cold-wars-david-e-sanger-sergey-radchenko-richard-sakwa-book-review-owen-matthews/

زواج القاصرات في المذاهب السنية وكيف التقى فقهاء الشيعة مع مفتي السعودي ابن باز على تزويج ذات التسع سنوات: نظريا، لا تختلف المذاهب السنية القائمة اليوم عن المذهب الشيعي "الجعفري" في موضوع تحديد سن البلوغ للفتى والفتاة. ولكن القائمين على أمور الفتيا في المجتمع الفقهي السني في العراق (أعلى مرجعية سنية في العراق) لا يصرون على سِنِّ التاسعة للبنت رغم أنهم يعترفون بأنه حدث في عهد صدر الإسلام. فالشيخ عبد الستار عبد الجبار خطيب جامع أبي حنيفة في بغداد قال في لقاء صحافي: "أن الزواج في سن التاسعة، وإنْ كان قد ورد في عهد النبوة، لكن تلك الزيجات تخضع للعُرف في تلك الفترات، وهو ما لا ينطبق بالضرورة على وقتنا الحاضر" وهذه وجهة نظر منفتحة على العصر تنطوي على روح المعاصرة والاستنارة.

*يرى بعض الفقهاء السنة المعاصرون والقدماء أن "ليس في الشريعة تحديد لسن زواج الرجل أو المرأة، وقد أجمع أهل العلم على جواز تزويج الصغير، وكذا الصغيرة إذا زوجها أبوها من كفء. وقد دلَّ الكتاب والسنة والإجماع على صحة تزويج الصغيرة التي لم تبلغ، وعدم تحديد ذلك بسن معين".

* ووضع بعض الفقهاء السنة شرط إطاقة الجُماع للصغيرة دون أن يوضحوا كيف يمكن أن تتم معرفة ذلك. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: "حد ذلك أن تطيق الجماع، ويختلف ذلك باختلافهن، ولا يضبط بسن وهذا هو الصحيح، وليس في حديث عائشة تحديد، ولا المنع من ذلك فيمن أطاقته قبل تسع، ولا الإذن فيمن لم تطقه وقد بلغت تسعا/ الرابط 1".

* أما في السعودية ولدى السلفيين المعاصرين السائرين على دربها وحتى لدى الجماعات التكفيرية كالدواعش فالأمر محسوم لمصلحة الداعين إلى زواج الصغيرة القاصر ذات التسع سنوات. ففي سؤال وُجِّهَ إلى الشيخ ابن باز المفتي العام في المملكة العربية السعودية حتى وفاته يقول: ما حكم نظر الشرع في الزواج المبكر؟ وما هو السن المناسب للزواج بالنسبة للفتاة والفتى؟ الرابط 2.

يجيب الشيخ ابن باز: "إن الإنسان متى بلغ الحلم، أصبح عرضة للخطأ، فالمشروع له البدار (المبادرة) إذا استطاع -البدار بالزواج- من حين يبلغ الحلم، إذا بلغ خمسة عشر سنة، فأكثر، وإنَّ بلغ قبل ذلك. المقصود: أنه إذا بلغ ولو بغير الخمسة عشر، وهو يستطيع الزواج، يشرع له المبادرة. وهكذا البنت، إذا بلغت تسعاً فأكثر، إذا تيسر الزواج تزوج، بنت تسع؛ لا حرج، فعائشة تزوجها النبي ﷺ وهي بنت سبع، ودخل بها وهي بنت تسع -رضي الله عنها-، نعم".

وعلى هذا فإن من حق الرافضين لتعديل قانون الأحوال الشخصية العراقي أن يروِّجوا جوهر موقف الشيخ العراقي عبد الستار عبد الجبار ويدعوا الآخرين من جميع المذاهب الإسلامية إلى الاقتداء بموقفه الإنساني المستنير سيما وأن قوانين غالبية وربما كل الدول العربية المعاصرة تشترط الثامنة عشرة سنا للبلوغ والزواج وتشترط إذن القاضي ما دون ذلك "15 عاما"، أو على الأقل أن يكف دعاة تزويج القاصرات عن الكذب والنفاق ويكونوا صرحاء مثل ابن باز والدواعش وأن يعلنوا أنهم مع تزويج الفتيات في سن البلوغ المحدد في السنة التاسعة "هلالية" أي ثماني سنوات وثمانية أشهر كما تقول فتوى مرجعهم الأعلى السيستاني المرقمة 1069.

ويبقى المطلوب إنسانيا هو الإبقاء على قانون الأحوال الشخصية وطنيا عراقيا وترك موضوع المدونات المذهبية الطائفية الممزِّقة للمجتمع، والعمل على تطوير هذا القانون من قبل متخصصين ومعالجة أية ثغرات قد تكون موجودة بخصوص حضانة أطفال الأزواج المطلقين بما يراعي حق الوالدين كلاهما في الحضانة. أما كتابة مدونات طائفية مذهبية تبيح تزويج الفتيات في التاسعة خارج المحاكم أو داخلها فهو امر مرفوض وبداية دخول العراق كدولة ومجتمع في عهد الهمجية والبربرية الإباحية المهينة للمرأة ولبراءة الطفولة.

النجيفي مع التعديل

الفاسد أثيل النجيفي يصطف مع دعاة تعديل قانون الأحوال الشخصية باتجاه طائفي مذهبي ويدعو المرجعيات السُّنية إلى كتابة مدونة سُنية للأحوال الشخصية بدلا من الاعتراض على التعديل على القانون الحالي! دعا النجيفي - المتهم رسميا بالفساد وغسيل الأموال والمحكوم بثلاث سنوات سجناً من قبل محكمة جنح الرصافة والمتهم أيضا بالتخابر مع دولة مجاورة "تركيا" وتسهيل دخول قواتها الى العراق - إلى مناقشة ما يجب على المجلس العلمي والافتائي في ديوان الوقف السني إدراجه في مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية التي سيكلف بإعدادها بعد إقرار تعديل قانون الأحوال الشخصية". وأضاف ان "الاهتمام بإظهار المدونة المذكورة بصورة لائقة ورصينة ومتوافقة مع أحكام المذاهب السنية وكذلك متوافقة مع طبيعة العصر الذي نعيشه أجدى كثيرا من الاعتراض على تعديل، وجميعنا يعلم أنه سيمضي ويقصد أنه سيشرَّع ويقر".

من حق العراقيين أن يتساءلوا لماذا هذا الاستعجال من قبل الفاسد أثيل النجيفي في الاصطفاف مع دعاة تعديل قانون الأحوال الشخصية، وهو يعلم وغيره يعلم بأنه ليس تعديلا بل هو تدمير ونسف للقانون 188، ترى هل وعده الحاكمون بالعفو عنه والسماح له بالعودة إلى حصته من كعكعة الحكم مقابل هذا الموقف بعد أن طُرد منه وتم عزله؟

 هل يريد النجيفي أن يلطخ سمعة رجال الدين العرب السنة ومؤسساتهم الفقهية بعار المشاركة في تدمير قانون الأحوال الشخصية 188 الوطني التقدمي وتشريع مدونات طائفية مذهبية تمزق المجتمع العراقي وتسمح بتزويج القاصرات؟ ولكن ما الغريب حين تأتي هذه الدعوة من شخص يميني رجعي له ثاراته مع ثورة 14 تموز وقانونها للأحوال الشخصية؟ نأمل من الوطنيين والخيرين من ساسة ورجال الدين العراقيين من العرب السنة وغيرهم أن لا يصغوا الى كلام النجيفي ويردوا عليه ردا رادعا يعيده إلى حجمه الحقيقي كفأر طوائف يبحث عن مصالحه الذاتية الجشعة.

***

علاء اللامي

....................

* رابط لتوثيق الخبر في أول تعليق: النجيفي يدعو رجال الدين السُنَّة للتحرك بشأن تعديل الاحوال الشخصية: سيمضي

1-الرابط ليس للنكاح سن معين وبيان المراد بقوله تعالى (حتى إذا بلغوا النكاح)

https://islamqa.info/ar/answers/256830/%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%84%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A7%D8%AD-%D8%B3%D9%86-%D9%85%D8%B9%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%A8%D9%82%D9%88%D9%84%D9%87-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%89-%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A8%D9%84%D8%BA%D9%88%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A7%D8%AD

2-رابط يحيل إلى السؤال الموجه للشيخ ابن باز والجواب عليه: حكم الزواج المبكر وبيان السن المناسب للزواج.

https://binbaz.org.sa/fatwas/14257/%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D9%83%D8%B1-%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B3%D8%A8-%D9%84%D9%84%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%AC

3- رابط: النجيفي يدعو رجال الدين السُنَّة للتحرك بشأن تعديل الاحوال الشخصية: سيمضي

https://www.shafaq.com/ar/%D8%B3%DB%8C%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%AC%D9%8A%D9%81%D9%8A-%D9%8A%D8%AF%D8%B9%D9%88-%D8%B1%D8%AC%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3-%D9%86-%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%83-%D8%A8%D8%B4-%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%88%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%AE%D8%B5%D9%8A%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D9%85%D8%B6%D9%8A

* توضيح لا بد منه

نشرتُ هذا المقال عام 2007 على حلقتين، (وهذه هي الحلقة الثانية والأخيرة.)، وقد أثار في وقته جدلاً بين الكتاب الإسلاميين والعلمانيين. وبمناسبة عزم البرلمان العراقي تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959، بتطبيق الشريعة الإسلامية التي تسمح للرجل بالزواج من أربع نساء، وحتى بالرضيعة بعمر السنتين، والاستمتاع بها مفاخذة، والولوج بها في التاسعة، وتسليم هذا القانون لرجال الدين ومنحهم الحرية الكاملة بالتصرف في قضايا الأحوال الشخصية، وحسب المذاهب التي يعتنقونها بعد ان كان بيد القضاء العراقي، الإجراء الذي من شأنه تكريس الطائفية، وتفتيت المجتمع المفتت أصلاً، وتجريد الدولة من مسؤولياتها في هذا الخصوص... لذلك رأيت من المفيد إعادة نشر المقال، فكما تفيد الحكمة: (في الإعادة إفادة !).

***

مقدمة

بعد نشر الحلقة الأولى من هذه المقالة (الربط رقم1 في الهامش)، استلمت ردود أفعال متباينة وخاصة فيما يخص عملية التفخيذ، أو المفاخذة على حد تعبير الإسلاميين، وهي عملية جنسية يجريها رجل بالغ ومهما كان عمره مع الطفلة ومهما كان عمرها وحتى الرضيعة، باسم النكاح (الزواج)، لفظاً أو كتابة، بشكليه الدائم والمؤقت، حتى السن التاسعة، وبعدها يحق للزوج ممارسة الجنس معها ولوجاً. ونظراً لأهمية الموضوع وما نال من اهتمام بالغ من جمهرة واسعة من القراء الكرام، وعدد من الكتاب الأفاضل، أرى من المفيد مواصلة النقاش والبحث، والتوسع فيه وذلك خدمة للحقيقة والمصلحة العامة.

يمكن تصنيف ردود الأفعال على المقالة إلى ثلاثة أقسام. الأول، يضم الأغلبية، حيث وصلتني رسائل إلكترونية ومحادثات هاتفية بالعشرات وما زالت، إضافة إلى العديد من المقالات نشرت في صحيفة (صوت العراق) الإلكترونية، معظمها تدعم مضمون المقال ما عدا واحدة. وقال البعض من أصحاب الرسائل الإلكترونية أنهم لأول مرة يسمعون بجواز هذه الطريقة من الممارسة الجنسية في الإسلام، وأنهم يدينونها بشدة لأنها مقززة لا اخلاقية وتتعارض مع القيم الإنسانية، ومع قوانين حقوق الإنسان في عصرنا الحاضر، وانتهاك صارخ لحقوق الطفولة وبراءتها.

المطالبة بعدم الخوض في المسائل الدينية

أما القسم الثاني من أصحاب الردود، فقد أدانوا العملية ولكنهم نصحوا بعدم إثارة هذا الموضوع لحساسيته، وأنه يجب توجيه طاقاتنا الكتابية في هذه المرحلة العصيبة إلى الجانب السياسي والمحنة التي يمر بها العراق، وشعوب المنطقة، بدلاً من الخوض في القضايا الدينية، لأن هكذا سجال يستفز الإسلاميين ويدفعهم إلى التخندق، ردود أفعال عنيفة ومتشنجة نحن في غنى عنها، ونحن نريد إرضائهم بدلاً من إثارتهم.

وهنا أود أن أذكر هؤلاء الأخوة من أصحاب النوايا الحميدة، بالحكمة القائلة: أن "الطريق إلى جهنم معبد بالنوايا الحسنة". ففي وقتنا الحاضر اختلط الديني بالسياسي، بحيث صار الإسلاميون سياسيين يوظفون النصوص الدينية لفرض تسلطهم السياسي على الشعوب، وبذلك تسببوا في جلب الكوارث على مجتمعاتنا العربية والإسلامية. فنحن نمر الآن بنفس مرحلة النهضة والتنوير الأوربية في صراع المثقفين مع الكنيسة، وسيطرتها على مصائر ورقاب الناس. وبسبب تلك السيطرة أعاقت الكنيسة تقدم أوربا في القرون الوسطى، والتي سميت بحق بالعصور المظلمة. واستمر نضال المثقفين الليبراليين الإصلاحيين إلى أن انتصروا في فصل الكنيسة عن الدولة، ونجحوا في إقامة أنظمة علمانية ديمقراطية. ونتيجة لهذا الفصل بين الدين والسياسة، انطلقت أوربا في مسيرتها التاريخية وحررت العقل من القيود، وفجرت الطاقات الخلاقة لشعوبها في مختلف المجالات، وحققت هذا التقدم المذهل في العلوم والتكنولوجية والفنون والديمقراطية وحقوق الإنسان...الخ.

لذلك، فإني استميح الأخوة عذراً في هذا الخصوص، إذ أرى من واجبنا ككتاب لبراليين، أن لا نتردد في طرح هذه المسائل وإن بدت قضايا دينية، إلا إن لها علاقة مباشرة بالسياسة وبحقوق الإنسان، وفي هذه الحالة (المفاخذة) اعتداء صارخ على حقوق المرأة والطفولة البريئة التي هي بحماية المجتمع، والساكت عن الحق شيطان أخرس، أو كما قال مارتن لوثر كنغ: "المصيبة ليس في ظلم الأشرار، بل في صمت الأخيار". ويجب أن يعرف أصحاب النوايا الحسنة، أنه كلما تنازلنا للإسلاميين في أمر ما، فإنهم يتمادون ويطلبون منا المزيد من التنازلات إلى أن يسيطروا على كل شيء، وننتهي نحن بلا شيء. مثلاً طلب منا البعض بعدم استخدام مفردة (العلمانية)، واقترحوا (النظام المدني) بدلاً منها، لأن العلمانية تستفز الإسلاميين الذين يعتبرونها كفراً، وبذلك سيتهموننا بالكفر أيضاً. وهذا النهج هو الآخر أثبت خطأه. فالمطلوب منا الإصرار على استخدام مصطلحاتنا مثل العلمانية، والليبرالية، والديمقراطية وحقوق الإنسان...الخ، وعدم التنازل عنها أبداً. أما سلاحهم البائس وهو توجيه تهمة الكفر لنا، أو تهمة الإساءة للإسلام، والمقدسات، فهو ديدنهم الدائم المعروف في كل زمان ومكان، وسلاحهم القديم يشهرونه في وجوه المفكرين الأحرار، وكل من يتجرأ ويوجه نقداً لهم، إذ ينقل عن الشيخ محمد عبدالوهاب، مؤسس الحركة الوهابية قوله: "الفكر والكفر سيان لأنهما من نفس الحروف". لذا يجب عدم الخضوع لابتزازهم، بل مواصلة السير قدماً وحتى النصر المؤزر، فمسار التاريخ في صالحنا.

كذلك نؤكد للمرة الألف أن النظام العلماني الديمقراطي الليبرالي ليس ضد الأديان، بل هو الضامن الوحيد للأديان وحرية ممارسة شعائرها وطقوسها. والإسلاميون يعرفون هذه الحقيقة الساطعة جيداً ويستغلونها أبشع استغلال لأغراضهم كما نراهم في البلدان الغربية. إذ قارن بين حرية الأديان والطوائف في الدول ذات الأنظمة الإسلامية مثل إيران والسعودية والسودان مع الدول الأوربية العلمانية الديمقراطية. فالأنظمة الإسلامية هي طائفية، تبيح حرية العبادة لطائفة الفئة الحاكمة فقط، وتمنعها على أصحاب الأديان الأخرى والطوائف الإسلامية الأخرى في ممارسة شعائرها. ولذلك نرى معظم الإسلاميين الهاربين من جور أنظمة حكوماتهم الإسلامية يفضلون اللجوء إلى الدول الغربية التي يتهمونها بالكفر على العيش في الدول ذات الأنظمة الإسلامية ويطبق فيها حكم الشريعة.

جدال حول التفخيذ أول المفاخذة

أما القسم الثالث من الردود فكان ضد المقال، ولحسن الحظ ضم لحد الآن ولحد علمي، شخصاً واحداً فقط ، وهو السيد أسامة النجفي (ليس النجيفي)، الذي أيد عملية التفخيذ وراح يدافع عنها بحرارة في مقال مطول له نشر في صحيفة (صوت العراق) الإلكترونية يوم 16/2/2007 ومواقع أخرى، بعنوان: (حول الزواج من الصغيرة: رد على عبد الخالق حسين).

بادئ ذي بدء، أود أن أشكر جميع الأخوة والأخوات الذين بعثوا برسائل التأييد وشاركوا في النقاش وأغنوا الموضوع بآرائهم القيمة بما يحفز على التفكير ومواصلة السجال في هذا الموضوع الخطير. كما وأشكر الأخوة الذين عبروا عن آرائهم ومواقفهم من هذه القضية على شكل مقالات نشرت في صوت العراق، ومواقع أخرى، وأخص بالذكر منهم: الأستاذ حسن أسد في مقاله (اُسامة النجفي ... أراد يكحلها عماها )، والدكتور لبيب سلطان (التفخيخ والتفخيذ - النفاق واجتماع المذاهب عند اسامة النجفي )، والدكتور عزيز الحاج ( الدعاة الإسلاميون وكرامة الأطفال..)(6)، وابن العراق (الاخ اسامة النجفي المحترم )، والسيد سعد الفحام (المفاخذه: سلاح دمار شامل بحق الطفولة) وآخرون، سأضع روابط بعض مقالاتهم في نهاية هذه المداخلة لمن يرغب الإطلاع عليها.

كذلك أود أن أشكر السيد أسامة النجفي على رده المعارض لي، والذي لم يؤيد فقط صحة ما أوردته عن فتوى السيد الخميني (رحمه الله) بإباحة المفاخذة مع الرضيعة في الإسلام، بل ودافع عنها وبررها ووفر لي وللباحثين الآخرين عناوين مصادر إسلامية عديدة، مؤكداً صحة الخبر الذي أوردته، وأن هذه العملية عليها إجماع من جميع الفرق والمذاهب الإسلامية. ولكنه تعامل مع الموضوع كما لو أني أتهم الإمام الخميني وحده بأنه أتى ببدعة غريبة عن الإسلام. ولذلك ركز جل رده على الإثبات بأن ما جاء في كتاب الخميني (تحرير الوسيلة) هو أمر مسموح به وعليه إجماع من جميع الفقهاء المسلمين. لذا أود التأكيد بأني لست ضد الإمام الخميني، بل ضد عملية ممارسة الجنس مع الأطفال، وحتى لو كانت تحت ذريعة الزواج. أما إذا كان عليه إجماع فالمصيبة هنا أعظم. وقد أسهب الكاتب كثيراً وأطال في مقاله البالغ 2450 كلمة، فيه تكرار ممل، لا يخرج عن محتوى الفقرة الأولى من المقال والتي يقول فيها:

" مرة اخرى يخرج لنا عبد الخالق حسين في مقاله (الإسلام بين التفخيخ والتفخيذ...!) المنشور في صوت العراق، محاولا الاساءة لأحكام الاسلام الفقهية. ولتوهيم القارئ يضيف ما يسميه هو الاسلام السياسي (ولا ادري ما علاقة الاسلام السياسي بزواج الصغيرة!). فهل هنالك اسلام سياسي وغير سياسي؟. فأحكام الاسلام غطت كل جوانب الحياة ابتداءً من ولادة الانسان وحتى موته وما السياسة وهي فن الحكم الا جزء من الحالات التي عالجها الإسلام. والواقع فان هناك هجوم منظم وحملة قوية للوهابية وبعض الليبراليين او كما يسمون انفسهم كذلك من أجل تشويه وتسقيط مذهب أهل البيت (ع)، والاسلام، ويريدون من ذلك اظهار صورة للإسلام مشوهة عموما. تركز مقال عبد الخالق حسين حول مسالة نكاح البنت الصغيرة والاستهزاء بفقهاء المسلمين. ونحن ان شاء الله ندحض جميع حججه ونثبت له ان ما تقوله ليس له اثبات وان زواج البنت الصغيرة كعقد لفظي أو كتابي هي مسالة قانونية بحتة عليها إجماع المسلمين بكل طوائفهم. بل حتى احكام الدين اليهودي والمسيحي تجوز الامر من قبيل ولاية الاب على البنت الصغيرة." انتهى.

نلاحظ من هذا الرد المتشنج، ذات الطريقة التقليدية المعروفة عند الإسلاميين في مساجلاتهم مع الآخرين، إذ دائماً وأبداً يلجؤون إلى سلاحهم الوحيد وهو توجيه تهمة " الاساءة لأحكام الاسلام الفقهية". والسؤال هو: هل مناقشة أحكام فقهية والاختلاف معها يعني الإساءة لها والإستهزاء بالفقهاء؟ كذلك يتساءل الكاتب " فهل هنالك اسلام سياسي وغير سياسي؟" وقد رد الأخ الدكتور لبيب سلطان على هذا السؤال مشكوراً في مقاله المشار إليه أعلاه قائلاً: (وكأن القاعدة وحركات الجهاد والشورى وجيوش الخلفاء والأئمة- هي جمعيات خيرية دينية- وأحزاب مثل التوافق والإسلامي والدعوة والمجلس – هي أندية فقهية لا علاقة لها بالحكم).

وإضافة إلى ما ذكره الدكتور لبيب، أود أن أوضح للسيد أسامة النجفي ما يلي:

نعم هناك إسلامان، الإسلام الديني والإسلام السياسي. الأول، هو دين المسلمين البالغ عددهم نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة، والذي جاء في كتابه المقدس، القرآن الكريم، (لا إكراه في الدين قد تبن الرشد من الغي)، وأنه جاء رحمة للعالمين، والدين هو مسألة خاصة بين الإنسان والخالق ولا يحتاج إلى وسيط. أما الثاني، أي الإسلام السياسي، فهو نقمة على العالمين، ولم نر منه سوى الإرهاب المنظم المختص بالمفخخات والتفجيرات والقتل العشوائي للأبرياء بالجملة لنشر الرعب في أوساط المدنيين، وأرجو من السيد أسامة أن ينظر إلى شاشات التلفزة ليرى بعينيه ما فعله الإسلام السياسي بالعراق وأفغانستان ولبنان وغزة وبالي ومدرسة بسلان في جنوب روسيا ومدريد ولندن وباريس ونيويورك وغيرها من المناطق في العالم، حيث حول هؤلاء الإسلام إلى آيديولوجية للإرهاب وجعلوا من كل مسلم إرهابياً في نظر العالم إلى أن يثبت براءته، وهذا بفضل الإسلام السياسي الذي تدافع عنه.

يقول السيد النجفي موجهاً خطابه لي: "... ونحن ان شاء الله ندحض جميع حججه ونثبت له ان ما تقوله ليس له اثبات وان زواج البنت الصغيرة كعقد لفظي او كتابي هي مسالة قانونية بحتة عليها اجماع المسلمين بكل طوائفهم..." فكما رد عليه الأخ حسن أسد: "أراد أن يكحلها عماها".

ولا أدري ماذا أراد أن يدحض، فالكاتب أيد كل ما ذكرته، بل وزاد عليه قائلاً: " ان زواج البنت الصغيرة كعقد لفظي او كتابي هي مسالة قانونية بحتة عليها اجماع المسلمين بكل طوائفهم..". ويضيف في مكان آخر من رده: " وإني أتحدى أي فقيه سني او شيعي او اي مذهب اخر يقول أن هذه الفتوى خلاف الفقه بكل المذاهب .. فعلى صعيد المذاهب الأربعة (كما سنذكر ذلك) يرون في زواج رسول الله (ص) من عائشة وعمرها ست سنين ودخوله بها وهي تسع سنين دليل على أن المسألة مسلمة ومتفق عليها بالاجماع، فقد روى الإمام مسلم عنها في صحيحه المشهور أنها قالت ( تزوجني النبي (ص) وأنا بنت ست سنين وبنى بي وأنا بنت تسع سنين " (صحيح مسلم ج2 ص1039)) . وفي مكان ثالث يقول: (فإذا كان الاعتراض على تزويج الرضيعة بالخصوص (وهو أمر نظري بحت) فهو من مسلمات المسلمين).

إذنْ "تزويج الرضيعة هو من مسلَّمات المسلمين". وهنا لا يسعني إلا وأن أتقدم بالشكر الجزيل للكاتب على هذا التأكيد. ولكن اختلافي معه هو أنه لماذا يتهمني بـ" الاستهزاء بفقهاء المسلمين." يا أخي، أنا لم استهزئ بأحد، بل غاضب وناقد وأرفض الاعتداء الجنسي على الصغيرة وحتى في حالة الزواج، ولأن الزواج من الرضيعة هو اغتصاب بكل معنى الكلمة. أما لكونه عليه إجماع من جميع المذاهب الإسلامية، فهذا لا يعني أن هذه العملية صحيحة ومن المسلَّمات، بل يثبت أن الجميع شركاء في الجريمة. وهذه دعوة إلى الشاذين جنسياً من الرجال الذين يميلون إلى الجنس مع الأطفال ويسمونهم في الغرب بـ pedophiles يُمنعون من العمل في الأماكن التي يتواجد فيها الصغار، مثل المدارس ورياض الأطفال. فلو يعلم هؤلاء الشاذون في الغرب أن ممارسة الجنس مع الصغيرة مباحة في الإسلام ويمكن الزواج حتى مع الرضيعة لتحول أعداد كبيرة منهم إلى الإسلام وهاجروا إلى بلاد المسلمين لإشباع شبقهم الجنسي، وحبهم بممارسة الجنس مع الصغيرات هناك. وقصة المغني البريطاني (Gary Glitter) باتت معروفة في الغرب، حيث افتضح أمر شذوذه الجنسي مع الأطفال، وخسر مجده، فرحل إلى فيتنام حيث الفقر، على أمل أنه يمكن استغلال وضعهم الاقتصادي لإشباع نهمه الجنسي، ولكن هناك أيضاً افتضح أمره بممارسة الجنس مع القاصرات، فألقي القبض عليه وحوكم وهو يقضي الآن ما تبقى من محكوميته بالسجن.

وقد وجه الدكتور لبيب سلطان، وابن العراق، وآخرون، سؤالاً فيما إذا يقبل الشيخ أسامة النجفي وغيره من الفقهاء المسلمين بتزويج بناتهم دون التاسعة والتمتع بهن تفخيذاً من قبل الرجال، أم أنهم يبيحونها فقط لبنات الخايبة (الفقراء)؟ وكعادته، أجاب بإسهاب ولكن بغموض شديد تهرباً دون أن يوضح لنا ما أراد قوله.

ففي عالمنا المتحضر الراهن، للإنسان كرامة ومهما كان صغيراً، بمعنى ليس من حق الأب تزويج الصغيرة ويعاملها كبضاعة، أو نعجة يحق له بيعها متى شاء. الطفلة الرضيعة إنسانة لها كرامتها، وحقها بالحياة والعيش والرعاية والتربية والحماية من العدوان بشتى أنواعه إلى أن تصل سن الرشد وهي 18 سنة. وعندها هي التي تختار شريك حياتها، وما دور ولي الأمر في هذه الحالة غير مساعدتها وتقديم النصح لها بما ينفعها، وحمايتها، وليس بيعها وهي رضيعة، وممارسة الجنس معها متى ما اشتهى الرجل.

الإسلاميون يمارسون الإرهاب الفكري

يتظاهر الإسلامويون بأنهم مسالمون يدعون إلى الحق بالحوار الهادئ، وإقناع الخصم بالأدلة والمنطق، وطالما رددوا بعض النصوص مثل، "إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن." ولكن عملياً، ما أن يعجزوا في مواجهة الآخر بالمنطق، حتى تراهم يلجؤون إلى أخس أساليب الابتزاز وتوجيه اتهامات ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك باتهام الخصم بالتجاوز على الله والرسول والمقدسات. وفي زماننا هذا نعرف عواقب هذا التحريض، حيث صارت حياة الإنسان عندهم أقل قيمة من الحشرة. وهذا التهديد واضح فيما كتبه الشيخ أسامة النجفي في القسم الأخير من رده قائلاً: "نعم يُشم من استهزاء عبد الخالق حسين للفتوى رائحة اعداء الاسلام في شتمهم لرسول الله (ص) بتجويز الزواج من الصغيرة، ورد هذا الاعتداء ليس تكليفنا فقط و إنما هو تكليف كل مسلم يدافع عن إسلامه ونبيّه أمام هذه الهجمة الكافرة غير المنطقية ..". فأي نقد إلى السيد الخميني صار شتماً لرسول الله، معاذ الله. أليس هذا تهديد وإرهاب فكري؟ أليس في هذا الاتهام تحريض على القتل؟ ونحن نعرف أن الإسلاميين عندهم مقولة: "الذي يجادلنا بالقلم نرد عليه بالرصاص". فهل يتفق هذا الكلام مع (وجادلهم بالتي هي أحسن؟). إن هذا التهديد وحده يكفي لتقديم الشيخ النجفي إلى القضاء بتهمة التحريض على القتل.

الدين والعقل وحق النقد

يبدو أن حوارنا مع الإسلاميين أشبه بالحوار بين الطرشان. فنحن كعلمانيين ولبراليين نستخدم العقل والعقلانية، والمنطق في التحقيق من صحة الأشياء، ونضع دائماً الشك واحتمال الخطأ نصب أعيننا، وعلى استعداد تام أن نغير مواقفنا وآرائنا من أية مسألة حالما تتوفر أدلة جديدة تثبت صحة الجديد فنأخذ به، ولا نرى عيباً في ذلك. أما الإسلاميون فلا يعترفون بالعقل، بل بالنقل، وتصديق كل ما قاله السلف في غابر الأزمان، والأخذ به دون تمحيص وإعمال العقل، وبذلك أعطوا عقولهم إجازة دائمة، أي بتعبير آخر، أن الموتى هم وحدهم يحكمون. وهذا هو أحد أهم أسباب تخلف العالم الإسلامي. وما جاء في رد الشيخ أسامة النجفي يؤكد موقف الإسلاميين من العقل. إذ يعتبر ما قاله السلف وأجمعوا عليه هو من "المسلَّمات" أي البديهيات التي لا يجوز لنا حتى مجرد مناقشتها، وإذا ما تجرأنا وناقشناها فنكون قد أسأنا إلى المقدسات، ويجب أن نعاقب عليها. نعم هناك قوانين في الإسلام تبيح زواج الصغيرة وحتى الرضيعة والاستمتاع بها مفاخذة، على حد تعبير فتوى آية الله خميني، ولكن حتى لو كان عليها إجماع من قبل فقهاء المسلمين، فهذا الإجماع في عصرنا الراهن لا يجعل من هذه القوانين "مسلَّمات" لا يحق لنا حتى مناقشتها ونقدها.

وإصرار الشيخ أسامة النجفي على الأخذ بما قاله السلف دون مناقشة، هو تأكيد لما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو: "الدين عقل مجتمع لا عقل له". ففي رأيي ورأيي الملايين من أمثالي أن التمتع مفاخذة مع الرضيعة ليس خطأً فحسب، بل وجريمة يندى لها الجبين، ويجب معاقبة من يمارسها، وحتى لو كان بذريعة الزواج، لأنه لا يجوز الزواج من الصغيرة، وفق القوانين المدنية في العصر الراهن، ناهيك عن الرضيعة. فكيف يمكن اعتبار التمتع بالصغيرة من "المسلمات" التي لا تقبل النقاش والمساءلة؟ ألا يدل هذا على عدم عقلانية هذا الرأي؟ أقول ذلك وأنا واثق من صعوبة تغيير موقف الشيخ أسامة من هذه المسألة، إذ يقول ألبرت آينشتاين: "إن فلق الذرة أهون من اقتلاع قناعة مسبقة لدى أحدهم".

فككتاب ليبراليين، من واجبنا النقد، نقد كل شيء دون استثناء بما فيها المقدسات. إذ كما قال كارل ماركس أن "النقد أساس التقدم، ونقد الدين أساس كل نقد". فالغرب لم يحقق هذا التطور المدهش والمذهل في الحضارة وجميع المجالات إلا بعد أن تبنى حق النقد وبالأخص نقد الدين، وحق الاعتراض، وتحرير الإنسان من هيمنة الكنيسة، وفصل الدين عن السياسة، وتبني النظام العلماني الديمقراطي، وسن قوانين حقوق الإنسان والحيوان وحتى البيئة وحمايتها من عبث العابثين.

الثابت والمتغيِّر

نعم، نحن نعرف أن الدين ثابت والسياسة متغيرة مع الوقت كما الحياة نفسها. فالمتدين يؤمن بدون مناقشة أو دليل، والعالِم يشك ويبحث عن الدليل. ولهذا السبب نرى أنه من الواجب فصل الدين الثابت عن السياسة والعلوم المتغيَّرة. ففي العلم والفلسفة والسياسة كل شيء يخضع تحت مجهر النقد والتمحيص والمراجعة وقابل للتغير. ولذلك إذا كان المسلم يقول (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، فمقابل ذلك يقول الفيلسوف البريطاني برتدراند راسل: (لست مستعداً أن أموت في سبيل أفكاري، لأنها قد تكون خاطئة). فالدين مع اليقين من صحة موقفه إلى الأبد، بينما العلم يشك ويبحث ويغيّر المواقف من وقت لآخر، يعنى التجديد المستمر بدون توقف، وهذه هي سنة الحياة. ولهذا السبب لا يمكن للمجتمع أن يعيش بسلام ويتقدم إلا بفصل الدين الساكن عن السياسة المتغيّرة وإطلاق حرية العقل.

موقف الإسلاميين من الديمقراطية

هنا يجب التأكيد على حقيقة مفادها أن الإسلامويين لا يؤمنون بالديمقراطية وإن تظاهروا بقبولها. فالتجارب التاريخية الحديثة تؤكد صحة ما نقول. إذ قال قادة الإسلاميين الجزائريين إثناء الانتخابات البرلمانية عام 1992 عندما بدت لهم تباشير فوزهم، أن الديمقراطية "كفر وإلحاد"، وأنهم سيلغونها حين استيلائهم على السلطة، لأنها بضاعة غربية استعمارية مستوردة ضد الإسلام. كذلك نلاحظ ما عمل حسن الترابي زعيم الإسلاميين في السودان عندما تحالف مع الجنرال حسن البشير، وقاموا بانقلاب عسكري ضد حكومة الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطياً. كذلك نشاهد ما عمله النظام الإسلامي في إيران. أما ما يعلنه قادة الأحزاب الإسلامية في العراق، سنة وشيعة، من تأييدهم للديمقراطية، فما هو إلا خدعة وبسبب وجود القوات الأمريكية وعلمهم الأكيد أن وجودهم في السلطة مرتبط بالحماية الأمريكية وتأييدهم للديمقراطية، شأنهم شأن الأحزاب الشمولية، مثل حزب البعث، ما أن يضمنوا السلطة حتى يتنكروا للديمقراطية. وأصدق إسلامي شيعي عبَّر عن رأييه بهذا الصدد هو الشيخ محمد الطباطبائي، إمام مسجد الكاظمين عندما قال في إحدى خطبه: «الغرب ينادي بالحرية والتحرر، الإسلام لا ينادي بذلك. الإسلام يرفض هذه الحرية. الحرية الحقيقية إطاعة الله». أما من هو ممثل الله على الأرض لطاعته فهو الحاكم بأمر الله، مثل الملا عمر أيام حكم طالبان في أفغانستان، والسيد علي خامنئي، مرشد النظام الإسلامي في إيران في الوقت الحاضر، وهكذا.

لذلك نحن نختلف عن الإسلاميين في الأمور الدنيوية، وندعو إلى تحرير الدولة من الدين وتحرير الدين من الدولة، وبدون فصل الدين عن الدولة هناك المزيد من الكوارث. إذ كما قال الرئيس الباكستاني الأسبق برفيز مشرف: "لقد دهورنا الإسلام إلى الحد الذي جعل شعوب العالم تعتبره مرابطاً للأمية والتخلف والتعصب».

ما العمل

1-أتمنى لو كان السيد الخميني (رحمه الله) لم يصدر فتوى المفاخذة وخاصة مع الرضيعة، لكان أفضل له وللدين والمذهب، وكفانا شر هذه الجدال،

2- من الأفضل للإسلاميين السياسيين في العراق، أن يتوقفوا عن محاربتهم لقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959 الذي اعتبر أرقى قانون في وقته ولحد الآن، وإذا كان هذا القانون يحتاج إلى تعديل، فليكن لتحسينه ولصالح المرأة وحماية الطفولة، وليس ضدهما، وأن يتجنبوا المطالبة بزواج القاصرات، لأن هذه المطالبة تجلب عليهم تهمة الشبق الجنسي بالأطفال (paedophilia)، وهي تهمة شنيعة تسيء لسمعة الدين والمذهب وسمعتهم أيضاً.

3- الزواج مسؤولية كبرى تتطلب النضج البدني والعقلي، وهو (أي الزواج) في رأيي، أهم من الولادة، لأننا نولد بدون إرادتنا، أو اختيار آبائنا، ولكن الزواج يجب أن يتم باختيارنا. فالزواج دون سن الرشد محكوم عليه بالفشل.

4- الإسلام، (وكافة الأديان الأخرى)، سيكون بخير في ظل حكم العلمانيين الديمقراطيين، ومهدد بالخراب إذا زج به في السياسة، لأن في هذه الحالة سيتحول إلى الإسلام السياسي، وهو حركة فاشية دينية لا تختلف عن الفاشية القومية والعنصرية، بل أسوأ منها لأن الإسلامويين يضفون القداسة على أيديولوجيتهم الدينية السياسية. إذ كما قال رجل الدين الشيعي آية الله السيد حسين الخميني، (حفيد المرحوم آية الله الخميني): "الدين يفسد السياسة والسياسة تفسد الدين".

وليكن شعارنا: العلمانية الديمقراطية هي الحل، و(الدين لله والوطن للجميع).

***

د.عبد الخالق حسين

................................

مقالات ذات علاقة بالموضوع:

1- عبد الخالق حسين: الإسلام بين التفخيخ والتفخيذ (1-2)

https://almothaqaf.org/opinions/977000-%D8%B9%D8%A8%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D9%84%D9%82-%D8%AD%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%AE%D9%8A%D8%AE-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D8%AE%D9%8A%D8%B0-1-2

2- مهند حبيب السماوي: التفخيذ ونقد الدكتور عبد الخالق حسين

https://www.c-we.org/ar/show.art.asp?aid=90695

3- اسامة النجفي :حول الزواج من الصغيرة: رد على عبد الخالق حسين –

4- حسن أسد: اُسامة النجفي . أراد يكحلها عماها -

5- د. لبيب سلطان: التفخيخ والتفخيذ - النفاق واجتماع المذاهب عند اسامة النجفي

https://akhbaar.org/home/2007/02/25511.html

6- عزيز الحاج: الدعاة الإسلاميون وكرامة الأطفال..

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=89152

7- سعيد الفحام: المفاخذه: سلاح دمار شامل بحق الطفولة -

8- فائق الطالقاني: المسلمون هم من يسيئون الى الاسلام -

9- ابن العراق: الاخ اسامة النجفي المحترم

ملاحظة: للأسف الشديد معظم روابط مقالات المشاركين في النقاش، والتي أخذتها من موقع صوت العراق قديمة وغير فاعلة، لذلك تم حذفها لعدم جدواها، مكتفياً بإدراج عناوين المقالات وأسماء كتّابها كمصادر في الهامش.

 

في لقاءٍ متلفز، أجراه الإعلامي علي صادق مع الشاعر الدكتور حسين القاصد.. سأله المقدِّم عن أمور تخصُّ الشعر، سواء ما تعلَّق منها بالشعر الغنائي الذي غنّاه المطرب العراقي المشهور كاظم الساهر، من حيث الوزن الذي ينضبط في بعض ما جاء فيه، أو ما ذكره عن قصيدةٍ للجواهري تخص ذكرى عاشوراء، والرجل طرح رأيه - ولم يُلزم أحدًا به – بما يمثّل قناعته وفهمه للنص مستعينًا بسياقاته الظرفية، ومن المتوقّع جدًّا في عالمٍ تسودُهُ التفاهة، أنْ يكون الرأيُ المُخالفُ للوسط الجماهيري العام مُثيرًا مُستفِزًّا لهم، لا سيّما حين يتعلَّقُ الحديثُ بشخصيَّات لها ثقلُها في ذلك الوسط، مثل كاظم الساهر المطرب المشهور منذ أربعين عام، أو الراحل الجواهري الشاعر العراقي المشهور من بين شعراء عصره، وهما اسمان لا غبار عليهما؛ بما لهما من منجز كفيل بذلك التقدير الجماهيري، ولكن لا يعني ذلك أنْ تخلو الساحةُ ممَّن يرى فيهما أو في منجزهما ما يُشكِّلُ مثلبةً أو ملاحظة تخصُّ الموضوع أو الفن أو الموقف، فهي أمورٌ ترِدُ على كل صاحب منجز مهما كان رفيع المكانة في الفنِّ الذي برعَ فيه، فضلاً عن كون ذلك الجمهور المُستفزّ، لو فتَّشناه وسألناه عن قصائد كثيرة للجواهري، أو معاني وردت في شعره، أو فيما يخصُّ المطرب كاظم الساهر، لما وجدته مثلاً محيطًا ببعض التفاصيل التي تخصُّ أغاني مطربه المفضَّل، من حيث الكلمات أو اللحن أو الأداء، ولكن تجِد المفارقة في اندفاع ذلك الجمهور لتسقيط كلِّ من يقفُ منتقدًا بعض تلك الجزئيّات، أو لا يتّفق معها، أو من يُقدِّم قراءته الخاصّة في بعض ما ورد لذلك المشهور من منجز، وبهذا يتشكَّل الرأي العام عند هؤلاء بضرورة كبح من يُخالفهم الرأي، باختلاق أكاذيب على ذلك المُختلف من شأنهِا تقزيم مكانته اجتماعيًّا وعلميًّا، أو تضليل الرأي العام بأنَّ ذلك المُختلف يعاني عُقدًا نفسيّة، أو إظهاره بصورة (الحاسد) أو (الناقم) من شهرة ذلك المشهور، ومثل هذه الآليَّات النفسية عند الجماهير، تعمل على مصِّ الصدمة النفسيَّة لهم، والثأر لكرامتهم المجروحة بانتقاص من يرونه مثالاً للكمال، فيما لو راجعتَ ذلك المثال في لقاءاته ومنجزه، وأصغيتَ إلى اعترافاته، لوجدته لا يقدِّس مسيرته أو منجزه مثل تقديسه عند متابعيه، بل يعترف ببعض هناتٍ وقع فيها في مسيرته، أو تجده يندم على ما كان يصدر عنه من أداء، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ له دلالته بضرورة تطوُّر صاحب كل فن، وطموحه لما هو أفضل..

بالنسبة لي، فأنا أعلنها أنني قد لا أتفق مع استنتاج القاصد بخصوص أغنية كاظم الساهر (لا تحتج) بحسب ما قرأه في مضامين هذه الأغنية، بما لا علاقة لها بالوجدانيات التي تعارف الغناء العربيُّ عليها، واستجداء رضا المخاطبة منها، وكلُّ مختص بالأدب، اطّلع على تطور الشعر العربي الغنائي، يجده أنه مرّ بتحولات من حيث اللغة والفكرة، ويمكن لي أن أضع هذه الأغنية، ضمن التحولات التي مرّت بها القصيدة الغنائية، وتبقى للآخر حرية الرأي في قراءة أخرى ضمن اعتبارات ينطلق منها، فيراها مثلاً تعبر عن وجهة نظر "ناعمة" طرحتها السلطة مع وسائلها "الخشنة" لتأديب وإرهاب من تريد تأديبه وإرهابه.. وليس غريبًا أن تأخذ بعض القصائد الغنائية مدلولات أبعد ما تكون عن ظاهرها في سياقات اجتماعية وسياسية وثقافية يمر بها بلد من البلدان، وهل نسي العراقيون اغنية "ليل البنفسج" للشاعر الراحل مظفر النواب التي غنّاها الراحل ياس خضر، في ظرف سياسي مر به العراق، وقيل عنها ما قيل، حتى مُنِعت من التداول، وصار الاستماع إليها آنذاك تهمة من التُهم...؟! ويمكن لنا أن نورد احتمالا - لا أكثر - أن السلطة البعثية أدركت بعد هذه الاغنية ما يمكن تمريره من رسائل مضمرة يمكن للأغاني أن تحملها إلى الشعب بما يعبّئ الناس، مثلما أدركت - بفضل بعض الوشاة - ما لبعض النصوص الأدبية من قصص أو روايات ما يُشمّ من ورائها من انتقاد للسلطة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولعل ما جرى للقاص الراحل عبد الستار ناصر حين أصدر مجموعته القصصية (سيدنا الخليفة) من منع لتداولها آنذاك، وزجٍّ لصاحبها في سجون المخابرات، وهو بعد ذلك كله يسأل: لماذا منعوها..؟ ولعل أمثلةً أخرى تغيب عن الذاكرة حين نستعرض "ملف الممنوعات" في زمن النظام السابق، أقول: ألا يمكن لنا أن نحتمل، أن السلطة - وهي قادرة على هذه الأشياء - أن تطوّعَ الأقلام، وتُنتج الأفلام، وتمسخ الحقائق، وتلوي أعناق النصوص، مثلما كانت تلوي أعناق الأبرياء من الناس من دون يرفّ لها جفن، فتكون أغنية لمطرب له شعبيته بين الناس، تحمل من المضامين ما تمثل إرادة السلطة وتوجّهاتها بصورة غير مباشرة.. وإلى الآن أقول بخصوص قراءة مضامين هذه الأغنية تمثّلُ رأيًا على أي حال، في قبال الرأي العام الذي ينفي عنها مثل هذا "التشفير" الدلالي، ويجعلها في ضمن تطور القصيدة الغنائية آنذاك، من حيث اللغة والأسلوب..

أما بخصوص رأي القاصد، بخصوص ما ذكره عن قصيدة الجواهري الرائيّة (عاشوراء) فهو - القاصد - لم يكتف بما توصل إليه لوحده، بل اتّكأ في قراءته تلك، على ما ذكره أقرب الناس فهمًا لمرامي الجواهري، وهو راويته المُحقِّق الدكتور الراحل محمد حسين الأعرجي، في كتابه (الجواهري - دراسة ووثائق) وهو من أميز الكتب وأنفعها عن الجواهري في سيرته ومنجزه الشعري، وقد أفادني كثيرا في دراستي الجامعية عن الجواهري التي طُبعت فيما بعد بعنوان (الجواهري ناقدا) عام 2012 إذ ذكر في معرض حديثه عن ظروف القصيدة، (أن الشاعر أراد أن يتعرض لياسين وحكومته ولكن تعرُّضَ الآمِلِ منهُ بمنصب، لا تعرُّضَ اليائس. وجليّةُ الأمر أنْ ضيَّقَ ياسين الهاشمي - ولم يكن قد مر على استيزاره عشرون يوماً- على طقوس الشيعة التي تقام إحياءً لاستشهاد الإمام الحسين، تضييقاً أرجعه الشيعة إلى حقدٍ طائفيٍّ دفين؛ إذ كان قد منعها أو كاد. ومن هنا كان سقوط وزارة الهاشمي موضع شماتة وفرح في مدينة النجف. وإذا أن يرثي الجواهري - لأول مرة في حياته - الإمام الحسين في قصيدة أمرٌ له معنيان هما:

الأمر الذي ذكرته، وقد أشار إليه الشاعر من طرفٍ خفيٍّ بتقريره أن يزيد بن معاوية نفسه قد تأثر بمقتل الحسين، وأنه لولا بعد المسافة بين الشام وكربلاء لكان رسم ليوم الطف نهاية أخرى:

على أنَّهُ بالرغم من سقطاته

وقد جاءه نعيُ الحسين تأثَّرا

*

فما كان إلا مثلَ قاطعِ كفِّهِ

بأخرى، ولما تاب رشدٌ تحسرا

*

وأحسبُ لولا أن بعد مسافةٍ

زَوَتْ عنهُ ما لاقى الحسين وما جرى

*

ولولا ذحولٌ قُدِّمتْ في معاشرٍ

تقاضَوا بها في الطف دَيناً تأخرا

*

لزحزحَ يوم الطفِّ عن مستقره

وغيّر من تاريخه فتطورا "

ومعنى قوله أنه إذا كان موقف يزيد نفسه كذلك فما معنى أن يكون الهاشمي في موقفه من إحياء ذكرى الإمام الحسين، والتفجع عليه أكثر تشدداً من يزيد. وقلت: إن الجواهري أراد أن يتعرض بهذه القصيدة - فيما أراد - أن يتعرض لياسين تعرّض الآمل منه بمنصب، لا تعرض الآيس، ويمكنني أن أُدلِّلَ على قولي ذلك بثلاثة الأبيات الأخير من قصيدته إذ أنه بدا فيها وكأنه يريد أن يمسك العصا من وسطها في لومه الشيعة على ما بالغوا فيه من أمر تأريخ الحسين ومن أمر تحريفة)1.

وقضية اللوم التي صوّرها الجواهري في قصيدته عن يزيد، لم تكن من بنات أفكاره - إذا أردنا الموضوعية - فهي مطروحة في كثير من كتب التاريخ المعتبرة عند المسلمين السُنّة، وأنه تألّمَ على مقتله وألقى شناعة هذا الفعل على ابن زياد، فضلا عن بعض كتب الشيعة، ومنها ما ورد في كتاب (الخصائص الحسينية) لأحد كبار الشخصيات  العُلمائية، وهو آية الله الشيخ جعفر التستري/ الشوشتري (ت: 1303هـ)، إذ كان مرجعا من مراجع عصره، وكان يُلقّب بفقيه الخطباء، وخطيب الفقهاء، لشهرته، وأن كتابه المذكور آنفًا لا يستغني عنه الجمُّ الغفير من خطباء المنبر إلى يومنا هذا، وفيه أورَدَ – في باب من أقام مجلس العزاء على الإمام الحسين بعد استشهاده - ما نقله المؤرخون أن يزيد أقام مجلسا للنياحة على الإمام الحسين، وأنه أمر زوجته بالبكاء والعويل عليه، وتارةً يجعل الشوشتري يزيدا ينال شرف رثائه – من بين من رثوا الإمام الحسين – والبكاء عليه، وتارةً يجعله في مقام المستمع لمجلس العزاء، ونساءه من الصارخات واللاطمات على الخدود بموافقةٍ من يزيد2. فإذا أردنا إدانة الجواهري في ضوء ما فهمناه من فحوى أبيات هذه القصيدة، لنا أيضًا في الوقت نفسه، أنْ نُدين ما ورد في كتاب (الخصائص الحسينية) بما فيه من مضامين تتفق وما ذكره الجواهري.

بمعنى أنه لا يحق لنا أن نحاكم وعي الجواهري بوعي عصرنا وما توصل إليه العلماء في كثير من مجالات العلم والمعرفة والثقافة، فهو - الجواهري - مهما كان طليعيًّا تقدّميًّا، ولكنه يبقى رهين ظرفه التاريخي والسياسي والاجتماعي والثقافي، ويبقى شاعرًا على أي حال، تتجاذبه الرغبات والأهواء من هنا وهناك، ومع ذلك يُحسب له خروجُهُ الواعي على ما كان راتبا في عصره من ظروف وأوضاع وتقاليد تململ منها ودعا إلى نبذها، وسخر منها في بعض قصائده ومقالاته، في حين لم ينبس كبار رجالات عصره – في مختلف المجالات -نقدًا لها أو دعوةً لنبذها.

ومن يقرأ شعر الجواهري بإنصاف في مقتبل عمره الشعري، ويقارنه بما بعده من عقود الخمسينات والستينات - وهي ذروة الوعي التقدمي الذي وصله الجواهري - يجده مُتحرِّرًا عما كان عليه في سابق عهده، وهذا حال كل مفكر واعٍ لا يأنف - أو تأخذه العزة بالنفس - أن يراجع بعض ما كان يعتنقه من أفكار أو نظريات أو منطلقات آمن بها في السابق، ورآها اليوم غير صحيحة، فلم يقفل عليها عقله، بل يُصرّح بنقده لها، ولعل الجواهري كان من أكثر الشعراء جلدًا لذاته، في قصائد كثيرة، فإذا أردنا الإنصاف علينا أن نحاكم كل من كان في عصر الجواهري، وكل من سبقه بما كان سائدا من أوضاع وتقاليد تمثل ذلك المجتمع، لا أن نُفرد الجواهري ونضعه المقصِّر الوحيد في قفص الاتهام.. ويكفي الجواهري اعترافاته الشعرية التي أراها شجاعاً قلّ نظيرها بين الشعراء، فضلا عمّن سواهم، فمن هو يا ترى الشاعر الذي قال عن نفسه في قصيدته (معرض العواطف)

أبرزتُ قلبي للرماة معرَّضا

وجلوتُ شعري للعواطف مَعرِضا

*

ووجدتُني في صفحةٍ وعقيبها

متناقضاً في السُخْط مني والرضا

*

ومدَحْتُ من لا يستحقُّ، وراقَ لي

تَكفيرتي بهجائِه عما مَضى

*

نافقتُ إذ كان النفاقُ ضريبةً

متحرِّقاً من صَنعتى مترمِّضا

*

ولكم قَلِقتُ مسهَّداً لمواقفٍ

حَكَمت عليَّ بأن أداري مُبغِضا

غير الجواهري الذي عبّرَ بكل أريحية عن تناقضاته، وعن تقلّباته، والقارئ لا يريد من الشاعر غير شعره بما فيه من إمتاع أو غيرها من المضامين التي تتعلق بالجوانب العامة التي تمس المجتمع، وتطالب بحقوقه والدفاع عنها. أما الصدق فلا يُراد - بحسب قول الجرجاني في وساطته لمن رمى المتنبي بالكذب- إلا من الأنبياء.

ولعل ما كان يُسقطه الجواهري على مادحيه، يمثِّل لنا وعيه المرتهن لثقافته التي هي جزءٌ من ثقافة عصره، فحين يشبِّه مادحًا "مزاحم الباچچي" - وهو سياسي عراقي تقلّدَ عدة مناصب في داخل العراق وخارجه - بالزعيم الإيطالي "موسوليني" في بيت ورد ضمن قصيدة يخاطب بها الباچچي:

فيكَ - لولا أمـةٌ جاهـلةٌ-

شبهٌ يُدنيكَ من (موسولني)

من دون أن يعترض هذا الممدوح على هذا التشبيه، يكشف لنا بوضوح ثقافة أبناء ذلك العصر ومدى وعيهم، في حين لو جاء شاعرٌ في عصرنا هذا وأراد مدح قائد من القادة أو الزعماء بتشبيهه بالزعيم (موسوليني) لعَدّ ذلك التشبيه إهانةً له ما بعدها إهانة؛ لما اقترن به اسمُ هذا الزعيم بالجبروت والطغيان والاستبداد الفاشي...!!

وهكذا الحال لو قلّبنا الكتب والدواوين والمجلّات في كل عصر، لما استغربنا أن نجد آراء ومواقف لرجالٍ من شعراء أو مثقفين أو فقهاء ورجال دين، أو مفكرين في مجالات علمية، تُخالف ما نراه اليوم من حقائق - نعدُّها في نظرنا حقائق ولكنها قد تكون نسبيةً لم ينظر السابقون لها مثلما نظرنا لها الآن - أو مواقف، فهل يتطلَّبُ منا التشهير بأصحابها...؟ ونشطب على كل ما صدر لهم منجز؛ لكونهم لم يروقوا لنا في ذلك التوجُّه، أو لم يوافقوا ميولنا في هذه الجزئية أو تلك، أو الأَولى بنا أنْ نُحسن بهم الظن - على أقل تقدير - وننظر لهم نظرةَ تجلّةٍ لمنجزهم بصورة عامة، إن كان فيه نفعٌ للصالح العام، أو أسهم بصورةٍ أو بأخرى في ارتفاع منسوب الوعي الثقافي والعلمي بصورةٍ أفضل مما كان عليه في السابق، ونُشخِّص وفقًا لذلك ما نراه جيِّدًا يعبِّر عن أصالة منجزهم، وما نراه سوى ذلك لا نعبأ به، من دون أنْ يكون ذلك سببًا لتجريمهم أو بخس منجزهم بقضِّه وقضيضه..

وليس من المروءة والإنصاف، أنْ نُشيح النظر عن أسماء شخصيات لها مقامٌ محترم/ مقدّس في كياننا الفرديّ أو الجمعي، ولا نضع أقوالهم أو مواقفهم تحت طاولة التشريح أو المعاينة النقديّة مثلهم مثلُ سواهم؛ لأن الحديث عن هؤلاء سينعكس سلبًا في القدح بصورة الكيان المذهبي أو الثقافي أو القومي الذي نعتزُّ بالانتماء إليه، ونكتفي بنبش قبور من ليس لهم كيانٌ يُدافع عنهم، ونتسابق بعرض ما يُحسب عليهم من هفوات وإخفاقات نظنُّها شجاعةً وفروسيّةً، وهي ليست من الشجاعة والفروسيّة في شيء...!

لا أعرف كيف انساق الكلام إلى شجونٍ نعيشُها يوميًّا، ونقاسي سياط الأحكام الجاهزة، والآراء المُطلقة في تقييم الكبارِ في منجزاتهم، ولم يكن الصديق "القاصد" مقصودًا بكل ما ورد آنفًا، إذ كان رأيهُ منحصرًا في موارد تحدَّثنا عنها سابقًا، ولكنْ يُحسَبُ له أنَّه فتحَ قريحتي للحديث عمَّن ينطبق عليهم الكلامُ أعلاه، لمن يريدون – في متخيّلهم الموهوم - من الشاعر أن يكون بريئًا من كلِّ زلّةٍ أو عَور..! والشاعرُ مهما كان عظيمًا في حقيقته ليس إلا إنسانًا تجتمع فيه الحسنات إلى ما سواها، وهذا ما عبَّرَ الجواهريُّ عنه خير تعبير في تأبينه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر:

لا يعصم المجدُ الرجالَ وإنّما

كان العظيمُ، المجدَ والأخطاءَ

***

د. وسام حسين العبيدي

..............................

1- الجواهري – دراسة ووثائق: 104 - 106.

2- ينظر: الخصائص الحسينية، المطبعة الحيدرية، ط1، انتشارات الشريف الرضي، إيران: 175 – 176 .

ربما يتذكر بعض أصدقاء الصفحة أنني كررتُ في أكثر من مناسبة أن عداء بعض دعاة الإلحاد في عصرنا للإسلام على جهة التخصيص يختلف تماما عن الإلحاد الفلسفي العقلاني الذي يتعامل مع جميع الأديان من منطلق فلسفي واحد. ولكنَّ إلحاد الملحدين المعاصرين وخاصة من العرب كما يظهر هو "إلحاد مراهق- بعبارة فردريك إنگلز" وهو إلحاد استشراقي يعادي الإسلام على جهة الحصر بحجة معاداة "التطرف التكفيري"، ويرتعب من مجرد التفكير بنقد الدين المسيحي أو اليهودي. بل وهو حتى إنْ زعم معاداة الدين بشكل عام أو ادعى نقد جميع الأديان فما تلك إلا ستارة أو تمهيد لمهاجمة الدين الإسلامي فحسب.

ورغم أنني لستُ من حملة الأيديولوجية الإسلامية، سواء كانت سلفية متشددة أو معتدلة سنية أو شيعية، بل ناقد جذري لها، ولكنني اعتبر نفسي مسلماً أدافع عن هويتي التي يشكل الإسلام جزءا منها وأفخر بالإسلام الحضارة البائدة وبجوانبها المضيئة تحديدا، أو بما يسميه العلوي "الإسلام الميت"، وتحديدا بإنجازاته الحضارية المُلهِمة الرائعة، ولا شأن لي بالإسلام الحي "إسلام الطقوس والعبادات" فهذا شأن يخص المتدينين ولستُ منهم.

واليوم، ومن منطلق التلاقي المضموني مع باحث غربي منصف، أنشر هنا مقتبساً من دراسة لباحث أسترالي هو وليم إميرسون. الدراسة بعنوان "الإلحاد الجديد والإسلام"، انطوت على مضمون شديد القرب من مضمون كلامي هذا.

وأشير من باب التوثيق إلى أن الباحث د. محمد الشنقيطي كان قد أشار إلى هذه الدراسة لإميرسون واقتبس فقرة منها. ولكنني حبذتُ أن أعود إلى الدراسة الأصلية نفسها وترجمت منها بعض الفقرات بترجمتي غير الاحترافية. كتب إميرسون: "إنَّ "الجديد" في كتابات الملحدين الجدد ليس عدوانيتهم، ولا جماهيريتهم غير العادية، ولا حتى نهجهم العلمي في التعامل مع الدين، بل هو هجومهم ليس فقط على الإسلاموية السياسية المتشددة، ولكن أيضاً على الإسلام "الدين" نفسه تحت ستار نقدهم العام للدين. لقد ساهمت الحركة الإلحادية الجديدة في تقوية العداء ضد الإسلام وربما تكون قد ألهبت العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين.

* بخصوص الملحدين الجدد، فإنَّ إدانتهم العامة للدين لا تستهدف التطرف الإسلامي فحسب، بل وأيضاً الإسلام، لأنهم في الأساس لا يعترفون بأي تمييز ذي معنى بين الإسلام المعتدل والمتطرف. وفي رأيي، فإن هجومهم على الإسلام هو الذي يضع "الجديد" في الإلحاد الجديد أكثر من أي شيء آخر.

* إن الإسلام في الكتابات الإلحادية الجديدة يُصَوَّر باستمرار على أنه غير عقلاني وغير أخلاقي وعنيف في أنقى صور العنف. وأكثر هؤلاء وحشية في التعامل مع الإسلام هو عالم الأعصاب الأميركي سام هاريس. إن هاريس يرى أن صعود الأصولية الإسلامية لا يشكل مشكلة ولكنَّ أساسيات الإسلام هي التي تشكل مشكلة. إن هاريس لا يرى في شخصية الإسلامي الانتحاري انحرافاً أو تحريفاً للإسلام، بل يرى فيه النتيجة المنطقية للعقيدة الإسلامية، فهو يقول: "إن الإسلام، أكثر من أي دين آخر ابتدعه البشر، يحمل في طياته كل مقومات عبادة الموت الشاملة". ويرى هاريس أن الإسلام يشكل تناقضاً فادحاً في العالم الحديث.

والواقع أن هاريس صريح تماماً في هذا التمييز: فهو يؤكد أن الاختلافات بين الأديان مهمة بقدر ما هي واضحة لا لبس فيها. ولهذا السبب، كما يقول، "يتعين علينا الآن أن نواجه المسلمين، وليس الإرهابيين الدينيين فقط، في كل ركن من أركان العالم".

تعليقي: هنا تجري عملية فاشية لتوحيد المواصفات بين إرهابيين تكفيريين قتلة بالمئات أو الآلاف مع ملايين المسلمين البسطاء والذين هم ضحايا هؤلاء التكفيريين. وهذا النهج في توحيد المواصفات يسير عليه الملحدون والعلمانيون القشريون العرب والمسلمون. ع.ل

ويختم إميرسون ملاحظاته بالقول: "من الواضح أن ستراتيجية الملحدين الجدد – رغم التحفظات المثارة على هذا المصطلح - في مهاجمة جميع الأديان، أو التعبيرات الدينية، كغطاء لانتقاد ليس، فقط الإسلام المتشدد على جهة التحديد، بل الإسلام نفسه، وقد ساهمت -هذه الستراتيجية- في إثارة المشاعر المعادية للإسلام والمسلمين في جميع أنحاء العالم الغربي. إن عداء الملحدين الجدد للإسلام يقترب من الاستعلاء الثقافي والعنصري وهو يتجاهل حقيقة مفادها أن الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العالم (بما في ذلك في الغرب) يعيشون حياة سلمية ورحيمة. ورغم أن الملحدين الجدد قد لا يستهدفون المسلمين صراحة، فإنَّ عداءهم للإسلام أدى إلى تصلب عام في أفكارهم.

***

علاء اللامي

.......................

* رابط لتحميل الدراسة باللغة الإنكليزية في أول تعليق.

The New Atheism and Islam

https://researchoutput.csu.edu.au/ws/portalfiles/portal/20242060/8854131_Published_article_OA.pdf

 

(وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).. سورة الملك: 10

 هل يتجه العالم الى الهاوية والفناء كنتيجة لسباق التسلح ووجود مجانين يعلنون الحرب واخرون يتاجرون بها ومصانع تربح؟

 منذ نهاية الحرب العالمية الأولى تغير الخارطة الجيو- سياسية لدول العالم وظهور دول وطنية جديدة وقوى إقليمية وعالمية جديدة وسباق جديد وحرب باردة. هذا المادة لا تطرح فكرا سوداويا بل واقعيا كنتيجة حتمية للتطور الهائل في عالم صنع وإنتاج أسلحة الدمار الشامل وسذاجة العقل البشري خاصة بين هؤلاء من قادة دول العالم المستهترين بحياة شعوبهم حيث يعلنون الحرب دون دراسة العواقب والنتائج وبمبررات اقل ما تكون سخيفة وغير عقلانية. هذا بالإضافة الى القوى المتطرفة والتي أصبحت تستحوذ على أموال طائلة ستمكنها من شراء تلك الأسلحة في القريب وان كان هذا القريب بعد ٥٠٠ عاما وباستخدامها ستنهي جميع مظاهر الحياة، البيئية، البشرية، الحيوانية، البحرية، النباتية، الفضائية وووو كوكبنا الأرضي.

ان قدرات تلك القوى المتطرفة، السلبية وسقف تفكيرهم الواطئ الذي بات فكريا في أدراج التاريخ، لا، ولم يحمل اي معنى عقلاني التفكير ، حكيم سوى كون تلك الأفكار جزء من التراث الإنساني وخرافات وأساطير تعود الى دهور خلت لن تقاوم وتندثر حتما امام اي تغير واكتشاف علمي يدحض تفكيرهم ويقوض مكانتهم في أبراجهم العالية.

إن مجموع ما يصرفه دول العالم لشراء السلاح من ميزانيتها الدفاعية الوطنية وما يكلف إنتاج تلك الأسلحة في المصانع بإمكانها وبصورة كافية كي تمحو الفقر وتقضي على الأمية والتخلف بين جميع شعوب الدنيا. ناهيك عن إمكانية ربط دول العالم بشبكات من الاتصالات والمواصلات رخيصة وتقديم الخدمات المجانية من متطلبات المعيشة والسكن والخدمات الطبية والتعليمية لكافة سكان الأرض، وإنشاء مختبرات للكشف المزيد من الاكتشافات العلمية والطبية لخدمة بني البشر. فتمعن قارئي الكريم كيف سيكون الحياة في كوكب العدل والمساواة لجميع بني البشر.

لا ريب ان الرفاه الاقتصادي والاجتماعي ونشر التعليم له تاثير مباشر واخر غير مباشر على مجمل نواحي الحياة لسكان الارض . والقضاء على الفقر سينعش الدورة الاقتصادية لاقتصاديات الوطنية لجميع دول العالم وينشر السلام والوئام على المعمورة. حين تلغى الحدود وتصبح حركة البضائع والاموال والبشر وامور اخرى كثيرة وحرية دون اي قيود.

اما مصانع تلك الأسلحة والمعدات والصواريخ وكل ملحقات الصناعة والتصنيع العسكري فتتحول الى الانتاج السلمي لبناء البنى التحتية لدول العالم اجمع. كل ذلك التقدم سيؤدي الى اختفاء الفوارق بين الشمال والجنوب ويبات الفقر مصطلحا تراثيا تاريخيا وجفت منابعها كما حصلت مع الإمراض المستعصية والأوبئة تلكم التي كانت تعصف بالبشرية وتبيد وتفني شعوبها كالطاعون والكوليرا والملاريا والجدري و كورونا.

لا ريب ان مستويات الجريمة ستنخفض الى درجات سيكون فيها السجون والمصاريف المترتبة عليها من محاكم ورجال قانون وشرطة وحماية ستزول او تبقى منحصرة في معالجة جرائم مستحدثة تخص ذلك العصر اكثر اهمية وخطورة على البشرية. قد يعتبر البعض ان هذا العالم الذي وصفته من باب الخيال العلمي او كما صوره أفلاطون في مدينته الفاضلة ومن الامور الغيبية ومحال التحقيق او الوصول اليها. لكني اجزم لكم قارئي الكريم ، بان هناك حتمية تاريخية في زوال البشرية اذا بقى سباق التسلح واكتشاف أسلحة جديدة تدميري و نووي وجرثومي وسايبرنتيكي يؤهل اي مجنون من استخدامها.

لا يوجد اي مستقبل للبشرية الا اذا ساد السلام النفوس وتغيرت السلوكيات الشريرة عند بعض البشر و سار الجميع على هدي العقل. اما باستخدام العنف والقتل والإبادة للبشرية سنزول من الوجود ويبقى سطح الكوكب الارضي ماؤى للصراصير والنمل.

***

  د. توفيق رفيق التونچي - الأندلس

2024

 

ملاحظة توضيحية

نشرتُ هذا المقال على مواقع الإنترنت قبل 17 عاماً، وتحديداً يوم 17 /2/2007م. وأثار في وقته جدالاً عنيفاً مما جعلني أن أرد عليهم في حلقة خاصة (الحلقة الثانية) والذي سأعيد نشره فيما بعد. ونظراً لما يدور في هذه الأيام من سجال عنيف بسبب مطالبة عدد من البرلمانيين العراقيين من الأحزاب الدينية الشيعية في إلغاء، أو تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188لعام 1959م، في عهد حكم الزعيم عبدالكريم قاسم، وذلك لحقد هؤلاء النواب الشديد عليه بسبب نزاهته، وإخلاصه الوطني، وشعبيته الواسعة، وخاصة بين الطبقات الفقيرة لدعمه لهم، لذلك يحاولون طمس ذكره بالتخلص من أي منجز وطني تقدمي تحقق في عهده، وخاصة القانون المشار إليه أعلاه. لذلك رأيت من المفيد إعادة نشر هذا المقال، وهو على حلقتين. أدناه نص الحلقة الأولى، وتليه الحلقة الثانية فيما بعد.

***

قال النبي محمد (ص): "بدأ الإسلام غريباً وينتهي غريباً". كما وقال الإمام الشيعي الخامس، محمد الباقر(ع): "أخاف على أمتي من أئمة ضالين". أعتقد إن الإسلام يقترب الآن من هذه المرحلة، أي مرحلة الاغتراب والخطر. ولكن يا للمفارقة، فإن الإسلامويين يسمون هذه المرحلة بـ(الصحوة الإسلامية). وفي رأيي، إذا كانت هذه صحوة، فهي الصحوة التي تسبق الموت، وذلك بجهود الإسلامويين أنفسهم. فألد أعداء الإسلام اليوم ليس العلمانيون و الليبراليون وغير المسلمين كما يدعي الإسلاميون، بل هم دعاة الإسلام السياسي أنفسهم الذين يعملون على هدم الإسلام كدين، وتحويله إلى آيديولوجية لا إنسانية، في مواجهة دموية غير متكافئة مع العالم المتحضر، تغذي الإرهاب، و لا تختلف كثيراً عن آيديولوجية الفاشية والنازية إن لم تبزهما. فإذا كانت حركات الفاشية والعنصرية تميِّز بين البشر على أساس عنصري، فالإسلام السياسي أخطر من الحركات الفاشية العنصرية لأنه يميّز بين البشر على أساس ديني مع إضفاء القداسة على هذا التمييز، ويبشر أتباعه بالجنة إذا ما قاتلوا في سبيله. وهنا يكمن خطر الفاشية الدينية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول مهدي عاكف، مرشد حزب الأخوان المسلمين في مصر، إنه "يفضل ماليزي مسلم رئيساً لمصر على القبطي المسيحي المصري." كما وطالب زعيم الإخوان المسلمين السابق مصطفي مشهور بأنه: "يجب إخراج الأقباط من الجيش المصري، وأن يدفعوا لنا الجزية وهم صاغرون"، علماً بأن الأقباط هم سكان مصر الأصليون وبناة حضارتها العريقة. والأدهى والأنكى من ذلك أن التمييز في الإسلام السياسي لا يتوقف ضد الأديان الأخرى فحسب، بل ويتعداها إلى التمييز بين المذاهب من داخل الإسلام نفسه وبذات القوة. ولتحقيق هذه السياسة الفاشية يعمل الإسلام السياسي على تحويل أتباعه إلى مفخخات ، وعبوات بشرية ناسفة لقتل أكبر عدد ممكن من الأبرياء بسبب التمييز الديني والمذهبي، لخلق سايكولوجية الرعب. وقد نجحوا في ربط اسم الإسلام بالرعب والإرهاب، وهم يعتمدون في إرهابهم على النصوص الدينية مثل قوله تعالى: "واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم."(الانفال60).

لا شك أن هذه المحنة التي يمر بها الإسلام هي من صنع رجال الدين المسلمين المسيَّسين أنفسهم عندما زجوا بدينهم في السياسة ودفعوا الشباب المحروم من الثقافة ومتع الحياة إلى أعمال انتحارية ضد الأبرياء. فكما هو معروف، هناك إرهاب إسلامي يفتك بالعالم مستخدماً تكنولوجية التدمير من المتفجرات الناسفة وتفخيخ السيارات والبشر وحتى الحيوانات بالعبوات الناسفة لقتل أكبر عدد ممكن من المدنيين الأبرياء باسم الله والإسلام. ويتلقى هذا العمل الإجرامي، المباركة من رجال الدين من أمثال القرضاوي وعشرات غيره الذين يصدرون فتاوى التحريض بدعوى الجهاد ضد الكفار، كأقصر طريق لدخول الجنة والتمتع بحور العين والولدان المخلدين.

والسؤال هو، كيف نجح دعاة الإسلام السياسي في تحويل أتباعهم إلى مفخخات، يكرهون الحياة ويعشقون الموت؟ يجيب الدكتور رياض عبد، الأخصائي في الأمراض العقلية، في بحثه القيم (سايكولوجية الإرهاب) على هذا السؤال قائلاً: "هناك بدايات لبعض النظريات التي طرحها بعض علماء النفس الغربيين والتي تحاول تفسير عملية التغيير السايكولوجي التي يمر بها الفرد لكي يصبح إرهابياَ. وتبدأ عملية التغيير هذه بإختزال هوية الآخر إلى هوية أحادية مسطحة (خائن، عميل، كافر...الخ) تليها اختزال هوية الذات الى هوية أحادية بسيطة (مجاهد، مقاتل، شهيد...الخ) وبعد ذلك يتم انتزاع صفة الآدمية عن العدو ليصبح بعدها العدو في نظر الشخص كائناَ لا قيمة له، لا يستحق الشفقة ولا يستحق الحياة. والمرحلة الأخيرة هي إضفاء صفة الشر المطلق على الضحية أو الضحايا (demonization) وإنكار أية صفات خيرة أو حميدة لها." وهذا ما يجري فعلاً في العراق ومناطق أخرى من العالم على أيدي المجاهدين الإسلاميين. هذا فيما يخص التفخيخ.

أما التفخيذ، فقد سمعت به لأول مرة عندما قرأت كتاب (تحرير الوسيلة) للمرحوم آية الله العظمى الإمام روح الله الخميني، زعيم الثورة الإسلامية في إيران في حق الرجل بممارسة الجنس مع الزوجة مهما كان فارق العمر بين الزوجين. فيحق للرجل الزواج من طفلة وحتى الرضيعة على أن يتجنب ممارسة الولوج بها قبل أن تبلغ "الزوجة" التاسعة من العمر. ولكن يحق له ممارسة التفخيذ معها أي مع الرضيعة!! والتفخيذ أو المفاخذة عملية جنسية يندى لها الجبين، يمارسها الشواذ البيدوفيليا (paedophiles) مع الأطفال القصر وحتى مع الرضيعة في عمر السنتين. والغريب هنا هو أن أفتى بجواز هذه العملية وأباح بها وناقشها في كتابه المشار إليه أعلاه إمام شيعي وزعيم الثورة الإسلامية في إيران ألا وهو الإمام الخميني.

إذ يقول الإمام الخميني في "- مسألة 12- لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين، دواماً كان النكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى مع الرضيعة،..." (الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، ج2، ص216، دار المنتظر، بيروت- لبنان، ط2، 1405هـ-1985م). فالإمام يبيح الزواج من الطفلة في التاسعة من العمر، كما ويبيح سائر الاستمتاعات الجنسية الأخرى مثل الضم والتفخيذ حتى مع الرضيعة!

قد يعترض القارئ الكريم، فيقول أن هذه الممارسات الجنسية موجودة حتى في الغرب، فلماذا الإعتراض عليها عندما يصدر رجل دين مسلم حكماً بإباحتها؟ نعم تحصل هذه الممارسات ضد الأطفال في الغرب ومعظمها من قبل أولياء أمورهم أو أقاربهم، وهنا الكارثة. ولكن هذه الأعمال الفاحشة تُعامل في الغرب كجرائم أخلاقية فظيعة مخلة بالشرف، وتصبح عناوين بارزة في الصحف وغيرها من وسائل الإعلام، ويحال مرتكبوها إلى المحاكم التي تنزل بحقهم أشد العقوبات. وحتى عند انتهاء مدة عقوبتهم يعتبرون خطيرين ويوصمون بتسمية الشبق الجنسي بالأطفال، توضع أسماءهم في سجلات خاصة.

أجل، في الغرب وكافة الدول المتحضرة، تعتبر أية ممارسة جنسية مع الأطفال اغتصاب جنسي يعاقب المرتكب عليها بقانون، ولا أعرف أي قانون هذا الذي يسمح بالزواج من طفلة رضيعة، وممارسة الجنس معها تفخيذاً قبل التاسعة من عمرها، ودخولاً بعد هذا العمر؟ فلو أباح أي إنسان هذا العمل في مقال أو كتاب، أو مارسه، وعرفت السلطات الحكومية عنه، يحال إلى لجنة من الأطباء الأخصائيين في الأمراض العقلية، ليتأكدوا من صحته العقلية، وهل هو سليم العقل، أو مصاب بلوثة عقلية. فإذا كان مصاباً بلوثة عقلية يرسل إلى مصح عقلي للعلاج. أما إذا كان سليم العقل، فيحاكم ويدخل السجن. والغرض من كلتا الحالتين هو حماية المجتمع من شرور هذا الإنسان الشاذ في جميع الأحوال. ولكن ماذا نقول لو أباح رجل دين وزعيم أمة يقود ثورة دينية من وزن الإمام الخميني الزواج، وممارسة هذا النوع من الجنس حتى مع الرضيعة؟

أرجو من القراء، وخاصة من أتباع الإمام الخميني أن ينظروا إلى الأمر بجدية، ومن منطلق إنساني وعقلاني وفكري، وليس من منطلق الولاء الأعمى للانتماء الطائفي وفق المبدأ البدوي: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). المطلوب من هؤلاء أن يتجنبوا الصراخ والعويل والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور، فما ذكرته من فتوى السيد الخميني بإباحة الزواج بالطفلة الرضيعة و ممارسة الجنس معها تفخيذاً ليس افتراءً مني، معاذ الله، بل حقيقة ذكرها الراحل في كتابه (تحرير الوسيلة) المشار إليه أعلاه.

وأقولها صراحة، فما أباحه الإمام الخميني هو اغتصاب جنسي بعينه، وجناية كبرى بحق الطفولة البريئة التي هي بحماية أبويها والمجتمع والسلطة، بشقيها الديني والسياسي. فإذا أصدر زعيم ديني- سياسي مثل الخميني حكماً بإباحة هكذا عمل فعندئذ نقرأ على الإسلام السلام. لذا أرى من واجبي ككاتب أن أثير هذه المسألة الخطيرة إلى الرأي العام وألفت إليها انتباه أعلى المراجع الدينية والسياسية ومنظمات حقوق الإنسان والطفولة بما فيها منظمة الأمم المتحدة.

الاغتصاب في الإسلام

وطالما نحن بصدد الاغتصاب في البلدان التي يطبق فيها حكم الشريعة مثل السعودية وإيران والسودان، أو المرشحة لهذا الحكم، مثل العراق ومصر وفلسطين وغيرها، أرى من الضروري أن أذكر أنه من الصعوبة بمكان، إثبات جريمة الاغتصاب الجنسي أو الزنا وفق الشريعة الإسلامية. فالمطلوب في إثبات هكذا جريمة وفق الشريعة وجود أربعة شهود عدول ذكور، على أن يكون كل منهم قد شاهد العملية الجنسية بالكامل أي الولوج penetrative sex ، أو ما يسمى باللغة الدينية (الميل أو المرود بالمكحلة). فالملامسات الجسدية بقصد الشهوة الجنسية بالقوة لا تعتبر اغتصاباً في الإسلام ما لم يرافقها ولوج جنسي يشهده أربعة شهود (ذكور) عدول. وقصة المغيرة بن شعبة، والي الخليفة عمر بن الخطاب في البصرة معروفة مع المومس أم جميل، ومفادها أنه بينما الوالي كان يمارس معها الجنس في كوخ من قصب أو سعف النخيل (صريفة)، هبت عاصفة، وطارت الصريفة فافتضح الوالي وهو في وضع مشين، شوهد من قبل أربعة أشخاص بالغين كانوا مارين بالصدفة. فرفع هؤلاء الأمر إلى الخليفة عمر الذي دعاهم مع الوالي إلى المثول أمامه في المدينة المنورة. وجرت المحاكمة أمام الخليفة، وقدم ثلاثة من الشهود وصفاً دقيقاً للعملية بما فيها (الميل بالمكحلة). أما الرابع فأيد معظم ما ذكره الشهود الثلاثة إلا إنه قال بأنه لم يشهد منظر الميل بالمكحلة. وهنا أمر الخليفة بجلد الشهود الثلاثة الأوائل وبرأ ساحة الوالي وأعاده إلى وظيفته في البصرة. وهذه الرواية مذكورة بأدق تفاصيلها في كتاب (تاريخ الطبري). ومن هنا نعرف أنه من المستحيل إثبات جريمة الاغتصاب، أو الزنا في الإسلام. ويدَّعي رجال الدين أن الإسلام فرض هذه الشروط الصعبة على إثبات الزنا أو الاغتصاب من أجل الستر. ولكن ماذا عن الاغتصاب؟ وأين حقوق الضحية؟ قد يعترض أحد فيقول أن جاء في الإسلام أن النساء مصدقات على فروجهن. ولكن في هذه الحالة، لماذا لا يمكن إثبات جريمة الاغتصاب في الدول التي تطبق فيها الشريعة الإسلامية وسأذكر مثالين أدناه.

المثال الأول، أتذكر قصة مأساوية قرأتها في الصحف، حصلتْ في السعودية في التسعينات من القرن الماضي حيث وقع اعتداء جنسي على تلميذ في مدرسة متوسطة من قبل عدد من المعلمين (gang rape)، وكان المجني عليه ابن أستاذ جامعي من إحدى الدول العربية. ولما قدم والد الطفل شكوى إلى السلطات المسؤولة ولم يستطع تقديم أربعة شهود وفق متطلبات الشريعة الإسلامية، عوقب هو (الأب) بالجلد بتهمة الكذب والافتراء.

المثال الثاني، مأساة النساء في باكستان. ففي مقابلة بثتها إذاعة بي بي سي قبل شهرين مع محامية في منظمة نسائية تدافع عن حقوق المرأة في باكستان. قالت أن جرائم الاغتصاب شائعة جداً في هذا البلد، ومعظمها على شكل اغتصاب جماعي من قبل شبان ما أن يروا فتاة تسير لوحدها في مكان خال حتى وانقضوا عليها كالذئاب على الفريسة وبغتصبونها. وفي معظم الحالات تبرئ المحاكم ساحة الجناة، وتحكم على الضحية بالسجن لعدم إمكانها جلب أربعة شهود ذكور. وقالت المحامية أنه خلال 25 سنة الماضية استطاعت المحاكم إدانة حالتين فقط بجريمة الاغتصاب. فهل يعقل في بلد مثل باكستان، البالغ شعبه 170 مليون نسمة أن تقع فيه خلال ربع قرن جريمتان فقط في الاغتصاب الجنسي؟ بينما هناك أعداد كبيرة من النساء حكمت عليهن المحاكم بالسجن في مثل هذه القضايا بدعوى الافتراء. وكما أفادت المحامية أن كثير من الضحايا ينتحرن لشعورهن بالخزي ونظرة المجتمع القاسية إزاء الضحية.

وأخيراً، وتحت ضغوط دولية، نجح الرئيس برويز مشرف في تغيير القانون والاعتماد على نتائج الفحوصات الطبية والمختبرية عن طريق الـ (DNA)، لإثبات أو نفي الجريمة. وكالعادة في مثل هذه الحالات، ثارت ثائرة رجال الدين ضد القانون الجديد لأنهم يرفضون الاعتماد على العلم، وقالوا أن هذا القانون يدعو إلى الإباحية... فتصور!! فهل هناك مهزلة أكبر من هذه؟

ورحم الله الإمام الشيخ محمد عبده حين قال قبيل وفاته:

ولستُ أبالي أن يُقال محـمد

        أبلّ أم اكتظت عليه المآثــم

*

ولكن ديناً قد أردتُ صلاحه

        أحاذر أن تقضي عليه العمائم.

لا شك أن هذا الدين مهدد، ولكن من قبل الإسلاميين السياسيين وليس من قبل العلمانيين كما يدعون.

يتبع

***

د. عبد الخالق حسين

بين التشييع العراقي والأخر المصري والشامي

* يقول الباحث محمد بن المختار في الندوة المسجلة ذاتها، إنه لاحظ من خلال دراسته أن التشييع المصري والشامي كان تشيعاً شكلياً أما التشيع العراقي فقد كان تشيعاً حقيقياً. ويعلل ذلك بأن التسنن سبق التشيع في الشام ومصر زمنياً وتجذر فيهما قبل التشيع الذي لم يخترق البنية النفسية والثقافية فيهما. أما في العراق فكان التشيع فيه منذ بدايات الإسلام وظل التشيع فيه متجذرا فلم يتأثر لا بالحروب الصليبية ولا بالغزو المغولي واعتقد أن هذه الفكرة قابلة للأخذ والرد إذْ أن غالبية قبائل العراق الشيعية اليوم كانت سُنية قبل قرنين.

* على عكس علاقة نور الدين زنكي السيئة بالشيعة الإمامية في بلاد الشام ومصر حيث اضطهدهم ونفى قادتهم فإن علاقة صلاح الدين الأيوبي بالشيعة الإمامية كانت جيدة جدا. مشكلته كانت مع الإسماعيليين وخاصة النزاريين الذين حاولوا اغتياله ثلاث مرات (يعترض سيار الجميل لاحقا على هذه المعلومة فيقول إن محاولات اغتيال صلاح الدين على يد النزاريين كان 15 محاولة وليست 3 مرات).

* آخر محاولة لإحياء الدولة الفاطمية واستردادها من صلاح الدين الأيوبي بواسطة انقلاب مسلح قادها الفقيه الشاعر عمارة اليمني. والطريف والملفت أن عمارة لم يكن شيعياً إسماعيلياً فاطمياً بل كان سنياً شافعياً مثل صلاح الدين السني الشافعي تماماً. ولكنه أي عمارة كان ممن يوالون الفاطميين بعمق وإخلاص وله قصيدة مشهورة في رثائهم مطلعها:

يا لائمي بهوى أبناءِ فاطمةٍ

لك الملامة إنْ قصرتَ في عَذَلي

*  و"فاطمةٍ" حُركت هنا بتنوين الكسرة مع إنها ممنوعة من الصرف للضرورة الشعرية. وحين فشل الانقلاب الذي قاده عمارة اليمني حكم الأيوبي بإعدامه فأعدِمَ شنقاً في شهر رمضان.

فرس جعلوا الأتراكَ سُنةً وأتراكٌ حولوا الفرسَ شيعةً

*  ومن طرائف التاريخ أيضا يقول الشنقيطي أن الترك السلاجقة دخلوا الإسلام على مذهب السنة على أيدي الفرس السنة آنذاك في عهد الدولة السامانية. وإن الفرس السنة تحولوا إلى شيعة على أيدي الترك الشيعة (أعتقد أن المتحدث يقصد على أيدي جماعة الشيخ الشيعي الإمامي الإذري التركي صفي الدين وابنه صدر الدين وحفيده علاء الدين الأردبيلي الصفوي الذين بدأ معهم تشيع إيران السنية في عهد حاكمها إسماعيل الصفوي. ع.ل).

* ويقول الباحث إن العامل المذهبي كان أقل العوامل تأثيرا في الجيل القديم من المؤرخين بدليل أن المؤرخ يحيى بن أبي طي الحلبي وهو شيعي إمامي وأول من ألف سيرة لصلاح الدين بعنوان " كنز المؤمنين من سيرة الملك صلاح الدين" ، أما المؤرخ ابن الأثير السني (لأنه كان مواليا للزنكيين وهم على المذهب الحنفي وليس شافعيا على مذهب صلاح الدين) والمؤرخ المصري المقريزي السني أيضا (ولكن لأسباب وطنية مصرية أي لأنه يرى الفاطميين مصريين وليسوا أجانب كصلاح الدين) فقد ألفا كتابين فيهما الكثير من النقد والاتهامات القاسية لصلاح الدين الأيوبي.

شيعة يدافعون عن صلاح الدين وسنة يهاجمونه

والغريب - كما يقول الشنقيطي في الندوة الثانية/ الرابط 2 - إننا نرى أن الشيعة المعاصرين لا يعتمدون على كتاب المؤرخ الشيعي يحيى بن أبي طي الحلبي المدافع عن صلاح الدين بل يكثرون من الاستشهاد بابن الأثير والمقريزي (السُّنيين) للطعن في صلاح الدين!

ويتوقف الشنقيطي عند كتاب حسن الأمين عن صلاح الدين وهو بعنوان "صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين" ويعتبره القنبلة الكبرى التي أسست لروح العداء لصلاح الدين في الثقافة الشيعية المعاصرة. لدرجة ان الأمين اتهم صلاح الدين بانه عميل للصليبيين وأنه تخلى لهم عن أرض فلسطين حتى أنه اتهمه بالصهيونية والتعاون مع اليهود يوم لم تكن هناك صهيونية. (ومن حسن الأمين استمد بعض الكتاب العراقيين الشيعة مادتهم في ندواتهم التلفزية وكتبهم وكنت قد تصديت لهم في سلسلة مقالات قبل سبع سنين. ع.ل)

* وأخيرا، فربما يتفاجأ بعض القراء حين يعلمون أن الباحث محمد الشنقيطي إسلامي سلفي من حيث التوجه الفكري والأيديولوجي الشخصي وقد يكون محافظا في بعض قناعاته الشخصية الإسلامية في نظر البعض بل قد لا يصدق البعض أن الشنقيطي يدافع عن ابن تيمية ويضعه ضمن سياقه التأريخي الحقيقي ولكنه دفاع نقدي هو الآخر ويعتبره مختطفا خضع فكره لتحريف وتوظيف ليس منه. ويمكن لنا أن نحسب موقفه من ابن تيمية على ملاك الإنصاف والحياد المحمودين للمؤرخ الموضوعي، وليس على حساب الأدلجة السلفية، وعلى الرغم من ذلك فربما يمكن اعتبار الشنقيطي - وأنا ممن يعتبرونه - الباحث الإسلامي الأكثر جرأة وموضوعية ودقة في المجال البحثي الأكاديمي، فهو حين يتكلم ويحلل مواضيعه منهجيا، ينسى أو للدقة يتناسى انتماءاته الفكرية والدينية الشخصية ويتذكر أنه مؤرخ وباحث في التأريخ فقط، ليكون أكثر حيادا وتجردا وحرية وجرأة في العمل وقد قالها صراحة حين انتقده البعض لأنه لا يحترم ما جاء في المصادر الإسلامية القديمة فقال "أنا حين أطلع على المصادر القديمة لا أطلع عليها كمقدسات بل كوجهات نظر لبشر مثلنا كانوا يعيشون في سياقهم التأريخي ولهم وجهة نظر".

 أو في رده على من شككوا في احترامه للقادة العظام وللصحابة فقال "القادة العظام على الرأس والعين ولكن هناك مبادئ وهناك أشخاص قادة، لأن قراءة التأريخ بطريقة قراءة المناقب ليست طريقة تأريخية، وإذا فعل ذلك واعظ على منبره أو كاتب صحافي فليس ذلك مقبولا ممن درس التأريخ وبذل فيه جهدا. أنا ضد تقديس التأريخ. وحتى تأريخ الصحابة ففيه جوانب مشرقة وأخرى معتمة. وأنا أرى أن قدسية المبادئ فوق قدسية الأشخاص، لأن الأشخاص يحاكَمون بالمبادئ أما المبادئ فلا تحاكَم بهم".

وأعتقد أن جوهر هذه المقولة للباحث الموريتاني الشاب قريبة جدا من فحوى المقولة المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب والتي تقول في إحدى صيغها: "الحق لا يعرف بالرجال، بل الرجال يعرفون بالحق، فاعرف الحق تعرف أهله". وتلك كانت خاتمة موفقة وذكية لكلام المتحدث.

***

علاء اللامي

........................

1- رابط يحيل إلى الفيديو موضوع الحديث:

https://www.youtube.com/watch?v=eE9pufjrgFA

2- رابط آخر لجلسة أخرى للشنقيطي مع مجموعة من الحضور حول موضوع أطروحته للدكتوراة "أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية" وهي من تاريخ لاحق للندوة السابقة (بعدها بأربع سنوات) وفيها يتراجع الشنقيطي بعض الشيء عن الموضوعية التي يعتمدها فيصرح ببعض الاستشرافات المرتجلة ومنها توقعاته بتراجع التشييع بسبب الأداء السيء كما قال للشيعة. وهذا الاستشراف يناقض الواقع إذْ أن العكس هو الصحيح فالأداء السيء للدول السنية العربية التي بدأت بالتطبيع مع العدو الصهيوني أو أنها نفضت يديها من القضية الفلسطينية وعقدت خمس دول منها معاهدات سلام معه، فيما تقود إيران الشيعية محورا مقاتلا لمقاومة العدوان الغربي الصهيوني وهذا الواقع هو ما سوف يسمح للتشيع السياسي والشعبي بالتقدم والانتشار على الأرجح مع أن الأمل يبقى في النأي عن هذه الأطروحات ذات النزعة التقسيمية الطائفية لمصلحة خطاب ديموقراطي شعبي مقاوم:

https://www.youtube.com/watch?v=9wLYOqP6t90

ما كنا نطرح ونجادل الفقهاء، ونشجب ما يريدون تطبيقه من أحكامهم، لولا وضعوا أنفسهم، أو وضعتهم الأحزاب الدّينيّة، في مثل هذه المواقف المحرجة حقاً لهم، فبسببها أخذنا نلتفت إلى محتويات رسائلهم، وما فيها من ارتداد على الزّمن، وليعذرونا عن ذلك، فهم مَن دفعوا إلى المواجهة.  

هذا، وسأستهل مقالتي بمشهدين: الأول، كنا في ندوة عن تطبيق الشّريعة (1993)؛ وبطبيعة الحال تأتي وصايا الفقهاء على النّساء في المقدمة، فانبرى أحد الإسلاميين - حزبه الآن متصدر الحملة لإعادة الأحوال الشّخصية إلى سلطة الفقهاء - قائلاً: أتعلم، أنّ للأمّ حقّها، في الفقه، بدفع الزوج أجرة لها على رضاعة طفلها؟ استغربت من هذا الطّرح الفظيع حقاً، الذي يجعل الأمّ أجيرةً، لا أماً يدر لبنها لطفلها، وهذا ما ورد في رسائلهم: "إذا طلبت الأمّ أجرةً للرضاع زائدة على غيرها، أو وُجد متبرع به، وكان نظر الأب الإرضاع مِن غيرها يسقط حقّ الحضانة" منها.

 الآخر: عندما صدر "بعد إذن الفقيه" (الأولى 2011، الرابعة 2024)، فيه خمسة فصول تخص النساء، ومنها فصل "عرائس الموت"، وفصل في الأحوال الشّخصية (188/ 1959)، المراد نسفه. حينها بُلغتُ أنّ شباباً كربلائيين، عقدوا ندوةً عن الكتاب، فتدخل أحد المعممين، شاكلاً على العنوان: "أي فقيه أعطى مؤلف الكتاب الإذن؟".  

بمعنى الفقه مِن اختصاصهم، وهذا لهم في العبادات، أو حقّ الله، لكنّ علاقات الآدميين ببعضهم بعضاً (المعاملات)، قابلة للجدل، ليس لهم الحقّ بحكم الدّنيا والآخرة، فالفقيه، بحسب الأوضاع التي يريدها الإسلاميون اليوم، هو مَن يحدد زواجنا، وطلاقنا، وميراثنا، ولا يريد أن نجادله بها، وكأننا نتعامل مع عالم في الفيزياء أو الرّياضيات، وليس بشؤوننا الاجتماعيّة، حتّى تجده دخل الفراش بين الزّوجين، وهذا الدّليل: "ليس لها اسْتِدْخالُ ذَكَرِ زَوْجِها، وهو نائمٌ بلا إذْنِه، ولها لَمْسُه وتَقْبِيلُه بشَهْوَةٍ"!  

أرأيتم كيف يفكرون، بسحبنا إلى عصور غابرة، يستخدمون أرقى التقنيات، ولا يفكرون بقفزة الزّمن التي جاءتهم بها. لا يدري المعترض على عنوان كتابنا أنه كان معاراً مِن عنوان "مَن لا يحضره الفقيه" للشيخ الصّدوق (تـ: 381هـ)، وهو بدوره استعاره من الطّبيب محمّد بن زكريا الرّازيّ (تـ: 313هـ) "مَن لا يحضره الطَّبيب".

لستُ كاتباً لتخطئة رسائل الفقهاء، في ما لو حُصرت في أزمنتها، لكن عندما تتعدى إلى الحاضر، يظهر النّفور منها، إلا عند مَن ظل مصدقاً أنّ مصيره في الدّنيا والآخرة مرتبط برضا الفقيه أو غضبه، لأنّ الحبل الذي يربطه بالله بيده، فقيل: "ذنبه برقبة عالم واطلع منها سالم"، أو "خل بينك وبين الله (أو الجنَّة) مطوع".

نقرأ حكمةً في التّراث، في أمر تبدل الأحكام بتبدل الأزمان، نُسبت إلى معاوية بن أبي سفيان (تـ: 60هـ)، نذكرها، مع علمنا، أنّ مَن نوجه إليهم كلامنا في شأن الأحوال الشّخصيّة، الساعين لتحقيق سلطة الفقيه، يعتبرون أقوال معاوية مزيفة، لكنها تبقى حكمة، بغض النّظر عن قائلها: "معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا هذا معروف زمان لم يأت (أو يأتي)" (البلاذُّري، جمل من أنساب الأشراف، التّوحيديّ، الذّخائر والبصائر).

توقفت رسائل الفقهاء، والتي يُنحل بعضها بعضاً، عند زمان واحد، ويمكن كانت تُعد معروفاً، لكن بتعاقب الأزمنة، اصطدمت بواقع آخر، فصارت محل استنكار في إدارة المعاملات، جاءت لحل مسألة في زمن ما له طبيعته الاجتماعيّة والثّقافيّة، فلا يمكنها البقاء مناسبة لكلّ زمان، فإذا كان المصحف القرآني قد نزل على مصالح العباد، وله أسباب نزول (القاضي عبد الجبار، كتاب المغني)، فكيف بصحف الفقهاء يا تُرى!

نصوص الفقهاء

نأتي إلى نصوص مِن رسائل الفقهاء، بخصوص الزّواج، ما كان يمكن قبوله قبل قرون، وما لا يُقبل بعدها، بل يُعدّ منافياً للإنسانيّة، فإذا كان غزو قبيلة لقبيلة، وأسر النّساء واستباحتهنّ كجوارٍ، مثلما حصل للإيزيديات العراقيات أخيراً، وكان قد تزوج من أسيرات الماضي صحابة وأئمة وأنبياء؛ صارت هذه الممارسة اليوم مرفوضة، في الوقت الذي كانت منسجمة مع التقاليد والأعراف السّائدة آنذاك، وهذا الكلام ليس لنا بل سمعناه مِن آية الله العراقيّ كمال الحيدريّ، وكان له رأي ضد التغييرات في الأحوال الشّخصيّة العراقيّة.

صار ما ورد في رسائل الفقهاء منافياً للزمن؛ ونأخذ الأشهر منهم، ممِن ذُكر الرجوع إليه في الأحوال الشّخصيّة، من دون ذكر الأسماء، كي لا يُفهم أنه تقصد لمراجع دون آخرين؛ وكان المشترك بينها هو "الاستمتاع"، في كلِّ فقرة من فقرات باب النّكاح، فما المرأة إلا وعاء متعة وآلة إنجاب.

1- ما يخص الزّواج والاستمتاع بالصَّغيرات، بينما الدول حددت سن الزواج بـ(18) سنة، ومنها العراق في قانون 188/1959:

- "لا يجوز وطء الزّوجة قبل إكمال تسع سنوات، دواماً كان النّكاح أو منقطعاً، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والتّقبيل والضّم والتّفخيذ، فلا بأس بها (الكثير من الفقهاء أضافوا الرّضيعة بالاسم)، ولو كان وطأها قبل إكمال التسع ولم يفضها لم يترتب عليه شيء غير الإثم على الأقوى، والفض هو التمزق الموجب لاتحاد مسلكي البول والحيض، أو مسلكي الحيض والغائط أو اتحاد الجميع".

- "ولو دخل بزوجته بعد إكمال التسع، ففض بكارتها لم تُحرم عليه، ولم تثبت الدِّية، ولكنّ الأحوط وجوب الإنفاق عليها، كما لو كان الفض قبل إكمال التسع، ولو فض بكارة غير الزوجة بزناء، أو غيره تثبت الدِّية، ولكن لا إشكال في عدم الحرمة الأبدية، وجود الإنفاق عليها". مثل هذا الرّجل، يُعاقب اليوم كمغتصب أطفال، ويُحال إلى مصحة نفسية.

- "يجوز اللمس والنّظر مِن الرّجل للصبية غير البالغة - ما عدا عورتها كما عُرف مما مرَّ - مع عدم التلذذ الشّهويّ والريبة، نعم الأحوط الأولى الاقتصار على المواضع التي لم تجر العادة بسترها بالملابس المتعارفة من دون مثل الصّدر والبطن والفخذ والإليتين، كما أنَّ الأحوط الأولى عدم تقبيلها، وعدم وضعها في الحِجر إذا بلغت ست سنين". لكن كل هذا يجوز إذا كانت خطيبة للرجل، مثلما تقدم، فتجوز الخطوبة والعقد حتّى لمن عمرها يوم واحد.

-"ما تعارف مِن إيقاع عقد الانقطاع ساعة مثلاً، على الصّغيرة أو الرّضيعة، أو ما يقاربها مِن أجل محرمية أمها على المعقود له، خلاف الاحتياط، بل لا بد مِن كون المدة بالعقد إلى حد تصلح المرأة للاستمتاع والتمتع، ولو بغير الوطء".

- "يجوز التمتع بالصغيرة، وإن كانت المدة قليلة، مع إمكان الاستمتاع بها بغير وطء، وإنما لا يجوز الدخول بها قبل بلوغها".

- "صحة العقد متعة للصغيرة لمدة لا تكون قابلة لاستمتاع فيها محل إشكال والاحتياط لا يترك".

2- ما يخص النَّفقة مقابل الاستمتاع والتأديب من أجله:

- "يجب على الزَّوجة التمكين (الاستمتاع الجنسي للرجل)، وإزالة المنفرات، وله ضرب النّاشز (التي تمتنع) مِن دون إدماء لحم، ولا كسر عظم، بعد وعظها، وهجرها على الترتيب، ولو نشز طالبته الزَّوجة، ولها ترك بعض حقِّها، أو كلَّه استمالةً، ويحل قبوله".

- شرط النفقة الاستمتاع: "ألا تكون ناشزة، وقد مر معناه، ألا تكون صغيرة غير قابلة للاستمتاع بها، أو كانت كبيرة، وهو صغير غير قابل لأنْ يستمتع بها".

- "لا يجوز للزوجة أن تخرج مِن بيتها بغير إذن زوجها، فإن خرجت بغير إذنه كانت ناشزاً، ولا نفقة مع النشوز، ولا يُحرم عليها سائر الأفعال بغير إذن الزوج، إلا أن يكون منافياً لحقّ الاستمتاع".

- عيوب الرجل الموجبة وللمرأة فسخ العقد: "الجنون، العنن، الجب الذي لا يقدر معه على الوطء، الخصاء وهو سل الخصيتين، أو رضهما".

- عيوب المرأة الموجبة وللرجل فسخ العقد: "الجنون، الجذام، البرص، القرن ما ينبت في فم الرحم يمنع الوطء، الإفضاء (إفضاء الصَّغيرة) العمى، الإقعاد". المرأة لا تطلب الفسخ في حال إصابة الرّجل بالأمراض المذكورة.

3- الحضانة وحالات سقوطها عن الأمّ:

- "مدة الحضانة (للأمّ) سنتان إن كان ذكراً، وسبع سنين إن كانت أنثى، وقيل في الذكر سبع سنين أيضاً". (في المادة 57 من قانون 188 لسنة 1959 عشر سنوات).

- "تسقط حضانة الأمّ لو تزوجت، ومثله سقوطها بإسقاطها"(لا تسقط عن الأب).

4- على المرأة دفع الفدية:

- إذا استوجبت الأمور وعجزت المرأة عن استمرارها مع زوجها، تخلعه مقابل دفع الفدية، كالتنازل عن مهرها، جاء في الخلع والمباراة: "الخلع هو طلاق بفدية من الزوجة الكارهة لزوجها". بينما استخدام الفدية عادة في العتق من العبودية، أو ما يدفعه القاتل لذوي المقتول، كي يحرر رقبته. مع إضافة "ويأخذ الزوج أكثر مما أعطاها".

هذا غيض من فيض مما ورد في رسائل الفقهاء، التي لا تناسب مجريات الزّمن، ويكون سلطة الفقيه بديلاً، وسلبيات ذلك تقع على المرأة، وعلى المجتمع العراقي، وروح التحضر، كارثية حقاً، فالأحوال الشّخصية وفق التغيير، أُلحقت برسائل الفقهاء، وما المحاكم المدنية إلا مكاتب تنفيذ.

***

د. رشيد الخيّون

بعض الملاحظات السايكولوجية والاجتماعية والسياسية في الهرولة لتعديل قانون الأحوال المدنية في العراق

 تفاقم الجدل في الشارع العراقي وفي أروقة البرلمان بشأن المخاوف من تمرير التعديلات على قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 والصادر في العام 1959، وسط شد وجذب يتركز على تداعياته السياسية والاجتماعية، بين فسيفساء التوجهات الدينية والمدنية والعرقيات المختلفة، فضلا عن أهداف الأحزاب الشيعية والسنية، وهو صراع يعكس جزء من صراع اعظم حول حسم وجهة الدولة العراقية، هل هي دولة دينية على نسق دولة ولاية الفقيه أو دولة طالبان أم انها دولة علمانية مدنية، أم انها خلطة عطار من هذا وذاك وتعيش دوما حالة اللا استقرار وتستجيب لمختلف الضغوطات على طريق اقناع الجميع على شاكلة توزيع المغانم في دولة منهوبة.

 وكان قانون الأحوال الشخصية في العراق قد أُقر عام 1959 في حقبة مؤسس الجمهورية العراقية آنذاك عبد الكريم قاسم، والذي يعتبر الى اليوم من ارقى القوانين في المنطقة لتنظيم الأحوال والحياة المدنية، وهو قانون يسري على جميع العراقيين دون تمييز مذهبي حتى الآن، لكن التعديلات الجديدة تشير في إحدى فقراتها على أنه "يحق للعراقي والعراقية عند إبرام عقد الزواج أن يختار المذهب الشيعي أو السني الذي تطبق عليه أحكامه في جميع مسائل الأحوال الشخصية، ويجوز لمن لم يسبق له اختيار تطبيق أحكام مذهب معين عند إبرام عقد الزواج، تقديم طلب إلى محكمة الأحوال الشخصية المختصة لتطبيق أحكام الشرع على الأحوال الشخصية، وفق المذهب الذي يختاره ويجب على المحكمة الاستجابة لطلبهم".

وينص مشروع القانون على أنه "إذا اختلف أطراف القضية الواحدة في الأسرة بشأن تحديد مصدر الأحكام الواجب تطبيقها في طلبهم، فيعتمد الرأي الشرعي فيها"، كما يلزم التعديل الجديد "المجلس العلمي في ديوان الوقف الشيعي والمجلس العلمي والإفتائي في ديوان الوقف السني بالتنسيق مع مجلس الدولة بوضع مدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية وتقديمها إلى مجلس النواب للموافقة عليها خلال 6 أشهر من تاريخ نفاذ هذا القانون".

 ويشمل التعديل كذلك تصديق محكمة الأحوال الشخصية على عقود الزواج "التي يبرمها الأفراد البالغون من المسلمين على يد من لديه تخويل شرعي أو قانوني من القضاء أو من ديواني الوقفين الشيعي والسني بإبرام عقود الزواج، بعد التأكد من توافر أركان العقد وشروطه وانتفاء الموانع في الزوجين".

وفي نهاية تموز/يوليو، سحب البرلمان التعديل من الطرح بعد اعتراض نواب كثر عليه، إلا أنه عاد مجددا إلى الطاولة وحظي بقراءة أولى في جلسة في الرابع من آب/أغسطس بعد تلقيه دعم تحالف أحزاب شيعية يتمتّع بالغالبية داخل البرلمان العراقي. وليس واضحاً حتى الآن ما إذا كانت محاولات تعديل القانون ستنجح بعد محاولات عدّة خلال العقدين الماضيين لتغييره.

لم يكن هذا الأجراء جديدا ولا وليد الصدفة بل انه يعبر عن عقلية متخلفة يجسدها الجزء الاكبر من احزاب الاسلام السياسي الطائفي في البرلمان العراقي والتي تعكس الموقف المتخلف من المرأة وحقوقها المختلفة، ومن ضمنها حق الأمومة ورعاية اطفالها، وقد انتهجت تلك الاحزاب ومنذ سقوط الدكتاتورية بعد 2003 نهجا معاديا لمبدأ المساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات، ومما يثير غضب الشارع العراقي والنساء بشكل خاص ان هناك برلمانيات نساء يقفن مستميتات ضد المرأة وحقوقها ومعظمهن من كوتة الاسلام السياسي ويجسدن بالملموس الموقف المتخلف من المرأة وابقائها اسيرة لثقافة المجتمع الذكوري الذي يعيد انتاج اضطهاد النساء بواجهات " مقدسة "، رغم ان هناك ملامح جبهة نسوية رصينة للوقوف ضد التعديلات المشينة.

لقد تعرضت الاوضاع الاجتماعية للنساء والفتيات الى انتهاكات خطيرة على مر العقود الاخيرة جراء الحروب العبثية التي اقدم عليها النظام السابق وتركت آثارها في ظواهر عديدة، ابرزها الترمل بفقدان الزوج وتحمل الزوجة اعباء الإعالة وتضيق فرص العيش الكريم في التربية والتنشئة الاجتماعية للفتيات وللأسرة بصورة عامة، وأشد اوضاع المرأة تراجعا ما حصل لها بعد عام 2003 بدءا من الاحتلال ومرورا بصعود التيارات والحركات والاحزاب الدينية والطائفية الى السلطة، وصولا الى عودة أثر الاعراف والتقاليد القبلية والعشائرية، وكان للحروب الداخلية وما سببته من تهجير ونزوح وتشتيت للمكونات، وتدهور الحياة الاقتصادية وتدني مستويات العيش وانتشار البطالة على نطاق واسع وفي اوساط النساء المتعلمات وفي المجتمع بصورة عامة، أثره الواضح في تصدع منظومة الاستقرار القيمي وتدهور في المعايير وانحسار لخيارات التكافئ والتكافل الاجتماعي وقد جعلت من الحياة الاجتماعية أكثر قتامة. ويكفي ان نشير هنا الى حجم الكارثة الاجتماعية عندما نتحدث عن نسبة العوانس وقد بلغت اكثر من 80%، كما تجاوز عدد الارامل والمطلقات المليونين أمراة، وبلغ حجم الأيتام والارامل خمس السكان، وتصاعد نسبة السكان دون خط الفقر الى 40%، الى جانب زواج القاصرات دون 18 سنة، وبعضها لا يتجاوز 11، 12 سنة.

الأم هي الحلقة الأولى في حياة الطفل والأسرة، لما لها من دور عظيم في إعداد وتنشئة الأجيال ، ولما يقع على عاتقها من مسؤليات في إعداد الطفل وتربيته، وبعاطفة الأمومة التي لديها تمنحه مشاعر الدفء والحنان، لما تشكله من علاقة نفسية وبيولوجية بينها وبين أولادها وبناتها، والأمومة هي أكبر وظيفة للمرأة وهبتها لها الطبيعة في صراعها للبقاء لتكون بها الحياة، فهي رمز الحياة واستمرارها؛ وتعتبر أقوى الغرائز لدى المرأة وتظهر لديها من طفولتها المبكرة فنجد الطفلة ترعى أخواتها الذكور وتعتني بهم وتجد لديها العديد من الدمى والعرائس التي تمارس من خلالها دور الأم.

الأمومة هى علاقة بيولوجية ونفسية بين امرأة ومن تنجبهم وترعاهم من الأبناء والبنات. وهذا هو التعريف للأمومة الكاملة التى تحمل وتلد وترضع (علاقة بيولوجية) وتحب وتتعلق وترعى (علاقة نفسية) . وهذا لا ينفى أنواعاً أخرى من الأمومة الأقل اكتمالاً كأن تلد المرأة طفلاً ولا تربيه فتصبح فى هذه الحالة أمومة بيولوجية فقط ، أو تربى المرأة طفلاً لم تلده فتصبح أمومة نفسية فقط. هذه الأدوار للأم عندما تلد وعلى المستويين البيولوجي والنفسي يجب ان تشبع بقدر هادئ ومعقول استجابة لأشباع غريزة الأم البيونفسية في رعاية اطفالها، وفي سياقات طبيعية ومقبولة قد تحل الخالة او العمة او الجدة نسبيا مكان الأم على المستوى النفسي او لصعوبات مؤقتة على المستوى البيولوجي"كالأرضاع"، وخلاف ذلك وعلى مستوى اكراه الأم لغير حضانة اطفالها فأنه أمر يهدد بمخاطر واضطرابات نفسية خطيرة وخاصة اذا كانت مؤظرة بكراهية من نوع خاص بين "الشريكيين " وعدم قبول الآخر بفعل عوامل كثيرة ومتعددة.

يالتأكيد هناك عوامل تؤطر استقرار الأسرة ومنعها من التصدع، من بينها الاستقلال الاقتصادي للشريكين وخاصة عن أبوي وأم الشريكيين، وكذلك العمر المقبول للزواج حتى ما بعد 20 عاما، فالنضج الزمني يلعب دورا في انعكاساته على العمر العقلي وخاصة في تفاوت غنى البيئات المختلفة وبالتالي فالشراكة هي عقلية مقترنة بزمن مقبول. وفي عراق ما بعد 2003 ومنفتح على مصرعيه لمختلف التيارات الدينية وغير الدينية والانعتاق من العزلة العالمية التي كان يعيشها العراق مقابل انفتاح على الآخر غير مدروس وصراع قيمي على أشده بين العشيرة والمدينة وقيم الانفتاح التي تهواها النفس بفطرتها في صراعها مع دين سياسي يكرس ازدواجية الأخلاق ويحلل الحرام ويحرم الحلال ويتحالف مع قيم التخلف والردة وفي مقدمتها العشيرة ويتشبث بالسلطة السياسية، فلا نستغرب ان الوضع يؤسس لمختلف الأنهيارات والنكسات والمصائب، والمرأة كعادتها وبفعل استفحال الذكورية وعدوانيتها هي من اسهل الضحايا في القتل والتنكيل وحرمانها من امومتها، الى جانب اصابتها بمختلف الأضطرابات النفسية والعقلية.

أن تقدم المجتمعات يقاس بمدى تقدم المرأة فيه ومساهمتها في الحياة العامة، لقد اصاب المرأة شتى صنوف الأذلال والقهر والأستعباد جراء الظلم الذي وقع عليها تاريخيا وحاضرا، والمرأة العراقية اليوم بين عاطلة عن العمل وأرملة ويتيمة ومطلقه وعانس وحبيسة المنزل، لا نستغرب من تداعيات ذلك على سلوكيتها اتجاه اطفالها، وخاصة عندما تبلغ الحال حدا مرضيا فأن الضحايا الأقرب هم الاطفال. أن حقيقة كون اللامساواة بين الجنسين وما يترتب عليه من اقصاء للمرأة هو نزوع ثقافي أولا، يكفي أن نرى عمق التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تجري في البلدان المتقدمة، والتي قامت على خلفية ظهور الفكر التنويري وانتعاش حركات الإصلاح والمساواة الاجتماعية، ولاحقا تعزيز التقاليد والاحترام والالتزام بقرارات وتوصيات المنظمات والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق المرأة، وعدم تجاهل مطالب الحركات التحررية النسائية اليومية منها والمستقبلية. ولا نقول أن ما يجري في البلدان المتقدمة بخصوص النساء هو نموذجي ولا يمكن الطعن فيه،لأن في ذلك هو مجافاة للحقيقة في الكثير من وجوهها، ولكن المقارنة مع ما يحصل في مجتمعاتنا هو الذي يضعنا في صورة التفاوت المريع.

اليوم قد يكون من السهل على التنظيمات السياسية الدينية المتطرفة في البحث عن مبررات لأقصاء المرأة من ميادين الحياة المختلفة وانتهاء ضربها في امومتها في ظل بيئات متخلفة تعيد انتاج عورة المرأة ودونيتها كثقافة ذكورية سائدة، وان التذرع بعدم كفاءة الأنثى تربويا في الأمومة والرعاية لغاية الثامنة عشر من عمر الطفل يشكل جزء من منظومة الارهاب الفكري والسلوكي لأضطهاد المرأة الأم وعدم السماح لها بأداء دورها التربوي في الامومة والاعداد الاولي.

لقد فشلت البرلمانات العراقية ما بعد 2003 في التشريع لبناء أسس دولة المواطنة وبناء عراق آمن بعيدا عن المليشيات وقوى اللادولة كما فشل في التشريع لمحاربة الفساد الذي نخر الدولة وأهدر مواردها، واخفق في وضع حد للسلاح المنفلت الذي قتل الابرياء والسلميين في احتجاجات اكتوبر، ولم يشرع بما يضمن سلامة العملية السياسية والديمقراطية في البلاد ولم يستطيع وضع للأحزاب المليشياوية التي تقبع تحت قبة البرلمان وتسهم في صياغة اكثر قوانينه اجحافا بحق الشعب والدولة والمجتمع، ولكن البرلمان شاطر في التعبئة المشوهة لهدم الأسرة والمجتمع والعبث في الطفولة لتعزيز الثقافة الذكورية وبالأستعانة من البرلمانيات النساء ذات الثقافة الذكورية العدوانية اتجاه نساء من بنات جلدتها. 

قد لا نستغرب من وجود لوبي عصي ضد المرأة العراقية فأن مقترح تعديل  قانون الأحوال الشخصية المرقم 188 لسنة 1959 يعكس مزاج الكراهية للمرأة رغم الأدعاء الشكلي بأحترامها. ولكن في العراق وبعد تجربة اكثر من عقدين من الزمن من تجربة الأسلام السياسي في الحكم ان هناك وعي بديل دخل البيوت العراقية، تتجسد ملامحه في التوق الى المساوة بين الجنسين في مناحي الحياة المختلفة، ويصطدم هذا مع اجندة الأسلام السياسي في اعادة انتاج الثقافة الذكورية لأغراض بقائه، وبالتالي فأن كل التشريعات المتوقعة والمجحفة من قبل السياسين ذوي الثقافة الذكورية والسياسيات ذات التوجه الذكوري لا تعني ابدا تغيرا سريعا في الوعي العراقي صوب الاستسلام بل ان الوعي التراكمي نحو دولة المواطنة والحق والمساواة بين الجنسين سيجد ضالته بعد ان شق طريقة بألاف الضحايا والسشهداء من اجل عراق صالح للجميع إلا القتلة. نعم لا لتعديل قانون الأحوال المدنية رقم 188 للعام 1959، ولا لثقافة الأغتصاب المشرعن ولا لعهد الجواري.

***

د. عامر صالح

السنة والشيعة خلال الحروب الصليبية

سأحاول في هذا النص أن أشرك القراء في الفائدة المعرفية والمتعة الثقافية عبر استعراض محتويات فيديو ندوة للباحث الموريتاني د. محمد بن المختار الشنقيطي لما في كلامه وبحوثه التاريخية من جرأة كبيرة وجِدة نقدية تحليلية لا تهاب القمع التقليدي وحياد منهجي ملحوظ وذاكرة خصبة ومتوهجة تثير الإعجاب.

يتكلم الباحث في هذه الندوة عن موضوع تأثير الحروب الصليبية (1096 – 1291م) على العلاقات بين السنة والشيعة آنذاك ويهشِّم الكثير من الرواسخ الصنمية المكررة والزائفة حول الموضوع. وقد سرني على الصعيد الشخصي أن كلامه، وهو الباحث المتخصص المرموق، أعطى مصداقية - بشكل غير مباشر أو مقصود - لما كتبته من دراسات دفاعاً عن صلاح الدين الأيوبي وحول العلاقات الطائفية بين الشيعة والسنة في عهد تلك الحروب. علما بأني نشرت ما كتبت قبل سبع سنوات ولم أكن قد اطلعت على آراء الشنقيطي بعد، رغم أنه كان قد نشر آراءه قبل أكثر من 12 عاما كما يشير تاريخ نشر فيديو الندوة، أي أنه سبقني في ما ذهبت إليه.

من الطبيعي أن يختلف المشاهد هنا وهناك معي أو مع الباحث الشنقيطي في التفاصيل، ولكن المهم، وربما الأهم، هو الفائدة الأكيدة من كل ما قيل من كلام موثق لم نألفه من المؤرخين التقليديين المحافظين، ويبدو ان بعضهم كان حاضرا في الندوة. وقد استفزته على الأرجح نقدية الشنقيطي؛ فالمؤرخ العراقي المحافظ سيار الجميل الذي تولى إدارة الندوة بدا وكأنه فوجئ بهذه الجرأة والكفاءة البحثية فراح يلقي المواعظ والتحذيرات البالغة حدود التوبيخ على الباحث الشنقيطي بعد انتهاء هذا الأخير من محاضرته. بل وجرده من صفة المؤرخ وقال "اعتبره في هذه المحاضرة مغامراً وليس مؤرخا". وكأن الجميل يعتذر لأصحاب الدار "المركز العربي بإشراف عزمي بشارة" عن هذه الورطة التي وقع فيها بدعوة الشنقيطي للندوة لأن هذا الأخير هشَّم أصناما كثيرة في الكتابة التأريخية التقليدية العربية كما سيلاحظ المشاهد وقد ظل الجميل متهيبا ومحافظا حتى حين كان يشيد بآراء الشنقيطي ولنا في ذلك دلالات مهمة ومنتجة للأفكار. وحسنا فعل الشنقيطي برده الحازم وغير المباشر على آراء الجميل.

سأترككم مع هذه الندوة على أمل العودة إليها في دراسة شاملة مستقبلا، ولكنني قبل ذلك أود تسجيل بعض اللمحات الطريفة أو الغربية التي وردت في كلامه كنوع من الإبراز لها والإضاءة عليها مع بعض الاستدراكات عند الضرورة:

غلبة التشيع في بلاد الشام

* يرى الشنقيطي أن بلاد الشام كانت سُنية منذ البداية، لأنها كانت مهد الدولة الأموية. ولكنها أصبحت ذات غالبية سكانية شيعية إسماعيلية وإمامية بعد ذلك. ولم يتراجع التشيع على مستوى القاعدة الشعبية فيها إلا خلال الحروب الصليبية وفي العهد السلجوقي التركي الذي اضطهد الجميع. وخلال تلك القرون قامت في بلاد الشام أربع دول شيعية هي المرداسية والعقيلية والحمدانية ودولة بني عمار في طرابلس. والملفت إنك حين تقرأ في الموسوعات والكتب المعروفة وخاصة على الانترنيت فلن تجد أية إشارة الى شيعية هذه الدول غالبا، ربما باستثناء الدولة الحمدانية، أو إلى شيعية الغالبية السكانية في بلاد الشام قبل الحروب الصليبية.

* كانت الدولة المرداسية في حلب دولة شيعية. وانتهت بأن أعلن الشيعة بزعامة محمود المرداسي تغيير ولاءهم المذهبي والتسنن والاستسلام للسلجوقي التركي ألب أرسلان لتفادي الإبادة الجماعية بسيوف قواته. وافق رجال الدين الشيعة الحلبيون على اقتراح أميرهم المرداسي ولكن جمهورهم من العامة رفض ذلك، ولكن الاستسلام كما يبدو تم في نهاية المطاف.

السنة والشيعة في خندق واحد

* يقول الشنقيطي، على العكس مما يوجهه السلفيون السُّنة من اتهامات للشيعة بأنهم كانوا طابورا خامسا وعملاء لمصلحة الصليبيين، أو مما يوجهه السلفيون الشيعة للسنة بأنهم كانوا متخاذلين ومتواطئين في مواجهة الصليبيين، على العكس من ذلك نجد السنة والشيعة الإمامية قاتلوا ضد الصليبيين في خندق واحد. ويأتي الباحث بعدة أمثلة موثقة بالأسماء والتواريخ تؤكد ما ذهب إليه. في حلب قاد القاضي الشيعي أبو الفخر بن الخشاب المقاومة ضد الصليبيين، وذهب إلى مدينة ماردين التي يحكمها الترك السنة، وجاء بجيش دعم ومن طريف ما يرويه مؤرخ حلب ابن العديم قوله إن الجنود الأتراك فوجئوا بأن من يقودهم ويحرضهم على القتال قاض معمم فقالوا مستغربين: هل جئنا من بلادنا لنقاتل تحت قيادة رجل معمم؟ وممن كتبوا عن هذه الحادثة أمين معلوف في كتابه باللغة الفرنسية (تُرجم إلى العربية) عن الحروب الصليبية وخصص فصلا لهذا القاضي بعنوان "مقاوم بعمامة" وكأنه يستغرب أن يكون المقاوم بعمامة! ويضيف الباحث الشنقيطي في موضع آخر أن هذا القاضي المقاوم ابن الخشاب اغتاله الشيعة النزاريون لأنهم يعادون الشيعة الإمامية كما يعادون السنة.

* أقدم مصدر تأريخي للكلام عن الأتراك الأوائل والفايكنز هي رسالة أحمد بن فضلان البغدادي مبعوث الخليفة العباسي المقتدر بالله في القرن العاشر الميلادي. ووردت فيها أوصاف نادرةٌ جداً لشعوب منها: الأتراك الغُزِّية وغيرهم من الشعوب التركية غير المسلمة آنذاك، أو حديثة العهد بالإسلام، والصقالبة أو البلغار الذين الوثنيين، والخزر المتهودين الذين ربما يكون ابن فضلان قد عبر بلادهم في طريق عودته، الفايكنغ الوثنيين. والطريف يقول الشنقيطي أن الأمتين اللتين كانتا وثنيتين آنذاك أصبحتا طرفين في الحرب الصليبية الطاحنة بعد ثلاثة قرون من رحلة البغدادي: فالأتراك الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام أصبحوا مسلمين متشددين والفايكنغ الوثنيون صاروا مسيحيين متشددين. وللدقة فالفايكنغ كانوا طرفا ضمن مجموعة أطراف صليبية في الحرب الصليبية.

العراق مركز الزلزال الطائفي

* يدلي الباحث بملاحظة مهمة عن تاريخ العراق الطائفي فيقول: "العراق في تاريخه الإسلامي كله لم يسيطر عليه السنة ولا الشيعة من الناحية العددية والثقافية رغم أن الغلبة من الناحية السياسية تكون لأحد الطرفين أحياناً آنذاك (للدقة: كانت الغلبة أو السيطرة السياسية والعسكرية في العراق للشيعة لمرة واحدة في العهد البويهي. ع.ل). كان التسنن مثلا هو الغالب سكانياً في الموصل أما في الكوفة والحلة فكانت الغلبة للتشيع وكانت بغداد مختلطة.

* ويرى الشنقيطي أن العراق هو قلب الأزمة الطائفية في العالم الإسلامي دائما، ومنه تسيح وتتمدد الأزمة في أنحاء هذا العالم الإسلامي كله. وكانت 90 بالمئة من الصراعات بين السنة والشيعة في بغداد، خلال مئتي عام، كانت بين حيين هما الكرخ ذي الغالبية الشيعية وحي باب البصرة ذي الغالبية السنية الحنبلية. وكان أحمد بن حنبل صاحب المذهب المتشدد المعروف باسمه بغداديا أصيلا. أعتقد أن الباحث يقصد بالحيين "حي القلائين" في جانب الرصافة وهو معقل السنة، وحي أو جانب الكرخ الشيعي. وكنت قد كتبت ذات مرة عن بعض مظاهر هذا الصراع الطريفة أو الغريبة في منشور بتاريخ 24 آذار مارس من العام الجاري.

وفي موضع آخر من الندوة، يقول الباحث محمد الشنقيطي "في مصر فشلت الدولة الفاطمية في تحقيق اختراق طائفي للجمهور المصري الذي بقي سنياً. وحتى النخبة الشيعية الإسماعيلية في القاهرة لم تكن من أصول مصرية بل كانت مغاربية من قبيلة كتامة البربرية. (أتحفظ على هذا الاستنتاج للمحاضر وكنت قد أتيت بأمثلة موثقة من مؤرخي تلك الفترة في دراستي عن صلاح الدين في مصر الفاطمية تؤكد أن الحكام الفاطميين حققوا اختراقاً في جمهور محكوميهم المصريين ولكنه قد يكون اختراقا محدودا ولكنه يبقى مهما حيث أكد بعض المؤرخين السنة ومنهم ابن الأثير أن صلاح الدين تردد طويلا في إنهاء الخلافة الفاطمية المحتضّرة خوفا من تمرد عامة المصريين عليه. حتى أن صلاح الدين لم يجد رجل دين سني مصري واحد يجرؤ على إلقاء خطبة الجمعة باسم الخليفة العباسي خوفا من الجمهور المصري فاستعان برجل سني جاء من الموصل مصادفة وألقى الخطبة. ع.ل)، أما في الشام فكانت الغالبية شيعية إمامية وكان الحكام سُنة أما الدويلات الشيعية الثلاث سالفة الذكر فقد قضى عليها السلاجقة الترك الذين هم على المذهب الحنفي. ولم يبقَ من الدويلات الشيعية في الشام إلا دولة بني عمار (وهم من قبيلة كتامة البربرية موالون للفاطميين) في طرابلس والتي دخلت في مواجهة حربية مع الصليبيين وكانت الحرب بينهم سجالا الذين استولوا عليها في نهاية المطاف. ويذكر الباحث أسماء بعض المؤرخين الذين أكدوا هذه المعلومات عن الوضع الطائفي في الشام ومنهم الرحالة الفلسطيني شمس الدين المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم" وناصر خسروا الذي زار الشام قبل نصف قرن من الحروب الصليبية (ومؤرخ آخر اسمه غير واضح ولم أتوصل لمعرفته وربما كان يقصد المحدث والمؤرخ ابن الزبير الثقفي الغرناطي.ع.ل). يتبع.

***

علاء اللامي

ما ينشره المسلمون على الفضاء الأزرق وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي يُلخص لنا حالة الأمة الإسلامية، دون أن نحتاج إلى مراكز بحث متخصصة ودراسات ميدانية وتقارير دورية. مجرد جولة خاطفة عبر تدوينات وتعاليق فقط عينة بسيطة ممن يحملون أسماء عربية وإسلامية من الرجال والنساء، من شأنها أن تكشف للمتابع العادي قبل المتابع المتخصص عن حالة المسّ الأخلاقي والسلوكي والاجتماعي والهوياتي الذي يتخبط فيه الكثير من المسلمين في عصرنا الحالي. أما الأزمة السياسية والاقتصادية والعلمية المتردية لأغلب البلدان الإسلامية فلا داعي لإثارتها هنا، لأنها كما نعتقد انعكاس منطقي وواقعي للأزمة الأخلاقية والاجتماعية والمعرفية، ومن المتوقع أن لا تفضي الحقبة الراهنة إلى تطور أو تغير ولو نسبي، ما دام معظم الاستراتيجيات التنموية المعتمدة مستورة من سياقات أجنبية لا تمت بصلة إلى مجتمعاتنا المسلمة، التي تختلف عنها عقديا وتاريخيا وسوسيولوجيا وقيميا. لذلك، نرى أن المحاولات التحديثية التي تمّت منذ التحرر المجازي للبلدان العربية والإسلامية إلى حد الآن، لم تتجاوز ما هو شكلي و"موضوي" وتفاعلي سالب.

التطور حسب نظرنا المتواضع ينبغي أن ينطلق من قابلية ذاتية وداخلية، تُسخر مكاسب الحضارات الأخرى ومنجزاتها لصالح الذات، تماما كما صنع أجدادنا قديما. لكن اليوم يحصل العكس، لأننا نسخر ثرواتنا وخيراتنا لصالح الآخر؛ فالآخر الغربي أو الروسي أو الصيني هو المستفيد الأكبر من عمليات النقل الحرفي لنماذجه الصناعية والتنموية والتكنولوجية، ولا يتبقى لنا إلا الفتات الذي لا يساوي شيئا مما يُنفق في استيراد الأجهزة الطبية والصيدلية والرقمية والتسليح، وغير ذلك كثير.

وهذا يعني أنه قبل الخوض في التخلف الاقتصادي والتقهقر السياسي للمسلمين اليوم، لا مناص من التريث عند تخلفهم الأخلاقي والاجتماعي بكونه أم المشكلات وآفة الآفات، وهي ظاهرة خطيرة تحمل بين طياتها أكثر من مؤشر "سلبي" على مآل المسلمين في المستقبل؛ دولا وشعوبا.

ولا بد أن ننمذج لهذه الوضعية الحرجة حتى يكون كلامنا واقعيا. ونكتفي هنا بمثالين ملموسين ومعيشين. يتعلق المثال الأول بما يحصل لأشقائنا من تنكيل وإبادة ومحو من الوجود، بينما معظم الدول العربية والإسلامية غائبة تماما، ولا تحرك ساكنا لما يجري منذ حوالي سنة كاملة. بل وهناك من الدول البعيدة عنا؛ دينا وثقافة وتاريخا وجغرافيا هالها ما يحدث، فاستنكرت ذلك أيما استنكار، بالمواقف السياسية والبلاغات الإعلامية، بل وحتى بالمحاكمات القضائية للعدو.

وإذا سلمنا جدلا بأن الدول الإسلامية تختلف سياسيا وإيديولوجيا مع قادة المقاومة هناك؛ فما ذنب الشعب الأبي البريء؟ ألا يستحق على الأقل تنديدا رسميا بما يتكبده من تقتيل فظيع؟ ألا يستحق تدخلا عاجلا وحازما لدى الأصدقاء الحلفاء؟ هذا يعني إذن، وبلا شك، أن الأمة العربية والإسلامية تشهد سقوطا أخلاقيا، قبل أن نتكلم عن السقوط السياسي والعسكري؛ سقوطا عارما تساقطت معه قيم المروءة وإباء الضيم والكرم والشجاعة والحِلم التي تعلمناها من الشعر العربي الجاهلي، ونحن أطفال في المدرسة. وتساقطت معه أيضا مكارم الأخلاق التي جاء بها ديننا الإسلامي الحنيف، من أخوة وكرامة ومساواة وعدالة.

المثال الثاني يحيل على الألعاب الأولمبية التي تُنظم هذه الأيام في باريس، وقد حجّ إليها آلاف العرب والمسلمين من لاعبين ومشجعين في حقبة تاريخية وسياسية حرجة، تمر منها الأمة الإسلامية، حيث يُجتث أحد أذرعها بكونه آخر معقل للذود عن مسرى نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم. وكان من الأليق بالمسلمين أن يقاطعوا هذه الألعاب، ليظهروا للعالم على الأقل بشكل رمزي رفضهم القاطع لما يتعرض له أشقاؤهم. لكن وأسفتاه! لم يبال أحد لهذا الأمر، وكأن أولئك لا تجمعنا بهم، لا آصرة الدم، ولا رابطة العقيدة!

وحتى إذا افترضنا (كما قد يفسر البعض) أن تلك الألعاب محطة مهمة للحضور الإسلامي عبر الرياضة التي وصتنا السنة النبوية بممارستها، ومن شأن المسلمين الحاضرين أن يؤثروا في غيرهم بأخلاقهم الرفيعة وعاداتهم المتميزة، (كما حصل أثناء كأس العالم الأخيرة في قطر)، بل ويمرروا القضية من خلال رفع الأعلام والشعارات والهتافات والنقاشات الهامشية، وغير ذلك. لكن كل ذلك لم يحدث للأسف الشديد، لأن الكثير من العرب والمسلمين انساقوا مع سراب القومية والإثنية والعصبية المقيتة على حساب الأخوة الدينية التي تجمعهم، فانعكس ذلك في سلوك الكثيرين، الذي لم يخل من عنف لفظي، وإساءات متبادلة، وإحياء للنعرات القبيلة، وإذكاء لنيران السياسة، ومتابعة بشبق لمظاهر العري الأنثوي، حتى صارت شبكات التواصل الاجتماعي بمثابة حبل مكشوف للعالم؛ ننشر عليه غسيلنا المتعفن والمنتن ليلا ونهارا.

ألا يدل هذا كله على أن المجتمعات الإسلامية المعاصرة تشهد انهيارا أخلاقيا جارفا غير مسبوق؟ ألا يمكن تفسير تقهقرنا السياسي والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي بهذا النكوص الأخلاقي الغير مشهود؟ ألا تحمل هذه الأحداث والنوازل المتعاقبة إنذارا ربانيا يحذرنا من الانزياح الذي زغنا إليه، ولا محالة قد يليه انجراف ساحق إن لم ننتبه من غفلتنا العميقة قبل فوات الأوان؟

وصدق الله العظيم الذي قال في محكم كتابه:{فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا.}،العَنكبوت: 40.

***

بقلم: التجاني بولعوالي

الشعب الذي عانى الترويع والتغييب والجريمة المنظمة والقسوة والحرمان هو من أكثر الشعوب التي تحتاج لزمن ليس بالقصير كي تنعم براحة النسيان بعد أن روعها عمق المأساة وبشاعة الجرائم التي اقترفت بحقها وحق الوطن والإنسانية.

لا يختزل توصيف بشاعة وقسوة وقائع جرائم القتل والغدر بالخصوم ومخالفي الرأي على الفعل الذي طال قتلى الأحكام السلطوية أو الخصومات السياسية من الذين غيبوا واختفت آثار أجسادهم منذ العهد الملكي وما أعقبه في العهد الجمهوري الأول وأثناء فترتي حكم حزب البعث، وإنما هناك فئات ومجاميع لمخالفي رأي وضحايا نزاعات مجتمعية، وآخرون دون اتجاه فكري أو انتماء سياسي محدد، بينهم أعداد كبيرة من أطفال ونساء وشيوخ صفوا جسديا،وتم إخفاء جثثهم دون إعلام ذويهم أو وضع ما يرشد لقبورهم ولا حتى معرفة أسباب تصفيتهم. ومثلما اختفت الأجساد ومواقع الدفن، أخفيت الكثير من دلائل ووثائق وأوراق تحقيقيه وشهادات خاصة بعشرات التصفيات الجسدية دون مقاضاة ونيل القتلة العقاب أو ما يفصح عن هوياتهم ودوافعهم الجرمية، وحقيقة من يقف وراء تلك الجرائم.

مثلت حقبتا حكم حزب البعث في قدومه الأول عام 1963 ثم القدوم الثاني 1968 انتصارًا مفزعًا لروح الشر وإثارة الكوامن الوحشية عند البشر غير الأسوياء، حيث تعددت طبيعة الجرائم  وطرق تنفيذها وبأنواع وأساليب ومستويات وحشية مرعبة. وأفصحت تلك الفترتان عن سياسات طفحت جراءها الطبيعة الأكثر دمارًا وعدوانية، ومثلت تعبيرا منطقيا عن لوثات الفكر الحزبي العقائدي المدجن، بدءًا من هجوم كاسح وتقتيل وترويع لباقي الأحزاب السياسية حتى القريبة فكريا أو الحليفة له، وزامن ذلك حروب داخلية وعسكرة للمجتمع أعقبها حربان مدمرتان راح ضحيتهما آلاف. وبسبب تلك النزاعات والحروب وضع الكثير من شرائح وأفراد الشعب العراقي تحت طائلة التهديد اليومي بالإبادة الحقيقية لو استمر البعث في حكم العراق.

 فجرائم البعث ما كانت لتقتصر على قتل مخالفي الرأي والمعارضين والمشككين والضجرين والمتذمرين من سياسته، وإنما طال الترويع والقتل حلقات التجار والصناعيين والفلاحين ممن يجدون أنفسهم متورطين بشكل أو آخر بالارتباط بأحد رجالات السلطة أو منافسين له في المشاريع ذات الربحية. وطال التغييب والقتل المباشر أعضاء داخل الحلقات الحزبية البعثية من غير الممتثلين للتعليمات أو أصحاب رأي مخالف، أو ممن يطمحون بالتميز خارج أعراف الخدمة الحزبية لصدام ورجالاته. وكذلك الجنود والقادة من المعترضين والناقمين أثناء الخدمة العسكرية خاصة من المرغمين على المشاركة في حروب عدوانية هوجاء. ولم ينجُ من الإعدامات والتصفيات شخصيات رياضية وصناعية وزراعية وعلماء وأساتذة بحث وتدريس وطلاب جامعات ومدارس على خلفية الاختلافات الفكرية أو الخصومة الشخصية أو طرق التعامل مع النص المعرفي أو إثر خلاف وظيفي مع أحد المسؤولين أو أبنائهم. وحصد الموت الملايين من العراقيين من مختلف الأعمار بسبب السياسات الاقتصادية الرعناء التي جاءت على خلفية الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام داخليا وخارجيا، وأدت إلى حصار اقتصادي مروع مات جراءه المئات وتعطلت حياة الملايين .

استحضار تلك الجرائم تذكير مهم لحالة بشعة ومدمرة تشوه وتلوث ليس فقط تاريخ مؤسسات المجتمع المدني العراقي، ومنها الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والسياسية، بل كونها تشكل لوثة وشرخًا وسوءة في تاريخ العراق شعبا وحضارة ووطنا، ولم يعد نكرانها والنأي عن مراجعة أحداثها وعدم الكشف عن وقائعها وشخوصها غير مشاركة في تأبيد تلك الجرائم والخراب الذي لوث ومازال يلوث تاريخ العراق ويطعن بقيمه الأخلاقية والشك بثقافته المدينية.

وفي الراهن من الوقت فهناك شخصيات وفئات مجتمعية وأحزاب، مازالت تبرر تلك الجرائم وتشرعن عمليات القتل والتعذيب للخصوم، باعتبارها أسلوبًا عمليًا للحفاظ على خصوصية القيم المجتمعية والدينية والدفاع عن الوجود أمام الآخرين، واحتساب تلك الممارسة قضية عادلة ومنصفة تجاه المخالفين والخصوم.

في الوقت الذي تمثل هذه الممارسات تعبير عن الخطل والشح الثقافي والفساد والوحشية الأخلاقية، فهي تعد مقدمة لتعميم الرعب الذي ترافقه رغبة عارمة لتطويع الناس للقبول بالأمر الواقع والرضوخ في الأخير لحالات الانتهاكات البشعة باعتبارها مُسلمات واردة في سياق الصراع السياسي والمجتمعي، وهذا ما سعى له البعض من ورثة وحاملي تقاليد الثارات والتخندقات الحزبية.

وبذات الطبيعة من القسوة والإرهاب وبشاعة الوقائع الجرمية، يمكن توصيف التصفيات الجسدية لمخالفي الرأي الذي مارسته  بعض مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وعشائر وفئات مجتمعية عدة، خلال مراحل الصراعات التي امتدت وتنوعت طبيعتها وأسبابها على مر تاريخ العراق المعاصر ولحد الوقت الراهن. فقد ارتكبت من قبل بعض العراقيين جرائم قتل وتصفيات ضد أبناء جلدتهم، كان من الموجب أن تدون وتوثق وتدرس، ليشعر ويدرك الجميع مدى الاستهتار والخسة وقسوة أيادي وقلوب النخب والأفراد، من الذين أقدموا على اقترافها، ووحشية النفوس التي أمرت وشاركت في تنفيذها، ومنها جرائم داعش وعلى رأسها جريمتي معسكر سبايكر وسجن بادوش.

 ومثلها ما حدث خلال انتفاضة أيلول الجماهيرية عام   2019 وما تلاها،  التي خرجت فيها الجماهير مطالبة بحقوقها المدنية، فمورست ضدها شتى أنواع القسوة والغدر من قبل قوى محسوبة على أجهزة السلطة وفعاليات حزبية علنية ومضمرة. وراح من جراء عمليات الخطف والترويع والاغتيال أعداد كبيرة من الضحايا. وأقسى ما في تلك الواقعة تبجح البعض من القوى السياسية بالوقوف وبشكل سافر وعلني مع تلك الإجراءات القسرية الوحشية وانحيازها بالضد من التظاهرات المطلبية، لا بل توجيهها الاتهامات للجماهير المنتفضة بالعمالة للأجنبي واحتساب انتفاضتهم عمليات تخريب متعمدة لإيقاف مسيرة السلطة في بناء مشروعها الديمقراطي!! 

ومثلما الجرائم السابقة فقد كتم وشوش بشكل ممنهج على قضايا القتل العمد وأهمل الجانب القانوني والحقوق المشروعة للضحايا على الرغم من توفر الأدلة والشهود، لتضيع بعدها حقوق الضحايا ويعتم على بشاعة الجريمة وأساليب القهر والقسوة المفرطة التي جوبهت بها الانتفاضة.

وتماثلت في تاريخ العراق السياسي الاجتماعي وقائع هذه الجريمة الكبرى بمثيلاتها  من جرائم ضاعت فيها الكثير من حقوق الضحايا ولم تدرج في لوائح القضاء العراقي كحق لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه وإسقاطه لتقادم الزمن. ليتجرأ البعض ويطالب بل يفرض على ذوي الضحايا خيار النسيان والتكتم، من مثل  جرائم شباط الأسود عام 1963 وجرائم عامي 78 و79 وعمليات التهجير الوحشية للعراقيين من الكرد الفيليه والحرب ضد إيران وغزو الكويت والجريمة البشعة في حلبجة وتدمير القرى الكردية وقتل الأبرياء في عمليات الأنفال، وما أعقب انتفاضة آذار عام 1991 من قتل وتشريد وترويع للأبرياء، وأخيرًا وليس أخرا المكتشف من الوحشية والخسة التي طالت الآلاف من الذين دفنوا وهم أحياء.  تلك الأجساد الممزقة والمسحوقة التي ضمتها العشرات من المقابر الجماعية المزروعة على طول العراق وعرضه بسبب سياسات منظمة لمسمى حزب من اجل القضاء على مخالفي الرأي.

إن معاناة الشعب العراقي على أيدي البرابرة مهما كانت سماتهم ومسمياتهم وانتماءاتهم وأفكارهم ونواياهم، يجب أن تبقى قضية ماثلة أمام الرأي العام، وأن تحرص مؤسسات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية والمهنية على تغذية الذاكرة الشعبية العراقية بمشاعر الاستنكار الرفض لمثل تلك الأفعال. ودراسة الأسباب الحقيقية وراء هذا العنف المفرط  الذي يثار عند ابسط الخصومات.

وتعقد الحلقات الدراسية والمؤتمرات وبشكل دائم ومكثف لدراسة وتوثيق تلك الإساءات المرعبة والطرق الوحشية والابتذال السياسي الذي مارسه البعض بحق أنفسهم وأهليهم ووطنهم. 

*** 

فرات المحسن

لو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون عن مفهومه للقاعدة القانونية ...؟ لقال لك: قاعدة عامة ملزمة مكتوبة تنظم سلوك الأفراد .

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون عن مصادر القانون في العراق لقال لك: التشريع، العرف، الدين، قواعد العدالة، ولذلك نصت المادة الأولى من القانون المدني العراقي رقم 40 لسنة  1951 المعدل على الآتي:

1. تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها او في فحواها.

2 – فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه حكمت المحكمة بمقتضى العرف فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ الشريعة الاسلامية الاكثر ملائمة لنصوص هذا القانون دون التقيد بمذهب معين فإذا لم يوجد فبمقتضى قواعد العدالة.

3 – وتسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي اقرها القضاء والفقه في العراق ثم في البلاد الاخرى التي تتقارب قوانينها مع القوانين العراقية.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

لو راجعت أية محكمة في العراق ...الى م يستند القاضي في أحكامه ...؟ القانون أم العرف أم الدين ...؟ لقال لك: قرارات الحكم في المحاكم العراقية تصدر بصيغة تقول: استناداً الى المادة كذا، الفقرة كذا، من قانون كذا...وأحيانا يضاف اليها: بدلالة المادة كذا من قانون كذا ...ولم أقرأ حكم قضائي يقول: تنفيذاً لرأي أبو حنيفة النعمان وبدلالة ما ورد عن الشافعي. فالقاضي ملزم بتطبيق القانون المكتوب والعام والملزم والصادر من جهة تشريعية في البلاد، اما عن قضية الشريعة والعرف فإنما قد تدخل ضمن المصادر التي يستلهم منها المشرع "واضع القانون" رؤيته عند صياغة القاعدة القانونية.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

ما هو موقف الدستور العراقي الحالي من قضية القانون والدين ...؟ لسارع الى القول:

الدين يعتبر مصدر أساسي للتشريع ولكن ليس المصدر الوحيد. فـ:

1. لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الاسلام.

2. لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية .

3. لا يجوز سن قانون يتعارض مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

  قانون الأحوال الشخصية رقم 188 ﻟﺴﻨﺔ 1959 هل كان يشكل خروجاً على الشريعة الإسلامية...؟ لسارع بالقول: ابداً ... فالمادة الأولى منه تنص على:

2. إذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه فيحكم بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية الأكثر ملائمة لنصوص هذا القانون .

 3. تسترشد المحاكم في كل ذلك بالأحكام التي أقرها القضاء والفقه الإسلامي في العراق وفي البلاد الإسلامية الأخرى التي تتقارب قوانينها من القوانين العراقية .

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

ما سر العداء لقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959...؟ لقال لك:

هذا القانون محسوب على حقبة عبد الكريم قاسم والقوم يسعون بأيديهم واسنانهم لطمس حقبة عبد الكريم قاسم . ولو سألته ثانية: هل أن قانون الأحول الشخصية النافذ بقي على حاله كما شرع في حقبة عبد الكريم قاسم ...؟ لقال لك: لا ...أبداً فقد تم تعديله أكثر من 16 مره بدءً من السنة التي اغتالوا فيها عبد الكريم قاسم، وإليك التعديلات:

- بموجب القانون رقم 11 لسنة 1963/قانون التعديل الأول.

- بموجب القانون رقم 21 لسنة 1978/قانون التعديل الثاني.

- بموجب القانون رقم 72 لسنة 1979/قانون التعديل الثالث.

- بموجب القانون رقم 57 لسنة 1980/قانون التعديل الرابع.

- بموجب القانون رقم 156 لسنة 1980/قانون التعديل الخامس.

- بموجب القانون رقم 189 لسنة 1980/قانون التعديل السادس.

- بموجب القانون رقم 125 لسنة 1981/قانون التعديل السابع.

- بموجب قرار قيادة الثورة برقم 147 لسنة 1982 .

-بموجب القانون رقم 34 لسنة 1983

-  بموجب  القانون رقم 77 لسنة 1983.

- بموجب قرار لمجلس قيادة الثورة برقم 1357 لسنة 1984.

- بموجب قرار مجلس قيادة مجلس الثورة المرقم 1128 لسنة 1985 .

-بموجب القانون رقم 5 لسنة 1986/قانون التعديل العاشر.

- بموجب القانون رقم 65 لسنة 1986/قانون التعديل الحادي عشر.

-بموجب القانون رقم 51 لسنة 1995/قانون التعديل التاسع.

- بموجب القانون رقم 8 لسنة 1994/قانون التعديل الرابع عشر.

- بموجب القانون رقم 25 لسنة 1994/قانون التعديل الخامس عشر.

-بموجب القانون رقم 19 لسنة 1999/قانون التعديل السادس عشر.

-بموجب القانون رقم 22 لسنة 1999/قانون التعديل السابع عشر.

- بموجب قرار مجلس قيادة الثورة رقم 127 لسنة 1999.

ولو سألت أي متعلم وليس شرطاً أن يكون مختصاً بالقانون السؤال التالي:

هل ان تعديل قانون الأحوال الشخصية الأخير الذي تسبب في ضجة في الأوساط الشعبية وعارضه قانونيون وأطباء وناشطون مدنيون والنساء على نطاق واسع وأيضاً بعض الفقهاء ورجال دين عراقيون معروفون يأتي من الرغبة في استنقاذ المرأة..؟ أم الطفل...؟ أم الأسرة...؟ أم أن الرغبة من وراء ذلك إخلاصاً للدين الحنيف والتزاما بأحكامه ...؟ وهل أن الشريعة الإسلامية مع كامل الإقرار بمكانتها السامية تصلح في وقتنا الراهن أن تكون مصدراً وحيداً وحرفياً للقوانين...؟ لسارع الى القول: لا...لأن قطع يد السارق ورجم الزاني والزانية مع انها ترتبط  بنصوص في القرآن الكريم ولكن عملياً معظم القوانين في الدول الإسلامية لا تعمل بها واستبدلتها بعقوبات بديلة مثل السجن أو الغرامة باستثناء بعض أنظمة الحكم ذات الصبغة الأيديولوجية المتطرفة مثل طالبان، وذلك لا يعني البته بأن أنظمة الحكم في معظم الدول الإسلامية كافرة أو مرتدة عن الإسلام...ثم أن الدين يربي النفس ويأخذ بالنوايا أما القانون فيتعلق بالسلوك ولا يأخذ بالنوايا إنما الأفعال، أمر آخر: هل وجدت قرار حكم صادر من المحاكم العراقية منذ تأسيها يقول: استنادا الى ما جاء بمسند فلان أو صحيح فلان أو رأي فلان من الفقهاء ...؟ أم أنه يقول: استناداً الى ما جاء في المادة رقم كذا من قانون رقم كذا...؟ أما عن مصلحة الزوجة والطفل والأسرة ووحدة المجتمع فإن كل الآراء ذهبت الى ان ما جاء في التعديل الأخير يتناقض معها بشكل صارخ.

السؤال الأخير للمتعلم الذي ليس شرطاً ان يكون مختص بالقانون: إذن ما هو الباعث برأيك ...؟ الجواب هو: تريد الصدكَ لو أبن عمه ...؟ تقول له: بل اريد الصدق. يقول لك: شوف عيني أقولها بضرس قاطع كما يقول فقهاء الدين إن الباعث وراء ذلك هو: جموح ساسة "الشيعة" وليس الشيعة بفرض السطوة على مكونات الشعب العراقي الأخرى من خلال استغلال قضية أن الأغلبية السكانية في العراق شيعية في حين أن ذلك يتعلق بالانتساب وليس بالتبني الأيديولوجي فالمنتسبين للمكون الشيعي من العراقيين منهم المدني ومنهم العلماني ومنهم اليساري ومنهم الشيوعي ومنهم الديمقراطي ومنهم البعثي ومنهم اللاديني ومنهم الماسوني ومنهم البهائي ...ألخ

وفي نفس الوقت يعكس جموحهم لفرض السطوة على المنتسبين للمكون الشيعي من خلال الادعاء زوراً انهم وحدهم من يمثل الشيعة في العراق وكل ذلك محض هراء...

نفس الباعث في تمسكهم بالمكوناتية ونفس الباعث في اصرارهم على تقنين عيد الغدير بعطلة رسمية...وعندما يركلون تركل معهم كل قوانينهم ولكن يبقى ثابت في الأذهان كم التخلف والتزمت والادعاء زوراً التمسك بالدين والإخلاص لعلي وجعفر الصادق عليهما السلام.

***

د. موسى فرج

 

في المثقف اليوم