آراء

آراء

الصراعات الداخلية والنزاعات الإقليمية تقود لحروب واسعة النطاق ملاذا للأزمات العالمية

تشير تقارير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومراكز الأبحاث الدولية إلى؛ أن العالم يشهد في العقود الأخيرة تصاعدًا حادًّا في الضغوط البنيوية التي تقود إلى اضطرابات وصراعات داخلية لم تعد محصورة داخل حدود الدولة الوطنية، انما امتدت لتتشابك مع مصالح قوى إقليمية ودولية، وقد أسهم ذلك في تدويل النزاعات وتحويل بعضها إلى حروب إقليمية واسعة النطاق.

ترتبط هذه التوترات بعوامل بنيوية متجذّرة تتطور عبر الزمن، بهدف الاستحواذ على الموارد الاقتصادية حيثما ترسمها السياسة وتنفذها القوه، إضافة إلى الديناميات العالمية المعقدة التي تعمّق هشاشة الدول وتزيد مستويات الاستقطاب الاجتماعي، خاصة عند اقترانها بتدخلات خارجية مباشرة أو غير مباشرة.

أبرز العوامل البنيوية التي تؤدي إلى تصاعد التوترات) داخل الدول)، وتحول الصراعات الداخلية إلى نزاعات إقليمية وحروب واسعة ذات آثار عالمية:

1. ضعف الدولة الذي يتمظهر بضعف مؤسسات الحكم والعدالة والأمن، وبالتالي حدوث الفراغ الذي تستغله القوى الأخرى.

2. اقتصاد الريع؛ الذي يولّد أعتماد الدول على الموارد الطبيعية خصوصًا النفط والغاز، صراعات السيطرة على العائدات مما يزيد احتمالات النزاعات الداخلية.

3. الهويات المتصارعة تزيد من التوترات العرقية والدينية وتختصر العدو بالأوطان، مما يسهم في تفكك الدولة وظهور الفاعلين غير الحكوميين.

.4الضغوط البيئية، اذ ان تغير المناخ ونقص المياه يرفعان حدّة التنافس على الموارد.

.5 التدخلات الخارجية في تشكيل بيئات قابلة للانفجار وذلك؛ بتهريب وانتشار السلاح، وتدفق موجات اللاجئين، والتحالفات الإقليمية من خلال توازنات القوى التي تولد سباقًا للتدخل والسيطرة، وبالتالي تدويل الأزمات الإنسانية، وهذا ما يؤدي إلى تحويل الصراعات المحلية إلى نزاعات إقليمية متداخلة.

اما أبرز التحولات العالمية التي تُعد محركات عميقة لعدم الاستقرار الدولي، والمولّدة (للحروب الإقليمية) الواسعة النطاق:

أولًا: الانفجار السكاني والضغوط الديموغرافية

تشير تقديرات إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة (2023) إلى أن عدد سكان العالم بلغ 8.1 مليار نسمة، مع توقعات ببلوغ 9.7 مليار في 2025، وتتركز هذه الزيادة في قارة إفريقيا وجنوب قارة آسيا ما يولد ضغطًا متناميًا على الغذاء والمياه والبنى التحتية، وتُظهر تقارير البنك الدولي (2024) أن الدول ذات النمو السكاني المرتفع تعاني غالبًا من هشاشة اقتصادية وارتفاع في مستوى الفقر، مما يجعلها أكثر عرضة لنزاعات داخلية كما في دول منطقة الساحل الأفريقي الغربي .

ثانيًا: البطالة عامل محفّز للصراع

بلغ عدد العاطلين عالميًا أكثر من 205 ملايين عاطل، ويصل معدل بطالة الشباب إلى أكثر من 20% في مناطق اسيوية وإفريقية وفي أمريكا اللاتينية، وهذا ما يُوفر بيئة خصبة للاحتجاجات والتمردات المسلحة.

ثالثًا: سباق التسلح وتغير ميزان القوى العالمي

في (2024) بلغ الإنفاق العسكري العالمي 204 تريليون دولار، وهو الإنفاق العسكري الأعلى تاريخيًا. ورافق ذلك صعود قوى إقليمية تتبنى استراتيجيات توسعية مثل؛ الهند، الصين في بحر الصين الجنوبي، باكستان، روسيا، وتتنافس جميعها على امتلاك أسلحة دقيقة، وتطوير تكنولوجيا الطائرات المسيّرة، وهذه البيئة تزيد هشاشة الاستقرار وتحوّل العديد من المناطق حول العالم إلى ساحات صراع بالوكالة.

رابعًا: ضعف التعليم وتفكك رأس المال البشري

تظهر تقرير اليونسكو أن 244 مليون طفل لا يذهبون للمدرسة، وأن 770 مليون بالغ يعانون من الأمية الوظيفية/ الحرفية، إضافة لسعة مستوى الامية الالكترونية/ الرقمية المعاصرة. ان انخفاض مستوى وجودة التعليم يُضعف الهوية الوطنية ويزيد من انتشار خطاب الكراهية، مما يجعل المجتمعات عرضة للاختراق الداخلي وللنزاعات الأثنية والطائفية كما في ميانمار وإثيوبيا.

خامسًا: صعود الهويات التقليدية ما قبل الحديثة

تشهد مجتمعات العديد من الدول عودة قوية للهويات التقليدية؛ القبلية منها والدينية والعرقية نتيجة فشل الدولة الوطنية في تقديم نموذج مجتمعي اندماجي فعال، وهذا الفشل يتعارض مع قيم الدولة المدنية الحديثة ويفضي الى عودة الهويات التقليدية، وبالتالي توالّد النزعات التي تغذي صراعات داخلية تستغلها القوى الخارجية لتعميق الانقسام.

سادسًا: احتكار التكنولوجيا وأشباه الموصلات

أنّ 80% من الرقائق الألكترونية المنتَجة عالميًا تُصنع في ثلاثة دول؛ تايوان، كوريا الجنوبية، الولايات المتحدة، مع توسّعها في الصين، وأن هذا الاحتكار يغذي التنافس الاستراتيجي الأميركي– الصيني، خاصة مع اعتماد صناعة الرقائق الألكترونية على معادن نادرة.

سابعًا: المعادن النادرة

تُعد المعادن النادرة من أهم أسباب الصراعات الجيوسياسية عالميا، لدورها الحاسم في الصناعات العسكرية والتكنولوجية والطاقة المتجددة، وأبرز هذه المعادن:

1. الليثيوم ويدخل في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية والهواتف، ومثلث إنتاجه الأرجنتين، بوليفيا وتشيلي.

2. الكوبالت ويدخل في صناعة بطاريات أيونات الليثيوم، ويأتي إنتاج أكثر من 70% منه من الكونغو وهي منطقة نزاع مستمر على المناجم، وتتداخل فيه شركات صينية وأمريكية.

3. العناصر الفلزية النادرة وتشمل (17) عنصرا مثل النيوديميوم، الديسبروسيوم، اللانثانوم، وهي عناصر ضرورية لصناعة الرقائق الإلكترونية، الأقمار الصناعية والأسلحة الذكية، وتسيطر الصين على أكثر من 70% من الإنتاج العالمي لها، مما يجعلها محور التنافس الدولي.

4. النيكل وهو مهم لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية والفولاذ المقاوم للصدأ، ويتركز إنتاجه في روسيا واندونيسيا، وقد رفعت العقوبات الاوربية والأمريكية على روسيا مستوى تعثر إمداداتها.

5. التيتانيوم ويستخدم في صناعة الطائرات الحربية والمركبات الفضائية، وتعد روسيا وأوكرانيا من أكبر المنتجين له، مما جعل الحرب بينهما ذات أثر مباشر على سلاسل إمداده.

6. البلاتين والبلاديوم ويستخدمان في؛ صناعة محولات تقليل الانبعاثات الضارة من السيارات، وصناعة الوقود النظيف. وعالميا تنتج  روسيا40 % من البلاديوم، اما دولة جنوب إفريقيا فنتتج 70 % من البلاتين، مما يجعلهما محور التنافس الدولي الجيوسياسي.

ثامنًا: ان التنافس على مصادر الطاقة، والمياه، والموارد الاستراتيجية يضع هذه مناطق أنتاجها تحت ضغط صراعات داخلية وإقليمية متعددة وكبيرة، اذ يتركّز 48% من احتياط النفط العالمي في الشرق الأوسط. كما تشير تقارير البنك الدولي(2024)  إلى؛ أن ندرة المياه تُعتبر العامل الأول للنزاعات المستقبلية في دول آسيا الوسطى، ومناطق حوض النيل. وتشهد العديد من المناطق في جميع القارات تحولها إلى ساحات صراع بين القوى الإقليمية والدولية على الموارد الاستراتيجية/ الذهب، النحاس، المعادن النادرة، واحتياطات النفط والغاز.

تاسعًا: زعزعة الأمن الداخلي للدول عبر التدخلات الخارجية

شهد العالم في (2023) و (2024)استخدام أدوات جديدة لإضعاف دول عديدة، بتدخلات القوى الكبرى من خلال تكثيف أساليب (الحرب الرمادية) التي تشمل؛ دعم جماعات معارضة أو انفصالية، حروب سيبرانية، حملات تضليل اعلامية، واستغلال للأزمات الاقتصادية، وذلك لافتعال الاضطرابات. وتنفذ الحرب الرمادية دون إعلان حرب تقليدية، خصوصا بعد أعتماد تقنيات منخفضة الكلفة وبفعّالية عالية جدًا، كاستخدامات أسراب الدرونز الجوية والبحرية والبرية وبمنظومات ذاتية/ شبه ذاتية التشغيل والمدعومة بالذكاء الاصطناعي لضرب منشآت حيوية، وهذا ما يكشف هشاشة الأمن الإقليمي ويزيد من تعقيد النزاعات المعاصرة.

تتفق تقارير الأمم المتحدة، والبنك الدولي، ومراكز الفكر الدولية/ معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام على أن؛ النزاعات المعاصرة ليست حوادث منعزلة، أنما نتاج تفاعل عوامل ديموغرافية واقتصادية وتعليمية وتكنولوجية وجيوسياسية متشابكة، وإن فهم العوامل البنيوية للتوترات والصراعات يمثل شرطًا أساسيًا لصياغة سياسات فعّالة للحد من النزاعات الإقليمية والحروب واسعة النطاق. فالنزاعات ذات الأسباب البنيوية العميقة تميل إلى الاستمرار والتمدد، ويعد ضعف الدولة هو العامل الأخطر في ذلك لأنه يسمح للعوامل الأخرى بالتفاعل بحرية. اما التدخلات الخارجية فتحوّل النزاعات إلى حروب بالوكالة. وتظهر المنعكسات العالمية لما تقدم في كل من؛ موجات اللجوء، واضطرابات توريد مصادر الطاقة، وتعثر سلاسل التوريد وبالتالي انكماش التجارة الدولية.

تتمثل الأدوات الضرورية لتجنب الأزمات العالمية، وتمدد الصراعات التي تقود لحروب واسعة النطاق بكل من؛ تعزيز قوة الدولة، تبني أنظمة تعليمية قوية، تحقيق العدالة الاقتصادية، اتباع سياسات سكانية عاقلة. والسعي لتقوية التعاون الإقليمي، ضبط سباق التسلح، تشكيل إطار دولي حقيقي لتنظيم التعاون التكنولوجي، واستثمار المعادن النادرة والموارد الاستراتيجية

***

د. مجيد ملوك السامرائي – كاتب اكاديمي

......................

المراجع:

1.UNDP 2024. Global Trends of Conflict.

2.UN DESA Population Division. 2023. World Population Prospects.

3.Brookings Institution. 2023. 3.Global Economic and Conflict Drivers.

4.SIPRI IEA. 2024. SIPRI Yearbook 2024

مقدمة: ثمة ألم خفي يسري في عروق المجتمعات العربية المعاصرة، ألم لا تلتقطه الكاميرات ولا تُحصيه الإحصاءات، لكنه يسكن في قلب كل شاب عربي يقف على عتبة المستقبل فلا يرى إلا ضبابًا كثيفًا. هذا الألم ليس وليد اليوم، بل هو تراكم عقود من التآكل البطيء لمنظومة القيم، ومن الانهيار التدريجي لعقد اجتماعي كان يومًا يربط الفرد بالأسرة، والأسرة بالمجتمع، والمجتمع بالدولة، والجميع بمنظومة أخلاقية تتجاوز الكلمات إلى الأفعال. حين نتحدث عن الفساد في العالم العربي، فإننا لا نتحدث فقط عن ملفات رشوة أو قضايا اختلاس تملأ صفحات الأخبار، بل نتحدث عن شيء أعمق وأخطر: عن "فساد الروح" الحضارية نفسها، عن تحول المجتمعات إلى فضاءات باردة يحكمها منطق المصلحة الضيقة، حيث تتآكل الثقة وتتفكك العلاقات وتنهار المعاني.

تخيّل معي شابًا جزائريًا أو مصريًا أو عراقيًا يقف في طابور طويل أمام مؤسسة حكومية، ينتظر منذ الفجر للحصول على ورقة إدارية بسيطة. يرى أمامه من يدخلون مباشرة دون انتظار، ليس لأنهم أولى بالحق، بل لأنهم يمتلكون "واسطة". يعود إلى بيته محبطًا، يفتح هاتفه فيجد فيضًا من المحتوى التافه يملأ شاشته، يحاول أن يتحدث مع والده عن أحلامه فيجد جدارًا من الصمت، يُفكر في الزواج فيصطدم بمتطلبات مالية تفوق قدرته. يذهب إلى المسجد فيسمع خطبة عن "الصبر" و"الرضا بالقدر"، لكنه لا يرى في الواقع أي تطبيق لقيم العدل والنزاهة التي يُفترض أن يُمثلها الدين. تدريجيًا، تتسرب إليه مشاعر اليأس، يبدأ في التساؤل عن جدوى الجهد والأمانة والأخلاق في عالم يكافئ الفساد ويُعاقب النزاهة. هذا الشاب ليس حالة فردية، بل هو مرآة لجيل كامل يعيش أزمة وجودية عميقة.

حين تُخبرنا الأرقام أن المنطقة العربية حافظت على متوسط درجة 39 من 100 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024، أدنى من المتوسط العالمي البالغ 43 نقطة، فإنها لا تُخبرنا فقط عن فشل إداري أو ضعف مؤسسي، بل تُخبرنا عن مأساة حضارية1 ، هذه الأرقام تُترجم إلى أحلام محطّمة، وطموحات مُجهَضة، وعائلات متفككة، ونفوس مكتئبة، وعقول هاربة إلى عوالم التفاهة الافتراضية. خلف كل نقطة في هذا المؤشر، هناك آلاف القصص الإنسانية عن ظلم وقع، أو فرصة ضاعت، أو كرامة هُدِرَت، أو حق سُلِبَ.

والمفارقة الصادمة، التي تُشبه سكينًا تطعن القلب، هي أن هذا كله يحدث في مجتمعات تعتبر نفسها متدينة بامتياز، حيث يرى 62% من العرب أن الدين هو البوصلة الأخلاقية لمجتمعاتهم2 . كيف يُمكن لمجتمعات تمتلئ مساجدها بالمصلين، وتتصدر فيها الخطب الدينية وسائل الإعلام، وتُنفق الملايين على البرامج الدينية، أن تكون في الوقت نفسه من بين الأكثر فسادًا في العالم؟ الإجابة تكمن في انفصام خطير بين الشعار والممارسة، بين الكلمة والفعل، بين الإيمان والأخلاق. لقد تحول الدين في كثير من السياقات العربية إلى "طقوس بلا روح"، و"شعائر بلا جوهر"، ينفصل فيها الإنسان عن مضمون رسالته الأخلاقية والإنسانية.

هذه الدراسة هي محاولة لفهم هذه الأزمة الحضارية المركّبة، لكنها أيضًا – وهذا الأهم – محاولة لإيقاظ الوعي النقدي، لتحريك المياه الراكدة، لزرع بذور الأمل في نفوس قد تكون يئست. لأننا نؤمن أن الفساد ليس قدرًا محتومًا، وأن التغيير ممكن، وأن الشعوب العربية تستحق أفضل مما هي عليه، وأن المستقبل لا يُبنى بالبكاء على الماضي بل بالعمل الجاد لتغيير الحاضر. هذه الدراسة دعوة إلى "ثورة حضارية" شاملة، تبدأ من الذات وتمتد إلى المجتمع والدولة، ثورة تُعيد للقيم معناها، وللأخلاق قوتها، وللإنسان كرامته.

الفساد سرطان الإقلاع الحضاري

إذا تأملنا في خريطة الفساد العربية لعام 2024، نجد مشهدًا يُشبه جسدًا بشريًا أصابه مرض خبيث بعض أعضائه تعاني من فشل شبه كامل (سوريا بـ12 نقطة، اليمن وليبيا بـ13 نقطة، الصومال بـ9 نقاط)3 ، هذا التباين ليس مجرد أرقام جافة، بل هو انعكاس لتفاوت حاد في مستويات الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. فحيث ينخفض الفساد، يرتفع الأمل؛ وحيث يستشري الفساد، يتعمق اليأس.

لكن ما يجمع معظم الدول العربية – رغم اختلافها الكمي – هو طبيعة الفساد البنيوية. فالفساد في العالم العربي ليس مجرد "تفاحات فاسدة" في سلة سليمة، بل هو فساد "منظومي" متجذر في البنى الهرمية التي تقيد المجتمعات، وتُحيط ممارساتها الفاسدة بستائر كثيفة من المحسوبية والولاءات. هذه ليست انحرافات عابرة، بل هي "الطبيعة" نفسها للواقع العام، البنية التي تُعيد إنتاج نفسها يوميًا عبر شبكات معقدة من المصالح والولاءات.

والأخطر من الفساد المؤسسي هو تسربه إلى النسيج الاجتماعي اليومي، حتى أصبح جزءًا من "ثقافة" المجتمع. الوساطة والمحسوبية والشبكات العائلية والقبلية لم تعد ممارسات استثنائية، بل أصبحت القاعدة التي يعمل بها الجميع. في كل مؤسسة، في كل مدرسة، في كل مستشفى، في كل مصلحة إدارية، تسمع الجملة الشهيرة: "هل لديك واسطة؟" هذا السؤال البسيط يختزل مأساة كاملة: مأساة مجتمع فقد الثقة في العدالة، وتخلى عن مبدأ الجدارة، وقبل بالفساد كـ"ضرورة" للبقاء. حين يُضطر المواطن الشريف إلى البحث عن "واسطة" للحصول على حقه، فإن شيئًا ما يموت في داخله، شيئًا من كرامته، من إيمانه بالعدالة، من ثقته في المجتمع.

التكلفة الاقتصادية لهذا الفساد المنظومي فادحة: تريليونات الدولارات تُهدَر سنويًا، 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، 1.26 تريليون دولار في البلدان النامية وحدها4، لكن الأرقام لا تُخبرنا الحقيقة الكاملة. التكلفة الحقيقية للفساد ليست في الأموال المسروقة، بل في الأحلام المقتولة، في الطاقات المُهدَرة، في الثقة المفقودة، في الكرامة المُداس عليها. حين يرى الطالب المجتهد أن زميله الأقل كفاءة حصل على المنحة لأن لديه "واسطة"، يتعلم درسًا قاسيًا: العمل الجاد لا يكفي، الأخلاق رفاهية لا يستطيعها إلا الأغبياء، الفساد هو "الواقعية". هذا الدرس المُرّ يُعيد تشكيل وعيه، ويُحوّله تدريجيًا من مواطن يؤمن بالقيم إلى فرد يؤمن بالمصلحة فقط.

الإنهيار الممنهج للأسرة: تفشي الاكتئاب وصدارة التفاهة

في قلب هذه المنظومة الفاسدة، تعاني المؤسسة الأسرية – التي كانت يومًا الملاذ الأخير، الحصن الدافئ الذي يحتضن الفرد في مواجهة قسوة العالم – من انهيار متسارع ومؤلم. الشاب العربي اليوم يقف أمام معادلة مستحيلة: الضغوط الاقتصادية تجعل الزواج حلمًا بعيد المنال، والضغوط الاجتماعية تُحوّل الزواج إلى "صفقة اقتصادية" بدلاً من رابطة إنسانية، والقيم التقليدية تتآكل دون أن تحل محلها قيم جديدة واضحة. في دول مثل سوريا ولبنان والعراق، يُجبر الشباب على التخلي عن فكرة الزواج والأسرة، أو يختارون الهجرة بكل مخاطرها بحثًا عن حياة أفضل. ليست المشكلة اقتصادية فحسب، بل هي أزمة معنى: ما معنى بناء أسرة في مجتمع لا يُوفر لها الأمان؟ ما معنى إنجاب أطفال في عالم لا نرى لهم فيه مستقبلًا؟

والأسرة التي تنجح في التكوّن رغم كل العقبات، تجد نفسها في مواجهة تحديات جديدة: ضعف أسسها، تدهور العلاقات بين أفرادها، اختلال الأدوار، ونمو رغبة في التحرر من قيودها. الأدبيات المعاصرة تُظهر خيطًا مأساويًا يربط بين تفكك الأسرة والأزمات النفسية. فالأسرة المفككة لا توفر الدعم النفسي والعاطفي اللازم، مما يجعل أفرادها – وخاصة الشباب – أكثر عرضة للاكتئاب والقلق واضطرابات الهوية.

والأرقام تصرخ بصوت عالٍ: 29% من العرب يُعانون من الاكتئاب، وهي نسبة أعلى بكثير من المعدل العالمي، وترتفع النسبة بشكل صادم بين العراقيين والتونسيين والفلسطينيين5، في مصر، 5.7% من السكان يعانون من الاكتئاب، متجاوزة المعدل العالمي البالغ 4.4%.6 لكن هذه الأرقام لا تُخبرنا عن المعاناة الحقيقية: عن الشاب الذي يستيقظ كل صباح دون أي رغبة في مواصلة الحياة، عن الفتاة التي تُخفي دموعها خلف ابتسامة مصطنعة، عن الأب الذي فقد معنى وجوده، عن الأم التي تحمل أعباء الجميع دون أن يسألها أحد عن حالها.

المنطقة العربية تزخر بأسباب الاضطرابات النفسية، وهذه الأسباب ذات طبيعة سياسية واجتماعية عميقة: الحروب والنزاعات، عدم الاستقرار السياسي، القمع، الفساد، البطالة، غياب العدالة الاجتماعية، وانسداد الأفق. لكن وصمة العار المرتبطة بالمرض النفسي تمنع الكثيرين من طلب المساعدة. في كثير من المجتمعات العربية، يُنظر إلى الاكتئاب على أنه "ضعف إيماني"، وكأن الله خلق الإنسان آلة لا تحزن ولا تتألم. هذه النظرة القاسية تُضاعف معاناة المريض، وتدفعه إلى العزلة أو إلى البحث عن ملاذات وهمية.

أحد هذه الملاذات الوهمية هو عالم "التفاهة" الذي غزا حياتنا اليومية كالطاعون. ثقافة التفاهة استولت على الجهد العقلي للشباب، معظمهم يقضون ساعات طويلة في استهلاك محتوى لا يُنمّي وعيًا ولا يُثري فكرًا. مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت أفيونًا جديدًا يُخدّر العقول ويُشتت الانتباه عن القضايا الحقيقية. هذا الاستهلاك الثقافي التافه ليس مجرد ترفيه بريء، بل هو آلية هروب من واقع قاسٍ، لكنه هروب يُعمّق الأزمة بدلاً من حلها.

والحلقة المفرغة تكتمل بقسوة: الفساد المؤسسي يُنتج ضغوطًا تُفكك الأسرة، والأسرة المفككة تفشل في دعم أفرادها، والأفراد يقعون فريسة للاكتئاب أو ينسحبون إلى عالم التفاهة، والاكتئاب والتفاهة يُعمّقان الانسحاب من المشاركة الاجتماعية، وهذا الانسحاب يُعزز استمرار الفساد. هكذا تُعيد الدائرة إنتاج نفسها، وتتعمق الأزمة جيلًا بعد جيل، ما لم نتدخل بوعي وإرادة لكسر هذه الحلقة المشؤومة.

تدين بلا أخلاق، وأخلاق إشهارية:

في خضم هذا الظلام الحالك، تبرز مفارقة تُشبه الجرح النازف: كيف يُمكن لمجتمعات تعتبر نفسها متدينة أن تكون في الوقت نفسه الأكثر فسادًا؟ حيث يعتبر 62% من العرب أن الدين هو البوصلة الأخلاقية لمجتمعاتهم، بينما تُظهر مؤشرات الفساد صورة مناقضة تمامًا7.هذا التناقض ليس صدفة، بل هو نتاج تحول خطير: تحول الدين من منظومة قيمية متكاملة تُنظّم الحياة بكل تفاصيلها، إلى مجرد "طقوس شكلية" و"مظاهر خارجية" تفتقر إلى الجوهر الأخلاقي.

التحولات في المواقف تجاه التدين تُظهر أن هناك اهتمامًا متزايدًا بالأخلاق الفردية وتركيزًا أقل على الممارسات الدينية الإشهارية، بعبارة أخرى، هناك انفصال متزايد – وربما وعي متزايد بهذا الانفصال – بين الشعائر والسلوك. يمكن لشخص أن يكون في الصف الأول في المسجد، لكنه في عمله يمارس الفساد والرشوة والمحسوبية دون أن يشعر بأي تناقض. هذا الانفصام ليس فرديًا فحسب، بل هو بنيوي: المؤسسات الدينية الرسمية في كثير من البلدان العربية أصبحت في الغالب الأعم لا تخرج عن نطاق القرارات الوضعية كأنها مُسخّرة لخدمة المصالح الأيديولوجية و ليس الصالح العام الذي لا يرتبط سوى بالعدالة و الكرامة الإنسانية.

النتيجة هي تدين منفصل عن الأخلاق، وأخلاق منفصلة عن السلوك، وسلوك منفصل عن القيم. في هذا الفراغ الأخلاقي الرهيب، يستفحل الفساد ويصبح جزءًا من "الطبيعة"، يُمارَس دون شعور بالذنب، بل أحيانًا بتبريرات دينية ("الرزق من عند الله"، "كل الناس تفعل ذلك"، "لا بد من ذلك للبقاء"). هذا الانفصام بين الظاهر والباطن، بين القول والفعل، بين الإيمان والأخلاق، هو قلب المأزق الحضاري الذي نعيشه.

الإصلاح كمشروع حضاري

لكن رغم كل هذا الظلام، فإن الأمل لا يموت. التاريخ يُعلّمنا أن الحضارات لا تموت إلا حين تستسلم شعوبها لليأس. والشعوب العربية لم تستسلم بعد. في كل بقعة من العالم العربي، هناك أفراد ومجموعات يقاومون الفساد، يُدافعون عن النزاهة، يحلمون بمستقبل أفضل، ويعملون بصمت وإخلاص من أجل التغيير. التجارب الناجحة – رغم محدوديتها – تُثبت أن التغيير ممكن حين تتوفر الإرادة السياسية الحقيقية والمشاركة المجتمعية الواسعة.

التجربة الخليجية، خاصة في قطر والسعودية، تُثبت أن الرقمنة والحوكمة الإلكترونية يمكن أن تُقلل من فرص الفساد بشكل كبير، السعودية اعتقلت حوالي 1,708 فردًا في عام 2024 وحده بتهم الفساد، مما يُشير إلى إرادة سياسية للمحاسبة8.لكن المكافحة الأمنية وحدها لا تكفي؛ يجب أن تترافق مع إصلاح ثقافي واجتماعي عميق.

مكافحة الممارسات غير الرسمية مثل المحسوبية والوساطة تتطلب إصلاحًا ثقافيًا يُعيد بناء المنظومة القيمية. تصميم تدابير مكافحة الفساد يجب أن يأخذ في الاعتبار السياقات الثقافية المحلية. يجب تضمين قيم النزاهة والشفافية في المناهج التعليمية، وإطلاق حملات توعية، وتعزيز ثقافة الاستحقاق والجدارة. على المستوى الأسري، يتوجب معالجة جذور التفكك: توفير فرص عمل لائقة، إسكان ميسور، خدمات صحية وتعليمية عالية الجودة، وأنظمة حماية اجتماعية فعّالة. كما يجب مواجهة ثقافة التفاهة بتعزيز المحتوى الثقافي النوعي، ودعم الإبداع الفكري والفني.

فيما يتعلق بالصحة النفسية، يجب إزالة وصمة العار، وتوفير خدمات ميسورة ومتاحة. يجب أن يُنظر إلى الصحة النفسية كحق أساسي. أما المفارقة بين التدين الشكلي وتآكل الأخلاق، فتتطلب إصلاحًا دينيًا يُعيد الاعتبار للبعد الأخلاقي للدين: تحرير الخطاب الديني من السيطرة السياسية، وتطوير خطاب يُركّز على القيم الجوهرية: العدل، النزاهة، الأمانة، الصدق، المساواة، والكرامة الإنسانية.

خاتمة: الطريق نحو المستقبل

الفساد المجتمعي في العالم العربي ليس قدرًا محتومًا، بل هو نتاج اختيارات بشرية، وبالتالي يمكن تغييره باختيارات بشرية مختلفة. التقارير الحديثة تُظهر أن التقدم ممكن حين تتوفر الإرادة الحقيقية. لكن التحدي الأكبر يبقى في الدول التي تعاني من صراعات والدول التي تُعاني من فساد مستشرٍ. في هذه البلدان، مكافحة الفساد تتطلب إعادة بناء العقد الاجتماعي بالكامل.

الطريق طويل وشاق، لكن البدائل أسوأ بكثير. العالم العربي يستحق حوكمة نزيهة، مؤسسات شفافة، مجتمعات متماسكة، أسر مستقرة، أجيال سليمة نفسيًا، ثقافة عميقة ترفض التفاهة، ومنظومات قيمية حقيقية تُترجم إلى سلوك أخلاقي يومي. المستقبل ممكن، لكنه يتطلب شجاعة لمواجهة المصالح الضيقة، وإرادة جماعية لبناء مجتمعات قائمة على العدل والنزاهة والكرامة.

ولنتذكر دائمًا: التغيير يبدأ من الذات. كل واحد منا يمكن أن يكون نقطة ضوء في هذا الظلام، كل فعل نزيه، كل كلمة حق، كل رفض للفساد، هو لبنة في بناء المستقبل الذي نحلم به. الحضارات لا تُبنى بالخطب الرنانة، بل بالأفعال اليومية الصغيرة التي تتراكم لتُصبح تغييرًا كبيرًا. الفجر قادم، لكنه لن يأتي إلا بأيدينا، بوعينا، بإصرارنا، بإيماننا بأن الإنسان العربي يستحق أفضل مما هو عليه، وبأن المستقبل ملك لمن يعمل من أجله اليوم.

***

مراد غريبي

......................

الهوامش:

1.  Transparency International, "CPI 2024 for the Middle East & North Africa: Corruption Linked Authoritarianism Calls Reform Emerging," 10 Feb. 2025.

2.  Arab News, "Study Sees Religion as the Moral Compass of Arab Societies

3.  AMAN-Palestine, "Transparency International Releases the 2024 Corruption Perceptions Index Findings Including the Results from the Arab World," 12 Feb. 2025.

4.  Alatawi, Omar D., "Combating Corruption and Promoting Economic Resilience," Nature, vol. 41599, 14 Oct. 2025.

5.  Orient XXI, "Arab World: Mental Health, a Political Issue," 30 Sept. 2024.

6.  Infomine Research, "Major Depressive Disorder in Egypt and the Middle East," 18 July 2024.

7.  Arab News, "Study Sees Religion as the Moral Compass of Arab Societies."

8.  Alatawi, "Combating Corruption and Promoting Economic Resilience."

 

قراءة قانونية جديدة في ضوء الثقافة الرقمية

مع توسع استخدام التكنولوجيا الحديثة وانتشار الإنترنت في كل جوانب الحياة اليومية، برزت ظاهرة التحرش الإلكتروني كأحد أبرز التحديات القانونية والاجتماعية المعاصرة فقد أصبح الفضاء الرقمي مساحة تتيح للأفراد التواصل بحرية، وفي الوقت نفسه، أصبح مرتعًا لممارسات سلبية تمس الحقوق والحريات الشخصية ومن هذا المنطلق، تزداد الحاجة إلى قراءة قانونية جديدة تُعيد صياغة مفهوم التجريم التقليدي لتتناسب مع خصوصية الثقافة الرقمية.

أولاً: مفهوم التحرش الإلكتروني وأشكاله

التحرش الإلكتروني هو كل سلوك ينطوي على مضايقة أو تهديد أو استغلال شخص عبر الوسائل الرقمية، سواء كان ذلك عبر الرسائل النصية، البريد الإلكتروني وسائل التواصل الاجتماعي أو أي منصة رقمية أخرى ويتجلى التحرش الإلكتروني في عدة أشكال منها:

1. الإساءات اللفظية: مثل السب، التهديد أو الإهانات المباشرة عبر الفضاء الرقمي.

2. المضايقات المستمرة: إرسال رسائل متكررة مزعجة أو غير مرغوب فيها.

3. التشهير الإلكتروني: نشر معلومات أو صور شخصية دون إذن بقصد الإضرار بالسمعة.

4. التحرش الجنسي الرقمي:

إرسال محتوى جنسي غير مرغوب فيه أو طلب إيصالات رقمية ذات طبيعة جنسية وتتضح هنا الحاجة إلى تعريف قانوني دقيق يراعي طبيعة هذه الأفعال الرقمية، بعيدًا عن التصنيفات التقليدية للتحرش الواقعي.

ثانيًا: الإطار القانوني الحالي

تعتمد معظم التشريعات الوطنية على قوانين حماية الشخصية والخصوصية وبعض القوانين الجنائية التي تجرم السب والقذف إلا أن هذه التشريعات غالبًا ما تواجه صعوبة في التطبيق على الجرائم الإلكترونية لأسباب أبرزها:

- عبور الحدود: فالمتحرش قد يكون في دولة أخرى، مما يعقد تطبيق القانون المحلي.

- طبيعة الأدلة الرقمية: البيانات الرقمية يمكن تعديلها أو حذفها بسرعة مما يعرقل جمع الأدلة القانونية.

- غياب التعريف الموحد: لا يوجد حتى الآن تعريف موحد للتحرش الإلكتروني في معظم التشريعات، مما يفتح ثغرات أمام المتهمين

على سبيل المثال، في العراق والدول العربية، هناك بعض المواد التي تجرم الإهانة أو السب الإلكتروني، لكنها لا تغطي جميع أشكال التحرش الإلكتروني، وخاصة المضايقات المستمرة أو التحرش الجنسي الرقمي.

ثالثًا: الثقافة الرقمية والتحرش الإلكتروني

فالثقافة الرقمية هي مجموع الممارسات والقيم التي تنشأ نتيجة استخدام الأفراد للتقنيات الرقمية وفي هذا السياق، يتحقق التحرش الإلكتروني نتيجة عدة عوامل:

1. الانفلات الرقمي:

شعور المتحرش بالحرية والانفصال عن العقوبة المباشرة في الفضاء الرقمي

2. غياب الرقابة الذاتية: ان نقص الوعي القانوني أو الأخلاقي لدى بعض المستخدمين.

3. سهولة الوصول والتخفي:

القدرة على التواصل مجهول الهوية أو عبر حسابات مزيفة تسهّل ممارسة التحرش دون الخوف من المسؤولية

وهذا يوضح أن الثقافة الرقمية نفسها قد تسهم في تكوين بيئة مواتية للتحرش ما يستدعي استجابة قانونية وقائية أكثر فاعلية.

رابعًا: مقاربة قانونية جديدة لتجريم التحرش الإلكتروني

لغرض تطوير منظومة قانونية فعّالة، يجب أن تشمل المقاربة الجديدة عدة محاور:

1. تعريف شامل للتحرش الإلكتروني:

يشمل المضايقات التهديدات، الإيذاء النفسي والنشر غير القانوني للبيانات.

2. تجريم خاص بالتحرش الرقمي:

إضافة مواد قانونية مستقلة تجرم الأفعال الرقمية بغض النظر عن وجود العنصر الجنسي أو المادي.

3. آليات حماية الضحايا: مثل فرض حظر تواصل مؤقت، حذف المحتوى المسيء، وتعويضات مدنية للضرر النفسي والمادي.

4. تعاون دولي:

لأن الفضاء الرقمي لا يعرف حدودًا، فإن الاتفاقيات الدولية ومبادرات تبادل المعلومات بين الدول ضرورية لتطبيق القانون.

5. التوعية القانونية:

نشر الثقافة القانونية الرقمية بين المستخدمين خصوصًا الفئات الأكثر عرضة للتحرش مثل الشباب والنساء.

خامسًا: الأمثلة العملية والتحديات.

لقد شهدت عدة دول تجارب مختلفة في مواجهة التحرش الإلكتروني، على سبيل المثال:

- الاتحاد الأوروبي:

اعتمد قوانين صارمة لحماية البيانات الشخصية وجرم نشر المحتوى الجنسي غير المرخص.

- الولايات المتحدة الأمريكية:

أدخلت بعض الولايات قوانين متخصصة للتحرش عبر الإنترنت، مع توفير حماية للضحايا من المضايقات المستمرة.

- الدول العربية:

معظم التشريعات لا تزال تعتمد على القوانين التقليدية، ما يستدعي تحديث النصوص القانونية لمواكبة التطورات الرقمية.

ان التحدي الأساسي يكمن في تحقيق توازن بين حماية الحقوق الفردية وحرية التعبير على الإنترنت، دون أن تصبح العقوبات مبالغًا فيها أو غير قابلة للتطبيق.

سادسًا: التوصيات

من أجل تجريم التحرش الإلكتروني بفعالية يجب التركيز على:

1. تحديث القوانين المحلية لتشمل أشكال التحرش الرقمي المختلفة.

2. إدراج برامج توعية قانونية وأخلاقية للمستخدمين في المدارس والجامعات.

3. تعزيز التعاون الدولي لمواجهة الجرائم الإلكترونية العابرة للحدود.

4. تطوير أدوات قانونية وتقنية لجمع الأدلة الرقمية بشكل آمن وقانوني.

5. تشجيع المجتمع المدني على المشاركة في رصد ومكافحة التحرش الإلكتروني.

ختاما ان التحرش الإلكتروني يمثل تحديًا قانونيًا واجتماعيًا حديثًا يتطلب قراءة قانونية جديدة تتجاوز التعريفات التقليدية للتحرش الواقعي فالتجريم الفعال يعتمد على مزيج من التشريعات الحديثة، التوعية الرقمية والتعاون الدولي، بما يضمن حماية الضحايا وصون الحقوق والحريات في الفضاء الرقمي ومع تطور التكنولوجيا بسرعة، يبقى تحديث القوانين ومواكبة الثقافة الرقمية أمرًا ضروريًا لمواجهة هذه الظاهرة المتنامية.

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

لنبدأ من بلجيكا، يتألف المجتمع البلجيكي قوميا ولغويا من مجموعتين سكانيتين رئيستين هما الفلمنكيين الشماليين الناطقين بالفلمنكية والوالنيين "الفالونيين" الناطقين بالفرنسية. وهناك أقلية ناطقة بالألمانية، وأقليات أخرى أصغر منها. أما دينياً فغالبية البلجيكيين مسيحيون كاثوليك بنسبة تصل إلى 31، ونسبة البروتستانت والأرثوذوكس بحدود 3%. الإسلام هو الدين الثاني فيها بنسبة تتراوح بين 6% و7.6%. وغالبية المسلمين من العمال المهاجرين. وهناك 59% من السكان لا ينتمون إلى أي دين في عام 2023.

* بلجيكا إذن، دولة اتحادية ذات نظام سياسي متعدد الأحزاب، وفي الحقيقة لا يمكن لأي حزب من هذه الأحزاب أن يحصل على السلطة بمفرده نظرا للتنوع اللغوي وتشتت الكتلة الناخبة، ومن ثم يجب أن يعمل بعض الأحزاب مع بعض لتشكيل حكومات ائتلافية، وتبقى هناك أحزاب في المعارضة.

تنقسم جميع الأحزاب السياسية البلجيكية تقريبا إلى مجموعات لغوية، فهي إما أحزاب ناطقة باللغة الهولندية، أو أحزاب ناطقة بالفرنسية (أحزاب فرانكوفونية)، أو أحزاب ناطقة بالألمانية (أحزاب جيرمانوفونية).

والحال فإن الحكم في بلجيكا أقرب إلى صيغة الحكم السويسري فهو ليس توافقيا إلا بحدود تشكيل الائتلافات الحاكمة بين الأحزاب الكبيرة المنقسمة على الأساس التعددي اللغوي وليس الطائفي أو الديني أولاً، ثم على أساس أيديولوجي وطبقي تنقسم إلى ثلاثة أحزاب هي:

الحزب الديموقراطي المسيحي "للدينيين المحافظين الكاثوليك" والحزب الاشتراكي لليبراليين التحررين والحزب الثالث هو حزب العمل البلجيكي ذو توجهات يسارية ماركسية (تأسس سنة 1885) إضافة إلى حركة الإصلاح الليبرالية. أي أن هناك انقسامين الأول لغوي، والثاني أيديولوجي طبقي. أما الانقسام العراقي واللبناني فهو انقسام مفتعل على أساس الهويات الفرعية الطائفية أي أنه انقسام بدائي يعود إلى عصر ما قبل الدولة!

* في هولندا الأمر قريب من بلجيكا وسويسرا أيضا، فالحكم ديموقراطي تعددي تجبر شروطه الخاصة على تشكيل حكومات ائتلافية بين الأحزاب الكبيرة ضمن تقاليد تسامحية ورثتها هولندا منذ القرن الثامن عشر. ولكن الوضع السياسي في هولندا دائم التقلب وخصوصا بعد انهيار هيمنة حزب النداء الديموقراطي المسيحي وصعود ائتلاف اليسار والليبراليين الى الحكم. ثم سقط هذا الائتلاف هو الآخر بحجب الثقة وصعد ائتلاف آخر من عدة أحزاب إلى الحكم. وماتزال حالة عدم الاستقرار مستمرة. ولكن من غير الممكن تشبيه الحكم والعملية السياسية في هولندا بالديموقراطية التوافقية بنسختها الطائفية العراقية واللبنانية لأن الأحزاب الهولندية ذات وجود وامتداد وطني وليس طائفي أو عرقي وهويتها هي الهوية الهولندية الرئيسية. أما مكونات المجتمع الهولندي فهم هولنديون أصليون بنسبة عالية تصل إلى 80% وتشمل مجموعات عرقية أصلية مثل الفريزيين. وما تبقى هم من أوروبا أو مهاجرون من العالم الثالث. أما دينيا ففي هولندا نسبة عالية من اللادينيين وتصل إلى 58% والمسيحيون الكاثوليك يشكلون حوالي 20% إلى 23.7% من السكان. والبروتستانت حوالي 14% إلى 15.5% من السكان. والمسلمون 5%. إضافة الى مجموعات دينية أخرى صغيرة.

أما تجربة السويد فمختلفة وهي أبعد ما تكون عن الديموقراطية التوافقية لعصر ما قبل الدولة، مع أن المجتمع السويدي أكثر المجتمعات تعقيدا في تركيبته القومية. قوميا يتكون المجتمع بشكل أساسي من السويديين، وهم مجموعة عرقية جرمانية شمالية، بالإضافة إلى خمس أقليات قومية رسمية معترف بها. وتشمل هذه الأقليات اليهود، والغجر (الروما)، والشعب السامي (Sámi) فهو شعب أصلي في شمال أوروبا من منطقة سايمي أصلا وهم السكان الشماليون الاسكندنافيون الأصليون)، والفنلنديين السويديين، والتورنيداليين.

أما دينياً، فأكبر ديانة هي المسيحيةويشكل أتباعها نسبة %41.2، وأغلب المسيحيين هم من أتباع المذهب اللوثري"البروتستانتي" بنسبة %32.8، ونسبة %8.4 طوائف مسيحية أخرى. بينما تبلغ نسبة اللادينيين %55.4 من مجمل السكان. وتجربتها أقرب ما تكون إلى التجربة السويسرية ولكن بلا استفتاءات شعبية. فخلال معظم فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حكم السويد كلها حزب العمل الاجتماعي الديمقراطي، الذي فرض سياسات "نقابوية" مفضلاً الشركات الرأسمالية الكبرى والنقابات الكبرى، وخاصة اتحاد نقابات العمال السويدية، المشترك مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي. أما في عصرنا الحاضر فالبرلمان السويدي يتكون دستورياً من 349 نائبا وله السلطة السيادية المطلقة في السويد الحديثة. فالبرلمان هو المسؤول عن اختيار رئيس الوزراء، وهذا الرئيس هو الذي يقوم بتعيين وزراء حكومته وهو مسؤول عن تنفيذ برنامج حكومته أمام البرلمان. في حين تتمتع السلطة القضائية بالاستقلال.

وبمراجعة التجربة السويدية نجد أنها ذات سمات ديموقراطية ليبرالية تنافسية وائتلافية واضحة وليست توافقية مستنقعية "غير قابلة للتطور" كالتجربة العراقية واللبنانية فرغم كل هذا التعقيد الديني والإثني القومي لشعب مجموعه عشرة ملايين ونصف المليون نسمة نقرأ المعلومات التالية في تاريخ السويد السياسي الحديث:

في سنة 1917، لعب الحزب الديمقراطي الاجتماعي السويدي دوراً قيادياً سياسياً، بعدما أكد الإصلاحيون قوتهم وغادر الثوريون الحزب. وبعد عام 1932، هيمن الحزب الاشتراكي الديمقراطي على الحكومات. بينما أعطت خمسة انتخابات عامة فقط (1976 و1979 و1991 و2006 و2010) يمين الوسط مقاعد في كافية في البرلمان ليشكلوا حكومة. في الانتخابات العامة عام 2006 نال الحزب المعتدل المتحالف مع حزب الوسط وحزب الشعب الليبرالي والحزب الديمقراطي المسيحي أغلبية الأصوات. شكلوا معاً حكومة أغلبية في ظل قيادة الحزب المعتدل. شهدت انتخابات سبتمبر 2010 أول اختراق للديمقراطيين السويديين للبرلمان. رفضت كل من الكتلة البرجوازية والكتلة الاشتراكية تشكيل تحالف يضم الديمقراطيين السويديين. وهناك اقتراب من المساواة بين الجنسين في عضوية البرلمان من دون كوتا مفروضة كما في العراق ففي البرلمان السويدي بلغ عدد الرجال 188 عضوا ومن النساء 161 عضوة. وفي آخر انتخابات سويدية سنة 2022، أكدت النتائج أن ائتلاف اليمين انتزع الأغلبية بحصوله على 176 مقعدا، مقابل 173 مقعدا للائتلاف الحاكم حاليا (من يسار الوسط). وبلغت نسبة المشاركة في الانتخابات 84% لأن التصويت إجباري في السويد.

عدد المقاعد حسب الأحزاب:

الاشتراكيون الديمقراطيون 107 مقعدا ولم ينجحوا في تشكيل الحكومة!

الحزب المعتدل 68 مقعدا / شكل الحكومة

الديمقراطيون في السويد 73 مقعدا / داعم للحكومة

حزب الوسط 31 مقعدا /معارضة

حزب اليسار 24 مقعدا/ معارضة

الديمقراطيون المسيحيون 19 مقعدا/ في الائتلاف الحكومي.

الليبراليون 16 مقعدا/في الائتلاف الحكومي

حزب الخضر 18 مقعدا/معارضة

* الحكومة الحالية حكومة ائتلافية التي شُكلت بعد الانتخابات جاءت يمينية دفعت بالسويد إلى عضوية الحلف الأطلسي ويقودها أولف كريسترسون من الحزب المعتدل وشارك فيها الديموقراطيون المسيحيون والليبراليون بدعم من حزب الديموقراطيين، أما الاشتراكي الديموقراطي والأحزاب الأخرى ففي المعارضة! فهل هذا النظام من النوع الديموقراطي التوافقي؟

إن هذه الخلاصات تؤكد أن الحكم في السويد ديموقراطي ليبرالي عادي وليس توافقيا، تتشكل فيه ائتلافات حاكمة من عدة أحزاب عابرة للمكونات، وقريبة برنامجيا أو أيديولوجيا من بعضها، وتبقى في مقابلها معارضة فعالة من عدة احزاب، ولا علاقة للتجربة السويدية بالتجربتين التوافقيتين الطائفيتين في العراق ولبنان!

ماذا تبقى لدينا من تجارب حكم "الديموقراطية التوافقية" بعد هذا الجرد؟ لم يتبق لدينا إلا التجربة اللبنانية وهي الأقدم ثم التجربة العراقية منذ سنة 2005 وهما التجربتان اللتان حُشرا حَشرا في منظومة دول الديموقراطية التوافقية كنوع من الاحتيال أو التزوير. وقبل أن نجرد السمات العامة للتجربتين العراقية واللبنانية دعونا نلخص القواسم المشتركة للتجارب التي استعرضناها في سويسرا وبلجيكا وهولندا والسويد وهذا ما سنفعله في الجزء القادم من هذه السلسلة.

***

علاء اللامي

دراسة مقارنة بين القانون العراقي والقوانين الأوروبية

في ظل الثورة الرقمية وانتشار الإنترنت والتكنولوجيا الحديثة أصبحت البيانات الشخصية أحد أهم الموارد التي تتداول يوميًا بين الأفراد والمؤسسات فالأفراد يتركون وراءهم آثارًا رقمية متنامية تشمل معلوماتهم الشخصية الصحية، المالية والاجتماعية ومن هنا برزت الحاجة إلى حماية هذه البيانات، ليس فقط كجزء من الحقوق الفردية الأساسية، بل أيضًا كأحد معايير الأمان السيبراني والثقة في التعاملات الرقمية.

وتعد قضية حماية البيانات الشخصية تحديًا عالميًا نظرًا لتدفق المعلومات عبر الحدود وتعدد الجهات التي تجمعها وتعالجها وفي هذا السياق يمكن ملاحظة تباين واضح بين التشريعات الوطنية حيث تمثل قوانين الاتحاد الأوروبي معيارًا عالميًا في حماية البيانات، بينما يواجه العراق تحديات قانونية كبيرة في هذا المجال بسبب غياب إطار تشريعي شامل وتهدف هذه الدراسة إلى تقديم قراءة مقارنة بين التشريع العراقي والقوانين الأوروبية، مع تسليط الضوء على التحديات والفرص لتطوير منظومة حماية فعّالة في العراق.

أولًا: مفهوم البيانات الشخصية وأهميتها

تشير البيانات الشخصية إلى كل المعلومات التي تحدد هوية الفرد بشكل مباشر أو غير مباشر، بما في ذلك الاسم، العنوان، رقم الهوية البيانات الصحية، والعادات الرقمية. وتركز أهميتها على ثلاثة محاور رئيسية:

1. حماية الخصوصية:

إذ تُعد البيانات الشخصية جزءًا من حقوق الإنسان الأساسية وحرية الفرد واستقلاله.

2. تعزيز الأمان الرقمي: حماية البيانات تقلل من مخاطر الاحتيال الرقمي والاختراقات الإلكترونية.

3. بناء الثقة في التعاملات الرقمية:

حيث يصبح الأفراد أكثر استعدادًا للتفاعل مع المؤسسات والخدمات عند ضمان حماية بياناتهم.

مع العولمة، تتدفق البيانات بسرعة بين الدول، مما يجعل الحاجة إلى إطار قانوني متين أمراً ملحًا لضمان حماية الأفراد من سوء استخدام هذه البيانات.

ثانيًا: الإطار القانوني لحماية البيانات الشخصية في العراق

تعاني التشريعات العراقية من قصور واضح في مجال حماية البيانات الشخصية، إذ لا يوجد قانون مستقل شامل يتناول جمع البيانات ومعالجتها ونقلها ويمكن تلخيص الوضع القانوني العراقي في النقاط التالية:

1. قوانين حماية الخصوصية الجزئية: تحمي الأسرار المهنية، مثل بيانات المرضى أو موظفي الدولة، لكنها لا تغطي الاستخدام الرقمي الحديث للبيانات.

2. قوانين الجرائم المعلوماتية (قانون رقم 63 لسنة 2015): تحتوي على نصوص جزئية تتعلق بالاعتداء على البيانات الرقمية لكنها محدودة ولا تشمل كل أشكال انتهاك الخصوصية الرقمية.

3. غياب التشريع الشامل: عدم وجود نصوص واضحة تحدد حقوق الأفراد وواجبات المؤسسات، مما يترك ثغرات كبيرة أمام سوء استخدام البيانات.

وبالتالي، فإن الإطار العراقي الحالي يفتقر إلى شمولية المعايير اللازمة لمواجهة تحديات العولمة الرقمية وحماية البيانات الشخصية بفعالية.

ثالثًا: الإطار القانوني لحماية البيانات الشخصية في الاتحاد الأوروبي.

يشكل الاتحاد الأوروبي نموذجًا متقدمًا في حماية البيانات الشخصية من خلال اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR) لعام 2018، التي أعادت تعريف العلاقة بين الأفراد والمؤسسات في الفضاء الرقمي. ومن أبرز ملامح اللائحة:

1. تعريف شامل للبيانات الشخصية:

يشمل كل ما يمكن أن يحدد هويةه الفرد مباشرة أو ضمنيًا، بما في ذلك البيانات البيومترية والسلوكية.

2. حقوق الأفراد:

تشمل الحق في الوصول إلى البيانات الحق في التصحيح، الحق في مسح البيانات ("حق النسيان") والحق في نقل البيانات بين مقدمي الخدمة.

3. واجبات المؤسسات: ضرورة الحصول على موافقة واضحة، حماية البيانات بتقنيات تشفير متقدمة، والإبلاغ عن أي خرق للبيانات خلال فترة زمنية محددة.

4. العقوبات:

فرض غرامات مالية ضخمة تصل إلى 4% من إجمالي الإيرادات السنوية للشركة في حال مخالفة القانون.

5. الرقابة المستقلة: إنشاء هيئات وطنية مستقلة لمراقبة تنفيذ القانون والتأكد من التزام المؤسسات والمعنيين.

تُعد GDPR معيارًا عالميًا وقد أثر على العديد من التشريعات خارج الاتحاد الأوروبي بسبب صرامته وشموليته.

رابعًا: التحديات في حماية البيانات الشخصية

رغم وجود تشريعات لحماية البيانات يواجه العراق وأوروبا على حد سواء تحديات مشتركة نتيجة التطور السريع للتكنولوجيا أبرزها:

1. تطور التكنولوجيا الرقمية بسرعة:

مثل الذكاء الاصطناعي إنترنت الأشياء وتقنيات الحوسبة السحابية، ما يصعب مواكبة التشريعات لهذه التطورات.

2. تبادل البيانات عبر الحدود:

صعوبة تطبيق القوانين الوطنية عند نقل البيانات بين دول مختلفة.

3. ضعف الوعي الرقمي: نقص الوعي القانوني لدى المواطنين والمؤسسات بأهمية حماية البيانات الشخصية.

4. تهديدات الأمن السيبراني:

مثل الاختراقات الإلكترونية، الاحتيال الرقمي، وتسريب البيانات الحساسة.

خامسًا: مقارنة بين العراق والاتحاد الأوروبي

محور العراق والاتحاد الأوروبي (GDPR)

- وجود قانون مستقل

-  قانون شامل ومحدد

- تعريف البيانات الشخصية

- حقوق الأفراد محدودة كاملة، تشمل الحق في المسح والنقل

- العقوبات ضعيفة أو غير محددة صارمة تصل إلى 4% من الإيرادات

- الرقابة محدودة هيئات مستقلة للرقابة

- التعامل مع البيانات العابرة للحدود لا يوجد إطار محدد تنظيم دقيق لعمليات نقل البيانات خارج الاتحاد.

تشير المقارنة إلى فجوة كبيرة بين التشريع العراقي والمعايير الأوروبية، ما يجعل الأفراد العراقيين أكثر عرضة للمخاطر الرقمية.

سادسًا: التوصيات

لتطوير منظومة فعّالة لحماية البيانات الشخصية في العراق، يُوصى بما يلي:

1. سن قانون مستقل لحماية البيانات الشخصية:

يشمل جميع مراحل التعامل مع البيانات من الجمع والمعالجة إلى التخزين والنقل.

2. تعزيز التوعية الرقمية والقانونية:

إدراج برامج تدريبية في المدارس والجامعات لرفع وعي الأفراد بحقوقهم الرقمية.

3. تأسيس هيئة رقابية مستقلة:

لمراقبة تطبيق القوانين وضمان الالتزام بالمعايير الدولية.

4. تحديث التشريعات بشكل دوري:

لمواكبة التطورات التقنية مثل الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة.

5. تفعيل التعاون الدولي: توقيع اتفاقيات لحماية البيانات عند نقلها عبر الحدود وضمان تطبيق أفضل الممارسات العالمية.

ختاما في زمن العولمة أصبحت حماية البيانات الشخصية ضرورة قانونية وأخلاقية على حد سواء وتظهر الدراسة المقارنة بين العراق والاتحاد الأوروبي أن هناك فجوة تشريعية واضحة في العراق الأمر الذي يجعل الأفراد والمؤسسات أكثر عرضة للمخاطر الرقمية ومن ثم، فإن تطوير إطار قانوني شامل، تعزيز الوعي القانوني إقامة هيئة رقابية مستقلة، وتفعيل التعاون الدولي، تعد خطوات أساسية لضمان حماية الحقوق الرقمية للأفراد ومواكبة المعايير العالمية المتقدمة في هذا المجال.

***

د. رافد القاضي

البنية النفسية للمجتمع العراقي هي ليست بنية السبعينات والثمانينيات حيث الفرز الطبقي على أشده وما يصاحب ذلك من مصداقية للفكر والممارسة الحزبية، اننا اليوم أمام انهيار للطبقة الوسطى صاحبة القول الفصل في مجمل التغيرات الأجتماعية والأقتصادية إلى جانب انهيار الطبقة العاملة وتردي اوضاعها بما لا يسمح لها الأنخراط في تنظيمات حزب الطبقة العاملة وبالتالي فأن رداءة ظروف العيش والتقهقر إلى سلم الحاجات الأساسية البيولوجية يحجب الوعي ويجعله متمترسا في الأشباعات الأساسية مما يجعله ضحية لمختلف الميول ومغريات اللحظة بعيدا عن فهم آليات الصراع الطبقي مما يشكل غيبوبة مؤقتة لاختيار بدائل الخلاص فالجوع أب الكفار وان الأنتماء الصحيح يحتاج الى حد معقول من إشباع  الحاجات بعيدا عن مغريات اللحظة فالوعي لا يتشكل في لحظة عابرة بل يمر في حالات من الأختمار صوب الخيارات الصحيحة . ليست الفقر هو المحرك لأنتماء الفرد بل الوعي بأسباب الفقر ومسبباته هو من يدفع الفقراء والمسحوقين إلى الأنتماء وفي الحالة العراقية فهناك عمليات غسيل ادمغة لحرف الناس عن فهم الفقر واسبابه واعتباره قدر من قوى غيبية ولا دخل للسياسة فيه !!!.

ان عقود من الحرمان والضحايا والتنكيل والقتل والبؤس والحروب العبثية قبل وبعد سقوط النظام الدكتاتوري في العام 2003 رافقها ونتج عنها انهيار سقف التوقعات والأمنيات بعراق ديمقراطي يضمن العدالة الاجتماعية والمساواة، انها حقبة عقود من الأحباط والكبت والحرمان في دولة غنية بمواردها التي تغطي ميزانيات دول عدة في العالم الثالث وقد أهدر رصيد أجيال قادمة جراء الفساد وسرقة المال العام.

وقد ألقت ثقافة القدرية بظلالها على وعي الغالبية العظمى من الناس جراء خطابات تشويه العقل الفردي والمجتمعي من خلال اضفاء الشرعية على الأفعال الدنيئة واعتبار ان ما يصيب الناس هو قدر محكوم وليست بفعل فاعل على الأرض.

وقد كانت التأثيرات النفسية للقدرية:

الشعور بالعجز: يمكن أن يؤدي الاعتقاد بأن كل شيء مقدّر إلى شعور بالعجز وعدم القدرة على التأثير في مجرى الحياة، وأن الأفراد لا يمتلكون سيطرة حقيقية على أفعالهم أو مستقبلهم.

تأثير على الدافعية: ربما تؤثر الأفكار حول القدر على الدافعية، حيث قد يُفقد الفرد الدافع للسعي نحو أهدافه إذا اعتقد أن النتائج محددة سلفًا بغض النظر عن جهوده.

الاستسلام والتكيف: يمكن للقدرية أن تؤدي إلى الاستسلام للظروف الصعبة بدلًا من محاولة تغييرها، حيث يرى الفرد أن هذه الظروف جزء من مسار حياته المحدد.

الهروب الى الماضي: في بعض السياقات، قد يُستخدم مفهوم القدر كأداة نفسية للهروب إلى الماضي، حيث يعيش أفراد المجتمع في حنين إلى أوقات سابقة، وهو ما يمكن استغلاله لتجنب مواجهة الواقع.

لقد استطاعت احزاب السلطة عبر زج "المقدس" في السياسة إلى جانب الترهيب واستخدام المال والسلاح إلى إعادة إنتاج القدرية في الوعي الجمعي واعتبار ما يصيب الناس هو قدر محكوم خارج ارادة النطام والسلطات الحاكمة وبالتالي يجب قبوله والتعايش معه في دورات مغلقة غير قابلة على الأختراق.

الأنتماء إلى قوى التغير" بغض النظر عن تقيم أدائها والأخطاء المرتكبة في مسار عملها" ليست ترفا او تسلية ألعاب حزبية بل هو مسؤولية تستدعي من الفرد الواعي لأسباب فقره واضطهاده ان يكون على قدر من المسؤولية في التخلي عن مغريات السلطة ومنافع اللحظة التي تروج لها السلطات الحاكمة. ان الأنتماء إلى اليسار العراقي بمختلف تنوعاته واطيافه هو ببساطة تحمل وزر من المعاناة والتضحيات في مقارعة الظلم والأستبداد وفي تلك الأجواء والبيئة السياسية الصعبة فأن قوى اليسار مطالبة بالمزيد من ممارسة النقد الذاتي لأدائها والكشف عن مواطن الخلل والضعف في ثنايا التنظيم ورسم أهداف واقعية مرحلية قابلة على التنفيذ والحد من الخسائر وإقامة تحالفات مستديمة وليست موسمية قوامها مشتركات في الفكر والسلوك والمنهج.

***

د. عامر صالح

نظراً لِسعة علمها وعمق بلاغتها وجمال صورها وتنوع دلالاتها ومرونة إستخدامها وو و، فقد قال أحد أعمدتها وبلغائها في وصفه للغة العربية، وذلك بعد أن لاقى على ما أكاد أجزم صعوبة في إدراكها حتى نهايتها: سأموت وفيَّ شيء من حتى. وذلك في تعقيبه على عمل كلمة حتى من الجملة، فكيف به لو ذهب أبعد وراح يقلب كلمات أخرى لا تقل شأنا وعملاً عمّا إستشهد وجاء به مثالاً. امّا أنا فاقول وبملئ فمي، بأني واحد من بين أولئك الذين صَعُبَ عليه بلوغ نصف اللغة، بقواعدها وإشتراطاتها، لكني ورغم ذلك سأظل مغرماً بجمالها وأفخر بصداقتي الدائمة والراسخة معها، فهي معيني ومرجعي الذي لا ينضب.

ظن البعض والظن هنا ليس بمعنى الإثم وما سيلحق به من تفسير، بل سنذهب الى ما يدلٌ على الشك أو الإعتقاد. غير انا سنستحضر هنا ونستعين بما جاء في كتب التأريخ التي دونت تلك المرحلة، ولنسقط هذه الاستعارة على ما خرج به الرسول الكريم محمد وما كان قد حمله من رسالة ووجوب تبليغ، لنقول: إن الرجلَ وعلى ما جرى التثبت منه فيما بعد لم يكن أميا، وان أمته لم تكن كذلك. هذا الرأي وعلى وفق المصادر الراصدة لتلك الحقبة من الزمن، لم تأخذ نصيبها بشكل عادل ومنصف، ولو كان قد أخِذَ به، لجاء على الضد مما رُوِّجَ له، حين عدّوا محمداً وأمته أميان.

 النتيجة التي توصل اليها البعض وعلى وفق الرأي الآنف الذكر، سيأتي منسجما ومستجيباً لمستوى التطور الحضاري والمعرفي الذي بلغته الأمة في تلك الحقبة من الزمن. أو قد يكونوا إعتمدوا وتعمدَوا في تفسيرهم على تصريف لغوي مختلف، وذلك من أجل تعزيز ما ذهبوا اليه، حين أعادوا مفردة الأمة الى جذر آخر ولينسبوها الى القوم بدلا من ان تلحق بالجاهل أو الأمي. ولنسلم أمرنا لكلا الإفتراضين ولنبني عليهما ما خلصنا وتوصلنا اليه، لنقول التالي: بأنها (أي ما جاء به محمد) رسالة وعي ومقدرة، موجهة لأمة مهيئة سلفاً وذات أرضية خصبة، لاستقبال واستيعاب والإستجابة كذلك لما جاء به حاملها ومبشّرها.

 هذا الرأي الذي أتينا على ذكره في السطور السابقة، قد وفَّرَ من القناعة والرضا لأن يؤدي الى أن يُفتح الباب رحباً أمام فكرة القبول به والتعاطي معه، حيث بني على أساس لا يخلو من المنطق. وهناك أيضاً الكثير من الكتابات التي ذهبت في تفسيرها الى ذات الوجهة. وتدعيما لذلك وإذا ماعدنا على سبيل المثال الى مدونات وكتابات الكاتب المصري وعميد الأدب العربي، الغني عن التعريف، طه حسين، طيب الثرى والذكر، فكان له رأي جدير بالتوقف عنده وبتأنٍ، حيث جاء متفقاً تماماً مع ما فات ذكره، والذي يُستنتجُ منه بما يفيد: الى أنَّ أمة استطاعت ان تكتب وتورث للذين جاءوا من بعدها، ذلك النوع من الأدب، الا وهو الشعر وليس أي شعر بل ذاك الذي قِيستْ قوافيه وتفعيلاته بميزان الذهب، والذي درج المؤرخون لتلك الحقبة على تسميته مجازاً بالشعر الجاهلي.

 الاّ أنَّ للرجل أي لطه حسين، وإستكمالا لما ذهب اليه، ولكي يوضح فكرته وموقفه بشكل أدق وأوضح، فسيتوقف هنا عند موضوع بعينه، وهو على ما أظن يكتسب أهمية كبيرة بل وكبيرة جداً. فالرجل لم ينفِ أو يقلل من قدرات تلك الأمة فيما بلغته من مكانة ومنزلة شعرية، جعلته يتبوأ وبجدارة موقعاً متميزاً بين الأمم وتحديداً في المجال الذي هو حديث ساعتنا. غير أنه في ذات الوقت وهنا بيت القصيد، كان قد شكك وبنى إعتراضه على الحقبة الزمنية التي أرَّخت لميلاد هذا الشعر وبهذه الكفاءة والمقدرة.

 وفي ذات السياق وبالعودة ثانية الى رأي عميد الأدب العربي طه حسين عن هذه الجزئية تحديداً، فكاد كتابه الأهم (في الشعر الجاهلي) الذي أصدره في عام 1926 أن يسبب له إشكالاً كبيرا، وذلك على إثر تشكيكه في الحقبة التي وُلِدَ فيها، والتي أسماها المؤرخون بالعصر الجاهلي. بل حتى راح أبعد من ذلك حين إعتبر (أنَّ معظمه أي شعر تلك الحقبة، منحول ومدسوس بعد ظهور الإسلام). المشكلة لم تتوقف عند هذا الحد بل وصلت تداعياتها الجامع الأزهر، حيث جوبه الرجل بمعارضة شديدة من قبل طلبة الأزهر أولاً ومن ثم شيخه، حيث راحوا متهمينه بما هو أقسى من ذلك، حين وضعوه في خانة  الملحدين، داعين في ذات الوقت الى فصله من تلك المؤسسة العلمية والدينية، غير أنَّ الأمور ومن محاسن الصدف أن أخذت منحاً آخر حيث جرت تبرأته من تلك التُهم فيما بعد. لكنه ورغم ذلك وفي سياق ذات القضية، وإستكمالاً لتلك الحملة التي شُنَّت ضده، فقد إستمر العديد من الكتاب في التصدي له، بعد أن  دخلت هي الأخرى في معمعة الصراع الدائر إياه.

 وكي لا تأخذ القصة بعدا أكثر، وإستجابة لتلك الدعوات الصادرة من أكبر تجمع ديني يخص المسلمين والمقصود به هنا الأزهر الشريف، الذي كان قد لعب ولا زال دوراً مهماً في تصويب وتصحيح أي من المسارات المقلقة وما يمكن أن يخرج به من إجتهاد، وبشكل خاص على المستويين الديني والفقهي، فقد إضطر طه حسين الى تدارك الأمر وبسرعة، حيث أقدم على إعادة طباعة الكتاب إياه، ولكن سيحمل هذه المرة عنواناً آخر، الا وهو (في الأدب الجاهلي)، بعد أن وجد نفسه مضطراً على إجراء بعض التعديلات المهمة عليه، كإن حذفه لبضعة فصول منه، والتي كانت سبباً في حصول ما دار من جدل.

 وفي السؤال عن بعض العوامل المساعدة التي وقفت وراء ذهاب طه حسين الى التشكيك بالفترة التأريخية التي وُلِدَ فيها هذا الشعر، فلا بأس من التوقف عند بعض ظروفها ومقدماتها. ففضلاً عما يمتلكه من سعة أفق ومن ثقافة عالية، كانت قد نمت معه وتطورت ومنذ نعومة أظفاره، فالرجل في ذلك الوقت، أي منتصف العشرينات من القرن المنصرم، كان يدرس في باريس وأتيحت له حينذاك فرصة الإطلاع على عالم الفلسفة، لكنه وبعد أن استهواه هذا العلم أي الفلسفة، فسيجد نفسه غير مكتفٍ بهذا القدر الذي تيسَّرَ له منه، لذا راح مزيدا عليها وليتعمَّق أكثر في دراستها. وكان من نتائجها أن توقَّفَ طويلاً عند مبدأ الشك، متأثراً على ما يبدو بكتاب رينيه ديكارت في هذا الصدد، فضلا عمّا كان يملكه شخصياً من خزين معرفي، وما كان قد قرأه عن عثمان بن عمر بن محبوب البصري والملقب بالجاحظ، والذي لا يبتعد كثيرا في آراءه وفي بعض من محطاتها تحديداً عن مبدأ الشك، والذي كان قد خرج به ديكارت، وليمسي إهتمامه بها لصيقاً وحتى مغادرته الدنيا. 

 وإرتباطا بفكرة التشكيك بالحقبة الزمنية التي أنتجت ما جرى تسميته من قبل المؤرخين بالشعر الجاهلي، فقد حاول البعض إسقاط تلك الإشكالية وبشكل من الأشكال على رسالة الإسلام، وصولاً الى النيل من شخصية محمد وما كان قد جاء بالكتاب الذي بُلِّغَ به من تعاليم وافكار ورؤى، وذلك من خلال إثارة السؤال المهم على ما رأوه والمتمثل: بكيفية وقوف رجل أمي، بحمل تلك الرسالة السامية، العالية القدرة والكفاءة والتبشير بها كذلك. وموضوع كهذا قد جرى الخوض فيه كثيراً جداً من قبل أهل الشأن وبعميق رؤيا حتى أشبِع أو يكاد. وعلى اثر ذلك فقد إنقسم المحققون فيه الى فريقين، فمنهم مَنْ بات على قناعة راسخة بتلك الرسالة، داحضاً فكرة التشكيك بها. وفريق آخر وقف على الضد منها، رافضاً كل ما جاء فيها.

 وإتساقا مع ما تقدم وبصرف النظر عن الإحتمالات التي كنّا قد سقناها عن تلك الرسالة، والتي توقفنا خلالها عند فكرة التشكيك بمصدرها وتأريخها، فقد حملت بين ثناياها وفي مواقع كثيرة منها، أبعاداً ورؤى إنسانية، كانت صريحة في تعاليمها وفي توجهاتها وبما ينسجم ويستجيب للغة العصر آنذاك أو ربما تفوق عليها.

 أمّا ما يتعلق بنا، فقد إرتأينا التوقف في هذا المقال على ما حمله الكتاب إياه من أبعاد جمالية ومن عمق بلاغة وخزين معرفة، والأهم من ذلك ما سيقوم به من دور متميز، يتمثل في رفد اللغة العربية،  مضيفاً على جمالها جمالاً. وفي ذات الوجهة فلكم كان التلاقح واضحاً صريحاً بين جزالة الشعر وحكمته الذي كان قد كُتبَ في تلك الحقبة من الزمن، وبين دلالات القرآن الكريم وسحر البيان الذي أتى به، ليمضيا سوية في بناء لغة شديدة الإحكام، ولتشغل مكانا علياً بين شقيقاتها من اللغات الأخرى، ثابتة في منزلتها ومقامها، متمكنة من البقاء والإستمرار، على الرغم من مرور ما يزيد على الألفي عام على نطق اول حروفها وكلماتها.

 لكن وعلى الطرف الآخر وعلى الرغم من تمتع اللغة العربية من قوة حضور ورشاقة إستخدام وقدرتها كذلك على نحت وإدخال عددا ليس بالقليل من المفردات الجديدة وإدخالها الى محرابها، وهذا ما تّحقق فعلاً مع تطور مسيرتها، الاّ ان هناك أعداداً لا بأس بها، لا زالت تلاقي صعوبة في إستخدامها (العربية) وبما يتفق  وقواعدها وشروطها التي جاءت بها. لذا سعى المختصون وذوي العلاقة الى العمل من أجل تبسيطها وتروضيها، جهد ما يستطيعون وبما يستجيب لمنطق العصر ومقتضياته. محافظين في ذات الوقت والى حد بعيد على قيمتها وأساسياتها وسمو منزلتها. لذا شرعت بإتخاذ العديد من الخطوات العملية، هادفة الى إزاحة بعض من عقدها وتراكيبها وصولا الى أن تكون في متناول اليد واللسان وعلى نحو أرحب.

 وإذا ما أردنا سياق بعض الأمثلة عن الإجراءات التي قام بها البعض وكذلك جملة من الأفكار التي جرى تداولها والتي تصب في ذات الإتجاه، فقد إقترح الأستاذ الراحل هادي العلوي إعتماد الحرف الساكن في نهايات كل كلمة، غايته التخفيف من ذلك الثقل الذي حمًله اللغويون القدامى للغة العربية وما جاءوا به من إشتراطات. فكما هو معروف فتحريك الكلمة، لم يأتِ بعفو خاطر أو تحت تأثير رغبة طارئة، بل هي مرتبطة بقواعد لغوية شديدة الدقة والتعبير، فمن خلالها ستميز على سبيل المثال الفاعل من المفعول به والمضاف من المضاف اليه والصفة من الموصوف وبذا سيكون لكل منهم أحكامه وطبيعة عمله وموقعه من الجملة. 

 ومن بين الأفكار التي طُرحت من قبل بعض اللغويين المهتمين بالعربية، وبهدف التخفيف أيضاً من شروطها، وصولاً الى تسهيل استخدامها ومن قِبل أوسع قاعدة من الناطقين بها، فقد جرت محاولات عديدة، تتمثل في تبني فكرة إحلال اللهجة المحكية أو العامية، كبديل لغوي عن العربية الفصحى وفي بعض المواقع. غير أنَّ هذا الإقتراح كان قد إصطدم بالكثير من الحواجز والمعوقات، مما اضطر دعاتها الى التخلي عن تلك الفكرة، أو لنقل وعلى نحو أدق بأَّن تلك الدعوات كانت قد تلاشت لعدم وجود آذان صاغية لها، بل وحتى قوبلت من قبل البعض ولنسميهم بالمتشددين للغة العربية بالرفض القاطع، لأنطوائها وحسب رأيهم على انعكاسات ونتائج سلبية، قد تؤدي في نهاية المطاف الى اضعاف مكانتها بين شقيقاتها من اللغات، وكذلك الى تراجع دورها الانساني والحضاري، وفي رفد الشعوب الاخرى بما تكتنزته من معارف وعلوم، كانت قد كتبت بلغة الضاد.

  وفي ذات السياق، فلا بأس من الإشارة هنا الى أنَّ أحد أبرز المتشددين للكتابة باللهجة المحكية أو العامية إن شئتم تسميتها، والحديث هنا عن الشاعر اللبناني الراحل سعيد عقل. فعلى الرغم من أنَّ الرجل بدأ حياته السياسية مبكراً وبحماس شديد، وليعلن عن إنتماءه الى الحزب القومي السوري، العروبي التوجه والواسع الإنتشار آنذاك في بلاد الشام، وكذلك بإعتباره الأقرب الى طريقة تفكيره بل ويشتركان بذات الأهداف، الاّ أنه وللأسف وقد تستغرب عزيزي القارئ لما آل اليه مصيره، حيث إنتهت حياته السياسية في أن يغادر حزبه، وليتحول في وجهته الى الطرف الآخر المعادي لقوميته، إذ بات أحد مؤيدي الحركة الصهيونية والأقرب الى أفكارهم.

 وعلى أثر هذا الإنقلاب والتحول الذي أحدثه سعيد عقل في حياته السياسية وولاءه، والذي كنا قد توقفنا عنده، فلم يدعو وبسبب تعصبه وتطرفه هذا الى الكتابة باللهجة المحكية اللبنانية فحسب، وانما بلغ به الأمر أن يبشّر ويحثٌ على إستخدام الحرف اللاتيني كبديل عن الحرف العربي في الكتابة. وأمر كهذا سيذكرنا بالرئيس التركي مصطفى أتاتورك وبعيد إستلامه السلطة مباشرة، والذي كان قد إستبقه في دعوته تلك، إذ أقدم وعلى نحو سريع وبمجرد أن تمكن من السلطة واستحكمها بإستبدال الحرف العربي باللاتيني. غير انه أي سعيد عقل، لاقى وبسرعة فائقة رفضا قاطعاً وإستهجانا منقطع النظير لدعوته تلك، ومن قبل أوسع الأوساط وفي مقدمتها مثقفو لبنان ووطنيّه، فضلاً عن مجاميع اللغة في أهم العواصم العربية ذات الشأن كالقاهرة وبغداد ودمشق.

 وبالعودة من جديد الى العربية، فلأنها لغة تفكير وتعبير وتواصل وقادرة كذلك على الاشتقاق والتطور، فقد كانت مركز جذب وإستقطاب لأعداد كبيرة جداً من المثقفين، ممن يعودون في خلفياتهم القومية الى شعوب وقبائل أخرى. والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، فما إنفك هؤلاء، وجلّهم من الفرس والأتراك وغيرهم من شعوب آسيا الوسطى بما فيهم الروس على سبيل المثال، يتفاخرون بإجادتهم للغة العربية، بل وقد سجَّل لهم التأريخ سبقاً في ذلك، لما لديهم من مساهمات ملفتة في هذا المجال.

 وإذا ما أردنا التوقف عند بعض الأسماء فهي كثيرة، فهذا سيبويه، الفارسي القومية على سبيل المثال والذي يعتبر شيخ النحاة. وذاك إبن جني الرومي. وآخر فارسي الأصل أيضاً وهو الزمخشري، ومن أشهر كتبه، المفصل في النحو، وعنه نقول بأنه إمام النحو والبلاغة والتفسير اللغوي. وهناك الملقب بالجوهري وهو تركي الأصل ومن أشهر كتبه الصحاح. وإذا ما ذهبنا أبعد من ذلك فهناك من اللغويين ومن غير العرب أيضاً إبن مضاء القرطبي الأندلسي، ومن أشهر ما خطَّته يداه وجاد به عقله، كتاب الرد على النحاة. وكذلك هناك لسان الدين بن الخطيب الأندلسي. والأسماء كثيرة جداً ولكننا سنكتفي بهذا القدر، فليس في المجال متسع للتوقف عندها جميعاً.  

 ولعلهم في اجادتهم للغة العربية والتحدث بها، لم يروا فيها مدخلاً لفهم الاسلام وحسب، بل لما حوته من حلو كلام وجمال بلاغة وسحر صياغة، مما دفعهم ليس بتبنيها وانما بالدفاع والذود عنها كذلك، وفي محافل ارادت لها أن تنقرض أو يضيقوا عليها في أضعف الاحوال. غير أن ذلك كلّه لم يعفِ المختصين باللغة العربية ومجاميعها، بوجوب النظر اليها بعين من الجدية، لجعلها أكثر مطاوعة وانسجاما مع العصر ومقتضياته، لذا فلابد من تليينها وإجتناب التشدد في شروطها مخافة انكسارها أو أفول دورها ونجمها. لا سيما وأن هناك رهط من اللغويين لا زال متمسكا بثوابتها كما جاءت به أول مرة وأستقرت عليه. إذ تراهم حذرين قلقين من فكرة التغيير والتطوير وبذرائع شتى كانفراط عقدها. ومع التقدير الكبير لحرصهم الشديد على لغتهم، الاً انه ينبغي النظر اليها (اللغة العربية) باعتبارها عِلماً كسائر العلوم، وبمعنى آخر فقد بات عليه أن يخضع ويستجيب لمنطق التطور والتغيير، مراعياً ومسايراً لغة العصر، لذا لابد من وللتأكيد مرة أخرى من العمل على تبسيطها، لتصبح في متناول جميع الناطقين بها أولاً، وكذلك للراغبين في دخول محرابها من القوميات والشعوب الأخرى، ومن دون المساس بثوابتها.

***

حاتم جعفر - السويد ــ مالمو

 

لماذا نجحت اليابان في نهضتها الحضارية، ولماذا فشلت النهضة الحضارية في مصر وما تبعها من الدول العربية؟ هو تساؤل مشروع يشغل بال كل فرد من أفراد المجتمع العربي، وغالباً ما يكون مصحوباً بالألم والحسرة. ليس غريباً أن تقارَن النهضة في هذين البلدين في كثير من المؤلفات والسرديات والحوارات، ذلك أن النهضة الحضارية في هذين البلدين حدثت في زمن متقارب (القرن التاسع عشر) وعاصرت مسيرة كل منهما الآخر.

من المعلوم أن اليابان نجحت نجاحاً باهراً في تحديث مجتمعها الذي كان متخلفاً بكل المقاييس الحضارية، واستطاعت أن تنهض نهضة حضارية شاملة وسريعة. وفي الوقت الذي احتاجت فيه أوروبا إلى ستة قرون لتصل إلى قمة نهضتها، احتاجت اليابان إلى سبعين عاماً فقط لتصل إلى نهضة شهد لها الجميع بالتفوّق والتقدم، حيث بدأت النهضة في اليابان عام 1868 ونضجت في زمن الحرب العالمية الثانية، حتى أن البعض أطلق عليها مصطلح " المعجزة اليابانية". وفي وقت مقارب بدأت مصر نهضتها الحضارية لتحديث مجتمعها وسارت في مسيرتها في القرن التاسع عشر، إلاّ أن هذه المسيرة تعثرت كثيراً وفشلت في بعض النواحي وانكفأت على نفسها. فما الذي حدث، وما سبب فشل النهضة في مصر والبلدان العربية؟ وما هي مقومات النهضة اليابانية التي جعلتها تنجح وبأسلوب متميّز؟

في كتابه "تأملات في التاريخ العربي" كتب شارل عيساوي مقالاً عن نهضة اليابان، قارن فيه بين النهضة المصرية واليابانية، حيث ذكر المؤشرات التي تعطي انطباعاً عاماً عن احتمالات قيام النهضة في البلدين في أواخر القرن التاسع عشر.

فعن اليابان على سبيل المثال، في عام 1881 كانت فكرة الغربيين عن اليابان هي "لا نعتقد أن اليابان سوف تصبح غنية ابداً. فالمزايا التي منحتها الطبيعة لهم، باستثناء المناخ وحب الكسل ورغبات الناس أنفسهم، تنفي ذلك، فاليابانيون جنس سعيد ويقتنعون بالقليل، فإنه ليس من المرجح أن يحققوا الكثير" وفي عام 1900م قال الغرب أيضاً "الياباني لا يمتلك أي ذكاء في مجال الأعمال".

أمّا بالنسبة لمصر فقد كانت هناك مؤشرات في التنمية الاقتصادية لعام 1913م تشير إلى إن معدل متوسط دخل المصري أعلى بقليل من الياباني، وكان نصيب الفرد المصري من التجارة الخارجية يساوي ضعف نصيب الياباني، وشبكة سكك الحديد المصرية أكثر شمولاً من اليابان. وعلى الرغم من أن المؤشرات كانت تشير إلى احتمالية قيام النهضة في مصر ولا توحي بقدرة اليابان على النهضة إلاّ أن الواقع يرينا عكس ذلك، فقد نهضت اليابان بشكل مدهش فيما تدهورت الأحوال في مصر وباقي الدول العربية من سيء إلى أسوء. فلماذا حدث ذلك وكيف حدث ذلك.

في هذا المقال، سنبحث العوامل والأسباب التي عملت على إنجاح النهضة في اليابان، ومحاولة معرفة ما كان ينقص النهضة العربية من عوامل أدت إلى فشلها وذلك من خلال مقارنة عوامل النهضة بين البلدين والمجتمعين.

نبذة تاريخية عن النهضة اليابانية

بدأت النهضة في اليابان عام 1868م عندما اعتلى العرش الإمبراطور موتسوهيتو، وسميّ "بعصر الميجي" وكلمة الميجي تعني الحاكم المستنير. كان هذا الإمبراطور من المتنورين الذي سعى لنهضة الأمة، فبدأ النهضة واستمر بها لغاية وفاته عام 1912م. قبل استلامه العرش كانت اليابان دولة متخلّفة ومنعزلة عن العالم. بدأ الإمبراطور الميجي بتحديث الجيش (كتاب استراتيجية الإدارة اليابانية د. إبراهيم عبد الله منيف) واستطاع أن يبني جيشاً قوياً يضاهي الجيوش الأوروبية من حيث التطور والبناء، بحيث أنه استطاع أن يغزو ويحتل الدول المجاورة لليابان مثل كوريا والصين وأجزاء من روسيا، وأصبحت اليابان في عهده اقوى دولة في الشرق الآسيوي. من ناحية أخرى قام الإمبراطور الميجي بإرسال ما لا يقل عن مائتي ياباني في بعثات دراسية إلى فرنسا في وقت تزامن مع البعثات الدراسية التي أرسلها والي مصر محمد علي باشا إلى فرنسا. وقد أسهمت بعثات الميجي هذه في ارتقاء النهضة والتنمية والتطور في اليابان. وظهرت أيضاً في هذا العهد صناعة البنوك كأول صناعة في اليابان، وقد سبقت صناعة النقل وسكك الحديد، وكانت الأساس والمصدر الرئيسي للتطور الصناعي.  وقد ارتفع الإنتاج الصناعي لليابان خمسة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب العالمية الأولى. بحلول الحرب العالمية الثانية أصبحت اليابان تشكل أقوى إمبراطورية في شرق آسيا واحتلت معظم دول شرق آسيا، لكنها كانت دولة قاسية ظالمة تمارس العقيدة العسكرية "أقتل احرق دمر". ثم، خسرت اليابان الحرب العالمية الثانية فاحتلتها أمريكا وفرضت عليها شروط قاسية ومهينة قبلتها القيادة اليابانية على مضض. من هذه الشروط نزع سلطة الإمبراطور، الذي كان بمثابة إله عند اليابانيين، وتجريده من كل السلطات التي كان يمتلكها ليصبح رمزاً فقط بدون أيّ صلاحيات عسكرية أو إدارية. ومُنع التسليح عن اليابان بكل أنواعه. وقد عملت أمريكا بجهدٍ وجدٍ كبير على القضاء على الفكرة القتالية "الساموراي" ونزعها من العقيدة اليابانية، ونجحت في ذلك. نتيجة لذلك، اتجه اليابانيون في هذه الحقبة إلى نهضتهم الثانية التي تميّزت بالدعوة للسلام ونبذ الحروب والتركيز على تطوير الاقتصاد والعلوم والصناعات.

مقومات وعوامل النهضة اليابانية

من المنطقي والمعقول القول بأن هنالك عوامل وأسباب ساعدت في نهضة الشعب الياباني، وأن هنالك عوامل وأسباب أدت إلى فشل أو تعثر النهضة في البلدان العربية. ولأن المقال هنا لا يسمح بالغوص في التفاصيل العميقة لكلا الطرفين لذلك سيتم التركيز على عوامل نجاح النهضة اليابانية ومقارنتها بظروف المنطقة العربية لاستخلاص العبر من التجارب والأسباب، وندرج العوامل التالية:

العامل الجغرافي

جغرافياً، اليابان هي جزيرة تقع في أقصى شرق قارة آسيا، وهي بذلك تقع في أقصى الطرف الشرقي من العالم وبعيدة جداً عن مركز العالم. وكما هو معلوم فإن مركز العالم يتمثل بمنطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، ولذلك فليس لليابان أي أهمية سياسية قد تشكل حافزاً للدول الأوروبية بالسعي لاحتلالها. بالإضافة إلى ذلك، فاليابان لا تمتلك ثروات طبيعية أو موارد أخرى يمكن أن تستفيد منها الدول الاستعمارية وتسعى لاستغلالها. ولهذه الأسباب فاليابان لم تكن هدفاً مهماً ومباشراً للتدخل الأجنبي الاستعماري مما جعلها بمنأى عن الحروب المدمرة. وبناء على ذلك فإن موقع اليابان الجغرافي عمل على حمايتها من التدخلات الخارجية والتقليل من خطر تعرضها للحروب الخارجية ذات التأثير المخرّب للبلد.

أما بالنسبة لمصر والعالم العربي، فهم يتمتعون بموقع إستراتيجي في غاية الأهمية، يتمثل بحوض البحر الأبيض المتوسط الذي يعتبر مركز العالم. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر المنطقة العربية ممراً حيوياً لخطوط التجارة العالمية. وأيضاً، امتلاكها لكثير من الثروات الطبيعية التي يحتاجها العالم وأهمها النفط. كل ذلك جعل المنطقة العربية هدفاً مباشراً حيوياً ومهماً للدول الاستعمارية لغزو المنطقة واحتلالها، مما جعلها تدخل في حروب طاحنة على مدى التاريخ. والحروب كما هو معروف تؤدي إلى دمار شامل للبلد وخسائر بشرية كبيرة وانهيار اقتصادي وأخلاقي.

العامل البشري

يتميز أفراد المجتمع الياباني بدرجة عالية من التماسك والانسجام الاجتماعي. فالشعب الياباني يتصرف وفق معايير عالية من التجانس القومي والديني واللغوي. منذ قديم الزمان وحتى اليوم حافظ الشعب الياباني على تماسكه بتراثه وعاداته وتقاليده، وغالباً ما نأى بنفسه عن تقاليد الغرب المشينة، وابتعد عن منهج التغريب الذي يعتمد الأفكار الغربية كأساس له، فاليابانيون كانوا دائماً يرفضون التدخل الأجنبي لبلادهم.

 في القرن السادس عشر، على سبيل المثال، وصل البرتغاليون إلى اليابان وبدأت حملات التبشير المسيحية الملازمة للغزو الأوروبي، حيث أن التبشير بالديانة كان وما زال يعتبر ركيزة مهمة في العقيدة المسيحية. وكانت نتيجة ذلك أن اعتنق قرابة 300 ألف ياباني الديانة المسيحية، ووصلت الأخبار إلى الإمبراطور الذي سارع لإصدار الأوامر الإمبراطورية بطرد الأوروبيين من البلاد وغَلق الحدود ومَنع التعامل مع الأوربيين، وحَظر الديانة المسيحية، فتم القضاء على الديانة المسيحية والمحافظة على الدين الرسمي للبلد (الشنتو)، والمحافظة على التراث والهوية الثقافية. دخلت اليابان بعدها في عزلة طوعية عن العالم الخارجي استمرت قرابة قرنين ونصف. في عام 1853 حاصر الأسطول الأمريكي اليابان، وأجبر اليابان على فتح التعامل التجاري وإعادة العلاقات مع دول العالم. اضطر اليابانيون تحت ضغط الحصار العسكري البحري، على قبول الشروط الأمريكية لعدم قدرتهم على مجابهة الأمريكيون عسكرياً فانتهت العزلة اليابانية، لكنهم مع ذلك ظلوا حذرين من التأثير الغربي على شعبهم.

في مقولة لبرتراند رسل "كانت اليابان دولة متخلفة اقتصادياً، لكنها لم تكن متخلفة ثقافياً". لقد حافظ اليابانيون على تعليم أفراد شعبهم، واهتموا بتعليم المرأة وتشغيلها من قبل بداية عصر النهضة (الميجي) بحيث كان ما يقرب من 40% من الذكور و10% من الاناث، متعلمين عند بداية عصر الميجي.

وفي عام 1907م، كان 97% من أطفال اليابان منخرطون في الدراسة الابتدائية، وتم القضاء على الأمية. بينما كان 93% من المصريين أميين في تلك السنة.

ولابد من التذكير أن اليابانيون مشهورين بالولاء والتفاني في خدمة الإمبراطور والوطن والشعب. فالفرد الياباني يتربى في مجتمعه على تبني أخلاقيات الصدق والأمانة والإخلاص في العمل والتفاني في حب الوطن، فالأرض عند اليابانيين مقدسة لا يجوز أن يدنسها الأجنبي. وخير مثال على ذلك سلوكهم وتفانيهم في أداء الواجب للوطن وفي وظائف الدولة العامة وشركات الصناعات والتصنيع الخاصة.

العامل الاقتصادي

اتبعت اليابان سياسات اقتصادية حكيمة وخطوات اقتصادية سريعة، أدت إلى نشؤ ثورة صناعية حقيقية وبنية اقتصادية حديثة ومتطورة ساعدت على بناء النهضة اليابانية. من مميزات النهضة الصناعية أنها تأسست بفكرة الاستفادة من السلع الأجنبية، ليس لغرض الاستهلاك فقط وإنما بهدف تفكيك السلعة المستوردة ودراسة كيفية تصنيعها ليتم فعلا انتاجها داخلياً بدلاً من استيرادها، فكانت هذه استراتيجية اقتصادية خلاّقة. وقد نجحت اليابان في مسعاها للتصنيع وتطوير الاقتصاد باعتماد الرأسمالية ودعم الخصخصة مع البقاء على سيطرة الدولة للمؤسسات الحيوية، فبُنيَت المصانع وأنشأت الصناعات الثقيلة والخفيفة والعسكرية والحديد والصلب، وتطورت صناعة البنوك العصرية، وتم إنشاء خطوط السكك الحديدية على نطاق واسع. ومما ساعد في اتخاذ هذا المسار الصناعي هو طلاب البعثات الذين أرسلوا إلى أوروبا للدراسة، فاهتموا بدراسة العلوم والتكنولوجيا أكثر من اهتمامهم بالعلوم الإنسانية والاجتماعية.

بالنسبة للدول العربية، كانت سياساتها الاقتصادية تنعكس سلباً على الاقتصاد الوطني. فهي كانت وما زالت دول مستهلكة، لم تتعلم ثقافة التصنيع والإنتاج الصناعي، ولم تهتم لها، فبقيت دول مستهلكة غير منتجة مما أدى إلى تباطؤ اقتصاد هذه الدول وضعفه. واتخذ المجتمع العربي في نهضته مسارات الثقافة الفكرية والاعتماد على الثقافة الغربية والتغريب بدلاً من التركيز على العلم والعلوم والتكنولوجيا فبقيت متخلفة علمياً وتكنولوجياً. لم تكن لدى الدول العربية خطط أو استراتيجيات اقتصادية واضحة أو ناجحة، لذلك بقيت هذه الدول تعاني من ضعف الاقتصاد وتراكم الديون وانتشار الفقر.

القيادة الحكيمة 

 مما لا شك فيه إن القيادة الحكيمة تعتبر من أهم العوامل التي تؤثر وتعمل على تقدم البلد ونهضته، فهي الجهة التنفيذية وصاحبة السلطة القادرة على وضع الخطط وتنفيذها لنهضة المجتمع. وهناك أمثلة كثيرة في التاريخ توضح دور القيادة السياسية في تطوير أو تدمير البلد.

بالنسبة لليابان، على الرغم من أن الإمبراطور الميجي كان رائد النهضة في اليابان ولقّب بالحاكم المستنير وأعتُبر عصره عصر النهضة، إلاّ إن حكمة القيادة لم تقتصر على حكم الإمبراطور الميجي فقط، وإنما كان معظم الحكام الذين حكموا البلاد مخلصين لوطنهم غير فاسدين ولا يسعون لمكاسب خاصة على حساب الوطن. فقد عمل الحكام، منذ قرون عديدة من قبل عصر النهضة، على إصلاح البلد. فقد حاربوا التدخلات الخارجية وحافظوا على ثقافة وتراث البلد من التأثير الغربي. كما عملوا على التخلص من الأمية، واهتمّوا بتعليم المرأة ورفع شأنها وجعلها عنصر فعّال في المجتمع، ولم يظهر أي تأثير سلبي أو معارضة من قبل حُكّام اليابان على تطور المجتمع ونهضته. ولا ننسى تبنيهم للسياسات الاقتصادية الصحيحة التي انتجت اقتصاداً قوياً متماسكاُ وأعتُبر اقتصادهم من اقوى اقتصادات العالم.  

أما في مصر، فلا أحد ينكر أن والي مصر محمد على باشا أقام نهضة وطنية وثقافية في مختلف مجالات التطور، لكن مَن خلفه من أبناءه وأحفاده لم يكونوا من دعاة تطور البلدان وتقدمها بقدر ما كانوا يسعون للحفاظ على حكمهم وترفهم. فلم يُعرف في تاريخنا الحديث حاكم نادى وسعى لنهضة البلدان.

في عام 1954م، كتب شارل عيساوي مقال عن نهضة مصر قال فيه "لو قدّر لمصر أن تُحكَم في ذلك الوقت على يد حكومة وطنية ومستنيرة لكانت قد بزغت في القرن العشرين كصورة مصغرة لليابان".

الخلاصة

من المعلوم أن الثروة البشرية هي أقوى وأفضل عامل على الإطلاق في بناء المجتمع. فالإنسان الجّاد المتعلم الحكيم يستطيع أن يوجد كل ما يحتاجه لبناء بيئته إذا ما قرّر ذلك. والمجتمع الجيد ينتج قيادة جيدة.

فالإنسان هو أساس المجتمع، فإذا صَلُح المجتمع صَلح أفراده وصَلُحت السلطة، وإذا فسد المجتمع فسد أفراد المجتمع وفسدت السلطة. يقول القول الحكيم "كيف ما تكونوا يولّى عليكم".

وصلاح المجتمع يبدأ بصلاح الإنسان لنفسه، " إن الله لا يغيّرٌ ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم".

***

صائب المختار

 

يتجلى دور المثقف في لحظات التحول إما كقائد للوعي، أو كشاهد على تفكك المجتمع، وفي الوطن العربي عموماً وسوريا خصوصاً، يواجه المثقف أزمةً عميقةّ يمكن تناولها من ثلاثة محاور:

أولاً: أزمة المثقف و"برجه العاجي"

تتلخص أزمة المثقف في سوريا في تهميشه السياسي والاجتماعي، وغالباً ما يكون دوره سلبياً للأسباب التالية:

1. الغياب عن الشارع والواقع: يميل جزءٌ من النخبة المثقفة التقليدية، إلى الانعزالية النخبوية، حيث ينشغلون بإشكالياتٍ فكريةٍ وثقافيةٍ بعيدةٍ عن هموم المواطنين اليومية، مما يخلق فجوةً واسعةً بين منتِج الثقافة (المثقف) ومستهلِكها (الجمهور العادي). هذا الانفصال يقلّل من قدرتهم على التعبئة والتأثير.

2.  التعالي على القضايا الشعبية: بدلاً من الانخراط الفعّال واقتسام الآلام والتعبير عن آمال الناس، يكتفي بعضهم بـالنقد النظري، دون تقديم حلولٍ عمليّةٍ، أو الانخراط في نشاطٍ عمليٍّ لتحقيق الأهداف الديمقراطية.

3.  خيار الاستقالة أو المعارضة السلبية: يختار بعض المثقفين الاعتصام بالاستقالة من الشأن العام أو الاكتفاء بـالمعارضة السلبية، مما يفتح الساحة أمام قوى أخرى –غير مدنية– لملء الفراغ القيادي.

ثانياً: إشكالية العلاقة بين الثقافي والسياسي

في سياق التحولات، تبرز صراعاتٌ أيديولوجية تُعقّد دور المثقف، منها:

* هيمنة السياسي على الثقافي: في أغلب الأحيان، يهيمن السياسي على المشهد العام ويهمّش دور المثقف، مما يدفع الأخير إما إلى الولاء للسلطة، ما يُسمى "مثقفي البلاط"، أو الانكفاء، مكتفين بخطابٍ سلبي لا يعترف بالسلطة، دون تقديم أيّ برنامجٍ سياسيّ بديل، يقبله الشعب المسحوق، ويلبي تطلعات الأغلبية الساحقة.

* القيود الأيديولوجية: تقوقع المثقفين داخل مرجعياتهم الأيديولوجية، واعتبار الآخر، من المرجعيات الأخرى، دينية أو ليبرالية، هي آخر منافس وليس مكملا، اوانحراف بوصلة النضال من النضال لبناء دولة قائمة على سلطة القانون الذي يحمي حقوق الجميع، بغض النظر عن انتماءاتهم، وتحوّل الصراع من صراع بناء، إلى إنكار للاخر، لا ييما الذي في السلطة، إذا كان هذا الآخر يخالفهم بالانتماء.

المرجعية اليسارية والقومية: من المثقفين السياسيين التقليديين الذين تسمّرت مفاهيمهم الفكرية، الاجتماعية والسياسية، داخل الفكر الشيوعي، أو القومي، رغم أن الأحزاب اليسارية والقومية، في سوريا، لم تحقق أي نهضة أو تطور في الديمقراطية أو تحسين مستوى معيشة المواطن، على طول المدة التي هيمنت فيها تلك الأحزاب على المشهد الثقافي والسياسي. ورغم أن اليسار الشيوعي، كان منقسماً إلى فئتين لم تحققا نهضة، ولا قبولاً في لدى أغلبية السوريين: إما عضوية ديكورية في الحبهة الوطنية التقدمية، مشارك، وشاهد زور على كل مظالم النظام البائد، يعاني من أمراض النظام الديكتاتوري ذاتها، أو أحزاب شيوعية راديكالية، منهزمة، خائفة، لا يصل مدى تأثيرها لأي أحد، بسبب الخوف من الملاحقة، وطبيعتها السرية. باختصار: رغم فشل التيارات اليسارية والقومية عن تغيير حال الديمقراطية، أو تحسين الوضع المعيشي، فهي لا تعترف بسلطة تختلف عنها في التفكير، وتحوّل دور هذه الفئة من المثقفين إلى تصيّد الأخطاء، وأحيانا ركوب موجة الأخبار الكاذبة، والتعاون مع كلّ الفئات الانفصالية والانعزالية، لإفشال السلطة القائمة، بغض النظر عن الأسلوب والنتائج، متقوقعة في دائرتها النخبوية المغلقة، لا يلتفت إليها أحد من الشعب المنهك، الخارج من قمع نصف قرن، كانت فيه النزعات اليسارية والقومية هي المهيمنة على الوضع السياسي في سوريا.

المرجعية الثيوقراطية: وهناك نمطٌ آخر من المثقفين يستمدّ أدواته الفكرية من النصوص الدينية ذات الصبغة الوثوقية والإطلاقية، ويختزلون الإصلاح المجتمعي في رؤية ثيوقراطية (دينية تحكمية). هذا النمط يتعارض جوهرياً مع مفهوم الديمقراطية المدنية الحديثة التي تقوم على سيادة القانون وفصل الدين عن الدولة.

* التحالفات غير المدنية: يقع بعض المثقفين في فخ التحالف التكتيكي الخاطئ مع أصحاب النفوذ الخارج عن القانون (تجار المخدرات، أمراء الحرب، العصابات) ظناً منهم أن ذلك وسيلة لإسقاط النظام القائم أو تحقيق مكاسب آنية، متجاهلين أنّ هؤلاء لا يمكنهم بناء مجتمع مدني أو تحقيق مشاركة ديمقراطية، لأن مصالحهم مرتبطة بالفوضى وكسر القانون.

ثالثاً: تحدي الحكم الذاتي واللامركزية

في مناطق مثل السويداء التي تطالب بالاستقلال، أو بعض المناطق الأخرى التي تنادي بالحكم الذاتي أو الإدارة المحلية، يواجه المثقف تحدّياتٍ خاصة:

1. تعزيز الهوية المدنية: بدلاً من الانجرار خلف الانقسامات المذهبية أو القبلية، يُفترض بالمثقف أن يعمل على دمج التنوع الثقافي والاجتماعي في إطار هوية وطنية ومدنية مشتركة.

2.  نقد الذهنية التقليدية: يجب على النخب الطليعية مواجهة الذهنية التقليدية التي قد تتفشى في نموذج الحكم الذاتي (مثل سيطرة شيوخ العشائر، أو رجال الدين، أو الفصائل المسلحة)، والتمسّك بالمبادئ الديمقراطية مثل الفصل بين السلطات والعدالة والحريات الفردية.

3.  تقديم البدائل: إن دور المثقف الحقيقي في هذه المرحلة هو صياغة مشروع متكامل للحكم الذاتي يرتكز على اللامركزية الإدارية الديمقراطية وليس عسكرة المجتمع أو هيمنة الفصيل الواحد، أو أحلام الاستقلال والنزعات الانفصالية.

إن إفلاس دور المثقف عندما يتقاطع مع الفشل في تقديم مرجعية مدنية بديلة، هو ما يترك الساحة فارغة أمام القوى غير المدنية لفرض أجندتها بالقوة أو النفوذ المالي، مما يقضي على أيّ فرصةٍ حقيقية لبناء نظامٍ ديمقراطيٍّ حديث.

تحليل معمق لأزمة المثقفين من خلال تحليل الأزمة في السويداء

تُظهر الأحداث الأخيرة في السويداء، خاصةً التحالفات والتوترات بين القوى المختلفة، أن هناك أزمة عميقة في الدور الطليعي للمثقفين، وهو ما يجب نقده بوضوح للدعوة إلى تصحيح المسار.

1. تراجع الدور الطليعي وتحول المثقف إلى أداة

التحول الأكثر خطورة هو انزلاق دور المثقف من قائد للوعي ومؤسس للخطاب التنويري إلى تابع أو أداة في يد قوى غير مدنية.

* الخضوع للفكر الدوغمائي: في ظل غياب الدولة والمؤسسات المدنية القوية، لجأ بعض المثقفين إلى المرجعيات الدينية أو الفكر الدوغمائي القروسطي (المتصلب غير النقدي) طلباً للحماية أو الانتماء أو النفوذ الآني. وبدلاً من أن يكون المثقف ناقداً للخطاب الطائفي، والعشائري، تحول إلى مبررٍ له، أو مجرّد صدىً لخطاب رجُل الدين، أو شيخ العشيرة الذي يرفض المساءلة والتعددية.

* الانصياع لمنتفعي الأزمة: تحول جزءٌ من النخب الفكرية، على ضفتي السلطة، موالٍ أو معارض، إلى متعاونٍ صامت مع السلطة وأخطائها، وتقصيرها في الخدمات، وتحسين الوضع المعيشي، وسحب السلاح، والبدء الجدّي في تطبيق العدالة والمحاسبة، من جهة، أو مع قوى الأمر الواقع، من تجار المخدرات والعصابات المسلحة التي تسيطر على مفاصل الحياة في المناطق الخارجة عن سلطة الدولة. هذا التعاون يهدف إلى الحفاظ على مكاسب ضيقة أو تجنب الخطر، وهو ما يُعد استقالة أخلاقية وفكرية كبرى، حيث يتم التنازل عن مبادئ سيادة القانون والعدالة لصالح الفوضى المنظمة.

2. انكشاف عجز القوى غير المدنية عن البناء

لقد كشفت الأحداث المتتالية في السويداء عن حقيقة ثابتة يجب أن يدركها الجميع:

1. عدم القدرة على البناء الديمقراطي: أثبتت التجربة أن رجُل الدين (بمرجعيته غير المدنية)، وتجار المخدرات، والعصابات المسلحة، هم أدوات هدم لا بناء. هم يستطيعون التدمير والتخريب والحماية الذاتية الضيقة، لكنهم يفتقرون كلياً إلى الأدوات المنهجية والفكرية لبناء مجتمع مدني ديمقراطي تعددي.

2.  الطبيعة التناقضية: الهدف الأساسي لهذه المجموعات هو فرض السيطرة والنفوذ خارج إطار القانون، والحصول على مكاسب غير مشروعة (مال، سلطة، سلاح). وهذا يتعارض جذرياً مع جوهر الديمقراطية القائم على التداول السلمي للسلطة، والمحاسبة، وتساوي المواطنين أمام القانون. لا يمكن لمن يعيش على الفوضى أن يؤسس نظاماً مستقراً.

3. الإفلاس الفكري للمشروع: ليس لدى هذه القوى أي مشروع وطني أو رؤية تنموية حقيقية. جلّ ما تقدمه هو التقوقع الطائفي أو القبلي والتبريرات الدوغمائية، مما يساهم في زيادة تفكك المجتمع بدل وحدته.

3. دعوة إلى استعادة الموقع القيادي للمثقفين

في ظل هذا الانكشاف، يُصبح الواجب الأخلاقي والوطني على مثقفي السويداء (وكل مثقفي سوريا) هو استعادة زمام المبادرة والقيادة الفكرية، من خلال:

1. النقد البناء للسلبيات: يجب على المثقف أن يرفع صوته عالياً في نقد كل السلبيات بوضوح، دون خوف أو مواربة، سواء كانت هذه السلبيات صادرة عن الميليشيات، أو رجال الدين، أو مؤسسات الدولة التي تتقاعس عن حماية المواطن، ونهضته، ورفع الغبن عنه، بعيداّ عن انتمائه أو منطقته.

2. التواصل الفعال مع البنى المجتمعية: لا يكفي النقد من "برج عاجي"؛ بل يجب الانخراط الفعلي في البنى المجتمعية، من المجالس المحلية والفعاليات المدنية، لـتجسير الفجوة بين الفكر التنويري واحتياجات الناس اليومية.

3. التعاون لفرض سيادة القانون: على المثقفين التنويريين تشكيل شبكة ضغط واسعة النطاق، للعمل على فرض سيادة القانون ومحاسبة المجرمين بغض النظر عن انتمائهم الطائفي أو المناطقي. هذا هو الشرط الأول لبناء المجتمع المدني.

4. هدف المجتمع الديمقراطي الموحد: يجب أن يكون الهدف الأسمى هو الوصول إلى المجتمع الديمقراطي الموحد الذي يسوده القانون والعدل والمواطنة المتساوية، حيث يتم النهوض بالمجتمع وعياً وعمراناً، وحيث تكون الكلمة الفصل للعقل والمنطق وليس للسلاح أو الغلو الديني.

خلاصة القول: المثقف هو ضمير الأمة وبوصلة التنوير. يجب عليه أن يختار بوضوح: إما أن يبقى تابعاً ومبرراً للفوضى، أو أن يعود ليأخذ موقعه كقائد فكري يقود مجتمعه نحو المدنية والديمقراطية وسيادة القانون، وهذا يتطلب شجاعة فكرية تسبق الشجاعة الجسدية.

آليات استعادة الدور القيادي للمثقفين والتواصل الفعّال

إن استعادة المثقفين السوريين لموقعهم القيادي تتطلب الانتقال من النقد النظري إلى العمل المنظم والمؤسسي. يجب على المثقفين العمل ضمن مسارين متوازيين: مسار الضغط والمساءلة على السلطة، ومسار التعبئة وبناء الجسور مع المجتمع المدني.

1. مسار التواصل والضغط على السلطة والمؤسسات

الهدف الرئيسي في هذا المسار هو تحويل المثقف من ناقد معزول إلى شريك ضغط ومساءلة فاعل داخل المشهد السياسي والإداري، يمكن ذكر مجموعة من الإجراءات العملية:

1. تأسيس لجان رصد ومساءلة: بدلاً من الاكتفاء بالانتقاد الفردي، يجب تشكيل مجموعات عمل متخصصة (حقوقية، اقتصادية، إدارية). مهمة هذه المجموعات هي رفع تقارير دورية ومقترحات سياسات بديلة إلى الجهات الرسمية (سواء كانت مؤسسات الدولة أو الإدارة المحلية). هذا يهدف إلى توفير مرجعية فكرية مدنية لمتخذي القرار وتصحيح مساراته بعيداً عن المصالح الضيقة.

2. فرض قنوات حوار مفتوحة ومؤطرة: يجب على المثقفين المطالبة بتفعيل آلية حوار دوري وعلني بين ممثليهم والمؤسسات الرسمية لمناقشة القضايا الحيوية كالتنمية والأمن ومشاريع اللامركزية. هذا يهدف إلى إجبار السلطة على الاعتراف بالصوت المدني وإشراكه في صنع القرار بدلاً من إقصائه.

3. حملات الضغط القانوني والمدني: يتوجب استخدام الأدوات القانونية المتاحة لرفع شكاوى، أو دعاوى ضد الفساد، أو الانتهاكات، أو غياب الخدمات الأساسية، مصحوبة بـحملات إعلامية مدنية ضاغطة. هذا العمل يمثل آلية لـفرض سيادة القانون من القاعدة إلى القمة ومحاسبة المجرمين والمتجاوزين.

4. المشاركة الفعّالة في المجالس المحلية: يجب على المثقفين عدم الاكتفاء بالانتقاد من الخارج، بل الترشح والاندماج الفعلي في المجالس المحلية (البلديات، مجالس الإدارة الذاتية المقترحة) لضمان التعددية داخل هذه المؤسسات ومنع هيمنة اللون الواحد (العشائري أو الديني أو العسكري).

2. مسار التعبئة وبناء الجسور مع المجتمع المدني

يهدف هذا المسار إلى كسر جدار العزلة المناطقي وتوحيد الخطاب المدني على مستوى وطني أوسع، لمواجهة خطر الانقسام المجتمعي.

1. تنظيم "ملتقيات المواطنة السورية": يجب إطلاق مبادرات لتنظيم مؤتمرات وندوات (حتى عبر الإنترنت) تجمع مثقفين وتنويريين من كافة المناطق السورية. هذه الملتقيات يجب أن تركز على الهوية الوطنية الجامعة وصياغة مشروع مشترك للدولة المدنية الموحدة، لكسر الانعزال المناطقي وتوحيد الرؤية المستقبلية.

* الشراكات الثقافية العابرة للمناطق: ينبغي إطلاق مشاريع ثقافية مشتركة مثل المعارض الفنية، أو المهرجانات الأدبية، أو المبادرات التعليمية التي يشارك فيها فنانون وكُتاب من مختلف المحافظات، بعيداً عن، أو بالتوازي مع الفعاليات الثقافية الحكومية. هذا يعزز الاحترام المتبادل للثقافات المحلية، ويؤكد التنوع السوري كقوة وطنية.

* إنشاء منصات إعلامية مستقلة: يجب تطوير منابر إعلامية رقمية (مواقع، مدونات، قنوات بودكاست) يكون شعارها النقد التنويري والتحليل العقلاني، بعيداً عن التمويل والتبعية لأي طرف متشدد أو فصائلي. هذا يهدف إلى استعادة المثقف كمرجعية إعلامية بديلة وكسر هيمنة خطاب اللون الواحد، وخطاب التفاهة، وثقافة (الترند).

* برامج التوعية المجتمعية القاعدية: تنظيم ورش عمل وجلسات حوار مفتوحة في الأحياء والجامعات حول مفاهيم أساسية مثل حقوق الإنسان، اللامركزية، المساءلة، والديمقراطية المحلية. هذا يساهم في بناء وعي مدني لدى القاعدة الشعبية، لتكون حائط صد ضد محاولات المتشددين والمنتفعين.

النقطة المفتاحية: التخلص من فكرة "المثقف المنفرد"

يجب أن يدرك المثقف السوري أن قوته لا تكمن في عبقريته الفردية، بل في قدرته على التنظيم والتشبيك والعمل كمؤسسات مدنية موحدة. إن العمل كـ "لوبي فكري" قادر على فرض رؤية العقل والتنوير كبديل وحيد وفعال للفوضى والطائفية والدكتاتورية هو الطريق الوحيد لاستعادة زمام القيادة المجتمعية.

أزمة غياب المثقف السوري عن القيادة المدنية

تُظهر الأحداث في السويداء، وما سبقها في مناطق سورية أخرى، أن الأزمة الأعمق تكمن في تراجع دور المثقف السوري من قيادة الوعي إلى الانكفاء أو التبعية، مما يهدد مستقبل الدولة المدنية والتعددية.

1. غياب النقد والحوار الفعّال مع السلطة السياسية

أحد الجوانب الأكثر سلبية في دور المثقف هو عزوفه عن المواجهة الفكرية والنقد البنّاء مع القوى السياسية القائمة (سواء كانت سلطة مركزية أو سلطات أمر واقع محلية).

* فقدان وظيفة النقد: المثقف هو مرآة المجتمع وناقده الأول. عندما يغيب دوره في النقد المستمر للسلبيات ومحاسبة المتنفذين، تترسخ سياسة الإفلات من العقاب وتزداد الديكتاتورية قوة.

* عزل المثقف عن الدولة: لم ينجح المثقفون في إقامة قنوات حوار فعّالة ودائمة مع مؤسسات الدولة والبنى السياسية، بهدف توجيه القرارات نحو مصالح الشعب السوري عموماً وأبناء محافظتهم خصوصاً. هذا الغياب يترك المؤسسات فريسة لأصحاب المصالح الضيقة والتوجهات الأحادية.

* المشاركة العادلة: يترتب على غياب المثقف عن الحوار فقدان فرص الضغط من أجل ضمان المشاركة العادلة لجميع الفئات، ومنها المثقفون وقوى المجتمع المدني، في قيادة البلد، مما يجعل الدولة أو الإدارة المحلية رهينة ل "اللون الواحد" (العسكري، الديني، أو العشائري).

2. خطر الانعزال وخلق "الجزر المجتمعية"

الخطر الأكبر الذي يواجه المثقف السوري اليوم هو الانعزال المناطقي عن بقية النسيج المجتمعي، وهو ما يتناقض مع دوره التاريخي كـقوة توحيد.

* غياب الحوار بين المكونات: فشل المثقفون في السويداء، وفي مناطق أخرى، في فتح قنوات تواصل وحوار فعّال ودائم مع الفعاليات المجتمعية والثقافية في مناطق سورية أخرى. هذا الغياب يؤدي إلى تأكيد الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

* الانزلاق نحو التطرف والدكتاتورية الدينية: عندما يغيب الصوت المدني التعددي، تزداد احتمالية انزلاق مؤسسات الدولة أو الإدارة المحلية إلى اللون الواحد، خاصة الصبغة الدينية المتشددة من اتجاه واحد. هذا الانزلاق يولد تطرفاً ودكتاتورية من نوع خاص، حيث تسود مظاهر اجتماعية وثقافية انعزالية ترفض الآخر المختلف.

* خلق جزر منعزلة وغياب المواطنة: النتيجة الحتمية لهذا الانزواء هي خلق جزر مجتمعية منعزلة ومتقوقعة على ذاتها (سواء كانت طائفية أو مناطقية)، مما يؤدي إلى غياب الشعور بالمواطنة الجامعة لدى جميع الفئات السورية. المواطنة لا تُبنى بالانعزال، بل بالتفاعل والتشارك.

3. استعادة الدور الطليعي نحو المجتمع الديمقراطي المتنور

يجب على المثقفين وقوى المجتمع المدني في السويداء (وسوريا عموماً) استعادة موقعهم القيادي الطليعي عبر:

* التمسك بالمرجعية المدنية: إعلان الرفض القاطع لأي تحالف مع القوى الخارجة عن القانون (تجار، عصابات مسلحة) أو أي محاولة لفرض المرجعية الدينية الأحادية على المجتمع والدولة.

* فرض سيادة القانون: يجب أن يكون المثقفون هم أول من يطالب بالتعاون مع كل القوى التنويرية في الوطن لـفرض سيادة القانون ومحاسبة المجرمين والمنتفعين من أي طائفة أو منطقة كانوا، كشرط أساسي للنهوض.

* بناء المجتمع المتنور والموحد: يتركز دور المثقف في بناء المجتمع الديمقراطي المتنور القادر على استيعاب جميع مواطنيه واحترام الثقافات المحلية المتنوعة التي تشكل النسيج المجتمعي السوري الممتد عبر مئات السنين. هذه التعددية هي قوة المجتمع وليست نقطة ضعفه.

الخلاصة: إن مهمة المثقف اليوم هي كسر جدار العزلة، واستئناف النقد الفعّال، وتوحيد الخطاب المدني، لكي يثبت أن قيادة الدولة يجب أن تكون للمدنيين الواعين وليس لأصحاب السلاح أو الفكر الدوغمائي، منعاً للانزلاق إلى دولة فاشلة يسيطر عليها التطرف والانعزال.

***

منذر فالح الغزالي

30.11.2025

هل تغني مناقب "الماضي" لدرء مصائب "الحاضر" ونوائب "المستقبل"؟!

حين يعجز الإنسان عن مواجهة المشاكل الاجتماعية والتحديات المصيرية التي تواجهه يوميا "وتفاجئه عند كل منعطف، لا يجد أمامه سوى الرجوع الى مواريث الماضي للبحث عما قد يعينه على درء ما يمكن أن يتمخض عن تلك المشاكل والتحديات من منغصات معيشية ومعاناة نفسية. ولعله قد يصيب في هذه العملية الارتكاسية أو الارتدادية بعض النجاح ولو لحين، إلاّ انه لا يلبث أن يقع في مآزق أخرى ومخانق أضافية أشد وطأة عليه من سابقاتها، لكونه لجأ - لحلّ تلك المشاكل وتلافي تلك التحديات – الى الطرق السهلة والمسارات المطروقة، بدلا"من أن يختار سبل البحث الشاق والتنقيب المضني عما يجعل حياته سهلة وسلسلة قليلة لا تطاق من المعاناة الدائمة والمكابدات المستمرة.

ولعل لجوء الغالبية العظمى من الناس البسطاء، ممن لم يتحصلوا على قدر كاف من العلوم والمعارف الإنسانية، للتعلق بمواريث الماضي ومخزونات التاريخ واعتبارها الرصيد الحضاري والرمزي الذي يمكنهم الاعتماد عليه في لحظات الإحساس بالعجز الذاتي، إزاء صدمات الواقع وانهيارات المجتمع. نقول ان لجوء هؤلاء الى مثل تلك الخلفيات والمرجعيات المؤمثلة، تبدو مفهومة ومبررة، في بعض الأحيان، طالما ان الإنسان المعني لا يملك ما يجعله قادرا"على مواجهة تلك التحديات القائمة والتصدي لتلك التهديدات المتوقعة، سواء بسبب قصوره الذاتي أو عجزه الموضوعي. ولكن هل يا ترى ان هذا التشبث (الطفولي) الشبيه بالبله، كفيل بتحقيق ما يعجز الإنسان شخصيا"عن تحقيقه بقواه الذاتية وإرادته الحرة، أم أنه سيسهم – باستمرار الرهان على مناقب مفترضة أو فضائل متخيلة - بزيادة معاناته الاجتماعية، ومضاعفة مكابداته الاقتصادية، ورفع توتراته النفسية ؟!.

فعلى فرض صحة ما تناقلته كتب التاريخ والحضارة من أن (أسلاف) العراقيين القدامى (كانوا) البناة الأوائل للحضارات (السومرية والبابلية والأكدية والآشورية)، مثلما (كانوا) السبّاقين في اختراع الكتابة والتدوين، و(كانوا) المبتكرين في سن القوانين والشرائع، و(كانوا) المبادرين في بناء المدن والحواضر. فإن ذلك لا يمنح (الأخلاف) العراقيين المحدثين شهادة (الإعفاء) من نقد عيوب حاضرهم المزري، و(الإعراض) عن مسائلة ما يبيتون لمستقبلهم المظلم. إذ لم تكن في يوم ما – بالنسبة للشعوب الأصيلة والأمم الحيّة - أمجاد الماضي (منطلقا") أو (مرتكزا") للانخراط في أتونات التطور العلمي – التكنولوجي، والتقدم الاجتماعي – الاقتصادي، والرقي الثقافي – الحضاري، التي تعدّ معيارا"للتنافس بين مختلف الدول والحكومات المعاصرة الطامحة للفوز بمقومات التفوق والصدارة والهيمنة. بقدر ما كانت تلك الأمجاد الغابرة (حافزا") أو (دافعا") للشروع بنفض غبار كل ما له علاقة بمظاهر التخلف العلمي والاجتماعي والاقتصادي والحضاري والإنساني.  

والجدير بالذكر، ان قوانين التطور الاجتماعي والرقي الحضاري لا تبالي أو تراعي، ضمن دينامياتها وسيروراتها وجدلياتها، ما تتباهى به الشعوب الفاشلة والأمم العاجزة حيال ما (كان) ماضيها الآفل وتاريخها الزائل، وإنما تهتم كل الاهتمام وتأخذ وتراعي كل المراعاة ما يفترض أنه (كائن) في حاضرها الماثل، وما ينبغي له أن (يكون) في مستقبلها المقبل. ولعل هنا تكمن معضلة المجتمع العراقي الكبرى، التي من أبرز عواقبها وتداعياتها أنها لا تشجع فقط القوى الفاعلة (نخب وصناع رأي) في المجتمع على الركون الى مغريات الكسل الثقافي والعطالة الفكرية فحسب، وإنما تزيد من حالات التشويش والارتباك والغموض التي من شأنها (إعاقة) عمليات التفاعل والتواصل ما بين تلك الديناميات والسيرورات والجدليات، بحيث ستغدو الأمور - بالنسبة لتلك القوى - من الصعوبة بمكان تمكنها من الكشف عن العوامل المؤسسة للإشكاليات، مثلما تصيبها بالعجز عن تشخيص البنى العميقة المؤثر في صيرورات الظواهر الغريبة والمظاهر الشاذة.

ومما يعمّق مأساة هذه (اللوثة) الحضارية المزمنة، هي أن أغلب (نخب) العراق المعاصر لا (تجهل) فقط معنى ومغزى قوانين التطور الاجتماعي فحسب، وإنما (تتجاهل) ما تنبئ به من مؤشرات منذرة ومعطيات محذّرة بوقوع الكوارث، حين يصار الى (الخلط) بين السياقات التاريخية، و(المزج) بين المراحل الحضارية، بحيث يفضي هذا الأمر الى تبرير المغالطات وتسويغ الانحرافات التي غالبا"ما كانت من أبرز خصائص تلك (النخب) الفاشلة، سواء أكان ذلك على مستوى الوعي أو على صعيد السلوك.  

***

ثامر عباس

 

تحليل فلسفي لسقوط الإخوان واعتراف أمريكا بأنها جماعه ارهابيه

وكأن مشروع قرار حظر جماعة الاخوان في امريكا ليس حدثا سياسيا عابرا، بل لحظة انكشاف كبرى، لحظة ترفع فيها الحقيقة غطاءها عن صفحة طويلة من الخداع، وتقول لنا: لقد تأخر وعيكم لكنه جاء.

كأن العالم وهو يتابع هذا القرار يفتح صفحة جديدة من كتاب قديم امتلأ بالحبر المسفوك والوعود المبتورة. ارتباك التنظيم اليوم ليس سوى رجع صدى لارتباك اعمق؛ ذلك الارتباك الذي اصاب وعينا الجمعي حين اكتشفنا متاخرين ان الخطابات التي قدمت لنا على انها نور وهداية لم تكن سوى اقنعة محكمة تخفي خلفها اطماعا سردية وجوعا للهيمنة.

لقد عرفنا الاخوان بعد ان خدعونا، ثم عرفنا في لحظة كشف مؤلمة ان السلفيين لا يختلفون عنهم الا في زاوية اللفظ وطريقة الاداء، وان الجميع يمكن ان يتحولوا الى دواعش تحت الطلب متى نادى المنبر او صرخ الراعي بسوط الفتوى. كان الطريق طويلا وشاقا، محفوفا بالالغام الفكرية؛ طريقا قادنا في النهاية الى تراث فقهي مفخخ بني في سياقات لم تراجع وترك ليتحول مع الزمن الى مخزن كبير للعنف الروحي والذهني.

الخطر الحقيقي لم يكن في التنظيمات وحدها، بل في النصوص المعطوبة التي غذت خيالها، والقراءات التي جعلت من الدين عباءة ومن الايمان جسرا للوصول الى السلطة. واعتماد الاخوان وغيرهم على الكذب والتدليس وتزوير وقائع التاريخ لا يكشف فقط عن خلل اخلاقي، بل عن هشاشة خطاب لا يستطيع الصمود الا اذا اطفأ نور الحقيقة. وكتم صوت العقل. واغلق ابواب النقد.

هذه الجماعات لا تعيش الا في الفراغات التي يتركها غياب الوعي، ولا تنمو الا في الظلال التي يصنعها الجهل. هي كائن يتغذى على الاسطورة ويخاف من الضوء ويختنق اذا حوصر بالسؤال.

ولهذا يصبح التوثيق فعلا فلسفيا قبل ان يكون فعلا سياسيا؛ مقاومة ضد النسيان وضد قابلية الخداع التي تتكرر في كل جيل.. كتابة الحقيقة ليست ردا على جماعة بعينها، بل مواجهة لفكرة كاملة عن العالم حاولت ان تتحول الى قدر.

نحن لا نوثق الاخوان وحدهم، بل نوثق مسار عقل عربي جرد من ادوات النقد، فانتج بعده كل هذه التشوهات التي لبست ثوب الدين. ولهذا يصبح التوثيق ضرورة، لا مجرد فعل بحثي او تاريخي؛ توثيق الافعال والاقوال والممارسات ولحظات السقوط التي سقطت فيها القداسات المصطنعة. ليس التوثيق انتقاما، بل وصية معرفية للاجيال القادمة، حتى لا تتكرر السقطة، وحتى يعرفوا ان الظلام لا يولد دفعة واحدة بل يتسلل قطرة قطرة من ثغرات لم نسدها ومن نصوص لم نسائلها ومن اصوات صدقناها لاننا احببنا الوهم اكثر مما احببنا الحقيقة.

في زمن تتبدل فيه الخرائط ويتهشم فيه كل شيء الا الذاكرة، يبقى فعل الكتابة في مثل هذا الموضوع مقاومة فلسفية وشهادة على عصر اختلطت فيه الحقيقة بالوهم. هو دعوة لوعي يقظ لا يخاف من مواجهة تراثه ولا من كشف عيوبه، لان امة لا تعترف بجراحها محكوم عليها ان تنزف الى الابد.

وما نكتبه اليوم ليس مرثية، بل دعوة الى معرفة لا تخضع، والى وعي لا يستدرج، والى امة تنظر في مرآتها بلا خوف. فالتاريخ لا يرحم من يتهربون من مواجهة ظلالهم ولا الامم التي تركت الخرافة ترسم حدود عقلها. وحده من يمتلك شجاعة النظر في الجرح يستطيع ان يكتب المستقبل بلا قيد ولا قناع.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

كنت قد اكتفيت بحلقتين من مقالتي الموسومة "أين مشروع اليسار العربي؟"، لكن ورود الكثير من التعليقات والتساؤلات حولها، بل المطالبات بتوضيح ما جاء فيهما، جعلني أخصّص حلقة ثالثة، علمًا بأنني سبق أن عالجت الموضوع من زوايا مختلفة، سواءً في كتابي "تحطيم المرايا في الماركسية والاختلاف"، أم في كتابي "الحبر الأسود والحبر الأحمر – من ماركس إلى الماركسية"، أم في محاضرتي في جامعة النهرين – بغداد الموسومة "اليسار: أزمة الفكر ومعضلة السياسة"، وأحلت العديد من الأصدقاء إلى كتابات سابقة، خصوصًا كتابي "المثقف وفقه الأزمة"، وكذلك مقابلات كان قد أجراها معي الصحفي المختفي قسريًا توفيق التميمي، ونشرها في كتاب عنوانه "المثقف في وعيه الشقي"، فضلًا عن سلسلة مقالات سبق أن نشرتها جريدة الزمان العراقية حول فصول من تاريخ الحركة الشيوعية العراقية، وكذلك مقابلات تلفزيونية عديدة تناولت فيها جوانب أخرى من أزمة اليسار العربي.

كتبتْ لي إحدى الصديقات اللبنانيات تقول: اليسار العربي لم "يقع" فجأةً بالسكتة القلبية، بل تآكل ببطء حتى صار ظلًّا لفكرة أكثر منه مشروعًا حيويًا، وأضافت: نشأ اليسار كصوت للتحرّر والمساواة (كما جاء في المقالة)، لكنه انتهى إلى تكرار لغته، حتى فقد المعنى. مشكلته لم تكن بالقمع المزمن فقط، بل في عجزه عن تجديد أدواته ومخاطبة مجتمعات تغيّرت جذريًا من حوله. وهكذا تحوّل من حركة تحريضية إلى مشهد ثقافي هامشي، ومن صوت نقدي إلى حنين سياسي في زمن لم يعد موجودًا.

وتتفق مع ما جاء في المقالة من أن اليسار أخطأ في قراءته للهويّة والدين، فبدلًا من أن يرى فيهما فضاءً للقيم المشتركة والعدالة، تعامل معهما كخصم فكري، وترك الميدان خاليًا لتيارات أخرى احتكرت اللغة الأخلاقية (تقصد التيارات الإسلامية والإسلاموية والقومية والقوموية)، فاستبدلت خطاب العدالة بخطاب الغلبة، وظلّ اليسار العربي متمترسًا في أبراج عاجية يردّد مقولات ماركسية (وتقصد ماركسوية) عفا عليها الزمن ولم تعد تلقى آذانًا صاغية، خصوصًا من الشابات والشبان.

وعلى الرغم من قولها إنها لم تكن في أي يوم من الأيام يسارية أو تُحسب على ملاك اليسار، ولاسيّما الماركسي، لكنها تعترف بالحاجة إلى اليسار، وعلى هذا الأخير ألّا يرفع الشعارات القديمة، بل يصوغ رؤية واقعية جديدة تعيد لقيم الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعية ألقها، بعيدًا عن الأدلجة والانغلاق العقائدي. إنها تدعو إلى يسار يمثّل الضمير الاجتماعي، وليس بديلًا سلطويًا، بل صاحب مشروع تنموي إنساني يتجاوز منطق الخصومة الأيديولوجية (ومثل هذا الرأي ورد على لسان صديق تونسي كان يُحسب على تيار إسلامي أيديولوجي، لكنه تجاوزه إلى تيار انفتاحي غير أيديولوجي).

وطالبني صديق تركي بإلحاح أن أستكمل الموضوع بمسلسل حلقات أخرى لتوضيحه وشرحه وتفسيره، وكنت قد أحلته، كما أحلت العديد من الأصدقاء والقرّاء إلى عدد من المصادر والكتب والمقالات والمحاضرات التي سبق أن أدرجت بعضها في مقدمة هذه المقالة، وقد ترجم هذه المقالة إلى اللغة التركية، ونشرها في الصحافة اليسارية التركية.

وجاء في سؤال على الإيميل لأحد القرّاء العراقيين: أين اليسار الذي تحدّثت عنه وعن مشروع الثورة الذي كان على الأبواب؟ وكان ردّي أن اليسار الحقيقي ليس الذي يعيش في الماضي أو على ذكرياته العزيزة، بل يحاول استلهام تجاربه الناجحة لصالح الحاضر والمستقبل، ولا بدّ من قراءة الواقع وفقًا لمنظور جديد، كما يحتاج الأمر إلى امتلاك الشجاعة في تقديم نقد ذاتي ومراجعة أخطائه على الصعد الفكرية والعملية والتنظيمية والأخلاقية، والتخلّص من نظرته المسبقة في ادّعاء الأفضليات واحتكار الحقيقة، وعليه أن يبدأ من الإنسان ومن كرامته ومن حاجاته وقدرته على التفكير والمشاركة والمساءلة. وكما تقول صديقتنا في بداية هذه المقالة، المجتمع الذي يستعيد حسّه النقدي يستعيد أيضًا معنى اليسار ذاته، لا كتيار سياسي، بل كفكرة للعدالة والمساواة والكرامة في زمن اختلطت فيه الشعارات بالمصالح.

وجاء في رسالة لأحد اليساريين الكرد قوله أنت تتحدّث عن اليسار العربي فأين اليسار الكردي من هذه المعادلة؟ وكيف انشطر حزب اليسار إلى حزبين شيوعيين على أساس قومي؟ وتدريجيًا ضاقت سبلهما، فأحدهما تحالف من أدنى مع التيار القومي الغالب في كردستان، والآخر تنقّل في تحالفات بين إسلاميين وولائيين وموالين لإيران وآخرين مؤيدين لواشنطن واحتلالها للعراق، فأين هذا اليسار الذي تتحدّث عنه؟ ويختتم رسالته بالقول: لعلّك تعيش في عالم مثالي بعيدًا عن الواقع واكتفيت بالتنظير؟

وكان جوابي: على اليسار أن يستعيد هويّته الوطنية وينقّيها ممّا علق بها من شوائب ويصحّح مواقفه بشجاعة، سواء نظرته القاصرة خلال الحرب العراقية – الإيرانية، أو خلال فترة الحصار الدولي الجائر، فضلًا عن تحالفاته ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ومشاركته في مجلس الحكم الانتقالي، وتأييده للدستور القائم على المحاصصة والزبائنية السياسية والحصول على المغانم.

إن مثل هذه المراجعة تشكّل مدخلًا مهمًا لمراجعة فكرية أشمل للنصوص القديمة والكليشيهات المترهّلة والنظر إلى الواقع بكلّ ما يختزنه من متغيرات جديدة، فلم تعد الطبقة العاملة الآن حتى في الغرب، مثلما هي في خمسينيات القرن المنصرم، فما بالك في بلدان تعيش على الريع؟ لا بدّ هنا من التوقّف جديًّا عند تحولات العمل والاقتصاد والمعرفة. وعليه أن يبتكر خطابًا مناسبًا لعصر العولمة والذكاء الاصطناعي، ولا يبقى أسيرًا لمفردات الصراع الطبقي الكلاسيكي.

لقد كان اليسار جسرًا سالكًا وأمينًا بين مختلف القوميات والأديان والطوائف، أو هكذا يُنظر له، بعيدًا عن الانحيازات الضيقة، مترفعًا عنها، منطلقًا من فكرته الوطنية الصافية ونظرته الجامعة، حيث كان الجميع ينظرون إليه كمرجعية وجدانية، حتى وإن أخطأ.

مرّةً أخرى أقول إن أخطاء اليسار ومثالبه لا تُلغي الحاجة إليه اليوم، بل إن هذه الحاجة تزداد أكثر فأكثر في ظلّ تفشّي الطائفية والنزعات العشائرية والاصطفافات القومية الضيقة في مجتمعاتنا. وكما أشرت يحتاج اليسار إلى وعي جديد ليمتلك نظرة جديدة خارج دوائر البرمجة الميكانيكية، خصوصًا حين تتحوّل فكرة النضال إلى برنامج أيديولوجي معطوب التشغيل، إذْ غالبًا ما كانت الأيديولوجيا أداة تفضيل بين الحريّة والخنوع وبين العدالة والظلم، وتحوّلت الأحلام الوردية من عالم خال من الاستغلال إلى المساواة بالقهر لا بالحقوق، وهو ما انتهت إليه تجارب البلدان الاشتراكية السابقة، وتجارب ما أطلقنا عليه بلدان التحرّر الوطني في أنظمة قومية سلطوية بما فيها في بلداننا العربية.

وثمة أكثر من رسالة من قراء عراقيين وسوريين وسودانيين مفادها: في لغتكم السياسية المبرمجة لا تتقبّلون تعدّد المبرمجين، إذْ أصبحت الواحدية والإطلاقية والشمولية ديدنكم، لدرجة صار "الكود" code عبارة عن تعليمات صارمة لا تقبل أي رأي غير رأيها، فمن ليس معنا فهو ضدنا، ومن لا يهتف يُلغى، ومن يسأل ويلحّ بالسؤال يُحاسب أو يُعاقب، وكنت قد استذكرت مع رفيق مغربي عتيق رواية جورج أورويل "مملكة الحيوانات" كيف يُحال إلى لجنة التحقيق الثورية. هكذا تحوّلت فكرة العدالة للجميع إلى ملف تنفيذي جديد اسمه "القيادة الحكيمة"، فهي تكتب الدستور والقوانين وتمحوها، وهي تصوغ النظام الداخلي وأول من يقوم بمخالفته، وهو ما ورد أيضًا على لسان الصديقة اللبنانية، وكنت قد اصطدمت بمثل هذا الرأي في السبعينيات.

لقد غذّت الأيديولوجيا المتخمة مفهوم السلطة عبر الخوف لا عبر العمل، ولو عاد أرويل اليوم لكتب مزرعة البيانات بدلًا من مزرعة الحيوانات، التي تتحكّم فيها الشركات التقنية بدلًا من إدارات الأحزاب، وتراقبنا الكاميرات بدلًا من الكلاب، وتوزّع المكافآت على من يطيع الخوارزمية لا الحزب القائد. ويقول صديق فلسطيني: لقد انتقل الاستبداد من المكتب السياسي والقيادة القُطرية وقيادة هذا الفصيل أو ذاك إلى شاشتنا الصغيرة، وما زلنا نصفّق، لكن بالاعجابات والورود والقلوب الافتراضية وإشارات النصر.

إن رواية "مزرعة الحيوانات" ليست عن الشيوعية بقدر ما هي ضدّ الاستبداد، بما فيه الاستبداد الرأسمالي ونموذجه الإمبريالي – الإسرائيلي، وما جرى في حرب الإبادة على غزّة خير دليل على ذلك، إذْ لم يكتف الطغيان بتدمير البشر والشجر والحجر، بل طلب من الضحايا أن يقدّموا الشكر والعرفان له على ما صنعه فيهم من جعل الحياة مستحيلة، وهذا أقسى أنواع الإذلال والظلم. إن مزرعة الحيوانات هي درس في السياسة والأخلاق والقيم الإنسانية، وهي شيفرة جديدة لليسار لرفع درجة الوعي وتقديم رؤية جديدة لما يجري داخله وحوله وفي العالم أجمع.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر

الطائفية ليست ظاهرة دينية خالصة، بل بُنية اجتماعية- سياسية تستغل الدين والهويات لتوزيع السلطة. إنها نمط من الانتماء يربط الدين بالسلطة والهوية بالموقع الاجتماعي. جذورها قديمة، لكنها لم تكن في بداياتها كما نعرفها اليوم. ولم تولد الطائفية في ليلة واحدة، ولا خرجت من رحم العقيدة كما يُخيَّل للبعض.

  تشبه الطائفية ظلًّا قديماً يمتدّ على جدار التاريخ، يتغيّر شكله كلما تغيّر الضوء، لكنه لا يختفي تماماً. كانت في بدايتها همساً سياسياً، لا صراخاً اجتماعياً، ولم يعتبرها الناس "هويّة" إلا حين تخلّت الدولة عن دورها، وتوارى القانون، وترك الناسَ لمصائرهم.

جذور تاريخية

في المسيحية، ظهرت الانقسامات الكبرى على مراحل: في القرون الأولى، كانت الخلافات حول طبيعة المسيح والثالوث تتخذ طابعاً لاهوتياً، لكنّها سرعان ما تحولت إلى أدواتٍ لصراعات القّوة داخل الإمبراطورية الرومانية. في عام 1054، انفصل الشرق عن الغرب (الانشقاق الكبير) فصارت الكنيسة الشرقية والكنيسة الرومانية امتدادين لهويتين ثقافيتين: اليونانية واللاتينية. في القرن السادس عشر، تحول الإصلاح البروتستانتي إلى شقٍّ اجتماعي وسياسي واسع النطاق، وأدى  إلى حروب استمرت عقوداً في أوروبا.

وبعد وفاة النبي محمد، كان السؤال الأكبر: من يحكم؟ لم يكن السؤال مذهبياً، بل سياسياً صرفاً، كما هي الأسئلة الكبرى حين تنشأ الدول. لكن الدماء التي أريقت في الفتنة الكبرى (مقتل عثمان)، والمرارة التي بقيت بعد كربلاء، رسمتا في الوجدان جرحاً لم يندمل، وصار التاريخ مادة حية في الذاكرة.

تطور الظاهرة

مع تعاقب الدول، كانت الطائفية تظهر وتختفي مثل موجات على صدر بحر هادئ: تظهر حين يضعف السلطان، وتخفت حين يقوى، وتتوقد حين يستعين الخارج بالأقليات، أو تستعين الأقليات بالخارج. كأنها نار تحت الرماد تتنظر نسمة هواء.

في القرن التاسع عشر، كانت الإمبراطوريات تترنح، وتأتي الجيوش الأوروبية التي لا تعرف شيئاً عنا ولا عن حساسياتنا لتقسيم البلدان كما تُقسَّم الأراضي الزراعية. هنا، ولأول مرة، تتحول الطائفة إلى كيان سياسي. لم يعد الاختلاف في الصلاة والصوم، بل في السلطة والمال والوظائف. وأصبحت الطائفة "وطناً صغيراً" حين عجز الوطن الكبير عن احتضان الجميع.

ومع القرن العشرين، دخلت المنطقة مرحلة جديدة: أنظمة مركزية قوية في الظاهر، رخوة في العمق، حبست المجتمع داخل حكم الحزب الواحد، وكتمت الأصوات. وحين يختفي الصوت الوطني، يرتفع الصوت الطائفي.

الطائفية كأداة سياسية

هناك من يسأل: لماذا تتعمَّق الطائفية؟ تتعمّق الطائفية حين تضعف الدولة، ويضيع القانون، ويشعر الفرد بأن أمنه مرتبط بجماعته الصغيرة لا بوطنه الكبير. فالطائفة، بطبيعتها السياسية، تحتاج دائمًا إلى “آخر” أو “خصم” كي تبرّر وجودها. وعلى هذا الأساس تُبنى الخطابات المتشددة، وتستمر الزعامات الطائفية، وتتعمّق الهوة بين الناس.

وتدرك القوى السياسية خطورة هذه الآليات، لكنها تدرك أيضًا فائدتها. فالطائفية، مثل الخوف، أداة تعبئة سهلة، تُحشد بها الجماهير، وتُدار بها الانتخابات، ويُحكم من خلالها بلدٌ كامل.

وبهذا العدو تُبنى الخطابات والمنابر، وتكبر الزعامات، ويُختطف الناس من انتمائهم الوطني إلى انتماءات ضيقة لا نهاية لها. الطائفية لا تخلق الهوية، بل تسرقها. تسرقك من وطنك، ثم تمنّ عليك بوطن أصغر منك ومن أحلامك.

الطائفية في العراق الحديث

الطائفية ليست قدراً، إنها أداة سياسية تُستخدم عندما تضعف الدولة. العراق بعد 2003 مثالاً، حيث تحولت الطائفية من شعور إلى نظام حكم، وبدلاً من أن توحد الناس أصبح صراع الطوائف هو السدّ الذي يحول دون بناء دولة عادلة.

قبل 2003، لم يكن العراق يوماً خالياً من الحساسية الطائفية، لكنه لم يكن “طائفياً” كمفهوم سياسي. كانت الدولة حاضرة، قوية أو صلبة، عادلة أو قاسية، لكنها كانت موجودة، وكان المجتمع ، رغم جراحه، يتعايش بلا حواجز عالية: الأسواق مختلطة، المدن متعددة، والذاكرة المشتركة أوسع من الاختلافات.

 لكن الحروب الطويلة والحصار أنهكا الجسد العراقي. وحين ينهك الجسد، تضعف المناعة، ويصبح أي اختلاف قابلًا لأن يتحوّل إلى مرض سياسي.

 كان العراق يعاني من صراعات سياسية، وحروب خارجية، وحصار أنهك المجتمع. ومع ذلك، لم يكن المجتمع العراقي منقسماً طائفياً كما ظهر لاحقًا. كانت الهويات تتعايش تحت سقف دولة مركزية قوية، أو متسلطة، لكنها كانت موجودة.

نظام المحاصصة الطائفية

حين سقطت الدولة فجأة في 2003، حدث الفراغ الكبير: تفكك الجيش، تلاشت المؤسسات، غابت السلطة، وتراجع الشعور الوطني لصالح الانتماءات الأولية. في ذلك الفراغ، خرجت الطائفية من الهامش إلى الواجهة.

اعتمد النظام السياسي الجديد على "تمثيل المكوّنات"، وهو تعبير بدا في ظاهره عادلًا، لكنه فتح الباب لترسيخ الطائفية كمنظومة حكم. فصار لكل طائفة حصتها في المناصب، ولكل حزب من يمثلها، وتحوّل الانتماء المذهبي إلى بطاقة عبور في الانتخابات والوظائف والقرار السياسي. وبهذا، أصبحت الطائفية ليست مجرد شعور شعبي، بل نظاماً رسمياً يوزّع الدولة كغنيمة بين القوى المتنازعة.

جرى رسم نظام سياسي يقوم على توزيع المناصب وفق الهويات: رئاسة الوزراء للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة، ورئاسة الجمهورية للأكراد. وأصبح لكل طائفة حصتها من الوزارات، ولكل زعيم حصته من الدولة.

هكذا لم تعد الطائفية مشكلة اجتماعية؛ أصبحت قانوناً غير مكتوب، وتحوّل المواطن إلى رقم ضمن "مكوّن"، لا فرداً في وطن.

من الاحتلال إلى انتفاضة تشرين

بين عامي 2005 و2007، عاش العراق واحدة من أحلك مراحله. فقد انفجرت الأحياء والشوارع بحروب الهوية، وانهارت الثقة بين المكوّنات، وتحوّلت بغداد، المدينة التي طالما جمعت الجميع، إلى فسيفساء من المناطق المغلقة. كان ذلك نتيجة متوقعة لدولة ضعيفة، وطبقة سياسية تستثمر في الانقسام، وتدخلات إقليمية تعزف على الوتر الطائفي.

ما بعد 2010، استقرت الأوضاع نسبياً بعد سنوات العنف، لكن البنية الطائفية لم تتغير.

جاءت سيطرة داعش على ثلث البلاد لتكشف أن الخطر الحقيقي لا يفرّق بين طائفة وأخرى. ومع ذلك، بقي النظام السياسي قائماً على المحاصصة، وإن بوجوه وأدوات جديدة.

في 2019، خرج الشباب إلى الساحات، يرفعون علم العراق وحده، ويرفضون خطاب الطائفية وممثليها. كانت تلك أول مواجهة حقيقية للنظام الطائفي منذ 2003. لقد أراد الجيل الجديد دولة لا تُعرّف المواطن بمذهبه، بل بحقوقه وكرامته. ورغم القمع والدماء، بقيت انتفاضة تشرين علامة فارقة تؤكد أن العراق، برغم الجراح، قادر على تجاوز الطائفية حين تتوفر إرادة شعبية ومشروع دولة حقيقي.

نحو مستقبل أفضل

هذه الإشكالية ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة تراكمات تاريخية وسياسات خاطئة يمكن تخطيها بالإرادة الجماعية والوعي بأهمية الوحدة الوطنية.

يتطلب تجاوز الطائفية إعادة بناء النظام السياسي على أساس المواطنة والكفاءة، وإصلاح الخطاب الديني، وتعزيز ثقافة التسامح، والتركيز على الهوية العراقية الجامعة التي تتسع للجميع. فالعراق بقدرته على استيعاب تنوعه الإنساني الفريد يمكنه أن يعيد إحياء دوره كمنارة للحضارة والإنسانية.

إن الأديان تسمح بالاختلاف داخلياً، بينما الطائفية تعني تحويل الاختلاف إلى معيار للصعود والهبوط الاجتماعي. كما أن قوة المؤسسات المدنية والقانونية قادرة على قمع مناخ الطائفية؛ وغيابها يسرّع من تعميق الانقسام.

إن معرفة جذور الانقسام مهمة لفهمه، لكنها لا تبرّر استمرار الظلم أو العنف بأسم الهوية؛ فهناك دائماً مساحات للتمازج: ثقافية واقتصادية وطقسية، تعمل كمكابح أمام الانقسام إذا عولجت سياسياً واجتماعياً.

 والطائفية في كلتا الديانتين ليست "قضاءً وقدراً" دينيًا بحتاً؛ بل هي نتيجة تراكم اضطرابات مؤسساتية وسياسية واجتماعية. ولكل تجربةٍ خصوصياتها التاريخية، لكن القاسم المشترك يبقى واحداً: حيث يتلاشى حكم القانون والعدالة، تنبت الطائفية سريعاً وتنتشر مثل صدعٍ في نسيج المجتمع.

***

جورج منصور

 

في إطار دراسة سلبيات وإيجابيات الحركات السياسية (الإسلامية والقومية واليسارية) التي شهدها المجتمع العراقي على امتداد ما يوازي القرن من الزمان، فإنه يتعذر على الباحث المنصف إيجاد ما يضارع الحزب الشيوعي العراقي في مضمار حيازة المناقبيات الاجتماعية والثقافية والأخلاقية التي جعلته يحظى بذلك الزخم الجماهيري والهالة الاعتبارية من لدن عموم الشرائح الاجتماعية. باستثناء تلك (الفضيلة) الغائبة أو المغيبة المتمثلة ب(تفريطه) المحيّر والغريب لما يعتبر (وفاءا") و(التزاما") ب(المنهجية) الماركسية، التي كان يفترض به أن يكون شديد الحرص على مراعاتها كـ(أولوية) قصوى لا مجال للتهاون فيها أو المهادنة بشأنها، كائنة ما كانت الظروف والأحوال والأوضاع والسياقات التي تتعلق بمختلف الأنشطة التي زاولها هذا الحزب على مدى عقود ؛ سواء منها  الحزبية / التنظيمية، أو الفكرية / الإيديولوجية، أو السياسية / السلطوية، من منطلق كونه الفاعل الأساسي والناطق الرسمي بكل ما له صلة بالحركة الشيوعية كأفكار أو مؤسسات أو رموز أو أشخاص .

فعلى الرغم من ضخامة وجسامة التضحيات التي قدمها أعضاء الحزب الشيوعي العراقي، وما عانوه من مكابدات وما تجرعوه من مرارات على مدار عقود من الطغيان والاستبداد السياسي التي أبتلي بها المجتمع العراقي، إلاّ أنهم لم يحظوا بقيادة سياسية وفكرية ترقى الى مستوى الفلسفة التي يتبناها الحزب، والتي يفترض به أن يعكس مبادئها ويمثل رسالتها ويحسد قيمها على أرض الواقع. حيث قلما اهتم القادة الحزبيين والسياسيين بجوهر الفكر الماركسي المتمثل بالطابع (المنهجي - الجدلي) الواقعي وليس (الإيديولوجي – المثالي) الطوباوي، والذي اعتبر من أعظم الانجازات التي حققها الفكر الإنساني شرقا"وغربا"، بدلالة أن مؤسسا الماركسية لخصا أهمية هذا المكسب الفكري بجملة مختصرة هي بمثابة (قاموس) يغني عن الكثير من الخطابات المزوقة والشعارات المنمقة، مفادها: (ان الماركسية هي منهاج عمل وليس عقيدة جامدة) !.

ولعل كل ما عاناه وكابده – ولا يزال -  (الحزب) من إخفاقات وتراجعات وخسارات، ناجم عن هذا الابتلاء (الدوغمائي) الذي ما انفك الحزب يتخبط في دواماته، دون أن يفلح في إيجاد مخرج / مخارج واقعية تتيح له التخلص من قيوده المزمنة، والإفلات من مخانقه المتوطنة، ومن ثم الانفتاح على الواقع المعيش، والانغمار في تياراته الصاخبة، ومساراته المتعرجة , وتفاعلاته المتفجرة. لا بل ان هذا الحزب لم يلبث أن يتراجع (خطوتين) الى الوراء بدلا"من أن يتقدم (خطوة) الى الأمام، كلما استدعت الظروف السياسية الساخنة والأوضاع الاجتماعية المضطربة، أن يبادر الى تشخيص مصادرها وتحليل معطياتها واستخلاص نتائجها واستنباط حلولها، كلما (نكص) على عقبيه وعاد القهقري ليستأنف ذات السياسات الفاشلة ويتبنى ذات المواقف الخاطئة، سواء على صعيد الخطابات الإيديولوجية والعلاقات السياسية والتحالفات الحزبية، كما لو أن دروس الماضي المؤلم لم تكن بالقدر الكافي ليعتبر فيها ويتعظ منها.

والمفارقة ان سياسات الحزب الشيوعي العراقي تكون - في الغالب الأعم - أقرب الى معطيات الواقع وأكثر إحساسا"بإرهاصات المجتمع، كلما كانت الظروف والأوضاع التي يمارس أنشطته من خلالها لا تسمح له بالظهور (العلني) للتعبير عن مواقفه وبرامجه وفكرياته، بحيث تضطره الملاحقات الأمنية والبوليسية للجوء الى العمل تحت غطاء (السرية)، تلافيا"لتبعات الحضر السياسي المشفوع بالردع والقمع التي تفرضها السلطات الحاكمة. ولكن ما أن تتغير تلك الظروف والأوضاع وتتبدل موازين القوى - عبر الثورات أو الانقلابات – بحيث تلغى الممنوعات والمحرمات التي كانت مفروضة على الأحزاب والتنظيمات المعارضة، كما حصل في العراق بعد الغزو الأمريكي عام 2003، حتى يفقد تلك الميزات التحليلية والاستقرائية والاستشرافية، بحيث لا يلبث أن يمر بحالة من الارتباك في الرؤية الواضحة، وغياب القدرة على تحديد الخيارات المتاحة، وتشخيص الاتجاهات الفاعلة، وتعيين المسارات المناسبة .

ولعل من جمل تبعات وتداعيات غياب (البوصلة المنهجية) الماركسية الموجّهة، ان الحزب الشيوعي العراقي لم يعد بمقدوره اجتراح (المبادرات) الفكرية والسياسية، التي من شأنها المساعدة على قراءة الواقع الاجتماعي الصاخب والمعقد، قراءة تتيح له ليس فقط تحليل البنى والأنساق والسياقات الفاعلة فحسب، ومن ثم تتيح له الوقوف على نمط التفاعلات والصراعات والعلاقات القائمة بين تلك البنى والأنساق والسياقات فحسب، وإنما تضع بين يديه زمام قيادة وتوجيه بقية القوى السياسية والتيارات الإيديولوجية الأخرى التي تنافسه على حيازة مقاليد السلطة، واجتذاب جماهير المجتمع. وذلك على خلفية جدوى سياساته الآنية، وجدارة استراتيجياته المستقبلية.

وبناء على ذلك، فإن المدماك الحديدي للحزب الشيوعي العراقي لم يلبث أن تعرض للتآكل والاندثار، منذ اللحظة التي أغوته فيها السلطة السياسة للنظام السابق للوقوع في فخ ما يسمى ب(الجبهة الوطنية التقدمية)، التي سمحت له السلطة بموجبها التخلي عن (سريته) واستئناف نشاطه (العلني)، والتي كانت بمثابة (الطعم - السم) الذي كان ثمنه (تصفية) و(تشريد) عشرات الآلاف من خيرة عناصر الحزب في مجالات التنظير الفكري والتنظيم الحزبي. وبدلا"من أن تكون هذه (النكسة) المفجعة درسا"لنقد الأخطاء ومراجعة الإخفاقات، فإن الحزب سرعان ما أوقع نفسه في ورطة أخرى لا تقل فداحة عن سابقتها، ولكن هذه المرة لم تقتصر خسائره فقط بالعنصر (البشري) والتنظيم (الحربي) كما في المرة السابقة، وإنما طالت –  علاوة على ذلك - رصيده التاريخي، وتفوقه الجماهيري، واعتباره السياسي، وتميّزه الإيديولوجي. لاسيما بعد أن ارتضت قياداته التقليدية أن تكون كون ضمن طاقم الكيانات العنصرية والطائفية والقبلية، التي جاء بها الاحتلال الأمريكي الغاشم لحكم البلاد والعباد تحت يافطة عنوانها (الديمقراطية)، ولكن بمضمون يعبر عن وصايتها الكاملة وإشرافها المباشر.

وهكذا، وعلى هذا الإيقاع من التنازلات والخسارات والتراجعات، لم يلبث الحزب أن وجد نفسه يكافح – بلا طائل - للحصول على دور هامشي يلعبه ضمن لعبة (المحاصصات) الفئوية التي خططت لها وشجعت عليها سلطات الاحتلال الأمريكي، ضمن إطار ما يسمى ب(مجلس الحكم) سيء الصيت الذي كرّس الانقسامات العصبية بين مكونات المجتمع العراقي، على أمل أن يبرر (الحزب) من خلالها سياسات (التفرط) المجاني التي انتهجها بخفة وتسرع لا يحسد عليها، خصوصا"إزاء قوى سياسية وتيارات فكرية ما كان يجمعها بمبادئ الحزب ومواقفه وبرامجه قبل ذلك أي جامع، سوى معارضة النظام السابق ورفض سياساته الدكتاتورية والقمعية. وهو الأمر الذي دللت عليه نتائج الانتخابات البرلمانية المزعومة في الدورات السابقة، التي رغم كل الدعوات والاستعراضات التي بذلها الشيوعيون وأنصارهم لتحقيق فوز مرشحي (الحزب)، فإن النتائج التي تمخضت على أساسها لم تفضي لشيء سوى أنها جاءت بائسة ومخيبة للآمال . حيث عكست تلك الحصائل حجم التآكل الذي تعرضت له قواعده الجماهيرية، ومدى الانحسار في مستوى حواضنه الشعبية، جراء تكرار الأخطاء والإخفاقات التي أبتلي بها (الحزب) على مدى سنوات، للحدّ الذي خسر معها مواقع تصدره الأولى بين بقية الأحزاب والحركات المعارضة الأخرى. ولذلك فقد عجز (الحزب) في مساعيه لتغيير نسب المشاركة من قبل النشاطين والمتعاطفين، على أمل أن يخطي حاجز المقعد البرلماني (اليتيم) الذي استمر محتفظا"به – بصعوبة بالغة - داخل قبة البرلمان دون أن يهش أو ينش، في سابقة سياسية لم تكن متوقعة أبدا"إذا ما قورنت بباع مسيرة نضاله الصلب وتضحياته الجسيمة.

ولعل النكسة الكبرى التي مني بها (الحزب) وألحقت به الهزيمة المؤلمة في مراثون الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في الحادي عشر من هذا الشهر (ت2) 2025، حيث كانت بمثابة الضربة القاضية التي قضت على كل آمال وتطلعات ليس فقط الأعضاء العاملين داخل صوف (الحزب) والمنخرطين في تنظيماته فحسب، وإنما شملت كل أولئك المنضوين تحت لواء تيارات (اليسار) الديمقراطي – المدني بمختلف تلاوينه واتجاهاته أيضا". إذ تبين بوضوح ان الحزب الشيوعي لم يمنى فقط بخسارة مقعده البرلماني (الوحيد) الذي كان يشغله في الدورات البرلمانية السابقة فحسب، بل وكذلك فشل فشلا"ذريعا"في بلوغ الحدّ الأدنى من أصوات الناخبين الذين تمنح أعدادهم المطلوبة للمرشح المعني، حق المشاركة بالمارثون الانتخابي المحموم، ومن ثم، خوض المنافسة للحصول على المقعد البرلماني العتيد.

ولعل هذه النتيجة التي كانت متوقعة من لدن بعض المتابعين لطبيعة الحراك الاجتماعي والاصطفاف السياسي قبل الانتخابات، جاءت تتويجا"لسياسات (التفريط) بالقواعد والأسس التي طالما أكدت عليها (المنهجية) الماركسية، لاسيما أثناء الانخراط في مثل هذه الأنشطة والفعاليات بحيث ينبغي الاحتراز من تداعيات وتبعات أي تجاوز أو تخطي لمحظورات (الخطوط الحمراء) الإستراتيجية، حين تضطر الأحزاب الشيوعية (مكره) الى عقد التحالفات مع / وتقديم التنازلات لبعض الأطراف الأخرى، بحيث يبقى زمام الأمور الجوهرية بيده وطوع بنانه، وإلاّ فإنه سيفرط ليس فقط بحقوقه ومصالح الأساسية فحسب، بل وكذلك سيفرط بمكانته الاعتبارية ورصيده الرمزي. وهو الأمر حصل – للأسف الشديد - مع (الحزب) الشيوعي مؤخرا"بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي أظهرت كم بات هذا الحزب العريق بعيدا"عن تيارات الواقع المتلاطمة، وإرهاصات المجتمع المتفجرة. فهل - يا ترى - ستكون هذه النتيجة المخجلة سببا"يحمل قادة الصف الأول على المباشرة بإعادة نظر جذرية وفورية، بحيث تطال كل ما يمثله الحزب من فكريات مثالية، ومنهجيات تقليدية، وسياسات ارتجالية، وتحالفات عشوائية !.

***

ثامر عباس

أصدر مركز المسبار للدراسات والبحوث (2025) كتاب «تصالحُ الأبناء والأحفادِ.. المُصاهراتُ والأَسماءُ والصِّلاتُ بَينَ الطَّالِبَيين والأُمَويِّين والعبَّاسيِّين»؛ صحيح أن العداوة مِن الماضي؛ لكنها تعيش في الذّهنيَّة الجمعيَّة، وعلى أساسها تحدد الصلات والمواجهات بين المذاهب، مذاهب ترى العداوة لا تتوقف عند الأجداد، ومذاهب تعتبر ما تشكل بين الأبناء والأحفاد مِن مصاهرات وقرابات قد أوقفتها عند زمنها، فلا يجب أن تمتد إلى وقتنا هذا، وكأنها حصلت اليوم.

وبالتالي إذا كان وراء كلّ كتابٍ، ومقالٍ أيضاً، وخصوصاً في مجال البحث في الخلاف الفكريّ والفقهي والعقائديّ، دافع يدفع المؤلف الخوض فيه، ويصب ذهنه عليه، وهدف ينشده، فالدَّافع لهذا الكتاب هي الطّائفيَّة المتوحشة، التي أخذت تسري نارها في المجتمعات المختلطة، مقاسمةً بين شِيعة وسُنَّة، وأديان ومذاهب أُخر؛ لكنْ ما عنى الكتاب به هو الاختلاط الأول؛ والهدف كشف الرِّكام عن المنسيات، أو المحجوبات، مِن التَّاريخ، ولا هدف غير الإِسهام في إطفاء النَّائرة.

كتبتُ سابقاً مقالاً عنوانه: «كثرة الأحزان لا تعمر الأوطان»، والأحزان تركِتها المقاتل والحروب، وغدت تقاليد لتجارات وأسواق مشرعة المواسم؛ لذا لا بد مِن استمرار العداوات وديمومتها مِن جيل إلى جيل، وكلُّ جيل يضيف ما يناسب عصره، ومِن جيل إلى جيل تكبر كرات الثَّلج، وتصبح جبالاً مِن زمهرير البغض والحرابة.

صارت كتبُ الغُلاة والضَّالعين في الدّسِ، وما يُلقى مِن على أعواد المنابر، ومِن صالات الفضائيات، ووسائل التَّواصل الاجتماعي، عماداً للتاريخ، ووفقها ما هو إلا وقائع من الاقتتال بين السُّنَّة والشِّيعة، على ما كان بين أجداد وأبناء وأحفاد الأمويين والعبَّاسيين والطَّالبيين، وضمنهم العلويون؛ لا مصاهرات ولا تبادل صِلات ومسميات مشتركة، حتَّى تمثلت لنا الجماعات الثَّلاث جزراً منعزلات بعضها عن بعض؛ بينها حروب مستمرة إلى أبد الآبدين.

لكنْ مَن يبحث ويفحص سيجد إلى جانبها العكس؛ نعم توجد مقاتل كثيرات وعوازل عاليات، إلا أنَّ هناك التَّقارب والتّصالح بين الأجيال أيضاً، تجد إخواناً مِن أمهات فقط، أو آباء فقط، هم أبناء وأحفاد لطرفي معركة مِن المعارك.

كان خلاف العداوة، التي وصلتنا رواياتها، بين عليّ بن أبي طالب(اغتيل: 40هـج) وعمر بن الخطاب (اغتيل: 23هـج)، وجود مصاهرات بين آل نُفيل أسرة عمر، وآل طالب أسرة عليّ، وأنَّ اسم عمر يتكرر في أولاد عليّ وأحفادهِ؛ وأن يكون أحفادُ عثمان بن عفَّان (قُتـل: 35هـج) إخواناً لأسباط عليّ؛ وأنّ عليّاً يحرص على حياة عمر، ولا يتمنى أنّ يتسلم السُّلطة لنفسه، وقد فضّل الوزارة على الإمارة؛ والمعنى لم يكن مستنكراً مَن سبقه إلى إمارة المسلمين، إلى حدّ ما تعيشه مجتمعاتنا اليوم؛ مِن تبادل كراهية فظيعة؛ ومتخيلات.

المدِّ الطَّائفي الفظيع، يُحسب لذلك ألف حساب، فالأُسر والطَّوائف تُعرف أو تُشخص ميولها وصِلاتها وانتماءاتها مِن أسمائها؛ وهذا ليس بواقع جديد، بل كان التّميز بالأسماء موجوداً في كلِّ زمان ومكان، وأيُّ زمان ومكان خلا مِن غلاة الطّوائف أو الجماعات؟ ومع ذلك لم تخلُ تلك القرون مِن العقلاء الذين يفكرون بمنطق «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»، فالنِّزاع ينتهي عند الأجداد، لا يؤبد ولا يُوَرث مِن جيل إلى جيل؛ إلا إذا استجدت مصالح يُحشد الأتباع إليها بالماضيات.

السُّؤال: هل الأبناء والأحفاد تنصلوا عمَّا كان بين آبائهم وأجدادهم مِن مقاتل وخلافات؛ وكانوا قد شهدوها وجهاً لوجه، في ساحات المعارك ومجالس الخلافات؟ أم أن أنهم حصروها في زمنها، ولا بد أن يتعايشوا، والتَّعايش يفرض الزَّاوج بينهم البين، وكان شرط النَّسب مأخوذاً به، فهم بني عبد مناف جميعاً؛ وقد تستغرب أنّ أمويين احتجوا واعترضوا على نية زواج الحجَّاج بن يوسف الثّقفي(95هج) مِن إحدى الطّالبيات، لأنه ليس مِن عبد مناف، مع أنه كان أميرهم المخلص(الزُّبيريّ، نسب قُريش).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

بعد قرار إلغاء بحوث الإجازة في الجامعات المغربية واستبدالها ببحث ميداني، خرج وزير التعليم العالي والبحث العلمي بقرار آخر لا يقل غرابة، يقضي بالاكتفاء بحوالي ستين صفحة فقط في أطاريح الدكتوراه، مبرِّرا هذا الإجراء "الغريب" بما وصفه باعتماد الطلبة والباحثين على أدوات الذكاء الاصطناعي في إنجاز بحوثهم، ما اعتبره تهديدا لمصداقية البحث العلمي وجودته. غير أن هذا التفسير يكشف، في حقيقة الأمر، عن رؤية تلغي التقنية بدل توظيفها، وتُحمِّل أداة معرفية متقدمة مسؤولية خلل بنيوي مزمن يطال منظومتنا التعليمية منذ عقود.

إن المفارقة الغريبة في هذا القرار، أنه يأتي في الوقت الذي تتسابق فيه الجامعات العالمية الكبرى في أوروبا وأمريكا وآسيا إلى تطوير طرائق تعليمها وبحثها اعتمادا على الذكاء الاصطناعي وإمكاناته الهائلة في الارتقاء بالإنتاج العلمي، وتحسين جودة المقالات والرسائل الجامعية، وتيسير الوصول إلى المعلومة. فبينما يتجه العالم نحو بناء اقتصاد معرفي قائم على الابتكار الرقمي، نرى جامعات العالم "الجنوبي" تُسرع إلى تجميد البحث وتقزيمه، بدل تحديث أدواته وتنظيمه.

ولعل المثال الأوضح هو ما يحدث في جامعة لوفان الكاثوليكية  (KU Leuven)، حيث أعمل منذ سنوات. فقد بادرت الجامعة منذ فترة بتنظيم تكوينات متخصصة للأساتذة والطلبة حول كيفية توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول في البحث العلمي. ويتم تدريب الباحثين على الاستفادة الذكية من هذه التقنيات من دون الإخلال بالأمانة العلمية أو الإبداع الشخصي. ومن ثمّ، أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي جزءا لا يتجزأ من المناهج التعليمية، تُعرِّف الطلبة بالمجالات المعرفية والمنهجية الجديدة التي تتيحها لهم التكنولوجيا، وتمكّنهم من توفير الوقت والجهد والمال، والتركيز على تطوير أفكارهم وتحليل نتائجهم.

وفي مقابل هذا الانفتاح، وضعت الجامعات الغربية قوانين دقيقة وحازمة تنظّم حدود استخدام هذه الأدوات، وتتصدى لكل محاولة للغش أو انتهاك أخلاقيات البحث. وقد تم اعتماد برامج قادرة على كشف السرقات العلمية وقياس نسبة اعتماد الطالب على الذكاء الاصطناعي في كتاباته. وفي حال ثبوت المخالفة، تُطبّق عقوبات صارمة تصل إلى الفصل من الدراسة لمدة قد تبلغ ثلاث سنوات، كما هو الحال في الجامعات البلجيكية.

وبهذه الطريقة، يتكوّن لدى الطالب منذ مرحلته الأولى وعيٌ نقدي وأخلاقي باستخدام التقنيات الحديثة. فيتعلم توظيف الذكاء الاصطناعي بوصفه أداة مساعدة، لا بديلا عن التفكير والإبداع والبحث الحقيقي. وتنشأ لديه رقابة ذاتية قبل الرقابة الأكاديمية والقانونية، وقناعة راسخة بأن جودة البحث تُقاس بعمقه وفرادته، لا بمدى قدرة الباحث على إخفاء الاعتماد غير المشروع على البرامج الرقمية.

إن المشكلة إذن ليست في الذكاء الاصطناعي، بل في كيفية إدماجه ضمن مشروع إصلاح التعليم العالي. فبدل أن نعالج أسباب الضعف، مثل هزالة التكوين البحثي، وقلة التأطير، وتخلف المختبرات، وغياب الدعم المالي والعلمي للطلبة والباحثين، نلجأ إلى حلول شكلية لا تمس جوهر الأزمة. إن تقليص حجم الأطروحات أو إلغاء بحوث التخرج لن يرفع مستوى البحث العلمي، بل سيزيد من تفريغه من محتواه، وسيحوّل الجامعة إلى مؤسسة تفرّخ المتخرجين وتمنح الشهادات بدل إنتاج المعرفة.

وتجدر الإشارة إلى أن إنجاز البحوث الميدانية لا ينبغي أن يكون على حساب بحوث الإجازة، فهذه الأخيرة ليست بالضرورة نظرية محضة، بل يمكن أن تجمع بين التأصيل النظري والاستقراء الميداني في تناغم منهجي. أمّا الاقتصار على الجانب التطبيقي وحده، فهو دور يناسب بالأساس المعاهد التربوية العليا والكليات التقنية التي لا تقتضي مستوى التعمق النظري نفسه. فالجامعة، بكونها مؤسسة معرفية عريقة، ترتكز مهمتها الجوهرية على البحث العلمي في مختلف تجلياته؛ الكيفية والكمية، الإنسانية والطبيعية، الاجتماعية والتكنولوجية. ويُعد البحث النظري خطوة تأسيسية لا غنى عنها للانتقال إلى المرحلة اللاحقة المتمثلة في توظيف هذه المخرجات في بحوث ميدانية وتطبيقية، سواء من طرف الجامعات نفسها، أو من خلال المعاهد التطبيقية، والمستشفيات الجامعية، والمختبرات والشركات، والمؤسسات الاجتماعية، وغيرها من الفضاءات المهنية والعلمية.

إن الدول التي اخترعت الذكاء الاصطناعي لم تتعامل معه بكونه خطرا، بل بكونه ثورة معرفية يمكن أن تدفع نحو مستقبل أكثر تقدّما. أما نحن، فلا زلنا نتوجّس خيفة من كل تطور علمي، ونرى في كل أداة جديدة تهديدا لنا، لا فرصة للتقدم والتطور.

لذلك، أرجو أن تعتمد وزارة التعليم العالي استراتيجية حقيقة وجريئة لإرساء مشروع إصلاح، يقوم على تحديث المناهج، وتدريب الأساتذة والطلبة، ودعم البحث والمختبرات، وتشجيع النشر العلمي، وتطوير التشريعات الأكاديمية بما ينسجم مع التحولات الرقمية والتكنولوجية العالمية. وينبغي أن نُدرك أنّ الجامعات الرائدة لا تتنافس في تقليص عدد الرسائل والأطروحات، بل في جودة ما تنتجه من معرفة، وما تقدّمه من بحوث تساهم في حلّ المشكلات التنموية وبناء مجتمع معرفي مزدهر. فهذه الجامعات الدولية المصنفة تتزاحم من أجل زيادة إنتاجها البحثي وتراكمها الأكاديمي، وتتنافس من أجل تقديم أكبر عدد من الرسائل والأطاريح الجامعية والمقالات العلمية المحكمة والمؤلفات المتخصصة، بينما يتم عندنا إقبار بحوث الإجازة وتقزيم أطاريح الدكتوراه.

وفي الختام، إن ما ينبغي إدراكه والعمل على تنزيله، هو أن الذكاء الاصطناعي ليس خصما للجامعة أو البحث العلمي، بل شريكا مهما ولازما إذا عرفنا كيف نحسن توظيفه، وعدوا لذودا إذا ظللنا نرفضه ونقاومه بقرارات شخصية أو سياسية مرتجلة لا علاقة لها بمستقبل العلم والبحث الأكاديمي.

***

بقلم/ التجاني بولعوالي

كثيرة هي عبارات وكلمات القاموس السياسي الرائجة التي سحرتنا معانيها وألهمتنا دلالاتها، للحد الذي أضحت فيه بمثابة ثيمة، بلّه تعويذة من تعاويذ خطاباتنا السياسية وانتماءاتنا الإيديولوجية المعبرة عن طبيعة التوجهات التي تتبناها هذه الجماعة أو تلك، وماهية الممارسات التي ينتهجها هذا الطرف أو ذاك. ولعل كلمات من مثل (حرية التعبير) و(حقوق الإنسان) و(العدالة الاجتماعية) و(المساواة أمام القانون) و(مبدأ المواطنة)، فضلا"عن مفاهيم مثل (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(الاشتراكية)، الخ. من أكثر تلك الكلمات والعبارات شيوعا"في الخطابات وتداولا"في الشعارات، سواء أكان على صعيد (المجتمع السياسي) بمختلف مؤسساته، أو على صعيد (المجتمع المدني) بمختلف قطاعاته.

وبقدر ما يتم تواتر استخدام الكلمات والعبارات التي من هذا النمط بين عامة الناس وخاصتهم، بقدر ما تستقبلها عقولهم ويتمثلها كما لو أنها حقيقة من حقائق الوجود الطبيعي والاجتماعي، بحيث يصبح من الصعب حملهم على الشك في صحة مضمونها، أو حضهم على نقد مقارباتها، طالما أنها أضحت شائعة بينهم ومقبولة لديهم. وفي خضم مثل هذه الحالة الملتبسة، لا يعود مهما "بالنسبة لأولئك الذين لا يتخطى مؤشر وعيهم إطار مشاكلهم اليومية ومصالحهم الآنية، طبيعة الجهة التي تسوق وتروج لمثل تلك العبارات الجذابة؛ سواء أكانت حكومة دكتاتورية أم ديمقراطية، حزب ديني أم علماني، إيديولوجية يمينية أم يسارية، جماعة أصولية أم مدنية. 

وبصرف النظر عن الطبيعة السياسية للجماعات والحكومات والإيديولوجيات، فإنه ينبغي النظر الى (حرية التعبير) بالمعنى النسبي والمجازي وليس بالمعنى المطلق. أي بمعنى أن هذه (الحرية) - بالنسبة لبلدان العالم المتقدمة – هي حرية (مشروطة) بجملة من الضوابط السياسية والقواعد الاجتماعية، التي ليس في وراد تلك البلدان السماح بتجاوزها أو تخطيها مهما كانت الأسباب أو الدوافع التي تحاجج بها الجماعات المتضررة من السياسات الاقتصادية والإجراءات الاجتماعية. فرغم ان (حرية التعبير) هنا مكفولة للمواطنين بموجب دستور الدولة القائمة، ولكن ضمن (الحدود) التي تشرعها الحكومات المهيمنة بما لا يلحق الضرر بوجودها ومصالحها. ولذلك فقد شهدنا - في الآونة الأخيرة - كم (ضيقت)، لا بل قمعت، هذه الحكومات الليبرالية من هامش (الحرية) المزعومة، حين تعلق الأمر بحق التظاهر للجماعات المعنية بحقوق الإنسان ضد ممارسات الدولة الصهيونية حيال الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية.

وإذا ما حاولنا مقاربة (حرية التعبير) من وجهة نظر بلدان العالم المتخلف، فإن الطابع (المجازي) في استخدام هذه العبارة سيكون هو سيد الأحكام، وبلا منازع. فبرغم ان حكومات هذه البلدان المتصدعة والمتشظية تنام وتصحو على إيقاع تلك العبارة المستهلكة، إلاّ أنها لا تخرج عن كونها (ستار) يخفي فساد هذه الحكومات وانحطاطها. ومع أن دساتيرها وتشريعاتها المفبركة تبيح للأفراد والجماعات (حرية التعبير) عما يرونه إجحافا"بحقوقهم السياسية، وإضرارا" بمصالحهم الاقتصادية، وتجاهلا" لخصائصهم الثقافية، إلاّ أنها لا تكتفي بوضع (الحدود) الضرورية – كما في حالة الحكومات الليبرالية - التي تدرأ من خلالها ما يتعارض مع سياساتها ومصالحها الفئوية، وإنما، علاوة على ذلك، تسن جملة من (القيود) الرادعة ذات الطابع الأمني والبوليسي، التي من شأنها ليس فقط الحدّ من تلك (الحرية) والتضييق عليها فحسب، بل وجعلها (مصيدة) للإيقاع بكل من يعارض تلك السياسات ويناهض تلك المصالح. ولعل ما أفضت إليه (حرية التعبير) - في عراق ما بعد السقوط - من مآس وفواجع لا نزال نحصد ثمارها المرة مرارة العلقم، كفيل بحملنا على التعاطي مع هذه الحرية من باب كونها ممارسة تتراوح ما بين (الوهم) في الحالة الأولى، و(الاكذوبة) في الحالة الثانية. 

***

ثامر عباس

 

بالنسبة لبرانكو ميلانوفيتش وكثيرين غيره، تُعدّ الصين محور التحول الأيديولوجي الحالي. كما أن صعود الصين الذي مكّنته النيوليبرالية العالمية، جعل نهاية النيوليبرالية العالمية حتمية، إذ تضخم الاقتصاد الصيني لدرجة يصعب معها دمجه في نظام عالمي تُحدّد قواعده الولايات المتحدة وحلفاؤها. أما ناقوس الموت الثاني للنيوليبرالية فهو ظهور طبقة جديدة ثرية من النخب الغربية. وقد ولّد هذان التغييران استياءً واسع النطاق في جميع أنحاء الغرب، مما أدى بدوره إلى تحول التيار السياسي السائد نحو اليمين. وقد انحسرت الأفكار التي عرّفت النيوليبرالية، من تحرير التجارة إلى حرية تنقل الأشخاص عبر الحدود، في ظل حروب التعريفات الجمركية الترامبية الحالية وسياسة مكافحة الهجرة واسعة النطاق.

يُخصّص ميلانوفيتش الفصل الأول من فصول الكتاب الخمسة للنهضة الاقتصادية لآسيا، باعتبارها الحدث الرئيسي خلال المئة عام الماضية. وكما ناقش في كتابه "التفاوت العالمي" الصادر عام ٢٠١٦، فقد أعاد نهضة آسيا الي توزيع الدخل، مما أدى إلى نشوء طبقة متوسطة عالمية (وإن كانت أفقر مما يُسمى بالطبقة المتوسطة في الغرب)، تُشكّل ١١٪ من سكان العالم، بدخل فردي يتراوح بين ٢٦٠٠ و٣٩٠٠ دولار أمريكي.

بفضل نموها الاقتصادي طويل الأمد، لم تعد الصين تُسهم في تراجع التفاوت العالمي، كما يُخبرنا ميلانوفيتش. لكن الأمر لا يقتصر على الصين. فحصة فيتنام وإندونيسيا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ترتفع أيضًا بالتزامن مع انخفاض حصة مستعمريهما السابقين (فرنسا وهولندا)، ويصل الناتج المحلي الإجمالي للهند إلى أربعة أضعاف نظيره البريطاني. هذه الدول في الوقت الحالي عند "ذروة دخلها النسبي" ، حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، مُعبّرًا عنه كنسبة مئوية من المتوسط العالمي، ذروته. وقد بلغت الدول الغربية هذه الذروة قبل حوالي ستين عاما.

هذا هو سياق التغيير في السياسة الأمريكية تجاه الصين - من تشديد الرقابة على تصدير التكنولوجيا الحساسة إلى فرض عقوبات على الشركات الصينية. تؤثر هذه السياسات سلبًا على معدلات النمو لكل من الصين والولايات المتحدة، ولكن إذا أثرت هذه السياسات بشكل أكبر على معدل النمو الصيني، فإنها ستؤخر فعليًا معدل "اللحاق" الصيني. يكتب ميلانوفيتش أن هذا هو الأساس المنطقي للسياسات الأمريكية المناهضة للعولمة: إبطاء النمو الصيني، وتوسيع هيمنتها الاقتصادية. تُعطي مقارنة الدول الآسيوية الكبيرة - الهند وإندونيسيا وفيتنام وتايلاند وباكستان - بدول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية نتائج مماثلة، على الرغم من أن الفجوة الحالية بين متوسط الدخل بين هاتين المجموعتين أكبر بكثير (أكثر من 10 إلى 1) من الفجوة بين الولايات المتحدة والصين (4.6 إلى 1).

ولكن احتمالات العثور على مواطن صيني في أعلى شريحة من توزيع الدخل العالمي تتزايد: فإذا ظلت فجوة النمو حوالي ثلاثة في المائة سنويا لصالح الصين، فقد تصبح بعد عشرين عاما مساوية لاحتمالات العثور على مواطن أميركي في نفس المجموعة.

أربعون عامًا من الرأسمالية غير المنظمة خلقت طبقات حاكمة جديدة في أمريكا والصين: عدد متزايد من الناس الذين يتمتعون بثراء من دخل العمل ودخل رأس المال على حد سواء. يُطلق ميلانوفيتش على هذه الظاهرة اسم "هوموبلوتيا"، أي الثراء المتساوي (هومو) في عاملين رئيسيين من عوامل الإنتاج. بعد تحليله الجزئي لهذه المجموعة في كتابه "الرأسمالية وحدها" (2019)، يُوضح ميلانوفيتش الآن الخصائص الرئيسية لهذه الطبقة الجديدة. يقع أفرادها في الشريحة العشرية العليا في مجتمعاتهم من حيث دخل العمل ورأس المال وإجمالي الدخل.

في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول ذات الدخل المرتفع، تُمثل هذه الطبقة حوالي 3% من السكان، بينما في الصين، تُشكل أغنى 5% من سكان المدن. في أمريكا، كان ارتفاع دخل الوالدين (الذي غالبًا ما يُورث، مما يزيد من فرص الترقي الاجتماعي) ومزيج التعليم الجيد والحظ والعمل الجاد والراتب المرتفع الذي يُتيح ادخارًا كبيرًا. أما في الصين، فتتمثل الميزة الأكبر في عضوية الحزب الشيوعي الصيني.

التحول الرئيسي الذي يحدده ميلانوفيتش هو أن هذه النخبة الجديدة ليست معارضة للرأسماليين، بل متحالفة معهم. يصف ثلاث سمات لهذه الطبقة: البعد الاجتماعي، كما يتضح من الاندماج مع الرأسماليين؛ والبعد الاقتصادي، كما يتضح من البيانات المتعلقة بتزايد انتماؤها الى هموبوبلوتيا؛ والبعد الأيديولوجي، كما يتضح من القبول الصادق لأهمية الملكية الخاصة. وتعني هذه السمة الأخيرة أن الطبقة العليا أصبحت الآن أكثر نخبوية، لأن ارتفاع الدخول يرتبط بـ"المؤهلات": المستوى التعليمي في الولايات المتحدة، والعضوية الحزبية في الصين.

مع تزايد اعتماد الناس على العمل ورأس المال كمصدر دخل مرتفع، فإن الطبقة الرأسمالية التقليدية محكوم عليها بالانقراض. ويشير ميلانوفيتش إلى أن هذا التطور الجديد، على الأقل بالنسبة للنخبة الرأسماليّة (هوموبولتيك)، قد حلّ الصراع الدائم بين رأس المال والعمل، ويتوقع توسّعًا أكبر لهذه الطبقة في المستقبل.

بعد أن بلغت النيوليبرالية ذروتها حوالي عام ٢٠٠٢ عندما انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وجهت لها الأزمة المالية عام ٢٠٠٨ ضربة قاضية. وقد مثّلت فترة انتقالية شهدت اضطرابات سياسية وأزمات ديون وهجرة واحتجاجات شعبية، إلى أن جاء حدثان رئيسيان في عام ٢٠١٦ ليبشرا بمرحلة جديدة: الولاية الرئاسية الأولى لترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومنذ ذلك الحين، تزايد الوعي بأن النيوليبرالية لم تُنشئ فقط طبقة جديدة من الأثرياء الجدد ماليًا، وبالتالي فاقمت التفاوت في الدخل، بل أدت أيضًا إلى نتائج اجتماعية وخيمة، مثل انخفاض الحراك الاجتماعي، وارتفاع معدلات الوفيات والأمراض بين الفقراء والطبقة المتوسطة، وانخفاض النمو الاقتصادي، وانعدام الاستقرار الوظيفي.

في الغرب، كان رد الفعل على هذا الاضطراب صعود الشعبوية؛ وفي الصين، تقوية الحزب الشيوعي؛ وفي روسيا، تقوية الأجهزة الأمنية. جميع هذه الدول الثلاث تنوي التصدي لتراكم سلطة النخبة. وهذا أمرٌ مثيرٌ للسخرية، لأن ترامب وشي جين بينغ وبوتين هم أنفسهم نتاجٌ للنيوليبرالية: جميعهم وصلوا إلى السلطة بفضل الميراث وريادة الأعمال (ترامب)، والنفوذ الأبوي في الحزب (شي)، والسيطرة على الأوليغارشية (بوتين). بعبارة أخرى، بفضل تراكم الثروة والسلطة.

لكن، كما يكتب ميلانوفيتش في فصله الرابع، فإن ليبرالية السوق الوطنية تشمل جوانب من الفكر الكلاسيكي والنيوليبرالي المتعلق بالأسواق، لكنها ترفض جوانب أخرى من المشروع الليبرالي تتضمن المساواة المدنية. وبينما تستبعد التعددية الثقافية، والعولمة، وحرية تنقل العمالة، فإنها تُبقي على إلغاء القيود، وانخفاض الضرائب، ونهج "رجل الأعمال" الشامل في الاقتصاد. الرأسمالية تزداد رأسماليةً يومًا بعد يوم.

قد تُعتبر العديد من الافتراضات الأساسية للكتاب غير دقيقة أو خاطئة، مثل أن الليبرالية الجديدة اعتمدت على مبدأ التجارة الحرة (وهو ما لم يكن صحيحًا)، أو أن الاقتصاد، خلال فترة الليبرالية الجديدة، كان معزولًا عن السياسة (بل كان في الواقع معزولًا عن الديمقراطية). تنطلق هذه الافتراضات من الفرضيات الأنطولوجية المحددة في الكتاب حول الطبيعة البشرية والرأسمالية، وكذلك ايمان المؤلف بالحتمية التاريخية ومن هنا جاء توقعه (غير المتفائل كثيرا). ان ليبرالية السوق الوطنية ستستمر.

مع ذلك، يُعدّ الكتاب دراسةً جديرةً بالاهتمام. فتحليل ميلانوفيتش مُثريٌّ برؤىً ثاقبةٍ من التاريخ وعلم الاجتماع، لا سيما من مؤلفين كلاسيكيين مثل لينين، وروزا لوكسمبورغ، وكارل بولاني، وبالنسبة للاقتصاديين، جوزيف شومبيتر الذي لا غنى عنه. وبغض النظر عن الفرضيات التي ينطلق منها، فإن الكتاب يستند إلى عملٍ دؤوب على البيانات التجريبية، ويُقدّم تحليلاً اجتماعياً واقتصادياً قوياً عن النخبة الصينية والغربية. ومن أبرزها مقترحاته لما يُسمى بالهجرة الدائرية (التي تسمح للأجانب بالانتقال مؤقتاً) لحل "الثالوث المستحيل" المتمثل في العولمة، وارتفاع التفاوت في الدخل، وغياب الهجرة الهيكلية؛ ومفهوم "التجانس". وكلاهما أدوات تحليلية أصيلة ومفيدة يُمكن لعلماء الاجتماع استخدامها لفهم تحولات الرأسمالية.

***

علي الرئيسي

باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية

في زمنٍ تتصاعد فيه أصواتُ الاستقطاب السياسي، يبدو على بزوغ بصيصٍ من السؤال الذي يلوح في الأفق الثقافي: أيّ دور يلعبه المثقف؟ هل هو صوت الضمير المنفصل عن السلطة، أم يتحول تدريجيًا إلى بوقٍ لها؟ هذا السؤال ليس تحصيلًا فكريًا فحسب، بل هو انعكاسٌ لحالةٍ مجتمعيةٍ وثقافيةٍ تكاد تستأصل معنى النقد المستقل وتعيد تعريف دور المثقف في ظلّ أزمتي الثقة والتمثيل. في هذا المقال، نحاول أن ندور حول هذا المحور، نقرأ فيه التغيرات التي طاولت المثقف، ونرصد كيف تحولت قناته أو روابطه، ونتساءل: هل ما زال بإمكان المثقف أن يكون صوت ضمير؟ أم أنه أصبح بوقًا للسلطة؟

المثقف كان عبر التأريخ، في الكثير من التجارب الوطنية، بمثابة نقطة ارتكازٍ في اللحظات المفصلية، سواء في المطالبة بالحرية، أو في إجابة السؤال عن الشرعية، أو في فتح ساحةٍ للحوار والجدل. إن مفهوم المثقف أرتبط بالهوية النضالية والنخبوية، فظهر في مشهد أوروبا نهاية القرن التاسع عشر حينما دافع المثقف عن الضابط اليهودي دريفوس، فكتب إميل زولا بيانه (إنّي أتهم) وانخرط في المسار، فابتدأت هذه الصورة للمثقف كمن يملك موقفًا نقديًا وفي سياقاتنا العربية، تبيّن أن المثقف كان يُنظر إليه على أنه صوتٌ يسعى لكشف الحقيقة، يدافع عن الضعيف، يتحدّى سلطة الجائر.

لكن ذلك المشهد لم يَخلُ من تغيُّر. فقد دخلنا زمنًا تتسارع فيه الأحداث، وتتم فيه إعادة ترتيب أولويات، وتتصاعد فيه قوى الاستقطاب فتُشغّل المثقف وتجعل منه طرفًا، أو تتغيّر مواقفه أو تتبدّل أدواره. ففي تحليلٍ من نوعٍ آخر، يُلاحظ أن المثقف في بعض المجتمعات العربية تغيّر إلى ما يُسمّى بالمثقف التكنوقراطي أو الوظائفي، الذي يقدّم خبرته أو رأيه الخاضع لمنطق السلطة، أكثر منه صوتاً معارضًا للنظام القائم.

ولأنّ الاستقطاب السياسي صار سمة محورية في الحياة العامة؛ حيث تصطف الأطراف وتتداعى الخطابات وتتعزّز المناطق الرمادية، فإن المثقف يقع في مفترق الطرق: هل يبقى مستقلّاً، أم يُستقطب؟ وهل يدرك أن التوظيف في خدمة السلطة أو الانحياز إليها يجعل منه ليس أكثر من بوقٍ لها؟ أو ربما يتحول إلى مجرد متفرّجٍ هادئ، أو ما أسماه البعض المثقّف المستقيل؟ وما يزيد الطين بلة أن الاستقطاب يُخنق حيز النقاش المستقلّ، ويُقوّض الحيز الذي يُفترض أن ينشط فيه المثقف بصوته الخاص، ويختبر فيه مسافة العودة إلى الضمير، أو الوقوع في فخِّ (بوق السلطة).

ومن ثم، فإن المثقف في زمن الاستقطاب يتساءل: هل يمكنه أن يكون صوت ضمير؟ للحديث عن هذا، لابد من المرور بعدّة حالات: الحالة الأولى عن موقعه الاجتماعي والثقافي، والحالة الثانية عن مواطن التوتر بينه وبين السلطة، والحالة الثالثة عن الأشكال التي تبدّل فيها دوره، وأخيرا عن البدائل الممكنة.

ففي الحالة الأولى، فكريًا واجتماعيًا، يُشير أن المفكر إدوارد سعيد إلى أن المثقف لا يمكن أن يتخلص تمامًا من علاقته بالسلطة، لأنّ السلطة ليست فقط الخارجية بل أيضاً بنيةً فكرية وثقافية تتملك المجال العام، ويقول أيضلً: إن علاقة المثقف والسلطة هي علاقة (اشتباك)، لا هي علاقة مطلقة استقلال، ولا علاقة تطبيع مطلق. هذا الاشتباك ما فتئ حاضرًا، خصوصًا في المجتمعات التي تشهد تحولاتٍ أو حراكًا أو تغيرًا في بنى الدولة أو في مفهوم الحرية أو السيادة. علاوة على ذلك، يرى آخرون أن المثقف هو من يحاول أن ينفّذ العقل؛ بمعنى البحث عن الحلول والتقديم الرصين للأزمة، وليس فقط أن يخدم خطابًا معينًا.

إذًا، فالموقع ليس مضمونًا مفروغًا منه، بل هو شبكة علاقات متشابكة بين المثقف والمجتمع والسلطة، وتحت رحى الاستقطاب، تصبح شبكة شائكة: المثقف يُطلب منه أن يَحسم، أو يُغطّي، أو يُحاكم أو يُختار جانبًا. وهذا بالذات ما يجعل السؤال: صوت ضمير أم بوق سلطة؟ ليس مجرّد تشفير لغوي، بل صدامًا ذاتيًا.

أما الحالة الثانية، تتعلّق بوقوع المثقف تحت ضغوط السلطة أو منظومة الاستقطاب، وتحولاته. ففي واقعنا العربي، ثمة حالات تُبيّن أن المثقف أصبح يتخذ وظيفةً ضمن منظومة السلطة الثقافية، أو يُضمّ إلى جهازها، أو يُوظّف ضمن أدوات خطابها. هذا الواقع ليس محض أمثلة فردية في عدة دول؛ بل هو مكثّف للتجربة التي تعيشها النخبة الثقافية في زمن تتبدّل فيه أسس الشرعية، وتنتقل السلطة أو تتوسّع دائرة نفوذها عبر أدوات غير تقليدية، منها الإعلام، ومن ثم الثقافة، ومن ثم القول العام.

في هذه البيئة، مثّل الانخراط في منظومة السلطة أو في خطابها خيارًا مغريًا: شهرة، نفوذًا، تأثيرًا، وضمانًا نسبيا للأمان الوظيفي. لكن ما تفقده تلك الوضعية هو الاستقلال، أو المسافة التي أنشأها المثقف للقول المختلف. وعندما يتحوّل المثقف إلى بوق للسلطة، فإن صوته لم يعد يعبر عن ضميرٍ يشقّ طريقه بين الصراعات، بل عن منطقٍ سلطوي يُسوّق خطابًا ويكرّسه. في هذا السياق، يصبح الاستقطاب ليس مجرد صراع سياسي، بل محورًا يستأثر بكل فضاء عام، ويحوّل المثقف إلى راوٍ أو إلى صانعٍ في تلك اللعبة.

أما الحالة الثالثة هي: كيف تبدّل دور المثقف؟ ولِمَ بات الأمر خادعًا؟ أولًا، تغيّرت أدوات الفعل الثقافي: لم تعد المعرفة محصورة في الجامعة أو في الكيان الثقافي المنظم، بل إنتشرت عبر وسائل التواصل، ومنصات رقمية، ومنصّات شبابية، ومن ثم تغيّرت طبيعة الجمهور والعلاقة بينه وبين المثقف. هذا التحول خلق نوعًا من التضخيم للدور، لكنه في نفس الوقت خلق إشكالية: كيف يمكن للمثقف أن يحافظ على عمقه حين يُطلب منه أن يصطف أو أن يُطرح كجزءٍ من الاستقطاب؟

أما القَطبية باتت أكثر وضوحًا: طرف مؤيد، وطرف معارض، وقليلٌ من المساحات الوسيطة. في مثل هذا المشهد، غالبًا ما يُطلب من المثقف أن يقف ضمن أحد الطرفين أو يُتهم بأنه خارج اللعبة. وهذا يضعه أمام خيارٍ إما أن يتحوّل إلى معلق مستقل أو أن يُصوّب رأيه ضمن أحد المحاور، وبالتالي يفقد ما كان يُفترض أن يكون عليه ضابط ضمير، ومن ناحية اخرى، هناك معادلة جديدة تمثّلها السلطة والمعارضات على حد سواء: الشراكة مع سلطة شرعية، أو المعارضة.  في هذا السياق، بعض المثقفين قد تبنّوا مقولة أن وظيفة المثقف ليست بالضرورة أن يكون معارضاً، بل أن يكون جزءاً من الإصلاح؛ غير أنه عند حدود معينة يتحوّل إلى متعامل مع منظومة السلطة، وهذا التحوّل يسجّل ضمن مفارقة: المثقف الذي كان يفترض أن يكون سلطة موازية أصبح جزءاً منها أو تابعاً لها. ورداً على ذلك، يستشهد بعضهم بأن المثقف اليوم لا يمكنه أن يكون محايداً تمامًا، بل فقط أن يكون أقل انخراطًا في بوق السلطة.

ما يعنيه ذلك أن المثقف قد فقد، أو ربما أضعف، مقدار المساحة التي كان يُمارس فيها دوره الأصلي: كقارئ للواقع، وكاشف لآليات السلطة، وكناقد متحرّر من التبعيّة. وإذا صار دوره مجرد التجاوب مع طلبات السلطة أو الأدوار الموكولة إليه ضمن إطارها، فإنه لم يعد يمثّل ثغرة في المنظومة، بل أصبح جزءاً منها.

وأخيرًا، نصل الى البدائل الممكنة، أو لنقل: كيف يمكن للمثقف اليوم أن يستعيد صوته، وأن يعيد موقعه كضَمير وليس كبوق؟ أولاً، يستدعي الأمر وعيًا ذاتيًا، أي أن يراجع المثقف موقعه، علاقته بالسلطة، علاقته بالمجتمع، وعلاقته بنفسه كمثقف: هل هو يتبع، أم يتساءل؟ هل يتحدث باسم مشروعٍ أم يسائل المشاريع؟ هذا الأمر يقود إلى ضرورة استعادة المسافة النقدية، وهي ليست مسافة عداء، بل مسافة تمكّن من التفكير النقدي، وإلا صار النقد مجرد صوتٍ داخل النظام. ثانياً، أعاد البعض التأكيد على أن المثقف لا ينبغي أن ينتظر السلطة أو أن يكون منصّبًا أو موكولًا، بل أن يفتح فضاءات، أن يشغّل سؤالاً، أن يضع في صميم الحقل العام ما هو هامشي أو مهدور. مثّل هذا المنطق ما ورد في كثير من الكتابات التي تقول إن وظيفة المثقف ليست في أن يخدم السلطة أو أن يعاديها، بل أن يُفضي - عبر كتابته أو تحليله أو تفاعله - إلى أن يُخلي موقعه للنقاش. (من جانب آخر، ينبغي أن يفتّش المثقف عن الأصوات الهامشية والمشروعات التي لا تمثّل التيار السائد بالضرورة؛ لأن الاستقطاب غالبًا ما يصيغ التيار السائد ويُقصي الهامش. حينما يُمسك المثقف بهذا الهامش، فإنه يُعيد بناء الحقل النقدي، ويُفعّل مواضع الحيادية في ما تعنيه الكلمة: ليس انعدام الموقف، بل موقفاً لا يُستعبد بعدائه أو تأييده. ويمكن القول  أيضاً، لا يمكن للمثقف أن يُعزل عن المجتمع، أو أن يستعبد الاتجاه التكنولوجي أو الإعلامي؛ بل عليه أن يفهم اللعبة القائمّة، أدواتها، خطابها، فيُفكّكها ولا يستسلم لها. أي أن الحقل الرقمي والاستقطابي ليس خيارًا خارجياً عليه، بل داخل سياق اشتغاله فتحليله ونقده يُعدّ جزءًا من دوره.

وبهذا، يمكن القول إن المثقف الذي يريد أن يبقى صوتَ ضميرَ لا بوقَ سلطة، لا يحتاج إلى أن يكون في معارضةٍ مستميتة، ولا في تبنٍّ أعمى، بل في وعيٍ بموقعه، في حرصٍ على مسافةٍ نقدية، في التزامٍ بشروط المعرفة والمساءلة، وفي قدرةٍ على التنقُّل بين الضدّين دون أن يفقد جوهره. وهذا الدور ليس سهلاً في زمن الاستقطاب، بل هو أكثر تجذرًا. لكنّه ليس مستحيلًا.

وعندما نعود إلى السؤال: هل المثقف في زمن الاستقطاب السياسي صوتٌ ضمير؟ أم بوقٌ سلطة؟ نجد أن الإجابة ليست قطعية. هي حالة حاملتها احتمالات. في لحظاتٍ يكون صوتاً ضميراً، وفي لحظاتٍ قد يتحول إلى بوقٍ، ليس بالضرورة عن طواعية، بل عن تموقع أو تسليم أو إدراك محدود. لكن المهم أنّه بإمكانه أن يُعيد اختيار موقعه، أو إعادة تأسيس دوره، إلا إن اختار أن يستكين إلى أن يصبح تابعًا. ففي نهاية المطاف، لا يُختبر المثقف فقط من خلال ما يقول، ولكن من خلال إلى أي مدى يبقى قابلًا للتجديد، ويفهم أن دوره ليس بالضرورة أن يكون مؤيدًا أو مُعارضًا، بل أن يكون صانعًا للوعي، وأن يُسائل كلّ من السلطة والمعارضة، وأن يُوقظ ضميره ومن ثم ضمير المجتمع معه.

قد يبقى سؤال الاستقطاب قائماً: في خضمّ الخطابات المتطرفة، وفي زمن تتعالى فيه الأصوات وتغيب فيه المساحات الوسطية، ما يزال هناك مجال للمثقف أن يُصنع الفارق؟ أعتقد أن الإجابة نعم، شرط أن يكون المثقف واعيًا بأن دوره ليس أن يُعلي صوته فحسب، بل أن يحافظ على ما بقي من فضيلته: أن يكون ضميرًا يقظاً، لا مجرد مكبّر صوتٍ بوقي.

***

د. عصام البرام

أسفرت الانتخابات العراقيَّة عن فشل التَّيار المدنيّ، أو ما قَدم نفسه بالبديل، مما ضمه مِن أحزاب وتكتلات وشخصيات، إلا الفوز للبعض منه فرادى. بالمقابل فازت القوى الإسلاميَّة والعرقيَّة فوزاً كاسحاً، وجدد حامو الطَّائفيَّة، والساخطون على المدنيَّة، عضوياتهم في البرلمان. كان أصحاب «البديل» يراهنون على المعاناة، لتحريك العامة لانتخاب «البديل» عن القوى التي تجذّرت في السُّلطة، وهذا أحد الأحلام الثورية، بينما العامة شكوا للبديل من المعاناة لكنهم صوتوا لغيره، فهي مقسّمة بين الطوائف والعشائر والأحزاب التي تملك المال والسِّلاح، الذي سيستخدم عند الضرورة، ناهيك أنَّ السُّلطة بيدها وهي تعرف كيف تُغري الجمهور. وهنا ننبّه إلى سوء فهم مصطلح «العامة»، كي لا يكون خلطاً بين السَّواد من الناس، على مختلف أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، وما ورد في المصطلح الفقهي، حيث العامي مَنْ وجب عليه تقليد المجتهد المستكمل شرائط الاجتهاد (الشَّهرستانيّ، الملل والنَّحل).

ونجد صاحب الكتاب المذكور، يجعل العامي مقابل المجتهد. ويرى نشوان الحميري (573 هج) في تسمية العامة لالتزامهم بالعموم، الذي اجتمع عليه الخصوص (الحُور العين). وقد شاع في العراق مصطلح أبناء العامة إشارة إلى أهل السُنَّة، ولعلَّه اشتباه بما كان يُطلق على الحنابلة ببغداد في العصر العباسي. لا نقصد في كلمتنا مصطلح العامة المحصور في هذا المعنى، إنما أبناء الشعب من غير السلطة وخاصتها، والمفهوم يختلف في السياسات الديمقراطية عنه في السياسات الاستبدادية، فليس هناك حاكم لا يخشى العامة ولا يحسب حسابها، مع اختلاف الدرجات.

تجد الديمقراطي المرائي عرقوباً في التزامه لها، والاستبدادي يحاول اختزالها بشخصه أو بحزبه. قيل: إن عبدالله المأمون (218 هج) عزم على إعلان شتم الأمويين من على المنابر، إلا أنه تراجع خشيةً من العامة، لكن نصحه أهل الكياسة بما هو «أصلح للسياسة» (ابن طيفور، كتاب بغداد). ثم كرر الرغبة من بعده المعتضد بالله (289 هج)، فأخرج كتاب المأمون من الخزانة لنشره في الآفاق، أثناء صلاة الجمعة، لكن قاضياً أثناه عن ذلك بالقول: «يا أمير المؤمنين أني أخاف أن تضطرب العامة، وتكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة» (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). تحاول الحواشي التقرب بحمل العامة على التصفيق، والتمجيد نفاقاً، واستحسان المرذول من الأفعال، والسعي إلى استغفال الناس ومجاراتهم بالرقص في محافلهم، والميل إلى ممارساتهم، إن هبطت أو علت: يلطم الصدر في عاشوراء، أو ينود في الأذكار، وهذا ما يضمن أصواتهم وخضوعهم. كان هذا ديدن أحد وزراء المقتدر بالله (320 هج)، يسعى إلى التقرب من «قلوب الخاصة والعامة، فمنع خدم السلطان، ووجوه القُواد أن يترجموا رقاعهم بالتعبّد، ويتقرب إلى العامة بأن يصلي معهم في المساجد على الطرق. فكان إذا رأى جمعاً من الملاحين، أو غيرهم من العامة، يصلون في مسجد على الشط قَدمَ طياره (زورقه)، وصعد وصلى معهم» (مسكويه، تجارب الأمم)، مع أنه أشد الوزراء فساداً، لكن لو دخل الانتخابات تنتخبه العامة، ولا يعنيها فساده. أمثلة لا تحصى على استدراج العامة، ومحاولة تطويعهم.

لكن لم أرَ استغفالاً يقود العامة إلى الهتاف ضد مصالحها، مثلما يخرج الجمهور، ويهتف: «تخفيض الرواتب واجب»! وتخرج النَّساء للمطالبة بتعطيل قانون مثل قانون الأحوال الشخصية المنصف لهن وبناتهنَّ، وكم خرج جمهور العامة متظاهراً ضد انقلاب أو إنجازات وهمية، وتجد أخطر الحشود بتوظيف المقدسات، في معارك أو انتخابات. أقول: لا ضير من خشية العامة، حفظاً للنظام وليكن للسلطة، أو النزول إلى الرعية، في صلاة أو تسهيل أمر، لكن الضير في استغفالهم بصلاتهم، ومعاشهم، ودفعهم للتصويت أو التَّحشد ضد مصالحهم. ولا نعلم بنيّة وزير الأمس، هل كانت مسايَرةً واستغفالاً، أم سجية لا صناعة. ومعلوم أنما الأعمال بالنيات، ولكل وزير (منتخب) ما نوى! لم تدرك قوى البديل أنَّ في الانتخابات استدراجاً للكثرة، بطريقة وزير المقتدر.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تعرّف الديمقراطية على أنها حكم الشعب، وهو صاحب القرار السياسي في تحقيق المصير، من خلال ممثلين عنه يحملون صوته وهمومه، ولكن للأسف هنا تكمن المصيدة، فهي بمثابة لعبة سياسية يعمل عليها الساسة، أنحرفت عن مسارها الصحيح، فالديمقراطية في بلدنا (فخ) كبير يقع فيه المواطن، والديمقراطية في العراق نوع جديد من أنواع الديمقراطيات التي أفرزتها الساحة السياسية الجديدة، وكنا نستبشر بها خيراً، لكنها للاسف كانت تجربة سياسية مرة، تم فصالها على مقاسات عراقية خاصة لا تنتمي لغيرها من التجارب، ففي ظل الديمقراطيات السياسية العالمية يقوم الشعب بمحاسبة السلطات الثلاث اذا أخلت في العمل السياسي أو أفسدت في قراراتها وبرامجها السياسية، ولكن ذلك لا ينطبق على التجربة الديمقراطية في العراق، فالمواطن ليس له من الحق سوى صندوق الاقتراع، الترشيح أو الانتخاب، حين يضع المواطن ثقته بالمرشح وينتخبه الى هنا ينتهي دور المواطن سياسياً، وهذا هو الحق الوحيد الممنوح له، وهو الفخ الأكبر الذي يقع فيه المواطن مرة أخرى، ولكنه بعد ذلك يقع فريسة الشيطنة السياسية، حيث تعمل الاحزاب والتيارات السياسية على هندسة وضعها السياسي وفق تكتلات سياسية أكبر، تعمل على تشكيل الحكومة، وتعمل تلك الكتل وفق مصالحها الشخصية، وليست مصلحة الشعب العامة والمصلحة الوطنية، فذلك الأمر مفقود تماماً، منذ تشكلت الديمقراطية في العراق الجديد، وفي كل فترة انتخابات تجرى في البلد تحشّد القوى السياسية كل قوتها وماكنتها الاعلامية والطائفية والعشائرية والمالية، لأستنفار همم المواطنين للذهاب الى صناديق الاقتراع، ويتحمس المواطنون ويلبون النداء، مدفوعين بشتى الأهداف والهتافات، وحين يتم مقاطعة الانتخابات من قبل شريحة ما من أفراد المجتمع، لتحارب الفساد السياسي السائد في البلد، فتتوجه حينها اصابع الاتهام نحوهم من قبل المنتفعين والمتنفذين، بوصفهم معرقلين للعملية السياسية ، ولكن والحق يقال أن العملية السياسية الديمقراطية في العراق منذ نشأتها تسير وفق مقاسات الساسة وليس وفق مقاسات الشعب الذي تقع عليه مسؤولية تقرير المصير، وحتى النواب الذين يتم انتخابهم ويضع المواطن ثقته فيهم يصاب باللوثة السياسية ويلتحق بالركب السياسي السارق لأصوات الشعب، ويذوب في الجوقة السياسية الكبرى التي بيدها صناعة القرار السياسي الشخصي، والتي تنسى المهمة السياسية الكبرى التي تقع على عاتقها في بناء البلد والحفاظ على ثرواته وممتلكاته وتوزيعها بصورة عادلة بين ابناء الشعب وتحقيق الحرية والكرامة الانسانية، فهذه كلها تغدوا شعارات سياسية فارغة صدّعت رؤوسنا طوال تلك السنوات. والطامة الكبرى التي نعيشها بعد مرور أكثر من عقدين على التجربة السياسية في العراق ما بعد التغيير، هي أن السياسيين المتنفذين من الاحزاب الحاكمة، بمختلف تنوعاتهم وتشكلاتهم، الدينية والقومية والحزبية، عرفوا اللعبة وصاروا اليوم تجار سياسة (أسطوات)، بيدهم رأس المال السياسي والاقتصادي للبلد، يديروه ويحركوه ويتلاعبون به كيفما يشاؤون، كلاعب الورق حين يوزع أوراق اللعب على المقامرين، ولكن الأمر لا يدوم، ودوام الحال من المحال، وحركة التاريخ وقوانينه صارمة وحادة وجادة لا يقف أمامها أحد، وليعرف الجميع ذلك، مهما حكموا أو تزعموا، فلكل شيء خاتمة، ونخشى أن تكون خاتمة اللعبة ونهايتها السقوط، إن لم يتم تدارك الأمر ومعالجته سياسياً وبصورة بنيوية، بحكمة وعقل وروية، وهذا ما يخبرنا به الواقع والتاريخ والسياسة.        

***

ا. د. رائد جبار كاظم

 

إن مفاهيم الاستبداد والطغيان والظلم الاجتماعي، مجتمعة او منفردة، تفرز أحلاماً بفردوس وهميّ. أحلام بالانصاف وأحلام بالحرية، وأخرى بالتمسك بذيول أحلام تتسرب من خارج الحدود، إنها أحلام ميتافيزيقية تداعب الأمل الجمعي للمجتمعات في ممارسة مبادئ ومفاهيم غائبة، مع أنه يمكن مشاهدة تطبيقاتها يومياً، في مختلف بلدان العالم، وبانواع متعددة، من خلال التلفاز. هذه الاحلام هي ما سمي في أدبيات السياسة " بالديموقراطية". إنما يبرز السؤال الأساسي، هنا في مجتمعات "العالم النامي او العالم الثالث"، هل الديموقراطية ضرورة ملحة، أو هي قدر مفروض عليها لتحقيق الاحلام الجمعية في الإنصاف والعدالة والحرية؟ ربما تكون الديموقراطية طريقاً بريئاً وصحيحاً إذا تخلّصت من المنافع والمصالح والمكاسب سواء كانت من داخل المجتمع او خارجه، غير أن من المهم الإشارة أولاً، بإن مفاهيم الديموقراطية تصاب بالشلل إن كانت هناك دوافع نفعية ومكاسب فردية حين يتم تطبيقها وفقاً لمعايير المجتمع المستهدف، حيث ستوظف الديموقراطية للعمل بمثابة عربة تحمل عناصر الاستعمار والاحتلال من خلال النفوذ الخارجي المتزايد في الاقتصاد والمجتمع عبر المساعدات المالية المشروطة، والقروض طويلة الأجل، المقيّدة للاستقلال وسيادة الدولة، ومن خلال القوى الناعمة المحركة للثقافة، والفن والاعلام.

منذ نشأت الديموقراطية في شكلها المثالي، من حيث ان السلطة مستمدة من الشعب، والى حيث ما جرى من تكريس لها في القرن العشرين، لم تجد النظريات السياسية المتعددة صيغة للحكم تمنح قدر مقبول من الانصاف والعدالة والحرية وحقوق الانسان قدر ما تمنح الديموقراطية، ولهذا فقد تحولت الديموقراطية، في معايير العلاقات الدولية، الى شرط أساسي لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية بين قوى الغرب المختلفة ومجتمعات العالم الثالث، وإن كان تثبيت الديموقراطية (من قِبل القوى الغربية) يتم بشكل صوريّ، مع المحافظة على الحاكم المستبد، بل وحمايته. والمفارقة أن واقع الديموقراطية في العديد من الدول الديموقراطية التقليدية ينحرف عن التصور والمفهوم الذي نشأت عنه الديموقراطية، لذلك نجد المفارقة بأن هذه الدول تروج وتسهل ممارسات متعارضة مع مفاهيم الديموقراطية، ولكن يتم ذلك باسم الديموقراطية، من مثال الاستغلال الاقتصادي او الهيمنة السياسية او الإمبريالية الثقافية.

هنا يستوجب التنويه الى أهمية تثوير آليات التغيير في المجتمع، مع التنبه الى أن سرعة، وإيقاع، وعمق التغيير يكتسب أهمية أكبر من التغيير ذاته. فالمجتمعات، تاريخياً، تتدرج في تطبيق التغييرات العميقة والتي من شأنها فتح مسارات مستقبلية للأجيال القادمة. فالديموقراطية تعتبر إحدى أهم مسارات التغيير الاجتماعي والسياسي، وهي من القيم الأساسية التي تهدف المجتمعات الى تحقيقها لتعظيم الاستقرار السياسي والمجتمعي ولبناء أسس حقيقية لتنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة. غير أن هذا المفهوم لا يعدو كونه ستار خلفي أُستخدم لتبرير التدخلات الخارجية، أو السيطرة على البلدان وإستنزاف ثرواتها. أُشير، فيما يلي، الى بعض الطرق الخفية التي تستخدم فيها الديموقراطية لزيادة النفوذ الخارجي للقوى الغربية، وإنحسار السيادة الوطنية للدول المستهدفة في العالم الثالث.

غالباً ما تتبنى الدول الغربية برامج سياسية لدعم الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وغالباً ما تبرر ذلك بالإدعاء في تحرير الشعوب من الأنظمة القمعية المستبدة لشرعنة تدخلاتها السياسية أو العسكرية أو هيمنتها الاقتصادية، وهي كذلك تزعم نقل المدنية والحدّ من التخلف. إنما في الواقع، فإن هدف التدخل هوالتخلّص أو إضعاف الحكومات التي تعارض المصالح الغربية، مما يُسهل مهمات تدخلها العسكري واستغلال الموارد الطبيعية عن طريق الشركات العملاقة متعددة الجنسية. ضمن هذا المنطق، شهدت العديد من الدول، مثل ليبيا والعراق، برامج ديموقراطية أدت الى تدخلات عسكرية بهدف تغيير أنظمة الحكم، في حين يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو بأن " السلطة ليست شيئاً يعطى، بل تُمارس. إنها أكثر تنوعاً، وعلى جميع الأصعدة، لأنه لا توجد نقطة مركزية لها". حيث إن نتيجة ذلك التدخل إنتشرت الفوضى وإنعدام الاستقرار والامن الاجتماعي، فبينما كانت هذه القوي تختطف السيادة الوطنية، كانت الشركات الغربية المختلفة تستنزف الموارد بإمتصاص وإستغلال الثروات الطبيعية لهذين البلدين، كالنفط والمعادن الثمينة المتنوعة وغيرهما.

كذلك فإن الحكومات الغربية غالباً ما تقوم بتمويل منظمات غير حكومية مضطلعة بالترويج ودعم الديموقراطية وبرامج حقوق الانسان وإحترام الحريّات الفردية، للتأثير المباشر على السياسات المحلية للدول. فضلاً عن ذلك، فإن هذه المنظمات تعمل، في واقع الامر، كمنافذ تسمح للدول الغربية بالتدخل بشؤون البلدان المعنية. فهذه المنظمات تتسرب كقوى ناعمة للتأثير المباشر على السياسات المعتمدة بهدف تحقيق سياسة محليّة تخدم المصالح الغربية، وينعكس ذلك بشكل مباشر وفعّال في إضعاف الحكومة المركزية لصالح قوى آخرى مرتبطة وجودياً بمصالح الدول الغربية.

هذا التناقض في إستخدام المعايير والقيم ذات المصداقية العالمية يعكس مقدار الخلل وحجم الاختلافات العميقة في النظام الدولي العالمي. فإستخدام الديموقراطية، بإعتبارها قيمة عالمية، كممر نافذ للسيطرة على مفاصل الاقتصاد الوطني، والسطو على السيادة الوطنية، وبالتالي على محركات السياسة، يشي بخلل كبير في الإستراتيجيات والأخلاقيات الغربية، القائمة على معايير الكيل بمكيالين، في الترويج ودعم الديموقراطية. يذكر المفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد بأن " الاستعمار الجديد يتطلّب إعادة تعريف مفهوم السيادة، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على القوى الديموقراطية". غير أن مواجهة هذه الاستراتيجيات يتطلب وعيّا نقديآً وموقفاً مبدئيآً يتحدى السرد السائد حول الديموقراطية كقيمة مطلقة ليست سياسيا فقط، بل إجتماعياً. ولتعزيز الوعي المطلوب ينبغي التنبه الى مؤشرات الاستعمار بأبعادها الثلاث المتعلقة بالسياسة والاقتصاد والثقافة، وفهم حيوية السيمنتك الخاص بها، أي الدلالة، في تفكيك تعريفات مفاهيم التعاون المشترك، والعدالة الاجتماعية، وقيم وأبعاد الحرية، من قبل القوى الغربية، بهدف إنتاج إنماط جديدة من السيطرة الاستعمارية عبر التدخلات السياسية، وأدوات الاعلام المختلفة، والفن ولاسيما منتجات هوليوود.

ساتناول هنا بإختصار، المؤشرات الاستعمارية البارزة في العلاقات السياسية والتدخل في النشاط الاقتصادي والهيمنة من خلال دكتاتورية الاعلام ورسائل الفن الهوليوودي:

الهيمنة السياسية

حافظت القوى الغربية على إرث المؤسسات الاستعمارية في آليات تحديد النماذج السياسية الصالحة للحكم، وتحديد إختيار الشخص المفضّل لإستلام السلطة خدمة للمصالح الغربية وإعادة تشكيل أوجه الشرعية السياسية، غير أن السلطة " لاتقتصر على الأخذ، بل تُنتج أيضاً أشكالاً من الذاتية"، كما يوكد الفيلسوف جيل دولوز.  ثم غالبًا ما يتم التعامل مع الدول النامية بإنشاء مؤسسات هجينة لا تمتّ بصلة الى الواقع المحلي، بل ومتناقضة مع غيرها من المؤسسات المحلية، إضافة الى أن هذه المؤسسات مجتمعة تعيق سلاسة العمل في الحكومة، ولكنها بالمقابل تمنح الشرعية القانونية والأخلاقية للهيمنة والاستبداد من خلال إعادة استيلاد النخب السياسية الصاعدة للحكم عبر صناديق الانتخاب، وتزويدها بمصادر القوة والمال. فضلاً عن أن صناديق الانتخاب، في هذه الحالة، لا تنتج ديموقراطية، فهي مجردة من المؤسسات الأساسية التي تكّون بنيتها التحيتية اللازمة.

ضمن هذا السياق فإن إعادة تعريف المفاهيم الكبرى للديموقراطية والعدالة والحرية، من قبل القوى الغربية، وتحويلها الى كلمات متلبّسة بمفاهيم مفتوحة النهايات، أي كلمات دون معانيها، حيث إن "أسوأ ما يمكن فعله بالكلمات هو الاستسلام لها" كما يقول جورج أورويل، غير إن الاستسلام لهذه الكلمات سهّل إنتاج آليات الهيمنة الاستعمارية عبر التدخلات السياسية المباشرة التي أفضت الى مسخ السيادة الوطنية، والتدهور السريع والغامض لمؤسسات الدولة، وتشويه بنية وإرث المجتمع، والتلاعب بالتنوع الثقافي بين مختلف المجتمعات المحلية، وتعميق الانقسامات، وتشجيع الصراعات الدينية، والعرقية، والطائفية، والقبلية، لتهيأة الأرضية المناسبة لسيطرة النخب المحلية المفبركة، التي تخدم مصالح القوى الأجنبية، (كما هو الحال في العراق) أي تفتيت أسس وأركان الدولة والقبول باستراتيجيات عرجاء لحفظ الأمن والمسار الديموقراطي بآليات وأنظمة تديم إضعاف الدولة والمجتمع وتستنزف الموارد، وتبعثر القدرات الوطنية.

إن إستنزاف الثروات الوطنية يتم بتحكم وسيطرة القوى الغربية بأنظمة وآليات الحكم وصوغ سياسات واستراتيجيات للهيمنة على المؤسسات الاقتصادية. غير أن هذه السيطرة، بهذا الشكل، تؤكد غياب الوعي المجتمعي الذي ينبثق عنه طغيان مؤسسات صورية للمجتمع المدني وغياب مفجع للمشاركة الشعبية. هنا تسطو نخب مفبركة، وأحزاب سياسية مستحدثة ومتنفذة، على البرامج الديموقراطية وتلوي مساراتها وفقاً لمصالحها، وتتحول مؤسسات الدولة ووزاراتها الى إقطاعيات ممتدة لتمثيل النخب والاحزاب، وتتحول "الدولة الى غنيمة" بوصف عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، على أن "المهمة السياسية الحقيقية، هي نقد آليات عمل المؤسسات التي تبدو محايدة ومستقلة في آنٍ واحد، ومهاجمتها، وكشف القناع عن ممارساتها للعنف السياسي، وهذا يشمل الهيمنة الاستعمارية المتأصلة في البنى الديمقراطية." كما يؤكد ميشيل فوكو.

فالديموقراطية التي تسيرها هذه النخب تُنتج حالة خاصة من الاستبداد، إنه إستبداد مستتر وسائل، يمكن وصفه بالاستبداد الديموقراطي الذي يمنح الدولة، ذات السلوك الاستبدادي، شرعية النظام الديموقراطي. فضلاً عن ذلك، فإن شؤون الدولة تدار عبر انتخابات " تبدو" حرة وشعبية، مع ان هوية هذا النمط من الانتخابات تحدد، في الخفاء، بمدى خدمتها للاجندات الأجنبية، ولكي تكون كذلك فستكون، وبشكل منهجي، مزورة وغير نزيهة. حيث إن "السرديات الكبرى للديمقراطية حشّدت الناس للانتفاض من أجل المساواة، لكنها ساهمت أيضًا في عرقلة السرديات البديلة" كما يشير الى ذلك إدوارد سعيد. فهناك طرق خفية متعددة لصناعة رأي عام يخدم القوى المتنفذة الفعلية، مع أنها تقف عائق امام أي تغيير حقيقي في سلسلة السلطة، أي انها لا تسمح بتداول حقيقي للسلطة، بل تديم وجود سلطة لا تخدم المصلحة الوطنية وتكرّس سلطة الاستبداد، ديموقراطياً. لعل هذا "الاستبداد" هو نموذج الحكم الأشد خطورة، وأهمية، لأنه يرتكز على شرعية مزيفة مُنتجة عبر مؤسسات الدولة الديموقراطية كمؤسسات الشفافية والنزاهة والمسائلة. 

الاستغلال الاقتصادي

في هذا الكوكب المترابط، وضمن سياسات العولمة، تأسست منظومات إقتصادية وسياسية لخدمة القوى الغربية، وتجعل الدول التي تعمل خارج هذه المنظومات دولاً منبوذة، لذلك تفرض القوى الغربية اتفاقيات على هذه الدول لإدماجها بهذه المنظومات. مع ملاحظة ان هذا الاندماج يتم عبر نموذج الديموقراطية الالزامي والمقحم. غير أن هذا الاندماج يحول دون تمكن الدول من إدارة مواردها الطبيعية بشكل مستقل، حيث يتم تكبيل الدول عبر سياسات الاستثمار الأجنبي والتجارة الحرة، التي تطرح مع شعارات ديموقراطية، تُستغل، غالباً، لنهب الثروات الوطنية واستنزاف الموارد. تُشير الكاتبة والباحثة والناشطة الهندية  أرونداتي روي (Arundhati Roy  ): "في عصر العولمة، تُجبر الدول الفقيرة على الخضوع لنظام يُستغل فيه مواردها ويُقوّض سيادتها، وكل ذلك باسم التقدم". أي إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني بما يخدم المصالح الخارجية، فمثلاً يوجّه الإنتاج نحو التصدير بدلاً من تلبية الاحتياجات المحلية، بتسهيلات من المؤسسات المالية العالمية والشركات متعددة الجنسيات، مما يهدد الامن الغذائي ويختلس السيادة الوطنية على الاقتصاد. وبهذا السياق يؤكد الأكاديمي والعالم الأنثروبولوجي ديفيد هارفي بأن "الاقتصاديات المعولمة تؤدي إلى إضعاف السيادة الوطنية، مما يمثل تحديًا للديمقراطيات التقليدية."

لا شك أن السياسات والاستراتيجيات الزراعية المبنية على التصدير في الدول النامية تُدار من قبل الشركات متعددة الجنسيات التي تمتلك مساحات زراعية شاسعة، حيث تُعطى الأولية في زراعة ما يُسّمى بالمحاصيل النقدية للتصدير، مثل الكاكاو والبن، متراجعةً تماماً عن زراعة منتجات إحتياجات الغذاء المحلي. من الواضح أن إستراتيجيات هذه الشركات، متعددة الجنسيات، لا تضع في أولوياتها سياسة الامن الغذائي الوطني، مما يزيد من إعتمادية هذه الدول على إستيراد إحتاجاتها الغذائية من الدول الغنية او المانحة أي غالبا من الدول التي تستنزف مواردها. يذكر الفيلسوف سلافوي زيجزك ( (Slavoj Zizek بأنه " في ظل اللامساواة الاقتصادية العالمية، لم تعد الدول قادرة على حماية سيادتها كما كان الحال في العصور السابقة". هذا جزء من الانفتاح الاقتصادي على العالم الذي يستند على المفاهيم الملتوية للديموقراطية والعولمة. 

إن نفوذ الدول الغربية في اقتصاد الدول النامية يعتمد، غالباً، على إتفاقيات التجارة الحرة، وحوافز تشجيع الاقتصاد المشروطة بإصلاحات ديموقراطية، أي منافذ السيطرة على صناعة القرار والتي تبدأ بتطبيق تغييرات سياسية واقتصادية جذرية تشمل خصخصة الموارد الوطنية الأساسية، وشركات القطاع العام الخدمية، وفتح الأسواق امام التجارة الحرة والشركات متعددة الجنسيات. هذه الإجراءات تُزيد من الإشكالات الأخلاقية الناتجة عن "وهم" الديموقراطية وتحدّ من السيادة الوطنية، أو تحويلها الى "وهم"، وفي ذات الوقت توسع دائرة سيطرة الاحتلال.

ثالثاً. الامبريالية الثقافية

قد يبدو هذا العنوان تعسفيا، غير ان نظرة واقعية على مجتمعات العالم تُظهر بوضوح أنه بدون الثقافة، بشموليتها، والفن بأنواعه، فإن مجتمعات العالم ستبدو وكأنها جزر مغلقة ومعزولة عن بعضها البعض. يؤكد الفيلسوف جاك دريدا   بأن"المشكلات السياسية المعاصرة تعتمد على فهم السياقات الثقافية المتعددة وغير المتجانسة، ما يتحدى مفهوم السيادة الوطنية."   حيث ان الثقافة والفن هما المجسّر الأساسي بين هذه المجتمعات المتباعدة. بإعتبار إن الثقافة والفن يتجاوزا الحدود الجغرافية ويقلّصا الفوارق الحادة داخل هذه المجتمعات المختلفة، أي في العالم النامي والعالم الغربي، عالمين متقابلين وغير متساويين لا في الكفاءة ولا في التقدم الاجتماعي.

في كتابة (المراقبة والمعاقبة) يذكر ميشيل فوكو بأن «السلطة والمعرفة يتضمن كل منهما الآخر، فلا توجد علاقة سلطة من دون تكوين متزامن لحقل ما من المعرفة، ولا توجد معرفة لا تفترض في الوقت نفسه علاقات سلطة وتشكّلها». وهذا يؤكد بأن المعرفة ليست محايدة أبدًا، بل هي دائمًا مرتبطة بالسلطة ومعززة لها. لكي تتمكن الماكنة الاحتلالية الغربية من النفاذ الى مجتمعات العالم النامي، تعمل اولاً على تهيأة الرأي العام، بالقوى الناعمة، وأعني هنا، الثقافة والفن والاعلام. وللتأثير على الرأي العام، تعمل هذه القوى الناعمة "كبروباغندا" للديموقراطية والعدالة والحريات الفردية بنفس الحماسة التي تدعم فيها بضائع مثل الكوكا كولا أو احدى شركات الهمبرجر، أي تسليع المفاهيم المعيارية الكبرى. وعلى الرغم من ان هذه المجتمعات لم تكن بحاجة الى هذه البضائع أو ان لديها ما يقابلها محلياً، الاّ أن الرأي العام يعمل على إنتاج الإحساس بالحاجة الى إستهلاك تلك البضائع لمجاراة التقدم الحاصل في المجتمعات الغربية. في كتابه المعنون (الوضع مابعد الحداثي) يقول الفيلسوف جان فرانسوا ليوتار أن " منطق السوق يحوّل المعرفة والأدوات الثقافية إلى سلع، مما يُقوّض النقاش العام بتفضيل ما هو قابل للبيع على ما هو عادل عمدًا". وقد وسّعت العولمة هذا الشعور بالحاجة ونمّت سعار الاستهلاك اليومي لبضائع وضعتها البروباغندا على قمة الأولويات، وجعلت من الثقافة نموذجاً واحداً يُقصي السرديات المتنوعة المحلية ويفضي الى تآكل الهوية المحلية.

يشير الفيلسوف الألماني فريدريش هيغل: بأن "السيادة الوطنية تتطلب التفكير في الفرد كجزء من الجماعة، وليس ككيان مستقل."، ففي الوقت الذي تتحول فيه مفاهيم مثل الديموقراطية أو العدالة أو الحرية، من قيم معيارية وأخلاقية الى سلع في سوق الاستهلاك الذي تحكمه العولمة، في ذات الوقت تسيطر القوى الغربية على المجتمعات الأقل نمواً من خلال إتساع نفوذ القوى الناعمة. هذه الامبريالية الثقافية هي الوجه الاخر للسيطرة الاحتلالية الاستعمارية وإنتقاص السيادة الوطنية، وهي التي تنتج ثقافة واحدة مهيمنة تقصي كل السرديات الثقافية المحلية، وتعمل على تآكل المورثات التقليدية وتعيد تعريف الحريات الفردية بما يضمن الخضوع لسردية موحدة، أي للثقافة الغربية.

وللاعلام أهمية كبرى في صياغة وتكوين الرأي العام في مجمل القضايا ولاسيما الديموقراطية والحريات الفردية وحقوق الانسان، فقد يزيد الاعلام تضخيماً ومبالغة لبعض الاحداث والمواقف، التي تحدث في الدول النامية، والتي تُوصف بالسلبية لانها لا تتوافق مع المصالح الغربية، ومشاريع الاحتلال والاستعمار، ففي هذا السياق يُؤكد أدوارد سعيد بأن "الاستعمار الجديد هو استعمار ذهني وثقافي يتطلب إعادة التفكير في السيادة". إن التضخيم والمبالغة الإعلامية يقودا القوى الغربية الي إستخدام مواضيع مثل التضييق على الحريات، أو إنتهاكات حقوق الانسان او العدالة وعدم المساواة، وإعادة توجيهها لتشكيل الرأي العام بما يناسب أهدافها. إن الإستخدام المكثف لجميع وسائل الاعلام في كشف قضايا محددة في مجتمعات الدول النامية والمبالغة بتفاصيلها، يناصر ويدعم التدخلات الاجنبية في هذه الدول. مع ملاحظة ان ذات القوى الغربية، تغض الطرف وتتجاهل سلوك الديكتاتوريات وأساليب الاستبداد العلني، وانتهاكات حقوق الانسان في دول أخرى تتبنى الديموقراطية تكتيكياً غير أنها تُخادم مصالح القوى الغربية.

إن سرديات الاعلام كقوة ناعمة، والجهود المكثفة لمكاتب العلاقات العامة للترويج لمعايير المفاهيم الغربية التي تتعلق بالديموقراطية، والحريات الفردية والجمعية، وأساليب العدالة الاجتماعية، بإعتبارها مفاهيم متفوقة على المفاهيم المحلية، مما يؤثر بشكل فاعل وخفي بتكوين الرأي العام المنحني للغرب، والذي يساهم بشكل فاعل بإنشاء بيئة ملائمة لمصالح القوى الغربية. أي ان الاعلام هنا يعمل كممهد لشرعية إحتلالية لولادة الاستعمار. ففي حين أن الترويج للديموقراطية أو تعزيزجوانب قابلة للتنفيذ من مفاهيمها، يمكن أن يكون هدفًا وطنياً مبرراً ومشروعًا، غير أن الآليات المستخدمة لتحقيقها تكشف عن إشكالات أخلاقية ومعيارية، حيث توصف القوى الغربية بالنفاق حينما تضع مصالحها فوق أولويات تحقيق تنمية ديموقراطية حقيقية في البلدان التي تتدخل فيها.

رسائل الفن الهوليوودي..

للسينما دور حيوي وأساسي في تشكيل الرأي العام وغالباً ما تكون الأفلام محشوة برسائل متعددة، تختلف بأهميتها من النواحي الاجتماعية والسياسية. يقول المخرج الهوليودي المعروف ستيفين سبيلبرغ " أعتقد أن علينا مسؤولية مشاهدة كل فيلم والتأكد من وجود رسالة فيه، حتى لو كانت مسلية فقط". موضوع الديموقراطية حاضر أيضاً في رسائل الفيلم الهوليودي بإعتباره الوجه الخفي لشرعية إحتلال "الآخر". فالديموقراطية تطرح في الأفلام من وجهة نظر نقدية أو ترويجية، ولكنها تُخفي رسائل عميقة تتعلق بالمصالح السياسية والاستعمار، وهي قادرة، كإحدى أهم القوى الناعمة نفوذاً، على التأثير في الرأي العام وإعادة تشكيله ليتقبل الحلم الأمريكي والقيم الامريكية المتعلقة بالحرية والمساواة وفي ذات الوقت تبرز جبروت الجندي الأمريكي وقدراته البطولية الخارقة في إنشاء العدالة في البلدان النامية المقصودة. أوأن يتم التركيز على فضائح سياسية في حين يتم تسفيه المؤسسات الديموقراطية وتظليل الجمهور حول الجوهر الحقيقي للديموقراطية.

تطرح هوليوود معالجاتها للتدخل العسكري ذو المصالح الجيوسياسية المعقدة بأساليب سردية واضحة ومبسطة، وتعرض التدخلات في كثير من الأحيان على انها مجهودات لحماية الديموقراطية وتعزيزها.  أي تصوير إحتلال بلد ما كمعركة بين الخير والشر. هناك عدد كبير جداً من الأمثلة على هذا النوع من الأفلام، لعل ما قاله المخرج والناقد السينمائي الأمريكي روبرت دفيدسون يعزز هذه الحقيقة بأن "هوليوود تصنع أساطير معاصرة، ولكن الأهم من ذلك، هو أي رسائل تُدمج داخل هذه الاساطير". لذلك تبقى السينما بصورة عامة والصناعة الهوليوودية واحدة من أهم الأدوات الناعمة في صياغة رأي عام عالمي يميل نحو السياسات والقيم الامريكية.

التصدي للقرصنة الغربية

إن تفادي النزاعات العسكرية المسلحة، التي تأخذ شرعيتها من غياب الديموقراطية والتي قد تنتهي باحتلال البلد والمجتمع، كما حدث في العراق وليبيا، ضرورة قصوى لتفادي تدمير المؤسسات الوطنية وتخريب أركان المجتمع، لذلك فإن من أعلى سلم الأولويات، يجب تبنّي معاني جديدة لمفهوم العدالة وتطبيقها، معاني لا ترتبط بالعقاب والانتقام، بل بالانصاف، وتمكين الفئات المهمشة، وإحترام التنوع الثقافي والخصوصية الثقافية. هذه المعاني الجديدة تُعيد صوغ المُثل الديموقراطية الشائعة، وهي التي قد تتمكن من أن تسلك الطريق المتزن والمتوازن نحو الديموقراطية في المجتمعات النامية. مع الاخذ بالاعتبار أن تطبيقات الديموقراطية في مجتمع ما يؤثر بشكل فاعل بالمصالح الجيوسياسية للمجتمعات المجاورة. كذلك يجب دعم المبادرات المحلية النابعة عن المعرفة والخبرة لصيانة السيادة الوطنية وتطبيق المعايير القياسية للحرية وحقوق الانسان. في هذا السياق يتم تشجيع المشاركة الشعبية، وتمثيل مختلف الفئات الاجتماعية عن طريق منظمات أهلية غير حكومية، ممولة داخلياً وبشكل مستقل، تعمل على نشر الأخلاقيات التي تتحكّم بالحريات الفردية، والحريات العامة، وتعمل على تبسيط مفاهيم وقيم حقوق الانسان في المجتمعات المحلية والترويج للمُثل الديموقراطية المبنية على أسس الحوكمة الجيدة والمسائلة والشفافية، وتتبني برامج تداول السلطة عن طريق الانتخابات الحرة والنزيهة.

يمكن التصدي لاستغلال القوى الغربية الاستعمارية للديمقراطية في احتلال البلدان والمجتمعات من خلال عدة استراتيجيات متكاملة من بينها تعزيز الوعي النقدي عند المجتمعات المحلية، أي وضع الشروحات المبسطة لفهم عميق لجوهر الديموقراطية ودورها في الدولة والمجتمع، مع كشف التوصيفات المزيفة لمفهوم الديموقراطية والتي تستخدم لشرعنة السيطرة والاحتلال والهيمنة تحت مسميات الحرية والعدالة. كذلك فإن الديموقراطية ليست مفهوم سردي أو خطابي ولكي تكون فاعلة يجب بناء مؤسسات ديموقراطية حقيقية وشاملة. أي التأكيد على أن تكون مؤسسات الحكم تمثيلية وتحترم التنوع الثقافي والاختلافات العرقية والدينية والطائفية والقبلية وتلتزم بمعايير المسائلة والشفافية، كي يعزز سيادة وإستقلال القرارات الوطنية وصد محاولات إستغلال الممارسات الديموقراطية كأدوات للقمع. ولدعم سياسات التصدي ينبغي تأسيس تحالف بين الدول المتضررة أو الهشة، لتعزيز وتقوية مواقعها في المحافل الدولية، وتطوير أسس قانونية للردع ضد التدخلات الاستعمارية التي تتسلل تحت رداء الديموقراطية وحقوق الانسان، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والاقتصادية، مما يدعم التنمية الوطنية المستقلة وتقليص الاعتماد على الدعم الأجنبي. من الممكن لهذه الاستراتيجيات مجتمعة أن تعمل على صدّ أو تقويض محاولات القوى الغربية الاستعمارية لاستخدام الديمقراطية لشرعنة الاحتلال، مع الحفاظ على حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وسيادتها الوطنية الحقيقية.

الخاتمة:

تكشف العلاقة المعقدة بين الديمقراطية والاستعمار عن مفارقة مُقلقة: فبينما تُروّج الديمقراطية كمبدأ عالمي للحرية وتقرير المصير، إلاّ أن تطبيقها تاريخياً، غالبًاما كان بمثابة أداة لتحقيق الطموحات الاستعمارية والاستعباد. فقد أُستخدمت مفاهيم الديموقراطية لإستغلال الحريات والحكم الشعبي في تبرير أفعال ووقائع إستعمارية تركز على التفرقة والتمييز بين القوميات والأديان. هذه الوقائع تثبت أهمية التفحص النقدي الدائم للممارسات الديموقراطية والسرديات المرافقة لها، فمن خلال الكشف عن الطرق والوسائل التي أُستغلت بها الديموقراطية لأغراض توسعية سنتمكن من تعميق الفهم لإيقاف تلك الظواهر، وتعزيز الآليات والمؤسسات التي تدعم أنظمة حكم حقيقية وشاملة تعترف بحقوق الجميع وتمنح صوتاً بارزاً للمهمشين.  

عند تحليل مظاهر الاستعمارالحديث يتّضح جلياً بأن الهيمنة لم تنته، بل ألبست أدواتها ثياباً عصرية. ثيابٌ مزركشة بشعارات الديموقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية، ولكنها تُمارس سياسات من شأنها أن تُعيد إنتاج التبعية والهيمنة. لذا فإن توسيع وتعميق الوعي النقدي عند فئات المجتمع المختلفة، والمشاركة في القرار وتمكينه محلياً من العمل على وضع أسس ثابتة لتنمية إقتصادية وإجتماعية مستدامة قادرة على تعزيز وتقوية مستوى التضامن داخاليا وخارجياً لمواجهة هذه الظواهر الخطيرة. هذه الإجراءات ستساهم بإعادة تفكيك مفهوم العدالة القائم على الانتقام والعقاب الى مفاهيم الانصاف والمساواة، أي عدالةٌ تحترم الشرط الإنساني والتعددية الثقافية، وخالية من الموروثات التاريخية التي تُديم القمع وعدم المساواة. وكما يذكر الفيلسوف مارتن هيدغر بأن "الوجود الإنساني محكوم بفهم جديد للسيادة يتجاوز الحدود التقليدية".

***

علي ماجد شبو

......................

مراجع عامة:

1- ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة د. علي مقلد، الناشر: مركز الإنماء القومي بيروت 1990

2- ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانية (إرادة العرفان)، ترجمة محمد هاشم، الناشر: أفريقيا الشرق 2004

3- جيل دولوز، الاختلاف والتكرار، ترجمة وفاء شعبان، الناشر: المنظمة العربية للترجمة. بيروت 2009

4- جان فرنسوا ليونار، الوضع مابعد الحداثي، ترجمة احمد حسان. الناشر: دار شرقيات، القاهرة 1994 

5. Samuel Hayet, Démocracie, collection »Le mot est Faible. Edition : Kindle

6. Anne Applebaum, Démocracies en Déclin, Edition Grasset, Kindle

7. Steven Levitsky et Daniel Ziblatt, La Mort des Democraties, Editeur : Calman-Lévy 2018, Kindle

8. Dominique Schnapper, Les Désillusions de la Démocracie, edition : Gallimard, Kindle 2024

9. Emmanuel Todd, Après La Démocracie, Edition : Gallimard, Kindle 2023

10. Raymond Aron, Démocratie et Totalitarisme, Edition : Folio essais, Kindle 2017

11. Edward Said, Culture and Imerialism, Edition : Vintage 1993, Kindle

12. Arundhati Roy, The God of Small Things. Edition : Fourth Estate, 1911, Kindle

13. David Harvey, Brief History of Neoliberalism, Editor : OUP Oxford 2007, Kindle.

14. Slavoi Zizek, trouble in Paradise : From the End of History to the End of Capitalism, 2014, Kindle

 

نشأت نواتات الحركة العربية لحقوق الإنسان في ستينيات القرن المنصرم، وتبلورت فعليًا في ثمانينياته، خصوصًا حين بادرت مجموعات حقوقية قومية ويسارية سابقة، برفع راية حقوق الإنسان في الوطن العربي، بعد أن أخفقت مشاريعها "الثورية"، وذلك تماشيًا مع الموجة الحقوقية العالمية، وكانت بعض الدعوات قد اتّخذت طابعًا أكاديميًا حين اقترحت تدريس مادة مستقلّة باسم حقوق الإنسان في الجامعات العربية، بهدف رفع الوعي الحقوقي والقانوني.

وكان الفقيه الدستوري حسين جميل قد بلور مشروعًا لتأسيس محكمة عربية لحقوق الإنسان، في إطار جامعة الدول العربية، تساوقًا مع "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان"، التي تأسست في إطار الاتحاد الأوروبي في روما العام 1959 ومقرها الحالي في ستراسبورغ - فرنسا، و"محكمة الدول الأمريكية لحقوق الإنسان"، التي أنشئت في سان خوسيه - كوستاريكا في العام 1979 في إطار منظمة الدول الأمريكية.

وكان لمركز دراسات الوحدة العربية، ومؤسسه المفكّر خير الدين حسيب، دورًا بارزًا في تشجيع قيام منظمة عربية لحقوق الإنسان، وذلك بدعوة مثقفين عرب من اتجاهات مختلفة ومن تجارب متنوّعة للاجتماع في ليماسول (قبرص)، على هامش ندوة حول "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي"، وهو ما تمخّض عنه تأسيس المنظمة في العام 1983، وكان الوزير المصري السابق فتحي رضوان أول رئيس لها.

وقد اتّخذت المنظمة من القاهرة مقرًا لها بحكم الأمر الواقع (de’facto)، حتى اعتُرف بها قانونيًا (de’jure) في العام 2000، وتم توقيع مذكرة تفاهم بينها وبين وزارة الخارجية المصرية، وجرى التعامل معها كمنظمة إقليمية دولية تسري عليها القوانين المصرية النافذة.

 وقد أعقب قيام المنظمة تأسيس "المعهد العربي لحقوق الإنسان" في تونس العام 1989، بمبادرة من الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان واتحاد المحامين العرب والمنظمة، وترأسه الوزير السابق حسيب بن عمّار. وكان تأسيس المعهد إضافة نوعية جديدة لنشر ثقافة حقوق الإنسان والتربية عليها وتعميق الوعي الحقوقي والديمقراطي بشكل عام، حيث ساهم في تدريب المئات من الناشطين وتأهيلهم، فضلًا عن البحث في جذور فكرة حقوق الإنسان وروافدها في ثقافتنا العربية - الإسلامية، بما يُعطي مشروعية فكرية ومرجعية شرعية لها بوجه محاولات اتّهامها بأنها اختراع خارجي مشبوه يستهدف المجتمعات العربية لتفتيتها.

مشكلات موضوعية وذاتية

واجهت الحركة العربية لحقوق الإنسان منذ تأسيسها مشكلات موضوعية وأخرى ذاتية، ومنها التحدّيات التي تتعلّق بشرعية وجودها وقانونيته، فضلًا عن إدائها وممارساتها التي اختلطت أحيانًا بالسياسة، أو هكذا حاولت بعض التيارات السياسية توظيفها لصالحها، في حين اعتبرتها تيارات أخرى منافسةً لها وتأكل من جرفها.

وقد تجاذبت الحركة ثلاثة اتّجاهات أساسية:

الأول - "الاتجاه التصادمي"، إذْ مالت بعض المنظمات الحقوقية العربية إلى اعتماد معايير "مثالية" دون مراعاة درجة تطوّر مجتمعاتنا، ولهذا السبب اتخذت مواقف راديكالية حادة من الحكومات، بل دعت إلى القطيعة معها لعدم احترامها لحقوق الإنسان، وذلك بتأثير من التيارات السياسية القديمة التي تأسست عليها الحركة، والتي تعمّقت بانخراط التيار الإسلامي فيها.

ولعلّ هذا الاتجاه الانعزالي غلب عليه طابع التسييس، أي التأثّر بالمواقف والخلفيات السياسية التي هي أقرب إلى بعض اتجاهات المعارضات أو تخضع لبعض تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، وهو ما وجد ضالّته في مواقف بعض الحكومات التي وجدت فيه مبررًا وسببًا لرفض التعاطي معها والاستجابة لمطالبها.

الثاني - "الاتجاه التساومي"، الذي بدأ يبرز لدى بعض العاملين والنشطاء من داخل الحركة العربية لحقوق الإنسان، بحجة "الواقعية" و"فن الممكن" و"توازن القوى". وعمليًا قاد ذلك إلى التخلّي عن بعض المنطلقات المبدئية كالاستقلالية والمهنية وواجب الرصد والرقابة والنقد، ومثل هذا الاتجاه حاول تبرير تأييده لمواقف بعض الحكومات والسكوت عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان بزعم "المصلحة الوطنية"، وعدم التأثر بالدعاية الخارجية أحيانًا.

ومن واقع الحال فإن الحكومات غالبًا ما تسعى لتدجين هذه المنظمات واحتوائها بما يُضعف تأثيرها على المجتمع بضعف ثقته بها. وسيكون المتضرّر من ذلك هو الدولة والمجتمع في آن، وبالطبع قيم حقوق الإنسان، إذْ أن وجود جهة رصدية ورقابية مستقلة سيكون مفيدًا للدولة ذاتها، بما فيها نقد بعض ممارساتها والتأشير على بعض انتهاكاتها.

الثالث - "الاتجاه العقلاني"، الذي يأخذ بنظر الاعتبار موقع الدولة ومسؤولية الحكومات فيها في ظلّ صراع المصالح الدولية، ويسعى لفتح حوار معها للوصول إلى شراكة وتكامل لاحترام حقوق الإنسان وتحقيق التنمية، آخذًا بنظر الاعتبار المزاوجة بين الوطنية والحقوق من جهة، وبين النقد والتعاون من جهة أخرى.

وبتقديري إن هذا الاتجاه هو الأقرب إلى المبدئية والمهنية والنظرة الاستراتيجية البعيدة المدى، فمنظمات حقوق الإنسان لا تسعى للوصول إلى السلطة، كما أنها ليست جزءًا من الصراع السياسي والأيديولوجي، وينبغي أن تضع مسافة واحدة بينها وبين المعارضات وبينها وبين الحكومات، وينحصر هدفها في تنمية المجتمع وتقدّمه والدفاع عن منظومة حقوقه.

الاستقواء بالخارج

برزت في الفترة الأخيرة بعض المحاولات التي تدعو إلى، وتشجّع على الاستقواء بالخارج من جانب بعض منظمات حقوق الإنسان تصريحًا أو تلميحًا بالترويج إلى توافق "مشروعها" مع المشاريع الخارجية، وبالطبع فإن ذلك يثير حساسية شديدة من جانب الحكومات والمجتمعات العربية على حدّ سواء، للإدراك العميق أن مشاريع الإصلاح الخارجية لم توصل الشعوب العربية إلى الأهداف التي تتوخّاها، لاسيّما باستخدام العنف أو الأعمال العسكرية، فمنظمات حقوق الإنسان هي منظمات سلمية لا عنفية تعمل في ظلّ القوانين والأنظمة النافذة، حتى وإن كانت تعارضها وتعترض عليها، لأنها تؤمن أن أهدافها لن تتحقّق إلّا بالتراكم والتطوّر التدريجي الطويل الأمد.

وعلى الرغم من التطوّر الذي حصل في الحركة العربية لحقوق الإنسان، إلّا أنها ما تزال تعاني من مشكلات عديدة منها: ضعف الثقافة والوعي الحقوقي وغياب أو ضعف عنصر المبادرة على المستويين الفكري والعملي، خصوصًا وأن بعض إداراتها غير مؤهّلة لنضوب جاهزيتها الفكريّة، وعدم قدرتها على استنباط الأحكام في الظرف الملموس، إضافة إلى ضعفها الهيكلي والمؤسسي، الذي ينعكس على المهنية والاحترافية، وضعف نظام المعلومات والاتصالات والوسائل التقنية، ناهيك عن بعض المنافسات السلبية داخلها وبين بعض إداراتها، وفوق كلّ ذلك هناك تحديات أساسية تتعلّق بالتمويل، ولاسيّما الخارجي، وأجندات الجهات المانحة التي تتعارض أحيانًا مع توجّهات الحكومات والمجتمعات العربية، دون نسيان بعض الإشكاليات الداخلية الخاصة بأساليب عملها وتداول المسؤوليات داخلها.

قراءة جديدة

لقد بدأت هذه الإشكاليات واستمرّت مع الحركة العربية لحقوق الإنسان منذ ما يزيد عن أربعة عقود من الزمن، إلّا أن ثمة إشكاليات ومشكلات جديدة أخذت تبرز على نحو أشد وضوحًا وخطرًا، خصوصًا تعارض بعض توجّهات ومواقف الحركة الكونية لحقوق الإنسان ودعاتها البارزين مع توجهات ومواقف الحركة العربية، الأمر الذي يحتاج إلى قراءة جديدة لدورها وأدائها وأفقها المستقبلي وقدرتها على التعاطي مع المستجدات والمتغيّرات السريعة التي يشهدها العالم.

وإذا كان الحقوقيون العرب يتشاركون مع نظرائهم على المستوى الكوني ذات القيم التي تدعو إلى السلام والمساواة والعدالة والشراكة والتعددية والاعتراف بالآخر وحق تقرير المصير، إلّا أن حرب الإبادة المفتوحة على غزّة، بعد عمليات طوفان الأقصى (7 تشرين الأول / أكتوبر 2023)، أظهرت البون الشاسع بين ما يُقال وما يُطبّق فعليًا، وبين الفكر والممارسة، والنظرية والتطبيق، لدرجة أن مفكرًا كبيرًا مثل هابرماس، صدّع رؤوسنا لعقود من الزمن حول حقوق الإنسان والتسامح والعدالة، تاهت بوصلته، أو أُريد لها أن تتيه، فإذا به ومجموعة من المثقفين الأوروبيين البارزين يصدرون بيانًا يؤيدون فيه إسرائيل التي ترتكب مجازر قتل جماعي جهارًا نهارًا، ومع سبق الإصرار، بما فيها تجويع أهل غزّة، وذلك تحت ذريعة "حق الدفاع عن النفس".

انعقد الأمل على منظمات حقوق الإنسان في أن تلعب دورًا تنويريًا في عملية التغيير والتحوّل الديمقراطي، لكن مثل هذا الدور تراجع كثيرًا، وهو يحتاج اليوم إلى مراجعة جديّة فكرية وتاريخية لعملها ووظيفتها، بما لها وهو كثير وما عليها وهو ليس بقليل، بحيث تُصبح منظمات حقوق الإنسان "قوّة اقتراح" وليس "قوّة احتجاج" فحسب، وأن تكون "قوّة اشتراك" وليس "قوّة اعتراض" بما يزيد من فاعليتها على صعيد الرصد والرقابة وتقديم المقترحات واللوائح ومشاريع القوانين والأنظمة، وتنفيذ خطط التنمية بالتعاون مع الحكومات، ومثل هذا الدور يمكنه أن يؤثر على مسار الأحداث ويُعلي من مكانتها.

نكوص عالمي

وإذا كان ثمة نكوص عالمي لحركة حقوق الإنسان، فإنه بلا أدنى شك انعكس سلبًا على الصعيد العربي، الذي يعاني بالأساس من مشكلات إضافية منها شيوع مظاهر التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، واستشراء الطائفية في بعض البلدان، فضلًا عن الموقف من حقوق المرأة والطفل والمجاميع الثقافية الإثنية والسلالية واللغوية وذوي الاحتياجات الخاصة والمهمشين وغيرها.

أستطيع القول أن الحركة العربية لحقوق الإنسان لم تستكمل مقوّمات تكوينها، وما زال بعضها غير مرخّص له بالعمل بصورة قانونية وشرعية، ناهيك عن قلة تجاربها وضعفها وهشاشة بعض إداراتها واستجابتها لأجندات التمويل الخارجي.

 وبالعودة إلى المنظمات العالمية، كان يكفي أن تُصدر منظمة العفو الدولية (Amnesty International) بيانًا مقتضبًا حول معتقل رأي أو سجين سياسي أو كاتب أو فنان تعرّض للعسف أو الإستلاب، ليُلهب الرأي العام، في حين نجد اليوم جرائم كبرى تُرتكب دون أن تُحرّك ساكنًا، والأمر يتعلّق بتراجع الكثير من الآمال التي كانت تعوّل على حركات حقوق الإنسان، خصوصًا بتراجع الحكومات عن الكثير من التزاماتها، ليس على الصعيد العربي فحسب، بل على الصعيد العالمي.

أذكر هنا حادثتين على سبيل المثال لا الحصر، ففي حين أدانت نحو ثلاثة آلاف منظمة عالمية في مؤتمر ديربن ضدّ العنصرية (2001) ممارسات إسرائيل واتهمتها بالعنصرية، تحفّظت منظمة العفو الدولية وحاولت تقديم مبررات واهية، ويوم شنّت إسرائيل عدوانها على لبنان العام 2006، أصدرت في الفترة ذاتها منظمة مراقبة حقوق الإنسان (Human Rights Watch) تقريرًا جاء في توقيته ممالأة للجهة الأخرى، وهو ما كتبت فيه رسالة عتب مملح لكلي الجهتين.

إن غياب استراتيجيات عمل واضحة ومحدّدة وعدم وضع مسافة بين العمل السياسي والعمل الحقوقي، هو أهم ما تعاني منه حركة حقوق الإنسان على المستوى الدولي والعربي، وأحيانًا يتم خلط الأوراق وتتشوّش الرؤية وتتباعد وجهات النظر في ظلّ واقع دولي متغيّر، الأمر الذي يتطلّب تقديم رؤية عربية مدنية إنسانية لأزماتنا بمراعاة الخصوصية الوطنية والثقافية لمجتمعاتنا، دون إهمال الظواهر الكونية كالعولمة واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي والتغيّرات المناخية والهجرة واللجوء وغيرها.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر عراقي

كتبت: جايتا كوش*

ترجمة: علي حمدان

***

مع بلوغ أسواق الأسهم مستويات قياسية، يُدقّ تصاعد الهشاشة المالية ناقوس الخطر في جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا. وقد عبّر صندوق النقد الدولي مؤخرًا عن هذه المخاوف، مُثيرًا مخاوف من أزمة وشيكة.

علامات التحذير واضحة في كل مكان، وهي مألوفة بشكل مثير للقلق. أسعار الأصول ترتفع بشكل يتجاوز بكثير ما يمكن تبريره بالأساسيات، بينما تلعب المؤسسات المالية غير المصرفية الآن دورًا مشابهًا لدور "بنوك الظل" في السنوات التي سبقت الأزمة المالية عام 2008. في الوقت نفسه، دفع صعود العملات المستقرة البنوك الخاضعة للرقابة إلى عالم العملات المشفرة الغامض، وتتدفق مبالغ طائلة من رأس المال المضارب على أسهم الذكاء الاصطناعي، مدفوعةً بالضجة الإعلامية أكثر من العوائد المؤكدة.

علامات التحذير واضحة في كل مكان، وهي مألوفة بشكل مثير للقلق. أسعار الأصول ترتفع بشكل يتجاوز بكثير ما يمكن تبريره بالأساسيات، بينما تلعب المؤسسات المالية غير المصرفية الآن دورًا مشابهًا لدور "بنوك الظل" في السنوات التي سبقت الأزمة المالية عام 2008. في الوقت نفسه، دفع صعود "العملات المستقرة " البنوك الخاضعة للتنظيم إلى عالم العملات المشفرة الغامض، وتتدفق مبالغ طائلة من رأس المال المضارب على أسهم الذكاء الاصطناعي، مدفوعةً بالضجة الإعلامية أكثر من العوائد المؤكدة.

تحمل هذه الاتجاهات علامات واضحة على فقاعة مالية تدخل أخطر مراحلها، حيث يمكن حتى للتحولات الطفيفة في معنويات المستثمرين أن تُحدث تصحيحًا حادًا. قد يكون الانهيار الأخير لشركة فيرست براندز الأمريكية لتوريد قطع غيار السيارات، وشركة تريكولور لقروض السيارات عالية المخاطر، وكلاهما مثقلان بالديون ومرتبطان ارتباطًا وثيقًا بمؤسسات مالية غير مصرفية، مؤشرات مبكرة على نقاط ضعف هيكلية بدأت تتضح للتو.

يكمن وراء هذه الهشاشة المتزايدة التوسع السريع للمؤسسات المالية الخاصة خلال العقد الماضي. ووفقًا لمجلس الاستقرار المالي، تُمثل هذه الكيانات - التي تجمع الأموال من مستثمري التجزئة وتعزز مراكزها المالية من خلال الاقتراض المكثف - ما يقرب من نصف إجمالي الأصول المالية في العالم. وقد ساعد إقبالها على المخاطرة في رفع أسعار الأصول، حتى في ظل حالة عدم اليقين التجاري واختلال السياسات. وقد فاقم تفكيك اللوائح المالية الضعيفة أصلًا في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من هذا التهديد.

إذا ما أُخذت هذه العوامل مجتمعةً، فإنها قد تُطلق دورةً جنونيةً وصفها المؤرخ الاقتصادي تشارلز كيندلبرجر. المرحلة الأولى، "النشوة"، يهيمن عليها التفاؤل والإفراط. وتتبعها حتمًا فترةٌ من "التقشف" مع تزايد حالات التخلف عن السداد وتشديد الائتمان، قبل أن تفسح المجال لـ "الاشمئزاز"، عندما يُسيطر الخوف على الأسواق المالية، ويكافح حتى المقترضون الميسورون للحصول على تمويل. ويعتمد وصول هذه السلسلة إلى حالة ذعرٍ وانهيارٍ كاملين إلى حدٍ كبير على كيفية استجابة الحكومات. ولكن حتى في غياب الانهيار، قد تكون العواقب وخيمة.

إذا كان التاريخ دليلاً، فإن السؤال المطروح هو متى سيحدث انهيار مالي كبير آخر، وليس هل سيحدث؟ لكن بالنسبة لمعظم سكان العالم، فإن الشاغل الأكثر إلحاحًا هو كيف ستؤثر أزمة تنشأ في الولايات المتحدة وأوروبا على بلدانهم.

السوابق ليست مطمئنة على الإطلاق: فقد أظهرت أزمة 2008 وجائحة كوفيد-19 أن الاضطرابات في الولايات المتحدة والاقتصادات الغنية الأخرى يمكن أن تُلحق دمارًا بالدول الفقيرة ذات الحيز المالي المحدود والحماية المحدودة من الصدمات الخارجية. وعندما تمتد الأزمات إلى ما وراء الأسواق المالية، يكون الضرر سريعًا وواسع النطاق. ينضب الاستثمار، ويتعثر النمو، وترتفع معدلات البطالة، مما يُطلق سلسلة من ردود الفعل تُقلل الطلب على الصادرات وتُقلص تدفقات النقد الأجنبي من السياحة والتحويلات المالية، مما يُنشر الألم في جميع أنحاء العالم.

تساهم الهياكل الهرمية للعملات في تفاقم المشكلة. فعلى سبيل المثال، تضمن هيمنة الدولار عودة تدفقات رأس المال الخاص إلى الولايات المتحدة في أوقات عدم اليقين المتزايد، مما يُسبب انخفاضات حادة في قيمة العملات وأزمات مصرفية في البلدان منخفضة الدخل. كما تُعيق المخاوف من هروب رؤوس الأموال قدرة الحكومات على اتباع سياسات اقتصادية كلية مُعاكسة للتقلبات الدورية، مما يزيد من صعوبة التكيف الصعب أصلًا.

قد تكون التداعيات وخيمة بشكل خاص على الدول المثقلة بالديون، والتي بنى العديد منها استراتيجيات نموه على الصادرات إلى الاقتصادات المتقدمة. وقد قوّضت سياسات ترامب الحمائية هذا النموذج، مما جعل الدول المدينة عُرضةً بشكل خطير لسلسلة من الصدمات الاقتصادية والجيوسياسية والمناخية التي تُهدد بتحويل الأزمة المالية العالمية القادمة إلى حدث كارثي حقيقي.

يجب على الدول النامية إدراك هذه المخاطر واتخاذ خطوات عاجلة لتعزيز صمودها الاقتصادي. وينبغي أن تكون الأولوية القصوى لتنويع العلاقات التجارية. في مواجهة مطالب إدارة ترامب المتقلبة وغير المعقولة في كثير من الأحيان، بدأ بعضها بالفعل في تقليل اعتماده على الولايات المتحدة. هذه العملية، وإن كانت ضرورية، إلا أنها لن تكون سهلة.

لتعزيز مرونتها المالية، تحتاج الدول النامية إلى الحد من تعرضها لتقلبات تدفقات رأس المال من خلال اعتماد أدوات فعّالة لإدارة رأس المال وتعزيز الرقابة المالية، ليس فقط من خلال اللوائح الاحترازية، بل أيضًا من خلال الحد من أنشطة المضاربة والأنشطة غير الشفافة. ويجب وضع هذه الضمانات قبل اندلاع الأزمة التالية. على المدى المتوسط، يُعدّ تقليل الاعتماد على الدين الخارجي أمرًا أساسيًا، وكذلك منع التدفقات الخارجة المزعزعة للاستقرار من خلال إعادة تعريف شروط عمل المستثمرين الأجانب.

من المسلّم به أن جهود إدارة ترامب لتوجيه شركائها التجاريين في الاتجاه المعاكس - نحو تخفيف القيود التنظيمية، وخاصةً على العملات المشفرة - تجعل هذه المهمة بالغة الصعوبة. ولكن مقاومة هذه الضغوط وحدها كفيلة بتجنب الدول النامية الانجراف إلى أزمة أخرى ليست من صنعها.

***

...................

* بروجكت سندكت.

هذا المقال هو رد على مقال الأستاذ الدكتور عبد الأمير كاظم زاهد، الموسوم: (تجربة العراقيين من منتصف القرن الماضي.. تطلعات في بناء الإنسان)، المنشور في صحيفة المثقف الغراء يوم 5/11/2025، (رابط المقال في الهامش رقم 1)، وهو مقال جيد كما عودنا السيد الكاتب في مقالاته السابقة الحافلة بالأفكار التقدمية التنويرية القيمة. وأنا متابع لكتاباته، وأعمم البعض منها على مجموعاتي، وأعيد نشر البعض منها على صحيفتي في الفيسبوك. ولكن في هذا المقال المشار إليه أعلاه، وبعد عدة صفحات من الأفكار القيمة، تفاجأتُ أنه وضع ثورة 14 تموز1958، في خانة الانقلابات العسكرية البعثية وجرائمها بحق الشعب العراقي، وشعوب المنطقة، وبذلك فالسيد الكاتب، كما البعض الأخر، راح يحمل ثورة 14 تموز الوطنية الأصيلة، جرائم حكم البعث الفاشي. وأرجو من كاتبنا المحترم أن يتسع صدره لهذه الملاحظات النقدية، ولنكن منصفين لكي (لا نحرق الأخضر بسعر اليابس) كما يقول المثل العربي. فهذا الخلط حفزني لكتابة ونشر هذا الرد رغم نفوري من الكتابة منذ ثلاث سنوات لأسباب صحية، وعمرية، وشيء من الكسل أيضاً! وقد حاولت في البدء نشر تعليق قصير في قسم التعليقات في المثقف، ولكن في الأخير رأيت من الأفضل كتابة مقال مستقل على مهل ودون تسرع، أبين فيه الحقائق التي صارت أشبه بالبديهيات. وأرجو أن (الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية).

والجدير بالذكر أن الأخ الكاتب ليس الوحيد الذي يلقي اللوم على ثورة 14 تموز في عدم استقرار العراق السياسي، وجرائم البعث، بل هناك كثيرون مثله، رغم أن العديد منهم كانوا من أشد المؤيدين للثورة في حينها. وخلاصة حجة هؤلاء أن العهد الملكي كان مستقراً وديمقراطيا، وليبرالياً، وواعداً بالخير العميم، لولا أن جاء عبد الكريم قاسم واقتلع نبتة الديمقراطية الطرية، مما أتاح لحزب البعث الصدامي ارتكاب كل هذه الجرائم البشعة بحق الشعب العراقي وشعوب المنطقة. فمشكلة الذين انقلبوا على ثورة تموز هي ليس لأن الثورة لم تكن ضرورية، بل لأن الذين حكموا العراق بعد انقلاب 8 شباط 1963 الأسود، جلبوا الكوارث، وبالتأكيد أسوأ بكثير من العهد الملكي، ولذلك صدق قول الشاعر:

رُبَّ يومٍ بكيتُ منهُ فلما            صرتُ في غيره بكيتُ عليه

فثورة تموز كانت الضحية، لمؤامرات داخلية وخارجية، وعلى رأسها الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، في مرحلة الحرب الباردة بين المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة أمريكا، وبين الاشتراكي الشرقي بقيادة الإتحاد السوفيتي، ولم يكن السبب لأن الثورة لم تفِ بوعودها في تقدم العراق، بل العكس هو الصحيح، لأن الثورة حققت السيادة الوطنية العراقية، وأعظم المنجزات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وجاءت بأفضل حكومة وطنية نزيهة هدفها السيطرة على الثروات النفطية لمصلحة الشعب العراقي، وهذا ما رفضته أمريكا وحلفاؤها، واعتبروا أن الشعب العراقي خرق الأعراف والتقاليد السائدة، وخرج عن الطاعة، لذلك عملوا على معاقبة هذا الشعب وإعادة الحصان الجامح إلى حضيرته، وإعطاء الشعب العراقي درساً لن ينساه في الطاعة، وليكون عبرة لمن اعتبر من الشعوب العربية وغيرها. ولذلك اختاروا لهذه المهمة القذرة حزب البعث لما عرِفَ عنه من قسوة وهمجية في الانتقام من الخصوم لتحقيق الغرض الدنيء، إذ كما صرح أحد قادة البعث (علي صالح السعدي) أنهم جاؤوا إلى السلطة بالقطار الأمريكي، ويقصد أن مؤامرة 8 شباط 1963 كانت بتدبير الاستخبارات الأمريكية المركزية (CIA). وهناك دراسة أكاديمية (رسالة ماجستير) لطالب في إحدى الجامعات الأمريكية بعنوان:

(التدخلات السرية الأمريكية في العراق خلال الفترة 1958-1963: جذور تغيير النظام في العراق الحديث بدعم أمريكي.)(2)

ومع الأسف، انخدع الضباط القوميون العرب الناصريون وساروا في ركاب المؤامرة بتأثير حبهم للوحدة العربية الاندماجية الفورية، وسحر الرئيس عبدالناصر عليهم، فابتلعوا الطعم، وشاركوا في المؤامرة ودفعوا الثمن باهظاً فيما بعد. أما حزب البعث فقد تبين أنه من الأساس صناعة الاستخبارات الغربية وخاصة الأمريكية، والبريطانية لتدمير العراق والدول العربية الأخرى لصالح إسرائيل، وهذا الاعتقاد ليس من بنات نظرية المؤامرة، بل هذا ما حصل وتأكد فيما بعد بدون أي شك.

هل حقاً كان العهد الملكي ديمقراطياً ومستقراً؟

في البدء، أود التوكيد لأولئك الذين يذرفون دموع التماسيح على العهد الملكي، أن العراق لم يرَ الاستقرار في جميع مراحل تاريخه المكتوب، أما العهد الملكي فكان من أشد العهود اضطراباً، وذلك بسبب تأسيس الدولة العراقية الحديثة على أساس عنصري وطائفي، لشعب منقسم على نفسه إلى عدة مكونات متصارعة، ومن البديهي أن أية دولة تتأسس على العصرية والطائفية لا يمكن أن تكون قابلة للبقاء. وأهم شاهد على صحة ما نقول هو ما قاله أحد أبرز وأهم المؤسسين للدولة العراقية الحديثة، ألا وهو الراحل الملك فيصل الأول الذي عمم مذكرة في عام 1933، على أعضاء من الحلقات الحاكمة، والمقربين من الحكومة، جاء فيها قوله:

"العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية، مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماً كردياً أكثريته جاهلية، بينهم أشخاص ذو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي منها بدعوى أنها ليست من عنصرهم، وأكثرية شيعية جاهلة، منتسبة عنصرياً، إلى نفس الحكومة، إلا إن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، والذي فتح خندقاً عميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين، كل ذلك جعل مع الأسف هذه الأكثرية، أو الأشخاص الذين لهم مطامع، خاصة الدينيين منهم، وطلاب الوظائف بدون استحقاق، والذين لم يستفيدوا مادياً من الحكم الجديد، يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة، ويشوِّقون هذه الأكثرية للتخلي من الحكم الذي يقولون بأنه سيء بحت، ولا ننكر ما لهؤلاء من التأثير على الرأي البسيط الجاهل.(3).

وفي مكان آخر من المذكرة كتب الملك عما يقوله الشيعة: "إن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني، ما الذي هو للشيعي، حتى أيامه الدينية لا اعتبار لها. (نفس المصدر، ص11).

وعن شعب العراق أضاف الملك: “وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى: إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانتقاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضاً عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل. هذا هو الشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي… (المصدر السابق، ص12).

ولكن لسوء حظ الشعب العراقي، أن الملك مات مبكراً في العام نفسه، 1933، الذي أصدر فيه مذكرته هذه، لذلك بدأ الصراع الدموي بين الشخصيات الحاكمة نفسها، فكان أول انقلاب عسكري في الدول العربية هو الانقلاب العسكري بقيادة الفريق بكر صدقي في العراق، عام 1936، ويعتقد البعض أنه تم بتواطؤ الملك غازي، الذي كان معادياً للغرب، ومتعاطفاً مع النازية الهتلرية الألمانية بدوافع وطنية وقومية.

الحرب الدائمة في العراق

من يراجع تاريخ العراق خلال الأربعة قرون الماضية، يعرف أن ما يجري فيه اليوم ليس جديداً. فتاريخ العراق كله كان عبارة عن حروب واضطرابات متواصلة، داخلية وخارجية. كما يجب أن نعترف مسبقاً، أن الشعب العراقي لديه الاستعداد الكامل للعنف وذلك نتيجة لتاريخه الدموي وثقافته البدوية الموروثة كما أسلفنا.

وهناك مقولات لشخصيات تاريخية عن صعوبة حكم الشعب العراقي، من بينها، وحسب التسلسل الزمني: اسكندر الكبير، والإمام علي، ومعاوية، والحجاج، والجاحظ. وتجنباً للإطالة، أدرج فقط وصية معاوية لابنه يزيد وهو على سرير الموت ، يقول ابن الاثير في تأريخه (فلما مرض معاوية الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد وقال له: انظر أهل العراق، فان سألوك ان تعزل عنهم كل يوم عاملا فأفعل، فإنَّ عزل عامل أيسر من ان تُشهر عليك مائة الف سيف)، وفي رواية أخرى قيل عشرة ألاف سيف.

كما يؤكد الراحل العلامة علي الوردي، أن الشعب العراقي كان في حرب داخلية دائمة خلال أربعة قرون من الحكم العثماني وقسماً من العهد الملكي. ناهيك عن الحروب التي شنتها السلطة البعثية ضد الشعب منذ 8 شباط 1963 إلى 9 نيسان 2003.

لقد خصص الوردي فصلاً كاملاً من كتابه القيم (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) بعنوان (الحرب الدائمة في العراق) فيقول: أن أهم معالم الثقافة البدوية في الصحراء هو الحرب الدائمة. فالحرب في الحياة الصحراوية هي الأصل، والسلم فيها عرض طارئ. وحين ندرس المجتمع العراقي في العهد العثماني نجد هذه الظاهرة موجودة فيه على نمط يكاد لا يختلف في أساسه الاجتماعي عما هو موجود في الصحراء. فقلما كانت تمر فترة في العراق دون أن يقع فيها قتال على وجه من الوجوه. وهذا القتال كان على أشكال مختلفة نذكرها فيما يلي على التوالي، حسب أهميتها وسعة نطاقها:

1- القتال بين القبائل بعضها مع بعض،

2- القتال بين القبائل والحكومة،

3- القتال بين المحلات في المدينة الواحدة،

4- القتال بين القبائل والمدن،

5- القتال بين المدن بعضها مع بعض،

6- القتال بين المدن والحكومة.

ولكن كاد الشعب العراقي أن يتخلص من ثقافته البدوية المتخلفة، وما ترتب عليها من حروب داخلية بين مكوناته، لولا اغتصاب حزب البعث للسلطة ثانية عام 1968 والذي عمل على بعث ثقافة البداوة، وإعادة الشعب إلى التقسيمات القبلية والعشائرية من جديد، حيث أعاد خلق الذهنية البدوية وسياسة الحروب العبثية. فعهد البعث هو الآخر كان أشبه بحياة البدو في الصحراء، عبارة عن حروب متواصلة.

ومن كل ما تقدم، نعرف أن العراق الملكي لم يكن بلداً مستقراً كما يعتقد البعض، وحتى لم يكن واعداً بذلك، وفي هذا الخصوص يقول المؤرخ العراقي الراحل الدكتور كمال مظهر أحمد: "وفي الواقع إن أكبر خطأ قاتل ارتكبه النظام [الملكي] في العراق يكمن في موقفه من الديمقراطية، فعلى العكس من منطق الأشياء، سار الخط البياني لتطور الديمقراطية في العهد الملكي من الأعلى إلى الأسفل، لا من الأسفل إلى الأعلى، ويتحمل الجميع وزر ذلك، ولكن بدراجات متفاوتة." 6

كذلك كان الحكام في العهد الملكي يحتقرون جماهير الشعب، وفي هذا الخصوص يقول الوردي:

"إن جلاوزة العراق، ومن لف لفهم من المتزلفين وأنصاف المتعلمين ينظرون إلى الشعب الفقير نظرة ملؤها الاحتقار والاستصغار. ولعلهم لا يشعرون بهذا الاحتقار الذي يكنّونه لأبناء الشعب، إذ هو كامن أغوار نفوسهم، اللاشعور من أنفسهم، فهم ينساقون به وقد لا يعرفون مأتاه أحياناً.7

كذلك، يتهم البعض ثورة تموز أنها فتحت الباب للانقلابات العسكرية، وهذه مغالطة شنيعة تدل على جهلهم بتاريخ العراق، وأنصح كل من يريد أن يفهم العراق وشعبه أن يقرأ كتب العلامة الوردي وكتاب الباحث الراحل حنا بطاطو (الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق)، وهو مترجم إلى العربية بثلاثة مجلدات ترجمة جيدة. فمرحلة الانقلابات العسكرية لم تبدأ بيوم 14 تموز 1958، وإنما دشنت في العهد الملكي نفسه بانقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، كما ذكرنا أعلاه، وما تلاه من خمسة انقلابات عسكرية مستترة أخرى وأحداث مايس 1941 بقيادة العقداء الأربعة والتي عرفت بحركة رشيد عالي الكيلاني. وكانت هناك محاولات انقلابية عسكرية لم يكتب لها النجاح، كلها حصلت في العهد الملكي أي قبل 14 تموز 1958. (8)

وبذلك فإن تسييس العسكر قد حصل في العهد الملكي، وإن ثورة 14 تموز هي نتيجة وليست سبباً لتسييس العسكر.

هل ما حدث يوم 14 تموز 1958 ثورة أَم انقلاب؟ (9)

فماذا جرى يوم 14 تموز 1958، هل هو انقلاب عسكري أم ثورة، كتبت في هذا الخصوص عدة مرات، ولكن بلا جدوى، لذا أعود بشهادة شخصيتين أكاديميتين، وهما:

المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسن الذي قال: "أن الثورة العراقية هي الثورة الوحيدة في البلاد العربية." والشاهد الثاني هو المؤرخ الأكاديمي ألأمريكي حنا بطاطو حيث أيد ذلك بقوة الموضوعية عندما سأل: "هل ترقى أحداث 14 تموز (يوليو) إلى مستوى الثورة أم أنها مجرد انقلاب؟" ويجيب قائلاَ: "والواقع إن إلقاء نظرة سريعة على الآثار اللاحقة، يكفي لجعلنا نعرف أننا أمام ثورة أصيلة. ولم يكن لظاهرة سياسية سطحية أن تطلق كل تلك المشاعر بهذا العنف... والواقع إن 14 تموز أتى معه بأكثر من مجرد تغيًر في الحكم. فهو لم يدمرً الملَكية، أو يضعف كل الموقع الغربي في المشرق العربي بطريقة جذرية فحسب، بل أن مستقبل طبقات بأسرها ومصيرها تأثر بعمق. ولقد دمرت إلى حد كبير السلطة الاجتماعية لأكبر المشايخ، ملاكي الأراضي ولكبار ملاكي المدن، وتعزز نوعياً موقع العمال المدنيين والشرائح الوسطى، والوسطى الدنيا في المجتمع. وتغير كذلك نمط حياة الفلاحين نتيجة لإنتقال المِلكية من ناحية، ولإلغاء أنظمة النزاعات القبلية وإدخال الريف في صلب القانون الوطني من ناحية أخرى." (10)

لماذا حصلت ثورة 14 تموز العراقية؟

في انتخابات عام 1954 البرلمانية في عهد حكومة أرشد العمري، كان هناك هامش من الحرية لأحزاب المعارضة الوطنية للترشح، حيث حصلت المعارضة على 11 مقعداً من مجموع 131. فلم يتحمل نوري السعيد هذا العدد القليل من نواب المعارضة، فقام بانقلاب القصر على زميله العمري بعد 24 ساعة من افتتاح البرلمان. ولذلك يئست القوى الوطنية من أي أمل في الإصلاح السياسي السلمي، وخاصة في تلك الظروف الحبلى بالانفجار.

لذلك قال قائد الثورة وشهيد الوطنية العراقية الزعيم عبد الكريم قاسم في احدى خطبه أن الناس يئسوا من الإصلاح السياسي بالوسائل السلمية، ولذلك تدخل العسكر في صبيحة يوم 14 تموز 1958. نعم في الساعة الأولى كانت العملية انقلابا عسكرياً بلا شك، ولكن ما أن سمع بها الشعب حتى وخرج إلى الشارع من أقصى العراق إلى أقصاه تأييداً لحركة العسكر، وتحويلها من انقلاب عسكري إلى ثورة حقيقية، وبقيت كذلك إلى يوم اغتيالها في انقلاب 8 شباط 1963 الأسود، وبما حققته من منجزات ثورية في جميع المجالات خلال عمرها القصير أربع سنوات ونصف، ضعف ما حققه النظام الملكي خلال 38 سنة من عمره. فهذا التأييد الجماهيري العارم كان عبارة عن تصويت الشعب ومنحه الشرعية للثورة.

نعم، حصلت تجاوزات جماهيرية بعد الثورة، راح ضحيتها أبرياء، وهذه ظاهرة نجدها في جميع الثورات بلا استثناء بعد إسقاط الأنظمة المستبدة، وفي هذا الخصوص يقول فردريك أنجلز: "لا تتوقع من شعب مضطهد أن يتصرف بلياقة."

الثورة حتمية تحدث ولا تصاغ، كالقدر المكتوب

كان حكام العهد الملكي، وخاصة نوري السعيد وعبد الإله، ظالمين بكل معنى الكلمة، و(الظلم لو دام دمر يحرق اليابس والأخضر)، ولا يمكن مطالبة الشعب بالسكوت على الظلم وعدم الثورة خوفاً من احتمال أن يكون البديل أسوأ كما تبيّن بعد اغتصاب البعثيين للسلطة، لأن الأمور مقرونة بأوقاتها، وهذا الاحتمال موجود دائماً وفي جميع الثورات. وليس من حقنا مصادرة حقوق جيل الخمسينات بما نعرفه اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين. إذ يقول المثل الإنكليزي: (After the event every body is clever) أي (بعد فوات الأوان كل واحد يدعي الذكاء).

فبالنسبة لنظام صدام حسين مثلاً، هل من المنطق السكوت عنه لأنه كان هناك احتمال أن يأتي أسوأ منه؟

إن هذا الكلام يفنده منطق التاريخ، فيناقش الراحل علي الوردي في كتابه (منطق ابن خلدون) هذا الموضوع. وابن خلدون هذا كان لا يعترف إلا بالثورات الناجحة. ويحاجج الوردي موقف ابن خلدون قائلاً: "لو اتبع الثوار هذا المبدأ الخلدوني منذ قديم الزمان لما ظهر في الدنيا أنبياء ولا زعماء ولا مصلحون، ولصار الناس كالأغنام يخضعون لكل من يسيطر عليهم بالقوة، حيث يمسي المجتمع بهم جامداً يسير على وتيرة واحدة جيلاً بعد جيل.

ويضيف الوردي قائلاً: "وقد غفل ابن خلدون عن ناحية أخرى من تاريخ الثورات. فالثورة قد ينتهي أمرها إلى الفشل، ولكنها على الرغم من ذلك قد تكون ذات أثر اجتماعي نافع. إنها قد تحرك الرأي العام وتفتح أذهان الناس إلى أمر ربما كانوا غافلين عنه. وكثيراً ما تكون الثورات الفاشلة تمهيداً للثورة الناجحة التي تأتي بعدها. حيث تكون كل واحدة منها بمثابة خطوة لتمهيد الطريق نحو الثورة الأخيرة."

وأفضل وصف لظاهرة الثورات جاء في كتاب (عصر القطيعة مع الماضي)، للمفكر الأمريكي بيتر ف درُكر (Peter F. Drucker) حيث قال: "أن الثورة لا تقع ولا تصاغ ولكنها (تحدث) عندما تطرأ

تغييرات جذرية في الأسس الاجتماعية تستدعي (إحداث) تغييرات في البنية الاجتماعية الفوقية تتماشى مع (التغييرات) التي حدثت في أسس البنية المجتمعية، فإن لم يُستَبقْ إلى هذه الأحداث تنخلق حالة من التناقض بين القواعد التي تتغير وبين البنية الفوقية التي جمدت على حالة اللاتغيير. هذا التناقض هو الذي يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية التي تقود بدورها إلى حدوث الثورة التي لا ضمانة على أنها ستكون عملاً عقلانياً ستثمر أوضاعاً إنسانية إيجابية."

وبناءً على مقولة المفكر الأمريكي أعلاه، يجب ألا نلوم المظلومين في الثورات وحتى الفاشلة منها، بل يجب ان نلوم الحاكمين المستبدين الذين وقفوا عقبة كأداء ضد التغيير والتطور. إذ يردد خصوم ثورة تموز مقولة في المنطق أن الأمور تعرف بخواتيمها. وطالما جاء البعث الصدامي للسلطة فثورة تموز فاشلة! هذه المقولة لا تنطبق على الثورات، كما بينا أعلاه.

فالمجتمع العراقي قد تغير كثيراً لكن بقي النظام الملكي بلا تغيير بسبب تعنت نوري السعيد وعبدالإله وتمسكهما بالسلطة. فنوري سعيد صار رئيساً للوزراء 14 مرة، وكان هو الذي يحكم حتى عندما لم يكن في الحكومة. علماً بأن 50% من مرحلة الحكم الملكي كان حكماً عرفياً، أي حكم العسكر، ودورة برلمانية واحدة فقط أكملت مدتها الشرعية أربع سنوات، أما الدورات الأخرى فكان البرلمان يحل عند تغيير رئيس الوزراء، وتجرى انتخابات حسب مقاس الرئيس الجديد يقرر من يفوز من المرشحين لمجلس النواب. فهل هذا دليل على استقرار العراق الملكي؟

لماذا يعادي الحكام الجدد ما بعد 2003 ثورة 14 تموز العراقية وقائدها؟

والسؤال هنا، لماذا يعادي الحكام الجدد ما بعد 2003 ثورة 14 تموز العراقية، وعداءهم الشديد للزعيم عبد الكريم قاسم؟ ولماذا رفضوا جعل يوم 14 تموز عيداً وطنياً، وهو يوم تأسيس جمهورية العراق؟ ولماذا رفضوا العلم العراقي وشعاره في عهد تموز وفيهما كل رمزيات التاريخ العراقي ومكوناته، ولماذا فضلوا عليه علم وشعار جمهورية البعث التي تسمى بجمهورية الرعب؟ الجواب هو: لأن نزاهة الزعيم قاسم، ومنجزات الثورة تفضح فسادهم، لذلك يعملون كل ما في وسعهم لحذف وإزالة ثورة تموز من ذاكرة الشعب العراقي، تماماً كما عمل البعثيون، ولكن هيهات، فالتاريخ يمهل ولا يهمل، فقد انتهى البعث في مزبلة التاريخ، لأن في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح.

خلاصة القول: إن ما حصل يوم 14 تموز 1958 كان ثورة وطنية أصيلة وحتمية فرضتها ظروف موضوعية وتاريخية ملحة. وكانت الثورة حصيلة نضال جماهير شعبنا منذ ثورة العشرين، مروراً بالانتفاضات الشعبية، والوثبات الوطنية، لتحقيق الاستقلال السياسي الكامل، والسيادة الوطنية، والديمقراطية. وكانت السلطة الملكية ديمقراطية في المظهر، وديكتاتورية في الجوهر بواجهة برلمانية مزيفة، وقد استنفد دورها، وصارت عقبة كأداء أمام التطور الحتمي بحكم التاريخ، وقضت على أي أمل في إجراء التغيير المطلوب بالطرق السلمية. لذلك لم يبق أمام قيادات القوى الوطنية والأحزاب السياسية وتنظيمات الضباط الأحرار، سوى اللجوء إلى القوة، خاصة وقد توفرت لها الشروط الموضوعية والعوامل الذاتية لتحقيق التغيير التاريخي المطلوب بالثورة المسلحة. لذلك فمعاملة ثورة 14 تموز 1958 كما الانقلابات العسكرية البعثية مؤسف جداً، وغير صحيح نرجو من أهل الحل والعقد إعادة النظر في هذه الثورة العراقية الأصيلة.

***

د. عبد الخالق حسين

.....................

مصادر

1- عبد الأمير كاظم زاهد: تجربة العراقيين من منتصف القرن الماضي.. تطلعات في بناء الإنسان

https://almothaqaf.org/opinions/984281

2- التدخلات السرية الأمريكية في العراق خلال الفترة 1958-1963: جذور تغيير النظام في العراق الحديث بدعم أمريكي.

US Covert intervention In Iraq Arabic version.pdf

وهذا رابط النسخة الإنكليزية الأصلية:

U.S. COVERT INTERVENTION IN IRAQ 1958-1963: THE ORIGINS OF U.S. SUPPORTED REGIME CHANGE IN MODERN IRAQ

3- عبد الرزاق الحسني، تاريخ العراق السياسي الحديث، ج1، ص11، مطبعة دار الكتب بيروت، 1983).

4- (نفس المصدر، ص11).

5- (نفس المصدر، ص12).

6- د. كمال مظهر أحمد، سعيد قزاز أمام محكمة التاريخ، صحيفة الإتحاد، العدد 402، الصادر يوم 22/12/2000.

7- د. علي الوردي، خوارق اللاشعور، الوراق للنشر-لندن، ط2، سنة 1996، ص 227.

8- (راجع د. عقيل الناصري، الجيش والسلطة في العراق الملكي 1920-1958، دار الحصاد-دمشق، ط1، سنة 2000.)

9- عبدالخالق حسين: هل ما حدث يوم 14 تموز 1958 ثورة أَم انقلاب؟

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=643455

10 راجع حنا بطاطو، الطبقات الإجتماعية والحركات الثورية في العراق، ج3، ترجمة عفيف الرزاز، ط1، مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت، ص 116).

روابط ذات صلة:

عبد الخالق حسين: أسباب ثورة 14 تموز 1958

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=684592

عبد الخالق حسين: هل ما حدث يوم 14 تموز 1958 ثورة أَم انقلاب؟

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=64

عبدالخالق حسين: منجزات ثورة 14 تموز 1958

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277

وهناك قائمة طويلة بالمنجزات نشرت على مواقع الانترنت بوم 13 تموز 2018، وهذا رابطها:

منجزات الزعيم عبد الكريم قاسم خلال فترة حكمه

http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html

ثورة وزعيم... كتاب الدكتور عبد الخالق حسين عن الزعيم عبد الكريم قاسم وثورة 14 تموز 1958

https://foulabook.com/ar/book/

رابط كتاب د. عبد الخالق حسين: الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق

https://foulabook.com/ar/book

في كل زمن، يولد مفكر يختار أن يفتح نوافذ العقل في بيتٍ أُغلقَت نوافذه خوفًا من الضوء.. وهو قدر من يقترب من الحقيقة؛ أن يدفع ثمنها عزلةً أو إقامةً جبرية.. فالفكر الحرّ، حين يخرج من دائرة المألوف، يتحوّل في نظر الجماعة إلى خطرٍ يجب احتواؤه، ولو في غرفةٍ ضيّقة أو في صمتٍ طويل..

كان باروخ سبينوزا ابنًا لطائفةٍ يهوديةٍ غارقةٍ في تقاليدها.. حين فتح الكتاب المقدس بعين العقل، لم يجد فيه معجزةً خارقة، بل حكمةً قابلةً للتأويل الإنساني.. فجعل من الله جوهر الوجود ذاته، لا شخصًا يسكن السماء وينزل إلى الأرض أو يتحكم في المصائر، كما موجود في الكتاب المقدس.. ومن هنا، بدأ صِدامه مع المؤسسة الدينية التي رأت في فكره خطرًا على سلطتها المقدسة.. فأصدرت عليه "الحرمان الأكبر" على مؤلفاته ومحاضراته، وحجزته في بيته.. فانقطعت عنه الجسور الاجتماعية، وبقي وحده في عزلةٍ صامتة، يصقل العدسات بيديه، ويصقل الحقيقة بعقله..2127 Spinoza

كانت عزلته فلسفية طوعية، لكنها تحوّلت إلى مختبرٍ للفكر الإنساني.. فمن عزلته وُلد كتاب "الأخلاق" الذي أعاد تعريف الله والحرية والعقل.. وكتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة" الذي أوَّلَ الكتاب المقدس تأويلاً فلسفياً وعقلياً..

وسبينوزا لم يتمرد على تعاليم الله تعالى.. بل على الذين احتكروا اسم الله.. فقد أراد أن يجعل الإيمان تجربةً عقلية، لا طاعةً موروثة.. ولذلك، عاش منفيًا في العالم، لكنه حرًّا في نفسه.. كأنه أراد أن يقول: لا عيب في العزلة إذا كانت طريقًا إلى النور..

وفي عصرٍ آخر، وفي مدينةٍ تجمع ما بين الديني والسياسي.. ظهر السيد كمال الحيدري.. رجلٌ قرأ التراث لا بوصفه ميراثًا مقدسًا، بل نصًا بشريًا تراكميًا يحتاج إلى مراجعةٍ ونقدٍ صريح..

دخل إلى مكتبات الحوزة، فأعاد فتح الكتب التي ظنّ الناس أنها مغلقة على الأبد.. فاكتشف فيها أخطاءً، وتناقضاتٍ، وتأويلاتٍ صنعت دينًا موازيًا للدين الذي جاء به القرآن الكريم.. وحين أعلن رؤيته، لم يُقابَل بالتحاور، بل بالإقصاء.. ففرضوا عليه إقامةً جبرية، لأن حرية فكره كسرت جدار الصمت الطويل..2126 kamal

لكنه، مثل سبينوزا، لم يكن معارضًا للدين، بل مخلصًا له في عمقه الإنساني.. وموحداً لله وحده.. أراد أن يُعيد الدين إلى مرجعه القرآني، وأن يطهّره من ترسبات العصبية المذهبية..

فقال: "ليس كل ما في التراث وحيًا.. ولا كل ما في الكتب حقًا.. بل الحقّ ما شهد به القرآن والعقل"..

هنا بدأ سجنه، لا لأنه تمرّد، بل لأنه أراد أن يُصلح.. فالإصلاح في العالم الديني يُعدُّ جريمةً مؤجلة، لا تُغتفر إلا بعد غياب صاحبها..

ورغم الفوارق الاجتماعية والدينية والجغرافية العزلتين.. إلّا أنَّ وحدة المصير واختلاف الطريق كان واحداً لكِلا الرجلين "سبينوزا والحيدري".. فالتقيا عند نقطةٍ واحدة.. وهي أن الحقيقة لا تُصاغ بالوراثة، بل بالوعي.. وإنَّ ما يكتبه الإنسان أيّاً كان، لن يصبح مقدّساً.. فالأول حرّر التوراة من اللاهوت.. والثاني حرّر الإسلام من عبء التراث.. لكن الفارق بينهما في طبيعة العزلة: سبينوزا اختارها ليحيا، والحيدري فُرضت عليه لأنه أحيا فكرًا راكدًا.. وكلاهما رأى أن الدين حين يتحول إلى سلطةٍ بشريةٍ يفقد جوهره الإلهي.. فالخطر ليس في النصوص، بل في الذين يحتكرون تفسيرها..

ومن هنا، كانت العزلة عندهما ليست هروبًا من الواقع، بل احتجاجًا عليه.. فالأول صمت في هولندا وصنع فلسفة الوجود، والآخر صمت في قم وصاغ فلسفة الإصلاح..

فالعزلة ليست نهاية المفكر، بل بدايته الحقيقية.. ففي صمته يتطهّر من ضجيج المريدين، وفي وحدته يسمع صدى الحقيقة.. وهكذا تحوّلت عزلة سبينوزا إلى حرية العقل الغربي.. وتحوّلت إقامة الحيدري إلى رمزٍ لميلاد نقدٍ دينيٍّ جديد في الفكر الإسلامي المعاصر.. وكلاهما يقول لنا اليوم: إن الطريق إلى الله لا يُرسم بالأوامر والنواهي، بل بالسؤال والوعي والصدق مع النفس.. ومن يختار هذا الطريق عليه أن يدفع ضريبة النور في عالمٍ يعبد الخطأ ويتعبّد فيه..

وبين سبينوزا والحيدري مسافة ثلاثة قرون، لكن النداء واحد: أن الدين لا يُخدم بالتقليد، بل بالفهم.. ولا يُصان بالجمود، بل بالحركة.. ولا يُقدّس بالكلمات، بل بالإنسان الذي يعيش قِيَمه..

فإذا كانت عزلة سبينوزا هي عتبة التنوير الغربي.. فإن إقامة الحيدري قد تكون عتبة الإصلاح الإسلامي القادم.. حين يُصبح العقل شريكًا للوحي، لا تابعًا له..

إنَّ سكوت عدد من المفكرين والمثقفين آنذاك عن عزلة باروخ سبينوزا.. ونفس الخطأ يتكرر اليوم مع السيد كمال الحيدري في إقامته الجبرية.. هذه الظاهرة يمكن وصفها بأنها تراخي الضمير الفكري والثقافي -بشقّيه الديني والليبرالي- أمام لحظة الامتحان حين يُعزل المفكر أو المثقف..

والمؤسف أنّ البيئة الثقافية التي تدّعي في كتاباتها وأحاديثها، أنها مع حرية الرأي والفكر.. لا تستطيع حماية هذا المفكر أو الدفاع عنه.. لكن بعد رحيله يصبح رمزاً، وتنصب خيامها ونواحها على منصات التواصل الاجتماعي..!!

***

حسين علاوي

 

انتصار زهران ممداني يعكس بصورة كبيرة ما تمثله مدينة نيويورك وخاصة لمن قضى بعض الوقت فيها كطالب او كمقيم أو كزائر. فالمدينة هي فسيفساء من الوجوه واللغات واللكنات، والاحياء، والثقافات، والمجتمعات. كل منها يشكل جزء لا يتجزء من النسيج الاجتماعي.. حتى ان هناك نكتة متداولة بان بعض احيائها لا يتكلمون الإنكليزية.

لاقت رسالة السيد ممداني صدى واسعا. إذا تحدث عن أعباء الحياة اليومية للمواطن البسيط: الايجار الذي يلتهم الدخل، وأسعار المشتريات التي لا تتوقف عن الارتفاع، والشعور بان العدالة قد طواها النسيان. يميل الأمريكيون بصفة عامة على التحفظ على كلمة اشتراكية، ولكنهم في حالتة تم استثناؤّه. لذلك قام بالتصويت له امواج من الققراء في احياءً البرونكس والكويينز وغيرها. كان يمثل لهم استعادة بعض الامل بعد ان سرقت أحلامهم في الانتخابات الماضية التي توجت ترامب رئيس للجمهورية وسيطرة أليمين على الكونجرس ومجلس الشيوخ بدعم من اوليغارشية التكنولوجيا. 

كثير من الشباب الأمريكي الذي صوت لممداني لأنه كان يمثل لهم روح وتحدي الشباب أمام غطرسة النخب الحاكمة والمتنفذة. كما ارتبطت هوية السيد ممداني كمهاجر مسلم بالعديد من سكان نيويورك وراي الكثير من المهاجرين بانه واحد منهم وأنهم بحاجة لشخص يناضل من اجل مصالحهم وليس مصالح الشركات الكبرى. ان انتخاب ممداني أصاب أنصار ترامب (ماجا) واليمين الأمريكي بصذمة لأنه التحدي الأبرز لهم منذ ان اكتسحوا الحزب الديمقراطي في نوفمبر الماضي.

وحسب نيويورك تايمز، ان فوز ممداني، يعود ايضاً بالقدر نفسه إلى الحملة الانتخابية السرية التي سبقت ذلك. ففي مكاتب الإدارة العليا في وسط المدينة وفي مكالمات هاتفية حميمة، نجح حسب تعبير التايمز هذا الشعبوي اليساري، الذي بنى سمعته على فرض الضرائب على الأغنياء، في استمالة بعض من أقوى الشخصيات في أمريكا، وسحرهم ونزع سلاحهم بمهارة حسب تعبير الصحيفة نفسها.

فوز زهران ممداني طبعا صفعة في وجه ترامب الذي شن هجوما شرسا على ممداني، واصفا إياه بآلشيوعي. والصدمة أصابت معظم النخب اليمنية في أمريكا، حيث شنت حملة تحريض ضده، معللة بان التصويت للممداني سيحرم نيويورك من كثير من الضرائب التي تحصل عليها من وجود الشركات الكبرى في المدينة. وان بفوز ممداني الاشتراكي ستقرر هذه الشركات نقل مكاتبها إلى مناطق أخرى مما سيسبب أزمة تمويل لمشروعات وخدمات المدينة.

السيد ممداني حاول في خطابه بعد الفوز، ان يخاطب جميع النيوريكيين بصرف النظر عن انتمائتهم السياسية، ولكنه أعرب بصورة واضحة، انه عازم على تحقيق إلى مايصبو اليه أولئك الذين كانوا يطالبون بالتغيير الهيكلي. لذلك ذكر بان ليس بالضرورة انه سيرفع الضرائب على الأغنياء لتمويل بعض المشاريع التي تهم الفثراء وانما ذكر بانه منفتح على مقترحات لتمويل هذه المشروعات. هل سينجح ممداني في تنفيذ برنامجه التقدمي امام هيمنة راس المال في مدينة المال. طبعا تنفيذ برنامجه الانتخابي الطموح لن يكون بسهولة، فكثير من السياسين في نيويورك يعارضون زيادة الضرائب. كما ان لدى نيويورك تجربة سيئة في السابق حول موضوع تجميد الإيجارات، وكذلك جعل حافلات النقل سريعة ومجانية، وتوفير رعاية لجميع الأطفال في نيويورك، وذلك لابد يتطلب فع للضرائب، والذي يتردد المشرعون الموافقة على ذلك وخاصة ان معظمهم مقبلون على انتخابات في السنة القادمة. غير أنا المراقبين يذكرون بان إصرار السيد ممداني والتفويض القوي الذي حصل عليه من المنتخبين قد يكونان حافزا للمشرعين للنظر بشكل أكثر جدية في زيادة الضرائب على الأغنياء.

الآن في سن الرابعة والثلاثين، سيكون أصغر زعيم لمدينة نيويورك منذ أكثر من قرن، وسط سلسلة من الإنجازات التاريخية: اول عمدة مسلم، وأول جنوب اسيوي، وأول عمدة مناصر للقضية الفلسطينية، وربما أكثر الاشتراكيين الديمقراطيين نفوذا في البلاد.

ان فوز ممداني رغم أهميته في مدينة تعتبر أحد اهم معاقل الصهيونية العالمية، هو فوز بالغ الأهمية لأنه كسر لقواعد اللعبة التقليدية في الانتخابات الأمريكية. ولكن يجب ان يوضع هذا لانتخاب في إطاره الصحيح، انه انتصار لشاب مسلم تقدمي من أصول هندية في انتخابات محلية. ورغم اختلاف اليئات والظروف، المفيد لنا من كل ذلك، بان على شبابنا الا يهجرو قضاياهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية وان يكونوا أداة للتغيير والتقدم رغم الظروف الصعبة التي تواجههم، لأنهم في الأخير هم مستقبل أي بلد. وان الارداة لابد لها ان تنتصر رغم كل العقبات والصعوبات.  ولابد من تبني اجندة نقدية تقدمية واقعية.

***

علي الرئيسي

 

من التصنيف A إلى الهامش B: الهاردلك المزمنة في المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق

1. الهاردلك كعلامة وطنية

في كل مرة يخسر فيها فريق كرة، نقول: هاردلك!

لكن حين يتحوّل الفشل إلى سلوكٍ عامّ، تصبح الكلمة توصيفًا وطنيًا أكثر منها تعبيرًا عن الحظّ العاثر.

هكذا يمكن وصف ما آل إليه حال المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق بعد صدور تقرير اللجنة الفرعية للاعتماد (SCA) التابع للتحالف العالمي للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان في جنيف في 31 أكتوبر 2025، والذي قرر رسميًا تثبيت تصنيف المفوضية العراقية في المرتبة (B) بعد أن كانت ضمن الفئة الممتازة (A).

إنها ليست مجرّد ملاحظة فنية، بل شهادة دولية على عطبٍ مؤسسيٍّ مزمن.

وفي المقابل، في الدورة نفسها، استعاد المجلس القومي لحقوق الإنسان في جمهورية مصر العربية مكانته في الفئة (A) بعد جهود تشريعية ومؤسسية ومجتمعية حقيقية أعادت إليه ثقة اللجنة الدولية.

مفارقة مؤلمة ومشرّفة في آنٍ واحد: جارين عربيين، أحدهما صعد بثبات، والآخر تراجع بصمت.

2.  تحية إلى مصر… وشعبها وحقوقييها

من الواجب المهني والإنساني أن نوجّه تحية صادقة للشعب المصري وللزملاء الحقوقيين في المجلس القومي لحقوق الإنسان على هذا الإنجاز المستحقّ.

لقد استطاعت مصر، في ظل ظروف داخلية وإقليمية معقدة، أن تعيد بناء مجلسها وفق معايير الاستقلالية والفاعلية التي حددتها مبادئ باريس، وأن تثبت أن الإرادة السياسية قادرة على تصحيح المسار حين تتوافر النية.

إن استعادة التصنيف (A) لا تعني فقط نجاح مؤسسة، بل تعني أن الحق في المراجعة والإصلاح ما زال ممكنًا، وأن العمل الجادّ لا يُضيع بوصلته في متاهة البيروقراطية.

من القلب، تهنئة إلى الأصدقاء والزملاء في مصر — هذا انتصار للمجتمع الحقوقي العربي كله، ورسالة أمل لكل من ما زال يعتقد أن المؤسسات الوطنية يمكن أن تستعيد دورها حين تجد الإرادة والدعم.

3.  في المقابل: عراق بلا مجلس ولا ممثل

أما في العراق، فإن المفوضية العليا لحقوق الإنسان، التي كانت في يومٍ ما نموذجًا عربيًا يُحتذى به، تُدار منذ أكثر من عامين من دون مجلس مفوضين، خلافًا لما نص عليه قانونها رقم 53 لسنة 2008 المعدل.

ذلك القانون، في المادة (2/أولاً)، يقرر أن المفوضية «تتمتع بالشخصية المعنوية ولها استقلال مالي وإداري، وترتبط بمجلس النواب وتكون مسؤولة أمامه»، وفي المادة (8/سابعاً) يوضح أن «الرئيس هو الممثل القانوني للمفوضية».

لكن هذا النصّ تُرك مهملًا كما تُترك لافتة قديمة على بناية مغلقة، بعد أن حلّ مكان مجلس المفوضين مشرف تنفيذي عيّنته الحكومة (وزير العدل سابقًا، ثم أحد مستشاريها)، في مخالفة صريحة للقانون ولمبادئ باريس معًا.

وبينما كان العالم يراقب ويكتب ملاحظاته، كانت المفوضية العراقية تغيب عن المشهد الدولي، بلا تقارير معتمدة، وبلا صوت في المحافل الحقوقية، إلى أن جاء تقرير أكتوبر 2025 ليعلن النتيجة: “تم تثبيت تصنيف المفوضية العراقية في الدرجة B” — أي أنها لم تستوفِ بعد شروط الاستقلال والفاعلية والتمثيل.

4.  من التعطيل إلى التراجع

إنَّ ما جرى ليس مفاجئًا.

فالتعطيل المزمن في تسمية مجلس المفوضين هو الحلقة الأولى في سلسلة فشلٍ مؤسسي أطاحت بمفهوم الاستقلال ذاته.

لقد خسر العراق أكثر من تصنيف دولي؛ خسر رمزية وجود مؤسسة قادرة على أن تتكلم باسمه في لغة القانون الدولي لحقوق الإنسان.

فالهيئة التي كانت في مقدمة المدافعين عن حقوق المعتقلين والنساء وذوي الإعاقة، صارت الآن مقيّدة الصلاحية، تدار إداريًا من خارجها، وتُراقب وهي تحت وصاية من السلطة التنفيذية التي كان يفترض أن تخضع لرقابتها.

5.  مقارنة بين تجربتين: من الإصلاح إلى الإهمال

في مصر، حُدّث القانون، وأُجريت مشاورات مع المجتمع المدني، وأُعيدت صياغة آليات التعيين بما يضمن الشفافية والتعددية.

في العراق، توقّف الزمن عند لحظة انتهاء ولاية المجلس السابق.

البرلمان عجز عن تسمية مفوضين جدد، والحكومة قررت أن تملأ الفراغ بقرارٍ إداري، فانقلب مبدأ الاستقلال البرلماني إلى وصاية تنفيذية.

التقرير الأخير للجنة الاعتماد لم يكن قاسيًا بقدر ما كان أمينًا:

- أشار إلى غياب المجلس بوصفه خللًا جوهريًا في البنية القانونية والإدارية.

- وأكد أن استمرار الإشراف التنفيذي يمثل انتهاكًا مباشرًا للمادة (2) من قانون المفوضية.

- وخلص إلى أن العراق، رغم وعوده المتكررة، لم يُظهر التزامًا فعليًا بمعايير باريس، بخلاف الحالة المصرية التي قدمت تشريعات وإصلاحات ملموسة.

إنها المقارنة التي تختصر المسافة بين الجهد والإهمال، بين العمل والإرجاء، بين دولة تراجع ذاتها وأخرى تُراكم الاعتذارات.

6.  التكلفة السياسية والرمزية

تراجع التصنيف إلى الدرجة (B) ليس تفصيلًا بيروقراطيًا؛ إنه إعلان رسمي بأن استقلال المفوضية مهدّد، وأن الدولة العراقية فقدت أحد رموزها المؤسسية في منظومة الأمم المتحدة.

ويعني عمليًا أن العراق لن يتمتع بعد الآن بحقوق المشاركة الكاملة في التحالف العالمي (GANHRI)، مثل التصويت أو الترشح لمناصب قيادية، حتى يُعاد تصحيح وضع المفوضية.

الرسالة الدولية كانت واضحة:

لا مكان لهيئات حقوق الإنسان التي تُدار بقرارات تنفيذية أو تغيب عنها الهياكل القانونية المنتخبة.

7.  الإصلاح المؤجل

يُفترض الآن أن يبدأ مجلس النواب العراقي فورًا بإعادة تفعيل لجنة الخبراء وتسمية مجلس مفوضين جديد.

فالقانون يمنحه هذه الصلاحية والمسؤولية الحصرية.

أما الحكومة، فعليها أن تنسحب من أي دور إشرافي أو تمثيلي، احترامًا للمادة (8/سابعًا) التي حصرت التمثيل بالرئيس المنتخب، والمادة (2) التي جعلت المجلس هو المشرف والمتابع.

إن تصحيح المسار ليس ترفًا إداريًا، بل شرطٌ لاستعادة الثقة الدولية والكرامة القانونية لمؤسسة وُلدت لتكون حصن المواطن لا ملحق الوزارة.

8.  كلمة أخيرة: بين درسين عربيين

في لحظة واحدة من أكتوبر 2025، دوّن التاريخ درسين عربيين متناقضين:

الأول من القاهرة، حيث أعاد الجهد والإصلاح والالتزام إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان مكانته الدولية.

والثاني من بغداد، حيث كُرّست الهاردلك المزمنة كعنوان لمؤسسةٍ أُصيبت بالشلل بفعل تواطؤ البرلمان وصمت النخب.

إن الفرق بين الفئتين (A) و(B) ليس فرق حرف، بل فرق إرادة.

ومتى ما قرر العراق أن يعيد إلى مفوضيته استقلالها، سيستعيد معها احترام العالم وصوته المفقود.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الانسان

رغم حصول التحول السياسي والخلاص من عقود الديكتاتورية والشمولية نحو الحياة الدستورية الديمقراطية البرلمانية.. الا اننا لا نزال نشعر أن هذا التحول عبارة عن بنية فوقية تفتقد للجذور والوعي اللازم او انها مما يشيد بنيانها على إهمال متعمد للارتكاز على الوعي المطلوب كشرط من شروط ادنى درجة من الاعتبار وهذا تقصير واضح في التأسيس الصحيح للبنى االفوقية واعني بها بناء الإنسان العراقي فشرط التقدم يجب ان يبنى بناءً قيمياً عقلانياً نقدياً موضوعياً

 لقد أحدث تغيير تموز 1958في المسار (الاجتما- سياسي) في العراق متغيرات على مستوى القيم وأخلاقيات العمل السياسي والاجتماعي، بل والفاعلية الاقتصادية على مستوى الدولة والفرد وما أن حلت سنة 1963 حتى تعرض البلد إلى (سلطة الجهلة والمتغلبين بالقوة) القائمة على أيديولوجية سوداء شمولية الطابع عنفية النزعة، ميزتها الأساس انها تفتقد الى ثقافة إنسانية ترى ان حقوق الانسان ثوابت مقدسة وفي غضون تسعة اشهر عبثت بالحقوق المدنية عبثا فاضحا وامتازت بانها تفوقت في مصادرة الحقوق والحريات تجربة ومنحت افراد من أبناء القرية الجهلة الذين يفتقدون للتعليم والقدرات والذي اسموهم (الحزب) كل السلطات، وولتهم على الموارد والامتيازات يتصرفون بها على معيار الولاء السياسي الأضيق الذي تخلى عن الوطن الى الطائفة ثم الى القرية ثم للعشيرة وأخيرا الى سلطة الاسرة وبسبب هذه السياسات العدوانية سقطت حكومة 8 شباط بسهولة بعد تسعة اشهر من قيامها.

 ولم تعالج فترة (1964-1968) هذه التشوهات في المسار الأخلاقي والعقل السياسي العراقي بل مارست بعضها بشكل اقل حدة.. فلقد تحولت الطائفية السياسية من تفكير داخلي إلى سياسات معلنة، ثم أعقبتها بالطائفية الثقافية وتحول الاعتزاز بالقومية إلى ايديولوجية عنصرية عدوانية تنظر للأخر القومي نظرة دونية أتهامية، وأصبحت الدولة وخزينة الموارد والرواتب والرزق بل والوجود والحياة ملكها تمنحه لمن تشاء وتمنعه عمن تشاء بلا ادنى حساب لالام الجوع والحرمان والقهر، وحل الولاء لسلطة الدولة محل الولاء للقيم النهضوية التي كان المفترض أن تكون الأهداف والمرامي والغايات تتجه نحوها ومعها كل النشاطات المجتمعي

 ثم جاءت فترة 1968-2003 وكانت عبارة عن ربع قرن من عودة الجهلة الذين لا هدف لهم الا السيطرة على الموارد والتسلط وابادة المعارضين بل إبادة من يشكون بسكوته عنهم لقد كان ربع قرن مأساوي تميز بالقسوة والتدمير الممنهج للقيم المجتمعية الناهضة تحول فيه الولاء للوطن إلى الولاء للحزب الذي كان ذراعا جبانا للسلطة ثم للقرية ثم للشخص، وأصبح ذلك التجمع الذي يخلو من كفاءة واحدة الحزب مصدرا للثقافة وصار التوجيه الحزبي نظرية عمل وغاب تماما البرنامج الوطني والتنافس السياسي في مضمار التقدم وتكلمت الصحف والمجلات والتلفاز والمذياع بلغة واحدة، وعمم هذا الأنموذج على مراحل التعليم من رياض الأطفال حتى الجامعة، ثم أصبح الانتماء لحزب السلطة رديفاً للممارسة اليومية اللازمة التي يجب أن يؤديها العراقي طقساً سواء آمن به أو لم يؤمن، وبذلك سقطت الذات الفردية، والتفكير الوجداني، والتأمل المتفرد غير الخاضع للإرادة القطيعية سواء كانت أرادة مغفلة أو إرادة مفروضة.

ان اول انهيار في هرم القيم الإنسانية، أن الإنسان العراقي افتقد في تلك الأوضاع فردانيته، وحقه في التفكير المستقل والتعبير عما يفكر فيه، وثاني انهيار أن التفكير بمصير البلاد غيب عن العقول وحل محله التفكير بالخلاص الفردي من الموت والاعتقال والأسر الفكري، وشاع إسقاط أو إقالة العقل والعقلانية لصالح خرافة القائد الضرورة والولاء للثورة وعممت الثقافة الخطابية وكان الانهيار الثالث ان اصبح النقد والنزعة النقدية ممارسة ممنوعة تفضي بصاحبها إلى السجون أو الإعدام، وحل الخوف والرعب بدل قيم الشجاعة والتفكير الحر بصوت مسموع.

 في ظل هذا الوضع اشاعوا ان الناس جميعا متهمين فلابد ان يثبتوا انهم مع الطاغية ارقاء وخائفين عليهم تقديم إثباتات يومية أنهم موالون للسلطة المتغلبة القاهرة وعليهم ان يبرهنوا ان تفكيرهم وعقيدتهم الدينية لا تتعارض مع الولاء السياسي لعصابة القتلة الحاكمين بل عليهم ان يتنازلوا صراحة عن (عقيدتهم، اوعشيرتهم اذا كانت غير متوافقة مع ارادات السلطة، بل حتى عن أنفسهم من اجل إثبات أنهم مخلصون للتجربة القمعية كونها موشحة بالدماء والمآسي والويلات والقسوة واشد إشكال الإرهاب التي تمارسه ضد المواطنين فنما في بعض النفوس سقوط الشعور بالتضامن من اجل الحقيقة والخلاص وتغلبت النزعة الغريزية للحفاظ على الحياة واتقاء ان يقع الشخص في قبضة الذين لا يرون الانسان سوى كائن ضار سرعان ما يجب التخلص منه وصار الهم الحصول على الخبز على حساب الحفاظ على الكرامة والاستحقاقات الإنسانية وهناك انكفأ غير القادرين على الفرار من الوطن الرهينة وتمكن من قدر ان يفر الى بلدان المنافي لاجئا مستجديا مكسورا يشعر بالمذلة حتى غادر اناس البلد لمجرد انهم حسبوا أنهم ملاحقون فعاشوا هناك غرباء، واحسوا أنهم عالة على تلك الدول وانهم ليسوا الا لاجئين بؤساء وشعر كثير منهم بالقلق على وجوده ويبدو انهم كانوا مهددين حتى اجبر اغلبهم أن يكونوا جزءاً من تفكير (مخابرات دول المنفى) حفاظاً على وجودهم وهناك سقط الوجدان الوطني امام القلق على الوجود لذلك فلم يفكروا في أن يمتلكوا المهارات، ولم يفكروا في الحصول على الشهادات الأكاديمية ولم يسعووا لامتلاك الخبرة لكي يعودوا للبلد فيديرونه على وفق نماذج الدول المتقدمة

 ثم عادوا وفي قلب بعضهم بل في أعماقهم نزعة الانتقام من الذين لم يتمكنوا من الفرار فاشاعوا الشك باخوانهم والحذر منهم وصوروهم انهم ممن خذلوهم ولم يسندوهم ونما في أنفسهم هاجس كبير من الخوف على مزاحمتهم في المناصب الجديدة وغنائمهم التي تصوروها عوضا عن سنين المكوث في الخارج ونسوا او تناسوا ان أولئك الذين تعايشوا مع التجربة الديكتاتورية قد اعدم الكثير منهم لانهم رفضوا فكر القتلة وان الالاف لم يلتحقوا بحيش اجبر ان يدخل حربا مع ايران لا ناقة له فيها ولا جمل، واهملوا التفكير في أنهم كيف تعايشوا مع ابشع قسوة عرفها التاريخ ومع الأسف نما في نفوسهم عنصر الشك وعدم الثقة بهؤلاء لتصورهم أنهم لم يقفوا أمام الرعب

لقد بنى المنفيون من وطنهم هواجسهم هذه من أفكار مفترضة عن اخوانهم الذين جاءوا ليحرروهم ويعوضوهم عن اثار الاستلاب الديكتاتوري لكن تلاشت تلك الامال عند إخوانهم الذين لم يحصلوا على فرصة الهروب من الوطن واللجوء للغربة وربما للاغتراب فكان وجودهم احياء في ذلك الزمن من اعاجيب الدهر ومن منن الله تعالى.

و الحقيقة ان الذين افتقدوا لخيار الهروب والهجرة ممن هم في داخل الوطن قد عاشوا ثلاث تجارب عميقة الأثر في التكون النفسي وهي

  • إجبارهم على قتال ابناء وطنهم من الاكراد في السبعينات تحت مسمى مقاومة العصيان الكردي

2- إجبارهم على مقاتلة الايرانيين كرها وجبرا وتوريط المهجرين والمنفيين لقتال ابناء بلدهم اسنادا لايران

3-  وتحمل معاناة الحصار الدولي وكان من نتائج تلك الظروف القاسية نفسيا تدني قيم انكار المنكر وقيم الانعتاق والتحرر من نظام استرقاقي دموي الذي تصاعد في زمنهم الشعور بالخوف من السجون الرهيبة والموت المجاني المضاف الى عذابات الجوع

لقد كانت أول تجربة مأساوية تلك المرحلة التي حشد فيها النظام الناس للقتال في جبال كردستان أخاه وشريكه في الوطن الجريح المستعبد ثم تطور الحال إلى حرب مركبة من دوافع طائفية وأهداف سياسية ولصالح استراتجيات إقليمية ودولية دامت (ثمان سنوات) تصدعت فيها اغلب قيم الفروسية لرهبة الخوف من موت محقق يزحف من جبهات القتال الممتدة لأكثر من ألف كيلو متر، ورغم شعور المواطن العراقي إنها حرب لأجل الغير فقد اوجدوا في اللاوعي مع الأناشيد الحماسية التي كانت تغسل الدماغ وضعا لم يترك فسحة للإنسان أن يتامل خارج ذلك الضجيج الممنهج الذي كانت وظيفته أن يملأ الفراغ النفسي للإنسان العراقي حتى لا يراجع ولو لساعة ليستخرج جوابا لسؤال ( لماذا هذه الحرب الضروس؟) لقد سقطت امام زحف الموت القادم من الشرق كل قيم المجد الشخصي، والاعتزاز بالذات فانتشرت الوساطة والرشوة، وتقبل البعض الإذلال لكي يتفادى الموت من اجل البوابة الشرقية وعاشوا في وطن اختطفته قوى الجهل، وتصحرت فيه القلوب بل تبلدت العقول وجفت العواطف وأصبح الموت والعوق الجسدي والترمل واليتم والمشكلات الاجتماعية لازمة الحياة التي شملت طيفاً واسعاً لم يكن العراقي يتوقعها في مجتمعه فضلا عن تاثيراتها على العقل والأخلاق والسلوك فلقد اغتيلت الشجاعة وقتلت الفروسية، وأعيد الإنسان إلى حيز الأشياء بعد أن أغلقت عليه نوافذ الأفكاروالقيم.

لقد غيرت حرب الثمان سنوات مساحة كبيرة من قيم الإنسان في العراق.. وتكونت في ذاكرة الناس قصصا كثيرة حصلت في تلك السنين لو كنا سمعناها في الخمسينات لقلنا أي شعب يقدر أن يعيش وسط هذه المآسي لكننا قبلناها والأمة حينما تقبل أنموذج الذل والانحطاط، تتحول برمتها إلى أغلبية مقهورة مستعبدة مشوهة الذات يفتقد رأيها إلى الأصالة والفردانية ويصبح اغلب المجتمع قطيعا يسير ب(العصا والمقصلة)

و انتهت الحرب – بلا مبرر – كما بدأت بلا مبرر ولم يتساءل الناس لماذا انتهت حرب راحت فيها الملايين من البشر والمليارات من الثروة بل كان الناس يستمعون حينها إلى أناشيد الانتصار ويجبرون على تصديق هذه الكذبة التي روج لها الاعلام وبذلك تكرس سقوط العقلانية المجتمعية بعد ان سقطت العقلانية الفردية.

لقد افرغ هذا (النصر المزعوم !!!) البلد من كل احتياطي مالي واشرفت الدولة على الافلاس مما دفع التجربة الصدامية المقيتة الى إشعال حرب جديدة للاستيلاء على منابع النفط بعد أن وجد انه قد غرر به فخسر كل شيء، وبدل أن يعيد حساباته لجأ مرة اخرى إلى القوة غير العاقلة وابتلع الطعم وكانت النتيجة انه فقد البلد كله وفقد السيادة وأصبح العراق تحت الوصاية الدولية وبدا مسلسل جديد للموت المجاني (جوعا/ومرضا ) تحت سيناريو الحصار االدولي فصار التسابق للحصول على الغذاء أو المال يتم بأي وسيلة وصار ذلك هو السلوك الاعتيادي فانهارت قيم كثيرة منها (من أين يجب أن يكون مصدر الرزق) لقد سمع الناس آنذاك قصصا من إشكال الخديعة، والسرقة، والسطو والرشوة والفساد، والهروب من الخدمة العامة والاشتغال بالإعمال المشبوهة والاحتيال والغش لتحصيل المال تلك الوسائل التي لم يكن العراقيون يعرفونها ولم يمارسها احد منهم ولقد حصل ذلك ليتفادى االإنسان الموت وقد تصرفوا تحت وطأة الخوف من الموت.وهكذا أسقطت تجربة الرعب كثيراً من القيم النبيلة على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة وضاعت الفرص الحقيقية لصناعة المستقبل. وصار الناس يستغيثون طلبا للفرج وقبولا باي وسيلة ترفع عنهم المعاناة مهما كانت والتقت رؤى المصالح الدولية واماني العراقيين في المنافي في الخلاص من واقع العراقيين القاسي

وجاء الفتح في 2003 – ولكنه ليس فتحاً على يد أبناء الوطن فهم قد ثاروا في 1991 واعطوا تضحيات كبيرة جداً ولكن بسبب الضغط الخليجي والسعودي على الاخص تخلت أمريكا عن العراقيين وتأمرت عليهم دول الإقليم ومكنوا النظام الذي كان على شفة حفرة السقوط ان يستعيد الته القمعية التي مارسها بعشرة اضعاف ما كان يفعله قبل 1991وتراجعت جحافل المعارضة الى منافيها يائسة ولم نسمع ألا بضع عمليات بسيطة كانت تحصل بين فترة وأخرى

وتحقق اجتماع للمعارضة في اكثر من عاصمة للإفادة من تلك التضحيات الكبيرة كمغانم سياسية خاصة لتلك الشخصيات والاحزاب ولكن الأجانب استغلوا اضطرارهم واملوا عليهم ارادتهم واخذوا عليها تواقيعهم فأسقطوا النظام المقيت وتكسرت المقصلة وازهقت الديكتاتورية وانهارت جمهورية الرعب والزنازين ونظام الاسترقاق وفرح الناس على حلم قيام نظام وطني ديمقراطي حر مستقل يشارك فيه كل ابناء البلد بإعادة البناء لان التجربة الديمقراطية اقيمت على بنى تحتية مدمرة قيمياً كانت قد صنع دمارها ظروف بالغة التعقيد للإنسان العراقي (1958 – 2003) لكن الماساة

أن تجربتنا السياسية بعد سقوط نظام القتلة لم تفكر في فلسفة قيمية جديدة للمجتمع المتصدع لإسعافه وإنعاشه وبناء أجياله الجديدة على أسس النهوض والإيثار والصدق والمواطنة، فلقد اختارت هذه التجربة ان تنطلق من ( واقع أنساني قيمي مدمر)، فسقطت في وعي سياسي مشوه ولم تتفهم مشكلات الوطن. ومما زاد في البلاء ان كثيراً من أهل الحل والعقد صاروا يراهنون على بقاء جهل الغالبية بل لعلهم اسهموا في زيادة التجهيل، ولم يكونوا يبالون بغيبوبة الوعي، وتفشي القيم الهابطة، لأنهم لا يزالون في اجواء الخطاب الذي يحشد وليس الذي يبني الوعي وها نحن نحصد كل ذلك: فقد تضاءلت في نفوس أهلنا قضية المشروعية، وخبت بواعث الواجب وصارت مطامع الافراد هي الحق والقانون اما المصلحة العامة والمستقبل وحقوق الفقراء والأيتام فهي مثالية وطوباوية عند الساسة الجدد.

وصار: من يقف بوجه ثقافة (( الأستغنام)) من رجال السلطة الذين حولوا المال العام والثروات الى (غنائم) متهماً بانه ضد التجربة التحررية الديمقراطية ومن يقف بوجه هذا التوجه يجب ان يقصى وان يكون بعيداً ذلك لان تلك الكتل التي تصنع القرار لا تفكر الا بالانتهاب المنظم وغير المنظم سواء على مستوى المال العام، أو على مقتربات المال العام (الوظائف والمناصب).

لكل ذلك غاب عن فكر المتصدين جميعاً احترام الكفاءة والمعيارية، والحرفية والممارسة المهنية، وتحولت كل تلك القيم الى كلمات بلا مضمون عندهم متى احتاجوا إليها رددوها تقية، وفعلوا خلافها،

أذن: دعونا نواجه أنفسنا بما حصل في التكون القيمي للشخصية العراقية، ونعترف – رغم مرارة هذا الاعتراف أننا بحاجة الى برنامج تعليمي – أخلاقي - معرفي يعيد لنا (ما افتقدناه) من قيم الصدق والمواطنة والتضامن والاحتشاد من اجل الاستقامة والرفاهية والدولة الرشيدة... والمستقبل الواعد. وهذا يتطلب:

1-  ان يكون لدولتنا فلسفة بدءاً من الدستور الى صلاحيات كل السلطات.

2-  وان تكون لدولتنا بكل مؤسستها رؤية وأهداف وبرامج، وخطط معيارية معلنة يحاسبون عليها يكمل بعضها بعضا نحو صنع الإنسان المتحرر من اثار العقود الثلاث المرة، ثم حماية الوطن والامة من الاستقواء بالخارج والتنمر على ابناء البلد

3-  ان تكون للتعليم – بكل مراحله فلسفة وهدفاً يرتكز حول – بناء الشخصية الإنسانية الرفيعة ويكون ذلك المعيار في النجاح والفشل.

4-  وان تتزايد الدراسات من اجل اكتشاف أفضل الوسائل نحو خلق مواطن يعشق وطنه، ويعمل لحاضره ومستقبله، ويضحي من اجله ويحلم بكبريائه ومجده.

5-  وان توجه كل وسائل الإعلام ضمن حملة وطنية منظمة نحو إدانة السلوك الذي خلقته تجربة العسكر والجهل والرعب والظلامية (1958-2003).

الخلاصة: نحن بحاجة ان نعيد صناعة الإنسان في العراق فهذا هو الطريق الانجح لمقاومة الفساد الذي فشلت كل وسائلنا المعاصرة في إيقافه، وهو الطريق الافضل لمكافحة الإرهاب الذي عجزنا ان نقنع المغرر بهم أنهم واهمون، والوسيلة الناجحة لمنازله سلوكيات الاستغنام في أروقة السلطة.

هذه دعوة نوجهها للإخوة العلماء والباحثين ان يفكروا بها تفكيراً جاداً ومبدعاً وان تسطر أقلامهم – أوراقاً عملية تلتمس الطريق في ضوء بصيص من نور ينير عقولنا لرؤية غدٍ كريم لكي يصبح العراق: بلداً فيه تجربة حضارية مرموقة بين الشعوب.

***

ا. د. عبد الأمير كاظم زاهد

 

لماذا سيكون الانهيار المالي القادم اكثر سوءاً عندما تبقى أمريكا على الهامش؟

للعولمة هناك دائما نقادها لكن هذه الانتقادات مؤخرا جاءت بشكل رئيسي من اليسار بدلا من اليمين. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، حينما نما الاقتصاد العالمي بسرعة تحت هيمنة الولايات المتحدة، جادل العديد من اليسار بان مكاسب العولمة لم تكن عادلة في التوزيع، زادت من اللامساواة في الدول الغنية بينما أجبرت الدول الفقيرة لتنفيذ سياسات السوق الحر مثل فتح أسواقها المالية وخصخصة صناعاتها الوطنية ورفض سياسات التوسع المالي لأجل تسديد الديون – جميعها صبت في مصلحة البنوك والشركات الامريكية.

لم يكن هذا قلقا جديدا. رجوعا الى عام 1841، جادل الاقتصادي الألماني فردريك لست Friedrich List بان التجارة الحرة صُممت لمنع تحدي الهيمنة البريطانية العالمية، مشيرا:

"عندما يحصل أي شخص على قمة العظمة، سيركل السلّم الذي يصعد به لكي يحرم الاخرين وراءه من وسائل التسلق.." وفي أعوام 1990، جادل منتقدو الرؤية الامريكية للنظام العالمي مثل الحائز على جائزة نوبل الاقتصادي جوزيف ستجلز ان العولمة في شكلها الحالي أفادت الولايات المتحدة على حساب الدول النامية والعمال – بينما المؤلف والناشط نعومي كلاين Naomi Klein ركز على النتائج البيئية والثقافية السلبية للتوسع المعولم للشركات المتعددة الجنسية.

اندلعت تظاهرات واسعة يقودها اليسار فعطلت الاجتماعات الاقتصادية العالمية التي من بينها اجتماع منظمة التجارة العالمية عام 1999. اثناء "معركة سياتل" هذه أدى العنف المتبادل بين المحتجين والشرطة الى منع بدء دورة جديدة للاجتماع حول التجارة التي كانت نالت الدعم من الرئيس الأمريكي بل كلينتون. بعد وقت قصير، بدا الائتلاف الواسع للنقابيين والبيئيين ومعارضو الرأسمالية مستعدا لتحدي المسار نحو عولمة أخرى – مع احتجاجات مناهضة للرأسمالية انتشرت حول العالم في اعقاب الازمة المالية لعام 2008.

في الولايات المتحدة، هناك انتقاد آخر للعولمة تركز على تأثيراتها المحلية على العمال الأمريكيين – اي، خسارة الوظائف وقلة الأجور – قادت للدعوة لمزيد من الحماية. وعلى الرغم من انها قادها في البدء النقابيون وبعض السياسيين الديموقراطيين، لكن هذا النقد تدريجيا اكتسب شعبية في حلقات اليمين الراديكالي الذين عارضوا إعطاء أي دور للمنظمات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية، على أساس انها تمس السيادة الامريكية. طبقا لهذه الرؤية فان وقف المنافسة الأجنبية التي خفضت أجور عمل العمال الأمريكيين ربما يؤدي الى استعادة الازدهار. الهجرة كانت هدف آخر.

في ظل إدارة ترامب الثانية للولايات المتحدة، هذه الانتقادات تحولت الى سياسات اجتماعية واقتصادية راديكالية مزعجة للغاية – مع تعريفات كمركية وحماية فان عمل كهذا، رغم عظمته في المسرح العالمي أكد ما كان واضحا منذ فترة طويلة لمراقبي السياسة الامريكية عن كثب: ان قرن أمريكا من الهيمنة العالمية ودولار كعملة رقم واحد، يقترب بسرعة من نهايته.

وحتى قبل دورة ترامب الأولى في السلطة عام 2017، بدأت أمريكا الانسحاب من دورها القيادي في المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية. الجزء الأقوى في اقتصادها، قطاع التكنلوجيا العالية، تحت ضغط مكثف من الصين التي اقتصادها هو سلفا اكبر من اقتصاد الولايات المتحدة بمقياس واحد أساسي هو الناتج المحلي الإجمالي GDP. في تلك الاثناء، غالبية المواطنين الأمريكيين يواجهون دخولا راكدة وأسعار عالية والمزيد من الوظائف المهددة بالزوال.

في القرون السابقة، عندما وصلت فرنسا أولا وبريطانيا العظمى ثانيا الى نهاية عصرهما في الهيمنة على العالم، هذه التحولات كان لها تأثيرات مؤذية تتجاوز حدودهما. هذه المرة، ومع الاقتصاد المعولم المتكامل اكثر من أي وقت مضى ولا وجود لقوة مهيمنة واحدة في الكواليس تتولى زمام الأمور، فان التأثيرات يمكن ان تتسع اكثر وبأضرار كبيرة ان لم تكن كارثية.

لماذا لا احد مستعد لشغل مكان الولايات المتحدة؟

عندما يتعلق الامر بتولّي المسؤولية من الولايات المتحدة كأكبر قوة مهيمنة في العالم، فان المرشح الوحيد الحيوي ذو الاقتصاد الكبير بما يكفي هو اما الاتحاد الأوربي اوالصين. لكن هناك أسباب قوية للشك بقدرة أي منهما في تولي هذا الدور رغم حقيقة ان إستراتيجية جو بايدن للأمن القومي عام 2022 اعتبرت الصين: "المنافس الوحيد من حيث رغبتها بإعادة صياغة النظام الدولي والحجم المتزايد لقوتها الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنلوجية للقيام بهذا".

 خليفة بايدن،الرئيس ترامب بدا غيورا من جهود قادة الصين نحو اقتصادهم القومي، وحقيقة انهم لا يواجهون انتخابات وحدود لفترتهم في الحكم. لكن الحزب الواحد، ونظام سياسي توتاليتاري يفتقر لضوابط الفصل بين السلطات هو سبب رئيسي يجعل من الصعب للصين ان تحصل على الهيمنة الثقافية والسياسية بين الأمم الديمقراطية التي تشكل جزءا من تحقيق المركز الأول عالميا رغم النفوذ الذي استخدمته سلفا في أجزاء كبرى من اسيا وافريقيا.

 لاتزال الصين تواجه تحديات اقتصادية كبيرة أيضا. وبينما هي سلفا قائد عالمي في البضائع المصنعة (تتحرك بسرعة نحو السلع ذات التكنلوجيا العالية) وهي اكبر مصدر عالمي، اقتصادها لايزال غير متوازن للغاية – قطاع استهلاكي اصغر، وسوق ملكية ضعيف، والعديد من الصناعات الحكومية غير الفعالة وذات المديونية العالية، وقطاع مالي صغير مقيد بملكية الدولة. ولا تمتلك الصين أيضا عملة عالمية رغم محاولاتها المحدودة لجعل الين عملة دولية.

وكما يشير الباحث الصحفي ستيفن في رحلة صحفية الى شنغهاي عام 2007 للتحقيق بتأثيرات العولمة، ان هناك أيضا اختلافات هائلة بين المدن الساحلية المزدهرة في الصين – التي تنافس نيويورك وباريس – والفقر النسبي في المناطق الداخلية وخاصة المناطق الحضرية. لكن تقريبا بعد عقدين من تلك الزيارة، انخفضت نسبة نمو البلاد والعديد من طلاب الجامعة الشباب هم أيضا يجدون من الصعب الان العثور على وظائف جيدة الأجور.

اما اوربا - المنافس الوحيد لشغل مكان الولايات المتحدة العالمي – هي منقسمة سياسيا بعمق، مع اقتصاديات اصغر واضعف في الشرق والجنوب ما يثير الشك كثيرا حول فوائد العولمة، فهي منقسمة باستمرار حول قضايا الهجرة وحرب أوكرانيا. التحديات هي في تحقيق اتفاق سياسي واسع بين كل الدول الأعضاء، ومشكلة منْ يستطيع التحدث عن اوربا، مما يجعل من غير المحتمل ان الاتحاد الأوربي حاليا يمكن ان يبدأ ويفرض نظام عالمي جديد بذاته.

ان النظام المالي للاتحاد الأوربي أيضا يفتقر لثقل الولايات المتحدة. رغم انه يمتلك عملة مشتركة (يورو) تدار من جانب البنك المركزي الأوربي، فان نظام الاتحاد المالي اكثر تشظيا. بنوك تُنظم قوميا، وكل بلد يصدر سنداته الحكومية الخاصة (رغم ان القليل من سندات اليور موجودة الان). هذا يجعل من الصعب لليورو استبدال الدولار كمخزن للقيمة، ويقلل الحوافز للأجانب للاحتفاظ بيورو كعملة احتياطية بديلة.

في هذه الاثناء، أي احتمالات مستقبلية لإعادة تجديد القيادة العالمية الامريكية تبدو أيضا غير واعدة. سياسة ترامب في خفض الضرائب مع زيادة حجم دين الحكومة الامريكية – الذي الان يقف عند 38 ترليون دولار امريكي، او 120% من الناتج المحلي الإجمالي – يهدد كل من استقرار الاقتصاد العالمي ومقدرة الولايات المتحدة على تمويل هذا العجز الكبير جدا والذي يصعب تصوره.

من الواضح ان إدارة ترامب تبيّن ان لا مصلحة لها في الإنعاش او حتى الانخراط في العديد من المؤسسات المالية الدولية التي سيطرت عليها أمريكا يوما ما، والتي صاغت انظام الاقتصادي العالمي – كما عبر عن ذلك جيميسون جرير Jamieson Greer الممثل التجاري للولايات المتحدة بازدراء في صحيفة نيويورك تايمز مؤخرا:

"نظامنا العالمي الحالي الغير معروف، الذي تهيمن عليه منظمة التجارة العالمية والذي صُمم نظريا لتطبيق كفاءة اقتصادية وتنظيم السياسة التجارية لـ 166 بلدا من الدول الأعضاء، هو لا يمكن الدفاع عنه وغير مستدام. الولايات المتحدة دفعت لهذا النظام بخسارة الوظائف الصناعية والأمن الاقتصادي، والرابح الأكبر كان الصين."

وبينما لم تنسحب الولايات المتحدة من صندوق النقد الدولي حتى الان، فان إدارة ترامب جادلته ليدعو الصين لإدارة هذا الفائض التجاري الكبير، وتتخلى عن مخاوفها حول تقلبات المناخ. جرير استنتج ان الولايات المتحدة "اخضعت ضرورات امننا القومي والاقتصادي لأدنى قاسم مشترك للإجماع العالمي".

عالم بدون قطب مهيمن احادي

لكي نفهم الاخطار المحتملة امامنا يجب ان نعود لأكثر من قرن الى آخِر مرة لم تكن فيها هيمنة عالمية. في ذلك الوقت انتهت اول حرب عالمية رسميا بتوقيع معاهدة فرساي في حزيران 1919، وحينها انهار النظام الاقتصادي العالمي. بريطانيا قائد العالم في القرن السابق، لم تعد تمتلك نفوذا لفرض نسختها من العولمة.

الحكومة البريطانية كانت مثقلة بديون هائلة استخدمتها لتمويل الحرب، اُجبرت لعمل تخفيضات كبيرة في الانفاق العام. في عام 1931 واجهت الحكومة ازمة الباوند: الباوند كان يجب ان تُخفض قيمته عندما خرجت المملكة المتحدة من نظام الذهب على الرغم من الاستسلام لمطالب المصرفيين الدوليين في قطع مدفوعات البطالة. كانت هذه اخر إشارة بان بريطانيا فقدت موقعها المهيمن في النظام الاقتصادي العالمي.

كانت الثلاثينات 1930 زمن الاضطراب السياسي العميق في بريطانيا والعديد من الدول الأخرى. في عام 1936 نظّم العمال العاطلين في مدينة جارو في شمال شرق اتجلترا الذين بلغت نسبة البطالة بينهم 70% بعد غلق حوض السفن فيها، "مسيرة جوع" غير سياسية الى لندن أصبحت تُعرف بحملة جارو الصليبية. اكثر من 200 رجل ساروا بسلام لمسافة 200ميل، حصلوا على دعم كبير على طول الطريق. مع ذلك، عندما وصلوا الى لندن تجاهل رئيس الوزراء ستانلي بالدوين مطالبهم – وتم ابلاغ المحتجين ان أموالهم المستحقة سيتم خصمها لأنهم لم يكونوا جاهزين للعمل في الأسبوعين الماضيين.

اوربا أيضا كانت تواجه ازمة اقتصادية شديدة. بعد ان رفضت الحكومة الألمانية دفع التعويضات المتفق عليها في معاهدة فرساي عام 1919 قائلة انها ستؤدي الى اقلاس اقتصادها، احتل الجيش الفرنسي قلب المانيا الصناعية في روهر Ruhr والعمال الالمان خرجوا للاضراب مدعومين بحكومتهم. الصراع اللاحق غذى التضخم المفرط في المانيا. في شهر نوفمبر عام 1923 احتاج الناس الى 200 الف مليون مارك لشراء رغيف خبز، وقُضي على المدخرات وتقاعد الطبقة الوسطى من الالمان. في ذلك الشهر، عمل ادولف هتلر اول محاولة للسيطرة على الحكم في "انقلاب قاعة البيرة" الفاشل في ميونخ.

بالمقابل، وعبر الأطلسي، كانت الولايات المتحدة تستمتع بفترة ازدهار ما بعد الحرب، بسوق أوراق مالية مزدهر ونمو انفجاري في الصناعات الجديدة مثل صناعة السيارات. لكن رغم بروزها كقوة اقتصادية عالمية قوية، كونها موّلت الكثير لجهود حرب الحلفاء، كانت غير راغبة لتولّي زمام القيادة الاقتصادية العالمية.

جمهوريو لكونغرس الأمريكي، أغلقوا خطة الرئيس ودرو ويلسون لعصبة الأمم، بدلا من ذلك احتضنوا العزلة وغسلوا أيديهم من مشاكل اوربا. الولايات المتحدة رفضت الغاء او تقليل ديون الحرب المستحقة على دول التحالف، التي بالنهاية رفضت تسديد تلك الديون. وكرد فعل انتقامي، منع الكونغرس الأمريكي جميع البنوك الامريكية من اقراض نقود لأولئك الذين هم ضمن التحالف.

بعد ذلك، في عام 1929، توقف فجأة عصر موسيقى الجاز الأمريكي المزدهر مع انهيار سوق الأسهم الذي فقد نصف قيمته. فورد اكبر المصنعين في البلاد اغلق ابوابه لمدة سنة متخليا عن جميع عماله. ومع بطالة ربع السكان وطوابير طويلة للحصول على شوربة الدجاج التي لوحظت في كل مدينة، تجمّع أولئك الذين طُردوا في مخيمات حيثما استطاعوا – بما في ذلك الحديقة المركزية في نيويورك.

في المناطق الريفية كان انهيار الأسعار الزراعية يعني عدم استطاعة الفلاحين العيش، فلاحون مسلحون أوقفوا شاحنات الحليب والطعام وحطموا محتوياتها في محاولة عبثية لتقليل العرض ورفع الأسعار. وفي مارس 1933 عندما تسلّم الرئيس روزفلت السلطة، توقف تماما كل النظام المصرفي الأمريكي، ولا احد قادر على سحب نقود من حسابه المصرفي.

مع تركيزها على الكساد الكبير المدمر، رفضت الولايات المتحدة التورط في محاولات الشركات الاقتصادية الدولية. وبدون تحذير، انسحب الرئيس روزفلت من مؤتمر لندن عام 1933 الذي دعا لتأسيس عملات عالمية – مرسلا رسالة تشجب " الأوهام القديمة لما سمي بالمصرفيين الدوليين". ومع خروج الولايات المتحدة بعد بريطانيا من نظام الذهب، أدى ذلك الى حروب عملة فاقمت الازمة واضعفت مرة أخرى الاقتصادات الاوربية. وعندما عادت الدول الى السياسات التجارية للحماية وحروب التجارة، تقلصت التجارة العالمية بشكل دراماتيكي. الموقف في وسط اوربا اصبح أسوأ حيث ان انهيار بنك انستالت النمساوي عام 1931 كان له صدى في كل المنطقة. في المانيا ومع تصاعد البطالة الواسعة، تعرضت الأحزاب الوسطية للضغط واندلعت اعمال شغب مسلحة بين الشيوعيين وانصار الفاشية. عندما جاء النازيون الى السلطة ادخلوا سياسة الاكتفاء الذاتي فقطعوا الروابط مع الغرب لبناء ماكنتهم العسكرية.

مهدت المنافسات والخصومات الاقتصادية التي اضعفت الاقتصادات الغربية الطريق لصعود الفاشية في المانيا. وبمعنى ما، هتلر المعجب بالامبراطورية البريطانية كان يطمح ليكون القوة الاقتصادية والعسكرية المهيمنة القادمة، ليخلق امبراطوريته الخاصة عبر القوة والاستغلال القاسي لموارد بقية اوربا. وبعد قرن تقريبا، كانت هناك بعض التشابهات مع فترة ما بين الحربين تلك. مثلما أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى، يصر ترامب على ان الدول التي ساعدتها أمريكا عسكريا هي الان مدينة ويجب ان تدفع نقود مقابل هذه الحماية. هو يريد تشجيع حروب العملة عبر تخفيض قيمة الدولار ويضع عوائق حمائية لحماية الصناعة المحلية. في اعوام العشرينات 1920 قلصت الولايات المتحدة الهجرة بشدة على أسس تحسين النسل، لتسمح فقط للمهاجرين من دول شمال اوربا التي (جادل علماء تحسين النسل) انها سوف لن تلوث العرق الأبيض.

من الواضح، ان ترامب لا ينظر الى قلة التعاون الدولي الذي قد يعمق الاثار الاقتصادية الضارة لإنهيار سوق الأسهم والسندات كمشكلة يجب ان تنال اهتمامه. وفي عالم اليوم المضطرب، ونظرا لفشل الولايات المتحدة في الماضي كقائد عالمي، سيكون هذا الموقف مقلق للغاية.

كيف استجابت الولايات المتحدة للازمة المالية الأخيرة؟

مرة أخرى، تنهار قواعد النظام الدولي. بينما من الممكن ان لا يتم تبنّي اتجاه ترامب بالكامل من جانب خليفته في البيت الأبيض، فان الاتجاه في الولايات المتحدة سيبقى في النهاية مشكوكا فيه حول منافع العولمة، والدعم المحدود لأي قواعد اقتصادية او مبادرات عالمية. نحن نرى شك مشابه حول منافع العولمة يبرز في دول أخرى، وسط صعود أحزاب اليمين الشعبوي في معظم اوربا وجنوب أمريكا – التي نال العديد منها دعم ترامب. ان ما يغذي دعم هذه الأحزاب هو المخاوف المتزايدة بشان عدم المساواة في الدخل وبطء النمو والهجرة التي لم تُعالج من جانب النظام السياسي الحالي – وجميعها ستتفاقم في اول ازمة اقتصادية عالمية جديدة. مع اقتصاد معولم ونظام مالي اكبر من أي وقت مضى، فان ازمة جديدة ستكون أشد بكثير من ازمة عام 2008 عندما بقي العالم يتأرجح على حافة الانهيار بعد فشل النظام المصرفي.

ان حجم هذه الازمة كان غير مسبوق، لكن كبار المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين تحركوا بجرأة وبسرعة. كمراسل للبي بي سي في واشنطن يقول ستيف شيفير انه حضر جلسة استماع للجنة الخدمات المالية في مجلس النواب بعد ثلاثة أيام من افلاس بنك ليمان بروذر، وشل النظام المالي العالمي، لكي نجد جواب الإدارة. هو يتذكر الصورة الصادمة على وجه رئيس اللجنة بارني فرانك عندما سأل رئيس الخزانة الامريكية هانك بولسون ورئيس الاحتياطي الفيدرالي بن برنانكي كم من النقود تحتاجون لإعادة الاستقرار:

أجاب ببرود "دعنا نبدأ بواحد ترليون دولار امريكي". "لكن نحن لدينا 2 ترليون دولار أخرى في ميزانيتنا لو احتجنا اليها".

بعد ذلك بوقت قصير، وافق الكونغرس الأمريكي على حزمة انقاذ بـ 700 بليون دولار بينما لم يخرج الاقتصاد العالمي بعد من هذه الازمة، وسيكون الموقف اكثر سوءا من الثلاثينات لو لم يحصل هذا التدخل.

الحكومات حول العالم انهت التعهد بـ 11 ترليون دولار لضمان سيولة نظامها المصرفي، حيث وضعت المملكة المتحدة مبلغ مساوي لناتجها المحلي الإجمالي السنوي. ولكن ليس فقط الحكومات. في قمة العشرين في لندن في ابريل 2009، تأسس تمويل جديد مقداره 1.1 ترليون دولار من جانب صندوق النقد الدولي لتهيئة نقود للدول التي تعاني من مشاكل مالية. قمة العشرين أيضا وافقت على فرض معايير تنظيمية اكثر صرامة على البنوك والمؤسسات المالية الأخرى التي تعمل على تطبيقها عالميا لتحل محل التنظيم المصرفي الضعيف الذي كان من اهم أسباب الازمة. يقول المراسل الاقتصادي في تلك القمة، انه يتذكر الاثارة الواسعة والتفاؤل في ان العالم بالنهاية عمل مجتمعا لمعالجة المشاكل العالمية بضيافة رئيس الوزراء جوردن براون، الذي كان يتألق كمنظم للقمة.

وخلف المسرح، كان الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أيضا يعمل لإحتواء الازمة بتمرير هادئ لمصارف مركزية أخرى قرابة 600 بليون دولار في "مقايضة للعملات" لضمان ان يكون لديهم الدولار الذي يحتاجونه لتمويل نظامهم المصرفي الخاص بهم. ان بنك إنجلترا اقرض سرا البنوك البريطانية 100 بليون باوند لضمان عدم انهيارها، رغم ان اثنين من بين أربعة مصارف كبرى ناتويست ولويدز كان لابد في النهاية من تأميمهما (بدرجات مختلفة) للإبقاء على استقرار النظام المالي.

مع ذلك، فان حزم الإنقاذ هذه للبنوك مع ان الحاجة اليها كبيرة لاستقرار الاقتصاد العالمي، لكنها لم تمتد للعديد من ضحايا الانهيار – مثل الـ 12 مليون رب منزل امريكي الذين تقدر حاليا قيمة بيوتهم بأقل من قيمة الرهن العقاري الذي تسلموه. او ان 40% من ارباب المنازل واجهوا اضطرابا ماليا اثناء فترة الـ 18 شهر بعد الانهيار. وان تداعيات الازمة كانت اكبر لأولئك الذين يعيشون في الدول النامية.

وبعد عدة شهور من بدء ازمة عام 2008 المالية، سافر الصحفي الى زامبيا البلد الافريقي المعتمد كليا على صادرات النحاس للحصول على الصرف الأجنبي. يقول انه زار منجم نحاس لوانشيا Luanshya قرب مدينة ندولا الذي يتوفر فيها حزام النحاس. مع انهيار الطلب على النحاس (يُستعمل بشكل رئيسي في البناء وصنع السيارات)، جميع مناجم النحاس أغلقت. عمالها ذوي الأجور الجيدة في زامبيا اجبروا على مغادرة أماكن عملهم المريحة والعودة للمشاركة مع أقاربهم في لوساكا بدون أجور. حكومة زامبيا أجبرت لإغلاق خطط تقليل الفقر التي كان يجب تمويلها من أرباح التعدين. ان انهيار الصادرات أيضا أضر بالعملة الزامبية التي انخفضت بشدة. هذا ضرب بشدة أفقر الناس في البلاد لأنه رفع أسعار الغذاء التي معظمها كان مستوردا.

يقول أيضا انه زار مزرعة زهور قرب لوساكا، وحيث يقيم مغتربان هولنديان انجيليلك وويز السينجا كانا يزرعان الزهور للتصدير لمدة تفوق العقد – يوظفان اكثر من 200 عامل مُنحوا إسكان وتعليم. ومع انهيار سوق ازهار يوم الحب، فان مصرفهما، باركلي جنوب افريقيا، فجأة أمرهم بدفع فوري لجميع قروضهم مجبرا اياهما لبيع مزرعتهما وطرد العمال. في النهاية، تطلب الامر استلام قرض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مقداره 3.9 بليون دولار لإعادة الاستقرار للاقتصاد الزامبي.

عندما تندلع ازمة مالية عالمية أخرى فمن الصعب رؤية إدارة ترامب او الإدارات اللاحقة تتعاطف مع الدول النامية، او السماح للاحتياطي الفيدرالي بإقراض مبالغ كبيرة للمصارف المركزية الأجنبية مالم تكن منسجمة سياسيا مع ترامب، مثل الارجنتين. ومن غير المحتمل أيضا ان يعمل ترامب مع دول أخرى لتطوير حزمة انقاذ عالمية بترليون دولار لمساعدة وحماية الاقتصاد العالمي. بدلا من ذلك، هناك قلق حقيقي بان أفعال متهورة من ترامب مع تنظيم عالمي ضعيف للأسواق المالية قد يشعل الازمة العالمية المالية القادمة.

ماذا يحدث لو انهار سوق السندات الامريكية؟

مؤرخو الاقتصاد يتفقون على ان الكوارث المالية شائعة في تاريخ الرأسمالية العالمية، وهي كانت تزداد باستمرار منذ "العولمة المفرطة" في السبعينات. بدءا من ازمة ديون أمريكا اللاتينية في الثمانينات الى ازمة العملة الاسيوية في أواخر التسعينات وانهيار سوق اسهم دوت كوم الأمريكي في بداية 2000، الازمات دمرت بانتظام الاقتصادات والبلدان حول العالم.

اليوم، المخاطرة الكبرى هي انهيار سوق سندات الخزانة الامريكية التي تدعم النظام المالي العالمي ومنخرطة في 70% من الإجراءات المالية العالمية مع البنوك والمؤسسات المالية الأخرى. هذه المؤسسات اعتبرت لوقت طويل ان سوق السندات الأمريكي قيمته 30 ترليون دولار كملاذ آمن لأن "سندات الدين" هذه مسنودة بالمصرف المركزي الأمريكي، (الاحتياطي الفيدرالي).

باستمرار، ان "نظام الظل المصرفي" غير المنظم – قطاع يشكل حاليا اكبر من المصارف العالمية المنظمة – هو مشترك بعمق في سوق السندات. المؤسسات من غير البنوك المالية مثل الأسهم الخاصة وصناديق التحوط وراس المال الاستثماري وصناديق التقاعد هي غير منظمة وخلافا للبنوك، غير مطلوب منها الاحتفاظ باحتياطي. توترات سوق السندات هو سلفا يقلق الأسواق المالية العالمية والتي قد يؤدي تفككها الى اندلاع ازمة مصرفية بحجم ازمة عام 2008 – في معاملات اقراض كبيرة من جانب هذه المؤسسات المالية غير المصرفية مما يجعلها عرضة للخطر.

مشترو السندات الامريكية هم أيضا اصابهم الخوف من خطط إدارة ترامب في زيادة العجز الأمريكي الى حجم اكبر لدفع تخفيضات الضرائب – مع دين وطني الان يُتوقع ان يرتفع الى 134% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2035، صعودا من 120% عام 2025. عندما يقود هذا الى رفض واسع لشراء المزيد من السندات الامريكية بين المستثمرين القلقين، فان قيمتها سوف تنهار وسوف ترتفع جدا أسعار الفائدة في كل من الولايات المتحدة والعالم.

حاكم بنك إنجلترا، اندريه بالي، حذر مؤخرا من ان الموقف له صدى مزعج لأزمة عام 2008"، بينما رئيسة صندوق النقد الدولي كريستالينا جور جيفا قالت ان خوفها من انهيار أسواق الائتمان الخاص يجعلها لا تنام الليل.

الموقف السيء يتحول الى أسوأ عندما تفاقم مشاكل سوق السندات الهبوط الحاد في قيمة الدولار. العملة العالمية المثبت فيها سعر الصرف "anchor currency"لم تعد مخزن آمن للقيمة الامر الذي يقود الى مزيد من سحوبات المال من سوق سندات الخزينة الامريكية، حيث تحتفظ العديد من الحكومات الأجنبية باحتياطياتها فيه.

الدولار الضعيف سيجعل أيضا السلع المستوردة باهضة جدا للمستهلكين الأمريكيين بينما يرفع من صادرات البلاد. هذا بالضبط المسار الذي دعا له ستيفن ميران رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس ترامب والذي يبدو أراده ترامب ان يكون الرئيس القادم للاحتياطي الفيدرالي.

احد الأمثلة عن ما سيحدث عندما يصبح سوق السندات غير مستقر حدث عندما أعلنت رئيسة وزراء بريطانيا ليز تروس (في اقصر فترة حكم لرئيس وزراء بريطاني) خفض هائل في الضرائب غير الممولة في ميزانية عام 2022، مما سبب انخفاض في قيمة سندات الحكومة البريطانية (المقابل لسندات الخزينة الامريكية) عندما ارتفعت أسعار الفائدة. وخلال أيام اُجبر بنك إنجلترا لوضع 60 بليون باوند كتمويل انقاذ لتجنب انهيار صناديق التقاعد البريطانية الكبيرة.

وفي حالة انهيار سوق سندات الخزينة الامريكية هناك مخاوف متصاعدة بان الحكومة الامريكية ستكون غير قادرة او غير راغبة للعمل لتخفيف هكذا ضرر.

عصر جديد من الفوضى المالية

ان الخوف من انهيار سندات الخزانة الامريكية هو انها وفق المستويات التاريخية حاليا مبالغ جدا في قيمتها. الزيادة الأخيرة الهائلة في القيمة الكلية لسوق السندات الامريكية جاءت كليا بواسطة الشركات "السبع الرائعة" للتكنلوجيا التي لوحدها تشكل ثلث القيمة الكليه للسوق. اذا كان رهان الشركات الكبير على الذكاء الصناعي ليس مربحا كما يدّعون، او طغى عليها نجاح أنظمة الذكاء الصناعي الصينية، فان انحدارا حادا مشابها لانهيار دوت كوم لعام 2000-2002 سيحدث أيضا.

جيمي ديمون رئيس اكبر بنك امريكي جي بي مورغان تشيس قال انه "خائف اكثر من الخبراء الاخرين حول تصحيح خطير للسوق قد يأتي في الستة اشهر او السنتين القادمة.

مدراء التكنلوجيا الكبار كانوا شديدي التفاؤل في السابق. يتحدثون من وادي السليكون عام 2001 عندما كانت دوت كوم تنفجر. علاوة على ذلك، التقييمات العالية لاسهم شركاتهم سمحت لهم بشراء منافسيهم، وبهذا يقلصون المنافسة – تماما مثل شركات جوجل وميتا (فيسبوك) استعملت أسهمها العالية القيمة لشراء أصول بارزة ومنافسين محتملين مثل يوتيوب، واتساب، انستجرام، وديب مايند. التاريخ يشير الى ان هذا دائما سيء للاقتصاد في المدى الطويل.

وفي ظل وجود الشركات والعالم المالي الشديد الترابط حاليا، ليس فقط ازدادت الازمات المالية في النصف الأخير من القرن، وانما كل ازمة أصبحت اكثر ترابطا. ان ازمة عام 2008 بيّنت مدى خطورة ذلك: ازمة المصارف العالمية حفزت سقوط سوق الأسهم وانهيار في قيمة العملات الضعيفة، وأزمة ديون في الأقطار النامية - وفي النهاية، ركود عالمي اخذ سنينا قبل الخروج منه.

آخر تقرير لصندوق النقد الدولي عن الاستقرار المالي لخص الموقف بعبارات مخيفة، مسلطا الضوء على زيادة مخاطر الاستقرار كنتيجة "لتقييم مبالغ فيه للأصول، وزيادة الضغط في سوق السندات السيادية، وزيادة دور المؤسسات المالية غير المصرفية. وبالرغم من سيولتها الكبيرة، فان أسواق الصرف الأجنبي العالمية تبقى حساسة لعدم اليقين المالي الكلي".

يُعتقد اننا ربما دخلنا عصر جديد من فوضى مالية مستديمة نُثرت فيها بذور موت العولمة وان استجابة ترامب لها في النهاية تحطم النظام السياسي والاقتصادي العالمي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية. تعريفات ترامب الكمركية والمطبقة بشكل متقطع والتي كانت تستهدف الصين بقوة جعلت سلفا من الصعب إعادة تشكيل سلاسل التوريد. وما هو اكثر اثارة للخوف ربما الصراع على التحكم بالمواد الخام الاستراتيجية مثل المناجم النادرة المطلوبة للصناعات عالية التكنلوجيا، ومنع الصين لصادراتها وتهديد الولايات المتحدة بالمقابل بفرض 100% تعريفة كمركية (بالإضافة الى الامل باحتلال غرينلاند بما فيها من معادن غير مستغلة حتى الان).

هذا الصراع على المناطق النادرة، حيوي لشرائح الكومبيوتر المطلوبة للذكاء الصناعي، ربما أيضا يهدد القيمة السوقية لأسهم التكنلوجيات العالية مثل نفيدا Nvidia اول شركة تتجاوز قيمتها 4 ترليون دولار. ان المعركة للسيطرة على المواد الخام الحيوية قد تتصاعد. هناك خطر في بعض الحالات، ان تصبح حروب التجارة حروبا واقعية – مثلما حصل في العصر السابق للتجارية. العديد من الصراعات الإقليمية الحالية والحديثة من حرب العراق الأولى التي سعت للسيطرة على حقول النفط في الكويت، الى الحرب الاهلية في السودان للسيطرة على مناجم الذهب في البلاد، تتجذر في الصراعات الاقتصادية.

ان تاريخ العولمة في القرون الأربعة الماضية يشير الى ان حضور القوة العظمى العالمية مع كل جوانبها السلبية جلب درجة من الاستقرار الاقتصادي في عالم غير مؤكد. بالمقابل، الدرس الأهم من التاريخ هو ان العودة الى سياسات التجارية – دول تتصارع للسيطرة على الموارد الطبيعية لنفسها وانكار حق الاخرين بها – من المحتمل جدا ان تكون وصفة لصراع دائم. ولكن في هذه المرة، في عالم مليء بعشرة الاف سلاح نووي، فان سوء التقدير قد يكون مميتا اذا تم تقويض الثقة واليقين. التحديات المقبلة هائلة، وان ضعف المؤسسات الدولية، والرؤية المحدودة لمعظم الحكومات وعزلة العديد من مواطنيها ليست إشارات للتفاؤل.

***

حاتم حميد محسن

......................

The conversation, October 29, The rise and fall of globalization: why the world’s next financial meltdown could be much worse with the US on the sidelines.

بدأت الدعوة الوهابية في نجد بالمناداة إلى الإصلاح وتشذيب الدين من البدع والإضافات وتطورت إلى مشروع دولة. ومع الزمن فقدت الحركة زعيمها المؤسس الشيخ محمد بن عبد الوهاب وذهبت معه الكثير من الثوابت ووجهات النظر. ولكن أثرت على سرديته مجموعة من العوامل التاريخية. من بينها بزوغ فجر عصر التنوير عن طريق الرحلات العلمية، ثم الاتصال بالمستعمر الغربي، وأخيرا شرارة حرب عام 1915. يضاف لذلك التوسع بحركة الاستشراق وعلى وجه الخصوص الفرع الرومنسي. وكانت من أهم أساليبه المبالغة والغموض بهدف التشويق حتى أصبح التاريخ أقرب إلى مروية – وأحيانا مسرودة أو رواية. وفي هذا السياق لم يعد ابن عبد الوهاب شخصا واحدا بل عدة أشخاص يحملون نفس الاسم ابتداء من بطل خارق (ورجل مهام صعبة) إلى نبي يبشر بدين جديد، وحتى قائد إصلاحي يكره التقليد (اتباع أهل الرأي بدون معرفة الدليل). وساعد ازدواج مشروعه على هذا التصور. لكن أعطى الاستشراق الأولوية لنشاطه السياسي. وكما فعل ماسينيون بالمتنبي وصنفه في عداد القرامطة وخلاياهم النائمة، وضع بوركهارت ووليم بلجريف ابن عبد الوهاب في صفوف حركة طليعية تسعى لإخضاع وتوحيد مختلف القبائل ولو بحد السيف1. ورأى كلاهما أن هدفه يتلخص في إسقاط الحكومات المحلية (وإلغاء الاحتفاليات الخاصة والطقوس)، وليس في تبديل أساليب الحياة والإنتاج. وببدو أن الشيخ ابن عبد الوهاب لاقى عدة خيبات أمل. أولاها قبوله بسياسة الأمر الواقع، وتقبل رابطة النسب والدم في إدارة الدولة - وهو قانون عشائري لم يكن من المقدر للعرب أن يتخلوا عنه إلا لفترة بسيطة. وهي السنوات الحاسمة التي تفصل ما بين الهجرة وفتح مكة. ثم عادت الأمور إلى نصابها (وأشير لدخول أفواج من العائلة الأموية في الدولة الوليدة، قبل انقلابهم التاريخي والدموي. وهو ما توضحه دراما تحويل العاصمة من المدينة إلى دمشق. ولا يزال هذا السلوك ساري المفعول وبالأخص في الدول التي تقودها عائلة حاكمة أو أسرة تحتكر الجيش والتجارة). وبالنتيجة قبل الشيخ الإمام بدور الرديف في القتال، إلى جانب إدارة الموارد. وكانت تتلخص بالجباية وغنائم الحرب.

ومع أنه لم يكن لدى الغرب أي سبب لدعم الشيخ الإمام وحليفه، الدولة السعودية الأولى، كان من المنطقي أن يتعاطف معه (بعد تطور الأوضاع) ولثلاثة أسباب.

أولا لأنه أقرب إلى الإصلاح والتحديث من انقلاب القصر الذي قاده الشريف حسين. وكانت بريطانيا أصلا غير مرتاحة لسردية العائلة الهاشمية. فقد تقلب ولاؤهم عدة مرات حسب الظروف.

ثانيا التزام الوهابيين بسياسة القطيعة والالغاء وليس الاستبدال. وادارة جغرافيا منطقتهم. وبدون أي برنامج توسعي2 كما هو الحال لدى الهاشميين. وعلى وجه الخصوص في فترة الدولة السعودية الثالثة. وبدعم مباشر من لورنس العرب وفريق استخباراته. وفي الحقيقة كان لدى الهاشميين مشروع انتقامي بحدين. تعريب الدولة التي خطفها الأتراك، واستعادة الخلافة التي اغتصبها الأمويون.

وثالثا الطبيعة الهجينة للتحالف، والتي يمكن تشبيهها بنشوء المجتمعات الصناعية في الميتروبول الغربي. وهذا يوفر طريقة لعقد تفاهمات بأقل ما يمكن من التكاليف. عدا أنه يقلل من فرصة التماسك وتشكيل خطر حقيقي على طريق الغرب إلى الهند والهند الصينية.

***

ومع أن تصورات الغرب لم تكن واضحة منذ البداية حيال الدولة العثمانية – في الأطراف والمركز- لكنه طور رؤية مرحلية لإشغال العرب مع الأتراك. ثم للتخلص من الأرستقراطية العربية القديمة واستبدالها بالقبائل. وغذت هذه الاستراتيجية النزاعات بين الأحساء وحائل والحجاز. وانقسم المحيط السني بين فئة من الثوار (كانوا مع التصحيح، ومن وجوهها محمد حياة السندي)، وفئات محافظة (حرصت على تقليد الأوائل. ومنهم محمد بخيت المطيعي ويوسف النبهاني وحمدي الجويجاتي الدمشقي).

وإذا كان خلاف الشيخ ابن عبدالوهاب مع من حوله على أساس فقهي، لم يكن يخلو، بنفس الوقت، من أعراض الحرب الباردة. مثل صراع الأجيال (ومن علاماته خلافه مع أبيه وأخيه الأكبر والهرب من بيت الأسرة) ثم الصراع عل النفوذ (وهو السبب الحقيقي وراء مشاحناته مع شيوخ الأحساء ورموز الدولة الخالدية وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن فهد بن عفالق).

ويمكن إجمال كل أوجه الخلاف في الجدول التالي - تمت الاستعانة في رسمه ببرنامج AI 52108 saleh alrazuk

ومن الواضح أن الفرق بين التكفير والتشكيك ينجم عن عدة أسباب بعضها له جذور اجتماعية (كالتربية والتنشئة) وما تبقى له جذور سياسية (مثل بنية السلطة ومراكز القرار). ولذلك يحض باحث في الفكر الديني مثل ماجد الغرباوي على فصل النص عن الأحكام. ويرى أن أساس الأحكام في الخبرة (بمعنى التفقه والعلم) ومعرفة أسباب النص أو سياقه وظرفه. وبزوال هذه الأسباب تزول الأحكام. ومثلما توجد أحاديث ضعيفة وصحيحة لدينا أيضا اجتهادات موثوقة (مدعومة بإسنادات قوية) واجتهادات مشكوك بها (منها أحاديث الرجال).

ومع أن ابن عبد الوهاب يعزو للنص في التشريع دورا قطعيا ويرى أنه حاكم وغير محكوم، ولا يمكن تفكيكه، كان ينظر إليه نظرة عاطفية. فهو لا يربطه بالعقل (التدبير)، ولكن بالقلب (النور الإلهي) - انظر كتابه كشف الشبهات والدرر السنية.

في حين يشترط الغرباوي، بالإضافة إلى الفهم، المعرفة التامة بالسياق والأسباب وأساليب التعبير. ويضرب مثالا على ذلك بالجهاد، فمعناه في القرآن أوسع من القتال والحرابة، ويفيد أيضا معنى الإصلاح والبذل – كما في جهاد النفس وجهاد الحجة وجهاد الكلمة. وبالعودة إلى مختار الصحاح للرازي نجد، تحت مادة جهد، أن الجهاد في سبيل الله يعني بذل الوسع والمجهود3. وما يحدد وظيفته المعنى المراد منه، سواء كان منع الظلم أو الدفاع عن سلامة وأمن المسلمين أو نشر الإلهية بين الجميع 4 – انظر الجدول رقم 2 - أيضا تمت الاستعانة ببرنامج AI -52109 saleh alrazuk

وفي أعمال الغرباوي ومن بينها موسوعته "متاهات الحقيقة" قراءة للمعنى الرمزي في النص المدون – وأفهم أن التدوين شكل آخر من الإملاء باستعمال الذاكرة وبوجود فاصل زمني عن المصدر. ولذلك يكون النص وثيقة معرفية وأداة هيمنة تتبعها السلطة لحسم الجدل في مصلحتها. وهو ما يرشح النصوص للتأثر بالقبليات – يسميها السعودي عبد الله الغذامي النسق. وهذا يسهل تعريض الدين لمخاطر الجمود، وليكون أداة تبرير وليس عدل وإنصاف. ويقدم لنا الغرباوي ترسانة من المصطلحات التي تحصر أسباب الرؤية المسبقة. وهي 1- الموروث الذي تحول إلى نائب عن الإله أو دكتاتور يمنعنا من استخراج المعنى حسب السياق.

2- التفاوت في الفهم، وهذه خاصية بشرية مفروغ منها.

3- دور السلطة وإيديولوجيتها في تربية العقل المستقيل.

4- الكسل الفكري في ظرف التخلف والضائقة الاقتصادية.

ويضيف الباحث الكويتي أحمد شهاب لما سبق بندا خامسا، وهو ما طرأ على العقيدة من نكبات وما توالى على منطقتنا من حكومات شمولية حرصت على فصل العقائد عن محتواها الإنساني، وباعدت ما بين الفكر والعمل، وجعلت الأفكار تتبع التنظيم وقيادته (أو رجاله)5.

وبالنتيجة لا يمكن تجزئة شخصية الشيخ الإمام واختزالها بجانب واحد. وتداخل الروحي مع المدني، لا يختلف عن تداخل أسباب وأطراف النزاع. ولا يغيب عن ذهني اختلاف الأيادي التي تحرك خيوط الأحداث، من معسكر غربي لديه أطماع استراتيجية، ومجتمع محلي ممزق في ولائه ونسبه. وربما بوحي من هذا التداخل وجدت حركة الاستشراق الرومنسي في صورته ما يغني تفكيرها عن الشرق النائم، والمعزول في دوائر بعيدة عن الأضواء، وما يفيدها في الترويج لسياسة الانتداب والوصاية.

***

د. صالح الرزوق

.................

هوامش:

1- مقالة ناصر التويم "دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الرؤية الاستشراقية". مجلة جامعة الإمام. عدد 29. ص321-366.

2- الحياة الفكرية في المشرق العربي. مركز دراسات الوحدة العربية. إعداد مروان البحيري. بيروت 1983. ص197.

3- ص114 مطبوعات دار الكتاب العربي.

4 - النص وسؤال الحقيقة. منشورات دار الطليعة الجديدة ومؤسسة المثقف العربي. دمشق / سيدني.

5 - الفكر في قبضة التنظيم. ميدل إيست أون لاين (الأربعاء 22 -10 – 2025).

ثقافة التسقيط هي ممارسات سلوكية تستهدف أقصاء الآخر كفرد او مجموعة محددة مغايرة في الفكرة والمنهج والتطلعات أو في البرنامج الأقتصادي والأجتماعي والثقافي ومحاولات تشويه سمعته بأبعادها المختلفة الأخلاقية والأجتماعية والفكرية، والتسقيط في جوهره هو تحويل الاختلافات المشروعة إلى خلافات تقصم الظهر وتلغي فرص الحوار البناء مما يفسح المجال للكراهية والعدوان أن يكون سيد الموقف ويمتد إلى حد تصفية الآخر ليست فكريا فقط بل جسديا وازاحته من المشهد الحياتي كعضوية بيولوجية اجتماعية لها حق الوجود في الحياة بغض النظر عن جوهر الأختلاف بأعتباره من سنن الحياة واحد مصادر غنائها الفكري والثقافي والأقتصادي والأجتماعي.

وفي نطاق التميز بين الخلاف والاختلاف والذي يعتبر من المفاهيم المهمة في التفاعل الاجتماعي، لكنهما يحملان دلالات مختلفة.

-الاختلاف يشير إلى التباين في الآراء، والأفكار، أو المعتقدات بين الأفراد أو الجماعات. إنه ظاهرة طبيعية تعكس تنوع البشر وتجاربهم المختلفة. هذا التباين يُعتبر إيجابيًا، حيث يثري النقاشات ويساهم في تطوير الفهم المشترك. على سبيل المثال، في بيئة العمل، قد يؤدي اختلاف وجهات النظر إلى حلول أكثر إبداعًا وفعالية.

-في الجهة الأخرى الخلاف ينشأ عندما يتحول هذا الاختلاف إلى صراع أو نزاع. يُعبر عن تنافس أو مواجهة بين الأطراف، وغالبًا ما يكون مرتبطًا بمشاعر سلبية مثل الغضب أو الاستياء. الخلاف قد يؤدي إلى تفكك العلاقات وتوتر الأجواء، كما يحدث في النزاعات السياسية أو العائلية.

 -أهمية التمييز بين المفهومين التفريق بين الاختلاف والخلاف ضروري لفهم كيفية التعامل مع التباينات الاجتماعية. الاختلاف يُعتبر فرصة للنمو والتعلم، بينما الخلاف يتطلب مهارات إدارة الصراع والتفاوض لتجنب تفاقم الأمور. يمكن تحقيق بيئة صحية من خلال تعزيز ثقافة الحوار والتسامح، مما يساعد على تحويل الاختلافات إلى فرص للتفاهم.

ولذلك يعتبر الاختلاف جزءًا أساسيًا من تجربة الحياة، بينما الخلاف يُعد تحديًا يتطلب معالجة واعية. ومن خلال إدارة الاختلافات بشكل إيجابي، يمكننا بناء مجتمعات أكثر تماسكًا وتعاونًا، والأختلاف يتجاوز حدود الثقافة والفكر بل يشكل حتى بنية الأنسان الجسمية والرسية والفصائلية البيولوجية السيكولوجية، ومن هنا يصح القول خلقنا وولدنا ونشأنا مختلفين، أنها جزء من سنة التعددية الكونية على مستوى الطبيعة والخلق.

ومن الضروري هنا لابد من توضيح معنى التسقيط لغة، فهو من الفعل سقط، وتعني انحدر وهوى من درجة أعلى إلى درجة سفلى، وأما الاصطلاح فمعناها الحط من قدر شخص ومكانته الاجتماعية أو الدينية أو السياسية أو العلمية، ويرتبط مفهوم التسقيط بمفاهيم الزور والكذب والافتراء والبهتان، ويمكن اعتبار التسقيط نوع من أنواع الإشاعة.

للتسقيط دوافع فقد تكون دوافع شخصية تتعلق بالغيرة والحسد، أو التنافس الوظيفي، أو التنافس السياسي، وغالبا ما تشهد مراحل التنافس الانتخابي ممارسات وأساليب تسقيط المنافس من خلال نسب صفات وتهم للمنافس التي من شانها أن تقلل أصواته، فتبدأ الحرب الالكترونية بين حلفاء الأمس في الطبقة السياسية الحاكمة، وكذلك بين مختلف التجمعات والأحزاب والمجموعات التي تضعف لديها لغة الحوار في إدارة الأختلاف، وكل ما اقترب موعد الانتخابات زاد التشهير والتسقيط، وما يزيد الأمر سؤا عدم وجود قانون يعاقب من ينشر أكاذيب وصور وملفات ملفقة، وحتى إن وجدت وسائل الردع فهي انتقائية ولا تستهدف المعالجات الشاملة.

مناسبات التسقيط كثيرة فهي ترتبط بحياة الأنسان الفرد في أطار صراعه من اجل البقاء ويتعرض إلى ما يلغي وجوده بل ونفيه والخلاص منه، انها نزعة شريرة وتعبر عن فطرة العدوان الأنسانية في اطار منافسته مع الآخر في اطار تحولها إلى فعل عدواني بعيدا عن المنافسة الأيجابية وخاصة عندما تنتزع المنافسة من أسسها السلمية والأخلاقية والقانونية.

اما نزعة التسقيط الجماعية فهي ترتبط بمناسبات عديدة، الدينية منها والسياسية والأثنية والثقافية، فالكثير من تلك المناسبات كالأنتخابات البرلمانية السياسية، والأحتفاء بالمناسبات الثقافية الفرعية لمختلف المكونات وكذلك المناسبات الدينية والطائفية، يستنهض ذلك الكثير من ثقافة التسقيط الناتج من تحويل الأختلاف الثقافي والأثني والمذهبي إلى موضوعات خلاف تحرض على الأقصاء ونفي الآخر فرد كان أم مجموعة.

ومن أكثر الوسائل التي تستهدف الأفراد والجماعات تسقيطا هو النبش في ماضي الأفراد والجماعات والعبث في تاريخ الأفراد ومحاولات تحويلة إلى توقعات سيئة للمستقبل، فالتسقيط في ماضي الأفراد والجماعات هو من أكثر الوسائل عنفا في تفريغ الحاضر من محتواه الأيجابي او على الأقل بما يمكن ان يكون ايجابيا وفي النهاية فأن النبش في الماضي لن يُغيرولن يُصلح الحاضر، وما يصلح الحاضر هو اتخاذ قرارات واعية تستند إلى التعلم من التجارب السابقة دون أن نكون أسرى لها، وعلينا أن نعيش الحاضر بكل تفاصيله، وأن نستغل كل لحظة لبناء مستقبل أفضل. الماضي قد يكون درسًا، لكنه لا يجب أن يكون عائقًا أمام التقدم والنمو.

ومن وسائل التسقيط الأخرى الشائعة والسهلة في التداول والأنتشار والمغرية للفرد هو الرسائل الأخلاقية او التشهير الأخلاقي الذي يستهدف البعد الأخلاقي في المنافسات، وبما أن مجتمعاتنا تغريها الصوت والصورة في هذا المجال فبالأمكان تعبئة ذلك لتسقيط الآخر وأقصائه.

ومع ضعف الرقابة وحداثة العهد في استخدام التقنيات الرقمية في الكثير من المجتمعات والعراق من ضمنها، فأن البعض من الأحزاب يستخدم التسريبات خلال فترة الانتخابات كسلاح أو أداة للإطاحة بالأطراف الأخرى، وقد اعتمد الكثير دون وازع أخلاقي على استخدام أساليب الذكاء الاصطناعي في فبركة المئات من الصور والأصوات ونسبها لشخصية ما، وجعل القضية تأخذ حيّزاً كبيراً، ما يؤثر على القاعدة الجماهيرية للطرف المنافس خاصة وأننا في العراق على سبيل المثال، لا نمتلك الأدوات التي يمكن خلالها، الكشف عن حالات التلاعب والفبركة، إلا بعد أن تأخذ صداها، وتنطلي على أعداد كبيرة من الناس التي قد لا تمتلك الثقافة المطلوبة في تمييز ما ينشر، وقد تتحول الكثير من التسريبات إلى قضية رأي عام قبل اكتشاف مدى مصداقيتها وتطابقها مع الواقع. وهذا لا يعني أن كل التسريبات مفبركة بل هناك الكثير منها صحيح ومطابقا للواقع ولكن الأختلاف حول توقيت أثارتها ولماذا تكون موسمية مما يثيرالشكوك حول ان الهدف منها ليست المعالجة بل التسقيط.

وكذلك الفساد الأداري والمالي وخاصة في مجتمعات غارقة في ذلك فتسقيط الأفراد والجماعات سهلا في ذلك في ظل غياب دولة القانون والقضاء حيث ألصاق التهم سهلا مشاع ولكن تثبيت التهم على الأفراد والمجموعات صعبا بسبب غياب النزاهة والحيادية.

ومن وسائل التسقيط هو الحفر والغوص في انتماءات الأفراد السياسية السابقة بغض النظر عن ولاءاتهم الحاضرة وبالتالي تكريس الماضوية كمحك لمصداقية سلوك الأفراد في الحاضر هو عبث في خلط أوراق الحاضر والمستقبل. إلى جانب ذلك التسقيط الفكري والأيديولجي للأحزاب والأفراد من خلال حملات عبثية تستهدف ثقافة الحوار الفكري والسياسي البناء والتمترس في متاهات الكراهية والشيطنة للآخر المختلف.

والتسقيط يمتد ليشمل ليست فقط من هم مختلفين فكريا وسياسا وعقائديا بل يمتد ليأخذ التسقيط صفة شمولية حيث تسقيط مكونات اجتماعية وثقافية ودينية ومذهبية وأثنية بأكملها وتمارس إلى أقرب ما يسمى بالحروب الباردة المكوناتية، وهذا الطابع من التسقيط يتخذ صفة " قطيعية " أو "جماهيرية" أو ما اطلق عليه عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون "بسيكولوجيا الجماهير" أو " سيكولوجيا الحشود" أو " روح الأجتماع ".

وأدوات التسقيط بمختلف مظاهره غالبا ما يستهدف العزف على مشاعر وأنفعالات الجمهور المستهدف وبالتالي هي تحاول التناغم مع عواطفه واهتماماته واستمالتها إلى اتجاه معين، وهذا ما ذكره الطبيب والمؤرخ وعالم النفس الفرنسي "غوستاف لوبون" (1841- 1931) صاحب كتاب (سيكولوجية الجماهير) الذي يذكر فيه الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور وهي " تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية، توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، الميل لتحويل الأفكار المحرض عليها الى فعل وممارسة مباشرة، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه وإنما يصبح إنسان آلي ما عادت إرادته بقادرة على ان تقوده".

يشير مصطلح "سيكولوجية الجماهير" إلى أن الفرد في الجماعة يمر بتغيرات نفسية شبيهة بتلك التي تحدث له في التنويم المغناطيسي. ويرجع هذا التشبيه إلى أن الفرد في حالة الجماهير يفقد شخصيته الواعية وتهيمن عليه الشخصية اللاواعية، مما يجعله يتصرف بعواطفه وأفكاره دون تفكير نقدي، ويصبح عرضة للتأثر والإيحاء بسهولة، تماماً كما يحدث للشخص تحت تأثير التنويم المغناطيسي، وفقاً لمفاهيم غوستاف لوبون.

الفرد في الجمهور يختفي من داخله شخصيته الواعية، وتتضاءل قدرته على اتخاذ القرارات المستقلة بناءً على تجاربه الخاصة. وتصبح العواطف والأفكار اللاواعية هي المهيمنة، مما يدفع الفرد إلى التحرك بناءً على التحريض والإيحاءات الجماعية بدلاً من التفكير العقلاني. وتنتشر الأفكار والعواطف في الجمهور بسرعة شديدة عبر العدوى، كما تنتشر الأمراض المعدية، فتصبح جماعية دون الحاجة لتفكير نقدي. ويستجيب الفرد المنغمس في الجمهور بشكل لاواعي لتوجيهات الزعيم، ويحوله إلى دوغما أو عقيدة لا تناقش، ويخلق لديه رغبة في تعميمها.

ويربط لوبون هذه الظواهر بظاهرة التنويم المغناطيسي، حيث يفقد الفرد قدرته على التفكير النقدي ويصبح أكثر تقبلاً للإيحاءات، ويظهر في حالة قريبة من الإذعان.

وقد استعار عالم النفس الفرنسي غوستاف لوبون هذه الاستعارة في كتابه الشهير "سيكولوجية الجماهير" لتفسير سلوك الأفراد في التجمعات الكبيرة. يرى لوبون أن الجمهور يصبح كائناً بدائياً، لا عقلانيا، تسيطر عليه مشاعر بدائية وسلوك لاواعي.

أن الميكانيزم السلوكي المذكور اعلاه للفرد في اطار الحشود حيث غياب الوعي الفردي وسيطرة الأنفعالات يلعب دورا خطيرا بل وتخريبيا في ممارسة عمليات التسقيط السياسي والثقافي والأجتماعي والديني والعرقي للأفراد والمجموعات البشرية مما يهدد في تفكيك المجتمع وغياب الأمن الفردي والمجتمعي ويهدد بشيوع الفوضى وانعدام النظام والأستقرار.

سيكولوجية ثقافة التسقيط تشمل العوامل النفسية والسلوكية التي تؤدي إلى استبعاد أفراد أو مجموعات من المجتمع، وتترتب على هذه العملية آثار نفسية واجتماعية سلبية على الأفراد المهمشين. تشمل هذه الآثار مشاعر العزلة، الشعور بالنقص، العجز، وفقدان الثقة بالنفس، بالإضافة إلى تأثيرات سلبية على المشاركة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

الجوانب النفسية للتسقيط:

الشعور بالعزلة وعدم الانتماء: يشعر الأفراد الذين يتعرضون للتسقيط بأنهم "خارج دائرة التفاعلي الأجتماعي" بغض النظر عن مواقعهم الظاهرية.

تأثيره على الهوية: يمكن أن يؤدي التسقيط إلى تشويه الهوية الذاتية للشخص، مما يجعله يشعر بأنه أقل قيمة أو غير مرغوب فيه.

مشاعر سلبية: ترتبط مشاعر التسقيط بالخوف من المستقبل، الإحباط، والقلق، ويصعب التحرر منها.

تأثيره على الصحة النفسية: قد يؤدي التسقيط إلى مشاكل نفسية عميقة، مثل الاكتئاب، خاصة عندما يترافق مع شعور دائم بعدم القدرة على التغيير أو الخروج من هذه الحالة.

الجوانب السلوكية والاجتماعية للتسقيط:

عجز عن المشاركة: يُحرم الأفراد المُسقطون من المشاركة الكاملة في جوانب الحياة المختلفة مثل السياسة، الاقتصاد، والنشاطات الاجتماعية.

الحرمان من الحقوق: يمكن أن يحرم التسقيط من الاستفادة من المرافق الاجتماعية الأساسية ومن المشاركة في صنع القرار.

خطورة العقلية التسقيطية: تظهر سيكولوجية التسقيط أيضًا في العقلية التسقيطية التي تتبنى فكرة التفوق وتعمل على تقليل شأن المجموعات المختلفة.

التسقيط الأخلاقي: يتعلق بتجريد مجموعات مستهدفة من إنسانيتها من خلال اعتبارها أقل شأنًا، وهذا قد يؤدي إلى تصاعد الصراعات والعنف.

ومن هنا تأتي أهمية المسؤولية الأخلاقية والدينية والسياسية الملقاة على عاتق القيادات السياسية والاجتماعية المختلفة وقيادات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني في إعادة صياغة وعي المواطن بما ينسجم مع تطلعات وطموحات الناس في بناء مجتمع العدالة والحق والمواطنة الكريمة الذي يستند إلى العقلانية بعيدا عن الانفعالات الجارفة، وضرورة خلق الوعي اللازم لقيمة الانتخابات ومسؤولية الصوت الانتخابي وخطورته في رسم المستقبل. ولعل في الملاحظات الآتية مدخلا مواتيا لذلك :

ـ إعادة صياغة منظومة التربية والتعليم على أسس علمية وعقلانية بعيدا عن تأثيرات التيارات السياسية والدينية المتحاربة والمتجاذبة، لخلق مواطن يتسلح بالوعي المحايد والقدرة على ممارسة النقد البناء للظواهر المختلفة بروح علمية بعيدا عن أشكال التعصب والانفعال في تقبل أو رفض ظاهرة أو رأي ما.

ـ تحديث الخطاب السياسي من حيث المحتوى والأهداف والوسائل، وتحوله من خطاب " حشدي " منفعل إلى خطاب ايجابي يستهدف بناء ثقافة سياسية فردية بناءة وتحويله إلى خطاب سياسي ـ تربوي ذو صبغة واقعية.

ـ ضرورة التثقيف المستمر بالتجربة الديمقراطية باعتبارها وسيلة للتداول السلمي للسلطة وليست وسيلة للانقضاض عليها واحتكارها ومنع الآخرين من المساهمة فيها.

ـ إشاعة ثقافة الحوار في كل القضايا التي تخص المجتمع السياسية منها والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية، ودفع الناس لإبداء الآراء بخصوصها وتحويل المواطن من مستقبل للمعلومة فقط إلى مواطن مرسل فعال، أي تنشيط قنوات الاتصال بين المواطنين ورموزهم السياسية والاجتماعية لتفعيل مفهوم المشاركة البناءة.

ـ إعادة النظر في المنظومة التشريعية والقانونية التي تحجب وتحد من سقف مشاركة الآخرين في العملية السياسية، وفي مقدمتها قانون الانتخابات وإصدار قانون للأحزاب لضمان مسائلة الأحزاب ورصد آلية عملها، لضمان مزيد من النزاهة والمشاركة السياسية لبناء نظام سياسي متنوع في العطاء والقدرات الفكرية والعقلية.

ـ العمل التربوي والتثقيفي طويل الأمد لأبعاد ثقافة التشكيك والاتهام وتخليص المواطن من آثار عقلية المؤامرة التي تجعل من المواطن متربصا لأخيه المواطن ومشككا في أفضل عطائه، وتلك هي الحال على مستوى الأحزاب.

ـ محاربة الفساد على نطاق واسع باعتباره وفي احد وجوهه مظهرا من مظاهر الفساد السياسي يسهم في تكريس الأوضاع كما هي، ونظرا لتقاطع صلاته مع السياسة ورموزها فأنه يسهم في تكريس سياسة الصفقات وتجيش الناس حولها لأبعاد شبح المحاسبة والدخول في التفاصيل.

ـ تعزيز ثقافة دولة القانون في سلوك الأفراد والأحزاب والمؤسسات بعيدا عن التمترس الفئوي والطائفي والجغرافي والقبلي الذي يضعف دولة القانون، وتنشيط دور القضاء لتشجيع المواطنين على الاستعانة بالدولة لحل المشكلات المختلفة والمستعصية دون اللجوء إلى القبائل أو الطوائف أو الأحزاب التي تستميل المواطن وتسهل تعبئته بمختلف الاتجاهات باعتباره طرفا ضعيفا يلجا اليها عند الشدة.

قد تكون الانتخابات البرلمانية القادمة هي بمثابة خطوة الألف ميل على خلفية وعي اجتماعي وشعبي عام في رفض سلطة الفساد والمحاصصة الطائفية والأثنية رغم أن التوقعات الأولية لا تشير الى تحول جذري، ولكن يفترض أن صدمة اكثر من عقدين من الزمن كافية أن تبلور ملامح وعي بديل صوب صناديق الأقتراع وحصانة كافية لتجنب استمرار الذهاب الى المجهول وللتأسيس للخلاص من الفساد والحروب والارهاب والحفاظ على مستقبل العراق بكل مكوناته الأثنية والعرقية والدينية والثقافية.

في النتيجة فأن ثقافة التسقيط والأنماط السلوكية المتبعة لأقصاء الآخر هي موجودة في كل المجتمعات دون استثناء إلا أن درجات التشبع بها تستند إلى الثقافة السائدة ومدى احترام الآخر وحريته الشخصية والعامة وإلى الدولة والنظام السائد وخطابهما الذي يستند إلى المواطنة بعيدا عن الهويات الفرعية الدينية منها والطائفية والأثنية الذي يحرض على الكراهية والأقصاء إلى جانب تأصل الممارسة الديمقراطية التي تستند إلى الحق والعدل والشفافية والجمال واحترام التداول السلمي للسلطة التي تحترم خيارات الناس في العيش والاعتراف بأن الأختلاف هو من سنن الكون والحياة والوجود بعيدا عن الأكراه.

***

د. عامر صالح

 

تمهيد: حمل اليسار العربي منذ مطلع القرن العشرين، وبالتحديد بعد ربع القرن الأول منه، مشروعًا تاريخيًا أقرب إلى التكامل، فهو من جهة ظهر بالضد من الاستعمار والتبعيّة والتخلّف، ومن جهة أخرى حمل راية التحرّر والاستقلال والعدالة الاجتماعية.

‏وانصهر فيه ما هو وطني بما هو اجتماعي، حيث اندفعت النخب من الطبقة الوسطى لترفع مشروع اليسار وأحلامه الكبيرة إلى درجة امتزاج الواقع بالمخيال الشعبي أحيانًا، في إطار سردية ثقافية وآمال عظيمة ووعود ضخمة.

‏لكن هذا المشروع الكبير تعرّض إلى التراجع والانكسار لاحقًا، وخصوصًا بعد مرحلة الاستقلال، ليس بفعل ما لحقه من تنكيل وبطش وتحريم وتجريم، بل بفعل عوامل داخلية أيضًا، وليس بفعل العامل الخارجي وحده. ويعود جزء منها إلى الاتكالية الفكريّة والتعويل على ما يصدر من المركز الأممي، وأحيانًا أخرى إلى الجمود العقائدي والنصوصية المدرسية وعدم مواكبة التطوّر، وليس بعيدًا عن ذلك بعض المواقف ذات الطفولة اليسارية، لاسيّما الموقف من الدين والقضيّة القومية، فيما يتعلّق بفلسطين والوحدة العربية، وهو ما حاول خصومه وأعداءه تضخيمه وإلصاق تهم شتّى به بهدف النيل منه.

‏أستطيع القول أن مشروع اليسار العربي توقّف عند الشعارات الكبرى التي كانت تصلح لمرحلة معيّنة، ولم يتمكّن من قراءة الواقع الجديد الذي ظهر بعد مرحلة الاستقلال وما أعقبها، الأمر الذي جعله يتأرجح بين خيارين كل منهما كان مرًّا؛

‏الأول - الانخراط في مشاريع سلطوية لم تمنحه الحد الأدنى من حريّة العمل والتنظيم حتى لو كان لتأييدها.

‏والثاني - الابتعاد عنها لدرجة الانغلاق والتقوقع في انعزالية وانطواء، دون التمكّن من تقديم بديل عمّا هو قائم، وتسبّب ذلك في اتّساع الهوّة بينه وبين الجمهور وبينه وبين الكتل البشرية التي يزعم تمثيلها.

‏وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي تعمّقت هذه العزلة، حتى أن الأنظمة لم تعد تُعير اهتمامًا له، كما أنه خرج من معادلة الناس وهمومهم ومعاناتهم وتطلّعاتهم.

اليسار والربيع العربي

‏مع انتفاضات ما سميّ بالربيع العربي العام 2011، انفتح الفضاء العام أمام مطالب الحريّة والعدالة والكرامة، لكنّ اليسار لم يكن في صلبها لا في اللغة ولا في الأدوات ولا في التعبير ولا في المسار، وبالطبع فإنه لم يستطع أن يقرأ على نحو سليم مآلات الصراع، وازداد تأرجحًا بين التشكيك بحركة التغيير، بل واتهامها أحيانًا أنها من صنع الخارج، على الرغم من الملاحظات السلبية العديدة التي عليها، وبين النظر إلى السلطات القائمة بمنظار قديم باعتبارها معادية للإمبريالية، أو أن الإطاحة بها سيؤدّي إلى صعود قوى لا يُؤتمن إليها.

‏ وبالطبع فإن الانتقاضات الجديدة لم تخضع للنمط الكلاسيكي للانتفاضات السابقة، فلم يكن لها قيادات مسبقة وأيديولوجيات محدّدة وسرديات معروفة، مع أنها خلقت فراغًا لم يتمكّن اليسار من إملائه كليًا أو جزئيًا، ناهيك عن التحرّك الفعلي، وذلك لأن أزمته عميقة وبنيوية في الآن، أي أنها لم تكن عرضيّة، بل كانت أزمة في الفكر والممارسة والتنظيم والقيادة والإدارة تعتّقت مع مرور الأيام.

‏وقد ظهرت بعض التململات اليسارية، لكنها كانت مختلفة عن اليسار التقليدي المعروف، فهذا اليسار الجديد هو يسار بلا تنظيم حزبي، وبلا أيديولوجيات مغلقة. يسار في إطار المجتمع المدني، وإن كان الأخير هلاميًا ومخترقًا في الكثير من الأحيان، لكن ثمة مبادرات اجتماعية ومطالب شعبية عامة وحركات نسويّة اشتغلت في هامش حركة التغيير بوسائل تكنولوجية ورقمية حديثة بعيدة عن تجارب الماضي، مستفيدةً من كون العالم يمرّ في الطور الرابع من الثورة الصناعية واقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي.

‏اليسار الجديد ظل هو الآخر هامشيًا، فهو يسار معولم وفرداني، يتحدث بلغة البيئة أو المناخ أو الجندر، وإن كان يعبّر عن بعض التطلّعات العامة، لكنه كان بعيدًا عن الناس والفئات الكادحة، وبالتالي يصعب أن يتحوّل إلى قوة فاعلة ومؤثّرة، أي قوّة اقتراح يُحسب لها حساب. ومثل هذا اليسار سرعان ما تمّ تدجين الكثير من فاعليته واحتوائه، وبالتالي سيكون من الصعب أن يقدّم بديلًا مناسبًا.

مشروع تنوير وحداثة

‏ انطلق اليسار العربي في مرحلته الأولى من مواجهة محمومة مع الاستعمار، وكان بمثابة مشروع تنوير وحداثة وتحرّر. صحيح أنه لم يتحوّل إلى تيار عريض باستثناء اليسار العراقي واليسار السوداني، لكنه لم يصبح حركة اجتماعية واسعة وجامعة، بل ظلّ يمثّل طموحات نخب مثقفة من الطبقة الوسطى صاغت خطابًا معتدلًا في إطار الدولة بمراعاة الفئات الفقيرة، وتلك إحدى ميزات اليسار التي افتقدها لاحقًا.

وقد تجسد مثل هذا التوجّه في التأثير على أطراف أخرى، ويمكن هنا احتساب بعض التجارب العروبية عليه أو بحكم تأثيراته عليها مثل اليسار الناصري واليسار البعثي السوري والعراقي واليسار الجزائري واليمني والسوداني والفلسطيني والليبي الذي صاغ  شعارات راديكالية مثل التحرّر من الاستعمار وإجلاء القواعد العسكرية وإقامة العلاقات مع المعسكر الاشتراكي والتوجه نحو التعليم المجاني والإصلاح الزراعي والـتأميم، وكل هذه المشاريع حملتها أجهزة الدولة ما بعد مرحلة الاستقلال، وهي وإن أحدثت نموًا اقتصاديًا، لكنها لم تستطع أن تحقّق التنمية الإنسانية المستدامة والشاملة، لذلك ظّلت فوقية وسرعان ما تبخّرت.

اليسار والدولة

‏ظل مشروع اليسار مرتبطًا بالدولة، ولم يستطع أن يتجاوز أجهزتها البيروقراطية والأمنية. وهو ما غرق به اليسار الماركسي في تجارب الأصل في الدول الاشتراكية السابقة، وإن كان من ضحاياه في تجارب الفرع (حركة التحرّر الوطني)، علمًا بأن الدولة العربية كانت في الغالب دولة القمع والريع، وظلت المسألة التناوبية والتداولية في السلطة غائبة، والديمقراطية السياسية مؤجلة أو مرتهنة، بزعم أن العدو الإسرائيلي يدقّ على الأبواب، وبالتالي تمّت مقايضة التنمية بالعسكرة، ومقايضة الإصلاح بالتفرّد بالسلطة، وهكذا ضاعت فرص تنموية مهمة، مثلما قضم العدو الأرض بالتدرّج وعلى مراحل، وصولًا إلى مأساة غزّة.

‏منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي انهارت الدولة التنموية مع أزمة النفط العام 1973، وتراجع الريع التنموي، وحين حلّت الثمانينيات لم يتبقّ من الوعود بالعدالة الاجتماعية سوى اللّافتات المهلهلة، ودخلنا في حروب ونزاعات إقليمية وأهلية، وتوسعّت طموحات البعض بفرض الهيمنة، فسوريا استحوذت على لبنان، والعراق غزا الكويت بعد حرب ضروس مع إيران دامت 8 سنوات، ونسى هذا اليسار القومي تحرير فلسطين وانشغل بحبك الدسائس والمؤامرات ضدّ بعضه البعض وإزاء الدول العربية الأخرى، وهذه الدول الأخرى لم تقصّر هي كذلك في السعي للإطاحة به وتبهيت شعاراته، وما زاد في انهيار اليسار تراجع الطبقة الوسطى وتهميشها لصالح بيروقراطية الدولة، إضافة إلى تفكّك الكتلة الاشتراكية بعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989. وأصبحت لغة اليسار، في معالجة الإشكاليات القديمة – الجديدة، أقرب إلى لغة أرستقراطية سياسية لا يصغي إليها أحد، لأن إداراتها تمارس السياسة كوظيفة وليس كفعل تغيير.

‏وتحوّل فريق من الماركسيين والشيوعيين إلى مجرد محلّلين سياسيين لإصدار تنظيرات لواقع متغيّر، لكنهم ظلوا متشبّثين بسردية مغلقة عن صراع الطبقات وإلغاء الاستغلال، في حين كان هناك فريق آخر يبشّر بالليبرالية الجديدة واقتصاد السوق، ولا يتورّع أحيانًا عن تبرير بعض ما تقوم به الدوائر الإمبريالية من احتلال وغزو بزعم تشييد صروح الديمقراطية، في الوقت الذي كانت الحركات الإسلامية تتمدّد مستغلةّ انهيار اليسار القومي، ولا سيّما بعد هزيمة العام 1967، التي قوضت شرعيته، وفشل اليسار الماركسي، فضلّا عن نجاح الثورة الإيرانية العام 1979، وانتشار الجمعيات الخيرية التي شكّلت دعائم اجتماعية فعّاله لتغلغل التيار الإسلامي.

***

عبد الحسين شعبان- مفكّر وأكاديمي عربي

السيادة الخوارزمية وانزياحات الأمن السيبراني

على هامش اتفاقية هانوي للأمن السيبراني

"الرأسمالية المراقِبة لا تبيع المنتجات فحسب، بل تبيع تنبؤات عن سلوكنا المستقبلي."ـ شوشانا زوبوف: ـ من "عصر رأسمالية المراقبة"

"السلطة في مجتمع الشبكات تُمارس من خلال تدفق المعلومات، ومن يُتحكم في التدفق يملك زمام العالم." مانويل كاستيلز: ـ من "مجتمع الشبكة"

لم يكن اجتماع أكثر من ستين دولة في هانوي (يوم السبت 25 أكتوبر 2025)، لتوقيع أول معاهدة أممية ضد الجرائم الإلكترونية مجرد إجراء قانوني، بل إعلانًا رمزيًا عن انتقال السلطة من المؤسسات إلى الخوارزميات، ومن السيادة السياسية إلى السيادة الرقمية  .ففي الوقت الذي تُرفع فيه شعارات التعاون ضد "الجريمة الرقمية"، تُطرح في العمق أسئلة أخلاقية وسياسية مقلقة: من يعرّف الجريمة؟ ومن يملك حق مراقبة العالم الافتراضي باسم الحماية؟

تبدو المعاهدة في ظاهرها، دعوة إلى توحيد الجهود ضد الانتهاكات الرقمية المتنامية. لكنها، في جوهرها، تكشف انزياح الأمن السيبراني عن أهدافه الأصلية من حماية الإنسان إلى إدارة سلوكه، ومن صون الخصوصية إلى تطويعها ضمن منظومات السيطرة الرقمية.

لقد غدت "الخصوصية" ترفًا فلسفيًا أكثر منها حقًا قانونيًا، بعدما تحولت الخوارزميات إلى أجهزة تفكيرٍ مستقلة تعرف عنا كل شيء، وتعيد بناء ذواتنا على صورة ما تراه مناسبًا للسوق أو للسلطة.

لقد تحوّل مبدأ القوة في العصر الرقمي من منطق التملك المادي إلى منطق التحكم المعرفي؛ فالقوة اليوم تُقاس بمستوى السيطرة على تدفق المعلومات وتحليلها. ولهذا، صارت الشركات التكنولوجية العملاقة، مثل "ميتا" و"غوغل" و"أمازون"، فاعلين سياديين جدداً يمارسون سلطتهم من خلال أنظمتهم الخوارزمية، لا من خلال حدود الدول التقليدية.

المعاهدة الأممية، في هذا السياق، تبدو محاولة لتنظيم هذا العالم الفوضوي، لكنها في الوقت نفسه تكرّس منطق المراقبة المركزية، إذ تتيح للدول جمع البيانات وتبادلها تحت مظلة "التعاون الأمني الدول".

إنها سلطة جديدة لا يُمارسها الحاكم، بل النظام الرقمي نفسه. سلطة لا تراها العين، لكنها تراقبك في كل حركة، تُعيد تشكيل وعيك عبر الإعلانات والمحتوى والخطاب العام.

هكذا يُعاد إنتاج مفهوم السيادة في بعده الرقمي: لم تعد سيادة الدولة على الأرض، بل سيادة الخوارزمية على الإدراك.

السؤال المحوري الراهني الذي يطرح نفسه بإلحاح، هو أين نحن كشعوب لا تملك بنية تكنولوجية مستقلة من هذا الأمن السيبراني الذي يُدار من خارجنا؟

الحقيقة المؤلمة أن الأمن الرقمي لم يعد مسألة دفاعية، بل بنية هيمنة. فالدول الضعيفة التي لا تمتلك أدوات الذكاء الاصطناعي، ولا تملك سيادة على بياناتها، تصبح مستعمَرة سيبرانية تُراقَب وتُحلَّل وتُوجَّه دون أن تشعر. أما البيانات الوطنية فتُخزَّن في مراكز خارج حدودها، والمواطن يُعرَّف رقمياً من قبل منصات أجنبية، والوعي الجمعي يُعاد تشكيله بخوارزميات لم تُصمَّم من أجله.

ومن هذا المنظور، يصبح الأمن السيبراني وجهًا ناعمًا للاستعمار الجديد. استعمار لا يحتاج إلى جيوش، بل إلى أنظمة ذكاء قادرة على إدارة الإدراك الجماعي وتحديد أولويات التفكير.

لقد تحوّل الإنسان في العالم الثالث إلى كائن مكشوف تمامًا، بلا خصوصية ولا سيادة على ذاته الرقمية، يعيش في فضاء يراه، لكنه لا يملك مفاتيحه.

إن عصر ما بعد الخصوصية هو لحظة انكسار في الوعي الإنساني. فبينما يتوهم الفرد أنه أكثر حرية في فضاء مفتوح، يصبح في الحقيقة أكثر خضوعًا لنظام شفاف يراه من كل الجهات.

إن ما يسميه الغرب "الأمن السيبراني" ليس بريئًا من النزعة الإيديولوجية التي تُغلفه، فهو يمارس "الأمن" كوسيلة لإنتاج النموذج الثقافي المهيمن، لا لحماية الإنسان من الخطر. إنها هيمنة ناعمة، لكنها كلية، تتسلل عبر الشاشات، وتستعمر المخيلة، وتُعيد تعريف مفاهيم الأمن والحرية والحقيقة.

وفي ظل هذا المشهد، يغدو الدفاع عن الحق في الغموض والحق في النسيان ضربًا من المقاومة الوجودية ضد منطق الشفافية المطلقة.

إن المعاهدة الأممية ضد الجرائم الإلكترونية قد تكون "بداية"، كما قال غوتيريش، لكنها بداية لسؤالٍ أخلاقي جديد: هل سيبقى الإنسان مركز العالم، أم سيغدو مجرد معطى في معادلة رقمية كبرى؟

إن الشعوب الضعيفة مدعوة اليوم إلى استعادة سيادتها الرقمية، لا عبر الدفاع عن الخصوصية فحسب، بل عبر إنتاج فكر تكنولوجي مستقل، يربط بين الأخلاق والعلم، بين المعرفة والكرامة. فالأمن الحقيقي لا يتحقق بالمراقبة، بل بإعادة بناء الثقة بين الإنسان والتقنية.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

هذه خلاصة نقاش حول العوامل البنيوية التي تضغط على توجهات السياسة في أوروبا الغربية في الوقت الحاضر. وتلعب هذه العوامل أدواراً متفاوتة في كل المجتمعات الصناعية، كما أنها تُمثل تجربة متقدمة للمجتمعات التي تتجه نحو الاقتصاد الحديث بشكل عام.

تجدر الإشارة أولاً إلى فائدة التمييز بين نوعين من التحليل السياسي، أكثرهما شيوعاً هو الذي يُركز على التجاذب بين الأطراف الفاعلة في الميدان، بناءً على أن نتائج التجاذب، وما يكسبه كل طرف وما يخسره الآخر، هو الذي يُشكل الصورة الواقعية للحياة السياسية. أما النوع الثاني فهو الذي يُركز على العناصر الجيوسياسية، أي مصادر القوة، وأسباب الضعف الثابتة، التي لا تتغير بتغير الحكومة ولا البرامج السياسية، فهذه المصادر والأسباب تواصل تأثيرها في المشهد السياسي، أيّاً كانت المجموعة الحاكمة.

سوف أركز في هذه الكتابة على انخفاض معدل الخصوبة، وهو أحد العناصر الجيوسياسية المؤثرة على مسارات السياسة. وأشرحه مع الأخذ في الاعتبار تفاعله مع نموذج «دولة الرفاه»، الذي تقوم عليه الدولة الأوروبية، وربما نعود للحديث عنه بشكل مستقل في مقالة مقبلة.

معدل الخصوبة هو عدد الولادات المتوقعة لكل امرأة، ويجب ألا ينزل دون 2.1 مولود لكل امرأة، للحفاظ على عدد السكان نفسه من دون هجرة. ولهذا أطلق على هذا الحد اسم «معدل الخصوبة الإحلالي». ولو أردنا المقارنة، فإن السعودية مثلاً تحظى بالمعدل الأعلى عالمياً، أي 2.3 مولود حي لكل امرأة. أما في دول الاتحاد الأوروبي فقد انخفض المعدل إلى 1.34 مولود لكل امرأة في عام 2023. معدل الخصوبة مهم، لأنه هو الذي يُحدد قابلية المجتمع لتوفير اليد العاملة الضرورية لتحريك العجلة الاقتصادية، فإذا تناقص عدد المواليد، تناقص معه عدد الأشخاص المهيئين للعمل، في حين يزداد بشكل معاكس، عدد المتقاعدين الذين يحتاجون إلى مَن ينفق عليهم. في الوقت الحاضر تصل نسبة كبار السن (65 عاماً وأكثر) في الاتحاد الأوروبي، إلى 21.6 في المائة من السكان، وهي نسبة تتصاعد باستمرار.

انخفاض عدد العاملين، يعني تقلص الحراك الاقتصادي، ومن ثم انكماش موارد الدولة، التي تعتمد على الرسوم والضرائب، وهذا يقود طبعاً إلى زيادة الضغوط على نظام الخدمات العامة، وتجميد أي توسع أو تطوير يتطلب استثمارات كبيرة.

جرّب عدد من الدول، ولا سيما فرنسا والسويد، تشجيع الإنجاب، لكن هذه السياسات لم تلقَ نجاحاً يذكر. الحل الآخر الذي يبدو معقولاً هو السماح بالهجرة الواسعة. ألمانيا مثلاً استقبلت 1.5 مليون مهاجر في 2022، و660 ألف مهاجر في 2023. وتقول أرقام رسمية إن تدفق 200 ألف مهاجر سنوياً يضيف للاقتصاد الألماني نحو 100 مليار يورو على المدى الطويل. أي أن الهجرة تولّد قيمة اقتصادية صافية، رغم أنها تبدو -في أول الأمر- مكلفة. في الوقت الحاضر يمثل المهاجرون 25 في المائة من الشعب الألماني.

لكن الهجرة الواسعة ليست بلا تبعات، فقد أطلقت شعوراً بالقلق من فقدان الهوية أو تحولها. الواقع أن الحكومات الأوروبية تُحاول علاج هذه المشكلة، بالتركيز على قيمة التنوع الثقافي بوصفه جزءاً حيوياً من الهوية الوطنية. ولتأكيد هذا الاتجاه، تُشجع الحكومات المهاجرين على المشاركة في الحياة السياسية، وقد تولّى بعضهم فعلياً مناصب وزارية وعضوية البرلمان. لكن كثراً من السكان، ولا سيما المحافظين التقليديين، يتساءلون بقلق: هل سيتحوّل المهاجرون من محكومين إلى حكام أو مشاركين في حكم بلدنا؟

ربما يجيب بعضهم، ولا سيما من السياسيين التقدميين: وماذا في ذلك، ما دام المهاجر يعمل مثل المواطن الأصلي، ويؤدي واجباته الضريبية، ويشعر بأن هذا وطنه، تماماً مثل بقية المواطنين، فهل نشعر بالقلق لمجرد اختلاف لونه أو دينه أو طريقة عيشه؟

على السطح، تبدو هذه أسئلة بسيطة، ويبدو جوابها بديهياً. لكنها تخفي -في واقع الأمر- تعقيداً شديداً، ويختلط فيه المنطق بالعاطفة وانعكاسات التجربة التاريخية، على نحو يستحيل أن تعالجه الأجوبة البسيطة.

***

د. توفيق السيف

 

وبتجاوز ما هو متعارف عليه على مستوى البدئية المجتمعية الحضارية، وعلى فرض ان بريطانيا استطاعت ان تنظر الى ذاتها بلا توهميه، فانها ستجد نفسها مخترقة ازدواجا من قبل  ارض مابين النهرين، فالمجتمعات لاتكتمل كينونة من دون الاختراق الازدواجي الابراهيمي  شرقا وغربا،ماعدا بعض الاستثناء، ومانتحدث عنه هو الصيغة البدئية الاولى للتحولية اللاارضوية ضمن اشتراطات الانتاجية اليدوية الجسدية، وهومالاينظر اليه سوى بقصد الطرد اقصاء من عالم المجتمعية الى الماوراء، والدينيه الميتافيزيقية،   تكريسا لوحدانيه النمطية والنموذج الارضوي من المجتمعية، الذي  تغلب ابتداء بحكم الطور الانتاجي السائد وقتها،  مع مترتباته الجسدوية.

فلا بدئية بناء عليه الا تلك الموصولة بمبدا ( التجمع + انتاج الغذاء) بعد الصيد واللقاط، بلا تحر في اشتراطات "التجمع"، وموقع "الطبيعة" ونوعها الطارد كما الحال في ارض مابين النهرين، حيث الانتاجية الحاجاتيه مرهونه لاشتراطات الاحتراب مع الطبيعه والعيش على حافة الفناء، سواء بحكم الموقع وسيول السلالات الهابطة لموقع الخصب من الجهات الثلاث الشرق والغرب والشمال من الصحارى والجبال الجرداء، او حكم النهرين العاتيين المدمرين  وفيضانهما عكس الدورة الزراعية، مايولد نمطية انتاجية ومجتمعية احترابيه مضادة تنفي التمايزية في السلطة والملكية، وتوجب المجال فوق الارضي السماوي كمقابل للارضي المجافي والذي سرعان مايتحول الى احترابي يتمثل في الاعلى في ( مدن/ امبراطوريات) منفصله عن المجتمعية الاخرى الاصل السفلى( بابل/ بغداد) بعد كل مايمكن من جهد اخضاعي فاشل بحكم النوع المجتمعي واستحالة الخضوع الذي يعني الفنائية حكما.

لقد تهيأت لبابل بعد مسار طويل من محاولات التفرد المجتمعي من اعلى، الاسباب لكي تتوفر على امضى الممكنات من موقعها داخل اسوارها، لتعريض اللاارضوية للفناء، ماقد حفز في حينه التعبيرية اللاارضوية وجعلها تتكامل،  برغم اشتراطات اللاتحقق وغلبة الطرف الاخر اليدوية الارضوية الاحادية، فتجلت الحدسية النبوية الالهاميه الابراهيميه حاضرة ومخترقة للمدى والمجال  الارضوي كحضورخارج ارضها،  بغض النظر عن غلبة الاشتراطات الارضوية اليدوية في حينه،  ورغما عنها، وعن قصورية وانتفاء الاسباب المادية والوسائل الضرورية للتحقق، فكان ان وجدت اللاارضوية خارج اعتبارات الجغرافيا والمكان والتمايزات البشرية، وصولا الى الانصبابية الرومانيه والفارسية والرد عليهما، والذهاب الى ماورائهما بالارتكاز لا الى الكيانيه والارض وحدود الجغرافيا، بل للكينونه البشرية الازدواجية وبناء على  تشكل الكائن الحي (العقل/ جسدي) وحقيقته الديناميه.

تتعرف ارض مابين النهرين على ثلاث دورات في طريقها للتحقق واقعا  وعبور طور الانتاجية اليدوية الجسدية واشتراطاتها،نحن اليوم في الاخيرة منها قبل النطقية مابعد النبوية الحدسية الابراهيميه الاولى التي  انتهى مفعولها وضرورتها،  واعلنت هي "ختامها"على مشارف انتهاء الطور اليدوي الجسدي من الانتاجية  والمجتمعية، وهو ماقد هيات الدورة الرافدينيه الثانيه اسبابه، فالتشكل الامبراطوري الكوني العباسي القرمطي وفر اللازم في حينه وخلال خمسه قرون من النظام الاقتصادي العالمي التجاري الريعي، من الاسباب لتحفيز الانقلاب مابعد اليدوي في موضع الازدواج الطبقي، بناء لطبيعته ونوع اصطراعيته المغلقة والتي تستوجب  لاجل الحل، حضور عامل من خارج الاصطراعية الطبقية، يقلبها وينهي امدا من التاريخ المجتمعي  ظل محكوما لديناميات (الكائن البشري / البيئة)، لنغدو مع الاله في غمرة حال تفاعلية مستجده نوعا وكليا، عناصرها (الكائن البشري + متبقيات البئية + الالة) والاخير عنصر مختلف نوعا وطبيعة، من شان حضوره وضعنا في غمارنوع مجتمعية اخر غير ماكان عرف قبل هذا التاريخ.

وما كان بناء للكينونه المجتمعية، للانتقال الى مابعد اليدوية ان يحصل  وفقا للبرنامج التعاقبي السطحي الارضوي وتوهميته، من دون اعتبارات مطابقة لطبيعته النوعية الانقلابيه ومنطوياته غير الظاهرة ابتداء، فكان لابد من ان ياخذ الانقلاب الاكبر المشار اليه شكل الوقوع تحت وطاة متبقيات ونوع المجتمعية الحاصل فيها الانقلاب الالي ابتداء، بحيث تسود فترة انتقاليه مابين الاله المصنعية والتكنولوجيا العليا المهياة للذهاب اليها، والتي هي المقصد  والغاية الفعليه، بينما  تتحمل المعمورة وقتها مغبة واثار التوهمية الاوربية ونوع الممارسة المدمرة التضليلية، تاخذ في حالة العراق بالذات طابعا افنائيا، ابتداء بفرض كيانيه برانيه لم يعرفها المكان على مر تاريخه، ولا هي من جنسه، يضع مرويتها الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه فليب ويرلند، موجدا عراقا لاعراقي تتبعه الاحزاب المضادة بلا ذاتيه وطنيه،  لتصنع من جهتها "مجتمعا"  ايديلوجيا متطابقا مع الفبركة البرانيه الاستعمارية، وصولا في نهاية المطاف الى السحق الكياني المباشر بالحرب التي كلفت المجتمعية الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ 2،4 تريليون دولار، وجيشت كل دول العالم في حدث لاسابق له ولا مثيل في العصر الراهن، من نزعة الافناء الكلي.

وبعدها وبعد ماقد مر حتى الان من فرض اليات منع اعادة التشكل،  وتكريس صيغة السلطات الموزعه على الجماعات المنتهية الصلاحية والفعالية من دون دوله، فان اتعس مايمكن ان  يعتمد في النظر الى المستقبل، هو طريقة النظر، ومنهجيات التحليل الشائعه التوهمية بالاخص، والبالية التي فقدت منذ زمن، الحد الادنى من مبررات الاستمرار  بالذات في الحالة التي نحن بصددها، فالعراق الغائب تنطوي بغيابه ديناميات وقوانين فعل خاصياته ليظل مكرها على  تحمل انواع النظر والتحليل غير المطابقة لكينونته، ولا لحقيقة واحتمالية ماهو مقبل عليه، فالافنائية المعتمدة  بحق اللاارضوية، هي بالاحرى الطريق المفضي الى النطقية المؤجله، مع مايمكن ان تتوفر عليه اليوم بالذات من نوع انتقالي نوعي ضروري، بعد ذلك الاول الذي جاء ردا على محاولة الافناء اليدوي البابلي،  وقد تهيات اليوم الاسباب لاكتمال الانقلابيه الالية، بعدما صارت التكنولوجيا العليا / العقلية، اقرب للحضور، وقلب كل ماهو سائد ومتعارف عليه من متبقيات الطور المنصرم الارضوي الجسدي، وهنا يكمن المسرب الراهن، فالتكنولوجيا العليا والنطقية اللاارضوية هما الطريق المنتظر من هنا فصاعدا حتى يخرج العالم برمته من تازمه الاكبر المتعاظم.

***

عبد الامير الركابي

كتب الشَّيخ محسن كديور يقول: «إنَّ عقائد الغُلاة تحوَّلت بالتّدريج، في القرنين الثّالث والرَّابع (الهجريين)، إلى عقائد المذهب، لتصبح بعد قرابة عشرة قرون مِن ضروريات المذهب، وعقائده الجوهريَّة الأساسيَّة» (القراءة المنسيَّة). منها تحوير معنى «التَّقيَّة»، وهي موجودة لدى الجميع بهذا المعنى أو ذاك، تجنباً لضَّررٍ في غير محله. لكن أن يزحف الغرض إلى قلب مواقفَ رموز، في المذهب، إلى ما لا يقصدونه، فهذا مِن فعل الغلاة، وخصوصاً إذا ما جاء متأخراً مع الدَّولة الصّفويَّة، لتكون في ما بعد مِن الضَّروريات، حسب الشَّيخ كديور. نأتي بمثالين أحدهما للإمام جعفر الصَّادق (ت: 148هج)، والآخر لشخصية كبيرة في الإماميَّة، وهو الحُسين بن روح (ت: 326هج). سُئل الصَّادق عن الخليفتين الرَّاشدين الأولين، وكان جوابه في مجلس خليفة عباسيّ، فقال: «هما إمامان عادلان قاسطان، كانا على الحقّ فماتا عليه، عليهما رحمة الله» (الجزائري، الأنوار النُّعمانيَّة).

كان الجواب يتناسب مع سلوك الصّادق، مثلما نقرأ في سيرته، وما له مِن صِلة قرابة مِن ناحية أمّه بأبي بكر الصّديّق، فهي حفيدته لكن لم يترك الغلاة الصَّادق بما أجاب، فلابد أنْ يقدمه رمزاً للعداوة التي ينقلها الغلاة مِن جيلٍ إلى جيل، حتَّى يومنا هذا. فنجده يكمل الرِّواية ليؤكد بها التَّقية، على أنها الدِّين، ويواصلَ قائلاً: «فلما قام مِن المجلس تبعه بعض أصحابه، وقال: يا ابن رسول الله قد مدحت أبا بكر وعمر هذا اليوم! فقال: أنت لا تفهم معنى ما قلتُ، فقال: بينه لي؟» (الأنوار النُّعمانيَّة) فبينه له بعكس ما مدحهما.

المثال الثاني عن السفير الثّالث ابن روح، كذلك «بلغ الشَّيخ أبا القاسم رضي الله عنه أنَّ بواباً كان له على الباب الأول، قد لَّعَن معاويةَ وشتمه، فأمرَ بطردهِ وصرفهِ عن خدمته، فبقي مدة طويلة يُسأل في أمرهِ، فلا والله ما رده إلى خدمتهِ، وأخذه بعض الأهل فشغله معه. كلَّ ذلك تمويهاً للتقية» (الطّوسيّ، كتاب الغيبة).

السُّؤال: لماذا فُسرت عقلانيَّة جعفر الصَّادق والسّفير ابن روح بالتَّقية؟ وهل السَّبُّ، أو عدم الاعتراف بالخلفاء كان مِن جوهر التَّشيع منذ البداية؟ بينما كان واقعاً قد حصل، وكان الإمام عليّ بن أبي طالب وأولاده وأحفاده جزءاً منه، وهو أصبح الخليفة الرّابع بعد ثلاثة خلفاء تعامل معهم شخصياً ببيعة منه. أم أنَّ الغُلاة أرادوا تكريس ما كانوا يدعون إليه، فزعموا أنَّ كلَّ موقف عقلانيّ مغلفٌ أو مموهٌ بالتّقية، أي تقول ظاهراً وتخفي باطناً، ولا نرى في ذلك مِن أخلاق الأئمة، مثلما يُقدمهم الأدب الشّيعيّ، بكلِّ هذا الجلال والتّقديس، ويبجلهم الأدب السُّنيّ على هذا النَّحو.

لكنْ لماذا يوافق الإمام الصّادق أو ابن روح النُّوبختي على السّبّ، وعليّ بن أبي طالب يوصي جماعته، وكانوا يسبون أهل الشَّام في «صفين»: «إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذَكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سَبَّكم إيَّاهم، اللّهم احْقن دِماءنا ودِماءهم، وأصلح ذات بَيننا وبَينهم» (نهج البلاغة). فقياساً بما تقدم مِن تبرير، يكون عليّ بن أبي طالب منع سَبَّاب جماعته تقيةً، أو تظاهراً؟! بينما هو حقَّاً كان يدعو إلى حقن دمائهم، وإصلاح ذات البين معهم، بينما «الغُلاة» يريدونها حرباً مدى الدَّهر!

والسَّب المتداول المتقابل، على شاشات الفضائيات، ومِن على المنابر، هو شرار لحروب وكراهيات، داخل الأوطان المختلطة. كان الاختلاف المذهبي وما زال، يشتد ويفتر، لكنَّه يتحول إلى عِراك إذا ما تقابلت الصّفوف بالسّب والتَّكذيب والتَّكفير، لذا قال محمَّد الأنصاريّ (ت: 535هج): «احفظ لسانك لا تبح بثلاثةٍ/ سنٍ ومالٍ ما استطعتَ ومذهبِ/ فعلى الثَّلاثة تبتلي بثلاثةٍ/ بممَّوه ومكفرٍ ومكذبِ» (ابن الجوزيّ، المنتظم). نعم، إنَّ التَّقيّةَ معترفٌ بها، لكن ليست للتمّويه عن سبٍّ وإهانة.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

مفكرون يهود ضد الصهيونية (6)

يمثل مارت بوبر أحد أبرز الفلاسفة اليهود المعاصرين الذين طغى على إشتغالهم الفكري السعي الى تقديم مقاربة خاصة في العلاقات الانسانية عبر دالة البعد المعنوي، جامعاً في تفكيره الفلسفة واللاهوت والاجتماع والانثروبولوجيا والفكر السياسي، وقد ولد في مدينة فيينا عام 1878م لأسرة يهودية مثقفة، إذ كان جده سالومون بوبر (1827-1906م) من المتخصصين في الفكر التوراتي والتلمودي، الذي سيتربى عنده مارتن في مدينة لوفوف الأوكرانية عقب إنفصال والديه وهو بعمر الثالثة، ويتعلم العبرية مطلعاً في الوقت ذاته على التراث اليهودي والمعتقدات المتعلقة به، وفي عام 1892م يعود مارتن إلى منزل والده في ليمير الألمانية، وهناك سيمر بأزمة دينية تجعله يقطع صلته باليهودية مُبدياً في الوقت عينه ميلاً إلى الفلسفة قارئاً لعمانؤيل كانت (1724-1804م) وفردريك هيغل (1770-1831م) وفردريك نيتشه (1844-1900م) وغيرهم مما سيدفعه الى الرغبة في التخصص في مجال الفلسفة في جامعة فيينا.

وفي عام 1898م قرر مارتن أن ينضم الى الحركة الصهيونية، ليصبح بعد ذلك، كما تنقل الموسوعة البريطانية(1) ، محرراً لصحيفة الصهيونية الإسبوعية The World/العالم، عقب دعوة وجهها له ثيوديور هرتزل (1860-1904م)، إلا العلاقة والوشاجة لن تدوم بين الطرفين جرّاء تباين وجهات نظرهما حول معالجة المسألة اليهودية، فبوبر يميل الى حلول تختلف جذرياً عن حلول هرتزل المتشددة، والساعية الى إقامة الوطن اليهودي عبر إقصاء السكان الأصليين منه، وهو ما رفضه بوبر كما سيأتي لاحقاً.

ونتيجة لميول مارتن بوبر الروحية والمعنوية، وكذلك تأثره ببعض الفلاسفة المعنويين كمؤسس الإتجاه الوجودي سورين كريكَجارد (1813-1855م)، وبعد إطلاعه على فكر تيار الحسيدية اليهودي سيقرر إعتناق هذا الفكر الذي رأى في قرباً كبيراً مع توجهاته وتفكيره عام 1903م، ليستمر في التفكير والكتابة ضمن هذا المناخ الفكري، ليتوّجَه عام 1923م بنشر كتابه الأشهر (الأنا والأنت) الذي يمثل ذروة تفكيره في مجالات الحوار والتفاعل والعلاقات الانسانية، كما سيقوم بوبر بترجمة التوراة من اللغة العبرية الى الالمانية بالتعاون مع أحد أصدقائه، وفي عام 1930م سيصبح أستاذ شرف في جامعة فرانكفورت، إلا أن سيُقدم على الاستقالة عام 1933م إحتجاجاً على وصول النازية الى السلطة في ألمانيا، وستقوم السلطات النازية بمنعه من التدريس في المؤسسات العامة، فقام بتأسيس المكتب اليهودي للتعليم اليهودي للراشدين، والذي سيتم حظره كذلك من قبل النازييين.

وفي العام 1938م يقرر مارتن بوبر الهجرة الى فلسطين، مُقيماً في القدس، عاملاً كأستاذ للأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع في الجامعة العبرية، وزاد خلال إقامته في القدس من مشاركته السياسية واستمرّ في تطوير أفكاره حول الصهيونية ليشارك عام 1942 في تأسيس حزب "إيحود/الوحدة" الذي دعا إلى برنامج حلّ ثنائيّ القومية، مخالفًاً هرتزل في اتجاهه السياسيّ والثقافي وفي تصوّره للصهيونية كقومية يهودية ليست في حاجة إلى الثقافة والدين اليهوديين، في حين كان بوبر يرى أنّ هدف الصهيونية هو إثراء اليهود اجتماعيًا وروحيًا، داعيًا إلى ضرورة إصلاح اليهودية بعد تأسيس "إسرائيل" وقائلًا: (إننا نحتاج إلى من يفعل لليهودية ما فعله البابا يوحنا الثالث والعشرون للكنيسة الكاثوليكية)(3) ، كما كان بوبر أحد زعماء (بريت شالوم) (تحالف السلام)، وهي حركة نادت بالتسامح والتقارب في علاقة اليهود مع الحركة القومية العربية، وقد توفي بوبر في مدينة القدس عام 1965م.

وقبل الولوج الى النقد الذي سيقدمه بوبر الى الحركة الصهيونية نعتقد أن من الأهمية بمكان الإرتكان على تقديم شرح مبسط لنظريته في العلاقات الانسانية والحوار (الأنا-أنت)، إذ يرى بوبر أن الإنسان كائن إجتماعي بذاته، وإذا كان الكوجيتو الديكارتي يقوم على معادلة (أنا أفكر إذن أنا موجود) فإن معادلة بوبر تقوم على (أنا أُقيم علاقات فأنا موجود) لتأكيد محورية أُسية الطابع العلائقي في الذات الانسانية، ويعتقد بوبر أن هناك نوعين من العلاقات، والتي نظّر لها في كتابه (أنا وأنت  I and Thou) عام 1923م(4):

النوع الأول: (أنا-هو/ I-It): في هذه العلاقة يُعامل الآخر على أنه شيءٌ من الأشياء، أو كموضوع أو وسيلة، ولذلك تكون العلاقة في هذا النوع مرتسمة برسم النفعية، وللعقل والخيال فيها البعد الأثر الكبير، وبعبارة أخرى، تتأسس العلاقة في هذا النوع على النظرة إلى الآخر من خلال اللحاظ الوسائطي، أو الطريقي، الذي يحقق غاية للإنسان كأداة أو وسيلة، ومن ثم لا يظهر هذا الآخر في العلاقة مع الأنا كحقيقة تفاعلية، وإنما كتعبيرٍ عن موضوع للمعرفة أو الإستخدام، كتعامل الانسان مع سائق التكسي أو من يقدم لك خدمة عابرة، أو عندما تدرس نباتاً أو مادة في المختبر، وهي علاقة لا تحظى بإنعدام الفواصل بين الذات والموظوع، بل تهيمن عليها خاصية التأقيت والإختزال، والعالم، وفقاً لها، يتم إختزاله في أشياء ومفاهيم يمكن قياسها أو تحليلها، وإذا ما تم توسيع علاقة (أنا-هو) لتطغى على كل العلاقات الانسانية فإنها ستحول الآخرين لدى الأنا إلى مجرد موضوعات للدراسة أو التحليل أو الاستخدام النفعي، ومن ثم ستؤول الأمور الى التشيؤ.

النوع الثاني: (أنا-أنت/ I-Thou): على خلاف النوع الأول، تظهر العلاقة في هذا النوع كعلاقة تفاعلية بين الأنا والآخر، ولا يظهر الاخر كغائب أو موضوع دراسة وتحليل و إستخدام، بقدر ما يظهر ككائن حي متكامل متفاعل مع الأنا، وهذه العلاقة تمثل جوهر الوجود الانساني من وجهة نظر مارتن بوبر، وهي لا تقتصر على علاقة الانسان-الانسان، وإنما ترتبط كذلك بعلاقة الإنسان بالله، إذ فيها يظهر الله تعالى لا كموضوع للدراسة، بقدر ما يظهر كــــ(أنت الأزلي) الذي يتحاور الانسان معه، ويعيش معه علاقة روحية تفاعلية، وهنا يظهر التكامل في طريقة التفكير الخاص بمارتن بوبر، وفي إرتباطه الديني بالفكر الحسيدي القائم على النظرة الدينية الروحية.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن بوبر لا يقف على الضد من علاقة (أنا-هو) تماماً، وإنما يضعها في سياقها الطبيعي، إذ أنها علاقة ضرورية في مجالات العلم والتقنية والعمل اليومية، وكذا للعلاقات الطريقية العابرة، بيد أن الخطر الكبير يكمن في أن تهيمن هذه العلاقة على مجمل معالم الحياة الانسانية، وتصبغ بصبغتها كل العلاقات الاجتماعية والروحية، فيفقد الانسان، تبعاً لذلك، البعد الروحي، ويعيش في عالم الأشياء فقط، والإنسان المتوازن، من وجهة نظر بوبر، هو الذي يعيش حالة التوازن والتعادل بين هذين النوعين من العلاقة، فهناك علاقة مع الـــ(هو) الذي نستخدمه وندرسه، وأخرى مع الـــ(أنت) الذي نلتقي فيه ونتفاعل معه في علاقة حضور تفاعلي مع الأنا بخلاف الهو الي يظهر كموضوع دراسة تغيب أناه الخاصة عن التفاعل الحضوري المعنوي مع الأنا.

ونفترض أن فهم طبيعة نظرية بوبر في العلاقات الانسانية مع الآخر ضروري جداً لفهم موقفه النقدي من الحركة الصهيونية، وطبيعة الحل الذي يتبناه للمسألة اليهودية، لأن نقده للصهيونية، وخلافه مع هرتزل وإنسحابه من التعامل معه، لا يعبر عن موقف سياسي بحت، وإنما يعبر كذلك عن تناغم مع فلسفته وفكره الحواري التفاعلي، إذ طالما أن جوهر العلاقة الرابطة للانسان هو النوع الثاني (أنا-أنت)، فلا يمكن إختزال التعامل مع الآخر في (أنا-هو)، وهذا ما تقوم الصهيونية بإتباعه في مشروعها، فالأرض شيء نملكه، والسكان الأصليون الفسطينيون عبارة عن عائق (هو) يقف أمام رغبتنا فعلينا أن نزيحه، والدولة الصهيونية أداة لتحقيق غاية الأمن القومي للصهيونية، والدين/اليهودي وسيلة آيديولوجية تُوّظف من أجل تحقيق غاية سياسية، لذلم أضحت العلاقة مع الاخر علاقة  (الانسان وكذلك الله تعالى) علاقة الـــ(هو).

ومن هنا نفهم لماذا سعى بوبر إلى ان تكون العلاقة الرابطة مع العرب علاقة تفاعل وحوار (أنا-أنت)، منطلقاً من فلسفته الحوارية في أن العلاقة بين الشعوب يجب أن تكون علاقة إعتراف متبادل، وليس علاقة سيطرة أو تملك أو إقصاء، ونتاجاً لذلك، رفض بوبر مبدأ الحركة الصهيونية الهادفة إلى إستبعاد الفلسطينيين وتأسيس كيان يهودي فقط، ودعا إلى إقامة دولة ثنائية القومية يعيش فيها اليهود والعرب في علاقة (أنا-أنت)، ولذلك سعى في حزب إيحود إلى أن الحياة في هذه الأرض لن تكون ممكنة ما لم يتم الاعتراف بالاخر الفلسطيني على أنهم الـــ(أنت) بالنسبة لليهود، وقد كتب بوبر في إحدى رسائله (إن القضية ليست أن نُقيم دولة بأي ثمن، بل أن نُقيم مجتمعًا بشريًا في هذه الأرض يكون فيه الإنسان هدفًا، لا وسيلة)(5).

ومن هنا فإننا نتفق مع السيد ولد أباه(6) في تأكيد أن بوبر، وإن كان يتبنى فكرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي هي أساس المشروع الصهيوني الأصلي، إلا أنه يحرص على أن لا تكون في شكل النزعة القومية السياسية، وألا تكون على حساب العرب من سكان الأرض التي يعيشون فيها، فما يتبناه بوبر هو نمط من النزعة اليهودية الروحية التي تتأقلم مع الفكرة الحديثة للدولة السيادية الوطنية المجسدة لروح الشعب وفق المصطلحات الهيغلية، وإنما تصدر عن العقيدة الأرثوذكسية الحسيدية، وتتبنى رؤية غير سياسية للرابطة الجماعية الروحية، إذ تكون الأولوية للمقتضيات الأخلاقية على محددات السلطة والقوة، وان هدف “إعادة بعث إسرائيل” بالنسبة لبوبر لا يمكن أن يتم عن طريق المقاييس السياسية الحديثة، أي بناء الدولة القومية وفق المبدأ الولسوني الشهير الذي يكرس حق تقرير المصير للأمم ضمن كيان قانوني معترف به دوليًاً، فالانبعاث الذي يتحدث عنه بوبر يتم من خلال الرجوع للتراث اليهودي، ومن هذه المنطلقات يرى بوبر أن الصهيونية السياسية تتعارض في العمق مع التراث اليهودي الأصلي، وتفضي إلى التضحية بجوهر الدين من أجل الدولة التي تحولت إلى صنم معبود، إن رسالة النبي موسى الحقيقية هي أن الأرض لا يملكها إنسان، وأن السيادة ليست لبشر في هذا العالم، وما كرسته الصهيونية السياسية هو بناء أيديولوجيا قومية تنتهك روح ونص هذه الرسالة الدينية اليهودية المقدسة.

***

د. محمد هاشم البطاط

.....................

المصادر:

(1) يُنظر الموقع الرسمي للموسوعة البريطانية، على الانترنت: www.britannica.com

(2) تكشف الحسيدية عن أحد التيارات اليهودية التي تعبر عن التوجه الصوفي الباطني الشعبي، والتي نشات في أوربا الشرقية (بولندا وأوكرانيا) في منتصف القرن الثامن عشر على يد الحاخام إسرائيل بن إليعازر، والمعروف ب"بعل شم طوف"، وتعني كلمة (حسيد) في اللغة العبرية: الورع أو التقي، وقد ظهر هذا التيار داخل اليهودية جرّاء معاناة الجماعات اليهودية في أوربا الشرقية من الفقر والجوع والاضطهاد والجمود الديني، وعدم التفاعل على الطريقة التقليدية التي يعتمدها الحاخامات اليهود في الجمود على الطريقة الحرفية/النصية للمتن الديني اليهودي، إذ تميل الحسيدية إلى التركيز على الجوانب العواطفية الروحية في التعامل مع الدين، وعلى التفاعل الديني كتجربة روحية لا على الجدل العقلي، وكأنها ثورة من الدفء الروحي ضد البرود العقلي  إن جاز التعبير ولاق، ومن أبرز المرتكزات الفكرية التي تقوم عليها الحسيدية:

1- حضور الله في كل شيء، فهو ليس بعيداً في السماء، بل يسكن في كل ذرة من الوجود، كما لا يوجد فصل حقيقي بين “المقدّس” و”الدنيوي”، فحتى العمل اليومي، والطعام، والضحك، يمكن أن تكون وسيلة لعبادة الله إذا قُصِدت بنية صافية.

2-  الفرح والنية أهم من المعرفة، إذ يرون العبادة ليست في قراءة التوراة ودراستها فقط، بل في الفرح بالله والإخلاص في النية، كما يرفض الحسيديون الحزن واليأس؛ فالحزن علامة على البُعد عن الله، بينما الفرح علامة على حضوره.

3- القيادة الروحية – شخصية “التسديك” (Tzaddik)(الصالح) وهو الزعيم الروحي للجماعة، بمثابة الوسيط بين الناس والله، ويتميّز هذا القائد بالحكمة والقداسة، ويُنظر إليه بوصفه قناة للنعمة الإلهية، وتكون العلاقة بين الحسيد وأستاذه الصالح هي علاقة حب وثقة مطلقة.

4- التأكيد على الروح الجماعية، وقد رفضت الحسيدية النخبوية الدينية، وفتحت الطريق أمام اليهود البسطاء ليعيشوا تجربة الإيمان بعمق، لذلك كانت حركة اجتماعية–روحية أكثر منها فلسفية أو أكاديمية.

هذه المرتكزات وغيرها قادت الحسيدية الى الصِدام مع التيارات التقليدية اليهودية، وأُتهمت إثر ذلك بالهرطقة والإبتعاد عن التوراة.

للتوسع حول الحسيدية، يُنظر: جعفر هادي حسن، اليهود الحسيديم، نشأتهم، تأريخهم، عقادئهم، تقاليدهم، ط1 1994م، دار القلم، دمشق.

(3) جورج معدي، مارتن بوبر منبهاً الى سقوط الصهيونية الاخلاقي، على الانترنت:  www.diffah.alaraby.co.uk

(4) للتوسع حول نوعيّ العلاقة في فكر مارتن بوبر، يُنظر:

Martin Buber, I and Thou, translated by; Walter Kaufmann, 1970, EbookIt,

(5)           Martin Buber, “A Letter to Gandhi,” in A Land of Two Peoples: Martin Buber on Jews and        Arabs, edited by Paul Mendes-Flohr, University of Chicago Press, 1983, p. 173

(6) السيد ولد أباه، مارتن بوبر والصهيونية الدينية، على الانترنت: www.ardd-jo.org

 

قراءة في ضوء التجربة المغربية

مقدمة: تعد الانتخابات التشريعية احدى الركائز الاساسية في البناء الديمقراطي، اذ تمكن المواطنين من اختيار ممثليهم داخل المؤسسة البرلمانية، وتجسد مبدأ السيادة الشعبية في ابعاده العملية، غير ان ضمان نزاهة هذه الانتخابات لا يقتصر على تنظيمها فحسب، بل يتطلب ايضا وجود اليات رقابية فعالة تمكن من الطعن في نتائجها عند وقوع مخالفات او تجاوزات تمس بمصداقيتها.

منذ اول دستور لسنة 1962، تم التنصيص على اختصاص الغرفة الدستورية في البت في الطعون المتعلقة بانتخاب اعضاء البرلمان، وذلك في الفصل 103. هذا الاختصاص استمر وتطور، حيث انتقل الى المجلس الدستوري، ثم جاء دستور 2011 باحداث المحكمة الدستورية كهيئة مستقلة، ومنحها صلاحيات اوسع، وجعلها من ضمن ركائز الاصلاح الدستوري، حيث نص الفصل 132 على انها تمارس الاختصاصات المسندة اليها بفصول الدستور وباحكام القوانين التنظيمية، وتبت في صحة انتخاب اعضاء البرلمان وعمليات الاستفتاء.

في هذا السياق، يضطلع القاضي الدستوري بدور محوري في مراقبة سلامة العملية الانتخابية، من خلال اختصاصه في البت في الطعون المتعلقة بانتخاب اعضاء البرلمان، وفق ما ينص عليه الدستور والقوانين التنظيمية ذات الصلة، وتعد هذه الطعون احدى الوسائل القانونية التي تضمن احترام ارادة الناخبين، وتحمي العملية الانتخابية من اي انحراف او اخلال.

فكيف تتم اجراءات الطعون الانتخابية امام القاضي الدستوري؟

اولا: شروط قبول الطعن

تنقسم شروط الطعن الى شروط شكلية وشروط موضوعية.

بالنسبة للشروط الشكلية تتجلى في تحديد الجهات المخول لها حق الطعن وايضا البيانات الواجب توفرها في العريضة، ومنح المشرع الدستوري اهلية تقديم الطعون الى ( المنتخب، الناخب، العامل، كاتب اللجنة الوطنية للإحصاء بالنسبة لمجلس النواب) أما بخصوص مجلس المستشارين فهي ممنوحة ( للمنتخب، الناخب، الوالي، كاتب اللجنة الوطنية للإحصاء).

تحدد المادة 35 من القانون التنظيمي رقم 066.13 البيانات الاساسية التي يجب ان تتضمنها عريضة الطعن في نتائج الانتخاب، وهي:

- الاسم الشخصي والعائلي للطاعن؛

- صفته وعنوانه؛

- الاسم الشخصي والعائلي وصفة المطعون في انتخابه؛

- بيان الوقائع والاسباب المعتمدة لطلب الإلغاء.

 مع ضرورة ارفاق العريضة بالمستندات المدلى بها. ويسمح للطاعن بالاستعانة بمحام، كما يمكن للمحكمة الدستورية منحه اجلا استثنائيا للادلاء بجزء من الوثائق اذا اقتضى الامر. وتجدر الاشارة الى ان العريضة لا تترتب عنها اثار واقفة، وهي معفاة من الرسم القضائي وكافة رسوم الدمغة والتسجيل.

اما من حيث الشروط الموضوعية، فانها تعزز العريضة الى جانب الشروط الشكلية، وتعد ضرورية لتاسيس الطعن ودعمه بحجج وادلة مستمدة من مخالفات شابت العملية الانتخابية. ومن بين هذه المخالفات:

- استعمال المساجد لاستمالة الناخبين؛

- تعيين اعضاء غير مؤهلين او اميين في مكاتب التصويت؛

-  تجاوز المراحل القانونية للعملية الانتخابية ؛

- الشروع في الفرز قبل الوقت المحدد؛

- احتساب اوراق كان يجب الغاؤها؛

- الغاء اوراق صحيحة دون مبرر.

 وتعزز هذه الماخذ بوثائق مؤيدة، من بينها محاضر فرز الاصوات ومحاضر لجنة الاحصاء.

ثانيا: كيفية ايداع الطعون

تنص المادة 32 من القانون التنظيمي رقم 066.13 المتعلق بالمحكمة الدستورية ان اجل ايداع الطعون هو ثلاثين يوما الموالية للإعلان عن النتائج. ويحال النزاع الى المحكمة الدستورية بعريضة مكتوبة كما تنص المادة 34، وتودع لدى (الامانة العامة للمحكمة الدستورية او لدى الوالي او العامل او لدى كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية التي اجري الانتخاب بدائرتها)، وذلك مقابل وصل يحمل تاريخ الايداع ويتضمن قائمة الوثائق والمستندات المقدمة من طرف الطاعن.

يقوم الوالي او العامل او رئيس كتابة الضبط بإشعار الامانة العامة للمحكمة الدستورية بكل وسيلة تواصل معمول بها بما في ذلك البريد الالكتروني، ويوجه اليها العرائض التي تلقاها.

ثم بعد ذلك تسجل العرائض بالأمانة العامة للمحكمة الدستورية بحسب ترتيب وصولها، ويشار في تسجيل العرائض الواردة من الجهات الى تاريخ تسليمها.

مباشرة بعد ذلك، يقوم رئيس المحكمة الدستورية فورا بإشعار رئيس مجلس النواب او رئيس مجلس المستشارين حسب الحالة بالعرائض التي وجهت اليه او اشعر بتلقيها.

ثالثا: دراسة الطعن والرد عليه

حيث ان المحكمة الدستورية تتلقى العرائض المتعلقة بالطعن في نتائج الانتخاب، فإنها توجه نسخة منها الى الاشخاص المطعون في انتخابهم، وذلك وفقا لما تنص عليه المادة 36 من القانون التنظيمي. اذ ان هؤلاء يمنحون اجلا مدته خمسة عشر يوما من تاريخ التبليغ، يمكنهم خلاله الاطلاع على المستندات المرفقة بالعريضة لدى الامانة العامة للمحكمة، والحصول على نسخ منها، بهدف تقديم ملاحظاتهم الكتابية بشأن ما ورد فيها.

وتملك المحكمة الدستورية امكانية تبليغ المذكرات الجوابية للأطراف المعنية مع الاشارة الى اجل الرد عليها.

رابعا: التحقيق في الطعن

تنص المادة 37 على انه يجب على كل جهة تودع لديها محاضر العمليات الانتخابية وملاحقها ان توجهها الى المحكمة الدستورية اذا طلب منها ذلك، وللمحكمة الدستورية ان تامر بإجراء تحقيق في الموضوع وتكلف واحدا او اكثر من اعضائها(مقرر) بتلقي تصريحات الشهود بعد ادائهم اليمين بين يديها، ويحرر محضر بذلك من طرف كتابة الضبط ويدعى المعنيون للاطلاع عليه في الامانة العامة للمحكمة وايداع ملاحظاتهم في شأنه كتابة في غضون ثمانية ايام.

خامسا: البت في الطعن واصدار القرار

تبت المحكمة الدستورية في الطعون المتعلقة بانتخاب اعضاء البرلمان بموجب الفقرة الاخيرة من الفصل 132 من الدستور، داخل اجل سنة ابتداء من تاريخ انقضاء اجل تقديم الطعون اليها كما تنص المادة 33، غير ان للمحكمة تجاوز هذا الاجل بموجب قرار معلل اذا استوجب ذلك عدد الطعون او استلزم ذلك الطعن المقدم اليها، فعندما تكون القضية جاهزة تبت فيها المحكمة بعد الاستماع الى تقرير المقرر داخل اجل ستين يوما كما تنص المادة 38، غير انه يمكن للمحكمة ان تقضي دون اجراء تحقيق سابق بعدم قبول العرائض او رفضها اذا كانت تتضمن مآخذ يظهر جليا انه لم يكن لها تأثير في نتائج الانتخاب.

تقوم المحكمة الدستورية، في جميع الأحوال، بإبلاغ قراراتها إلى الجهة الإدارية التي تلقت طلب الترشيح، وإلى مجلس النواب أو مجلس المستشارين، وكذا إلى الأطراف المعنية، وذلك داخل أجل لا يتجاوز ثلاثين يوما من تاريخ صدور القرار، وإذا لم يكن عنوان الأطراف أو محل المخابرة متوفرا لدى المحكمة، يعتمد مقر العمالة التابعة للدائرة الانتخابية باعتباره الموطن القانوني.

 واذا قضت المحكمة لفائدة الطاعن كما تنص المادة 39، فلها ان تلغي الانتخاب المطعون فيه او تصحح النتائج الحسابية التي اعلنتها لجنة الاحصاء وتعلن عند الاقتضاء المرشح الفائز بصورة قانونية.

خاتمة:

ختاما ومن خلال تتبع مختلف مراحل الطعن الانتخابي، يتضح ان القضاء الدستوري لا يقتصر فقط على البت في صحة انتخاب اعضاء البرلمان، بل يشكل آلية فعالة لحماية الحقوق السياسية وضمان احترام ارادة الناخبين، فالولوج الى المحكمة الدستورية يمكن الاطراف من الانصاف، ويمنحهم فرصة للطعن في التجاوزات التي قد تمس بنزاهة العملية الانتخابية.

ورغم ان هذه المؤسسة تبدو صغيرة من حيث بنيتها وتركيبتها، الا انها تضطلع بوظائف دقيقة وصعبة، وتؤدي دورا محوريا في ترسيخ الديمقراطية، وتكريس مبدأ فصل السلط، وضمان التوازن بين المؤسسات، وهذا ما يبرز مكانتها كهيئة دستورية مستقلة، لها قيمة كبيرة في البناء المؤسساتي، وفي حماية المشروعية الانتخابية، وفي تعزيز الثقة في المسار الديمقراطي ككل.

***

سفيان بامحمد - باحث في العلوم السياسية والقانون العام.

أخطر تنظيمٍ إرهابيٍّ في القارة الإفريقية

توطئة: كل أمةٍ تخلق أساطيرها حول الخلاص، لكن حين تتحوّل تلك الأساطير إلى مؤسساتٍ أمنية، يبدأ زمن الرعب…

في السودان، حملت الجبهة الإسلامية القومية اسم الله على راياتها، وحملت السلاح باسم الشريعة، فابتلعت الدولة والناس والذاكرة.

لم تكن تجربتها مجرد انقلابٍ على السلطة، بل مشروعًا لاهوتيًا متكاملًا، صاغته عقولٌ اعتقدت أن الله يحتاج إلى حزبٍ يحكم باسمه. هكذا تحوّل الإيمان إلى سياسة، والسياسة إلى حربٍ مقدسة، والوطن إلى مختبرٍ لتجريب الخلاص بالعقيدة.

بين الدعوة والسيف، وبين المنبر والسجن، وُلد نظامٌ هو الأخطر في تاريخ السودان الحديث، لا لأنه استبداديٌّ فحسب، بل لأنه لبس وجه التقوى ليبني من تحته إمبراطورية الخوف… ومن هنا يبدأ تاريخ الجبهة الإسلامية القومية – التاريخ الأسود الذي لم يُحاكم بعد.

لم تكن الجبهة الإسلامية مجرّد حزبٍ يسعى إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، بل كانت منذ تأسيسها مشروعًا شموليًا لإعادة هندسة المجتمع والدولة والعقل العام معًا.

ومنذ انقلاب ٣٠/٦/١٩٨٩ الذي حمل عمر حسن أحمد البشير إلى الحكم بترتيبٍ دقيق صاغه حسن الترابي، وُلدت في الخرطوم دولةٌ بوجهين: وجهٌ رسميّ بوزاراتٍ ومجالس وبياناتٍ إذاعية، ووجهٌ خفيّ يمتد عبر جهاز الأمن والمخابرات، وهيئاتٍ حزبية ظلّية، وشبكات رجال أعمال ومصارف وواجهاتٍ خيرية ودعوية وطلابية، وأذرعٍ عسكريةٍ وشبه عسكريةٍ وآلةٍ إعلاميةٍ تتقن صناعة “الخطاب المقدّس” لتبرير العنف.

في هذا العالم السفلي، تناوبت أسماء مثل حسن الترابي، علي عثمان محمد طه، نافع علي نافع، صلاح عبدالله “قوش”، عوض الجاز، بكري حسن صالح، عبد الرحيم محمد حسين، أحمد هارون، والطيب إبراهيم “سيخة” على إدارة ما يمكن تسميته بـ”المركّب الإسلاموي – الأمني” الذي دمج الحزب بالدولة، والدين بالسلطة، والاقتصاد بالسلاح.

لم يكن الأمر مجرد تنظيمٍ سياسي، بل “نظامًا عقائديًا مؤسسيًا” يدير الولاء كعملةٍ سياسية، والخوف كأداة حكم، والإيمان كسلاحٍ نفسي طويل المدى.

في قلب هذا المركّب، تشكّلت العلاقة الأخطر: علاقة السودان بتنظيم القاعدة، حين انتقل أسامة بن لادن إلى الخرطوم بين عامي ١٩٩١ و١٩٩٦، وأسس شبكة شركاتٍ واجهة مثل “وادي العقيق” و”الهجرة للإنشاء” و”طابة”، وتعامل مع مؤسساتٍ مصرفيةٍ أبرزها بنك “الشمال الإسلامي”.

تحرّك بن لادن بحريةٍ نسبية في مشروعات المقاولات والزراعة والطرقات، وبنى اتصالاتٍ مع عناصر مصرية وجزائرية ويمنية. كان السودان آنذاك أشبه بـ”المنطقة الرمادية” التي تلتقي فيها الدعوة بالدم، والتجارة بالتمويل العقائدي.

تحت المظلة السياسية والأمنية للجبهة الإسلامية، ازدهرت شبكاتُ المال والسلاح والمعلومات. سمح النظام بوجود بيئةٍ آمنةٍ لتنظيمٍ كان ينقل رجاله ووثائقه عبر الخرطوم وجوبا وكوستي وبورتسودان، ويمرّ عبر كسلا والقضارف نحو الحدود الإريترية والإثيوبية، مستفيدًا من ضعف الرقابة على البحر الأحمر. لم يكن “إيواءً عابرًا” كما زعم الإسلاميون لاحقًا، بل تعاونًا لوجستيًا ورقابيًا مُمنهجًا… تغاضٍ قانونيّ مقصود هدفه توظيف الجهاد الدولي لخدمة مشروع الحكم المحلي.

في تلك السنوات، اختفى الفاصل بين “الدعوي” و”العنيف”. الدولة نفسها تحوّلت إلى ماكينة تعبئةٍ جهادية. صُنّعت أذرعٌ مسلحة تابعة للنظام ظاهرًا، لكنها في حقيقتها تنتمي للحركة الإسلامية عقيدةً وتنظيمًا: “الدفاع الشعبي”، “المجاهدين”، “الأمن الشعبي”، ثم لاحقًا “الجنجويد” الذين ظهروا في شمال دارفور بقيادة موسى هلال. كانت هذه الميليشيات أدواتٍ عقائدية تُدار بخطابٍ دينيّ صريح عن “الجهاد الداخلي”، لتسحق التمرّدات في جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.

ومنذ عام ٢٠٠٣، تحوّلت دارفور إلى جرحٍ مفتوح في الجسد السوداني. مدن مثل الفاشر ونيالا والجنينة وزالنجي وكُتُم والطينة شهدت عمليات “الأرض المحروقة” و”التهجير القسري” و”الاغتصاب الجماعي” و”تجنيد الأطفال”. وثّقت هذه الجرائم لجان الخبراء الأممية وتقارير “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”.

بعض القادة وُضعوا تحت العقوبات الدولية، وآخرون – كعمر البشير، أحمد هارون، وعلي كوشيب – صدرت بحقهم مذكرات توقيف من المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

لكن الجبهة الإسلامية لم تكن تقتل فقط داخل حدودها. فقد مدّت خطوط تسليحٍ وعبور نحو قطاع غزة عبر ممراتٍ امتدت من شرق السودان إلى سيناء.

في عام ٢٠٠٩ استهدفت طائراتٌ مجهولة قوافل يُعتقد أنها كانت تنقل شحنات سلاح إلى حركاتٍ فلسطينية. وفي عام ٢٠١٢ ضُرب “مجمع اليرموك للصناعات العسكرية” في الخرطوم، الذي وصفته تقارير استخبارية بأنه مركز لتجميع أو تمرير القدرات العسكرية إلى “حماس”. هذه الشبكات اللوجستية مرّت عبر بورتسودان وحلايب وشلاتين، وتقاطعت مع معلوماتٍ عن وجود ضباط ارتباطٍ من الحرس الثوري الإيراني في فتراتٍ مختلفة، قبل أن تتبدّل التحالفات بعد انفتاح النظام على الخليج.

لم تكن تلك العلاقات المعقدة مع القاعدة وحماس معزولة؛ فقد ربطت الجبهة الإسلامية نفسها بجماعاتٍ موازية في القارة الإفريقية والآسيوية. “حركة الشباب” في الصومال، التي خرجت من عباءة اتحاد المحاكم الإسلامية وأعلنت مبايعتها للقاعدة، شكّلت اقتصادًا حربيًا على التهريب والضرائب ونفّذت تفجيرات في مقديشو ونيروبي وكمبالا. وفي نيجيريا، تحوّلت “بوكو حرام” من جماعةٍ دعوية إلى تنظيمٍ مسلح أعلن بعض أجنحته مبايعة “داعش” تحت اسم “ولاية غرب إفريقيا”، واستخدم الخطف والذبح والتفجير ضد المدارس والكنائس.

لم يكن السودان غرفة عملياتٍ لهذه الجماعات، لكنه كان نموذجًا مُلهمًا لما يمكن أن تفعله “الدولة المؤدلجة” حين تمسك بكل مفاتيح القوة: الحزب، الاقتصاد، الأمن، الإعلام، والفتوى. ومن هنا انتقلت عدوى النموذج إلى هوامش إفريقيا وآسيا، حيث الهشاشة المؤسسية ووفرة المظالم تُغذّي الخطاب الجهادي العابر للحدود.

في الداخل، استخدمت الحركة الإسلامية الجامعات والنقابات والمساجد كحقول تجنيدٍ وتأطير. شهدت جامعات الخرطوم والجزيرة وعطبرة وشندي موجات عنفٍ طلابيّ دموي، أدارتها “الوحدات الجهادية” و”الأمن الطلابي” و”كتائب الظل”، وأُديرت الشبكات عبر “الأسر التنظيمية” المغلقة. كان الطلاب يتلقّون “دروس التعبئة” التي تمزج بين العقيدة العسكرية والنصوص الفقهية… وكانت المساجد تتحول مساءً إلى غرف تعبئة فكرية ليلتحق الشباب بمعسكرات الدفاع الشعبي.

اقتصاديًا، تمدّد رجال الأعمال المحسوبون على النظام في قطاعات النفط والذهب والمقاولات والاتصالات واللحوم المبرّدة والنقل النهري والبري. شركات مثل “جياد”، “صافات”، “زادنا”، “اليرموك”، و”سيتي بنك المحلي” كانت واجهاتٍ بين الاقتصاد الرسمي وشبكات التمويل السياسي والشراء العسكري. دارت الأموال عبر مصارف “فيصل الإسلامي” و”الشمال الإسلامي” وشركات الصرافة والجمعيات الدعوية التي مارست غسيل الأموال تحت غطاء الزكاة والبرّ. إنه اقتصاد ظلٍّ متكامل، يحكمه الولاء ويُكافئ الطاعة.

أما الحقل الاستخباراتي فكان العمود الفقري للمركّب الإسلاميّ. صلاح قوش، نافع علي نافع، محمد عطا، وغيرهم، شكّلوا بنية أمنية تولّت الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري، كما أدارت “الحروب بالوكالة” في الأطراف. المفارقة أنّ هذا الجهاز تعاون لاحقًا مع وكالة الاستخبارات الأمريكية في ملفات “مكافحة الإرهاب” بعد عام ٢٠٠١، في الوقت الذي واصل فيه تغذية خطوط اتصالٍ مع جماعاتٍ مصنّفة إرهابية.

لقد أتقن الإسلاميون لعبة “الازدواجية”: خطابٌ براغماتي للخارج، وخطاب تعبويّ للداخل يشرعن القمع والقتل.

المدن السودانية كانت شاهدةً على هذا الازدواج… الخرطوم بأحيائها الراقية – الرياض، الطائف، المنشية، كافوري – احتضنت الاجتماعات الكبرى للقيادات.

أم درمان كانت معسكر التعبئة الأضخم قرب كرري وجبل أولياء. بورتسودان كانت الميناء الذي عبرت منه الأسلحة والذهب والبشر، وكسلا والقضارف كانتا بوابتي القرن الإفريقي. في دارفور، كانت الفاشر ونيالا مركزَي القيادة والتموين، والجنينة على الحدود الغربية شاهدًا على المذابح. وفي جبال النوبة والنيل الأزرق، كانت كادوقلي والدمازين والكرمك مسارح لحروبٍ “مقدّسة” ضد المواطنين الذين لم يشاركوا الولاء العقائدي ذاته.

إنّ الطابع الإرهابي للجبهة الإسلامية القومية لا يُختصر في السلاح الذي حملته، بل في “المنظور العقائدي” الذي أدار به قادتها علاقتهم بالعالم. فقد اعتبروا الدولة ملكًا لله، والحاكم نائبًا عنه، والمجتمع مادّةً قابلة لإعادة التشكيل.

هذه الفكرة البسيطة ظاهريًا كانت كافية لتحويل كل اختلافٍ سياسي إلى “ردّة”، وكل معارضة إلى “فتنة”، وكل حربٍ إلى “جهاد”. بهذا المنطق، صار القمع عبادةً، والفساد وسيلةً، والكذب مصلحةً شرعية.

من هنا يمكن فهم كيف تماهت أجهزة الدولة السودانية مع أنماط التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. فـ”الجهاد” لم يكن شعارًا تعبويًا فحسب، بل “هندسة نفسية متكاملة”: تجريد الآخر من إنسانيته، وتصوير الحرب كاختبارٍ إيماني، وخلق سرديةٍ خلاصية حول “التمكين”.

هذه الأبوكاليبسية السياسية – أي الإيمان بأن العالم في معركةٍ نهائية بين الحق والباطل – منحتهم شرعيةً رمزية لتدمير كل ما يخالفهم، باسم الله أو الوطن أو الأمة.

على مستوى الأفعال، يمكن تتبّع الخيط الدموي للجبهة الإسلامية في عشرات الحوادث التي لا تسقط بالتقادم: محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا عام ١٩٩٥ التي شارك فيها ضباط من الأمن السوداني، والتفجيرات التي ضربت القاهرة في التسعينات وكانت على صلة بعناصر مصرية مرّت عبر السودان، وتفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام ١٩٩٨، وضربة قوافل بورتسودان عام ٢٠٠٩، وانفجار “مجمع اليرموك” عام ٢٠١٢ الذي لم يكن سوى رأس جبل الجليد لشبكة السلاح الممتدة بين الخرطوم وسيناء وغزة.

تُظهر هذه الوقائع، الموثقة في تقارير أمنية دولية ومحلية، أنّ السودان لم يكن مجرّد حاضنةٍ فكريةٍ للتطرف، بل شريكًا فعليًا في بنيته اللوجستية. ما فعله الترابي والبشير ورفاقهما هو أنهم أسّسوا لما يُعرف في دراسات الإرهاب بـ”الدولة الموازية”، أي نظامٌ رسميّ يُخفي داخله منظومةً ظلّية تُمارس الإرهاب عبر أدوات الدولة ذاتها. لم يكن الأمر كما في طالبان أو داعش، حيث التنظيم يسيطر على الأرض ثم يقيم الدولة، بل العكس: الدولة نفسها تحوّلت إلى تنظيم.

ومن المفارقات أن النظام الذي صنع هذا المركّب العنيف هو ذاته الذي قدّم خدماتٍ استخباراتية لواشنطن بعد ١١/٩/٢٠٠١، زاعمًا أنه حليفٌ في “الحرب على الإرهاب”. في ذلك الوقت، كان صلاح قوش يجلس في اجتماعاتٍ مغلقة مع وكالة المخابرات الأمريكية، بينما كانت أذرع النظام تموّل وتدرّب كتائب “الدفاع الشعبي” في أطراف دارفور. هذا التناقض لم يكن صدفة، بل سياسة مدروسة لإطالة عمر النظام عبر اللعب على تناقضات العالم: تقديم نفسه كحائط صدٍّ ضد الإرهاب الخارجي، في الوقت الذي يمارس فيه إرهابًا داخليًا مؤسسيًا.

في الاقتصاد، امتلكت الجبهة الإسلامية ما يمكن تسميته بـ”الاقتصاد العقائدي”، أي منظومة مالية تحوّل المال إلى أداة تعبئةٍ وحمايةٍ سياسية. هذا الدمج بين المال والدين والدولة شكّل ركيزة المشروع الإسلاميّ، وجعل الاقتصاد أداةً للهيمنة لا للتنمية.

أما في المجال الثقافي والإعلامي، فقد أدرك الإسلاميون باكرًا أن السيطرة على “اللغة” لا تقل أهمية عن السيطرة على “الجيش”. أنشأوا أذرعًا إعلامية ضخمة، صحفًا وقنواتٍ وإذاعاتٍ أعادت صياغة المفردات العامة. صارت كلمات مثل “التمكين”، “الجهاد”، “الشريعة”، “الولاء”، “الطاعة”، تُستعمل لتجميل العنف وتخدير الضمير الجمعي. وفي الجامعات والمدارس، جرى “أسلمة المناهج” وتحويل التاريخ والفكر إلى أدوات دعاية. بذلك، لم تعد المساجد فقط منابر تعبئة، بل صارت الفصول الدراسية أيضًا ساحات استقطاب.

التحليل النفسي للحركة يكشف عن جذورٍ أعمق: “الاستلاب الجمعي” الذي يجعل الفرد يذوب في الجماعة بحثًا عن معنى. هذا الذوبان ينتج شخصيةً لا تعرف الشكّ ولا النقد، تتغذّى على الخوف من الخارج وعلى الشعور بالاختيار الإلهي. حين تتحول العقيدة إلى درعٍ نفسي ضد القلق الوجودي، يصبح العنف ضرورةً لتثبيت الذات. ولهذا لم تكن فظائع دارفور أو جبال النوبة أو جنوب السودان مجرد تجاوزاتٍ عسكرية، بل أعراضًا مرضية لنظامٍ يرى في الدم برهانًا على الإيمان.

ولأن الإرهاب لا يعيش بلا مالٍ ولا غطاءٍ سياسي، فقد صنعت الجبهة الإسلامية شبكة علاقاتٍ تمتد من الخليج إلى تركيا إلى ماليزيا. رجال أعمالٍ سودانيون وإسلاميون عرب، مثل يوسف عبد الفتاح، عوض الجاز، وآخرين أقل شهرة، أسّسوا شركاتٍ واجهة في كوالالمبور والدوحة ودبي وأنقرة، استخدمت لغسل الأموال وتمويل العمليات. بعض هذه الشركات ارتبط بمصارف إسلامية مثل “فيصل”، و”السلام”، و”البركة”، وبعضها بواجهاتٍ خيرية مثل “منظمة الدعوة الإسلامية” و”الوكالة الإسلامية للإغاثة”، التي أُدرج بعضها على قوائم المراقبة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

تضافرت هذه الشبكات مع تحالفاتٍ استخباراتيةٍ غامضة. فإيران، التي كانت تمد الخرطوم بالسلاح والخبراء في التسعينات، وجدت في السودان حليفًا ضد الحصار الدولي. وقطر، التي استثمرت في مشاريع زراعية ومصرفية ضخمة، استخدمت بعض واجهاتها الإعلامية لتلميع صورة النظام. أما تركيا، فقد قدّمت نفسها لاحقًا كملاذٍ آمنٍ للإسلاميين بعد سقوط البشير، حين لجأ بعض قادتهم إلى إسطنبول، حيث تدير اليوم واجهاتٍ إعلاميةً ناطقة بالعربية تمجّد الماضي وتُبرّر الحاضر.

هذا كله يُكوّن مشهدًا لا يمكن تفسيره إلا بوصفه “منظومة إرهابية مُعولمة”، تمتلك رأسًا عقائديًا في الخرطوم، وأذرعًا مالية في الخليج، وأصابع إعلامية في إسطنبول، وأجنحةً قتالية في دارفور وشرق السودان. لذلك فإنّ تصنيف الجبهة الإسلامية القومية كمنظمة إرهابية ليس مجرد مطلبٍ سياسي، بل استحقاق قانوني وأخلاقي. فالعناصر المكوّنة للتصنيف – من استخدام العنف ضد المدنيين، وتوفير الدعم المادي واللوجستي للتنظيمات الإرهابية، وامتلاك هيكلٍ تنظيمي ومالي موازٍ، إلى ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية – كلها متحققة بوضوح في سجلّهم.

ما يضاعف خطورتهم هو قدرتهم على “إعادة التوليد”. فبعد سقوط البشير عام ٢٠١٩، لم تختفِ الحركة بل أعادت تموضعها داخل أجهزة الدولة وفي خطوط الحرب الجديدة التي اندلعت عام ٢٠٢٣ بين الجيش والدعم السريع. ظهرت من جديد كتائب ذات طابع عقائدي تحمل أسماء مثل “البراء بن مالك” و”اليرموك”، وشبكات خيرية توزّع المعونات في مناطق سيطرة الجيش وتبث خطاب الولاء، في إعادة إنتاجٍ دقيقةٍ للآليات التي حافظت على سلطتهم ثلاثة عقود.

المدهش أن النظام الدولي، رغم وفرة الأدلة، ما زال يتعامل مع هذه الشبكة ككيانٍ سياسي يمكن التفاوض معه… لكنّ كل الوقائع تؤكد أن “الاستمرارية البنيوية” بين الإنقاذ القديمة وما تبقّى منها اليوم تُحتم إعادة النظر. فالتصنيف الإرهابي ليس شعارًا انتقاميًا، بل أداةٌ لتفكيك بنيةٍ اقتصاديةٍ وسياسيةٍ تعيد إنتاج العنف باسم الدين. من دون ذلك، سيبقى السودان رهينة دائرةٍ مغلقةٍ من العنف المؤدلج الذي يتبدّل وجهه دون أن يتغيّر جوهره.

ولعل السؤال الأعمق هنا ليس: “هل الجبهة الإسلامية إرهابية؟” بل: “كيف تحوّلت دولةٌ كاملة إلى ذراعٍ من أذرع الإرهاب؟” الإجابة تبدأ من لحظةٍ واحدةٍ في ٣٠/٦/١٩٨٩، حين أُطفئت أنوار الديمقراطية باسم الله، واستُبدلت مؤسسات الدولة بواجهات الولاء، وبدأت ماكينة العقيدة تلتهم الإنسان والمكان. منذ ذلك اليوم، لم يكن السودان يُحكم بجيشٍ أو حزب، بل بعقيدةٍ أمنيةٍ مطلقة ترى في الخوف وقودًا للسلطة، وفي الطاعة غايةً للوجود.

إنّ إدانة الجبهة الإسلامية لا تعني فقط محاكمة قادتها أمام المحاكم الدولية، بل تعني أيضًا تفكيك البنية الذهنية التي سمحت لمثل هذا المشروع أن يعيش عقودًا. فالقضية ليست في الأشخاص بل في “الفكر الذي قنّن الجريمة”، و”اللغة التي زيّنت القتل”، و”الاقتصاد الذي موّل الاستبداد”. ما لم يُفتح هذا الملف بجرأة، وما لم يُوضع اسم الجبهة الإسلامية القومية وشبكاتها على قوائم الإرهاب الدولي، سيظل السودان يدور في فلك المأساة ذاتها، من انقلابٍ إلى آخر، ومن دمٍ إلى دم.

واليوم، بعد كل هذا الفقد العظيم، لا يكفي أن نقول “كفى”، بل يجب أن نُسمّي الجناة بأسمائهم، ونُدرج تنظيمهم في قوائم الإرهاب، لا كعقوبةٍ بل كتحريرٍ للوعي من صورته المتحوّلة في الذاكرة الجمعية. إنه مطلبٌ إنساني لحماية المستقبل. فالأيديولوجيا التي جعلت من الله شريكًا في القمع، ومن الوطن مؤسسةً لإنتاج الطاعة على المقاس، لا تزال تعيد إنتاج نفسها في الخطاب وفي الميليشيا وفي السوق، كأنها لم تشبع بعد من خراب الروح والذاكرة.

لكنّ العدالة لا تنام إلى الأبد… وإن تأخّرت المحاكم، فثمة ضمائر تحفظ الأسماء كما تحفظ الأرض أسماء شهدائها. سيبقى هذا الملف مفتوحًا إلى أن تُذكر الأسماء كما تُذكر التواريخ، ويُكتب على جدار الوعي السوداني: “هنا سقطت دولةٌ باسم الله، وقام شعبٌ باسم الإنسان.”

***

إبراهيم برسي

في المثقف اليوم