آراء

آراء

تبقى الانصبابية الامبراطورية الشرقية لا بصيغتها الفارسية، بل المتحولة الى الابراهيمية الاسلامية الشيعية العراقية، عقبة ومصدر تصادم مع المشروع الابراهيمي الترامبو صهيوني يمنع مجال الابار من ان يصبح قاعدة شرق متوسطية صهيوترامبيه غالبة بلا اي اعتراض، الاهم فيه انه يتيح للعراق حتى بصيغته الممحوة كيانيا،الاندراج ضمن المشروع المراد تكريسه، استنادا الى نفس الاسباب والعوامل المستخدمة امريكيا لاخراج العراق من دائرة الفعالية الكيانيه، وبالذات كونه حالة اختلاف نوعي تقلب المفعول الريعي الاباري.

 وليس هذا الجانب من الاصطراعية الابارية النهرية ومتبقياتها بالامر العارض اذا اخذت بالاعتبار المعطيات الخاصة بالنموذجية مابين النهرينيه وتاريحها وبنيتها، ومامتوقع ان يترتب عليها ضمن الاشتراطات الحالية، وهو مايستوجب الاخذ بالاعتبار تاريخ هذا الموضع مع التوقف عند حداثته الراهنه، وتاريخ تشكله الاصطراعي من القرن السادس عشر، وهو ماظل ويظل مغفلا وخارج الاحتساب مثله مثل اجمالي الدور والمضمر في الكيانيه الازدواجيه مابين النهرينيه، هذا ولابد من الاخذ بالاعتبار واقعه كون الجانب الاخر الامريكي الصهيوني الاباري، معسكر فقير على مستوى الفكرة والمنظور، وهو بلا اي مفهوم يمكن الارتكاز اليه، وبالذات منه الابراهيمي الجاري التلويح به، المرتكز شكلا للجاهز المنتهي الفعاليه.

 ولاينبغي اطلاقا النظر الى العراق من زاوية التبعية او التماهي الظاهر من قبل البعض مع ايران ومشروعها، ولابد من الاخذ بالاعتبار الاسباب والعوامل المتراكمه في الكينونه العراقية تكوينا بنيويا ومتغيرات واليات تتجاوز ايران، وتضعها في نهاية المطاف تحت وقع التاثير العراقي (7)، اولا من زاوية القانون الناظم لتاريخ هذا الموضع والمرتكز للدورات والانقطاعات، والتي عرف بموجبها دورة اولى سومرية بابلية ابراهيمة، وثانيه عباسيه قرمطية انتظارية، وهو مايعود الى انطواء هذا الجزء من المعمورة على الحقيقة المجتمعية المتمثلة في المجتمعية اللاارضوية، نتاج المجافاة البيئة ومعاكستها العنيفه للجهد البشري في هذا الموضع من العالم، بما افضى الى تشكل مجتعمية غير مجتمعية، وغير متوافقه مع اشتراطاتها ذهابا الى المخرج السماوي، وهو مايضعنا اليوم وبمناسبة محاولة "احياء" الابراهيمة" الزائفة والمفبركة، الى تصادم مع موضع الابراهيمة الاول وقد تحول من العيش على حافة الفناء البيئية، الى العيش على حافة الفناء الاليه، وانعكاساتها ومترتباتها المتمثلة في سلسلة الحروب الاقليميه والكونية التي لم تتوقف على مدى نصف قرن، بما في ذلك منها الداخلية الاهلية/ من عام 1980/ حيث الحرب الايرانيه العراقية، اطول حرب بين دولتين بعد الحرب الثانيه 1980/1988، الى الساعة/ وقد تحولت الى حرب "عراق مابعد النهرين" بعدما صار النهران على حافة الفناء/ والريع يقتل الانتاجية محولا اياهاالى الرقم " صفر"والفئات المتحكمه وسلطاتها، متهالكة كمجاميع فرعيه على سرقة الريع، والمجتمع ينتقل خارج كل الاعتبارات المتبعه تصورا وسلوكا، وبالذات منها الغربية الحديثة "الوطينه الزائفة"، باساسها "الويرلندي"، العار الاكبر الملازم لمايعرف بالحداثة العراقية، ومدعيات "الوطنيه"الساحقة للوطنيه( الوطن كونية) المطابقة لخاصيات العراق وبنيته التاريخيه.

 ولعل ماتقدم بجملته كاف لان يضع العقل امام امتحان استثنائي غير مسبوق، لايخلو من احتمالية انقلابية كونيه مضادة للجارية كمحاولات تكريس توهمي، وفي هذا الموضع من المعمورة حيث الابتداء، يصح اليوم وفي نهاية المطاف البحث عن حضور البدئية الثانيه، بعدما فقدت الارضوية المجتمعية قدرتها على النطق، وعادت لتتمسك باذيال الرؤية اللاارضوية الاولى غير التحققية كما وجدت بصيغتها النبوية الحدسية الالهاميه، محاولة التعكز عليها ضمن اشتراطات مختلفة، عبرت فيها المجتمعات اليدوية ومفعولها الجسدوي وتعدتعه درجات، من الالة المصنعية الى التكنولوجيا الانتاجية المعولمه، بينما صار الاقرب الى الحضور، التكنولوجيا العليا العقلية، المنصبه والمتشكله بحسب اشتراطات وممكنات الفعل العقلي المتعدي لليدوية والجسدية، ماستكون له من هنا فصاعدا اثارا فاصلة على مستوى الانتاجية تنهي الحضور اليدوي كليا، سببها الفارق بين طبيعة وسيلة الانتاج، وموضوع الانتاج ومادته الجسدية المتلائمه مع الوسيلة الاولى اليدوية المنتهية الصلاحية.

 الان عدنا كما كان لازما لابل وحكما، الى التعبيرية الاولى، تلك اللاارضوية التي انطلقت بصيغتها الاولى ضمن اشتراطات غلبة ماسواها، ومايمنع تحققها في ساعتهاادراكا وعلى مستوى الوسيله المادية، الابراهيمه النبوية الالهامية، الرؤية التحولية اللاارضوية ضمن ظروف الانتاجية اليدوية الجسدية وغلبتها الكاسحة وقد تردت الان، وفقدت الاسباب والقدرة على الاستمرار بعد الانقلاب الالي وتمرحلاته، المصنعية شبه اليدوية وتوهميتها، والتكنولوجية الراهنه الانتاجية المترافقه مع مايعرف بالذكاء الاصطناعي، اخر ممكنات الجسدوية المضادة للعقل، مايوجب حكما وبناء للحقيقة التاريخيه التفاعلية الوجودية، اعادة الاعلان، بان المجتمعات والكائن البشري تبدا بالاصل متحولة من الجسدية الحيوانيه الى العقل الانساني، وان مايمر به الكائن البشري ابان الطور الانتاجي اليدوي، هو الطور الانتقالي بين الحيوان والانسان، بمايعني غلبة نمط "الانسايوان" المطلق عليه اعتباطا وقصورا عقليا "الانسان" كهدف وغاية.

 بالمقابل مالذي يتبقى من توهمات التصور حول المجتمعية ومسارها ومنتهياتها غير المنظور فيها كما ينبغي وكما يفترض، لعجز العقل بحالته الانسايوانيه اليدوية الجسدية عن ادراك الحقيقة المجتمعية البشرية، بينما تتراكم اسباب الفنائية التي لم يتبق في الافق غيرها، مادامت الابراهيمه الثانيه غير حاضرة بعد، وهو مايتعدى امكانات ومنطويات المجتمعية الارضوية وماتتوفر عليه من قدرة محدودة على الادراك، بالاخص من حيث تخيل المجتمعية العقلية وسياقاتها ومسارها، والافق الذي ينتظم تحققها، هذا مع العلم ان الادراكية الارضوية اليدوية لا يمكن لها، وهي ليست مجبوله باية حال من الاحوال على مواجهه ذاتها بما هي عليه من محدودية وقصور، للاستحالة التكوينيه بحيث تتخيل مجرد تخيل، ممكنات المجتمعية مابعد المجتمعية، مع اسقاط التسمية التي نحتتها الارضوية لذاتها وبذاتها، بما يجعل مفهوم المجتمعية السائد والغالب بناء عليه، من قبيل التعبير الصنفي الخاص بنمط بذاته من المجتمعية الثنائية النوع، ليحضر موضوع الساعه المغفل والمبعد من الاهتمام: النطقية الكونيه اللاارضوية العظمي المواكبه ضرورة للانقلاب الالي بعد ان كانت الثنائية التعبيرية حاكمه ابتداء ابان الطور اليدوي، يوم كانت الارضوية الطبقية اعلى اشكال الارضوية ديناميه: فلسفية تاسيسيه ، سقراطية ارطوسية افلاطونيه اثينيه، تقابلها رؤية الكونيه الابراهيمه الاولى النبوية الحدسية الالهامية اللاارضوية غير التحققية، وقد ان اوان تحققها بعدما توفرت اسبابه ماديا وادراكيا.

 يبدا العالم مع الاله بالمنظور الادنى الارضوي الطبقي الكيانوي نموذجا( الدولة / الامه)، وينتهي بالنطقية العظمى اللاارضوية الابراهيمه التحوليه، وهنا يكمن مجال بحث من نوع اخر.

يتبع : ملحق

***

عبد الأمير الركابي

" تحمل الاستعارة السياسية شحنةً متفجرةً كحزامٍ ناسف استحضاراً لأصلٍّ ما ليس لها ...."

" تتحصن اسرائيل منذ تأسيسها داخل استعارات لا تنتهي، ولم ترَ الواقع بعد ...."

" أحياناً تُوظف الاستعارات السياسية كتمائم في حاجةٍ إلى طقوس لا  إلى حقائق ...."

ثمة علاقة عضوية بين الاستعارة والسياسة، من حيث أنَّ السياسة ليست (فناً للممكن) إلاّ باعتبار الممكن حدثاً مجازياً قابلاً للتحقُق. إذْ لا يخلُو كلُّ ممكن- بحكم التعريف - من انجاز استعارةٍ ما، سواء أكانت في شكل صورةٍ أم فكرةٍ أم حقيقةٍ. حدُ الممكن Possible هو حد الجواز واتيان المستطاع من الأشياء. لعلَّ كل ما هو جائز يتشكّل على هيئة محتملة في طريقه إلينا. والسياسية لا تعمل في فراغ، لكنها تراثٌ من الأفعال الجائزة التي حدثت والتي لم تحدث. والجائز ينبني على المسار المتخيل لما قد يحدث. إنَّ الممكن هو (حدوث الحدث) لا أقل. وطالما أنَّ هناك شيئاً ما ممكناً، فإنه يستحث الفاعل السياسي لاتيانه بصيغة: ولِمَ لا. وهذا ما يجعل السياسة تتضمن لوناً من المجازفات غير محسومة العواقب. أنْ تكون سياسياً يعني أنْ تجازف بما يواكب الممكن الذي تريده وغير المتوقع في الآن نفسه.

على صعيد الممارسة، حين يغدو الممكن فعلاً جارياً، تمسي الاستعارات حاضرةً إنْ لم تكن هي (حالة الحدث) ذاته. لأنّها ستدخل بالتبعية إلى ساحة التفاعل بين أفراد المجتمع طالما أنَّ هناك آخر. فلو قلنا إنَّ (مكانة سياسية معينة) سيصل إليها (حاكمٌ ما)، فهذه استعارة لصورة يراها الحاكمُ لنفسه، استعارة وفقاً لنموذج أو مثال أو ايديولوجيا معينة. وقد يجسدها الخيال الجمعي كاستعارةٍ لنمط من الرمزية التي تُخلغ عليه. وما يجري على الحاكم سيجري بالمثل على جميع جوانب السياسة الأخرى.

في إطارٍ كهذا، تندرج السلطة كأنَّها مادة لزجة الهيمنة على موضوعاتها بحكم  خصائصها المادية والرمزية. إنَّ السلطة فضاءعام يتشكل قطباه من (الرغبات والمخاوف) استناداً إلى رصيد القوة من الأبنية المجازية واسعة التأثير. ومن ثمّ، فإنّ (السياسة والاستعارة) تشتركان في المغامرة غير محسوبة العواقب، بل يوجد فيهما تجاوز لحدود الواقع وانتهاك للمعايير والقيم والحدود الثابتة.

ذلك تحديداً هو ما تفعله اسرائيل على نطاق أكبر بوصفها استعارةً سياسية للقوى الكولونيالية. لقد انفلتت من عقالها الإنساني والاخلاقي، وباتت كنيزك يحترق ويتشظى فوق رؤوس البشر في أي مكان. إنَّ تاريخ الكيان الكولونيالي– كما سأوضح - هو تاريخ الاستعارت التي تنتهك القيم والمبادئ والعلاقات، بدءاً من استعارية الوعد بتأسيس وطن قومي لليهود ومروراً باستعارة أرض الميعاد وانتهاءً بمحرقة غزة والابادة الجماعية للشعب الفسطيني. الاستعارة السياسية هنا استحضار لنموذج ما واحلال شيء محله من أجل القيام بوظائفه النوعية واقتناص المعاني الكامنة فيه. بحيث يبدو الشيء الحال محل الشيء الآخر مشاراً إليه وكأنّه هو. واسرائيل تلعب اللعبة الاستعارية بطريقة متعددة الأبعاد:

1- تتقمص دور الأصل الغربي (الغرب الأوروبي– الأمريكي)  آخذة في الاحلال محلة.

2- تقتل الشعب الأصلي (الفلسطنيين) للاستيلاء على الأراضي واستيطانها بالقوة الحربية.

3- ترسم صورةً مرعبةً من الدمار الذي يرمي باطراف الخوف إلى اقاصي المعمورة.

4- تصدّر النهاية الفاجعة التي لا بعدها نهاية مادامت اسرائيل لم تمتلك موطئ قدم في الأراضي الفلسطينية.

5- تتسلح بالأسلحة والتقنيات الأكثر تطوراً لقطع الطريق على ملاحقتها تكنولوجيا.

6- تقدم نفسها في صور ما بعد حداثية براقة كدولة قائمة على التنوع والتعددية تمايزاً عن جيرانها.

7- تتسربل بالغموض والإلغاز لزيادة مساحة العمى كأحد الفخاخ أمام المتابعين.

8- التمويه الحاصل في دولة الكيان بين اللاهوت والسياسية في رأس صهيوني مشترك، الجندي في ملابس الحاخام والحاخام في بزة السياسي.

9- العلاقات المشبوهة سياسياً بين اسرائيل وبين الجماعات والكيانات المماثلة كولونيالياً أو سياسياً.

والاستعارة ضمن هذا تتجلي: إما في شكل (خريطة الدولة الصهيونية) التي لم تكن موجودة ثم كانت بالوعد التاريخي والقوة العسكرية. وكذلك قد ترسم الدولة (بنية استعارية) عبر أنماط القتل والحروب غير التقليدية، لأنها لم تكن أصلاً في يوم من الأيام. وإما أنْ تنتهج دولة الكيان الصهيوني (أسلوباً استعمارياً مختلفاً) إزاء سكان الأرض الاصليين، وتقول للعالم سأحتل هذه المنطقة بالعنف القاتل ولا أحد يستطيع الاقتراب. كلما زادت وتيرة الاحداث الفاجعة بدرجة ميتافيزيقية، كانت النتائج التفاتاً كلياً إلى الصور المرعبة لا إلى الحق الأصلي. وهذه الاستعارات ترمي (قضية الاحتلال) إلى الأمام، بحيث ينشغل العالم بالقتل والمساعدات وعدم التهجير والاحوال غير الآدمية، متناسياً أن دولة الكيان الكولونيالي لا مكان لها ابتداءً في فلسطين التاريخية وأنها (دولة مختلقة) من الأساس.

بصدد السياسة الكولونيالية (الغرب + اسرائيل)، تتاح أمام الاستعارات كل فرص الاستغلال الممكنة داخل حدود التوظيف والممارسة. لأنّ كل سياسية من هذا اللون تمتلئ بفائض القوي التي تضخ في عناصرها أنفاس الحياة. وتظهر الأشياء على خريطة فضفاضة بخلاف الواقع المحدود: هناك الوظائف السياسية المحتملة، الأوهام، الرموز، الأخيلة، التبديلات، الصور، الأكاذيب، الخطط المرسومة، المناورات، الوعود السياسية، المؤامرات، الدسائس، الخطابات البلاغية، الاستراتيجيات. كل ذلك يشكل واقعاً كولونيالياً من لحم ودم بصورة كانت مجازية. إن الاستعارات السياسية تهبط على الأحداث لتعيد تشكيل الحقائق والأفعال.

حتى أن الزعماء والقادة يسيرون أمام مواطنيهم، وقد ارتدوا الاستعارت التي تبدو واقعية ومصدقة تماماً. من ينظر إلى أعضاء الحكومة الاسرائيلية أثناء الاجتماعات يعتقد أنها حكومة تتمتع بكامل الحقوق التاريخية لدولة عتيدة. إذ تحرص الكاميرات الصهيونية على سرد المشاهد من أعلى أو من جانب يثير الخيال في هذا الاتجاه أو ذاك. ويبدو بنيامين نتنياهو أمام الكاميرا كأنه (قائد حربي) آت من بين ملوك وزعماء بني اسرائيل. وهذا يدخل في باب الاستعارات التي تلون واجهة الدولة الصهيونية أمام المشاهدة، وجزء لا يتجزأ من السرد المجازي لأساليب أعنف آتية لا محالة. إن الصورة الاستعارية كالرصاصة التي خرجت ولن تعود إلى فوهة البندقية مرة أخرى. تراهن اسرائيل على مشاهد الاحتلال كقطعٍ من الشطرنج الذي يجذب المشاهدين إلى اللعب السياسي. أحد اشكال الاستربتيز (التعري) الدموي الذي يراه العالم أجمع ليلاً ونهاراً دون أن يحرك ساكناً. دولة كولونيالية تتعرى دموياً فوق جثث واشلاء الضحايا الأبرياء وهم أصحاب الأرض.. يالها من كارثة حطت فوق رأس الانسانية في أي مكان وزمان!!

تشتغل الأطياف الاستعارية لاسرائيل عند الضرورة، وتتجلى معانيها كما لو كانت حقائق راسخة وجالبة للأهداف والمآرب. تبدو استعاراتها السياسية بوصفها عملية تسابق الفعل والحركة نتيجة التبديل القائم على مرجعية الأصل إذ يتوارى نسبياً. وعليه ستظهر حركة الأشياء كأنّها حرة وقابلة للتسارع، مع أنها تبقى مرهونة باحتمالات النموذج الكولونيالي وقدراته على إثارة الخيال أمام الاشتغال بالاستعارة.

أمام تجسد الاستعارة في السياسات الكولونيالية عدة نقاط:

1- الفجوة: هي مساحة بين الأصل والصورة. وهي التي توفر قدرة الصورة على التخييل واستعمال كافة الحيل والألاعيب توحُداً بالأصل وتقمص دلالته. وفي السياسة تحفر الاستعارات الفجوة بمعاول من حروب وصراعات ودماء دون توقف. الفجوة بمثابة طاقة كامنة تتخذها الصور المستعارة- كما تمارس اسرائيل-  في التدمير والرمي إلى ابعد نقطة ايغالاً في الوحشية والقتال. ليست بين اسرائيل وأمريكا فجوةٌ بمعناها الحضاري أو المكاني، لكنها (فجوة مصطنعة) من نوع آخر، حيث تحاول اسرائيل مطاولة التاريخ الدموي للأمبراطورية الامريكية. كأنَّ هناك سباقاً محموماً لانجاز الاحتلال الاسرائيلي لما انجزته دولة المركز الأمريكي خارج الشرق الأوسط.

2- المجازفة: لا تخلو الاستعارات السياسية من مجازفة مجنونة، نتيجة أنها انتقال بلا ضمان من النموذج (الغربي) إلى الصورة (الاسرائيلية) التي تتقمصه. وهذا عمل بلا ضمان وقد يكون قتلاً لكل من يعترض وقد يكون تزييفاً وقد يكون اختلاقاً. وهذا ما كان يتضمنه خيال اسرائيل بوصفها (دولة الرب) إلى شعبه المختار.

ولكنه في الأساس حدث مع اسرائيل كصورة من الغرب الكولونيالي، لم تكن مجازفتها إلا سرقة لأراض عربية ليست لها. وكل ما يقال عن وجود الشعب اليهودي في فلسطين إنما حقيقته أن بعض اليهود كانوا موجودين كأصحاب ديانه فقط. ولكنهم لم يكونوا قوميةً بمعناها السياسي المؤدلج مقارنة بحقوق الشعب الأصلي. ولم تكن هناك محاولات عسكرية لترانسفير أهل فلسطين إلى الخارج. ولم تؤدلج المنطقة في إطار الهيكل المسيّس لمُلك بني اسرائيل.

3- الخداع: كل استعارة سياسية تفترض ضمنياً أنها حيلة لأخذ مكانة لايستحقها من يستعير صورة الأصل. الخداع جزء لا يتجزأ مما يجري بالطبيعة البنيوية للممارسات الجارية. اسرائيل ككيان سياسي هي كيان مخادع في ذاتها. تسير الدولة (المؤسسات- الإدارة – الجيش- المظاهر العامة- العلاقات الدولية – مظاهر الحياة- الشخصيات) كما لو كانت حقيقةً. بينما هي الحياة عبر الخداع وراء الخداع طوال الأمر، أمر كان مآله إلى الافتضاح والانكشاف من وقتٍ لآخر. ولذلك لم تمُر حقبة تاريخية من عمر اسرائيل إلاَّ وتجري ممارسات صهيونية تفضح طبيعة استعاراتها السياسية. اسرائيل تراث من الحيل والألاعيب التي لم تكف عن خلق مشاكل للدول المجاورة أو غير المجاورة.

مرة تكون دولة اسرائيل هي استعارة (اسرائيل التوراتية) من الفرات إلى النيل، ومرة تكون دولة اسرائيل هي استعارة (الدولة الجيوسياسية) كما اعترفت بها الأمم المتحدة مع غياب حقيقتها، ومرة تكون اسرائيل هي استعارة (الحليف الاستراتيجي) الذي يريد عيشاً في سلام ووئام، ومرة تكون اسرائيل هي استعارة (دولة اليهود)، حيث ضاقت بهم الدنيا وليس لهم من ملجأ إلاَّ بقعة جغرافية مقذوفة على كوكب الارض بين أنياب الجيران الأشاوس!!   ولكن في كل هذه الاستعارات وغيرها لا أحد يعرف: ما حقيقة اسرائيل بالضبط؟!! وبجانب ذلك تفترض الحالة أن هذه الاستعارت في حاجة إلى طقوس وشعائر مسيَّسة أمام العالم وأمام جيرانها العرب بالأخص.

4- العنف: تنطوى الاستعارة السياسية على كم مخيف من العنف. لأن طبيعتها تتميز بالانحراف وعدم الاعتراف بالحدود وتجاوز كل الاعراف والتقاليد. كيف ستكون هناك حدود للكيان المستعار ابتداءَ وهي حدود جالبة لصورة لا تحق للطرف المستعير؟!! فاسرائيل ليست هي الغرب الأمريكي حقيقةً، ولكنها تتمثل قدراته على الانحراف والتجاوز.

وهذا هو الأخطر ولذلك ليست هناك دولة تولد من لاشيء ثم تمارس دورها الاقليمي والجيوسياسي كأنها واقفة على ميراث ثقافي وجيولوجي يطاول جاراتها من الدول منذ آلاف السنوات. ويحل شعبها المشتت من كل حدب وصوبٍ، محاولاً أن يطاول الشعب الفسطيني العريق. هذا هو ذروة العنف الاستعاري الذي لا حدود له. الاستعارة تغتصب واقعاً باسم الأصل الذي لن يأتي ولن يتمكن من الاتيان. الواقع المغتصب يستعار تحت العنف المتواصل.

5- الموت: تختلط كل استعارة بموت معين ظاهراً كان أم متوارياً. لأن العنف الذي يحدث باسم الأصل الكولونيالي لن يبلغ مآربه إلا بالاجهاز على موضوع العنف (الشعب الأصلي). ولأن الاستعارات الاسرائيلية تريد الانهاء على السكان الأصليين، فهي تستخدم فائض العنف القاتل باستمرار. إن الاستعارات ذاتها باسم جيش الدفاع الاسرائيلي أو باسم المستوطنات أو باسم الاعمار هي استعارات موت. لنلاحظ أنه لا توجد لدى اسرائيل تهدئة بالمعنى المعروف سياتسيا ولا توجد ردة فعل منايسيب لكونها لا تعترف بالمعايير ولكونها تغفقتقد إلى حق الوجود. وفي حالة فقدان الوجود تنتهك – إلى حد الابادة- أي وجود آخر بالتبعية.

باتت اسرائيل عنواناً ضالاً للموت من أي اتجاه. القتل الاسرائيلي كالكلب العقور الذي ينهش كل من يقابله. ولكنها توجه القتل بالتكنولوجيا الكولونيالية إلى صدور الفلسطينيين. فهي ترى أن حقل اشتغال استعارتها المميتة عبر هذه المنطقة المنكوبة من العالم. وطبعاً يجري الموت في حالة دعم ورعاية الغرب الأمريكي، حيث يرسم الأخير الخطط والاستراتيجيات ويزود حليفه الصهيوني بأعتى الاسلحة والمساعدات الحربية.

وهذه حبكة المفارقة الساخرة أنَّ أصل الاستعارة (امريكا) ينضم بنيوياً للصورة المنحرفة عنها (اسرائيل). في ايماءة أن السياسة الكولونيالية لا تعترف بأية حقوق صغيرة أو كبيرة. وأن ذلك برهان على كون اسرائيل حالة صارخة من الاحتلال الذي مازال سارياً، رغم ترسانة المؤسسات والقوانين والمنظمات الدولية التي ترفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة بين الشعوب. وهذا معناه أن هناك (استعارات موت) تحاصر الضحايا وتُسمى بأعمال الابادة الجماعية. كل استعارة سياسية مما سبقت خليقةً برفع راية الموت إزاء أُناس أبرياء في فلسطين.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

نبوءات ماركسية تتحقق في عصر التكنولوجيا

لو أمعن كارل ماركس النظر في المشهد الاقتصادي العالمي الراهن، لوجد أن تحليلاته الجوهرية التي صاغها قبل قرنين من الزمان لا تزال تخترق أعماق الواقع المعاصر بقوة تحليلية مذهلة. فها هي الرأسمالية المتوحشة تبلغ ذروة تناقضاتها الداخلية: سبع شركات تكنولوجية عملاقة تحتل عرش الاقتصاد العالمي بقيمة سوقية مجتمعة تصل إلى واحد وعشرين تريليون دولار، تقترب من الناتج القومي الأمريكي البالغ سبعة وعشرين تريليون دولار، وتتفوق بوضوح على الناتج القومي الصيني البالغ سبعة عشر تريليون دولار.

وفي المقابل، يشهد سوق العمل الأمريكي تراجعاً مثيراً للقلق، حيث لم يستطع خلق سوى اثنين وعشرين ألف وظيفة جديدة خلال الشهر الماضي، بدلاً من المليون وظيفة التي كانت متوقعة. وهذا ليس سوى تجسيد حي لظاهرة "التراكم المفرط لرأس المال" التي حذر منها ماركس، والتي تؤدي حتمياً إلى الاستقطاب الطبقي الحاد وتمهد الطريق للثورة الاجتماعية.

آلية التراكم الرأسمالي: من التحليل النظري إلى الواقع المرير

يصف كارل ماركس في عمله البارز "رأس المال" الآلية الجوهرية للتراكم الرأسمالي التي تؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي قلة من الرأسماليين، بينما تغرق الأغلبية الساحقة في هوة البروليتاريا الفقيرة. واليوم، نشهد هذا التناقض بأبشع صوره: الشركات السبع الكبرى (بما فيها جوجل وأبل وتسلا) تكتسح القيمة السوقية العالمية، حيث تمثل وحدها ستة وثلاثين بالمائة من مؤشر إس وبي 500. وفي الجهة المقابلة، يعاني الاقتصاد الأمريكي من ركود وظيفي حاد، حيث انخفضت فرص العمل بشكل كبير، وتصاعدت الضغوط التضخمية على كاهل الطبقات العاملة.

تحولات الصراع الطبقي في العصر الرقمي

لم يعد الصراع الطبقي مقتصراً على المواجهة التقليدية بين العمال وأصحاب المصانع كما كان في القرن التاسع عشر، لقد تحول جذرياً إلى مواجهة بين الجماهير المستغَلة والشركات التكنولوجية العملاقة التي تسيطر على بيانات الأفراد وتقنيات الذكاء الاصطناعي. فالقرار الأخير الذي اتخذته المحكمة الأمريكية بعدم إجبار جوجل على بيع متصفح كروم، رغم خسارتها قضية مكافحة الاحتكار، يكرس هيمنة هذه الشركات ويبقيها فوق مستوى المحاسبة والمساءلة.

لقد انتقد الكثيرون كارل ماركس لتقسيمه المجتمع إلى طبقتين متعارضتين فقط (بروليتاريا وبرجوازية)، متهمين إياه بتجاهل دور الطبقة الوسطى. لكن الواقع المعاصر يثبت أن الطبقة الوسطى تتآكل بسرعة قياسية، وأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع بشكل غير مسبوق. فها هي الشركات التكنولوجية تتحول إلى إمبراطوريات اقتصادية تفوق دولاً كاملة في قوتها المالية ونطاق نفوذها.

العولمة وتجاوز الحدود القومية

لقد اتهم ماركس أيضاً بإغفاله دور الفكرة القومية في تشكيل المجتمعات. لكننا نرى اليوم أن العولمة الرأسمالية قد حولت العالم إلى سوق واحدة موحدة، تذوب فيها الخصوصيات القومية أمام قوة رأس المال العابر للحدود. فشركة مثل إنفيديا تبلغ قيمتها السوقية 4.16 تريليون دولار، متجاوزة اقتصادات دول بأكملها.

كما انتقد البعض تمسك ماركس بالثورة كطريق وحيد للتغيير الجذري، متهمين إياه بتجاهل إمكانية الإصلاح التدريجي. لكن الواقع يشهد أن الأنظمة الديمقراطية فشلت في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة، بل ساهمت في تعزيزها عبر سياسات الخصخصة والتقشف والتخفيف الضريبي للشركات الكبرى.

النموذج الأمريكي: تجسيد لأزمة هيكلية

يقدم لنا الاقتصاد الأمريكي نموذجاً حياً لأزمة الرأسمالية الهيكلية. فمن ناحية، لا يزال التضخم مرتفعاً بشكل مقلق، ومن ناحية أخرى، يتباطأ النمو الاقتصادي بشكل خطير. وقد خفضت مؤسسات مالية كبرى مثل مورجان ستانلي وجولدمان ساكس توقعاتها للنمو إلى 1.55% و1.7% على التوالي لعام 2025. وهذا يؤكد أن الرأسمالية لم تعد قادرة على تحقيق الازدهار للجميع، بل أصبحت آلة لصنع الأزمات المتتالية.

سياسات ترامب: زاد الطين بله

إن السياسات التجارية التي يتبعها دونالد ترامب، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، تزيد الأزمة تعقيداً، حيث ترفع تكاليف الواردات وتضاعف من الضغوط التضخمية. كما أن تشديد سياسات الهجرة سيساهم في تقليص عرض العمالة، مما سيؤثر سلباً على القطاعات الاقتصادية التي تعتمد بشكل أساسي على اليد العاملة المهاجرة.

يقدم الذكاء الاصطناعي اليوم على أنه الحل السحري لمشاكل البشرية، لكنه في الواقع يكرس هيمنة الشركات العملاقة ويزيد من تركيز الثروة. فها هي جوجل وأبل تتجهان لعقد صفقات ذكاء اصطناعي بقيمة مليارات الدولارات، بينما تتآكل الوظائف التقليدية أمام تقدم الآلة. هذا هو الاستغلال الرأسمالي في أبهى صوره: التقدم التكنولوجي الهائل لا يترجم إلى رفاهية جماعية، بل إلى أرباح خيالية لفئة قليلة.

لم يعد الدين هو "أفيون الشعوب" كما قال ماركس، بل تحولت التكنولوجيا إلى أداة جديدة لتخدير الجماهير. فبدلاً من مواجهة استغلال الشركات، ينشغل الناس بالتطبيقات الذكية والمنصات الرقمية التي تلهيهم عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.

الخلاصة: بين الثورة والانهيار

يؤكد ماركس أن التناقضات الداخلية للرأسمالية ستدفعها حتماً نحو الانهيار، وسيقود العمال الثورة لاستعادة وسائل الإنتاج. والواقع الحالي يعضد هذه الرؤية: الشركات العملاقة لم تعد قادرة على النمو دون تدمير البيئة واستنزاف الموارد. أما الطبقة العاملة العالمية فأصبحت أكثر وعياً باستغلالها، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تكشف الفروق الطبقية الصارخة.

بعض المحللين الاقتصاديين يتحدثون عن انتقال الاقتصاد الأمريكي من الاعتماد على الإنفاق الحكومي إلى القطاع الخاص. لكن هذا التحول لن يحل التناقضات الجوهرية، بل سيعمقها، لأن القطاع الخاص يسعى للربح لا لتحقيق العدالة الاجتماعية.

إذا استمرت الضغوط التضخمية والسياسات النقدية المتشددة، فقد يدخل الاقتصاد الأمريكي في ركود حاد بحلول عام 2026. عندها لن تكون الثورة مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية حتمية.

ماركس كان محقاً

ها هي الرأسمالية تثبت مرة أخرى أن تناقضاتها الذاتية تقودها إلى حافة الهاوية. فالشيطان الذي كان يخشاه ماركس - تراكم رأس المال – أصبح الآن وحشاً يلتهم الاقتصاد العالمي. والصراع الطبقي لم يختفِ، بل تحول إلى حرب صامتة بين الشركات العملاقة والجماهير التي تستغلّها.

اليوم، نحن لا نحتاج إلى إحياء الماركسية كعقيدة ايدلوجية، بل كمنهج تحليلي نقدي لفهم العالم وتغييره. فكما قال ماركس: "لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا". والمعرفة في عصر الذكاء الاصطناعي أصبحت سلاحاً أساسياً للثورة المنشودة.

***

د. عبد السلام فاروق

منذ أن أصبح العالم قرية رقمية صغيرة تتحرك فيها المعلومات بسرعة الضوء، بدأت خيوط الحقيقة تتداخل مع نسيج الخداع، إذ لم تعد الأخبار كما كانت رسائل متسلسلة تنطلق من مصدر رسمي نحو جمهور ينتظر، بل تحولت إلى ساحة صراع معقدة تختلط فيها الحقائق بالافتراءات وتصبح فيها الأكاذيب أكثر إقناعاً من الوقائع، في ظل هذا المشهد الجديد، يبرز سؤال يزداد إلحاحا كل يوم، من يسيطر على الحقيقة في عصر الإعلام المزيف والحرب السيبرانية؟

لم تعد الحروب تقليدية تدار عبر الجيوش أو الأسلحة التقليدية، بل باتت الجبهات رقمية تخترق فيها العقول قبل الأنظمة وتُستهدف الثقة قبل البنى التحتية، فالعدو لم يعد ظاهراً أو واضح الهوية،  بل يتحرك خلف شاشات خفية وينشر الفوضى في صمت شديد. كل شيء قابل للتزييف، وكل رواية معرضة للتشكيك، والتزييف صار أداة تدمير شاملة تقوض الثقة وتخلق العداوات وتعيد تشكيل الرأي العام وفق أجندات لا تعترف بالأخلاق ولا بالقيم ولا حتى بالواقع ذاته.

في هذه الحرب الجديدة التي تتجاوز الحدود والسيادة الوطنية، يلعب الإعلام المزيف دوراً محوريا لا يقتصر فقط على نشر أخبار كاذبة، بل يتعدى ذلك إلى خلق واقع بديل واقع له رموزه وله لغته وله جمهوره الذي يدافع عنه بشراسة، فقد انتقلت مهمة الإعلام من نقل الحقيقة إلى تصنيعها، وبدلاً من البحث عن الخبر أصبح الهدف هو اختلاق قصة تبدو حقيقية بما يكفي لتنتشر ويتم تبنيها دون تحقق أو تمحيص.

وإذا كان الإعلام التقليدي، قد احتفظ لفترة طويلة بدور الحارس الأمين للمعلومة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي جاءت لتقلب المعادلة تماما، فلم يعد هناك من يتحكم في النشر أو التحقق، ولم تعد هناك بوابات تنظم التدفق المعلوماتي، بل أصبح كل فرد صحفيا محتملا، وكل جهاز هاتف محطة بث تعمل على مدار الساعة دون رقابة أو ضوابط، وهنا تبرز خطورة الإعلام المزيف؛ باعتباره حالة فوضوية لا يمكن محاصرتها بسهولة، بل تتكاثر كالفيروس وتنتشر بمجرد الضغط على زر الإرسال.

المقلق في هذه الظاهرة ليس فقط قدرة الأكاذيب على الانتشار، بل أيضا ميل الناس إلى تصديقها والتفاعل معها، فقد أثبتت دراسات علم النفس؛ أن العقول البشرية تميل إلى تصديق ما يتماشى مع قناعاتها المسبقة حتى وإن كان ذلك يتعارض مع الحقائق الموضوعية. ومع مرور الوقت تتكون فقاعات معرفية مغلقة يعيش فيها الأفراد داخل عوالم افتراضية منعزلة يتبادلون فيها المعلومات المغلوطة ويفقدون تدريجيا القدرة على التمييز بين الصحيح والزائف.

وفي هذا السياق أصبحت الحرب السيبرانية الواجهة الجديدة للصراع بين الدول والأطراف الفاعلة غير الحكومية، فالهجمات الإلكترونية لا تستهدف فقط أنظمة الحواسيب أو البنى التحتية، بل أصبحت تستهدف وعي المجتمعات ونسيجها الاجتماعي والسياسي، وتعمل على زرع الشك والانقسام بين أفرادها عبر ضخ متواصل للرسائل الموجهة التي تزرع بذور التوتر وتغذي الإنقسام وتدفع نحو انهيار الثقة بين المواطن ومؤسساته.

اللاعبون في هذه الحرب، هم كُثر، بعضهم دول يملكون جيوشاً رقمية مدربة تعمل ضمن استراتيجيات متقنة، وبعضهم جماعات منظمة تمتلك أدوات تقنية ومهارات عالية تتيح لها اختراق الأنظمة ونشر المحتوى المضلل بدقة شديدة، وهناك أيضا أطراف فردية مدفوعة بأجندات شخصية أو أيديولوجية يجدون في هذا الفضاء المفتوح ساحة مثالية للتأثير والتخريب، دون أن يُطلب منهم تفسير أو يتحملوا مسؤولية.

وتزداد الأزمة تعقيداً مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، التي أضافت بعداً جديداً للمشكلة، فلم يعد الإعلام المزيف يقتصر على الصور المفبركة أو الأخبار المزورة، بل دخلنا عصر الفيديوهات المصطنعة والوجوه التي تتكلم بما لم تقله يوماً، وأصوات تنطق بما لم تفكر فيه أصلاً، هذه التقنية التي باتت تعرف بتقنية التزييف العميق، جعلت من الصعب جدا التمييز بين الحقيقة والخيال، بل وأصبحت وسيلة فعالة لتشويه السمعة وتزوير الوقائع وإعادة كتابة التأريخ في الزمن الحقيقي.

من يراقب حجم المحتوى الزائف الذي يتم تداوله يومياً، يُدرك أننا نعيش حالة طوارئ معلوماتية، حيث لم تعد الحقيقة مطلوبة بقدر ما أصبحت الرواية الجذابة، هي العملة الرائجة، وبينما كان الإعلام يوما ما يُستخدم لكشف الفساد والانحراف، صار اليوم وسيلة لتغطيته أو حتى لتبريره فقد تم تسييس الإعلام واحتكاره من قبل القوى المختلفة التي تستخدمه كأداة للدعاية والضغط والتأثير واستبدال الحقيقة بالرواية التي تخدم مصالحها.

هذه البيئة المسمومة لا تهدد فقط استقرار المجتمعات، بل تقوض أسس الديمقراطية نفسها، إذ كيف يمكن لمواطن أن يتخذ قرارات رشيدة في ظل طوفان من الأكاذيب؟ كيف يمكن لمجتمع أن يناقش قضاياه بموضوعية إن كان كل طرف يعيش في عالمه الخاص المبني على معلومات مختارة بعناية لتدعم موقفه فقط؟ هذه الانقسامات المعرفية لا تؤدي فقط إلى الاستقطاب بل تقود أحيانا إلى العنف الفعلي عندما تتحول الأكاذيب إلى أدوات تعبئة وتحريض وتحول النقاش العام إلى معركة كراهية.

ما يزيد الطين بلة، هو عجز الأنظمة القانونية عن ملاحقة الفاعلين في هذه الحرب المظلمة، فالقوانين المعمول بها في أغلب دول العالم لم تُصمم للتعامل مع الجرائم الرقمية المعقدة ومعظمها يفتقر إلى القدرة على التجاوب مع التطور السريع للتقنيات والممارسات السيبرانية، كما أن التعاون الدولي في هذا المجال لا يزال محدودا وغالبا ما يصطدم بالمصالح المتضاربة للدول التي قد تكون هي نفسها أطرافاً فاعلة في الحرب الإعلامية الخفية.

ورغم الجهود التي تبذلها بعض المؤسسات والمنصات للكشف عن الأخبار المزيفة والتصدي لها، إلا أن هذه الجهود غالبا ما تكون متأخرة وتفتقر إلى الشمولية، بل إن بعض هذه المبادرات أصبحت موضع شك واتُهمت بالانحياز أو بالرقابة المبطنة، الأمر الذي يجعل الرهان على التوعية المجتمعية والتعليم الإعلامي أكثر أهمية من أي وقت مضى.

لا يمكن إنهاء هذه الحرب بسهولة ولا يمكن تصور عالم خال من الإعلام المزيف، ولكن يمكن على الأقل خلق مناعة مجتمعية قادرة على التعامل مع هذا الخطر عبر تعزيز ثقافة التفكير النقدي وتوفير أدوات التحقق وتحفيز وسائل الإعلام المهنية على الالتزام بالمعايير الأخلاقية والابتعاد عن التسابق على الإثارة والتضليل من أجل نسب المشاهدة أو التفاعل.

في النهاية يبقى السؤال معلقا دون إجابة قاطعة، مَن يملك الحقيقة في عصر أصبحت فيه المعلومة سلعة والواقع منتجاً قابلاً للتعديل ومنصات التواصل ميادين حرب مفتوحة بلا جبهات تقليدية أو قواعد اشتباك واضحة؟ هل هي الحكومات أم الشركات التقنية أم الجماعات المؤثرة أم أن السيطرة باتت وهَماً نطاردهُ وسط عاصفة من الأكاذيب التي تتكاثر كل يوم؟ الجواب المؤلم، ربما أن الحقيقة لم تعد مِلك أحد، وأن من لا يملك أدوات الوعي هو من سيدفع الثمن.

***

د. عصام البرّام

في عالم تتسارع فيه التحولات التقنية وتتغير فيه موازين القوى الاقتصادية والاجتماعية، لابدّ أن نعيد النظر في منظومة التنمية برُمتها، لنطرح السؤال الجوهري الذي لا ينبغي أن يغيب عن صنّاع القرار. ما هو موقع الإنسان في هذه التحولات والى أي مدى نضعه في قلب استراتيجيات التنمية؟ هل هو مجرد أداة في عجلة الاقتصاد أم هو الهدف والغاية من كل خطط التنمية؟

حين نقول الإنسان أولاً فاننا لا نطلق شعاراً رنانّاً أو عبارة عاطفية، بل نؤكد على حقيقة راسخة أثبتها التأريخ وتؤكدها التجارب الحديثة، أن الإستثمار في الإنسان هو الإستثمار الأذكى والأكثر عائداً وآستدامه، فكل تنمية لا تضع الإنسان في مركزها ولا تبني على قدرته ولا تؤهله ليكون فاعلاً في حاضره وصانعاً لمستقبله، هي تنمية هشة سرعان ما تنهار أمام أول إختبار حقيقي.

الرأسمال البشري لا يعني فقط عدد السكان أو القوة العاملة المتاحة، بل يتجاوز ذلك بكثير، أنه يعبّر عن القيمة المعرفية والمهارية والصحية والأخلاقية التي يمتلكها الفرد داخل المجتمع، هو مزيج معقد من المعرفة والخبرة والمهارات والتحفيز والثقافة والسلوك القيمي، الذي يجعله قادراً على الإبداع والتكيف والإبتكار والتعامل مع المتغيرات وتحويل التحديات الى فرص، وهو ما يميز الشعوب التي استطاعت أن تنتقل من التخلف الى الريادة خلال عقود قصيرة فقط، بفضل آستثمارها في الإنسان وتعاملها مع العقل البشري بآعتباره الثروة الحقيقة التي لا تنضب.

وحين ننظر في تجارب الدول التي حققت قفزات تنموية هائلة، نجد أن القاسم المشترك بينها، هو التركيز على التعليم والتدريب والرعاية الصحية والعدالة الاجتماعية وبناء منظومة متكاملة ترعى الإنسان منذ ولادته حتى شيخوخته، بل وتوفر له البيئة التي تمكنه من أن يعطي أقصى ما يمكن من إنتاج وآبتكار وإبداع ليس بدافع الخوف أو الحاجة، بل بدافع الإنتماء والرغبة في البناء والمساهمة في التغير. هنا فقط يصبح الاستثمار في الإنسان عملية تراكمية ومستدامة تثمر أجيالاً من القادة والمفكرين والمبتكرين ورواد الأعمال والمربّين والمعلمين والأطباء الذين يصنعون الفارق الحقيقي في مجتمعاتهم.

إن التعليم في هذا السياق، هو المدخل الأهم للإستثمار في الإنسان، لا لأننا نريد أن نملأ العقول بالمعلومات، بل لأننا نسعى لبناء شخصيات متكاملة تفكر بشكل نقدي وتحلل وتربط الاشياء وتتخذ قرارات مسؤولة وتتعامل مع الاختلاف وتبحث عن الحقيقة وتسهم في المعرفة، وليس مجرد متلقين سلبيين لحشّو لا يصمد أمام أول إحتكاك بالواقع. ذلك إن المدرسة ليست فقط مكاناً لتلقين المناهج بل هي فضاء لتشكيل الوعي وتعزيز القيم وغرس روح المسؤولية والإنتماء والبحث والفضول والمثابرة والمبادرة، لذلك فإن إصلاح التعليم لا يعني تغيير المناهج أو تحسين البنية التحتية فقط، بل يعني تغيير الفلسفة التي تقوم عليها العملية التعليمية من الأساس، بحيث يصبح المتعلم مركزها الحقيقي والمعلم ميسّراً ومحفزاً ومرافقاً في رحلة آكتشاف الذات والعالم.

ولا يمكن الحديث عن رأس المال البشري دون التوقف عند الصحة النفسية والجسدية، فالعقل المبدع لا يمكن أن يعمل في جسد منهك ولا في بيئة تضغط عليه دون رحمة ولا توفر له أدنى مقومات الراحة والتوازن، فالإنسان المريض جسدياً أو نفسياً لن يكون قادراً على العمل أو التعلم أو الابداع، بل سيشكل عبئاً على مجتمعه؛ لذلك فإن الرعاية الصحية لا ينبغي ان تقتصر على العلاج بعد وقوع المرض، بل تشمل الوقاية والتغذية والمتابعة النفسية والدعم الاجتماعي وبيئة العمل الآمنة والمحفزة التي تضع رفاه الإنسان في قلب سياساتها لاعلى هامشها.والتمكين، فإذا شعر المواطن أنه مجرد رقم في سجلات الإدارة أو سلعة في سوق العمل أو تابع

أما على مستوى السياسات العامة، فإن وضع الإنسان أولاً يعني أن نعيد صياغة كل الخطط التنموية والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لتكون متمحورة حول الإنسان لا حول الأرقام والنسب والمؤشرات الجافة التي قد تخدع أحياناً. إن التنمية الحقيقة لا تقاس فقط بمعدلات الناتج المحلي أو حجم الاستثمارات أو نمو الصادرات بل بمدى شعور الإنسان بالكرامة والإنتماء والعدل والحرية والمشاركة والتمكين، فإذا شعر المواطن أنه مجرد رقم في سجلات الإدارة أو سلعة في سوق العمل أو تابع في منظومة لا تعبأ بصوته ولا تعترف بكرامته فلن يكون جزءاً من أي مشروع تنموي مهما كانت مغرياته.

ولأن الحديث عن الإنسان لا يكتمل دون الحديث عن العدالة الاجتماعية، فإن هذه الأخيرة تمثل شرطاً أساسياً لبناء رأس مال بشري متوازن وفعال، فلا يمكن لمجتمع يسوده الفقر والتهميش والتمييز والجهوية والنوعي أن ينتج طاقات خلاّقة ومبدعة، تُسهم في التنمية على العكس تماماً، فإن غياب العدالة يقود الى الإقصاء والكراهية واليأس وتفشي العنف والجريمة، ويحول الأفراد الى قنابل موقوتة بدلاً من أن يكونوا طاقات منتجة، لذلك فإن العدالة الاجتماعية ليست فقط مطلباً أخلاقياً، بل هي أيضاً ركيزة استراتيجية لبناء مجتمع قوي ومتماسك وقادر على مواجهة التحديات.

ومما لا شك فيه، فالشباب من كلا الجنسين الرجل والمرأة، يشكلان ركناً أساسياً من أركان رأس المال البشري. إذ لا يمكن تصور تنمية حقيقة في أي مجتمع دون تمكين الشباب من كلا الجنسين، وإزالة كل العوائق التي تحّول دون مساهمتهما الكاملة في الحياة الاقتصادية والسياسة والثقافية. إن تمكينهما لا يعني فقط منحهما حقوقهما القانونية، بل يعني أيضاً تغيير الذهنيات التي تهمّش دورهما وتحد من طموحاتهما وتضعهما في قوالب نمطية تحّول بينهما وبين تحقيق ذاتهما، كما يعني توفير الفرص العادلة في التعليم والعمل والقيادة دون تمييز أو تحامل؛ لأن المجتمع الذي يعطل نصف أو أكثر طاقاته بإرادته الحرة لا يمكن أن يبلغ أقصى إمكاناته.

ولا يمكن تجاهل، أن الإستثمار في الإنسان لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل يشمل أيضاً الإستثمار في القيم والثقافة والهُوية والروح الجماعية، لأن الإنسان بلا قيم يصبح مجرد أداة قابلة للإستعمال في أي آتجاه وبلا ثقافة يصبح هشاً أمام موجات التغريب والفراغ الوجودي، وبلا هوية يفقد إنتمائه ويذوب في عوالم لا تشبهه، إن بناء رأس المال البشري يتطلب أيضاً مشروعاً ثقافياً وإنسانياً يُعيد الإعتبار للثقافة والفن والفكر والمعرفة كوسائل لصناعة الإنسان الحر الواعي المسؤول، لا كمجرد ترف نخبوي أو نشاط هامشي.

وحين نقول إن الإنسان أولاً، فإن ذلك يعني أيضاً أن نصنع عقداً إجتماعياً جديداً بين الدولة والمجتمع يقوم على الثقة المتبادلة والحقوق والواجبات والشراكة الحقيقة لا على منطق الهيمنة أو الزبونية أو التبعية، فالدولة مسؤولة عن توفير البيئة التي تمكّن الأفراد من تحقيق ذواتهم وتنمية قدراتهم والمجتمع مسؤول عن حماية القيم والروابط والدفع نحو المزيد من الفعالية والمواطنة والمشاركة النشطة في الشأن العام.

إن الحديث عن الإنسان لا يمكن أن يظّل مجرد خطاب إنشائي أو شعارات تزيّن الوثائق الرسمية، بل ينبغي أن يتحول الى برامج وسياسات وممارسات ملموسة تُقاس آثارها في واقع الناس وفي جودة حياتهم وفي شعورهم بالكرامة والإنتماء والفخر، ينبغي أن نتحرر من النظرة الضيقة التي ترى في الإنسان مجرد يدّ عاملة أو مستهلك أو ناخب، بل نراه كما هو كائناً حراً عاقلاً خلاقاً طموحاً يحمل في داخله بذور النهوض إذا ما أتيحت له الفرصة.

نحن اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن نستمر في منطق الاقتصاد والتكنولوجيا والبنية التحتية أولاً وكل شيء قبل الإنسان، وإما أن نعيد ترتيب أولوياتنا لنضع الإنسان في قلب كل شيء؛ بآعتباره الأصل والغاية والوسيلة. إن الدول التي فهمت هذا الدرس مبكراً، آستطاعت أن تتحول من دول فقيرة الموارد الى قوى إقليمية وعالمية، بينما بقيت دول أخرى تملك كل الإمكانات الطبيعية ولكنها لم تحقق تنمية حقيقة؛ لأنها لم تستثمر في الإنسان.

الرهان اليوم ليس فقط ما نملك من نفط أو معادن أو منشآت أو غير ذلك، بل على ما نملك من عقول وأحلام وطاقات.

***

د. عصم البرّام - القاهرة

 

إنّ الغيرةَ والحسد بين المُبدعين حالة مرضية نفسية قديمة قدم البشرية، وهذه ليست مسألة غريبة بل نزعة غريزية وردُّ فعلٍ طبيعي بحق المشاهير وإن كانت هذه صفة مذمومة، وغالبًا ما تكون بين طرفين في مجال واحد، وليس في مجالين مختلفين، فمن الطبيعي أن تكون الغيرة بين الشعراء، أو بين التشكيليين أو بين الموسيقيين، ونادرًا ما تكون بين شاعر و تشكيلي، أو بين أديب وموسيقي مثلًا.

وفي تاريخ الآداب العالمية نجد نماذج كثيرة في هذا الباب، حيث يدخل الأدباء والفنانون الكبار في الصراعات بأساليب مختلفة ومتنوعة، فالكاتب الروسي بوشكين (1799- 1837) كتب مسرحيته الشعرية "موزارت وساليري" التي نشرها عام 1832 وتم عرضها على خشبة المسرح في نفس العام. وهو "أطَّلع على قصة وفاة الموسيقار النمساوي موزارت بعد أن دس صديقه الموسيقار الإيطالي ساليري السم له، لأنه كان يحسده لنجاحاته الباهرة في عالم الموسيقى، ولأنه ما كان باستطاعته أن يجاريه، وقد نشرت هذه الإشاعات الصحف العالمية، ومنها الروسية في أواسط عشرينيات القرن التاسع عشر، وكان بوشكين يميل إلى الاعتقاد بمثل هذه الأفكار المستندة إلى صفة الحسد عند بعض البشر، وكيف أن هذه الصفة يمكن أن تؤدي بالإنسان إلى ارتكاب الجريمة، وقد أشارت تلك الأخبار في حينها إلى أن ساليري قد اعترف بجريمته تلك وهو على فراش الموت". فالكاتب بوشكين من خلال مسرحيته بيّن لنا أثر الحسد وكيف يقود إلى الحقد ثم إلى الجريمة، ويمثل الصراع بين الشخصيتين" موزارت وساليري" صراع الخير والشر.

وفي تاريخ الأدب العربي نجد نماذج كثيرة من الغيرة بين المشاهير، منهم: "جرير (ت: 114هــ) والفرزدق (ت: 110هــ)"، و"المعري (ت: 449هــ) والشريف الرضي (ت: 406هـــ)"، و"المتنبي (ت: 354هــ) وأبو فراس الحمداني (ت: 357 ه)"، وفي تاريخ الأدب الحديث نجد "أحمد شوقي وحافظ ابراهيم"، و"الزهاوي والرصافي"، و"محمد مهدي الجواهري وعبدالوهاب البياتي"، والكاتبة اللبنانية "مي زيادة" التي كانت تُجيد تسع لغات، أصبحتْ محورًا لغيرةِ مجموعةٍ من الكُتَّاب في زمنها مثل: خليل مطران وطه حسين وحافظ ابراهيم عباس محمود العقاد وأحمد شوقي وإبراهيم المازني والريحاني. وقد كتب الروائي "واسيني الأعرج" روايته عن السيرة الذاتية للكاتبة، وتاريخها وعلاقتها بجميع هؤلاء المشاهير نقلها من مستوى الواقع التاريخي إلى مستوى الخطاب السردي، بأسلوب فني رائع.

وفي رواية "زرياب" لمقبول العلوي نلاحظ تكرار ثيمة الغيرة والحسد مرارًا، بل تتغلب على فضاء الرواية وأحداثها، فهي تجعل المعلم والموسيقار إسحاق الموصلي يقف ضد تلميذه "علي بن نافع"*(ت: 243هــ) الملقب بـ"زرياب" وتعني "الطائر الأسود ذو الصوت الجميل"، خوفًا من أن يحتل مكانة مرموقة، وشهرة واسعة أكثر منه عند الخليفة "هارون رشيد"، وسيكون سببًا لتهميشه، فقد كانت لـ"زرياب" مواهب كثيرة، فكان عبقريًا في الموسيقى، ومطربًا ومُلَحِنًا ناجِحًا، وشاعِرًا مُجيدًا، وعالِمًا مُلِمًا بالعلوم الفلكية، والآداب والتاريخ والجغرافية والتراجم والإتكيت والأزياء وفنون الطبخ وتنظيم الموائد، وهو الذي عَرَفَ كيف يزرع في القلوب حب الحياة وعشقها، وكان إنسانا متفائلا وزاهدًا في كل شيء، وبهذا الدافع يطرد إسحاق الموصلي "زرياب" من قصر الخليفة، بتبليغ صريح بأن لا مكان له في القصر بعد اليوم، وذلك في مقطع من الرواية "أمامك خياران، إما أن تغادر أرض العراق إلى أي مكان تشاء، وإما أن تختار البقاء هنا ولكنك سوف تتحمّل تبعات قرارك هذا، ولك عليَّ إيمان مغلظة وموثقة لأنزعنَّ قلبك من صدرك وأرمي جثتك في أحد النهرين وأجعلك أثرًا بعد عين. وأنت والله أعلم بصدق قولي ومقدرتي عليه والإيفاء بكل حرف فيه".(زرياب، مقبول العلوي: 72). فالغيرة القاتلة لإسحاق الموصلي باتجاه هذا الشاب النجيب "زرياب" الناشيء الموهوب لم تبق مختبئة في الداخل، بل ظهرت علنًا، وصارت سببًا لمؤامرتهِ وحقدهِ وكراهيتهِ لتلميذه، وهي رسالة واضحة ومهمة تؤكد مدى جديته، وتوضح مقدار احتقان صدره، أو "حنقه" و" انكشف الغطاء عن مرجلٍ ينفث كل نتانة في النفس البشرية. الحسد والغيظ والضغينة والشعور بفقدان توازن العقل والأفكار وتوتر الأعصاب والغضب الذي لا يحدّه حد...حينها تأكدت أن سيدي إسحاق الموصلي قد أصاب داء الحسد". (زرياب: 67)، مازال ينظر إلى نفسه كتلميذ مخلص لسيد المعلم، ولم يكن يعلم أن الكره والحقد والحسد تنمو في داخله، ولم يتوقع أنه يكتم كل هذه الكلمات وهذه الأحلام والأوهام في صدره.

وعندما نال زرياب إعجاب الخليفة هارون رشيد بطربه وتمايله طربًا من عزفه ومن بيت الشعر الذي غنَّاه له بطريقته الخاصة، وكأنَّه يُغنِّي لنفسهِ في خلوته بحرارة وصدق، وعبقريته في الغناء والموسيقى، فَرحَ الخليفةُ وقال لإسحاق الموصلي "ما هذا السحر يا إسحاق؟ والله لولا أني أعلم صدقك لي على كتمانك إياي لما عند فتاك هذا وتصديقي لك من أنك لم تسمعه من قبل لأنزلت بك العقوبة لتركك إعلامي بشأنه، فخذه إليك واعتمد بشأنه حتى أفرغ له، فإن لي فيه نظرًا..."(زرياب:66). تغير موقف إسحاق الموصلي بعد هذه الحفلة، وأصبحت علاقته مع تلميذه في مهب الريح، وصارت محاربته له تتَّخذ في كل يوم لاحق جانبًا واطيًا وحقيرًا جعله يستغرب من أنه قد انحطت به الحال إلى هذه الدرجة المخيفة، إن المنافسة في الإبداع نفسها تجلب الغيرة والحسد والعداوة، وزرياب لم يكن يعرف حقيقة مرض الغيرة والحسد من القبل، أما الآن بعدما وقع فيه مع أقرب شخص وأعز الناس، سيحاول أن يقتنع بنفسه في هذا الأمر"أليس الحسد هو ما حدا بأبناء الأنبياء إلى قتل بعضهم بعضًا؟ أليس الحسد من جعل إخوة يوسف يرمونه في غيابة الجبّ؟" (زرياب:69).

وقد تكرر مضمون هذا المقطع في رواية "طيف الحلَّاج" لمقبول العلوي، ولكن بصيغة أخرى، على لسان شخصية عبدالجبار عندما سمع قصة نوري إبراهيم، وأدرك أن الخلل في النفوس المريضة، وتأكد له أن القتال بين أبناء الأنبياء، كان من باب الحسد والغيرة، حيث يقال" إذن، هو الحسدُ، قاتل اللهُ الحسدَ، هذا الداءُ جعل حتَّى أبناء الأنبياء يقتلون بعضهم بعضًا..." (طيف الحلاج، مقبول العلوي: 222). فالمضامين في النصين متقاربة تمامًا، وهذا يدل على أن الكاتب يكرر فيهما المفهوم، لقناعته التامة بالموضوع وتأثره به، ولم ينطق على الهوى، بل اعتمد على المصادر الموروثة، وكَتَبَ بما وصله من تجاربه في الحياة، وأخذ من الفلسفة والمنطق.

وقد أشار السارد في رواية "زرياب" إلى مواطن الحقد والحسد والغيرة في نفس إسحاق الموصلي وكان أولها إحراق جزءٍ من بيته، وكان حريقًا ساذجًا ومفتعلًا، وأُخمد بمساعدة بعض الجيران، قبل أن تلتهم البيت كله. وثانيها تبليغ الموصلي للحراس المكلفين بحراسة بيت الحكمة بعدم السماح لزرياب بالدخول لقراءة الكتب والاستماع إلى مساجلات العلماء الأجلّاء الذين يكثرون في هذا المكان، و"كانت هناك معاملة بعض رجال القصر لي بخشونة وقسوة، فقد كانوا يمنعونني من الدخول إلى الخليفة، أو إلى مجلس ولي العهد المنتظر الأمين ولد الرشيد المرشّح بقوة للخلافة بدلًا من أخيهِ المأمون الذي طوته بلاد فارس تحت جناحها ولن تلبث أن تشكّله كيفما تشاء، كما كان يشاع همسًا في بغداد كلها"(زرياب: 74). وقد رفض الكثير من تجّار بغداد التعامل مع متطلباته الضرورية. لذلك كان يستعين بالعبيد لشراء حاجات الأساسية، ولم يسمح زوجته أن تخرج كثيرًا كي لا يتحرش بها أحد. وكانت تلك السنوات التي قضاها في القصر تحت كنف الأمير غالبيتها سنوات سوداء قاحلة مترعة بالدسائس والمكر والغدر والخيانة، لأن الأمين كان رجل دنيا وليس رجل دولة، وكان يجيد تكوين الأعداء ولا يعرف كيف يكسب الأصدقاء.

وبعدما ترك علي بن نافع بغداد، وذهب إلى الأندلس واستقر في بلاط الأمير خلال أربعة وثلاثين عامًا أخذًا وعطاءً معها لم يتركه الحسَّاد أيضًا "تمام بن علقمة" و"عبد الملك بن حبيب السلمى" وغيرهما، فبعضهم يجهر بالعداوة وبعضهم الآخر يخفيها في الصدر. وكان أكبر حاسد له في بلاط الأمير شاعر مجيد يدعى بـ"يحيى الغزال" كان سفيرًا لأمير البلاد، لقب بالغزال لجمال شكله وهيئته، ولكن لم يكن مانعًا لكي يكون لسانه قذرًا في هجاء زرياب، وحاول كثيرًا طردهِ من بلاطِ الأمير، ولكن زرياب القديم قد تغير إلى شخص آخر، يدافع ويحكي ويشتكي ولا يسكت عن حقه، وقد يكون وقحًا أحيانًا، وتعرف على هذا المرض الخبيث، وقد "أعرف أن دوافعه وأسبابه هي الأسباب والدوافع نفسها التي أدت إلى أن يطردني إسحاق الموصلي في بغداد...ولقد هجاني بقصيدة مقذعة وزاد هياجه وحسده عندما منحني الأمير عبد الرحمن بن الحكم دار نصر الخصي". (زرياب: 210). وهذا دليل على وجود هذا نمط من الشخصيات المريضة في كل مكان وزمان، والروائي اشتغل استثمارها مع هذه الثيمة المهمة في وعي التشكيل للسرد في السيرة الروائية.

وهذه الثيمة المؤامراتية التي تشمل ثيمات "الحسد والحقد والغدر والخيانة والقتل" بدافع الغيرة، نجدها عند الروائي جان دوست بصورة ملحوظة أيضًا، اهتم بها في معظم رواياته، ففي رواية "ميرنامه" نجد تشابها إلى حدٍ كبير مع ما وجدنا في رواية "زرياب" من ثيمة الغيرة والحسد، نرى بأن تلك الثيمات تتغلب على فضاء الرواية وأحداثها وشخصياتها، والروائي يستغلها مادة تخيلية تاريخية فيها، فالشاعر" بُهاري" هو إحدى شخصيات الرواية، وهو من الساردين الذين يشاركون في السرد لعلاقته مع الخاني، حيث كان يكتب أشعارًا للأمراء والسلاطين والباشاوات ويمدحهم باللغة التركية، من أجل الحصول على منصب ومكانة مرموقة في القصر؛...

(كنت أظن أنني سأصبح شاعرًا مثل شكري البدليسي صاحب "سليمنامه" وأحظي بمكانة رفيعة في قصور الصدور العظام وشيوخ الإسلام وحتى في مجالس السلطان المعظم في الآستانة لكن الدهر قلب لي ظهر المجن). (ميرنامه، جان دوست، 32-33). وكان الشيخ أحمد الخاني لا يتفق معه لهذا النوع من الشعر، بل كان معارضًا له دائمًا بنصائحه لتجنب الشعر مديح، ويسأله إلى متى ستبقى تكتب بلغة التركية؟ ويحثه ليثق بلغته الأم، ليكن وفيًا معها، (فوالله لم يصل صوتك إلى الآستانة، وحتى لو وصل فلن يسمع له أحد).(ميرنامه: 33). ففي البداية كان "بُهاري" رافضًا لآراء الخاني، وعندما وصل أخيرًا إلى حد اليأس لوصولهِ إلى الآستانة اقتنع واعترف بما قال له الشيخ، عندما رأى جمهوره الكثير وقرَّاء له، واللذين يتابعونه من الناس العامة والفقهاء والمريدين والطلاب والآخرين، وقد أوصله الغيرة إلى حد الحقد والكراهية، ثم إلى المشاركة في المؤامرة على قتله ومحويه ليبقى شاعرًا وحيدًا في بايزيد.

وأسباب غيرة "بُهاري" القاتلة من "الخاني" واضحة، فلم يتمكن الوصل إلى مكانته الشعرية، ولم ينل محبة الناس ولا مكانة عالية لديهم مثله، بل كان منبوذًا ومكروهًا، يتقرب من السلطة لأجل المصلحة، وكان الناسُ في بايزيد وضواحيها ينظرون اليه نظرة دنيئة، وينظرون إلى الخاني باحترام وتقدير، ويعتزون به ثقة وأمانة، لأنه صاحب مكانة علمية ودينية واجتماعية وأدبية مرموقة، لهذا كان محسودًا من قبل الأمير عبدالفتاح وبعض من أعوانه ومن ضمنهم بُهاري الشاعر.

وهناك أسرار يتم كشفها على لسان "بُهاري" كأحد الساردين، في علاقته بالخاني، كسرقة مخطوطة "شێتەی سەرحەدان: مجنون سرحدان" من الخاني، لإعادة كتابتها وحوَّرها باسمه بعد تغيير العنوان إلى "دێوانەی بایەزید: مجنون بايزيد" ثم استنسخها نسخًا عديدة وبيعت في حانوت صلاح الدين الوراق، إذ كان الناس يتخاطفون ولم تبق منه نسخة واحدة، ولكن الشيء الذي تآكله من الداخل من الهمّ هو أن الخاني لم يذكرها أبدًا، ولم يحسب حسابًا له، مع استمرار اللقاءات بينهما اعترف أيضًا بسرقة قارورة حبر الممتاز من الخاني، لغرض كتابة النص بصورة جيدة كما كتبه صاحبه، ولكن ذلك الحبر السحري الذي كان يفوح عطر العنبر منه، قد تغير عنده إلى شيء آخر، وتحولت رائحته إلى رائحة كريهة، غير مرغوبة، ومن خلال ذلك كله تعرفنا على حقائق شخصية بُهاري وأسراره من لسانه، فقد كان شخصية ضعيفة سيئة دنيئة. وعندما أشرفت ملحمة الخاني "مم وزين" على النهاية، دعاه بهاري إليه ليقرأ له مقاطع منها، وكان بُهاري فاغرًا فمه من الدهشة بينما الخاني يحدق في عينيه، فقد كان يقرأ الحسد الملمع في عينيه أيضًا، وكلما قرأ مقاطع من الملحمة، كان يبلع ريقًا ويلتزم الصمت، ولم يستطع إخفاء جمرات الحسد المتقدة في رماد العين...

(تلك الليلة كانت نيران الحسد تنهشني من الداخل....كنت أذوب مثل ثلج أشرقتْ عليها الشمس أو قطعة سمن على صفيح مسجور، ورأيت نفسي مثل ذرة صغيرة في ضوء قامته وقوة كلماته). (ميرنامه: 33).

ازداد حسد لهُ ولم يكن بإمكانه الوصول إلى غبار قوافيه العذبة، وكان أحيانًا يتمنى أنْ يذهب إليه ليخنقهُ ليلًا دون أنْ يشعر به أحد، وكان أمامه كطائر مهيض الجناح مكسور القوائم! وإذا نمعن في مضمون الرواية سنلحظ أن السارد تلاعب خلال التخيُّل التاريخيّ فدمج الواقع بالخيال لإبراز جانب من الجوانب حياة الخاني فيه الغيرة والحسد والخيانة بوجود خصومه الذين تآمروا على قتله، منهم بُهاري الذي تصارع معه وتناقض معه في الأفكار والآراء، فمثل الإنسان الخائن والمنافق والعميل، وبسبب هذه النماذج من الشخصيات لا تتقدم الأمم، ومن ضمنهم الكُرد، ولا تحقق استقلاليتها، وتفشل ثوراتها الشعبية ونضالاتها السياسية، وتتفرق دائمًا.

والشيخ أحمد الخاني ناقد سياسي واجتماعي وعالم ديني ومفكر وشاعر، قدم ما في جعبته من الأفكار والآراء من خلال مؤلفاته لشعبهِ وأهلهِ وقُرَّاءِهِ. وقد استفاد الروائي جان دوست من التاريخ، باستحضار هذه الشخصية التاريخية المحورية واستغل هذه الثيمات المهمة للتعبير عن الواقع الحال ورؤيته الشخصية في معالجة الإشكالات التي أصبحت خللًا في التاريخ. وعلى هذا بني التخيّل التاريخيّ برؤية نقدية في الاوضاع السياسية والاجتماعية، ومحاولة في تصحيح الإخطاء التاريخية، وربطها بالحاضر والظروف الراهنة للقضية التي دامت منذ ذلك الزمن إلى يومنا هذا.

ومن خلال دراستنا للروايتين "زرياب" و"ميرنامه" نلاحظ بأنهما انشغلتا بثيمتي الغيرة والحسد، واستقت كل منهما مادتها الروائية من كتب التاريخ والموروث والسيرة الشخصية للشخصية المحورية "زرياب" و"أحمد الخاني"، كليهما من الروايات السيرية الغيرية والواقعية التاريخية، فالشخصية الرئيسة المحورية في كل رواية منها تعاني من مرض الغيرة والحسد من الخصوم لكونهما أبدعا في مجاليهما، فالأول يمتلك المواهب العديدة ومنها إبداعه وابتكاره لفن الموسيقى بإضافة الوتر الخامس على الآلة العود، وبتفوقه ينال إعجاب الخليفة ويثير الدهشة والغيرة والحسد لأستاذه (اسحاق الموصلي)، بحيث يحاربه ظلمًا، وبهذا يتم طرده لا من القصر فحسب بل من العراق كله، وبعد ذلك يستقر في الأندلس حتى موته. وأما الثاني فكان شاعرًا نجيبًا وإنسانًا مخلصًا وعالمًا مفكرًا ومثقفًا، لكن "بُهاري" يحسده حقدًا وكراهًة لأنهُ أشعر منه، ولم يتمكن من أن يصل إلى مكانته في الشعر، ولا إلى مكانته الاجتماعية فكان معارضًا للأمير والسلطان، ولم يتنازل عن رأيه ومواقفه، وقد دفع ثمن المبدأ، وأصبح ضحية لمواقفه، وشارك بهاري الحاقد في مؤامرة قتله مسمومًا.

ونرى بأن كلًا من مقبول العلوي في "زرياب" وجان دوست في "ميرنامه" أجرى تعديلًا في المراجع التاريخية، بما يناسب طبيعة التّخيُّل التّاريخيّ، فوسّعا المنطقة المتخيّلة فيهما لتفصح عن أفكارهما ومشاعرهما وحركتهما داخل فضاء الرواية.

وتبدو دراماتيكية الروايتين مأساوية تثير الأحزان والدموع والآلام، وتنتهيان بالنتيجة التراجيدية الغدر والخيانة، ففي رواية "زرياب" تموت الشخصية التاريخية المحورية/ البطل في الغربة بعدما طرَّد من موطنهِ لفترة طويلة بسبب الغيرة والحسد، وفي الثاني يقتل البطل مسمومًا حسدًا وكرهًا وحقدًا من الغيرة فالخيال فيهما يلعب دورًا أساسيًا، والخيالية التأملية التي تنتمي إليها الروايتان تعكس الكثير من التراث والتاريخ والآراء والرؤى الخاصة بالكاتبين، ونظرتهما إلى المجتمع المحيط بهما، ومن ممارساتهما وتنبؤاتهما وثقافتهما ليمزج بين الحزن والأسى والحقد والحسد والغيرة، وانفعالاتهما ثم تأثيراتهما على الآخرين في المستقبل.

***

د. شازاد كريم عثمان - كردستان العراق

............................

المصادر والمراجع:

1-  زرياب، مقبول العلوي، دار الساقي، ط1، بيروت، 2014. وقد ترجمت إلى اللغة الكردية من قبل المترجم صباح اسماعيل.

2-  ميرنامه، جان دوست، مطبعة افيستا، ط2، اسطنبول، 2012. وقد ترجمت الى اللغة العربية من قبل المترجم صباح اسماعيل.

3-  ضياء نافع، "مسرحية بوشكين الشعرية (موتسارت وساليري)"، صحيفة المثقف،

https://www.almothaqaf.com/readings.

4-  زرياب، مقبول العلوي، ت: صباح اسماعيل، المقدمة بقلم المترجم: ئیرەیی، بکوژی ئاوازەکانی بەهەشت. (سلێمانی: ناوەندی رەهەند،2020)، 7-9.

*  وهو أبو الحسن علي بن نافعٍ (ت 243 هـ) عالم من العلماء الكُرد، تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه (كان الفتى الكُردي زرياب ألمع تلاميذ مدرسته) في كتابها: شمس العرب تسطع على الغرب، ت: فاروق بيضون وكمال دسوقي. (بيروت: دار الجبل، ط8، 1993)، 488.

في عام 2015 قررت الحكومة الفرنسية ان تقوم بتغيير قرارها المتخذ عام 1952 بزياده نسبة يود الطعام من 20 مليغرام للكيلو الى 30 ملغرام وذلك لانها اكتشفت ان هناك نقص عنصر اليود في النساء الحوامل يوثر على تطور عقل الجنين وكذلك لمكافحة تضخم الغدة الدرقية.

عالمنا في حالة صيرورة وتحول لانهاية له وتتغير قوانينه بتغير ظروفه الاجتماعية. في الوقت الذي تعاقب فيه بلدان السرقة بقطع اليد مثل السودان ونايجيريا وبلدان اخرى يعاقب بلد مثل فنلندا السرقة بغرامة او السجن في اصلاحية تسمى (اعادة تأهيل) بمعنى ان السجين يقضي مدته باتباع دورات تثقيفية وقراءة من اجل اعادة تاهيله للعودة للمجتمع لان المجتمع يعتقد انه يتحمل جزء من انحراف افراده وان البيئة المحيطة لو لم تكن قد اساءت للفرد لما اضطر للسرقة. فتطبيق مثلا قطع اليد يخلق انسان معاق على الدولة ان تقوم بالانفاق عليه باقي عمره. هنا المستوى الثقافي للفرد حدد نوع القوانين الواجب اتباعها معه. فما يصلح في بيئه تصبح السرقة فيه مرضا متفشيا مثل (الگنگري) لايصلح في بلد اكثر ثقافة وتحضر. في بلد مثل النروج يقوم قاتل بدافع عنصري بقتل 77 شخصا ثم يرفع دعوة ضد الحكومة بعذر ان ظروف حياته في السجن ليست انسانية. تغيرت الثقافة فتغيرت القوانين

اليوم من بين كل دول العالم البالغ عددها 195 المتحضرة منها وكذلك الغير متحضرة في القارات السبعة هناك اليوم بلدان فقط يمنحان الحضانة للاب بعد سنة السابعة اوتوماتيكيا ودون النظر لمصلحة الطفل العليا وهي العراق وايران . باقي دول العالم تنص على ان القاضي يقرر المصلحة العليا للطفل وتدرس كل حالة على حدة وبحسب مايراه القاضي امامه من شروط وظروف. فالاب ممكن ان يكون سيئا وكذلك الام ممكن ان تكون سيئة وبالتالي فالامر متروك لحجم المعطيات التي تتوفر للقاضي للبت في احقية من يوفر بيئه نفسية اجتماعية سليمة للطفل. امر منطقي ومفهوم ولايمكن لاي انسان عاقل ان يعترض عليه لانه لايمكن لا حد ان يجزم اوتماتيكيا بمن سيوفر بيئه افضل الا بدراسه كل حالة على حدة. المدونه الجديدة في العراق تضيق حق القاضي في منح الحضانة للام بعد السابعة الى ابعد الحدود لدرجة ان المحاكم امتلئت بأباء تذكروا اليوم بضغطة زر ان لهم اولاد

 مهما حاولت ان تجد تبريرات منطقية او غير منطقية لاقناع الرأي العام لماذا لاترث الزوجة من الارض فل تستطيع ذلك بعيدا عن السياق العرفي الذي كان سائدا في ذلك الوقت ولايمكن ان تسلخ الظروف الاجتماعية في ذلك الزمن لتقوم بتطبيقها على هذا الزمن الا اذا افترضت ان العالم جامد تماما وغير متحول وهذا يناقض الحقيقة. لا يمكن ان تساوي زمنا تؤخذ المرأة غنيمة حرب لتعمل جارية تباع وتشترى ولها سعر يختلف حسب الجمال والموهبة بزمن تأخذ المرأة شهادة دكتوراه لتعمل استاذة جامعية او تعمل رائدة فضاء تعطيك معلومات عن عالم لا تراه بعينك المجردة وربما لولاها لكنت مازلت لليوم تعتقد ان الارض مسطحة . الكثير لايفرق ولايسعى ليفرق بين شرع الله وبين قرائته الشخصيه لما يعتقده شرع الله. الفلسفة في العراق لم تتطور مثلها مثل اي مجال اخر (ولايمكن ان تكون استثناء) ولم توفر اصلا ظروف التطور القادرة على شرح الشرع بطريقة توفر رؤية حقيقة لارادة الله على الارض بل ان الزمن الذي نعيش فيه في العراق لم يصل بعد الى مرحلة القدرة على قبول رأي فلسفي معارض للفلسفة السائدة دون ان يزج صاحب الرأي وراء القضبان ناهيك عن الوصول لاراء فلسفية تتحدى 193 بلد في العالم. لو اراد الامام الصادق (ع) ان تطبق القوانين مثلما هي وبصرف النظر عن ظروفها الاجتماعية والاقتصادية لقام بتأليف رسالة عملية شرح فيها مايجوز وما لايجوز حتى بعيدا عن انظار السلطة العباسية القمعية لتفنيد عذر ان السلطة لم تكن تسمح بذلك ولما ترك تلاميذه ينقلون عنه لان هدفه هو مدرسة اصولية تضع الاسس وتفتح باب الاجتهاد لكل عصر ولكل زمان وليس مجرد سؤال وجواب حتى لايكون ملزما. الفكرة الاكثر سذاجة هي الاعتقاد جزما بان هناك اناس او رجال دين في عصرنا قاموا بدراسة الفقه والفلسفة لدرجة الوصول لمرحلة العصمة في تفسير قوانين الفقه وهذا يناقض حقيقة لو ان الفلسفة في العراق (وهي اساس العلوم) تطورت الى ابعد ما وصل اليه العالم المتطور الان لتركت اثارها على باقي الميادين لكن ما تبصره الحواس الخمسة ينافي ذلك تماما

***

د. علي حافظ حميش

جامعة واسط

قراءة تحليلية في النجاحات والإخفاقات

من بات كهلا مثلي لابد يتذكر مسلسلا عراقيا بعنوان "الاماني الضالّة"، الذي طرأ على بالي مع تذاكر امانٍ ساذجة للبشر على مدى الحقب والازمان بدءا من امنية كلكامش في الخلود مرورا بقصص فاوست وبيجماليون وصولا لتفكير الرعناوات اليوم في شباب دائم من خلال دكاكين التقبيح. أنهم يغفلون عن حقائق هي ناموس الخليقة، ولو وعوا /وعَينَ تداعيات تحقيق تلك الاماني "ان تحققت أصلا، ولن ولم تتحقق" على كل ما يحيط بهم على المديين القصير والبعيد لولّوا فرارا من فساد تفكيرهم. الكارثة الأخطر حين تخرج تلك الاماني من نطاق الفرد الى الجماعة، فما بالك لو كانت تلك الجماعة حاكمة لبلد وبالتالي تكون شطحاتهم الفكرية نافذة ومؤثرة على الرعيّة!!!!

ارتبطت رغبة صناعة "الانسان الخارق، او المتميز" منذ أكثر من قرن بتعطش الأنظمة الحاكمة للسيطرة الطاغية من خلال "صناعة" جيل او أجيال بقدرات جسدية او عقلية او الاثنين معا تمكنها من التفوق في الحرب والعلم والاقتصاد. هنا كانت فكرة انشاء المراكز التعليمية/المدارس/الجامعات إحدى أهم الأدوات لتحقيق هذا الطموح، سواء عبر إعداد النخب الفكرية أو صقل جيل جديد من الجنود والعلماء. أي استعراض لشطحات التأريخ الحديث لن يحيد عن البدء بالتجربة النازية، حيث سعى هتلر فور استيلاءه على الحكم عام 1933الى انشاء مدارس خاصة بالنخبة، حيث أُنشئت مدارس النخبة مثل مدارس نابولا (Nationalpolitische Erziehungsanstalten – Napolas)، التي وصل عددها بحلول عام 1945 إلى أكثر من 40 مدرسة. كذلك أُنشئت مدارس أوردنسبورغ (Ordensburgen) لإعداد القيادات العليا في الحزب النازي. وقد كان الهوس بتفوق العرق الآري وحتمية غرس العقيدة النازية والولاء المطلق للقيادة حتى في عملية اخضاع العلوم والمعارف، هي الدوافع الأساس لذلك. رغم نجاح التجربة نسبيا في تكوين جيل من الشباب المتحمس والمؤدلج، لكن فشلت في إنتاج عقول علمية خلاقة، حيث ان كبار العلماء الألمان الذين أسهموا فعلًا في التقدم التكنولوجي (مثل فيرنر فون براون، رائد برنامج الصواريخ V-2) لم يتخرجوا من هذه المدارس بل من جامعات تقليدية، ولقد سقطت تلك التجربة التعليمية النازية مع سقوط النظام عام 1945، وبقيت مثالًا على كيفية خنق الابداع بتطويقه بالأيديولوجيا. حيث كانت البداية مع النازي فلست أرى أقرب من ذلك الهوس سوى التجربة السوفيتية التي اطلقت العنان لامثال تلك الأمنية. بعد ان وضعت الحرب العالمية الثانية اوزارها عام 1945، أرادت السلطة الحاكمة في الاتحاد السوفيتي تكوين "الإنسان السوفيتي الجديد"  Homo Sovieticus "، على ان يكون عقلانيا، منضبطا، ومتفوقا في العلوم. من هنا بدأت الدولة منذ أواخر الأربعينيات، في تأسيس مدارس متخصصة للرياضيات والعلوم، مثل مدرسة كولموغوروف في موسكو (1963)، التي خرّجت أجيالًا من علماء الرياضيات. والتي حققت إنجازات علمية كبيرة مثل إطلاق أول قمر صناعي "سبوتنيك"، بفضل نخبة من العلماء الذين تدرّبوا في هذا النظام التعليم، إرسال أول إنسان إلى الفضاء، يوري غاغارين1961، وهو نتاج منظومة تعليمية وعسكرية صارمة. إضافة للهيمنة على الأولمبيادات العلمية منذ الخمسينيات، حيث برز الطلاب السوفييت في الرياضيات والفيزياء. لكن بأي ثمن؟ لقد ادّى التعامل المتشدد مع الطلبة، بأعمار مختلفة قد تبدأ منذ الدراسة المتوسطة، الى رفع مستوى الضغط النفسي نتيجة لاجواء التنافس شديد، والتهديد بقطع التمويل او الطرد عند الفشل، وغالبًا على حساب صحتهم النفسية. ذلك إضافة لهوس القائمين على السلطة بأدلجة المناهج والمزج بين العلوم والإيديولوجيا الماركسية–اللينينية. بالنتيجة الحتمية ومع انهيار القبضة الحديدية عام 1991 انطلق نزيف العقول حيث هاجر كثير من هذه النخب العلمية إلى الغرب، خصوصًا الولايات المتحدة وإسرائيل، ما كشف هشاشة وحمق المشروع. بالتوازي او كردّ فعل للمشروع السوفيتي انطلقت التجربة الأميركية والغربية منذ خمسينيات القرن الماضي، حيث اهتاج الوضع لدى القيادة الأميركية مع انطلاق "سبوتنيك" عام 1957، اذ شعرت الولايات المتحدة بتهديد مباشر، فأطلقت برامج تعليمية خاصة مثل برنامج الموهوبين الوطني (National Defense Education Act, 1958)، حيث ظهرت مراكز تعليمية وجامعات بحثية مدعومة من الحكومة مثل MIT وStanford كمحركات للتفوق العلمي، وقد استلهمت بعض دروس الإخفاقات المذكورة سابقا، فحققت نجاحات، مثل نجاح برنامج "أبولو" في إرسال الإنسان إلى القمر1969، بفضل نخب علمية وتكنولوجية تخرجت من تلك المراكز. وصعود وادي السيليكون منذ ثمانينيات القرن الماضي كمركز للإبداع التكنولوجي، مدعوم بخريجي الجامعات النخبوية. بينما ركز الغرب على الإبداع الفردي والتجريب، مما أتاح ثورات علمية في الحوسبة، الإنترنت، والبيولوجيا الجزيئية. لكن ذلك لم يكن دون دفع ضرائب باهظة جدا لعل اقلّها الانفاق الهائل الذي أثقل كاهل الموازنات الوطنية واثّر تاثيرا كبيرا على الاقتصاد والخدمات المحلية. كان اتساع الفجوة التعليمية بين أبناء الوطن الواحد ابرز تلك الضرائب، اذ ان مدارس النخبة في الغرب باتت تخرّج قادة المستقبل، بينما بقيت غالبية الطلاب في نظام تعليمي أقل جودة، بل وانخفضت موارده نتيجة تحويلها للنخبة. لقد أوردت العديد من مراكز جمع البيانات العالمية ارتفاع معدلات القلق والانتحار بين الطلاب الموهوبين نتيجة الضغوط النفسية في بيئات شديدة التنافس مثل مدارس Ivy League.

حيث ان الهمّ عندي عراقي أولا، فانني "اخمّن" ان الهاجس المتصاعد اليوم عندنا مردّه، التقليد للتجربة الصينية الحديثة التي بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي وتصاعدت وتيرتها في العقدين الأخيرين. ظهرت في التسعينيات برامج وطنية لتطوير التعليم في العلوم والهندسة كجزء من خطة "التحديثات الأربعة"، ومع مطلع القرن الحادي والعشرين، أطلقت الصين مشاريع طموحة لصناعة "العقل المتميز" ضمن خططها للتحول إلى قوة عظمى. إضافة لما سبق شرعت الصين لانشاء مراكز الموهوبين والذكاء الاصطناعي حيث ظهرت مدارس وجامعات نخبوية، مثل جامعة تسينغهوا وجامعة بكين، التي باتت تُلقب بـ"هارفارد الشرق". وكانت الصين قد أعلنت رسميًا عام 2017عن استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية، وافتتحت "مدارس الذكاء الاصطناعي" للأطفال والشباب، بالتوازي مع برامج مثل برنامج الألف موهبة (Thousand Talents Program)، الذي يجذب العلماء الصينيين من الخارج، وأحيانًا حتى علماء غربيين، للانضمام إلى مشاريع الدولة. مع تفوق الصين على الولايات المتحدة في عدد الأوراق البحثية المنشورة في الذكاء الاصطناعي، واطلاق مهمة "تشانغ آه" إلى القمر وتعيد عينات من سطحه عام 2020، بدعم من نخبة مهندسيها، فقد ظهرت العديد من الآثار السلبية ابرزها ارتفاع مستويات الانهيار النفسي ومعدلات الانتحار نتيجة الضغط نفسي الشديد الذي تشّكله امثال نظام "غاوكاو" (امتحان القبول الجامعي الصيني) الذي ُيعدّ من أصعب الامتحانات في العالم، ويدفع الطلاب إلى معدلات انتحار مرتفعة نسبيًا. أيضا فقد سجّلت مراكز المعلومات خلق تفاوت طبقي واضح اذ ان المدارس النخبوية تتركز في المدن الكبرى (بكين، شنغهاي)، بينما يظل الطلاب في الأقاليم أقل حظًا.

الخلاصة مما سبق، يمكن القول ان تاريخ المراكز التعليمية لصناعة "الإنسان المتميز" يكشف بوضوح أن النجاح الحقيقي لا يكمن فقط في بناء نخب علمية فاقدة للتدرج الطبيعي لحياة الانسان، بل في توفير بيئة تسمح للإبداع بالازدهار دون قمع أو أدلجة. فقد أخفق النازيون لأنهم حوّلوا التعليم إلى أداة أيديولوجية، بينما نجح السوفييت علميًا لكنهم فشلوا إنسانيًا، ورغم ان الغرب قدّم نموذجًا أكثر مرونة وابتكارًا، لكنه أنتج تحديات اجتماعية ونفسية جديدة، وأنسجة مجتمعية اقرب للانحلال والتفكك. يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن بناء مراكز تعليمية تصنع "إنسانًا متميزًا" يجمع بين الذكاء والإبداع والإنسانية معًا، دون أن يسقط في فخاخ الماضي؟

أليس الاسلم والاصح انفاق تلك الأموال الهائلة والجهود المضنية بشريا وإداريا في رفع مستوى التعليم برمّته وتزويدها بالمستلزمات المطلوبة لتوفير الفرص المتكافئة لكل الطبقات مع إيجاد حوافز للتفوق في كل المجالات وبالتالي خلق مجتمع متوازن يعيش افراده حيواتهم بكل تفاصيلها الإنسانية بدلا عن استعبادهم الات وأدوات فاقدة للإحساس والروح؟ ناهيكم عن رفع الضغوط الهائلة على عوائل الطلبة وبالتالي رفع مستويات التوتر المجتمعي نتيجة شحّة الموارد الفردية في مجتمع يعاني أصلا من الطبقية.......

هل من سمّاع؟ لا اعتقد، لكنها حصاة "ربما" تحرك راكدا، والله من وراء القصد.

***

أ.د. سلام جمعه باش المالكي

ليس للكيانات السياسية إلاَّ أنْ تعتمد على غيرها من كياناتٍ أكبر. ذلك بحكم طبيعتها الهشة القابلة للتمدد أو الانحسار، فالضرورة السياسية من ثمَّ أبعد من الضرورة الوجودية. هي علاقة اقتران الصورة بالأصل مع رسم الخط إلى نهايته. وطالما أنَّ بعض الكيانات ظهرت تاريخياً بطريقة (شاذة)، فستظل مرتهنةً بجوار القوى الأضخم. اسرائيل أبرز الأمثلة الصارخة على التواطؤ الكولونيالي نتيجة(رعايةٍ غربيةٍ) تنصرفُ إلى مصالحها قبل أي شيءٍ. من جانبٍ آخر، يهم القوى الكولونيالية سريان صورتها في مساحةٍ أوسع من الهيمنة. لتواصل الأخيرةُ (الدولة المزيفة) احتذاء النموذج الغربي شاخصاً في التفاصيل وبالغاً ما يُراد له.

تؤدي اسرائيل دوراً كولونيالياً ضمن نظرة الغرب إلى العالم (وبخاصة الغرب الأمريكي). لقد أوجد الغرب اسرائيل كي يُطيل عمره الافتراضي ضماناً لاهدافه الاستراتيجية. ذات لقاء بالأمس القريب، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، خلال استقباله لرئيس إسرائيل يتسحاق هرتسوغ، إنه " لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان علينا اختراعها ". Biden: “If there were not an Israel, we would have to invent one

السؤال الأهم: منْ المتكلم ابتداءً رغم أننا ندركه؟ وإلى منْ يتكلم ونحن نعرفهم؟ ولماذا رأى المتكلم انعدام اسرائيل ثم اختلاقها؟ وبأي منطق تقفز صيغة الجمع (علينا اختراعها) إلى المطلق؟  قال بايدن كذلك: "دعم أمريكا لأمن إسرائيل راسخ، لا يتزعزع، لا أكثر ولا أقل" America’s support for Israel’s security is unshakeable, period. Period, period, ، مشيرًا إلى التزام الرئيس باراك أوباما من قبله تجاه إسرائيل وعلاقاته الطويلة والعميقة معها. وبدوره تمتد علاقات جو بايدن مع الكيان الصهيوني من زيارته إلى القدس للقاء رئيسة الوزراء آنذاك، غولدا مائير، عندما كان عضوًا جديدًا في مجلس الشيوخ، إلى الساعات التي قضاها في لقاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مؤخراً".

لم يتكلم بايدن بلسان الفرد، لكنه تكلم في سياق تراث ضخم، وعلى خلفية خطط وسياسات طويلة الأمد واستناداً إلى رصيد المناورات والحروب والتواطئات الكبرى. ظاهرياً أرجع العجوز الامريكي موقفه الاستعماري إلى" القيم والمبادئ المشتركة" بين البلدين. ولكنه ربط ضمنياً بين التزام دولته تجاه إسرائيل "والقيم المسيحية" التي حملها عن أبويه، مشيراً بذلك إلى العلاقة البنيوية بين المسيحية الإنجيلية الأصولية، أو المسيحية الصهيونية وقيام إسرائيل.

إن التزام الغرب تجاه اسرائيل هو التزام لاهوتي سياسي. وتشكّل ضمن موقف برجماتي لصناعة النماذج البديلة واستعمال كولونيالي لكيانات مختلقة هنا أو هناك. وتلك المرحلة خطوة وظيفية في تاريخ الغرب تحت أقبية الحداثة ولاهوت الحروب. ليس الحرب واللاهوت على طرفي نقيض، لكنهما يتشابكان في رأس أمريكي واحد، أو عبر أعلى قوة فوق خريطة العالم. ومن ثمَّ، ليس متصوراً أن يكون تاريخ الاستعمار إلاَّ خلق نماذج بديلة. الاستغلال هو سيد الموقف. مستعمرات تُفرّغ النموذج الغربي من مكانه لمصلحة مكان آخر. ويستمد المكان البديل السمات نفسها والآليات وأساليب التواجد وأطر العمل العام. أنْ تصبح كولونيالياً يعني أن تتصرف بنموذج سابق على وجودك وتتضخم استناداً إليه كما لو أنك هو. وقد تمَّ تطبيقه على السكان الأصليين شاءوا أم أبوا. ولا تعد اسرائيل غير هذا التبديل الذي يتمدد على الأرض كالثعبان، طالما أن المرجعية تبدي دعماً واتساقاً مع ما تقوم به.

وليس هذا فقط، بل قال بايدن بصفته الرئاسية لا الشخصية إنّه ليس يهودياً، ولكنه صهيوني. أنْ يتصهين رئيس أمريكي لا تكون الخطوة بلوناً اعلامياً، لكنه يحتذي سابقيه من الرؤساء راسماً الطريق أمام تابعيه. في التاريخ لا تهبط الصهيونية من أعلى إلى أسفل، بل تنشب مخالبها كحيوان فقد توجهاته، وتزحف مثل نبات متسلق عبر حاشية العقائد والأفكار المتداولة. وعلى المنوال نفسه سار دونالد ترامب، حيث كان أكثر حرصاً من الاسرائيليين على تدعيم سلة المهملات الاقليمية.

من السهولة بمكان لاسرائيل أن تمتص روائح ونفايات أمريكا والغرب، وأن تعيد انتاجها بصورة أكثر بشاعةً. وهي عملية كبيرة من إعادة التدوير، خدمة جيوسياسية للغرب المتوحش حيث لا تخلو المنطقة من فضلات أمريكا سياسياً واقتصادياً. من بإمكانه أنْ يدفن (يفلتر) هذه الفضلات؟ ولذلك ليست العبارات الواردة على ألسنة الرؤساء الامريكان ولا الأوربيين مصادفة لغوية ولا ذلة لسان تلقائية، ولكنها ضمن خرائط سلال المهملات الكولونيالية.

لم يكن ممكناً تجنب البعد الاستراتيجي والأخروي في المسألة الاسرائيلية. اسرائيل (سلطة ضخمة) امتثالاً لسلطة الغرب الذي يتوسع في ممارساته الكولونيالية. ليست اسرائيل دولة بالمعنى الحداثي المعروف، ولكنها غطاء رديف. نوع من الأقنعة السياسية لمنظومة تقع مركزيتها في مكان مغاير. الجسد والآلة في الشرق الأوسط، ولكن النخاع يبعد آلاف الكيلو مترات عن حركة الاحداث.

ثمة لعبتان تُفسران الاحتذاء الاسرائيلي لمركزية الغرب:

أولاً: لعبة الانطلاق:

يحرص الغرب على وجود اسرائيل كحتمية سياسية لوجوده. أي حين تُوجد مركزية غربية، توجد بالتالي بدائل معبرة عنها، ارتباط العلة بالمعلول. خصائص أي فائض قوة أنْ تخرج هذه القوة إلى فضاءات أخرى، وأن تتجاوز حدودها الجيوسياسية.  لا يُفصح الفائض العنيف عن نواياه مباشرة، نظراً للاختباء في التفاصيل والتواري عبر الصور المتباينة. بهذا المعنى، كانت اسرائيل مهمة في تلك المراحل تكويناً واستيطاناً بالنسبة للقوى العالمية. الغرب الأوروبي هو الصورة المبدئية التي شكلت انطلاقة حداثية كولونيالية لاحتلال العالم. حيث ارتد إلى ذاته ملخصاً العالم في تكوينه لا غير،  فلا يسمع الغرب ولا يري ولا يختلف إلاّ  مقارنة بتاريخه دون الاعتراف بأية ذوات أخرى.

انفجرت مفاهيم الذات والعقلانية والتكنولوجيا والارادة العامة والدولة في أشكال امبراطورية خارج أوروبا. وطالما كانت المركزية الأوربية حاكمة لهذا النمط من الانفجار، فكان لا بد لكل مركزية أن تحرص على الملحقات التابعة لها. بل المركزية بطبيعتها لا تكون كذلك دون عمليات متواصلة من الالتحاق وإلاَّ لما سميت كذلك.

اللافت أنَّ أية مركزية نضجت- إلى هذه الدرجة- تمارس عنفاً على عناصرها المكونة. حيث نشأت المسألة اليهودية ضمن هذا المناخ، وهي ظلال الاضطهاد الثقافي ليهود أوروبا سواء سراً أم علانية. باتت اليهودية سؤالاً يحتاج إلى إجابة وسط مجتمعات لفظتها على اطراف المدن وبين الأزقة ونواصي القرى والأرياف. وتبادل اليهود مع ذلك الوضع بالانعزال في الجيتوهات والانشغال بأعمال هامشية.

مع زيادة قبضة المركزية، زادت القبضة احكاماً على اليهود، وتكلم أشهر الفلاسفة كارل ماركس وجان بول سارتر وليفي شتراوس عن تلك المسألة التي تضع أوروباً موضع مراجعة ونقد. كيف لمجتمعات تدّعي الحداثة ثم تظهر فئات لا تتمتع بتلك السمات ولا تجد حياة من النمط الحديث؟ لقد تم انتاج الكراهية إزاء اليهود طوال الوقت، ولكن الأخطر أن ترسبت الكراهية في هوامش المركزية الأوربية، كي تحل المسألة اليهودية على حساب أية قومية أخرى. كان منطقياً أنْ ترّحل أوروبا اليهود خارج حدودها في مكان يلبي الاحلام ويداعب الخيال الجيوسياسي لذهنيات كولونيالية بالثقافة والتاريخ.

إذن.. على الغرب أن يمارس نوعاً من الازاحة لليهود خارج أوروبا، لامتصاص فائض القوة الذي يتأجج داخله وكذلك للتنفيس عن مكبوتاته. إن وجود اسرائيل بهذا المخزون التاريخي، وبهذه الوضعية العابرة للجيوسياسات كان سلة مهملات بمعناها السيكولوجي والاستراتيجي. المعنى السيكولوجي، لأنَّ كل مجتمعات أوروبا لابد أنْ تبدو مجتمعات حداثية ومتطورة أمام أجيالها بينما وضع اليهود دال على عكس ذلك. كل ما فعله الغرب من دعم لاسرائيل ورعاية كاملة لمقدراتها إنما يلعب دور التنفيس عن المكبوتات التاريخية. إنه تكفير سياسي عما وجد في تاريخ الغرب الممتد. انطلاقاً من اليونان مروراً بأوروبا العصور الوسطى وأوروبا الحديثة لم يكف الغرب عن الهوس بضحايا جُدد. لأنَّ أية مركزية كي تواصل فكرتها لابد أن تحرق ما تواجهه.

ولكن إذا كان النموذج الغربي كولونيالياً بالتكوين، فقانون الإزاحة يخضع للإطار نفسه. حتى أنَّ الغرب يتعامل في كافة المؤسسات الدولية والإنسانية والاقتصادية بمنطق الإزاحة. معبراً عن نزعة كولونيالية لم تندمل جراحها، لقد جُرحت نرجسياً، فكانت اسرائيل وكانت التدخلات الرئيسة في كل قارات العالم. وهذا يفسر: لماذا يتدخل الغرب في الأحداث الدولية بنوع من الوصاية؟ الوصاية حرص نابع من تكوين ايديولوجي بأنَّ الآخر تحت السيطرة طوال الوقت و بأن هناك إمكانية للتأثير فيه.

تحولت اسرائيل إلى (خرقة كولونيالية) مهترئة فات أوانها، تمزقت وتعفنت في شجرة دوليةٍ لم تعُد كما كانت وتنتظر استئصالها من قت إلى آخر. اسرائيل هي التكوين المتأخر جداً لانهيار الهيمنة الغربية بعدما فقدت صلاحيتها الكونية. ولكن مثلما هو الحال مع أية خرقة بالية يجب ألا تشد قوامها لكيلا تتمزق تماماً ولابد أنْ تمسح كافة الطاولات السياسية حتى تستنفد أغراضها الغربية. اسرائيل محرقة جديدة لكل القيم الحداثية التي باتت مسممة بفضل الاستخدام السياسي غير الآدمي. مكتوب عليها ضارة جداً بحياة البشر، إنها قنطرة الموت المؤدية إلى الجحيم.. هكذا بدت أطلال غزة أكثر تجليات الجحيم الكولونيالي الراهن.

لننظر مرة أخرى إلى ما فعلته اسرائيل بفلسطين عموماً، إنها مرحلة ظلام البشرية، انهيار كل القيم والمبادئ الإنسانية. تجسد وحشية القيم الغربية التي تحمل رايات الموت إلى أي مكان. الوجه الآخر لتراث العنف المختزن في التاريخ والجغرافيا تحت أقدام الغرب الحداثي. ربما ليست غزة تحديداً هي المقصودة إذا ما اعتبرناها نزعة كولونيالية قميئة، لأنها لا تحترم انساناً ولا حقوقاً. ومن سلة المهملات تلك، تخرج جثة النموذج الأمريكي في الشرق الأوسط. وهي جثة مازالت على قيد الحياة للأسف مثل كائنات الزمبي ومصاصي الدماء.

يتصور دونالد ترامب أنه يمارس قوته الخشنة في تلك المنطقة المنكوبة من العالم، لكنه يمارس خراب النموذج الغربي الكولونيالي. كثيراً ما يتكلم الأخير عن اعمار غزة، وأنها ستكون ريفيرا الشرق. ولكن أيَّة ريفيرا إذا كانت سُتشيد فوق انقاض إنسانية الإنسان الفلسطيني؟!! أية ريفيراً إذا كانت ستتأسس على مقبرة جماعية لشعب باحث عن الحرية؟ وأي اعمار إن كان منتصباً فوق جوع لا نهاية له؟ إن مدينة غزة في التصور الأمريكي نُصب تذكاري لدمار غزة وانهاء حياة آلاف البشر دون جريرةٍ إلاَّ بسبب تبعات الاحتلال المجرم. التضامن التاريخي بين مركزية النموذج وألاعيب التابع المجرم.

ثانياً: لعبة العودة:

لعبة مراوحة اسرائيل لنموذجها الغربي والاقتران به اقتران الابن بالأب. أي هيكل (البَوُّ) في الثقافة العربية. " البَوّ" هو جلد ولد الناقة بعد سلخه وحشوه بالقش والتبن. ويستخدم كدمية تُقرّب لأمه لتستمر في إدرار الحليب. اسرائيل تستثمر تلك المكانة بالنسبة لأمريكا بحكم كونها من (الجلد الكولونيالي) نفسه. وتضع وجودها رهن الاستفادة من الغرب على خلفية كافة الأحداث السياسية وغير السياسية. تؤدي وظيفة (المبتز الأقليمي) لاستجلاب الاعانات والصفقات الاقتصادية. في جميع حروب المنطقة، كانت اسرائيل الرابح الأكبر، سواء في بداية نشوبها أم في نهايتها. دائما تطلب صفقات جراء التعويض عن أحداث المنطقة العربية وتأخذ المقابل أكثر مما تطلب.

وتباعاً اعتبر الغرب اسرائيل " دولة ترانزيت " سلاماً وصراعاً. ولاسيما أنها أجادت هذا الدور الوظيفي طوال تاريخها. العقول الصغيرة من الفلاسفة والمفكرين والأدباء يمرون عليها لاعتماد انفسهم لدى المؤسسات الدولية لنيل مكانة أكبر. والقادة الاقليميون الذين يتطلعون إلى مزيد من رضا الغرب يأخذون موافقة اسرائيل للغرض نفسه. وتستقطب الأخيرة تلك المؤسسات للاعتراف بهم، وهي في الأساس تستغل سلطتها الدولية في التهام أراضي وحقوق الشعوب العربية. اشتغلت دولة الاحتلال ككلب حراسة على اتساع المنطقة جيوسياسياً. تحرس السياسات الأمريكية وتهدد مصالح اعدائها وتقدم معلومات استخباراتية واسعة حول دول المنطقة!!

من حين لآخر، تقوم اسرائيل بالرضاعة الاقتصادية من اثداء الغرب والشرق. قال أحد السياسيين الصهاينة إنه على الدول العربية مساعدتنا في اعادة اعمار المدن التي ضربتها ايران في التراشق الأخير. والاحتمال الأكبر أن دولاً عربية قد قدمت معونات ضخمة لكيان الاحتلال مع خسائره الكبيرة. واعلن آخرون من الصهاينة بكون العرب يتمتعوا بثروات هائلة تحت الأرض وأن اسرائيل تطالب بجزء من تلك الثروات.

ولا يخفى على القارئ كون "دولة البَوّ" تحلب ثروات الغرب أيضاً، فهي الدولة الأولى عالمياً في تلقي الأموال والأسلحة والمساعدات من الولايات المتحدة. فرغم الازمات الاقتصادية التي كادت تمحو سيادة بعض الدول، إلا أن تدفق المساعدات لا ينقطع عن الكيان الاسرائيلي. وهذا سبب توحش الاحتلال المجرم، لكون الخسائر ليست شيئاً مهماً بجانب أموال الغرب. كما أنّ دور البو يجعل اسرائيل تجيد اقتناص الفرص. حتى حجم الاستثمارات والتجارة العربية مع كيان الاحتلال أمر لا يخفى. لأنه حامل المفاتيح المقدسة لصانعي قرارات الغرب الأوروبي والأمريكي. ويجب ألّا ننخدع، فاختلاف وجهات النظر بين قيادات أوروبا واسرائيل ليس اختلاف وجود، ولكنه اختلاف أهداف تلتقي في النهاية. ما تريده اسرائيل بالصراع والحرب، يريده قادة أوروبا بالاستراتيجية والقوى الناعمة.

ستظل اسرائيل تتقمص " استعارة البَوّ " دون حدود، متى كانت ثمة مصالح للغرب في مناطق الصراع والاقتصاد والهيمنة. وتتقن الأدوار بحرفية سياسية عالية. وعندما تخرج الاستعارة إلى البشر، سنرى هذا الدمار البشع والقيامة الأرضية قبل أوانها. لأنَّ كل استعارة ترى في موضوعها موتاً محققاً. فالاستعارة السياسية هي الصورة البديلة التي لا تُفضل انكشافاً. وحينما تنكشف، ستبدو الحرب هي الوضع المكرس. ولذلك لن تجدي عبارات التهدئة ولا مناشدات السلام التي تطرحها بعض الدول بين اسرائيل والفلسطينيين عن استحياء. فإسرائيل بمثابة استعارة الموت المنطلقة منذ زمن، فكل مولود سيحل محل الأب في لحظات تاريخية ما (أي اسرائيل محل الغرب). وهذا ما يفسر هوس االكيان الصهيوني المجرم بأعمال الإبادة الجماعية. لأن الفلسطينيين وحدهم من يتعاملون مع البوّ بوجهه العاري ولا يجد الأخير مهرباً من الافتضاح والانكشاف. إن فعل الموت هو فعل اجرامي لكونه استعارة معبرة عن نوايا الأصل الكولونيالي.

***

د. سامي عبد العال

ما الذي تخشاه المؤسسة الدينية فعلا؟ فقدان الدين أم خسارة الأتباع؟

لطالما شكّلت المؤسسة الدينية حلقة مركزية في إدارة الإيمان البشري، فهي ليست مجرد وسيط بين الإنسان والمقدس، بل جهاز قادر على تحويل الإيمان الفردي إلى سلطة رمزية تضمن استقرارها. لكن السؤال المحوري يظل: ما الذي تخشاه المؤسسة الدينية حقًا؟ هل هو انطفاء الإيمان وانتشار الإلحاد، كما يوحي خطابها المعلن، أم خوفها من تحرر المؤمن من وصايتها؟

تكشف مراجعة متأنية لتجربة الكهنوت الديني أن الخطر الحقيقي لا يكمن في فقدان الدين بحد ذاته، بل في انفصال المؤمن عن المؤسسة. فالمؤمن الذي يظل متشبثًا بعقيدته، لكنه يرفض الخضوع للوسيط الديني، يهدد الأساس الرمزي الذي تقوم عليه سلطة المؤسسة.

وقد بيّن ماكس فيبر أن المؤسسة الدينية، شأنها شأن أي مؤسسة اجتماعية، تسعى إلى تحويل الكاريزما الدينية إلى سلطة تقليدية وبيروقراطية تحفظ نفوذها. ومن هذا المنظور، يصبح الإيمان الحر أخطر على المؤسسة من الإلحاد، إذ إن الأول يقوّض احتكارها المباشر للقداسة، بينما يترك الثاني مساحة لتسويق نفسها بوصفها الحصن الأخير ضد موجات "التغريب" والعلمنة.

فقدان الدين أم فقدان المؤسسة؟

عند تحليل وضع المؤسسة الدينية، من الضروري التمييز بين فقدان الناس لدينهم وفقدانهم للمؤسسة نفسها. ففي الحالة الأولى، أي حين ينصرف بعض الأفراد عن العقيدة أو ينزلقون نحو الإلحاد، تفقد المؤسسة جزءًا من جمهورها لكنها لا تفقد سلطتها الرمزية. بل غالبًا ما تستثمر هذه الظاهرة لتعزيز مكانتها، مقدّمة نفسها بوصفها الحصن الأخير ضد الانحراف. فقد شهدنا ذلك في تجارب مختلفة، سواء في بعض الكنائس الأوروبية التي استخدمت موجات العلمنة لتثبيت حضورها، أو في حركات إسلامية حديثة تعاملت مع العلمانية والإلحاد باعتبارهما تهديدًا يبرر الحاجة إلى المرجعيات الدينية.

لكن الوضع يختلف جذريًا عندما لا يخسر الناس دينهم، بل يخسرون ثقتهم بالمؤسسة نفسها. هنا يبقى الإيمان حاضرًا، بينما تصبح الوساطة المؤسسية موضع تساؤل، فيتحول المؤمن إلى فاعل مستقل يخوض تجربته الروحية دون المرور عبر المرجعية التقليدية. هذا الانفصال هو ما يسميه بيير بورديو "كسر رأس المال الرمزي"، إذ يطيح بالاحتكار الذي يمنح المؤسسة سلطة تحديد معنى الإيمان وممارسته. المثال الأبرز على ذلك هو الإصلاح البروتستانتي، الذي لم يُضعف المسيحية في أوروبا، بل أتاح للمؤمنين قراءة النصوص بأنفسهم، محررًا قطاعات واسعة من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، ومؤسسًا نمطًا جديدًا من التدين الفردي.

وفي التجربة الإسلامية الحديثة نجد دينامية مشابهة. فقد سعى رواد الإصلاح في القرنين التاسع عشر والعشرين، مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، إلى إعادة التفكير في النصوص والفقه بعيدًا عن سلطة المؤسسات التقليدية. لم يكن هدفهم تقويض الإيمان، بل تحريره من الوصاية، وهو ما أثار مقاومة شديدة من العلماء المحافظين. كما نلحظ في العراق المعاصر أن محاولات بعض المراجع والمفكرين تطوير أدوات الاجتهاد أو نقد التراث لم تؤدِّ إلى انحسار التدين، لكنها واجهت رفضًا عنيفًا من المؤسسة لأنها تهدد بنيتها من الداخل.

بهذا المعنى، يظهر أن فقدان الدين لا يهدد المؤسسة بالقدر نفسه الذي يهددها فقدان المؤمن لها. فالأول يفتح أمامها فرصة لتسويق نفسها كدرع ضد الانحراف، بينما الثاني ينزع عنها شرعيتها الرمزية ويضعف قبضتها على الحقل الديني، ليترك المجال واسعًا أمام أنماط جديدة من التدين الفردي والحر.

المؤمن الحر: تهديد أعمق من الملحد

تثير علاقة المؤسسة الدينية بالمؤمن الحر إشكالية لافتة، فهي غالبًا تخشاه أكثر من الملحد. فالملحد، من منظور المؤسسة، يقع خارج الدائرة أصلاً، ولا يشكل تهديدًا مباشرًا على سلطتها؛ فرفضه للإيمان يجعل العلاقة معه واضحة الحدود: هو الآخر المختلف الذي لا يُتوقع منه الانصياع أو الطاعة.

أما المؤمن الحر، فإنه يحمل في داخله بذرة التساؤل والتمرد. حين يفكر خارج إطار المؤسسة ويعيد قراءة النصوص بوعي فردي، يصبح أكثر خطورة من الكافر، لأنه يتكلم بلغة الدين نفسها، ويملك القدرة على زعزعة الرواية الرسمية من الداخل. لذلك تنظر المؤسسة بعين الريبة إلى الأصوات الإصلاحية والتجديدية القادمة من بيتها، وتتعامل معها بوصفها تهديدًا وجوديًا، لما لها من وقع أعمق وتأثير أوسع على الناس.

فالملحد لا يسحب البساط من تحت أقدام المؤسسة، بينما يفعل ذلك المؤمن الذي يطالب بإيمان واعٍ مستقل. ومن هنا نفهم لماذا كانت المؤسسة عبر التاريخ أكثر قسوة على أبنائها المفكرين الذين حاولوا التجديد، من قسوتها على الخارجين عنها تمامًا. فالخطر الحقيقي يكمن في من يشاركها المرجعية نفسها لكنه يرفض وصايتها، لا في من يرفض الإيمان برمته.

أمثلة من الواقع الديني

في السياق الشيعي، لا يُعد انتقاد المرجعية أو مساءلة مواردها المالية أمرًا عابرًا، بل غالبًا يُعامل كخيانة. حتى لو كان المنتقد عالم دين مخلصًا لمذهبه. وتكشف محنة كمال الحيدري كيف تتحول المؤسسة إلى قوة طاردة لكل صوت إصلاحي، حتى لو انطلق من عمق الإيمان المذهبي ذاته. فالحيدري لم يخرج عن التشيع، بل دعا إلى قراءة نقدية للتراث وتطوير أدوات الاجتهاد، لكن مجرد خروجه عن النسق المألوف جلب عليه اتهامات وتشكيكًا وإقصاءً من دوائر التأثير.

أما في السياق السني، فقد وُوجه الإصلاحيون بالقمع ذاته، وإن اختلفت الأدوات. منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، مرورًا بعلي عبد الرازق الذي جُرّد من مناصبه بعد كتابه الإسلام وأصول الحكم، وصولًا إلى نصر حامد أبو زيد الذي حوكم على إيمانه نفسه، ومحمد شحرور الذي طُوردت أفكاره عقودًا، يتكرر المشهد نفسه: كل محاولة لإعادة قراءة التراث أو فتح باب الاجتهاد تُواجه باعتبارها خيانة دينية، رغم أن أصحابها لم يتخلوا عن إيمانهم.

وفي المسيحية اللاتينية، واجه لاهوت التحرير حملة شرسة من الفاتيكان، لأنه دعا إلى تدين شعبي تحرري يربط الإيمان بالعدالة الاجتماعية، لا بطاعة الكنيسة. تتجلى هنا القاعدة نفسها عبر السياقات الدينية المختلفة: المؤسسة لا تخشى الإلحاد بقدر ما تخشى إيمانًا يتحرر من سيطرتها المباشرة.

من الدين إلى المؤسسة.. ومن المؤسسة إلى الدين

من أخطر المخاوف التي تكشفها المؤسسة الدينية، تلك المتعلقة بالعلاقة الملتبسة بين الدين والمؤسسة. فالدين في أصله تجربة إيمانية حية، تنبض بالمعنى والروح، وتدعوك إلى الارتباط بالله بحرية واختيار. لكنه ما إن يتحول إلى مؤسسة، حتى يبدأ في الانغلاق حول نفسه، ويُعاد إنتاجه وفق حاجات المؤسسة الخاصة.

يتحرك المسار أولًا من الدين إلى المؤسسة، حيث تتشكل طبقة من رجال الدين تتبنى دور الحارس والوسيط، وتدّعي امتلاك الحق في تفسير النصوص وتمثيل الإيمان. ثم يعود المسار من المؤسسة إلى الدين، فيُعاد إنتاج الأخير على صورة الأولى: يصبح الدين هو ما تقوله المؤسسة لا أكثر. في هذه الدائرة المغلقة، يفقد الدين طابعه التحرري، ويتحول إلى منظومة من الطقوس والالتزامات التي ترسخ الطاعة والولاء، لا البحث عن الحقيقة أو العدالة.

هنا يكمن جوهر الخوف: فالمؤسسة، رغم ادعائها الدفاع عن الدين، تخشى انكسار هذا النسق الدائري. فهي تدرك أن العودة المباشرة إلى النصوص قد تمنح الناس حرية الفهم والتأويل، وتتجاوز المؤسسة باعتبارها وسيطًا تاريخيًا فقط. لذلك، يظل بقاء المؤسسة مرهونًا باستمرار هذه الحلقة المفرغة، التي تجعل الدين رهينًا لتصوراتها، وتحوّل طاعة المؤسسة إلى جزء من طاعة الله في وعي الجمهور.

اقتصاديات المؤسسة الدينية

لا يمكن فهم هواجس المؤسسة الدينية من دون التوقف عند بنيتها الاقتصادية، التي تشكّل وجهًا آخر لسلطتها. فالمؤسسة لم تكن يومًا مجرد جهاز رمزي أو معرفي، بل هي أيضًا كيان يمتلك موارد مادية ضخمة تمكّنه من الاستمرار والتأثير.

في التجربة السنية، لعبت الأوقاف دورًا حاسمًا في تمويل العلماء والمدارس الدينية، وبناء شبكة نفوذ اجتماعي جعلت المؤسسة لاعبًا لا يمكن تجاوزه. وفي التجربة الشيعية، شكّل نظام الخُمس موردًا استثنائيًا، لأنه أتاح استقلالية مالية شبه تامة عن الدولة، ومكّن المرجعيات الكبرى من احتكار إدارة الثروة وتوظيفها لتعزيز حضورها وسطوتها. بهذا التزاوج بين الرأسمال الرمزي (القداسة) والمادي (الموارد المالية)، كما وصفه بورديو، ترسخ حضور المؤسسة ليس فقط بوصفها سلطة روحية، بل أيضًا بوصفها سلطة اقتصادية.

لكن هذا الوجه الاقتصادي، الذي يبدو مصدر قوة، يحمل في الوقت نفسه مخاطر كبيرة. فرفض المؤمنين أداء هذه الالتزامات المالية أو إعادة النظر في مشروعيتها قد يتسبب في تصدع البناء كله. فالتحرر من الوصاية الدينية لا يهدد الشرعية الرمزية فحسب، بل يفتح الباب أمام أزمة مالية قد تقوض كيان المؤسسة، وتحولها من قوة نافذة إلى جهاز مترهل فاقد لموارده. ومن هنا نفهم أن الدفاع المستميت عن الخُمس أو الأوقاف ليس مجرد مسألة فقهية، بل دفاع عن البنية المادية التي تضمن استمرار السلطة الدينية نفسها.

المستقبل الممكن للتدين ما بعد المؤسسي

تبدو ملامح المستقبل الديني في العالم المعاصر متجهة نحو أنماط جديدة من التدين، لا تمر بالضرورة عبر بوابة المؤسسة التقليدية. فقد أتاح العصر الرقمي فضاءات بديلة للبحث عن المعنى الروحي، حيث تحولت المنصات الإلكترونية إلى ساحات للفتوى والتأمل والتجارب الدينية الفردية، بعيدًا عن احتكار المرجعيات الكلاسيكية.

كما ظهرت نزعات متنامية نحو الروحانيات الشخصية، التي تمكّن الفرد من اختيار ممارساته التعبدية وفق تجربته الذاتية، لا وفق الوصفات الجاهزة التي تفرضها المؤسسة. ويضاف إلى ذلك الحركات الإصلاحية التي تسعى إلى تحرير النصوص من قبضة الاحتكار التفسيري، وإعادة قراءتها بروح عقلانية تتجاوب مع أسئلة العصر.

هذه التحولات لا تعني أن المؤسسة ستختفي في المدى القريب، لكنها تكشف أن سلطتها لم تعد مطلقة كما كانت، وأنها مضطرة لمواجهة منافسة حقيقية على معنى التدين نفسه. كما يصف خوسيه كاسّانوفا هذا الاتجاه بـ"التدين ما بعد المؤسسي"، أي انتقال الإيمان من الإطار الجمعي الخاضع لسلطة الكهنوت إلى المجال الفردي الحر، حيث يصبح الدين خيارًا شخصيًا أكثر منه التزامًا مؤسساتيًا.

هنا يكمن التحدي الأكبر للمؤسسة: فحتى إن بقيت قادرة على الصمود شكليًا، فإن انحسار وظيفتها كوسيط وحيد بين الإنسان وربه يضعف منطقها الداخلي، ويفتح الباب أمام إعادة تعريف الدين بوصفه تجربة إنسانية مباشرة، لا تحتاج إلى وصاية.

الخاتمة

يتضح في النهاية أن الخوف العميق الذي يسكن المؤسسة الدينية ليس من الإلحاد ولا من انطفاء الإيمان، بل من إدراك المؤمنين أنهم قادرون على عيش تجربتهم الدينية بعيدًا عن وصايتها. فالإيمان الذي يتحرر من الوسيط يضعف أسس سلطتها الرمزية، والإيمان الذي يتجاوز التزاماتها المالية يهدد مواردها المادية، والإيمان الذي يميز بين الدين كتجربة روحية خالصة والمؤسسة ككيان بشري يفتح الباب أمام أنماط جديدة من التدين الفردي الحر.

وهنا يكمن السؤال الذي يربك المؤسسة أكثر من غيره: هل يمكن للناس أن يكونوا متدينين بلا مؤسسة؟ من منظور سوسيولوجي وفلسفي، الجواب يميل إلى الإيجاب، لكن الاعتراف بذلك يعني انهيار الأساس الذي قامت عليه شرعية المؤسسة عبر القرون. لذلك تظل المؤسسة حريصة على الترويج لفكرة أن الدين لا وجود له إلا بها، وأن الإيمان بلا طاعة ناقص ومبتور.

غير أن مسار التاريخ يوضح أن الدين أوسع من المؤسسة، وأن التجربة الروحية ستجد دائمًا سبيلها لتأكيد ذاتها، حتى لو تراجعت الأطر التقليدية. وهكذا، يصبح الخوف الحقيقي للمؤسسة ليس من صومها، بل من أبنائها المؤمنين الذين يختارون أن يؤمنوا بلا وصاية.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

 

إذا كان للفكر الغنوصي الأثر الأكبر على السياقات الأسطورية الأخلاقية المرغبة في الخير والصدق والمنفرة من الشر والكذب؛ فإننا سوف نحاول تفسير ذلك الترابط بين موطن النفس الأصلي قبل هبوطها من عالم المجرّدات من جهة، والعالم المحسوس والعقل البشري من جهة أخرى وذلك المتمثل في أن هناك قوة غيبية واحدة هي التي فطرت النفس الإنسانية وطبعتها بطابعها؛ فأصبحت النفس العاقلة الحالة في الجسد البشري تشتاق إلى ما كانت عليه في عالم الأخيار واللذائذ الروحيّة.

ولمَّا كان للثقافات السائدة في البيئات المختلفة أثر لا يمكن إغفاله على العقول والمشاعر والسلوك، فقد ساهمت تلك البيئات في تنمية ذلك العشق الفطري لعالم المُثل أو ساهمت في طمسه ومحوه بالتدريج من ذاكرة النفس العاقلة حتى أصبحت نفوس شيطانية في هيئات بشرية.

أمّا النفوس الراقية؛ فقد زاد تعلقها بعالم الربوبية والمُثل فأنتجت العقول الإنسانية حكايات وقصص وملاحم أسطوريّة تحمل ذكرياتها وتعكس أحلامها لتنمي في الأذهان عشقها لهذا العالم فترغبها في الصدق وترهبها من الكذب.

ولعلَّ هذا التفسير يتناسب مع الفكر الهندوسي الذي كان يعتقد وجود عالم للآلهة يرأسه (براهمان) الذي تدين إليه كل الموجودات بالانتماء وذلك بمقتضى القبس المقدّس الحي فيها، وهو المطبوع بطابع ذلك الاله المتفرد في وجوده غير أن الأنفس البشريّة انحرفت عن أصولها وتعلقت بالشهوات واللذات المادية فقام الحكماء (البراهمة) بتذكيرهم عن طريق الأساطير بأن هناك ثواب وعقاب للأنفس البشرية وهناك أيضًا دروب ونهوج للتوبة والخلاص من ذلك الدنس يبدأ بالتراتيل الصادقة لأعلان التوبة ثم الرياضات الروحيّة العازفة تمامًا عن الكذب أو عشق المادة أو الاعتداء على إحدى الموجودات التي تحوي قبسًا ربوبيًا حتى يتم الخلاص من عجلة الميلاد (وقانون الكارما وتناسخ الأرواح)؛ حيث ترتفع النفوس الراقية إلى عالم الربوبية (والنرفانا والاستنارة عند بوذا وتلاميذه أي السعادة الأبديّة)؛ وذلك نظير صدقها وإخلاصها في العبادة في حين تستنسخ النفوس الشريرة وتحل في أبدان موجودات أدنى (حيوانات شرسة أو حشرات مؤذية أو حيات سامّة أو شياطين تحترق وتتعذب إلى ما لا نهاية) وذلك جزاءً عادلًا لما ارتكبته من شرور وعلى رأسها الكذب والخيانة والسير في ركاب الباطل والخداع.

وقد طور البوذيون والجينيون (أصحاب الديانة الجينية)  ذلك النسيج الأسطوري فجعلوا الصدق مع الذات أولى خطوات النجاة والخلاص من عذابات الكارما والتناسخ، وربطوا بين الأفعال الخيّرة والسلوك القويم والوصول إلى النرفانا والسعادة الأبديّة وذلك بمقتضى ابتعادهم عن النفاق والخيانة والفحش والمراوغة والكيد والتلاعب بالعقول والإيقاع بين الناس وتزيف الحقائق، وغير ذلك من منتجات الكذب التي تنتمي للشرور الشيطانيّة.

وعلى مقربة من الفكر الهندوسي نجد الفكر الصيني والعقلانية الواقعية فعلى الرغم من عدم وجود أساطير في نسقهم التربوي تتحدث عن الفكر الغنوصي والعالم الغيبي إلا أنهم قد ابتدعوا (قانون الطاو) الذي يقضى بالجزاء من جنس العمل؛ فالصادق سوف يسعد بصدقه ويكافئ في حياته بانتصاره للحق ودفاعه عن العدالة في حين يعاني الأشرار من فرط القلق والخوف والارتياب في كل شيء فأذهانهم تكفر باليقين وتمضي شاكة في كل شيء لا تستطيع التمييز بين النافع أو الضار.

وقد صيغ النسيج الأسطوري في الفلسفة الطاوية على نحو يحبب الناس في الصدق ويحذرهم من دنس الكذب مثل كتاب (طاو تي تشينغ) وأسطورة (وووي) وثنائية (يين ويانغ) وأسطورة (زيران) وغيرها من الأساطير الحاوية للقيم التي يحبها ويكرهها الطاو فهو المبدأ الأول العادل الذي يسير الأقدار والمقادير.

فاذا كان الصدق يمثل التناغم للفطرة الإنسانية والانسجام الذاتي للسلوك البشري في النسيج الأسطوري الطاوي (وووي) الذي يؤدي إلى صلاح الكون؛ فإن الكذب يعد آلية الهدم وعلة كل الشرور والمُحرض الأول لجنوح الموجودات عن نظامها وجموحهم ونشاذهم عن التناغم الطاوي.

وقد طور كونفوشيوس ذلك النسيج الأسطوري وجعله أكثر عقلانيّة وواقعية يقوده الضمير الإنساني والعقول الراجحة التي تستطيع تهذيب السلوك البشري عن طريق الحوار والتربية والتعلم والتثقيف والتنوير الذي لا يخلو من وعد ووعيد المؤدب الغيور على العدالة والأخلاق الحاكمة للمجتمع كما يرد إلى كونفوشيوس القاعدة الذهبية للخُلق المستقيم ألا وهي أن الفضيلة وسط محمود بين رذيلتين كلاهما ممقوت ومكروه. فجعل الصدق على رأس كل الفضائل؛ لأنه صوت العقل وبصيرة الضمير. فالصدق يقبع في يمينه الإسراف في المدح والفناء في الحب وإخفاء النقائص رغم وجودها. ويقف على يسار الصدق الكذب والمداهنة والنفاق والخيانة وطمس الحقائق والوقائع لإضلال من يستجيبوا لغاوياته.

وعلى الرغم من عزوف كونفوشيوس عن الرؤى الأسطورية وتفضيله الحديث عن الضمير والعدالة والوسط الذهبي للأخلاق الفاضلة على الحكايات الأسطوريّة، فإن أحاديثه للشباب في محاوراته التثقيفية لم تخل من قصص الأبطال والحكماء والقادة مثل (هوانغ دي) وأساطير الخلق مثل (بانغو ونووا) بالإضافة إلى قصص أبطال مثل (دايو) الذين حكموا ضمائرهم وانقادوا إلى عقولهم وانضوا تحت مظلة الوسط الذهبي في سلوكهم واختياراتهم في تسيس أنفسهم من جهة، والعمل الجاد من أجل رفعة مجتمعهم من جهة أخرى.

أمّا سقراط فعلى الرغم من تعلقه بالفكر الغنوصي وحديث الكاهنة بيثيا (الجالسة في معبد أبولو في دلفي) التي أخبرته بأنه نبيُّ مرسل من عالم الربوبية والتوحيد الناطق بلسان الصدق والثائر على أباطيل الكاذبين والمتلاعبين بالعقول إلا أنه كان لا يبرح ترديده لمقولته الشهيرة (أعرف نفسك بنفسك) وكن صادقًا ولا تصغي لمن يصفوك بما ليس فيك؛ لأنهم يخدعونك وينافقونك بأكاذيبهم وجعل هذا القول هو بداية حملته على الكذابين وفاتحة رسالته لترغيب الناس في الحكمة الصادقة والعقل المنزَّه عن المنافع والنفس النقية الكارهة لكل ألوان الرذائل وأشكالها وأفعالها.

ورغم مغالاته في تقبيح الكذب، وإن كان مقصده مغاير لطبيعته؛ فإنه قد خالف هذا المبدأ الذي اشترطه على نفسه في واقعتين أولهما : خضوعه وانصياعه لحكم قضاته مع تيقنه من كذبهم، وأن جل ادعاءاتهم يفوح منها روائح الإفك والتآمر والكراهية والحسد وثانيهما: أنه أوصى تلاميذه قبيل تجرعه للسم أن يوفوا نذرًا عليه قد وهبه لمعبود مدينته وذلك رغم تأكده من ضلال وفساد هذا المعتقد.

وتبدو عبقرية سقراط في أثر شذراته وحكمه التي انصهرت في أفكار تلاميذه وجعلت منه أنموذجًا حيًا تضرب به الأمثال على ضرورة صدق الأنا مع ذاتها باعتبار هذا المبدأ أقوى الآليات لمدافعة الكذب ونقض أباطيله.

أمّا أفلاطون فقد ربط بين خداع الحواس والكذب من جهة والضلالات التي تطمس الحقائق تحت ستار الأوهام من جهة أخري وذلك في أسطورته الشهيرة (الكهف) تلك التي جعل فيها الصدق تاجً للعقول التي تطمح لإدراك الحقائق. وتأكيده على أن مثال المُثل والخير الأعلى الذي يوصف بالكمال والجلال والجمال يضع على رأس الفضائل التي تطوف من حوله فضيلة الصدق الذي يمكن النفس البشرية من إدراك مثال العدالة والعشق الأسمى، ويطهر النفس من كل الشهوات الحسية التي تحول بينها وبين الجنس الذهبي الذي لا يدانيه شيء ولا يستطيع الكذب الاقتراب من ذهنه أو لسانه أو مشاعره.

ولا يؤخذ على أفلاطون البحث عن موطن الجمال والخير بين مواقع القبح ومواطن الشر ولاسيما إذا كان ذلك الشر (عرضاً لا يصيب جوهر الأشياء بعطب) بل يمنع المخاطر ويزيل الأزمات في أمور محدودة.

ولعل أرسطو عندما جعل الصداقة أرفع وأنبل المشاعر التي تعمل على ترقية الأنفس البشرية؛ فإنه قد أراد بذلك التأكيد على أن حركة الأشياء لا تستطيع أن تنحرف بعشقها إلى شيء آخر - دون رغبة منها إذا أرادت الحياة المستقيمة - سوى الإله الصادق دومًا لأنه مجرد عن المادة فهو صورة خالصة لا يعنى إلا بالمجردات وهو الفاعل الحقيقي غير المنفعل والمحرك الأول لهذا العالم دون أن يتحرك ولا تغريه اللذائذ المادية فيسقط من سموه ومكانته العالية.

ولعلّ هذا التصور للعقل الربوبي هو الذي جعله يبيح الإفراط في عشق وإجلال وإكبار من يستحق هذه المبالغات التي تعادل الإفراط في قدح الكذب بكل أشكاله الضارة الفاسدة ولعل هذا التصور نقيض (الهيولى التي تحول بنيتها العاجزة عن بلوغ الوجود الحقيقي شأن الكذب) و(صورة خالصة يمثلها الإله، ومادة قح تمثلها الهيولى)

وللحديث بقيّة عن تلك الغرابيل التي صنعها حكماء الشرق وفلاسفة اليونان لتخليص الموروث الثقافي من الأوهام الكاذبة؛ معولين في ذلك على التصورات العقلية التي نسبوها إلى المعرفة الربوبية في النسيج الأسطوري تارة أو سبيل الرشاد والاستقامة والاستنارة في طلب القيم الضامنة للأمن والسعادة الأرضية والعدالة والمساواة تارة أخرى .. تلك التي تنمي عواطف الألفة والمحبّة بين الناس بمعزل عن الصراعات والأحقاد التي تولدها الأوهام التي يخترعها الكذب. وسوف نكشف كذلك عن مدى دقة ومتانة وقوة تلك الغرابيل (حريرية ناعمة أو معدنية ذات ثقوب حادة تحول بين النافع والفاسد غير المرغوب فيه) خلال عملية تنقية وتطهير الأذهان والمشاعر؛ بل والحواس أيضًا من أقنعة الكذب ومكائده وحيله التي كان يخطط لها الشيطان لإضلال الأنفس البشرية.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

في دهاليز السياسة العالمية، حيث نادراً ما تكتب اللحظات الفاصلة بضوء النهار، جاءت قمة شنغهاي لتعلن عن نفسها دون ضجيج، ولكن بثقل صاعق. لم تكن لقاء عابراً، أو مناسبة بروتوكولية، بل كانت "إعلان حالة".. حالة جديدة في الجسد الدولي، حيث ينهض الجنوب العالمي من سبات طويل، ممزقاً قيود النظام الأحادي، الذي هيمن لعقود بعد سقوط جدار برلين وانفراد واشنطن بقيادة العالم.

هنا، في العاصمة الصينية، اجتمعت وجوه تحكي قصة المرحلة القادمة: بوتين القادم من معركته المصيرية في أوكرانيا ليؤسس لتحالف وجودي مع القطب الصيني الصاعد، ومودي الذي يمشي على حبل السياسة الدولية بدقة بهلوانية، بين واشنطن وموسكو وبكين، وأردوغان الذي يجسد أكثر من أي زعيم آخر معنى "اللحظة الانتقالية" بين عالم يموت وآخر يولد، ووراءهم طابور طويل من القادة العرب الذين أدركوا أن البوصلة الجيوسياسية قد انحرفت عن شمالها التقليدي نحو آفاق جديدة.

أنقاض النظام القديم

لكي نفهم ما حدث، يجب أن ننظر إلى ما تحت سطح الأحداث. النظام العالمي يشهد تحولاً "جيولوجياً" وليس تحولاً طقسياً عابراً. إنه تحول في الصفائح التكتونية للقوة، وليس في طقسها اليومي.

هذا التحول له جذوره العميقة: فشل المشروع الأميركي في الشرق الأوسط (من العراق إلى أفغانستان)، الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ التي كشفت هشاشة النموذج الغربي، جائحة كورونا التي عرت اختلالات العولمة، وأخيراً الحرب في أوكرانيا التي مثلت "القشة التي قصمت ظهر البعير"، بمعنى أنها دفعت الكثيرين، حتى حلفاء واشنطن التقليديين، إلى إعادة حساباتهم بشكل جذري.

لم تعد المسألة مجرد تذمر من الهيمنة الأميركية، بل أصبحت مسألة بحث عن بديل استراتيجي. والصين، بقدرتها الاقتصادية الهائلة ونهجها البراغماتي الخالي من الوعظ الأخلاقي، قدمت نفسك كقطب بديل. وروسيا، بقوتها العسكرية واستعدادها لتحمل المواجهة، قدمت نفسك كحاجز أمام الغرب. والهند، بديمقراطيتها الفوضوية واقتصادها العملاق، ترفض أن تكون في معسكر واحد.

العرب على مفترق الطرق

المشهد العربي في هذه المعادلة الجديدة مثير للدراسة. لقد ظل العالم العربي لعقود "حديقة خلفية" للغرب، وميداناً لصراعاته. لكن اليوم، نرى تحولاً صامتاً لكنه عظيم الأثر.

الرياض وأبوظبي، القاعدتان التاريخيتان للولايات المتحدة في الخليج، تبحثان عن شراكات استراتيجية مع موسكو وبكين في مجال الطاقة والتكنولوجيا والأمن. مصر، الحليف التقليدي لواشنطن، تعيد توازن علاقاتها بذكاء. حتى الجزائر وسوريا والعراق، التي كانت دوماً في دائرة النفوذ غير الغربي، تجد اليوم مساحة أكبر للمناورة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ينتقل العرب من حالة التبعية إلى حالة الفاعلية؟ هل يستطيعون تحويل هذه اللحظة الانتقالية إلى فرصة لصناعة دور إقليمي مستقل، أم أنهم ببساطة يستبدلون سيداً قديماً بآخر جديد؟

الخطر الحقيقي في استمرار التبعية ذاتها تحت أسماء مختلفة. الصين وروسيا ليستا جمعيتين خيريتين، بل هما قوتان عظمتان تبحثان عن مصالحهما. والفجوة التكنولوجية والعسكرية بين العالم العربي وهاتين القوتين لا تزال هائلة.

أردوغان و"لعبة الطائر الجريح"

زيارة الرئيس التركي للصين وهي بقلب الناتو، تحمل رمزية كبيرة. أردوغان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، يحتاج إلى الصين كشريك اقتصادي. ولكنه أيضاً يريد إرسال رسالة إلى الغرب مفادها أن أنقرة لديها خيارات أخرى.

هذه هي "لعبة الطائر الجريح" التي يلعبها أردوغان بمهارة: إظهار الضعف أحياناً (الاقتصاد المنكوب) والقوة أحياناً أخرى (الموقف الجيوسراتيجي والعسكري)، واللعب على كل الحبال لاستخراج أفضل الصفقات من المعسكرين المتصارعين. إنها براغماتية صرفة، قد تثير الاستياء، لكنها تعكس واقع العالم المتعدد الأقطاب حيث الولاءات أصبحت سائلة.

ملامح النظام الجديد ..

الخلاصة التي يجب أن نخرج بها من شنغهاي هي أن العالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، لكن هذا النظام لن يكون بالضرورة أكثر عدلاً أو استقراراً. التعددية القطبية قد تعني المزيد من الفوضى، والمزيد من الصراعات بالوكالة، والمزيد من عدم اليقين.

التحدي الحقيقي للجنوب العالمي ليس فقط في بناء تحالفات مضادة للغرب، بل في تقديم "عقد اجتماعي دولي جديد". عقد قائم على احترام الخصوصيات الحضارية، والتعاون في مواجهة التحديات المشتركة (كالفقر والتغير المناخي)، وإقامة موازين قوى أكثر توازناً تمنع هيمنة قطب واحد.

الغرب يترنح، لكنه لم يسقط بعد. ولن يسقط إلا إذا قدم الآخرون بديلاً مقنعاً، ليس فقط في مجال الصواريخ والنفط، بل في مجال القيم والإنسان. قمة شنغهاي كانت خطوة أولى على طريق طويل. الطريق الذي سيكتبه الصراع بين الإرادة القديمة للهيمنة، والإرادة الجديدة للتحرر. والبشرية كلها هي التي ستدفع ثمن نتائج هذه المعركة المصيرية.

فهل يستطيع قادة الجنوب العالمي قراءة اللحظة التاريخية، أم أنهم سيقفون عند حدود تغيير التحالفات دون تغيير النظام العالمي نفسه؟

الفوضى الخلاقة أم الفوضى المدمرة؟

الغرب، وبخاصة واشنطن، يتحدث عن خطر "الفوضى" التي قد يسببها تعدد الأقطاب. لكن السؤال الذي يجب طرحه: أليست "الفوضى الخلاقة" هي التي مارسها الغرب نفسه لعقود في العراق وليبيا وسوريا؟

الفرق اليوم هو أن "الفوضى" لم تعد حكراً على طرف واحد. فالقدرة على خلق عدم الاستقرار أصبحت متاحة لأطراف متعددة. روسيا يمكنها استخدام سلاح الطاقة، الصين يمكنها استخدام سلاح السوق، تركيا يمكنها استخدام سلاج الممرات المائية، وإيران يمكنها استخدام سلاح الميليشيات.

هذه "الديمقراطية في الفوضى" هي السمة الأكثر خطورة في المرحلة القادمة. فلم يعد هناك شرطي واحد للعالم، والنتيجة هي أن يصبح العالم أشبه بـ "الغرب المتوحش" حيث يسيطر الأقوى.

هناك بعد آخر مهمل في هذه المعادلة، وهو البعد الثقافي والحضاري. الصعود الصيني والروسي والهندي ليس صعوداً اقتصادياً وسياسياً فقط، بل هو أيضاً صعود "ثقافي".

النموذج الصيني الذي يقدم تنمية اقتصادية دون ديمقراطية ليبرالية يتحدى الفلسفة الغربية في الربط الآلي بين الرأسمالية والديمقراطية. النموذج الروسي في الدفاع عن "القيم التقليدية" ضد ما يسمى "الليبرالية الغربية" يجد صدى في كثير من المجتمعات المحافظة. النموذج الهندي في الجمع بين الديمقراطية والتعددية الدينية والثقافية يقدم بديلاً مختلفاً.

هنا، يبرز سؤال صامت: هل نحن إزاء "صراع حضارات" جديد كما تنبأ هنتنجتون، أم إزاء فرصة تاريخية لحوار حقيقي بين الثقافات على أساس الاحترام المتبادل وعدم فرض النموذج الواحد؟

العرب واللعبة الكبرى

العالم العربي يقف عند مفترق طرق تاريخي. لقرون، كانت المنطقة "رقعة شطرنج" في اللعبة الكبرى بين القوى العظمى. لكن اليوم، هناك فرصة نادرة للتحول من قطع على الرقعة إلى لاعبين حولها.

مقومات اللعب موجودة: الموقع الاستراتيجي، الثروات الطبيعية، العمق الحضاري، والأسواق الضخمة. لكن المعضلة تكمن في "الإرادة السياسية" و"الرؤية الاستراتيجية".

الشراكات الجديدة مع الصين وروسيا يجب أن تكون وسيلة لتعزيز الاستقلالية وليس استبدال التبعية. يجب أن تركز على نقل التكنولوجيا، بناء القدرات الذاتية، وخلق تحالفات مرنة تحمي المصالح العربية أولاً.

في النهاية، المعركة الحقيقية هي معركة "الأفكار" و"الروايات". من يسيطر على رواية المستقبل؟ من يقدم الرؤية الأكثر إقناعاً للإنسان عن العدالة والتنمية والأمن؟

الغرب قدم رواية العولمة الليبرالية ووعد بالديمقراطية والازدهار للجميع، لكنه فشل في الوفاء بالوعد. التحدي الآن على الجنوب العالمي أن يقدم رواية بديلة. رواية لا تقوم على مجرد معاداة الغرب، بل على تقديم نموذج أكثر إنصافاً وتعددية وإنسانية.

الطريق طويل ومعقد، وقمة شنغهاي كانت مجرد البداية. البداية التي أعلنت أن عصر الهيمنة الأحادية قد ولى، وأن عصر التعددية قد أطل، سواء كان ذلك نعمة أم نقمة.

السؤال التاريخي المفتوح: هل ستنجح البشرية في اختراع نظام عالمي جديد أكثر عدلاً، أم ستعود إلى فوضى القرن التاسع عشر بأسلحة القرن الحادي والعشرين؟

الإجابة ليست في كتب السياسة، بل في إرادة الشعوب وحكمة قادتها.

***

عبد السلام فاروق

تمثل ظاهرة ترامب المحاولة الاولى للاجابه الاقرب للاعتباطية على انقضاء زمن الدولة والمجتمعية الارضوية بظل انعدام الرؤية البديلة، وهيمنة الاستعارات التوهمية المنتهية الصلاحية، هذا وقد تكون الولايات المتحدة الاقرب الى التخلص من سطوة منظورات ومفاهيم الارضوية اليدوية، بحكم كونها كيانيه فكرة لامجتمعية، مرتكزها وعامل تحققها بالصيغة والشكل التي هي عليه "آلي" صرف، الا انها للاسباب المذكورة عن كينونتها الخاصة، ليست جديرة هي الاخرى مثلها مثل الاوربية قبلها، بان تحقق الانقلاب مجتمعيا بحسب مقتضيات التحول النوعي الالي، علما بانها قد اسهمت في نقل الاله من صيغتها الاولى المصنعية، الى الانتاجية التكنولوجية والعولمه المتعدية للكيانيه "الوطنيه" على مستوى المعمورة.

(والحال كان يجري استيطان امريكا منذ الاصل، في سياق ايديلوجي ثنائي القطبن فالمطلوب هو الاغتناء، وكذلك تمجيد الانجاز الالهي، بالمشاركة فيه، فاضاف المستوطنون الى "جوعهم للارض" وهشاشة ظروفهم، الارادة الصوفية لدى شعب يزعهم انه مختار: ارادة بناء مجتمع جديد واصيل صار بعد حين يوزع عبره على بقية العالم، كتب المؤرخ الامريكي دانيال بوستين في كتابه الضخم: لم يكن شعب اكثر يقينا من سيره على السراط المستقيم من " جمعية سكوربي"، التي استلهمت البارقة الاكثر اشراقا. فاعضاء هذه الجمعية هم اعضاء " طهرانية" نقية ومتشددة، رحلوا مابين 1608/ 1609، لاجئين الى هولاندا، كانوا " كافينيين" حملوا في حقائبهم مدونه عقيدية متشدده ورؤية متشائمه، مبنية على الاقتناع بالوجود الكلي للخطيئة، وايضا على اليقين بان احدا غير جدير بالانضمام الى متحدهم، حقا مالم يكن مصطفى لذلك، وفوق ذلك لايجاز احد بذلك قبل تقديم البرهان على تشدده. لامكان للمنشقين والريبيين او المفكرين الاحرار. ابحدروا يوم 16/9/1620، على متن " مايفلور" وفي 11/11، وصلوا الى كابكود. وفي 21 منه منه وضعوا "مايفلور كومباكت" ورسوا يوم 21/12 ، فالاغتراب في نظرهم هو "الهجرة" الى امريكا، وهي حملة منزله من الله، لبناء "صهيون الجديده" في اراض بعيده )(7) وثمه تراث ضخم من التعبيرية التاسيسية ومحاولة تحديد الهوية والذاتيه الامريكيه بلا تاريخ، كان وصار لازما تعيينه، لاجل التعرف على الكينونه الامريكية الفعليه المستقلة نوعا، وموضع الكيانيه المفقسة خارج الرحم التاريخي، لكي يصبح ممكنا متابعة مسارها التشكلي، ومالات وجودها من كيانيه منبثقة عند نهايات التشكلية المجتمعية ولحظة انقلابها التحولي الاعظم خارج الجسدية اليدوية، الى تهاوي مشروعها وحلمها المنصب على اقتلاع ماقبلها، باسم الرسالية والربانيه المتاخرة، وهو ماقد صار اليوم مازقا منذرا بالانهيار الاعظم، وباحتماليات الانتقال الى السياقات التدميرية الافنائية.

ولاينبغي باية حال اغفال الصلة الوثيقة بالصيهيونه، وبمفهوم الدولة الفكرة الالهية المستعادة، وهي علاقة عضوية في الحالة الامريكية، لاكما كان عليه الحال، وكما بدا عند التاسيس الغربي للانبعاث الصهيوني خاج اشتراطاته الوجودية، واذ تكون الصهيونيه ارتكازا يدويا مصطنعا ضمن اشتراطات هيمنيه غربية توهميه، نشأت متزامنه مع ميل الغرب للغلبة والاستعمار، اعتمادا على المتوفر من اسباب القوة المجرد بفعل الالة، بغض النظر عن التناقض بين الفكرة الجاري العمل على تجسديدها في غير اوانها، والانقلابيه المفهومية العصرية المناقضة لها جوهرا، بما يجعل ظواهر الابراهيمه المستعادة من قبيل مشروع التحقق المتاخر، بناء على وسائل نافيه له ومضاده جملة وتفصيلا.

ويختلف التجلي الغربي الاول الاستعماري البحت الموضوع لاسباب هيمنيه تخص الشرق الاوسط، عن الطور الثاني الامريكي حين تغدو الالة وسيلة تحقق الكيانيه المفتقرة للاسس البنيوية التاريخيه، بحيث تختلط موجبات الذاتيه الراهنه، مع تلك المستعادة المعتبرة مشابهه بحكم الهجرة والولادة الانية، مايضع امامنا نقص كبير على مستوى الرؤية والسردية التاريخيه الحديثة والمعاصرة باجمالها غير المبرر، ضمن طور ومرحله واحدة بلا تفريق ضروري جدا، بين تاريخ آلي توهمي اوربي غربي، واخر امريكي مفقس خارج الرحم التاريخي، وبلا سمات معلومه، او لها سابق تاريخي، غير ماقد صيغ كتوهمية ثانيه مرجعها الابراهيمه الاولى المتناقضة كينونه وزمنا واشتراطات مع اللحظة التاريخيه ونوع انقلابيتها، الامر الذي يزيد توهمية الغرب الاولى مضاعفا تهافتها من ضمن تازمها كحالة اجتماعية نوعيه، ماخوذه بديناميات الانقلاب وانتهاء الصلاحية، مايجعل من مهمة اعادة رسم المروية الانتقالية الاليه امرا فاصلا في غاية الضرورة اللازمة والواجبة لاجل اكتمال العملية التاريخيه ضمن لحظة كبرى تحولية، ماتزال مستمرة خارج الادراكية.

لم يثبت للعقل والاحساس الامريكي اخيرا، وبعد جهد، امكان الانغماس في التوهميه الرسالية النافية لماقبلها، وبعد تاريخ حافل من محاولات وسياسات السعي لالغاء الاخرين وافنائهم بالقدرات الذاتيه المتاحه، يتبين ان وجهه اخرى تبدا بالتبلور اليوم، محورها مرة اخرى الشرق المتوسطي، حيث البؤرة المجتمعية التحولية اللاارضوية النهرية، ومقابلها على الضفة الاخرى الاارضوية الطبقية اعلى المجتمعات الارضوية ديناميات، وتفاعليتها المنطوية على الصيرورة التاريخيه الانتقالية مابين اليدوية والالية ومجتمعيا من الارضوية الى اللاارضوية والمجتمعية مافوق الجسدية، حيث منطلق الانقلابيه الاخيرة الراهنه الالية ومعها العملية الاكتشافية للقارة الامريكية، وسياقات الهجرة اليها، وتكرار المروية اللاارضوية الاولى مجددا بصيغة الفرض البرانيه اولا، مع التوهمية القصوى وصولاالى الحال الحالي، حيث السعي الى رهن اللامجتمعية واللادولة عن طريق الامتداد الاباري الشرق متوسطي، وجعله رمزا لما هو بالاصل تعبيرية لاارضوية نهرية، تنتظر التعبيرية الثانيه مابعد اليدوية.

حين نشهد اليوم ماتقوم به اسرائل ومعها وفي ظهرها الولايات المتحدة الامريكيه، فاننا نكون في غمرة الانتقال الى "الابراهيمة منتهية الصلاحية"، مع التقاء جهود دول الابار والابادة الاسرائلية، ومنها اخضاع موضع المرور الامبراطوري الشامي باقامه حكم مرتهن للمخطط الاسرائيلي الامريكي، باعتبار ضرورة الاجهاز على العقبة الاخيرة الباقية شاخصة، وهو ماقد فعلته اسرائيل بايران ومعها امريكا، في حين تجد الصهيونيه الفاشية الحاكمه في اسرائل اعلى اشكال القبول وسعة مجال الفعل، لابل التحول الى ضرورة محور، لاجل الحضور مثالا نمطيا منسوبا للماضي الابراهيمي، بغض النظر عن انتسابه لتاريخ وزمن منته، فالابراهيمه ليست واحدة وحيده، مادامت المجتمعية ليست كذلك، ولاابراهيم نبوية حدسية الهامية اليوم، ومايتصل بالابراهيمة المذكورة الاولى مقترن اليوم بنوعه وبتاريخه الابتدائي اليدوي الذي ختم وانتهى مفعوله الضروري مع الختام المحمدي، ليغدو عالم اللاارضوية التاريخي من يومها على موعد مع التعبيرية اللاارضوية مابعد الابراهيمه اليدوية بانتظار " اللاارضوية العلية السببيه".

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

تتعلّق أخلاقيّة الدّولة الوطنيّة بمفهوم الأخلاق المرتبطة بالدّولة، ومصدريّة أخلاق الدّولة، وفيما تتعلّق أخلاق الدّولة. هذه جدليّات يصعب حصرها في مقال بسيط كهذا، ولكن ممكن وضع صورة مفاهيميّة ابتدائيّة لذلك من خلال بعض النّقولات القديمة والحديثة لتأثيرها في الدّولة الوطنيّة المعاصرة، وتكييف الأخلاق قديما كما يذكر ابن تنباك في «موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربيّة والإسلاميّة» عن ابن منظور (ت: 711هـ) أنّ الأخلاق في حقيقتها «انعكاس لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصّة بها». وبمثله ذهب الجاحظ (ت: 255هـ) إلى أنّ الخلق «هو حال النّفس بها يفعل الإنسان أفعاله بلا رويّة، ولا اختيار، والخلق قد يكون في بعض النّاس غريزة وطبعا، وبعضهم لا يكون إلا بالرّياضة والاجتهاد كالسّخاء؛ فقد يوجد في كثير من النّاس من غير رياضة ولا تعمّل، وكالشّجاعة والحلم والعفّة والعدل، وغير ذلك من الأخلاق المحمودة».

هناك قابليّة في النّفس الإنسانيّة لاكتساب السّجايا الحسنة والسّلبيّة المتفق عليها، أو أنّها حسنة عند قوم سيئة عند آخرين. والعكس صحيح؛ ولهذا يرى إخوان الصّفاء قديما أنّ طبائع الأخلاق تختلف لأسباب أربعة: «أحدها من جهة أخلاط أجسادهم ومزاجِ أخلاطها، والثّاني من جهة تربة بلدانهم، واختلاف أهويّتها. والثّالث من جهة نُشوئهم على ديانات آبائهم ومعلّميهم وأستاذيهم ومن يربّيهم ويؤدّبهم. والرّابع من جهة موجبات أحكام النّجوم في أصول مواليدهم، ومساقط نطفهم»، ويرون أنّ الإنسان المطلق «مطبوع على قبول جميع الأخلاق البشريّة».

الخطّ العربيّ والإسلاميّ قديما في جملته لم يخرج في فهم الأخلاق عن المفاهيم اليونانيّة، والّتي هي أقرب إلى الفضائل المكتسبة، والمرتبطة بقابليّة النّفس الإنسانيّة في اكتساب السّجايا من خلال هيئة راسخة في النّفس، ومع هذا جدليّة مفاهيميّة الأخلاق ظلّت عالقة إلى اليوم كما يرى طه عبد الرّحمن «حتّى إذا اتّفق الفلاسفة على أن الخُلُق موجود في فعل من الأفعال أو في شخص من الأشخاص، فإنّهم لا يتّفقون على تعريف واحد يميّزه عن غيره».

جدليّة مصدريّة الأخلاق لا زالت محلّ جدل حتّى يومنا هذا، وإن كان الإنسان بعيدا عن المصدريّة يكتسب خلقه ابتداء من البيئة الّتي ولد فيها، كما يكتسب منها دينه ومذهبه ولغته وثقافته، ويعبّر عنها اليوم بمسألة الأخلاق: هل هي ذاتيّة أم تأريخيّة، مطلقة أم ظرفيّة؟ والقول بتأريخيّة الأخلاق كما يذكر حسام محيي الدّين في كتابه «التّطوّر والنّسبيّة في الأخلاق» يعني أنّها «نشأت في طور معين من مراحل اجتماعيّة البشر، وأنّها تطوّرت من التّقاليد والأعراف، وأنّها ترتبط بأسس المجتمع الماديّة، وبمجمل الظّروف الأخرى، بما في ذلك آماله وتخيّلاته... وأنّ الضّمير ليس فطريّا، بل هو تأريخيّ النّشأة على النّطاق الاجتماعيّ خلال العصور، وعلى نطاق حياة كلّ فرد على حدة» في حين يرى فريق آخر «أنّ القيم والتّصوّرات الخلقيّة، كالعدالة أو الصّدق، شأنها شأن البديهيّات الرّياضيّة ضرورة يقتضيها العقل، ويدركها بداهة دون حاجة إلى برهنة. ومنذ أن يولد الإنسان يكون مزوّدا بقواعد خلقيّة، وهذه القواعد ثابتة دائمة مطلقة عامّة في النّاس بصرف النّظر عن الزّمان والمكان ونوع المجتمع السّائد، ومستوى الحضارة له، ومقياس كلّ قيمة خلقيّة أو عمل خلقيّ ذاتي مستقلّ عن كلّ ما يترتب عليه من سعادة أو تعاسة، ويذهبون إلى أنّ في كلّ إنسان وازعا للأخلاق هو قوة غريزيّة يميّز بها الخير من الشّرّ والحقّ من الباطل، وهي ليست نتيجة مجتمع ولا بيئة ولا زمان ولا مكان ولا تربية، بل هي مثل حاسّة البصر، تولد معنا، يسمّيها بعضهم العقل أو العقل العمليّ، ويسمّيها آخرون الضّمير أو الوجدان، أو الحاسّة السّادسة».

الدّولة الوطنيّة ليست بمعزل عن مسألة الأخلاق، وحاول صادق جواد سليمان (ت: 2021م) تقديم رؤية لأخلاقيّة الدّولة الوطنيّة من خلال الممايزة بين الدّولة العصريّة والدّولة المعاصرة، والفارق بينهما بشكل عام أنّ «الدّولة العصريّة هي تلك الّتي تتسم بنية ونظاما بسمات هذا العصر، أمّا الدّولة المعاصرة فهي تلك الّتي تعيش العصر، وتستعمل معطياته دونما تحفظ، لكنّها لا تزال تركد في بنية ماضويّة ونظام ماضويّ؛ هي بذلك تخفق في تحقيق طموحات مواطنيها إلى حياة وطنيّة أوفى تواؤما مع استحقاقات هذا العصر» بمعنى أنّ الدّولة العصريّة تعيش التّحديث والحداثة معا، أمّا الدّولة المعاصرة تعيش التّحديث دون الحداثة.

يظهر البعد الأخلاقيّ لديه في الدّولة العصريّة وفق بالمبادئ والقيم الأخلاقيّة المتمثلة في العدل والمساواة والكرامة الإنسانيّة، وسدّ منابع الاستبداد، والّذي به تتشكل الدّولة الوطنيّة وفق أخلاقيّة «المواطنة المتساوية الّتي لا تشوبها امتيازات خاصّة ببعض دون سائر المواطنين»، «وسيادة القانون وضمانه يكون بنظام قضائي مستقل، محصّن من أيّ تأثير خارجيّ، أكان من شخص أو أشخاص ذوي نفوذ مالي أو اجتماعي أو سلطوي، أو نفوذ مؤسّسي»، «واقتصاد منتج منصف، أي اقتصاد سليم يعنى بزيادة الإنتاج وعدالة التّوزيع معا»، «والاستقرار السّياسيّ والوئام الاجتماعيّ؛ فمجتمعات عصرنا في معظم الدّول تعيش تعدّديّة من حيث العرق واللّون والدّين والمذهب، وسوى ذلك من خلفيات سائر النّاس، مع ذلك هي تعيش استقرارا سياسيّا، ووئاما اجتماعيّا تصونهما مواطنة متساوية»، ومواجهة الفساد الّذي «يستعمل الوجاهة التّقليديّة لاستجلاب منافع دونما استحقاق، واقتصاديّا يسري بالتّراشي بين الدّافع والقابض، نقدا أو بمقايضة منافع، بتحايل على القانون»، ومواكبة الحضارة والتّقدّم الإنسانيّ.

أخلاقيّة الدّولة الوطنيّة تقودنا إلى ضرورة المراجعات، وعدم تسطيح مفهوم الأخلاق ليكون أقرب إلى الوعظ الدّينيّ والمجتمعيّ المنحصر في السّجايا الإيجابيّة أو السّلبيّة، وإنّما من خلال المبادئ الكبرى الّتي تخلق مجتمعا تربطه ذات واحدة؛ يسوده التّعايش المشترك الذي يعطي قاعدة للتّنمية والإحياء الاقتصاديّ، ما يرفع من درجة العدالة، وتحقّق الكرامة الإنسانيّة في الوطن الواحد. هذه الأخلاقيّات بها يتحقّق مسار السّلطات الثّلاثة: التّشريعيّة والتّنفيذيّة والرّقابيّة، وبها تتحقّق العلاقات الدّوليّة القائمة ابتداء على القيم الأخلاقيّة الإنسانيّة الكبرى، ومواجهة التّدخلات السّلبيّة، والحدّ من انتشار وتمدّد الحروب والكراهيّة، ومحاربة الجهل والفقر، ورفع مستوى المساواة الإنسانيّة وإحياء شعوب العالم جميعا.

***

بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»

 

لطالما ترسّخ في الوعي السياسي الحديث أن السياسة نقيضٌ للحرب، ووسيلة لتجنّبها أو على الأقل احتوائها. غير أن مقولة ميشيل فوكو جاءت لتمتحن هذا التصوّر، وتكشف عن طبيعة أكثر عمقًا للعلاقات السياسية في بنياتها المتعددة. ذلك أنه وفي المحاضرات التي ألقاها عام 1976م في الكوليج دو فرانس، ضمن سلسلة بعنوان "يجب الدفاع عن المجتمع" يرفع الغطاء عن المقولة الكلاسيكية للمفكّر العسكري البروسي، وصاحب الكتاب الأشهر "عن الحرب- 1832 م"، كارل فون كلاوزفيتز، والتي تقول إن الحرب استمرارٌ للسياسة بوسائل أخرى، ليقدّم بدلًا منها أطروحة أكثر زعزعة لهذا الاستقرار المفاهيمي، ليقول إن السياسة هي استمرارًا للحرب، ولكن بأدواتٍ مغايرة. وهو ما يعني أن السياسة لم تعد حقلًا للتوافقات أو أنها ذلك الفضاء الذي تُختبر فيه القدرة على التفاوض المفضي إلى توازن المصالح، بل أصبحت بحسب فيلسوف الخطاب ساحةً لتمديد الصراع، وميداناً لممارسة الهيمنة عبر الخطاب لا السلاح وحده. واليوم، في ظل الحرب المفتوحة بين إيران والكيان، تبرز مقولة فوكو بوصفها أداة تفسير فعَّالة، فقد شاهدنا كيف أن هذه الحرب لم تُخاض بالسلاح وحده، بل بتوظيف الذاكرة، والاستثمار في العاطفة المكبوتة. وهنا لا يبدو أن التفاوض بقادرٍ على إنهاء الحرب، بل حتماً سيُعيد تنظيمها ضمن منطقٍ جديد للصراع، هذا إن لم يعِ العقل العربي مأزقه، ويعمل على الخروج منه ولو بأقل التكاليف.

وبهذا المنطق الذي يفكك حدود السياسة التقليدية ويكشف عن طابعها الرمزي، يجد المجال السياسي العربي نفسه وبسبب من تراخي الإرادة في حسم الصراع، سواء عبر تفاوضٍ حقيقي أو الدخول في حرب ضروس، يجد نفسه مجبراً على مواجهة السؤال الكامن في بنية الصراع، وهو: كيف يمكن إدارة تفاوض بين أطرافٍ تعيش حالات من الحدود الميتة في الفعل السياسي؟ إذ أن الواقع ذاته يشهد بذلك، فمنذ حرب أكتوبر 1973م، تضعضع الوعي العسكري العربي وأُصيب بالشلل، ما أفسح المجال للبعض في الاستثمار غير النهائي في نصر أكتوبر، باعتباره لحظة فارقة في الوجدان العسكري العربي. لكن ما لم يُعلَن بوضوح خلف رمزية النصر، هو أنه مهّد فعليًا لإنهاء حالة المواجهة العسكرية مع الكيان، لا لاستمرارها. لذا أصبح هذا النصر، مع الزمن غطاءً ناعمًا لإخراج الفعل السياسي من منطق الصراع، وإدخاله في منطق "إدارة الممكن" داخل شروط ما بعد الحرب. ومعه انتهى المسار السياسي العربي إلى تقتيرٍ متعمّد، وتموضُع مسلوب أمام منطق "تصنيع النصر"، ما يكشف عن تقييد مقصود لإنتاج فعل سياسي حقيقي ينتقل بالقضية من التناول إلى التداول. فبدلاً عن أن يُستثمر النصر بوصفه لحظة تأسيس لحل جذري، جرى عزله وتحويله إلى طقس للاندماج في منظومة الهيمنة ذاتها. وما زيارة السادات إلى الكنيست ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد  (1978م) إلا تتويجًا ملموسًا لهذا المنحى، إذ حوّلت الحرب من فعل مقاومة إلى حيز سياسي مقهور، لتصبح القضية مرتهنة لا ضمن شروط المنتصر، بل وفق إرادة العدو.

ومن تداعيات هذا التحوّل في تمثُّل السياسة كامتدادٍ للصراع لا نقيضٍ له، لم تكن حالة "اللاحرب واللاسلم" التي تحكّمت بالفضاء السياسي للشرق الأوسط منذ زمنٍ طويل، مجرّد لحظةٍ عارضة، بل أصبحت بنيةً شبه دائمة تُدار فيها التوازنات لا لحسم الصراع، بل لإدارته على نحوٍ يضمن استمراره. والحال كذلك فإنه وإن كان البعض ينظر إلى هذه الحالة كنتاجٍ طبيعيٍّ لتفوّق طرفٍ على آخر، فإن الحقيقة الأعمق تكشف عن حالة "توازن للضعف"، حيث لا أحد يملك القدرة الكاملة على الحسم، ولا أحد يجرؤ على الاعتراف بالعجز، لتستقرّ حالة "اللاحرب" هنا بوصفها تأجيلًا دائمًا لـ"السِلم"، لا خطوةً نحوه. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أننا ضعفاء؛ بل يعود الأمر إلى استراتيجية أمريكية مكينة تجاه المنطقة تتمثّل في تصوير العرب وكأنهم غير قادرين على المواجهة بهدف تهزيمهم اجتماعيًا، وتوتير العلاقة بين السلطة والشعب. ومن الواضح أن المسألة كلّها تعود إلى أن الأمريكي وهو يُدرك تمامًا الحمولة العاطفية التي تهيمن على الشعوب العربية تجاه قضية فلسطين لا يتوقّف عن إدارة تناقضٍ من صُنعه، إذ يُراقب تطوّر نبض الشارع، ويدفع بمؤسساته المُوصوفة بـ"البحثية" إلى تتبّعه، ومعرفة المدى الذي قد يبلغه، ما يُوفّر له مادةً سياساتية تصلح للتوظيف في عمليات تغييرٍ بنيويٍّ للنُّظُم السياسية في الشرق الأوسط. إذن، فالهشاشة العربية كما يُراد تقديمها ليست نتيجة عجز، بل ثمرة تصميمٍ واعٍ على الإبقاء على الانفعال الشعبي ليصبح أداة من أدوات الضغط على النظم الحاكمة، ليبتزها متى لزم الأمر واقتضت مصلحة البيت الأبيض.

وما يريد هذا المقال أن يشير إليه هو أن ميدان الصراع في الشرق الأوسط لم يعد يُختبر فقط على جبهاته المكشوفة، فالحرب اليوم لا تُخاض بالسلاح وحده، بل بما يُعاد إنتاجه في الوعي. والواقع أنه ورغم سيل التحليلات الذي يتكاثر بها "حكماء" الشاشات الملونة، تارةً بتصويرها انتصارًا تاريخيًا للمقاومة، وتارةً أخرى باعتبارها فرصةً للتخلّص من أحد أطرافها، تبقى مقولات مضطربة فما يهيمن هنا ليس الحدث ذاته، بل ذلك الانغماس المفرط فيه دون قراءته ضمن سيرورةٍ محكومة بحقائق الصراع الكبرى؛ وهي تلك التي وحدها تمنح الحدث معناه، وتُضيء تخمّراته التاريخية العميقة. لأن فاعلية الحروب لم تعد تقاس بما يتبدى على سطح الظاهرة، بل هي وكما يشير ريجيس دوبريه، محكومة أيضًا بما تنتجه المخيّلة الجماعية. وقد كشفت هذه الحرب عن مظاهر للتوسّل العقائدي لدى كلا المعسكرين، فمن الموسيقى والأناشيد والأهازيج، إلى الصورٍ المُصمّمةٍ عبر الخوارزميات، وكذلك أسماء العمليات العسكرية كل ذلك يكشف عن فضاء، وهنا وجد "إياجو" القرن الحادي والعشرين (=دونالد ترامب) بشخصيته الشكسبيرية التي تُتقن فنّ التلاعب؛ الفرصة لا لعقد اتفاق فحسب، بل فرصة لإرضاء هوسه عبر مداعبةٍ خَشِنة لذاكرة ثقافية مُترَعةِ بالمظلومية. وهذا ما مَكن لخزّاناتُ الثأر أن تنفتح، ليبدو المشهد وكأنّه تنفيذٌ للوعدِ، وعدُ النصرةِ التي لا تتحقّق.

إننا في ظل هذه الحرب بإزاء بنيةٍ مفاهيمية يصح لنا تسميتها بـ"ميثيولوجيا السياسة"؛ وهي لحظة تتحوّل فيها الرموز والخطابات إلى أدوات أيديولوجية مغلقة، تُبنى عليها شرعية الفعل، وتُصاغ حولها أساطير الجماعة. أما البُعد غير المُعلن في هذه الحرب، فهو رسملة الوعي الاجتماعي عبر توظيف انتقائي للمقدّس، بحيث يُؤسَّس إهلاك الآخر على ضوء نبوءاتٍ مخبوءة، تنتظر من يُعلنها. إنّه استثمارٌ رمزيّ ينزع عن المقدّس قداسته، إذ يُصوَّر العالم داخل ثنائيةٍ مطلقة للمواجهة، لا مجال فيها للتأويل، بل فقط للاصطفاف والتمكين. ومن هنا، يقتضي الأمر إعادة فهم طبائع الصراع في الشرق الأوسط، لا بوصفه ساحةً لتنازع المصالح فحسب، بل كمسرحٍ مركّبٍ لإنتاج الأساطير، وصياغة الوعي، وإعادة تمثيل الذات والآخر عبر اللغة، والصورة، والدم. ومع ذلك فإننا نرى أن هذه الحرب تُشكّل فرصةً نادرةً لضخّ دفقة دماء جديدة في شرايين المسألة الفلسطينية؛ فرصة ينبغي ألّا تُهدر في صخب التحليل الذي يكتفي بالوصف. فهل يمكن التقاطها لإعادة الأوكسجين النقي إلى رئة العقل السياسي العربي؟

إننا أمام لحظة ثمينة يمكن فيها للعقل السياسي العربي أن ينهض ويُدرك أن حسم الصراع لا يكون بتأجيج العاطفة المُرهِقة، بل بتقييدها، وتحويلها إلى طاقةٍ أخلاقية تنظر إلى الإنسان لا بوصفه لحظةً مُوظَّفة في سياق العنف، بل قيمة في ذاته، أي أن ينظر إليه خارج مدار الكراهية، ونعلم أن مجرد الحديث في هذا المستوى من الوعي يُثير شيئًا من الحشومة المقنّعة التي تستقرّ في وجدان العربي المُولَع بتركيب الآخر من خلال إلغائه. وهذا بالتحديد ما يجب تفكيكه، فلا معنى لتحرّرٍ يتنكّر لإنسانية البشر، ولا لمظلوميةٍ تُبنى على محو الآخر. والاختبار اليوم ليس في الصمود وحده، بل في القدرة على تحويل هذا الصمود إلى وعي، والوعي إلى مشروع، والمشروع إلى أفقٍ لا يُدار فيه العرب بردود الفعل، بل بإرادةٍ تُعيد رسم شروط الفعل ذاته.

إن على هذه الأرض ما يستحق الحياة. قالها درويش ذات مرة، وهو الأمين على جماليات القضية، لا على شعاراتها. وهذه المقالة رسالة وفاء إلى صاحب "الجدارية"، حين أرادنا أكثر إنسانية، وآمن أن العدل لا يتحقّق إلا عندما يشتبك الجاني والضحية معًا في اكتشاف العالم لا هدمه. وقد قالها مرة: "وأنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك… لا تنسَ من يطلبون السلام".

***

غسان علي عثمان

بين إدعاء تطبيق القوانين ومخاطره السايكولوجية والأجتماعية

لقد سبب قرار المفوضية العليا المستقلة للانتخابات باستبعاد أعداد كبيرة من المرشحين من قوائم الانتخابات البرلمانية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل جدلا واسعا في العراق، ففي الأيام الأخيرة، تصاعدت التساؤلات حول طبيعة هذه الإجراءات، ومدى وجود دوافع سياسية خلفها، وقد تجاوز عدد المبعدين اكثر من 600 مرشح بقوائم متتالية وعلى شكل دفعات.

ورغم أن المفوضية بررت قراراتها بأسباب تتعلق بمخالفة قواعد السلوك، وعدم استكمال الوثائق، وقضايا المساءلة والعدالة والفساد، فإن الجدل ما زال مستمرا حول شفافية هذه القرارات وأثرها على المشهد السياسي. وقد أكدت المفوضية أنها الجهة الوحيدة المخولة بإصدار القرارات المتعلقة باستبعاد المرشحين، وذلك استنادا إلى البيانات والتقارير الواردة من الجهات المختصة بالتحقق. وأضافت المفوضية أنها، فور استلامها قوائم المرشحين، تقوم بتدقيق البيانات الأولية قبل إرسالها إلى جهات التحقق المعنية.

وتشمل هذه الجهات وفقا للمفوضية وزارات التربية، والتعليم العالي، والداخلية، والدفاع، بالإضافة إلى مديرية الأدلة الجنائية، وهيئة الحشد الشعبي، وجهازي المخابرات ومكافحة الإرهاب، ومستشارية الأمن القومي، وجهاز الأمن الوطني، ومجلس القضاء الأعلى.

منذ عام 2003 شهد العراق الكثير من المؤشرات التي تضعف نظام العدالة ومكانته في المجتمع، فالكثير من الجرائم التي ارتكبت بحق متظاهرين سلميين والكثير من الاغتيالات السياسية لم يجري ألقاء القبض على مرتكبيها بل سجلت بذمة قاتل مجهول بل وحتى الحالات التي تم فيها ألقاء القبض على القتلة تمت المساواة عليها وإطلاق سراح القتلة إلى جانب الكثير من الجرائم المجتمعية لم يأخذ اجراء بحقها. 

إلى جانب هناك الكثير من القوانين لم يتم تفعيلها وفي مقدمتها قانون الأحزاب الذي يحرم على الأحزاب ذات الأجنحة المسلحة المشاركة في الأنتخابات وهي الآن حاضرة بمرشيحها الذين لم يستبعدوا من الترشيح للأنتخابات الى جانب المسائلة عن المال السياسي ومصادر تمويل الحملات الأنتخابية، وزدواجية المعايير تلك تلقي بظلالها على ضعف مصداقية ما يتخذ من اجراءات لأبعاد المئات من المرشحين، فأذا كنا إلى جانب تطبيق إجراءات المسائلة والعدالة فهناك قضايا اشكالية وغير متفق عليها والتي تتمثل في حالات أبعاد المرشحين لأسباب تتعلق بحسن السيرة والسلوك، وما هي المعايير لذلك وخاصة عندما تتخذ بحق نواب سابقين وحاليين في البرلمان.

بالإضافة الى ان الكثير من المبعدين كانوا في أجهزة الدولة الحساسة وتبوئوا مناصب عليا في الدولة بما فيها الأمن والمخابرات وجهاز مكافحة الأرهاب ومشهود لهم في وطنيتهم فلماذا لم تجري محاسبتهم أنذاك. اذا كان المراد من تلك الإجراءات هو حجب الفاسدين عن المشاركة في الترشيح للانتخابات فكان من الأولى ان يطبق ذلك قبل عقدين من الزمن أم أن هذه الإجراءات تستهدف تشكيل مراكز للقوى السياسية التي تهيمن على العملية واعادة إنتاجها مجددا لتتصدر المشهد السياسي في ظل مزاج عام فقد الثقة بالطبقة السياسية الحاكمة وخاصة ان من تلك الطبقة متهم بالفساد والتزوير ولكن لم يستبعد.

هناك انطباع مجتمعي ان ما يجري هو عمليات إقصاء سياسي ممنهج يستهدف أضعاف للقوى والأحزاب والشخصيات المعارضة للنهج السائد وخاصة وان بعض من الأجهزة المحسوبة على الدولة تشتغل بالكيدية والثأر وتصفية الحساب من خلال واجهة الأنتخابات.

ثقافة الإقصاء السياسي هي بيئة أو ظاهرة مجتمعية سياسية يتم فيها استبعاد أفراد أو مجموعات معينة من المشاركة في الحياة السياسية أو صنع القرار بسبب انتمائهم أو آرائهم المختلفة، مما يؤدي إلى إضعاف الديمقراطية وتركيز السلطة لدى فئة قليلة. هي ممارسات مجتمعية وسياسية تؤدي إلى استبعاد أشخاص أو جماعات من الدائرة السياسية.

ويشمل ذلك استبعادهم من التصويت، أو الترشح للمناصب، أو المشاركة في الأحزاب السياسية، أو التأثير في صنع القرار. غالباً ما يكون الإقصاء مبنياً على أساس عرقي، ديني، طبقي، جنسي، أو سياسي، مما يحد من تنوع الآراء في المجتمع. والإقصاء يضعف المشاركة السياسية ويكرس شعورا لدى الأفراد والمجموعات المبعدة بالإحباط والغضب، مما يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية لا تحمد عقباها إلى جانب حرمان المجتمع من مساهمات وخبرات أفراد تم استبعادهم، مما يضعف قدرته على التطور.

الإقصاء في الأساس عمل نفعي للجهة القائمة به، قاعدته مصلحة الأنا الفردي أو مجموعة النفع السياسي، والاستفادة، والتسيد، والامتياز كي لا يأتي من ينافسها، أو يشاركها الفائدة، أو يكشف زيفها، ودواخل ما تفعله. ودائماً يتم ذلك على حساب المصلحة العامة، وأين تكون، وكم من فئات قادرة، وكفؤة أقصيت، وهمشت ليبقى تسيد المستفيدين، وشللهم ومنافعهم، وما يريدون.

و يمارس الأقصاء دون أي وازع أخلاقي أو تربوي ولتصل لمرحلة التخوين وإسقاط الآخر، وللأسف أن القوى السياسية العراقية الحاكمة هي حاضنة لهذا التفكير وإن كانت هناك مقاومة مجتمعية تحاول بلا جدوى للخلاص منه، بسبب تراجع الوعي وتدهور الاخلاق والثقافة. لا سيما وأن ثقافة الإقصاء هي العمود الفقري للسلطوية والاستبداد وبكل أشكاله .

العراق ممثلا بقواه السياسية الخيرة ومنظمات المجتمع المدني والحركات الأحتجاجية السلمية الضاغطة بحاجة للحوارات العقلانية المسؤولة والموجهة بالنقد والمسائلة الرسمية والشعبية والقضائية   صوب السلطات الحاكمة للتخلص او الحد من هذه الأمراض والآفات التي هيمنت على العقل السياسي العراقي لعقود طويلة والوقوف ضد التطبيق الأنتقائي للقوانين والإجراءات واعتماد الشفافية والنزاهة كبديل لثقافة الأنتقام والتي تهدد النظام السياسي برمته والقضاء على ما تبقى من فسحة للأمل.

وببساطة الأقصاء والديمقراطية ندان لا يلتقيان فمن يمارس الأقصاء  يجب عليه ان يخرس في الحديث عن الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة.

***

د. عامر صالح

كان وما يزال تعدد الجيوش أحد أبرز عوامل خرابِ الدُّول، وهذا ما يُعرف بالحشود الموازية، ومِن الأكاذيب أنَّ كلّ حشدٍ يدعي أنه ظهير الدَّولة وحامي الشَّعب، فمِن العادة، قديماً وحديثاً، أنَّ أيَّ عسكريَّة موازية لجيش الدَّولة يكون ولاؤها خارجيّاً، وبهذه المعادلة تحولت دولٌ إلى أشباه دول. وصلت الجرأة بأحد قادة الميليشيات يطلب مِن جيش الدّولة إلغاء نفسه لصالح حشده، لأنه «مليءٌ بالخونة، والجيش البديل هو جيشه جيش الإسلام».

لنا في التّاريخ الوسيط نموذجٌ، فبعد تكاثر أمراء الحرب، داخل الدّولة العباسيَّة: الطَّاهريون، والصّفاريون، والسَّامانيون، والبويهيون، والغزنويون وآخرهم السِّلجوقيون، لم يبق لبغداد غير الخِطبَة، وكلُّ هؤلاء بحاجة لختم الخليفة، لإضفاء الشَّرعيَّة الدِّينيَّة فقط. بما أنَّ الشَّرق كان تقاسمَ نفوذٍ بين الفاطميين بمصر والعباسيين بالعِراق، صارت الميليشيات تتجاوز الحدود، وخصوصاً بعد الهيمنة البويهيَّة، التي لعبت باستغلال واقعة كربلاء، فأعلنوا عاشوراء رسميَّاً (352هج)، ورسموا عيد «الغدير»، وكتبوا على النُّقود ورفعوا الشّعارات الطَّائفيَّة، فانقسمت بغداد، وحمى النّزاع، مواكب تعلن «الغدير» وأخرى «عيد الغار» (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ).

تجاوز قائد الميليشيا بهاء الدّولة فيروز بن فناخسرو عضد الدَّولة، على الخليفة الطَّائع بالله (خُلع 381هج) لضعفه، عندما سحبه، أمام الوجهاء، وبينهم الشّريف الرّضي (ت: 406 هج) فقال ما مطلعه، وهو يشاهد الخليفة مطروحاً على الأرض، وكان صديقاً له: «هيهات أغترُ بالسَّلطان ثانيةً/قد ضلَّ ولاج أبوابِ السَّلاطين» (مسكويه، تجارب الأُمم). يُعيد التّاريخ المأساة، يقف قائدٌ في الجيش الموازي، ويخاطب المسؤول التَّنفيذي الأول: «نقطع أذنك»! ويضعون صورته تحت أقدامهم، وهم والمسؤول مِن مذهب واحد، مع اختلاف الولاء العقائديّ، بين الوطن والخارج، فإذا برر الطَّائفيون اختلاف الخليفة وقائد الميليشيا فيروز بالمذهب! ويعتبرون الاعتداء على الخليفة لنصرة المذهب، فبماذا يبررون اعتداء اليوم؟ ولكم تخيُل الكارثة.

لكنَّ الأخطر أنَّ أبا المنيع قرواش (ت: 441 هج) نائب البويهيين على: الموصل والأنبار والكوفة، ألغى الخِطبَة للخليفة ببغداد (401 هج)، وأقامها للحاكم بأمر الله الفاطمي (ت: 411 هج)، ولحزم القادر بالله (حكم 381-422 هج) فشل المشروع. فقد أرسل الخليفة إلى فيروز أنّ يكف صاحبه قرواش ويُعيد الولايات لبغداد، فبعد إعلان شرعية الحاكم الفاطميّ على تلك المناطق، تركها العلويون والعباسيون إلى بغداد.

لم يستطع فيروز الامتناع، لقوة القادر بالله، فكلف عميد الجيوش بالمسير إلى قرواش، فقدم الأخير اعتذاره، وعادت الخِطبَة لبغداد، فقبلها البويهيون على مضض (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ). كان التّجاوز وراء إصدار محضر قدح بأصول الفاطميين العلويَّة، وأمضاه وجهاء بغداد كافة، مِن الشّيعة والسُّنة، «كتب خطه في المحضر خلق كثير من العلويين: المرتضى، والرَّضى، وابن الأزرق الموسوي، وأبو طاهر بن أبي الطَّيب، ومحمَّد بن محمد بن عمر (الشّيخ المفيد)، وابن أبي يعلى، ومن القضاة: أبو محمد ابن الأكفاني، وأبو القاسم الخرزيّ... ومن الشُّهداء (الشُّهود): أبو القاسم التَّنوخي» (سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزَّمان). انظروا في أسماء الموقعين وهوياتهم المذهبيَّة، مِن الرَّضي والمرتضى إلى المفيد كانوا مع بغداد، بغض النَّظر عمَّن يحكمها، سواء كان بويهياً أو فاطمياً. دفع تصرف فيروز وقرواش، والمظاهر الطّائفيَّة العنيفة، الخليفة القادر على اتِّخاذ اجراءات مضادة، كانت بغداد في غنى عنها، حتَّى اضطر خليفته القائم بأمر الله (حكم: 422- 467هج) إلى الاستنجاد بالسّلاجقة الأتراك، ودخلوا بغداد (447 هج) فانهوا النفوذ الفارسيّ (سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزَّمان)، ليبدأ النُّفوذ التّركي.

هكذا تتحول العواصم إلى ساحات للتغالب بين أمراء السّلاح، هذا في ماضي الزَّمان، يوم لم يطلب النَّاس غير الكفاف، فكيف اليوم وهم بحاجة إلى أنظمة مِن التَّعليم والطِّب والعُمران، بينما الحشود لا تجيد غير الخراب، بأمر للخارج وتكليفه. هذا، ونُذَكّر بالجَواهريّ (ت: 1997): «مستأجرين يخرِّبون ديارَهُم/ ويكافأون على الخرابِ رواتبا» (الوتريّ 1949). أقولُ: التّاريخ كرر نفسه، الميليشيا والدَّولة، باِتِّفاق النَّوايا البلايا.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

هاهنا الاستبداد القاسي، وهناك الخضوع الأعمى. فأيهما كان مولِّداً للآخر؟! هل الاستبداد شجرة قويةٌ لا تنبت في غير التربة المنخفضة، أم الخضوع حقل مهجورٌ لا تعيش فيه غير الأشواك؟ - جبران خليل جبران ـ

هناك دراسة شهيرة للباحثة البولندية مونيكا كوزلوفسكا، تذهب فيها إلى أن هناك عقدا نفسية لمرضى السيكوباتية يمكن "استخدامها لإجبار الآخرين على احترامهم، وإثارة إعجاب شركاء حياتهم"، وهي دراسة تنفعل مع أحداث ووقائع تاريخية لشخصيات عسكرية وسياسية مستبدة بصمت حياتها المثيرة والغريبة بمتلازمات فيزيقية ونفسية، طبعت تاريخا حافلا من السلوك الاجتماعي المفرط العدوانية والاستبدادية والنرجسية المتضخمة.

وعلاوة على التجارب النوعية التي وثقها التاريخ في هذا المنحى، فإن أقربها إلى تينك السلوكات القبحية الأكثر شرا ورعبا، ما حبلت به ذاكرة الموت وسردياتها، في كنانيش الشعوب المستضعفة، كما هو الحال بالنسبة لنماذج ك"أتيلا الهوني" و"جنكيز خان" و"بول بوت" و"فلاد الثالث المخوزق" و"فاسيليفيتش إيفان الرابع" و"أدولف إيخمان" و"نابليون بونابارت" وليس آخرهم "النتن ياهو بنيامين" ..

لكل هؤلاء وغيرهم، قصص مخيفة تلسع الأفئدة وتهز تخت الإنسانية وضميرها، وتنأى بكل ما يربط الوجود بمخلوق مصطفى لتمجيد فضائل الحق ومزايا الرحمة والتسامح. وفي كل حالة من حالات المذكورين، تستدعينا أسئلة معلقة بين حقائق أكدتها المراجع الأنثروبولوجية والتاريخية وتنظيرات موازية أغلبها يتقاطع مع العلوم الإنسانية والطبيعية، وبخاصة علم النفس التطوري، كفوارق الاستبداد وقتل المعارضين والتنكيل بهم، والتلذذ بممارسة العنف الحيواني ضدهم. وهو ما يؤكد وجود متلازمات سيكوباتية بالغة، تصل لحد الإصابة المزمنة بما يعرف بداء الكلب الامبراطوري العضال.

أشهر من مسهم هذا الداء اللعين، نابليون بونابارات، إمبراطور فرنسا خلال العقد الأول من القرن التاسع عشر، والذي كانت لأعماله وتنظيماته تأثيرات كبيرة على السياسة الأوروبية. إذ هيمن على الشؤون الأوروبية والدولية خِلال فترة حُكمه، وقاد فرنسا في سلسلة انتصارات مُبهرة على القوى العسكريَّة الحليفة التي قامت في وجهها، فيما عُرف بالحروب النابليونية، وبنى إمبراطوريَّةً كبيرة سيطرت على مُعظم أنحاء أوروبَّا القاريَّة حتَّى سنة 1815 عندما سقطت وتفكَّكت.

وعلى الرغم مما تضمنته الدراسات التاريخية والثقافية حول الظاهرة النابليونية، واختلاف أبعادها ومرجعياتها، وليس أقلها رأي الشاعر الإنجليزي جورج گوردن بايرون، الذي اعتبر نابليون مثال البطل الرومانسي المضطهد والعبقري الوحيد المعيب. فإن أصواتا في المقابل انبرت إلى تحليل متلازمته المعروفة "بداء الكلب الامبراطوري"، خصوصا فيما يتعلق بعقد السيطرة والاستحواذ والاستعمار بحد السلاح وقمع الشعوب وترويع المؤمنين وقتل الأبرياء.. إلخ. يثيرعالم النفس التطوري، مارك فان فوجت، وفريقه في جامعة أمستردام الحرة أدلة على "عقدة نابليون" وعدوانيته، يستنتج أن قوته المفرطة هي حال عقدته في حب الامتلاك والسعادة بإركاع العالم. وهو أمر يكون مؤداه إثارة الإعجاب وتحقيق سلطة موهومة مرتقاة بالعنجهية والصلف واستعباد الآخرين.

ولا يخرج هذا النموذج السيكوباتي المنكشف على اضطراب في الشخصية، ومعاداة الطبيعة الإنسانية، وضعف التعاطف، وانعدام الشعور بالذنب، والأنانية، والتحول لصفة الشدة المتعاظمة والقسوة، وعدم القدرة على تكوين علاقات اجتماعية حقيقية، والبحث عن الإثارة، والتلاعب بالآخرين، (لا يخرج) عن سياقات حالنا المعاصر ونحن نبتذل عباراتنا المكرورة في توصيف "ملك إسرائيل الجديد" النتن ياهو، الذي يرقى لكل ما ذكرنا وأكثر. فهو يغترف من نفس نبع من سبقوه من المستعمرين السفاكين، المكشرين عن أنياب الخسف والقتل والإبادة والحرق، وكل أصناف الفوضى واختلال النظام العالمي والاضطرابات الجائفة. إنه بكل اختصار وتمعن، يترجم كلمة "شواش" التي توصف في الميثولوجيا الإغريقية الحالة البدئية للعالم قبل أن يقوم المبدأ الأول (الإله كاوس) بترتيبه. هو "شواش" العصر ونيرونه الأعتى جرما وشرا وقبحا.

***

د مصـطـفــى غَـــلمـان

تشريح بنيوي لتاريخ من الاغتصاب المنظم

المقدمة: من الفشل إلى السرقة – إعادة تعريف المحنة العراقية

كثيرًا ما يوصف العراق في أدبيات العلوم السياسية الغربية بـ"الدولة الفاشلة"، وهو توصيف يجانب الحقيقة ويختزل تعقيدها. الفشل يعني العجز عن القيام بوظائف الدولة الأساسية، لكن العراق لم يعجز فحسب، بل تم تفريغه من مضمونه وتوجيه جميع موارده ووظائفه لخدمة مشروع نخبوي مغلق. العراق ليس دولة فاشلة، بل هو دولة مسروقة، بكل ما تحمله الكلمة من معنى مادي ملموس ورمزي عميق. لقد تمت مصادرة فكرة الوطن ذاتها وتحويلها إلى غنيمة.

لقد سرقت النخب الحاكمة، بمختلف تشكيلاتها التاريخية، أكثر من النفط والمال؛ لقد سرقت الذاكرة الجمعية للشعب، وصادرت حقه في التاريخ، واحتكرت مؤسسات الدولة لتحولها من فضاء عام يجب أن يجمع المواطنين على أساس المواطنة المتساوية، إلى كيان مغلق أشبه بحلقة مسلحة تُدار بعقلية الغنيمة والاستحواذ. لم تُسرق الأرض وحدها، بل سُرقت الحقوق، الهوية، الكرامة، وحتى المستقبل. لقد تحول المواطن من غاية للدولة إلى مجرد أداة قابلة للاستهلاك في آلة السلطة وقودًا للحروب ومصدرًا للريع.

محنة العراق، إذن، ليست مجرد سلسلة من الأزمات العابرة أو سوء إدارة عارض، بل هي نتاج مسار تاريخي طويل ومتراكم. مسار تشكّل من لحظة تأسيس الدولة الحديثة في عشرينيات القرن الماضي على أنقاض ولايات عثمانية، مرورًا بالأنظمة الشمولية والعسكرية، وصولًا إلى نظام ما بعد 2003 الذي جعل من المحاصصة الطائفية والإثنية دستورًا غير مكتوب، ومن الفساد البنيوي نظامًا للحكم. هذه الورقة تسعى إلى تشريح هذا المسار، وفك شيفرة "السرقة" كمفهوم مركزي لفهم المأزق العراقي، وصولًا إلى إمكانيات الاستعادة والخلاص.

المحور الأول: الدولة كاختراع استعماري – البذرة الأولى للسرقة المنظمة

لم تكن ولادة الدولة العراقية الحديثة عام 1921 لحظة تلقائية أو تعبيرًا عن إرادة جمعية، بل كانت مشروعًا مصممًا لخدمة مصالح الإمبراطورية البريطانية في حقبة ما بعد سايكس-بيكو. لقد رأت بريطانيا في "الدولة" الوسيلة المثلى لإدارة المنطقة بأقل التكاليف، فأنشأت كيانًا إداريًا-أمنيًا يضمن حماية طرق المواصلات، ويحفظ التوازنات الإقليمية، ويصدر النفط، ويقمع أي تمرد محتمل. لم يكن الهدف بناء عقد اجتماعي أو صياغة هوية وطنية جامعة.

كما يحلل المؤرخ حنّا بطاطو بدقة في عمله المرجعي، تشكلت الدولة العراقية كـ"مركّب فوقي" مفصول تمامًا عن قاعدته الاجتماعية. لقد بُنيت من الأعلى، بوساطة نخب حضرية – ملكية – إقطاعية مرتبطة عضوياً بالمشروع الاستعماري، واعتمدت في بقائها على جهازين رئيسيين: الجيش والبيروقراطية. لم تكن هذه الأجهزة لخدمة الشعب، بل كانت أدوات للسيطرة وإخضاع المجتمع، خاصة الفلاحين في الأرياف والقبائل، الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من السكان (الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية العراقية، ج1، ص 41).

هذه البداية "المغشوشة" جعلت الدولة أشبه بـ"شركة أجنبية" مسيطرة على أرض محتلة، أكثر منها تجسيدًا لإرادة وطنية. المجتمع، بكل تنوعه، لم يكن شريكًا في صياغة هذا الكيان، بل كان متلقيًا سلبيًا لأوامره وإكراهاته. لقد جرى تجنيده في الحروب، وفرضت عليه الضرائب، واستُخرجت ثرواته، دون أن يُمنح حق المشاركة في القرار أو المحاسبة. من هنا، يمكن الجزم بأن أول وأكبر سرقة في تاريخ العراق الحديث كانت سرقة حق المجتمع في الدولة. لقد سُلب الشعب حقه في أن يكون صاحب السيادة، في أن يكون مصدر السلطات، وتحول إلى رعية في مملكة نخبوية مغلقة.

لم يكن النظام الملكي نظامًا ديمقراطيًا بالمعنى الحقيقي، رغم وجود برلمان وشكل من أشكال التعددية. لقد كان ديمقراطية النخب، حيث تداولت العائلات السياسية نفسها السلطة تحت رعاية البريطانيين. لقد كانت "الدولة" هي الإطار الذي تمت فيه شرعنة عملية النهب هذه، حيث تحولت الأراضي الزراعية الشاسعة إلى أملاك لإقطاعيين موالين، بينما ظل الفلاحون يعيشون في حالة من العبودية شبه الإقطاعية. لقد سرقت الدولة المستقبل منذ لحظة ولادتها.

المحور الثاني: الجمهوريات والانقلابات – تطور آلة السرقة وتركيزها

مع سقوط الملكية في انقلاب 14 تموز 1958، بقيادة عبد الكريم قاسم، بدا للكثيرين أن العراق مقبل على ولادة جديدة، على ثورة حقيقية تعيد الدولة إلى أصحابها. حاول قاسم، ولو جزئيًا، كسر احتكار النخب القديمة للسلطة، من خلال سياسات إصلاح زراعي وتأميم جزئي ومحاولة بناء قاعدة اجتماعية جديدة تعتمد على الفلاحين والعمال والطبقات الوسطى الصاعدة. لكن هذه التجربة، رغم أهميتها الرمزية، كانت قصيرة وهشة.

الانقلابات المتعاقبة (انقلاب 1963 الدموي، وانقلاب البعث في 1968) أعادت الأمور إلى نصابها، بل وطورت من آليات السرقة ومركزتها. تحولت الدولة من أداة في يد طبقة إقطاعية-تجارية إلى أداة في يد حزب واحد، شمولي، يسيطر على كل مفاصل الحياة. لقد تم تفريغ مفهوم الجمهورية من مضمونه وتحويله إلى غطاء أيديولوجي لاستبداد أفظع.

في عهد حزب البعث، وخصوصًا في فترة صدام حسين (1979-2003)، بلغت عملية "تخصيص الدولة" أو "سرقتها" ذروتها الكاملة. لم يعد الفساد مجرد انحرافات فردية، بل أصبح نظامًا للحكم. لقد تحولت الدولة بأكملها إلى ملكية خاصة لعائلة حاكمة وحاشية ضيقة. الجيش تحول من مؤسسة وطنية إلى حرس خاص للسلطة. الأجهزة الأمنية المتعددة (المخابرات، الأمن الخاص، الاستخبارات العسكرية) أصبحت أدوات للقمع الداخلي وترويع المجتمع، وضمان استمرار عملية النهب دون معارضة.

الثروة النفطية، التي شهدت طفرة كبيرة في السبعينيات، لم تكن نعمة، بل لعنة في ظل هذا النظام. كما يشير تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بوضوح، فإن "موارد النفط الضخمة لم تُستثمر في التنمية المستدامة أو بناء اقتصاد منتج، بل تم توجيهها نحو تمويل الحروب والتسلح وبناء جهاز أمني ضخم، ما أدى إلى تدهور غير مسبوق في مؤشرات الرفاه الاجتماعي والتعليم والصحة" (التنمية البشرية في العراق، 2002، ص 22).

لقد استخدمت السلطة النفط لتمويل حرب مدمرة ضد إيران (1980-1988) استمرت ثماني سنوات، ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الشباب العراقي، وأدت إلى تدمير البنية التحتية وتراكم ديون هائلة. ثم لتمويل غزو الكويت (1990) وما تلاه من حرب وحصار. النفط، الذي كان يمكن أن يكون أداة لتحرير العراق ورفاهيته، تحول إلى أداة لاستعباده وتدميره. بهذا المعنى، لم يكن المواطن شريكًا في الدولة، بل أصبح رهينة عندها. سُرقت حياته، طاقاته، مستقبله، وطموحاته لصالح مشروع سلطوي شمولي مجنون.

المحور الثالث: الحروب والعقوبات – تفكيك النسيج الاجتماعي وتحويل السرقة إلى ثقافة جماعية

إذا كانت المرحلة البعثية قد حولت السرقة إلى سياسة دولة منظمة، فإن الحروب والعقوبات الدولية التي أعقبت غزو الكويت عملت على إدخال السرقة إلى شرايين المجتمع نفسه، لتصبح جزءًا من ثقافته وآليات بقائه. لقد مثلت هذه الفترة تحولاً جذريًا من "دولة المسروق" إلى "مجتمع المسروق".

الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) لم تسرق فقط أرواح جيل كامل من الشباب، بل سرقت إمكانات التنمية لعقدين كاملين. لقد استنزفت الاقتصاد والمجتمع وأدخلت العراق في دوامة من العنف والعسكرة. لكن الكارثة الحقيقية جاءت مع حرب الخليج الثانية (1991) والعقوبات الدولية الشاملة التي فرضها مجلس الأمن عليها. هذه العقوبات، التي استمرت 13 عامًا، كانت أداة عقاب جماعي لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث.

كما وثقت منظمات دولية عديدة، كان الأطفال والضعفاء هم الضحايا الرئيسيون لهذه السياسة. يصف تقرير صادر عن اليونيسف الوضع بالمأساوي: "العقوبات الاقتصادية ألحقت ضررًا شاملاً بالنسيج الاجتماعي العراقي وأدت إلى انهيار كامل تقريبًا في الخدمات الأساسية مثل الصحة والمياه النظيفة والتعليم" (UNICEF, Iraq Child and Maternal Mortality Survey, 1999, p. 6). تشير التقديرات إلى وفاة أكثر من نصف مليون طفل نتيجة سوء التغذية ونقص الأدوية والرعاية الصحية.

هذا الانهيار المنظم خلق تحولاً جذريًا في البنية الاجتماعية. الطبقة الوسطى، التي كانت تشكل عماد الدولة الحديثة وضامن استقرارها، تآكلت تمامًا. انهارت قيمة العمل والوظيفة والكفاءة، لتحل محلها قيم جديدة قائمة على النجاة الفردية. انتشرت ظواهر التهريب، الرشوة، المحسوبية، والتجارة السوداء كآليات وحيدة للبقاء. لم يعد الفساد جريمة، بل أصبح مهارة. لم تعد السرقة حكرًا على الدولة، بل انتشرت كوباء في جسد المجتمع.

لقد انتقل العراق من كونه "مجتمع التضامن القسري" تحت حكم شمولي، إلى "مجتمع البقاء بأي ثمن". لقد سرقت العقوبات من العراقيين إنسانيتهم وقيمهم الاجتماعية، وحولتهم إلى كائنات فردانية نفعية، تتصارع على الفتات. هذه السوسنة الاجتماعية هي أخطر ما خلفته تلك الحقبة، لأنها خلقت التربة الخصبة لاستمرار نهب الدولة حتى بعد سقوط النظام الذي أوجد هذه الظروف.

المحور الرابع: 2003 وما بعدها – ولادة الدولة المسروقة الحديثة: المحاصصة كمنهجية للنهب

جاء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 تحت شعارات ديمقراطية براقة، لكنه في حقيقته كان استكمالاً لمأساة السرقة، وإن بأدوات وأيديولوجيات جديدة. بدلاً من أن يكون لحظة تحرير حقيقية، كان لحظة تفكيك كامل للدولة والمجتمع. لقد حل الاحتلال محل الدكتاتورية، لكنه لم يؤسس لدولة القانون، بل أسس لنظام طائفي-إثني مغلق، جعل من السرقة منهجية حكم مؤسسية.

القراران الأكثر جرمًا اللذان اتخذهما الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر كانا: أولاً، قرار حل الجيش والمؤسسات الأمنية، الذي لم يفكك فقط مؤسسات الدولة السيادية، بل خلق فراغًا أمنيًا هائلاً وجيشًا من العاطلين المسلحين الغاضبين، مما فتح الباب على مصراعيه للحرب الأهلية والميليشيات. ثانيًا، قرار "اجتثاث البعث"، الذي لم يستهدف مجرمي النظام السابق فحسب، بل طال عشرات الآلاف من الكفاءات الإدارية والأكاديمية والعلمية التي كانت تدير الدولة، حتى من غير المنتمين للحزب. لقد كان هذا القرار عملية "إعدام ممنهج للدولة العراقية".

على أنقاض الدولة المفككة، تم تأسيس "مجلس الحكم" الذي رعاه الاحتلال، والذي قام على أساس المحاصصة الطائفية والإثنية الصريحة. لم يتم توزيع المناصب على أساس الكفاءة أو البرنامج السياسي، بل على أساس الانتماء الطائفي أو القومي. هذه الآفة، التي أصبحت الدستور غير المكتوب للعراق الجديد، حولت الدولة من كيان يجب أن يخدم جميع مواطنيه إلى كعكة يجب تقاسمها بين الأحزاب والجماعات المتنفذة.

كما يصف تقرير بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) بدقة، فإن النظام السياسي بعد 2003 هو "نظام قائم على المحاصصة الطائفية يقوّض بشكل منهجي بناء المؤسسات المستقلة ويضعف سيادة القانون ويعيق أي إصلاح حقيقي" (يونامي، التقرير السنوي 2019، ص 14).

في هذا النظام، لم تعد الوزارات مؤسسات حكومية تقدم خدمات للمواطنين، بل أصبحت "إقطاعيات" سياسية ومالية للأحزاب المكونة لها. كل حزب يسيطر على وزارة أو أكثر، ويستخدم موازنتها ووظائفها ومشاريعها لتمويل نفسه وتوظيف أتباعه وبناء شبكات زبائنية. النفط، الذي يشكل أكثر من 92% من إيرادات الدولة (البنك الدولي، التقرير الاقتصادي للعراق، 2020، ص 7)، لم يعد أداة للتنمية، بل أصبح أداة لإعادة توزيع الثروة عبر آلية المحاصصة والفساد. لقد تحول إلى ريع مالي يوزع على النخب الحاكمة لشراء الولاءات وإسكات المعارضة وإدامة النظام الفاسد.

الأحزاب الحاكمة لم تكتف بالسيطرة على الدولة، بل أنشأت لها أذرعًا عسكرية (ميليشيات) وأذرعًا اقتصادية (شركات ومقاولات وهمية) وأذرعًا إعلامية (قنوات فضائية ومواقع إلكترونية). لقد أصبحت هذه الكيانات دولة داخل الدولة، تسيطر على الأرض والاقتصاد والإعلام، وتتنافس على النهب بشكل يذكرنا بعصابات المافيا. المواطن في هذا النظام لم يعد مواطنًا، بل أصبح "زبونًا" في سوق الولاءات، أو ضحية يتم استنزافها يوميًا.

المحور الخامس: السلطة بوصفها جهاز قمع لا جهاز تنظيم – السرقة بالقوة

عندما يخرج المواطنون ليحتجوا على السرقة، على غياب الخدمات، على البطالة، على الفساد، تكون الآلة القمعية للدولة المسروقة جاهزة لسحقهم. هذا هو التجلي الأوضح لمعنى السرقة: حين يُسرق منك حتى حقك في الصراخ بأنك تُسرق.

كانت انتفاضة تشرين/أكتوبر 2019 هي الصرخة المدوية لجيل لم يعد يطيق أكثر من ذلك. جيل ولد ونشأ في ظل نظام المحاصصة والفساد، ولم يعرف سوى الدولة المسروقة. خرج مئات الآلاف من الشباب إلى ساحات بغداد والمحافظات مطالبين بوطن حقيقي، بوظائف، بخدمات، بإنهاء الهيمنة الإيرانية، وبمحاسبة الفاسدين. كانت لحظة تاريخية حاول فيها المجتمع استعادة دولته المسلوبة.

لكن رد الدولة المسروقة كان وحشيًا. كما وثقت بعثة الأمم المتحدة (يونامي) بتقارير مفصلة، استخدمت القوات الحكومية والميليشيات التابعة للأحزاب "القوة المفرطة والمميتة والاعتقالات التعسفية والتعذيب وحتى الاغتيالات المستهدفة" ضد المتظاهرين السلميين (يونامي، تقرير حقوق الإنسان -- تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ص 9). أسفرت هذه الحملة عن مقتل أكثر من 700 متظاهر وإصابة الآلاف خلال أشهر قليلة، فضلاً عن اختطاف ونزوح العديد من النشطاء.

هذه الأحداث لم تكن أعمال شغب، بل كانت عملية قمع ممنهج لأي محاولة لتغيير نظام المحاصصة القائم على السرقة. لقد أرسلت النخب الحاكمة رسالة واضحة: لن نتنازل عن غنيمتنا. السيادة ليست للشعب، بل لأولئك الذين يسيطرون على البنوك والميليشيات وموارد النفط. لقد تحولت الدولة من مفهوم "احتكار الشرعية في استخدام القوة" (كما عند فيبر) إلى "احتكار استخدام القوة لحماية عملية السرقة".

المحور السادس: العقل المصادَر والثقافة المُدجَّنة – سرقة المستقبل

أخطر ما في عملية السرقة الشاملة هذه هو أنها لم تستهدف المال والسلطة فقط، بل استهدفت العقل نفسه. لقد عملت الأنظمة المتعاقبة، وخصوصًا نظام ما بعد 2003، على تدمير النظام التعليمي والثقافي، وتدجين النخب المثقفة، أو تهجيرها، أو قتلها، لضمان عدم وجود أي صوت حر قادر على تحدي نظام السرقة.

الجامعات العراقية، التي كانت يومًا منارة للعلم في المنطقة، تعيش اليوم حالة انهيار بنيوي مروعة. كما يشير تقرير لليونسكو، فإن "العراق فقد أكثر من نصف كفاءاته الأكاديمية والعلمية منذ عام 2003 نتيجة للعنف الطائفي والتهجير والاستهداف الممنهج والهجرة الجماعية للعقول" (UNESCO, التعليم في العراق: التحديات والفرص، 2018، ص 17). لقد تم استبدال أساتذة الجامعات بالكفاءة والخبرة، بآخرين على أساس الانتماء الحزبي أو الطائفي. تحولت الجامعات من مراكز لإنتاج المعرفة إلى ساحات للصراع السياسي والمحاصصة.

النخب الثقافية والإعلامية، بدلاً من أن تكون صوتًا للضمير الجمعي ورقابة على السلطة، تحول جزء كبير منها إلى أبواق لتبرير الفساد وتمجيد الزعماء الطائفيين. إما خوفًا، أو طمعًا في منصب أو ريع. لقد تم اختطاف الخطاب الثقافي وتحويله إلى خطاب طائفي مقيت، يكرس الانقسام ويبرر السرقة تحت شعارات مزيفة عن "المظلومية التاريخية" و"الحقوق الطائفية".

بهذا المعنى، لم تُسرق الدولة الحالية فقط، بل سُرق مستقبل العراق. لقد سُرقت العقول التي كان من المفترض أن تعيد البناء، سُرق الإبداع، سُرق الأمل. لقد حولت آلة السرقة العراق إلى دولة بدون مشروع وطني، بدون رؤية للمستقبل، تعيش على إرث الماضي وتأكل نفسها في حرب الجميع ضد الجميع.

المحور السابع: الأمل المؤجَّل – انتفاضة الشباب كمحاولة لاستعادة الوطن

ورغم كل هذا الظلام، يبقى جيل انتفاضة تشرين 2019 شمعة أمل متقدة. هؤلاء الشباب والفتيات، الذين لم يعرفوا سوى دولة الفساد والمحاصصة، خرجوا إلى الساحات وهم يرفعون شعارًا بسيطًا في شكله، وجوديًا في مضمونه: "نريد وطن".

هذا الشعار لم يكن مجرد هتاف عابر، بل كان إعلانًا وجوديًا، بيانًا سياسيًا كاملاً موجزًا. كان رفضًا صريحًا لكل معادلات النظام القائم: رفض للطائفية، رفض للمحاصصة، رفض للفساد، رفض للتبعية، رفض لثقافة "الزبونية" و"الرعية". لقد قالوا بوضوح: نحن لسوا رعايا لأمراء الحرب، ولسنا زبائن في سوق الولاءات الطائفية، نحن مواطنون نريد دولة.

لقد أعاد هذا الجيل تعريف المقاومة: ليست مقاومة المحتل بالسلاح فقط، بل مقاومة النظام الفاسد بالكلمة والسلمية والتضحية بالدم. لقد قدموا نموذجًا للعراق الذي يحلمون به: عراق المواطنة، حيث يتساوى الجميع أمام القانون، حيث الهوية الجامعة هي الانتماء للوطن لا للطائفة، حيث الثروة توزع بعدل، حيث السيادة للشعب.

رغم أن الانتفاضة أخمدت بعنف، ورغم استمرار النظام القديم، إلا أن هذه الصحوة الشبابية أحدثت شرخًا في جدار الخوف، وزرعت بذرة التغيير. لقد أصبحت "ساحات التحرير" رمزًا لاستعادة الفضاء العام، واستعادة الحق في الحلم. إنهم يمتلكون السلطة الأخلاقية، وهم ورثة الشرعية الحقيقية للدولة التي يجب أن تكون.

الخاتمة: نحو استعادة الدولة – معركة الوجود والهوية

محنة العراق ليست قدرًا محتومًا، ليست لعنة تاريخية لا فكاك منها. إنها نتاج مسار سياسي واجتماعي خاطئ يمكن تصحيحه. استعادة الدولة المسروقة ليست مهمة مستحيلة، لكنها معركة وجودية طويلة الأمد، تحتاج إلى إرادة سياسية وشعبية وجهد منظّم. إنها تبدأ من إعادة تعريف الدولة نفسها: من كونها غنيمةً تُقتسم، إلى كونها عقدًا اجتماعيًا بين مواطنين أحرار، يوظفون سلطتها لخدمتهم.

هذه الاستعادة تتطلب، على أقل تقدير، العمل على أربعة مسارات متوازية وجذرية:

1.  إصلاح سياسي جذري: يبدأ بإلغاء دستور المحاصصة الطائفية وكتابة عقد اجتماعي جديد يقوم على مبادئ المواطنة الكاملة والفصل الحقيقي بين السلطات وتداول سلمي للسلطة. إصلاح النظام الانتخابي ليكافح  الزبائنية  ويمنع وصول الفاسدين. تفكيك الميليشيات ونزع سلاحها وإخضاع الجميع لسلطة الدولة القانونية.

2.  إصلاح اقتصادي هيكلي: كسر التبعية الشاملة للريع النفطي الذي يمول الفساد ويشوه الاقتصاد. تنويع الاقتصاد، ودعم القطاعات الإنتاجية (الزراعة، الصناعة، السياحة)، ومحاربة اقتصاد الريع والفساد. إعادة توجيه ثروة النفط لبناء بنية تحتية حديثة وتطوير التعليم والصحة، وليس لتمويل شبكات المحاصصة.

3.  إعادة الاعتبار للمواطنة: نزع الطابع الطائفي والإثني من هوية العراق الرسمية والشعبية. بناء هوية وطنية جامعة تعلي من شأن الانتماء للعراق فوق كل انتماء آخر. إصلاح النظام التعليمي ومناهجه لتعزيز قيم التسامح والمواطنة والتعددية. محاربة خطاب الكراهية والتمييز بكل أشكاله.

4.  تمكين المجتمع المدني: دعم منظمات المجتمع المدني المستقلة، والنقابات، والإعلام الحر، كقوى رقابية مضادة للفساد والاستبداد. خلق فضاء عام حر يكون فيه الحوار والنقد ممكنًا. حماية الحريات الأساسية، خاصة حرية التعبير والتجمع السلمي.

كما تؤكد الأمم المتحدة نفسها، فإن "تحقيق أهداف التنمية المستدامة في العراق، وضمان مستقبل مستقر له، مشروط تمامًا بالإصلاح السياسي الجذري وإنهاء الفساد البنيوي ونظام المحاصصة" (UNDP, Sustainable Development Goals in Iraq, 2021, p. 12).

استعادة الدولة العراقية ليست مشروعًا سياسيًا أو اقتصاديًا فحسب، بل هي معركة وجودية من أجل أن يمتلك العراقيون وطنهم من جديد. هي معركة من أجل أن تتحول الدولة من أداة للسرقة إلى أداة للتحرير، من أداة للقمع إلى أداة للخدمة، من أداة للتفكيك إلى أداة للبناء. إنها المعركة التي ستحدد مصير العراق لأجيال قادمة، وهي معركة لا بد أن تنتصر فيها إرادة الحياة.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الإنسان

.....................

المصادر:

1.  حنّا بطاطو، الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية العراقية، ج1، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1992.

2.  برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، التنمية البشرية في العراق، 2002.

3.  UNICEF, Iraq Child and Maternal Mortality Survey, 1999.

4.  بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، التقرير السنوي 2019.

5.  البنك الدولي، التقرير الاقتصادي للعراق، 2020.

6.  بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)، تقرير حقوق الإنسان -- تشرين الثاني/نوفمبر 2019.

7.  UNESCO, التعليم في العراق: التحديات والفرص، 2018.

8.  Transparency International, Corruption Perceptions Index 2022.

9.  برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP), Sustainable Development Goals in Iraq, 2021.

10. علي الوردي، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، عدة أجزاء.

11. فالح عبد الجبار، العراق: الدولة الطائفية والمجتمع الديمقراطي.

12. عزيز الحاج، العراق دولة الميليشيات: من الاحتلال إلى داعش.

13. تقرير منظمة العفو الدولية، العراق: انتهاكات النظام القضائي وحقوق الإنسان، 2020.

14. تقرير البنك الدولي، فجوة التمويل والفساد في إعادة إعمار العراق، 2021.

غابت منهاره حالة التصدر الاتباعية الاسقاطية "النهريية" بتشبهاتها النمطية الغربية الاوربية عموما، وتفرعاتها وماكان يبدو مناقضا لها من زاوية ماعرف بالنزوع "التحرري" الاشتراكي والقومي، وهو ماقد وقع من دون ملاحظة او اشارة مصدرها الواقع، الى الفشل على ضخامته اذ كانت وظلت عملية الانهيار الصامت، هي الممكنه الغالبة بالدرجة الاولى لانها من دون مرتكزات ذاتيه او مبنبه على موضوعات نابعه من واقع متحرى عنه ومكتشف، ماقد كرسته الاحالة غير المعلنه الى المصدر البراني من النموذجية الاوربية الغربيه المرافقه للفترة المصنعية من الانتقال الالي، وماقد حل به من تراجع، هو اصلا غير معلن عنه مابين اوربا بغربها وشرقها الذاهب لانهيار بنيته التوهميه الراسمالية / الاشتراكية، والموضع القيادي الجديد الامريكي، فحيازه الموضع المفقس خارج رحم التاريخ الامريكي للغلبة، هو كحالة متصدرة لاحقا، دلاله كبرى على لاواقعية وتوهميه النموذجية الغربية بظل الانقلاب الالي بصيغته الابتدائية، وعلى تعدي الانقلاب الحاصل لممكنات الوعي والنموذجية الاوربية، ومع هذا وجدت امريكا في المنظور الغربي الاوربي ونموذجيته، مادة للاستعمال باعتبارها الحداثية الغربية بحيث ظل التراجع النموذجي الغربي خارج البحث ومايزال.

والذي يلفت النظر هنا، هو ظاهرة استثناء لم يجر التوقف عندها او ملاحظتها كما يجب، تلك هي ظاهرة " الدولة / البئر" التي من شانها ان تذكرنا بالخصوصية النهرية والنموذجية النهرية التاسيسية، ولم يسبق ان تساءل احد من فطاحل" مفكري" النهضة والحداثة الايديلوجية، لماذا وجد النفط في هذه المنطقة بالذات متخذا شكل الريعيه التي تقيم دولة غيرمحكومة للانتاجية المجتمعية، وكأنها شكل التجلي اللاحق على النهري الذي بدا ينتبه للغرب ونهضته مع القرن التاسع عشر، بما يضعنا امام متوالية تقابل، الدولة النهرية مقابل (الدولة الامه الاليه الاوربية) على الطرف الاخر من المتوسط، ودول ريعيه نفطية، مقابل الانتقالية الى المجتمعية المفقسه خارج الرحم التاريخي، وهو مايمكن ان ندلل عليه بالظواهرالتي تحتل موقع العنوان المرحلي، بوضع محمد علي مقابل محمد بن عبدالوهاب ومآلات كل منهما وتبدلاته لما يخالفه ومن غير جنسه، مع ذهاب مصر الى "اللانيلية" وذهاب السعودية من الاستعادة في غير اوانها للابراهيمة الختاميه في مجتمع لادولة محارب، الى دولة ريع نفطي بعدان جلب ال سعود المهزومين على يد محمد علي، والمنفيين اللاجئين في الكويت ليصبحوا حكاما نفطيين، يعيلون مجتمعهم ويستعملون العقيده كايديلوجيا.

لم تعد مصر كما قال عنها مصيبا هيرودوت "هبة النيل"، فالنيل راهنا راح يفقد دينامياته، الى ان وصل حدا لم يعد له معه اي فعالية، من جهة بسبب التزايد غير العادي في عدد السكان، ومن جهه بسبب الاليلات المستعملة تشبها بالغرب، ومن باب الرغبة في التطابق معه نموذجيا، الى ان وصل الامر مؤخرا وبعد انتفاضة من نوع تلك التي عرفها هذا الموضع عام 2011، الى انقلاب بنية الدولة التاريخيه باضطلاع" الجيش" المرتكز الاساس لبنيه الدولة التاريخي في هذا المكان لاكمحرك بناء بل كاداة حكم (2) بالمقابل اصيبت الفعالية النهرية الازدواجية في ارض مابين النهرين بانقلاب اختلالي فاصل، نقل الديناميات الفاعلة من حالة العيش على حافة الفناء نتاج المجافات البيئية ومخالفة النهرين للدورة الزراعية، عدا انفتاح الجهات الثلاث العيا للانصبابات السلالية، وللدول واشباهها، الى نوع اخر من العيش على حافة الفناء، نجم عن الافنائية الغربية الممارسة ضد هذا الموضع من المعمورة منذ الاحتلال الانكليزي، وصولا الى الامحاء العسكري الامريكي الاخير، بعد ما صار وجود هذا الكيان مستحيلا لمخالفته الاشتراطات المستجدة المرتكزة الى "دول الابار" كنوع كيانات متناغمه مع الديناميات المفروضة امريكا على المعمورة، فالموضع المعروف بالعراق هو بلد نفطي مضاد للاستراتيجيات الريعية الابارية كينونه، وبفعل كونه ازدواجا تاريخيا، فالريع النفطي فية يستعمل كاداة اصطراعية من قبل الجانب الارضوي من الازدواج المجتمعي، مايفرض عليه بفعل قوة الدفع المضاد من اسفل، الى تعزيز بنية الكيانيه من اعلى، الامر المخالف كليا للمطلوب من الريعية على مستوى المنطقة اليوم، وهو ماقد دفع بامريكا لمحوه من الوجود بانقاق مايزيد عل 2،4 تريليون دولار امريكي، الدول الريعيه الابارية اسهمت فيه كشرط لتسيدها كنموذج" حداثي" استمراري مابعد حداثي اوربي.

(تفيد بيانات البنك المركزي المصري حول تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى مصر عام 2023/2024 إلى دخول 56.6 مليار دولار تدفقات داخلة و10.5 مليار دولار تدفقات مصرية خارجة ليصبح صافي تدفق الاستثمار الأجنبي لمصر 46 مليار جنيه منها 39.4 مليار دولار للدول العربية وبلغ صافي الاستثمار الأجنبي المباشر للإمارات 37.6 مليار دولار وهي تشكل 82% من إجمالي صافي تدفق الاستثمار الأجنبي الي مصر وتمثل 95% من الاستثمار الأجنبي للدول العربية في مصر.

تتعدد تقديرات قيمة الاستثمارات الإمارتية في مصر وعدد شركاتها العاملة في مصر والتي لا تقل عن 1250شركة وقد تصل الي 1941 شركة. كما بلغت الديون الإماراتية لمصر 22.2 مليار دولار حتى عام 2023. ذلك بخلاف مشروع رأس الحكمة والذي قدرت تكلفته الأولية ب 35 مليار دولار ومتوقع ان تصل الي 180 مليار دولار عند اكتمال المشروع)(3).

مصر بتاريخها وحجمها هي ملك جهة متشبهه بالدول، بئر افتراضي بلا وجود ولا اساس مجتمعي، فهي لم تتطلب 2،4 تريليون او اقل او اكثر كي تزول من المشهد وتغدو خاضعه لطور البئري من الزمن الالي وانعكاساته الحالة على المكان، مع كل توهمات حقبته الاولى الاوربية ومقابلها تهويمات محمد عبدة والافغاني التي لم يتوان احد المعدودين من اهم الدارسين ا لمايعرف بالنهضة الزائفة عن ان يعتبرها " نبوية" (4) بينما الانتقال من التخاريف المزرية النهضوية، الى الحقبة البئرية ماتزال مثل الحال الامريكي مع المنجز الاوربي، غير منظورة، وبلا ايه انتباهه من اي نوع كان، حتى ولو ان دول الآبار ارادت علنا وعلى رؤوس الاشهاد استبدال برج بابل ابو الابراج على مستوى المعمورة ببرج زايد الموضوع برانيا وبقاعدة وجهد المليارديرات البهودية، ولعلها تفكر مع الاستحالة العملية اقامه " اهرامات ريعية، وهذا كله بلا ادنى اعتبار من اي نوع كان للديناميات الشاملة، فضلا عن الذاتيه المتعلقة بالانتقال البشري المجتمعي من اليدوية الارضوية الى مافوق ارضوية، الغرض الذي يستمر النكوص دونه عقليا بالذات من قبل امريكا التي لاتملك الحد الادنى من القدرة على الاجابة عن السؤال الحاسم الانتقالي التحولي، وهي لاتجد امامها اخيرا، ومع اقصى حالات ترديها الانحطاطي الترامبي الراهن، غير "الابراهيمه" المنقضية الدور والفعالية التي قامت من حيث التاسيس ككيانيه مرتكزة اليها(5) اصلا، يوم كان اوائل المهاجرين على سواحل القارة الجديدة، (6). ومع التشابه الكينوني بين دول الابار والكيانيه المفقسه خارج الرحم التاريخي من حيث انعدام الاصول، والانقطاعية المجتمعية، تعود اللاارضوية الابراهيمه الزائفة بعد النهضوية الزائفة، بصيغتها التوهمية الاقصى، لتغدو الفكرة العائدة الى الطور اليدوي، المصدر الذي منه تستمد مبررات الوجود والكيانيه على مستوى المعمورة التي انتقلت الى الالة ومعها حتمية الانتقال الى المجتمعية التي من نوعها.

***

عبد الأمير الركابي

 

" خبزٌ مُغموسٌ بالدماء الساخنة".. أبشع مشهد قد تراه على مدار السنوات الأخيرة. هكذا تداول الاعلام صوراً لأرغفةٍ من الخبز ملطخة بدماء الفلسطينيين. هي دماء الأطفال والنساء تحت نيران الإبادة الجماعية في غزة. وقع حاملو الخبز البؤساء ضحايا لقنص صهيوني مباشر، حيث اختلطت الدماء بنسيج الخبز البادي للعيان. مشهد أثار لوناً من الاشمئزاز وضربة صادمة لوعي الأحرار في كل مكان. المشهد عملية تجويع وقتل بيد جنود الاحتلال المجرم. ولكن تمّ اخراجه صمتاً من العالم، وبلغ معناه لكل المتابعين بلا مونتاج. فمن حُسن الطالع أنَّه لا أحد يتحكم في دلالة الأحداث، ولا بإمكانه أنْ يحُول دون آثارها. تداعيات الأحداث تتسرب حيثما شاءَت إلى العقول والمشاعر.

الخبز كأنّه معجون بدماء أُناس من شحمٍ ولحم. صورة زاعقة الاجرام، وهي الأقوى سياسياً واخلاقياً إذا وُجدت ضمائر يقظة. لم تكن الصورة متخيلةً ولا متوقعةً في يومٍ من الأيام. خطت الدماءُ فوق الأرغفة (عبارة من الصراخ الأحمر) أمام العالم: أنَّ الاحتلال تجاوز درجة الوحشية المقيتة. الصورة تُعبر: كم باتت الإنسانية تُداس تحت الأقدام والنعال. ولا أمل في افلات ابناء غزة من الإبادة بعبارات الشجب والاستنكار. لقد امتد التواطؤ مع الاجرام الاسرائيلي إلى القريب والبعيد. ما ذنب أطفال ينتظرون بعض الخبز حتى يتم تفجير أدمغتهم؟! ما مصير أمهات يخطفن أرغفة سوداء ويكون الغموس دماءهن الحيّة؟

لكلِّ صورة عنوان إلاَّ هذه الصورة وحدها جاءت بلا عنوان. لأن التاريخ يوثق الصور ويضعها مباشرة في مقدمة المشاهد. فقط قال (خبز الدماء) تحت عيون كافة الشعوب: إنَّ أوقح وأقذر آلة حربية قاتلة اسمها اسرائيل. دولة أُسست من سراب وتجسدت في ظلام التاريخ الدامس، ولدت قزماً سياسياً تحت المجهر لتتضخم بين ليلة وضحاها إلى كائن عملاق. أرأيتم دولة من عدمٍ جاءت وستؤول إلى العدم كذلك؟! لكن متى..، وكيف..، وبأية وسيلة؟! لا أحد يعلم الإجابة. ثمة سرديات دينية وأخرى سياسية تنسج ( قصص النهاية). وترسم اسكاتولوجيا (أخرويات) السياسة الإجرامية لاسرائبل كذيل للقوى العظمى في المنطقة. ولكنها سرديات تتكيء على الخيال وتطلق أبخرة من محرقة البؤس الذي يعيشه العرب. فكانت سرديات معبرةً عن الفشل لا القوة، وأحدثت لدى الأجيال المتعاقبة ضبابية الرؤية لا وضوح الغاية.

لأول مرةٍ في التاريخ المعاصر أنْ يكون الخبز طُعماً لقتل البشر وإراقة دماء الأبرياء. وهو شطر المعادلة الأصعب في دولة الاحتلال المجرم. سأجوعك حتى النهاية، ولتذهب أنت للاتيان بالطعام حتى أقتلك، ولتكن دماؤك على الملأ نازفة من أحشائك.. ومع ذلك لن تجد من يأخذ بيدك أو من يداوي جراحك، وسنحقق نحن ما نريد من نثر اشلائك وتهجيرك إلى شتات الأرض.

تماماً السيناريو مرسُوم ومخطط له سلفاً ويعرف المجرمون في أورشليم وواشنطن وبعض عواصم العرب كيف تدار الأمور. مثل قتل الحيوانات التي يتم اصطيادها حين تخرج بحثاً عن الطعام هنا أو هناك. استعمال الفخ نفسه الذي تصطاد به الحيوانات المفترسة ضحاياها الجائعة في الغابات والسياسة جنباً إلى جنب. لا فرق كبير بين أحراش امريكا الهنود وأحراش غزة، الصيادون هم أنفسهم يركضون ليل نهار خلف الضحايا. أحياناً تحمل الصور دلالتها النوعية، ولكن بعض الأعمال الوحشية( مثل الإبادة الجماعية) تضم الممارسات المتماثلة إلى بعضها البعض، سواء أكانت الإبادة ضد الإنسان أم الحيوان!!

منذ يومها الأول، زُرعت اسرائيل كدولة شاذة جيوسياسياً في ضوء مصادرها الكولونيالية. دولة مؤلفة من كومة جرائم ضد الإنسانية، لكنها تصدرت- مع الوقت- المنصات والاجتماعات والمؤسسات ذات الصبغة العالمية. أوجدت لها موطىء قدم في حكومات الدول المؤثرة وأقامت لوبيات لدى الاحلاف وأصبحت رقماً بين صانعي القرارات الدولية. حقيقي لم تكن الدولة الصهيونية شيئاً ذا بال في تراث العالم الحضاري ولا السياسي، ولكنها أضحت متواطئةً مع كل القوى الكبرى. تاريخ اسرائيل مُشبع بدماء الشعب الفلسطيني النازف. يستحيل التأريخ لآثار الموت في منطقتنا العربية دون المرور بجرائم أبناء صهيون. يمر خط الموت والدماء المُراقة يومياً من هناك إلى أي مكان آخر مثل مرور أنابيب النفط إلى دول الغرب. اسرائيل أكبر سلة مهملات كولونيالية في خريطة الدول المعاصرة. ورثت كل أساليب الوحشية والتدمير من سابقاتها.

الذهنية الكولونيالية لم تمت بين ركام التغيرات والأحداث العالمية، لكنها تحولت في أشكال من التوحش السياسي المتأخر. ليس العنف الاسرائلي وليد الصدفة ولن يكون، ولكنه ميراث طويل الترويض عبر واقع الحال وعبر أحدث التقنيات والخطط البديلة. وها هي دولة الاحتلال تمارسه طوال الوقت دون رادع من قيم أو اخلاقيات. بل كيف نناشد أخلاقاً أو مواقف إنسانية وهي منعدمة في صلب الكيان الصهيوني؟!! يعرف القاصي والداني: كيف تشكلت عصابات الصهيونية في بداية غرس بذرة الوطن القومي لليهود. البذرة كانت هجينة ومهندسة كولونيالياً ورفضها كامل التراب الفلسطيني، لأنها غريبة عنه ومازالت، ولكن القوى الاستعمارية أصرت وقدمت كل الدعم حتى تضرب بجذورها عبر فلسطين التاريخية. المعادلة أنَّ اسرائيل التاريخية تقوم على انقاض فلسطين التاريخية بالتبعية. معادلة إزاحة واحلال السكان الأصليين لا شيء آخر. المعادلة التي تناهز قرابة المائة عام الماضية للاستيلاء على فلسطين.

من يخبر الاحتلال أن الخبز لدينا نحن البشر هو الحياة؟ يعادل كل العمل الذي يقوم به الإنسان. نقول إزاء بعض الأعمال: الأمر أكل عيش. ولكن من سخرية العيش بين الأوغاد: أنْ بات الخبز لأهل فلسطين الجريحة (ذروة الأمل وعمق الألم). الأمل في أنْ يأخذ بأيدهم أقرب الناس ( العرب ). أن يمدوا إليهم يد الحياة في شكل عبوات طحين و مواد غذائية و معلبات. ولكن كل ذلك لم يحدث على نحو متواصل، نظراً لجرائم الحصار والاحتلال وعدم شعور البعض بالمسألة من الأساس. لعل اهدافاً كبرى وسط الهزائم الحضارية تتقزم في شكل كسرة خبز لا أكثر ولا أقل. وأن يتسول ابناء العرب في أية دولة من دولهم بقايا الموائد وفائض المعونات التي لا تسمن ولا تغنى من جوع. ومع ذلك لم تستطع دولة عربية واحدة اختراق الحصار الجائر على أهل غزة!!

أيقظت أرغفة غزة عيون الجوع مترامي الأطراف في وطننا العربي وإنْ كان الفلسطينيون  يحتلون قلبه. ليست هناك اختلافات كبيرة بين عرب وعرب إلاَّ في درجات" الجوع والتُخمة". في مجتمعات العرب، يمرح الجوع ليلاً ونهاراً، ثم يبات على اسرة من تراب البشر داخل  فلسطين.  في مجتمعات العرب أناس يتسولون على نواصي الأزقة والشوارع والساحات والميادين، بينما آخرون يعانون من السمنة المفرطة والولائم الأسطورية التي تعلوها الجِمال والأبقار والثيران المشوية. وعلى الصعيد السياسي، تحولت خريطة العرب إلى مائدة شهية أمام القوى العظمى. أخذ ملك أخر الزمان ( ترامب أمريكا) يحرك الخطوط يميناً وشمالاً وقد اقتنص اموال الجباية السياسية أضعافاً مضاعفة. وأعلن أن النفظ والثروات لا يجب أن تخرج من بين أنيابه. وأخذ يبتز الجميع ويزاحم أهل المنطقة العربية على مقدرات وحقوق شعوبها.

المشهد يثير أفكاراً بقدر فظاعة الدماء التي أريقت وبقدر التخلف الحضاري الذي نعيشه. لماذا لم نستفق نحن العرب حتى اللحظة؟ هل دورنا فقط في انشاء تكايا وأفران لطهي الطعام في أرض فلسطين التاريخية. اللافت أن يأتي اسم التكية عنواناً للطعام في غزة. التكية اسم استعماري أيضاً مرتبط بحقب الظلام والغزو لوطننا العربي من دولة الباب العالي. لأن استعمال كلمة "تكية"  استعمال تركي الأصل. وتدل على مكان استراحة أو مكان يتم الاعتماد عليه طلباً للإعالة والرعاية. وقد اشتُقت من الفعل العربي" اتكأ " بمعنى استند إلى. وقد انتشرت الكلمة في العصر العثماني للإشارة إلى مراكز خيرية واجتماعية لرعاية الفقراء والمحتاجين وعابري السبيل والدراويش والبهاليل.

ما الذي يتكيء عليه الفلسطينيون مقدساً كان أم سياسياً؟ تعلن التكايا - من طرف خفي- أن الفلسطينيين لا حق لهم في الأرض. وأن الغذاء مرحلة مجانية لثمن باهظ فيما بعد. وفي السياسات الكولونيالية لا شيء مجاناً. الطعام يبدأ بالتكايا والهبات والاغاثة وينتهي بالتهجير على ما يبدو. التكايا تجمع في حزمة احدة تاريخ (الاستعمار والتهجير)، بجانب ما بينهما من أعمال قتل وتصفية للقضايا الإنسانية والقيم والقوانين والحقوق. لندقق في الأمر جيداً: أهل الأرض يصبحون ضيوفاً على نواصي التكايا وأفران المساعدات. ماذا ينتظرون سوى الخروج إلى أية دولة أخرى؟

إن العقدة التاريخية لبني اسرائيل نتيجة الخروج من مصر الفرعونية ( أرض الأجداد ) ترسبت في الخلفية السياسية لهذه الدولة. ترسبت لدى كل قيادات الجيش والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية والمستوطنات والشعارات الصهيونية. بات الخروج من الأرض هو الهدف القاتل الذي يرونه مناسباً لأهل فلسطين كل فلسطين. ليست المسألة قضايا الضفة وقضايا القطاع، بل المسألة هي رسم سيناريو الخروج الجماعي للشعب الفلسطيني من أرضه أيا كانت. المقايضة أمست هي الرهان الخبز مقابل الحياة خارج الأرض أو الموت المباشر.

لو تمكنت اسرائل يوماً ما من خريطة اسرائيل الكبرى، فلن تفعل إزاء الشعوب العربية سوى آلية الخروج بالمثل. نقل تاريخ اليهود ذلك منذ نبوخذ نصّر في العراق حتى حروب اسرائيل الأخيرة مع مصر وفلسطين. كانت تأخذ الأرض ولا تقبل القسمة إلاَّ عليها منفردة. لم تعشْ اسرائيل بين جيرانها إلاّ مع تطبيق سياسات الخروج للشعوب الأخرى. إنَّ بني اسرائيل المعاصرين يعيدون كتابة التاريخ الذي سُلط عليهم كالسيف مع الدول التي حاربوها. التاريخ اليهودي يعود إلى الوراء، عوداً على بدءٍ. كلُّ آلة كولونيالية تعيد الماضي المتوّهم بصورةٍ من الصور التي تخدم أهداف أصحابها.

يسري في التكايا نفس صوفي قديم، أي نفس مقدس يحتمي به الإنسان من غوائل الحياة وشظف العيش. ولكن الفلسطينيين يذهبون إلى التكايا للاحتماء من جوع دموي قاتل. وكأنَّ المشهد يقول ليكن الطعام هو الطعام المقدس. ولكن استغلت اسرائيل الوضع لتقتل وتعبر بلغة الاجرام: أنه العشاء الأخير لكل فلسطيني يحاول الاتصال بأسباب الحياة في الأرض والسماء.  على طريقة الثقافة المسيحية استعارت النهاية الفاجعة لمسار الحياة. وهذا أمر فاق كل الحدود، لأنَّ القيم الدينية والإنسانية والقوانين الدولية تحمي الاغاثة وسط الحروب والصراعات المسلحة.

الذهنية الصهيونية كالفيرس الذي يضرب أي نظام يعمل بكل عدالة ونزاهة ويحقق الخير والرخاء لشعوب الأرض. ذهنية ضد العدالة أيا كانت العناوين التي تحملها، لا يعرف من يفكر بطريقة صهيونية عما يتكلم إزاء المعايير والحقوق. والموضوع عام لا يتجزأ أمام جميع الشعوب، سواء في فلسطين أم في غيرها من بقاع العالم. لأنَّ الإنسان واحد: لا يقبل أنْ تراق الدماء الحُرة إلاَّ على جثة الاحتلال، وأنّ كسرة الخبز المبللة بالدموع ستكون ناراً تحرق القاتل.

***

د. سامي عبد العال

إذا كانت المحاكاة والتشابه في الأفكار والتناغم في الرؤى والاتفاق في المقاصد يثبت وجود تواصل بين أذهان حكماء الشرق ومتفلسفي الغرب الأوائل وتأثر اللاحق على السابق منهم؛ فإنه يبرهن أيضًا على أن العقل الجمعي الذي استقوا منه جميعًا حكمتهم وآرائهم ونقودهم لكل ما يتعارض مع نسقية بنية أخلاقهم، هو نبع واحد وهو جوهر الحكمة ويقين الكمال والجمال الذي لا يدانيه شيء في السمو أو الرفعة في المقام لذا سوف نجد أثر ذلك في تماثل غرابيل حكماء مصر ونظائرها في الصين وفارس ومدارس الفلسفة في اليونان؛ فنجد فيلسوف الصين العظيم لا وتزو (604:531 ق م) يقول (إذا كان الطاو هو طريق الاستقامة والحق فإن الصدق بابه ومن اجتهد للوصول إليه ليسفر بالسعادة فعليه أن يتجنب الكذابين والمخادعين والمرتابين في طبيعة الطاو المستقيمة الخيرة فالفعل الصادق هو الدليل والبرهان على إخلاص النوايا وليس في الأقوال ولا تبني الشعارات ولا في التظاهر بالاستقامة فالطاو لا يخدع ولا يقنع إلا بالعمل). وعلى هذا الدرب يقول الحكيم الصيني الأشهر كونفوشيوس (479:551 ق م) (إن النفس الإنسانية تولد صفحة بيضاء أميل إلى الخير في طبيعتها وإلى الصدق في أخبارها وإلى العفة في سلوكها غير أن العادات والتقاليد السائدة تؤثر على هذه الفطرة وعليه فالكذب والرياء والنفاق والخيانة وما يلحق بها من رذائل تكتسبها النفس من بيئاتها) ويقول أيضًا (لما كان الصدق لا يمكن فصله عن استقامة الطبيعة البشرية وسعادتها في المستقبل فإن الكذب يفسد أصلها وتطورها ومن العسير أن تجد أثرًا للفضائل ولاسيما بين الكذابين والأدعياء والمنافقين).

وإذا ما انتقلنا إلى حديث نبي التوحيد في الحضارة الفارسية: زرادشت (551:628 ق م) نجده يستفيض في عرض عين المعنى مبينًا (إنّ الباحث عن الحق والنور والخير الأسمى سوف يجدهم في معيّة الصادقين بينما نجد الكذب لا يبرح مجالس شرار الناس فدستورهم هو الباطل والخديعة والخيانة. واعلم أن الصادق هو القوي الحريص على طهارته والغني بفضائله بينما الكذوب هو الذليل، وإن تجبر، وهو التعيس وإن تظاهر بالسعادة؛ فالشجاع يستمد قوته من صدقه مع ذاته أمّا المخادع فلن يجد في سريرته سوى الضعف والخوف والقلق).

وإذا ما انتقلنا إلى سقراط وأفلاطون سوف نجد كلاهما قد ربط بين استحسان العقل للصدق في رحلة البحث عن الحقيقة من جهة والشجاعة والحرية والكمال والجمال من جهة أخرى فجعلاه منهاجًا عمليًا تطبيقيًا لمعالجة الأزمات السياسية وتهذيبًا وتثقيفًا للمعارف التي يجب على المعلمين اتباعها في برامجهم التربوية لتخليص الأذهان من خرافات الأساطير بعد نقدها وأكاذيب الشعراء الخياليّة وادعاءات المروجين للأقوال السفسطائية وعلى الرغم من اتفاقهما على أن الكذب لا يحوي سوى الشر والإفك والزيف والتجديف وإضلال وعي الفرد وتقيد حريته وكمال ذهنه وإفساد المجتمع وتماسكه واستقامة حكامه وعدالة قوانينه بل والتجديف على عالم الألوهية أيضًا.

فاذا ما طالعنا آراء سقراط التي رددها تلاميذه من بعده فسوف نجدها تنطق بلسان محاوراته (فالكذب عنده يعبر عن مفسدة النفس والعلاقات بين أفراد المجتمع، وذلك بادعاءاته ودسه وخلطه وتزويره وتزيفه للحقائق وتشكيكه في قيمة الحكمة التي ينتجها العقل المستنير ورسوخ الفضائل في المدن الراغبة عن الرذائل، وأنه مفسد للعقول بإفراطه في القدح والمدح والنفاق والتهوين والتهويل. أمّا الكذبة النبيلة التي رددها تلاميذه من بعده فهي عنده لا تخلو من الشر المتواري وراء الحقائق المزيفة فمن ثم لا تبرأ من الشر والخديعة أيضًا حتى إذا كانت من أجل صالح الجمهور والحفاظ على الهويّة والإخلاص في حب الوطن).

كما بين أفلاطون أن هناك مواضع ومواقف يجب على قادة الرأي في المدن الفاضلة اتباعها منها مسايرة الجمهور فيما يعتقدون من أمور مقدّسة حتى إن كانت مخالفة للعقل أو لم يثبت صحتها أو صدقها كما يبيح صاحب الجمهورية اصطناع بعض الأكاذيب محدودة الشر لتهدئة النفوس الثائرة أو العقول الجامدة لأن تلك الأذهان غير مهيئة لقبول الحقيقة المقطوع بصحتها دفعة واحدة أو الاستماع إلى ما يخالف ما ورثوه من معارف، ورسخ في مخيلاتهم من معتقدات فها هو أفلاطون يقول (إن الكذب يكون جائزاً في الحرب لخداع الأعداء أو خلال الثورات أو هياج السوقة والحمقى غير المنضبط فالكذب يهدأ من روعة الغاضبين وكذا في تصور الوقائع التي يصعب على العوام إدراكها إما لقدمها أو لصورها التي لا تدركها العقول البسيطة أو الجاهلة ويضيف أن الصور التي نقلها هوميروس عن عالم الآلهة هي محض كذب؛ لأنها تسيء للدين وتحرض الشباب على الألحاد وعليه يجب إقصاء كل المزورين ومزيفي الأحداث التي تجري في عالم المثل وخارج أسوار المدينة الفاضلة).

ولم يخالف أرسطو (348:322 ق.م) أستاذه صاحب الأكاديمية فيما ذهب إليه تجاه حكمه على قيمة الصدق والكذب فقد ذهب المعلم الأول إلى أن الصدق وسط عادل وفاضل بين رذيلتين كلاهما كاذب (فالمبالغة والتعمية طرفين لحقيقة تبرأ منهما. وإن كان أرسطو ينحاز إلى المبالغة في مدح الأخيار غير أنه يقبل كل صور قدح الأكاذيب لعظم شرورها غير أنه يعود ليؤكد أن الرجل الصادق هو الذي ينتصر دومًا للحقيقة بمنأى عن أي شكل من أشكال المصلحة أو المنفعة حتى إذا كان المنتفع هو نفسه أو ذويه؛ فالرجل الصادق عنده هو الذي يُصرح بالحق ولا يكتمه بقطع النظر عن أن يكون هذا التصريح مخالف لوجهته أو  ضارًا لمنفعته.

ويقول أيضًا أن الشخص الشريف يقول الصدق دومًا وعليه يستحق المزيد من الإعزاز والاحترام).

***

تلك كانت أشهر أقوال حكماء الشرق وأكبر فلاسفة الغرب الأخلاقية الكلاسيكية التي أثرت بطبيعة الحال في جل خطابات التربويين اللاحقين عليهم في سائر الثقافات على تباينها واختلاف أزمانها والوعاظ والأدباء والمعلمين وأحكامهم على تلك الثنائية التي لعبت ومازالت تتحكم وتقود وتوجه أقوالنا وسلوكياتنا بل وجداننا ومشاعرنا أيضًا فعلى الرغم من تباين منابت الأفكار الرئيسة التي شكلت بنية خطاباتهم جمعيًا تجاه فضيلة الصدق ورذيلة الكذب؛ فإنها تحتاج إلى رياضة (قراءة القراءة) التي ينتهجها المتفلسفة المعاصرين في تحليلاتهم النقديّة وابداعاتهم التأويلية ومراجعاتهم النسقية.

فلا غرو فإن تلك الأقوال قد نجحت في جعل هاتين القيمتين التطبيقيتين (الصدق والكذب) بمثابة حصر الزاوية أو السياج الحاوي للمباحث الفلسفية الرئيسة (الوجود، المعرفة، القيم) فجعلوا الصدق هو جوهر الوجود والهويّة، وقرين الحقيقة والمرادف للمرايا العاكسة للواقع وهو أيضاً معيار صحة وسلامة التأملات والاستنتاجات والتجارب والتحليلات والتوقعات المخططة للمستقبل، ذلك فضلًا عن كون الصدق شقيق الخير، ورفيقاً للحب والوفاء، وتاجاً رفيعاً يتميز به الحكماء العاشقين للكمال والجمال والجلال؛ وهو أعلى درجات سلم الرقي إلى عالم المثل والنقاء حيث مقام الأرواح الخالدة والسعادة الدائمة بمنأى عن عذابات المادة وشهوات الجسد.

أمّا الكذب فقد جعلوه في آخر دركات الرذائل وأعمق أخاديد الخبث والدهاء، ليكون منبع الشرور التي يصطنع منها الشيطان وندمائه من البشر آلياتهم لتضليل العقول وإغواء الأنفس وإفساد الأذواق وثمل الأعين وإعماء البصائر عن سبيل الرشاد، ونشر الفتن والكراهية والتجديف والتحريف والتزييف، وغير ذلك من المهلكات التي حرص أولئك الحكماء على التحذير منها والسير في ركابها.

وعلى الرغم من ذلك التوافق النسقي في السرد، وذلك المضمون العقلي في الترغيب والترهيب، ووحدة المقصد في غاية كل الخطابات رغم تعدد منابت مصادرها؛ فإن الرؤية النقديّة تقودنا إلى الإشادة بعبقرية الحكماء التي قامت بتطويع خطاباتهم الوعظية لخدمة النهوج التربوية من جهة -التي يقوم بها الأبوين في البيت والمعلمين والمثقفين في المجتمع أيضاً - والطابع العام للفلسفات -الخاص لكل منهم على حدى - التي أنتجت ذلك الخطاب النقدي الرائع من جهة أخرى.

فاذا ما قمنا بتحليل الفكر المصري القديم حيث أقوال تحوت وقصص أيزوريس ونصائح أمحوتب سوف نجدها قد انطلقت من البنية الغنوصية الأسطورية ونجحت في بلورة خطابها الوعظي على نحو مفاده أن ما جاءت به تجاه الحكم على قيمتي الصدق والكذب ما هو إلا ترديد لصوت عالم الكمالات حيث الحق في ذاته والخير المحض الذي لا يرشد إلا للمصلحة والمنفعة في الدنيا ويمهد الطريق لمن يتبعهم إلى السعادة والهناء في العالم الآخر؛ الأمر الذي يتفق تمامًا مع الطابع الرئيسي لعقيدتهم التوحيدية وإيمانهم بالقدر وخيرية العمل والثواب والعقاب.

وقد سار على نفس النهج زرادشت ويرجع ذلك إلى قوة فكره العقدي المؤمن (بالتوحيد الإلهي) وعبقريته في تطويع النسيج الأسطوري الموروث الذي تحدث عن صراع الشيطان والخير (أهرمان وأهرمزه)؛ فجعل الكذب هو صوت أهرمان الشرير. أما الخير والصلاح والفلاح فيمثله أهرمزه. وعلى الرغم من براعة زرادشت وعقلانية خطابه إلا أن أثره لم يقدر على تبديل الفكر السائد المفعم بالصراع الدموي والمستغرق في الرذائل واللذائذ المادية.

وللحديث بقية لاستكمال قراءتنا لبنية خطابات حكماء الشرق وفلاسفة الإغريق الأخلاقيّة.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

مع النصف الثاني من الالفية الثانيه دخلت البشرية عصر التعبيرية "اللاارضوية الثانيه"  ـ العليّة ـ بعد الاولى الابراهيمه  الحدسية النبوية، الموافقه في حينه لاشتراطات تعذر التحقق اللاارضوي، والغلبة المجتمعية الارضوية الناجمة عن الطور اليدوي انتاجا، وبعد دورتين مرتا على موضع وبؤرة الاصطراعية المجتمعية الازدواجية ( الارضوية / اللاارضوية)، توفرت الاسباب الابتدائية، ماديا لانبثاق الانقلابية الاليه /التكنولوجيه على المنقلب الاخر من المتوسط،  بينما كانت الديناميات اللاارضوية سائرة الى الانبعاث، مجددا، ومرة اخرى ثالثه  اخيرة في ارض سومر "المنتفك"، مع القرن السادس عشر، من دون نطقية،  غدت اليوم بعكس الدورتين السالفتين السومرية البابلية الابراهيمه، والعباسية القرمطية الانتظارية، واجبه ومؤكدة، ولا مهرب منها اطلاقا، ما يعني  موافقتها، لاشتراطات التحولية الانتقالية الالية /التكنولوجية، من المجتمعية الارضوية، الى اللاارضوية العقلية فوق الجسدية، وهو ماتقع البشرية تحت طائلته اليوم مع انتهاء الانتاجية اليدوية.

هذا علما بان مسألة النمطية والنوع المجتمعي في منطقة الشرق المتوسطي، تلقي  وطاة ثقيله على الوعي واجمالي الادراكية، صارت  تتجلى بالذات منذ الانقلاب الالي على الضفة الاخرى الاوربية من المتوسط، ومانجم عنه من متغيرات وانعكاسات شامله على مستوى المعمورة، تجلت هنا مرفقة بوطاة غير عادية، فالموضع المنوه عنه هو موضع المجتمعية  البدئية، تتبلور بالذات نهريا، وليس هذا من قبيل الصدفة، او مجرد قضية عارضة تظل غائبة عن الانتباه  كمدخل يوجب القول "ان المجتمعات تبدا وتتبلور نهرية" في موضعين، ارض مابين النهرين، دجلة والفرات،  وارض النهر الواحد النيلية، وهنا عرفت كبداية، ابان المجتمعية اليدوية نتاج التفاعلية ( البشرية/  البيئية) بصيغتيها الابتدائيتين، التوافقية  البيئية ونتاجها مجتمع الدولة الاحادي  المصري، وحالة العيش على حافة الفناء مابين النهرينيه، التي تنتج مجتمعية اللادولة اللاارضوية السومرية، جنوب مابين النهرين، والتي تعود  وتنتج متشكلة في وقت لاحق، وبعد الانصبابات البشرية من الجهات المفتوحة شرقا وغربا وشمالا من الجبال الجرداء والصحارى، وما يطرا من الاصطراعها غير القابل للحسم مع المجتمعية الاولى اللاارضوية، حالة ازدواج كياني ارضوي لاارضوي عليا وسفلى، محكومة لقانون الدورات والانقطاعات، مقابل الاستمرارية الاجترارية، والدورة الواحده في وادي النيل.

ومما لاشك فيه ان ظاهرة المجتمعية وجدت منطوية على غرضية وهدف  موكول الى اجمالي كينونة بنيوية نمطية وآليات دينامية، وهو مالم يعد من قبيل الافتراض البحث فيه، خصوصا مع ما تمخض عنه العقل الاوربي ابان انبجاس الاله بين ظهرانيه كمبتدأ واشاره، مماصار معروفا من ديناميات الاصطراع الطبقي، وماقد تجسد حتى في "مادية تاريخيه" محتمه، سائرة نحو غاية بعينها، بغض النظر عن قصوريتها ومحدودية منطلقها كنمطية مجتمعية ونوع، هو بلا شك الاعلى ديناميات ضمن صنفه المجتمعي الارضوي، كان متوقعا مع الانقلابيه الاليه وفعلها التغييري  غير العادي، ان تذهب الى مقاربة الخروج من وطاة احدى اخطر واهم الخاصيات الملازمه للعقل ابان الطور اليدوي،  متمثلة في القصورية المانعة للعقل دون ادراك الحقيقة المجتمعية، نوعا واليات ومستهدفات. الامر الذي فتح الباب امام امكانيه تجاوز القصور الادراكي الاشمل، مابعد الطبقي المحدود نمطيا، الى الاعم الشامل الاعلى، المتوقف تحققه على اكتمال اسباب التحولية الالية/ التكنولوجيه، مع انتقالها من الاشتراطات "الطبقية" الابتدائية، الى "المجتمعية" واصطراعيتها التاريخيه.

فالانتقال من الطور الانتاجي اليدوي مجتمعيا، لايتحقق بكامل معطياته وعناصر تحققه فورا ومنذ البداية، بالاخص وهو يبدا في موضع ارضوي مجتمعيا، بغض النظر عن ازدواجيته الطبقية، مع ارتفاع مستوى دينامياته، مضافا اليها الدفق الذي يمنحها اياه حضور الالة المسرع بوتائر عالية  للغاية  للتفاعية المجتمعية، وماينجم عنها من حضور غالب تصورا افتكاريا ونموذجا كيانويا ومجتمعيا، مع الميل للتسيد والاستغلال، وتكريس المركزية بظل غياب الفعالية الفكرية والنموذجية على مستوى المعمورة التي ماتزال تحت طائلة وهيمنه اليدوية، بما يجعل من الميل للتماهي مع النموذج الغالب باعتباره الاعلى والمثال، خاصية عامه ماعدا حالات استثناء،  لم تخرج هي الاخرى عن اسس المروية البرجوازية الاليه الاوربية الغربية الاساس بل ارتكزت اليها من باب منح نموذجيتهاصفة الاصالة المضادة(1).

فاذا تعلق الامر بالمنطقة المقابلة لاوربا على الطرف الاخر من المتوسط، اي منطقة الانصباب الشرقي الغربي التاريخي، والاختراقية المضادة ومثالها الابراهيمي، فان الحاصل وقتها لايخرج عن الغالب لهذه الجهه عموما بما يتعلق بالرؤية والنظر، بالاخص بالنسبة لمنطقة تفتقد لرؤية الذات والاخر، تعيش حتى حينه طورا من الانحطاطية التاريخيه الدوراتية بمعناها وحضورها الاعم، ماقد جعل من غير المستبعد ان يسود الميل الى التماهي مع النموذج الغربي الاوربي باسقاطه على الواقع المتوقفة دينامياته، وبالذات في المواضع "النهرية" التاريخيه، وفي المقدمه منها ارض ال" الكيانيه/ الوطنيه"، و " الدولة/ الامه"  الاعرق، بلاديناميات، مصر التي وجدت نفسها الاقرب الى الالتحاق بالنموذجية الاوربية الاليه كما هي قائمه، معززة ذلك بنمطية تفكير التحاقي اسقاطي، لم يكن ثمة مايمنع من اعتباره دالة على "النهضة".

***

عبد الأمير الركابي

صَرف المؤرخ العراقيّ جواد عليّ (1907-1987) نصف عمره تماماً، ليثبتَ أنَّ العربَ قبل الإسلام ليسوا «جاهليَّةً» بمعنى «الجهل خلو النّفس مِن العِلم» (الزّبيدي، تاج العروس)، ومؤرخنا لم يفصح عن قصدهِ بالعبارة، لكنّ قارئ «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (عشرة مجلدات) سيستشفّها مِن المقدمة، مع العِلم أنَّ ما اصطلح عليه بالجاهليَّة يشمل أمماً وحضارات يُتغنى الآن بها مِن سومر وبابل وسواهما.

أشار الشّريف الجرجاني (ت: 816هج)، وأخذها مِمَن سبقه، إلى: الجهل البسيط: «عدم العِلم عمَّا شأنه أنْ يكون عالماً»، والمركب: «اعتقاد جازم غير مطابق للواقع»، والتّعريف العام عنده: «اعتقاد الشّيء على خلاف ما هو عليه» (التّعريفات).

هذا ما نفاه «مفصل» جواد عليّ، بما أظهره مِن آداب وفنون وصناعات مِن أقدم العصور وحتّى قُبيل ظهور الإسلام، لا ينطبق عليها قول: «خلو النّفس مِن العِلم»، وكان رداً قاطعاً على مَن فسر مصطلح «الجاهليَّة» القرآنيّ بـ«اعتقاد الشَّيء على خلاف ما هو عليه»، فأظهر واقعه، أما المصطلح فيعني شيئاً آخرَ يتعلق بالدّين وليس بالحياة.

فاستبدال كُنية عَمرو بن هاشم المخزوميّ (قُتل: 2هج) أبي جهل بأبي الحكم (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف)، لا تعني الجهل المقصود ضد العِلم على العموم، وإلا كان أحد دهاة زمانه، بينما نجله عكرمة قُتل محارباً مع المسلمين، وظل اسمه عكرمة بن أبي جهل (ابن سعد، الطّبقات الكبرى)!

ما تقدم كان تمهيداً، وعذراً لمقال أخصصه عن «الجهل»، وتشجعتُ أكثر عندما اطلعتُ على كتاب لبيتر بيرك بعنوان «الجهل تاريخ للظاهرة مِن منظور عالميّ»، نشرته دار «الرّافدين» العراقيَّة، وترجمه السُّعوديّ بدر الحربي. استخدم الجهل مادة للبحث بدلاً مِن المعرفة، مُعرفه: بـ«عالم عدم المعرفة»، المعنى نفسه في الأدب العربي القديم «خلو النّفس مِن العِلم»، مثلما تقدم. لستُ بصدد عرض الكتاب، إنَّما الإشارة إلى تلميحه لِما يجري اليوم، وهو توظيف «الجهل» ظاهرةً مقصودةً.

فما حصل هذا العام، على وجه الخصوص، مِن غرائب الطُّقوس، وبهذا الهبوط، وإشاعتها بمراكز العواصم الأوروبيّة، لا يخلو بمكان مِن القصد، نوعاً مِن الاستعراض السّياسيّ لرد اعتبار لفشل نظريةٍ أو سياسةٍ، ديمومتها مشروطة بالحِفاظ على جهل الجمهور. صحيح أنَّ الصّحوة الدّينيّة، بعمومها، أسست لجهلٍ قامع للتفكير العلميّ، وخصوصاً في التَّربيَّة والتَّعليم، لكنه برز متضخماً في الآونة الأخيرة، بلا استنكار، وكأنّ الحياة طبيعتها مناصفة بين الجهل والعقل، والجهل طاغٍ، حتَّى إنّ شعوباً أخذت تخوى خواءً أخيراً.

نعم كانت الظَّاهرة قديمة، وتناولها شعراء العصور كافة، لكنْ ليست مثلما يجري الآن، فكان عذر شيوع الجهل قديماً عدم شيوع المعرفة، وأبسطها القراءة والكتابة، فما العذر اليوم، والذَّكاء الاصطناعي، وهو آخر ما أبدعه العقل البشريّ، صار مقاسمة بين الجاهلين والعارفين أو العالِمين؟

 صحيح ليس في الشّعر العربيّ غرضٌ عنوانه «الجهل»، مثل: الحبِّ والهجاء والرِّثاء، غير أنّ ما قيل يُعدُّ دعوةً صريحةً للمعرفة. بهذا الغرض، يسترعى الانتباه بيتَ الشّريف الرّضي (ت: 406هج): «لما رأيتُ جنودَ الجهلِ غالبةً/ والنَّاسُ في مثل شدقِ الضَّيغمِ الضَّاري»، وما أجاد به أبو العلاء المعريّ (ت: 449هج): «لما رأيتُ الجهلَ في النَّاسِ فاشياً/ تجاهلتُ حتَّى ظُن أني جاهلُ»، وترى المعريّ منافحاً عن العقل، أو محفزاً لمن هو «بحاجة إلى لذة اليقين»: «أراك الجهلُ أنَّك في نعيمٍ/ وأنتَ إذا افتكرتَ بسوءٍ حالٍ»، وكيف يكون الأفوه الأوديّ (قبل الإسلام) جاهلاً وهو القائل: «لا يصلحُ النَّاس فوضى لا سُراةَ لهم/ ولا سُراةَ إذا جُهالهم سادوا/ والبيتُ لا يُبنى بأعمدةٍ/ ولا عِمادَ إذا لم تُرس أوتادُ» (الشَّيزريّ، المنهج المسلوك).

أعود إلى ما ابتدأتُ به، جواد عليّ ومفصله، فأصحاب الحاكميات والجاهليات، يعدونه مخطئاً، أنه كشف تلاعبهم بالمصطلحات، وهم يرون ثمار ثقافتهم قد أينعت هذا الجهلَ المريع، وقد أرادوها جاهليةً مقصودةً: «خلو النّفس مِن العِلم».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

منذ أواخر القرن التاسع عشر، سعت البعثات الأثرية اليهودية والغربية الموالية للمشروع الصهيوني للتنقيب في أرض فلسطين بهدف إثبات الروايات التوراتية التي تزعم ارتباط بني إسرائيل التاريخي والديني بالأرض المقدسة. لم تكن هذه التنقيبات مجرد عمل علمي محايد، بل جاءت تحت دافع أيديولوجي قوي لتثبيت ما سمي بـ"الحق التاريخي لليهود" في فلسطين، ليشكّل هذا الزعم لاحقاً ركيزة أساسية في تبرير المشروع الاستيطاني الصهيوني.

لكن بعد أكثر من قرن من الحفريات، لم تأت النتائج كما أُريد لها. فبدلاً من إثبات الروايات الدينية التوراتية، راحت نتائج التنقيبات تهز الثقة حتى لدى بعض علماء الآثار اليهود أنفسهم، بل ودفعت عدداً منهم لمراجعة شاملة للمقولات التي طالما بُنيت عليها الأسطورة الصهيونية.

فقاعات تاريخية

(سبعون عاماً من الحفر لم تكتشف مملكة، بل كشفت أكذوبة) بهذه الجملة يمكن تلخيص مأزق الرواية الصهيونية التي طالما ادعت أن فلسطين "أرض ميعاد"، وأن "المملكة العبرية الموحدة" لم تكن سوى فقاعة أسطورية انفجرت تحت ضوء العلم والمنطق؛ فمعاول الحفريات كانت أصدق من النصوص، وعندما حفرت في العمق دحضت الأكاذيب بدلا من إثباتها.

لقد أُجريت مئات التنقيبات في القدس، خصوصاً في منطقة "مدينة داود" المزعومة جنوب المسجد الأقصى، بحثاً عن آثار لهيكل سليمان أو قصر داود أو أسوار يهوذا. لكن تلك البعثات، ومنها بعثات إسرائيلية رسمية، لم تتمكن من العثور على أية أدلة قاطعة تثبت وجود "مملكة داود" بالضخامة التي تصورها الرواية التوراتية.

حتى عالمة الآثار الإسرائيلية "إيلات مزار"، التي روجت لاكتشافها "قصر داود"، تعرضت لانتقادات واسعة من زملائها الذين اعتبروا استنتاجاتها تفتقر إلى الحياد العلمي، وأنها اعتمدت التأويلات النصية أكثر من الأدلة المادية.

شكوك محلية وعالمية

لقد بدأت ثقة قطاع كبير من الأكاديميين الإسرائيليين أنفسهم تتزعزع. فمثلاً، "إسرائيل فنكلشتاين"، أحد أبرز علماء الآثار في جامعة تل أبيب، شارك في تأليف كتاب شهير بعنوان "التوراة المجردة من الأسطورة " (The Bible Unearthed)، خلص فيه إلى أن مملكتي داود وسليمان لم تكونا سوى كيانات محلية صغيرة، وأن الكثير من الروايات التوراتية كتبت بعد قرون من الأحداث التي تزعم توثيقها. فنكلشتاين قال بوضوح: " لا  توجد أدلة أثرية حاسمة على خروج جماعي لبني إسرائيل من مصر، ولا على احتلال عسكري كاسح لأرض كنعان، كما تصف التوراة!". لهذا السبب فإن المؤسسات الأكاديمية الغربية المعنية بالآثار القديمة، مثل المعاهد البريطانية والفرنسية والألمانية، باتت تتعامل مع الروايات التوراتية كمصادر أدبية لا تاريخية، مؤكدة على ضرورة التمييز بين النصوص المقدسة وبين الوقائع الأثرية، ويظهر هذا التحول في تغير لغة بعض المناهج الجامعية التي كانت تعتمد الرواية التوراتية كأساس للتاريخ القديم لفلسطين.

وعالم الآثار الإسرائيلي "زائيف هرتسوغ" لم يكن طامحاً للجدل أو للشهرة حين قال: "لا وجود لمملكة داود، ولا هجرة من مصر، ولا أثر للهيكل". لكنه كشف المستور: أن الأرض الفلسطينية لا تحتضن دليلاً واحداً يدعم الرواية التوراتية، وأن التاريخ المدون في الكتب المقدسة لا يجد صدى في الصخور أو تحت التراب الذي لا يعرف الكذب كمن يسيرون فوقه.

المزيج العقائدي السياسي

رغم هذا الانهيار في الثقة الأكاديمية محليا وعالميا، لا تزال المؤسسات الصهيونية والدينية المتشددة في إسرائيل تكرر الروايات التوراتية كأداة سياسية لتبرير السيطرة على الأرض، خصوصاً في القدس والضفة الغربية. ولذا، يتم تمويل بعثات أثرية بموازنات ضخمة ضمن ما يسمى "السياحة التوراتية"، رغم علم المسؤولين بأن نتائجها واهية أو مضللة.

يعترف عدد من علماء الآثار الآن في الداخل الإسرائيلي نفسه أن هناك توجهاً ممنهجاً لتسييس الآثار، ومحاولة "فرض الماضي" على الجغرافيا المعاصرة، حتى وإن لم تصمد الروايات أمام منهجية البحث العلم!  لسان حالهم يقول: "لو كانت مملكة داود حقيقية، كما تزعم الرواية، لكانت القدس القديمة تضج اليوم بشواهدها وأدلتها". لكن الصمت الأثري كان مدوياً: لم يتم العثور على نقوش، ولا قصور، ولا حتى قبور تشير إلى وجود إمبراطورية عظيمة.  بل جاءت المكتشفات لتعزز الحضور الكنعاني المتجذر، ولتكشف أن ما نسب لداود، لا يعدو أن يكون إعادة تأويل لآثار تعود لحضارات سابقة أو لاحقة.

الحفريات فضحت رواياتهم

الحفريات أثبتت ما هو ضد مزاعمهم المسيسة.. أن الأرض الفلسطينية عرفت حضارة متصلة، كنعانية الجذور، لم تعرف انقطاعات ولا غزواً عبرانياً شاملاً. لا انهيار مدن، ولا تغير في الطقوس، ولا تحول لغوي يدل على دخول ثقافة غريبة؛ فالحفريات في فلسطين أكدت استمرارية الحضارة الكنعانية، وعدم وجود أي قطيعة ثقافية أو ديموغرافية تشير إلى غزو عبري قديم: اللغة، العمارة، العادات الدينية – كلها كنعانية في جوهرها. حتى أن اسم "إسرائيل" نفسه ورد لأول مرة في نقش مصري (نقش مرنبتاح، 1208 ق.م) كاسم لقبيلة أو جماعة صغيرة، وليس لمملكة عظيمة!

تلك الحالة الجدلية أكدت الرواية الفلسطينية: أن الفلسطينيين هم أحفاد الكنعانيين وغيرهم من الشعوب القديمة التي سكنت الأرض، وهو ما أكدته الدراسات الجينية والثقافية. الأرض تتحدث باسمهم، حتى عندما يتم تزييف التاريخ!

إن الحفريات في فلسطين المحتلة لم تعثر على مملكة داود، لكنها كشفت شيئاً آخر: أن السياسة حين تتحالف مع الأسطورة، تنتج استعماراً. والعلم، رغم كل محاولات تزييفه، يبقى شاهداً على الحق. الأرض لا تكذب. والحجارة، إذا ما أتيح لها الكلام، تقول لفلسطين: أنت الجذور، وأنت المستقبل.

الأسطورة كذريعة للغزو

الرواية التوراتية لم تعد خطاباً دينياً، بل خارطة أيديولوجية؛ فكل حجر يزعم أنه من "الهيكل"، وكل موقع يعلن أنه مرقد نبي توراتي، يستخدم في خدمة التوسع وشرعنة السطو على الأرض. الدين يمسخ إلى مشروع جغرافي، والأسطورة تسخر لصياغة جغرافيا سياسية قسرية.

إسرائيل لا تمتلك شرعية ديموغرافية، فحين أُنشئت، كانت فلسطين مأهولة بسكانها العرب. لذلك لجأت إلى "الشرعية الرمزية"، المستمدة من أساطير دينية. لكنها شرعية قابلة للكسر. الدليل: التعليم الإسرائيلي يغذي الأطفال بأن الهيكل تحت المسجد الأقصى، رغم غياب أي دليل أثري يؤكد ذلك.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا تواصل إسرائيل التشبث برواية سقطت علمياً؟ لأن البديل مخيف. إن زوال "الوعد الإلهي" و"الهيكل المفقود" يسقطان عن الدولة الصهيونية ادعاء الشرعية التاريخية. فتغدو، كما هي فعلاً، مشروعاً استعمارياً حديثاً لا يختلف عن أي استعمار استيطاني عرفه التاريخ.

من زيف التاريخ إلى سؤال الوجود

لم يعد الانقسام داخل علم الآثار الإسرائيلي سراً. المعسكر التقليدي، المتمسك بالرواية التوراتية، بات معزولاً. أما المشككون، كـ"إسرائيل فنكلشتاين" و"زائيف هرتسوغ"، فقد قدموا تحليلات علمية تثبت أن "مملكة داود" لم تكن إلا مشيخة محلية، لا تشبه في شيء المملكة الموصوفة في سفر الملوك.

إن التوراتيين يقرؤون تلمودهم بوصفه لاهوتاً، لا كوثيقة تاريخية. كتبت في سياقات سياسية لاحقة للأحداث، وربما بعد قرون منها. لكنها، بعكس ملحمة جلجامش أو الأساطير الإغريقية، تحولت إلى أساس لدولة. هنا يكمن الخطر: حين يستبدل التاريخ بالأسطورة، وتصبح القصص المقدسة حجة للسلب والطرد. وحينما لم تأتِ الحفريات بما يرضي المشروع الصهيوني الاستعماري، انكشفت حقيقة أبعد أثراً: أن الحقيقة لا تدفن طويلاً، وأن الأرض أصدق من كل النصوص. كل نقش كنعاني، وكل قطعة فخار من العصر البرونزي، تصرخ في وجه الأسطورة: هنا لم تكن مملكة داود.

رغم كل هذا فإن تفنيد الأسطورة لا يعني زوال الدولة، وإن كان يزعزع سرديتها أمام ذاتها والعالم. فجيل جديد من الإسرائيليين بات يشكك في القصة الرسمية، بينما يتراجع الدعم الغربي المبني على "الرواية التوراتية"، وتتقدم الرواية الفلسطينية كصوت أصيل لحضارة حية لا تقبل الطمس.

***

د. عبد السلام فاروق

 

بعد تجارب مريرة عاشتها شعوبنا في استنساخ الديمقراطية الغربية على النمط الأمريكي والبريطاني، بات واضحًا أن تلك النماذج لم تنجح في بيئتنا الاجتماعية والسياسية، فهي أنظمة نشأت في سياقات تاريخية وثقافية مختلفة، بينما واقعنا ما يزال محكومًا ببنية قبلية، وموروثات دينية، وأعراف اجتماعية تفرض منطقها على السلوك السياسي اليومي، والنتيجة أن الديمقراطية عندنا تحولت إلى صراع غوغائي، تُدار فيه السلطة على يد جهلة ونكرات، وجدوا في صناديق الاقتراع وسيلةً للهيمنة على القرار والحكم.

إن الحاجة اليوم ملحّة للبحث عن نموذج حكم يتناسب مع سايكولوجية مجتمعاتنا وتركيبتها، فبدل الانبهار الأعمى بديمقراطيات لا تصلح لواقعنا، علينا أن نفكر بنموذج يستند إلى عقلائنا وحكمائنا، حيث يكون مجلس الشورى هو الإطار الجامع الذي يمثل القوى الاجتماعية والمرجعيات الفكرية والرموز الوطنية. هذا المجلس لا يقوم على المحاصصة أو الغلبة العددية، بل على الكفاءة والخبرة والحكمة، ليكون بمثابة العقل الجماعي الذي يوجّه الدولة ويوازن بين المكونات.

غير أن هذا الخيار لا يُقصد به أن يكون نظامًا دائمًا، بل صيغة انتقالية تمتد لعقد من الزمن على الأقل، ففي هذه المرحلة، يُمنح الحكماء والنخب فرصة لإحداث تغيير جذري في مناهج التربية والتعليم، وإعادة صياغة وعي الأجيال القادمة على أسس أكثر عقلانية وانفتاحًا، بعيدًا عن العصبية القبلية والمناطقية والطائفية.

إنها فترة ضرورية لتحجيم نفوذ العقليات التقليدية التي ما تزال تحكم السلوك السياسي والاجتماعي، ولبناء مفهوم جامع للمواطنة الحقة التي تضع الولاء للوطن فوق كل اعتبار.

وفي قلب هذا النموذج يقف رئيس حكيم، واسع الصلاحيات، لكنه ملتزم بالقيم العليا للأمة، بعيدًا عن منطق الزعامة الفردية المستبدة أو الفوضى الانتخابية.، رئيس يمتلك الشرعية المستمدة من ثقة مجلس الشورى ومن الإجماع الشعبي، لا من صفقات انتخابية فاسدة أو تزوير صناديق، هكذا يتحقق التوازن بين القيادة الفردية القادرة على الحسم، والرقابة الجماعية التي تمثل ضمير الأمة، في انسجام مع أعرافنا الاجتماعية والدينية.

إن هذه المرحلة الانتقالية ليست رفضًا للديمقراطية أو إنكارًا لها، بل تمهيدًا لتطبيقها بشكل سليم، فالديمقراطية لا يمكن أن تُبنى فوق رمال رخوة أو مجتمعات لم تتحرر بعد من أثقال القبلية والجهوية، إنها ثمرة تحتاج تربة صالحة، والتربة عندنا لا بد أن تُهيأ عبر إصلاح التعليم، وترسيخ المواطنة، وإعلاء شأن القانون، وإشاعة ثقافة المشاركة بدل الإقصاء، بعد عقد أو أكثر من هذه الصياغة الجديدة، سيكون المجتمع قد بلغ درجة من النضج تسمح له بالدخول إلى حقبة ديمقراطية حقيقية، تقوم على التنافس الشريف لا على الفوضى، وعلى الحقوق والواجبات لا على المصالح الضيقة.

هذا الطرح، إذن، ليس قطيعة مع العالم ولا عودة إلى الوراء، بل محاولة واعية لصياغة عقد اجتماعي جديد، يمنح مجتمعاتنا فرصة للانتقال من الفوضى إلى الاستقرار، ومن الاستنساخ إلى الابتكار. فالتاريخ يعلمنا أن الأمم الناجحة هي التي بنت أنظمتها السياسية على أسس واقعية متجذرة في ثقافتها وظروفها، لا على تقليد أعمى لتجارب الآخرين.

***

كفاح محمود

مزّيف أيام التسعينات كان "يجرخ" العملة المعدنية (250) فلس ثمانية الشكل ليحولها الى عملة (100) فلس المدّورة...تلك طرفة انتشرت في حينه. اتذكرها مع كل اطلالة لمستشار او خبير او مسؤول للحديث عن إنجازات الوزارة في انشاء اقسام او كليات للطاقة المتجددة او المستدامة او النظيفة، والذكاء الصناعي والروبوت والطائرات المسيّرة...الخ، ومنذ سنوات كان ال"تريند" هو الاستدامة والتنمية البشرية. بلى لا ينكر عاقل أهمية تلك العناوين سواء بتفاصيلها او مجاراة لسياقات التطور عالميا، خاصة في حالات الرخاء او ما يمكن اطلاق مصطلح "الرفاهية والترف الفكري والتقني" عليه.

للانصاف وبغرض تسلسل الأفكار والطرح المنطقي، أقول، ان الهدف الأساس للمؤسسات الاكاديمية بجامعاتها ومراكزها البحثية والتخصصية هو مواكبة الحاجات المجتمعية والبنائية للبلد من خلال تهيئة الملاكات والكفاءات المناسبة لها بالتوازي مع الموارد المتوفرة او المنتظرة، بل والعمل على إيجاد موارد إضافية داخلية وخارجية (أساس فكرة الجامعات المنتجة). بمعنى آخر هو الاستجابة للمتطلبات المرحلية وبرؤية مستقبلية مبنية على أسس علمية في الاستقراء والتنبؤ، بما يضمن عدم هدر الموارد من خلال تحديد الأولويات. ذلك لا ينفي ولا يمنع البتّة من التطرق لمواضيع او تحديات عالمية قد لا تتعلق بالواقع المحلي بشكل مباشر، وذلك بغرض استمرارية التفاعل مع المجتمعات العالمية. كل ما هو عكس ذلك، لا يمكن تسميته بغير فقدان البوصلة او اختلالها ومن شاء الصرامة سيقول هو عبث ونزق فكري... هو يقول ولست انا (انا لست صارما...!!!).

لنعكس ما سبق على حال بلد كالعراق. العراق بلد يعتمد بشكل يكاد يكون 100% على النفط، بعد ان كادت تختفي الزراعة وهي التي كان يمكن ان تكون المصدر الثاني للدخل القومي في بلد الرافدين وسهل الوادي الذي كان خصيبا، فما الذي فعلته الجامعات العراقية؟. منذ عقود تم شبه اغلاق للأقسام الهندسية ومتعلقاتها في تخصص النفط او اهمال ما تبقى منها بشكل رهيب، ولم تعد الأقسام ذات العلاقة كالكيمياء والميكانيك والمدني (مثلا) تضع متعلقات الصناعات النفطية ضمن أولوياتها في المناهج الدراسية (ان وجدت أصلا)، حتى باتت التقنيات والمصطلحات الحديثة في هذا المجال بعيدة جدا عن خريجي تلك الأقسام والكليات سواء من الدراسة الأولية او العليا...كما صرّح بذلك العديد من الخبراء. من الناحية الأخرى تم اغلاق اقسام الموارد المائية (دراسة أولية) في معظم كليات الهندسة باعتباره تخصصٌ مهملٌ ووصل الامر لتجنب طلبة الدراسات العليا في اقسام الهندسة المدنية للخوض في هذا التخصص باعتباره (دون مستقبل=ما يسوه)، وباتت الدراسات المتعلقة بالموارد المائية محصورة في قياس نسب التلوثفي الأنهار والبحيرات، او بقاياها، بشكل ممل ومكرر سنة بعد سنة بعد سنة بعد سنة....الخ، بحيث انها تكاد تكون مجرد تغيير صفحة العنوان الأولى، دون ان يعير لها احد اهتماما. توازيا مع ذلك، كان الإنجاز الأكبر لكليات الزراعة هو تغيير اسمها كي يحمل خرّيجوها لقب "مهندس" بدلا عن "زراعي".. واين هذه من تلك!!!، ضمن حملة تغيير أسماء الكليات لاقحام القاب دونما استحقاق وليست  لها سوابق ولا مثيلات في الجامعات العالمية الرصينة، وتلك في رأيي كارثة ليس هذا محلّها.

لو سأل سائلٌ أبسط بائعة للخضروات في سوق شلال (سوق شهير في بغداد) عن اهم مشاكل العراق منذ عقود، لن تحيد الإجابة عن انها الهدر العظيم لموارد العراق النفطية سواء للشركات الأجنبية المستخرجة او لشراء المشتقات النفطية وأولها الغاز وأنواع الوقود والزيوت، ذلك إضافة لشحّة الموارد المائية التي قد تصل لمياه الشرب (العراقيون يشربون مياها مستوردة من دول الجوار)، بعد ان اندثرت الزراعة تقريبا وباتت لا تشكل النسبة الكبيرة للاستهلاك المحلي ناهيكم عن التصدير. وبالنتيجة ينعكس العجز النفطي والمائي على حال انتاج الطاقة الكهربائية ومنظومتها المتهرئة أصلا. أليست تلك حاجات مجتمعية تستوجب الانتباه من قبل المؤسسات الاكاديمية؟

كمهندس وباحث قضى نصف عمره على الأقل في تلك المجالات داخليا وخارجيا أقول، ان مشاكل الصناعات النفطية والموارد المائية والزراعية والكهرباء نوعان. الأول اداري و(ارادي...مشتقة من كلمة إرادة، وهذه تحتها عدّة خطوط حمراء)، وهذه لن ادخل فيها لاسباب عدّة، اما الثاني فهو فنّي. لله وللشرفاء اجزم ان الناحية الفنّية لحل كل مشاكل العراق يسيرة بدرجة معقولة بالامكانات المتوفرة حاليا لوقف التدهور، وبإنتاج وتأهيل الملاكات البشرية من خلال منح المؤسسات الاكاديمية استحقاقا وأولوية لتلك التخصصات بدلا عن تشتيت المتوفر حاليا من الملاكات المتقدمة (معظمها على وشك الإحالة على التقاعد او الوفاة) في الولوج في تخصصات فرعية لا يمكن عدّها ضمن أولويات بلد لا يكاد يسد حاجته المالية بسبب سوء استخدام الموارد النفطية وتعطش أراضيه واهله ويستورد معظم احتياجاته الغذائية بسبب التخلف في إدارة الموارد المائية واساسيات الزراعة. ما أهمية الذكاء الصناعي في حل مشاكل البلد حين لا توجد الملاكات البشرية المؤهلة في اساسيات ومتطلبات تلك المشاكل؟ ما الذي يمكن للروبوت ان يصنعه حين لا تتوفر الطاقة التشغيلية بل واين سيعمل الروبوت أصلا؟ هل من الحكمة بيع النفط الوطني بأوطأ الأسعار مقابل استيراد متطلبات الطاقة الشمسية (مثلا) من الخارج باغلى الأسعار ناهيكم عن الصيانة الدورية؟

اين الحل يا فهيم؟ هل يكفي التباكي على وجود أخطاء في صناعة القرار دون وضع ولو تصور للحلول؟ لا سيدي لا ادّعي علوية الفهم فما صاحبك سوى انسان بسيط. الحل يا سادة يا كرام، اطال الله تعالى اعماركم وبقاءكم في مناصبكم، يكمن في وضع تخصصات النفط والصناعات النفطية على رأس أولويات الدراسات الاكاديمية وتهيئة المختبرات والمعدات الحديثة، بغرض انتاج ملاكات بشرية مؤهلة بأحدث المهارات والمعارف في تلك المجالات لاستلام زمام أمور تلك الصناعة ومضاعفة الناتج المالي الإجمالي منها وصنع سياسات كفوءة للتعامل مع الشركات العالمية. ذات الحال مع تخصص الموارد المائية التي يكاد يندثر المختصون (فعلا) فيها وتعشيقها مع تخصص الزراعة بما يجعل الخريج يفخر بلقب "زراعي" دون ان يتمسح زورا وبهتانا بلقب "مهندس". وكي لا تكون خارج السياقات العالمية، يجب ادخال الذكاء الصناعي والروبوت والطائرات المسيّرة كمناهج ضمنية في تلك التخصصات وغيرها مثل الهندسة الميكانيكية والكهربائية والمدنية...الخ، لانها أصلا يا سادة يا كرام ليست تخصصات مستقلة بل هي مهارات وأدوات مساعدة في كل التخصصات تقريبا حتى الإنسانية منها..لو كنتم تعلمون!! اكشحوا جانبا عمّن يريد ان "يتمشغل" ويجعل لنفسه موقعا بدعوى خبرات شخصية في الذكاء الصناعي وما يحاولون بثّه من مخاريق وكأنهم سيخرقون الأرض ويبلغون الجبال طولا من خلاله...و حقكم لا يمكن للذكاء الصناعي تطوير البلد قيد انملة ما لم تتوفر فيه الموارد البشرية المؤهلة عاليا في مجالات الاحتياجات الحقيقية بما يمّكنها من استغلاله استغلالا صحيحا واعيا...بالوضع الحالي سيكون تخصص الذكاء الصناعي والروبوت (مثلا) كحال من اشترى تلفزيون 3D ويعتمد على مولدة الشارع في تشغيله بما نعرفه جميعا من تذبذب الفولتية والتردد.

أقول قولي هذا غير آمل لوجود سمّاع لانها قد وضعت أقلام القرارات وجفّت صحف الأوامر...لكنما هي ابراء للذمّة امام الله تعالى وأبناء البلد والله تعالى لاجيالنا القادمة.

***

أ.د. سلام جمعه باش المالكي

عرفت ظاهرة الصراع الطبقي قبل ماركس، الا انه هو من حولها الى محور واساس لنظرية في التحول الاجتماعي، وبقوانين وحتميات ناظمه للعملية التاريخيه، مسقطا الماضي على المستقبل بناء على اجمالي الممكن من النظر المتاح للغرب بعمومه ازاء الانقلابيه الالية ومترتباتها، وماقد تسببت به من تسارعية غير عادية في الديناميات المجتمعية، في حين لم يكن النظر قادرا على  الذهاب الى ابعد من التغير في وسيلة الانتاج وعلاقتها بالمجتمعية ونمطيتها، الامر الموروث من الطور المنقضي اليدوي، وقت لم يكن واردا الربط بين وسيلة الانتاج والنوع المجتمعي اي الارضوية كوليدة لليدوية، مايعني لابل يحتم  انتظار الانقلاب في النوع المجتمعي بناء على الانقلاب النوعي الحاصل في وسيلة الانتاج.

فاذا كان النوع او النمط "الطبقي" وليد اليدوية، فمن غير المعقول انتظار استمراره مع حضور الاله ونوع فعاليتها، ناهيك عن القوانين التي  يمكن  تصورها عنها، وصولا لما هي مهياة افتراضا للذهاب اليه، في حين اصبحنا عمليا وواقعا، بصدد مجتمعية اخرى عناصر التفاعلية المحدده لنوعها ليس البيئة واليد البشرية، بل البيئة ومتبقيات فعلها، بالاضافة الى  العنصر البشري  مع الاله العنصر المختلف طبيعة ونوعا، مع شدة فعاليته الاستثنائية، الامر الذي لايعود واردا معه الحديث عن "الطبقات" وقد غدت ظاهرة ايله للزوال حكما،  و" بالحتم".

يوم انبثقت الاله في الموضع الاوربي الطبقي كينونة، والاعلى ديناميات ضمن صنفه الارضوي  الموافق للانتاجية اليدوية باكثر ممكناتها فعالية، حدث ذلك "طبقيا" كنهاية طور وفعالية ماعادت  قابلة للاستمرار، ومع الاحتدام الاقصى الواقع بسبب عنصر اخر تجاري جاء من خارج المكان،  محفزا، وبلوغ المكونات المجتمعية اعلى درجات التصادمية بظل الانسداد الطبقي، لعبت الاسباب التاريخيه وتراكماتها دور ايجاد المنفذ، او المسرب مابعد الطبقي، وهو مااضطلع به المجتمع وليس الطبقة نيابه عن المجتمع، فالطبقة مكون ضمن بنية مجتمعية اوجدت الاله من باب  فتح مسرب للاصطراعيه المتعسرة غير القابلة للحل، بين البرجوازية والاقطاع، فكان ان وجد ساعتها عنصر ثالث من خارج الاصطراعية المقفله المسدودة النهايات، والتي كان لابد من ايجاد السبيل لانهاء فعلها وحضورها تحقيقا لمابعدها عن طريق تبدل عنصر الفعالية البنيوية الاساس.

هذا يعني ان ماركس وهو يتحدث عن  الطبقات و "اصطراعها"، كان في الحقيقة يعيش لحظة  بدايات زوالها وخروجها من الفعالية المجتمعية التاريخيه، حتى وان قال بان "تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقات"، محاولا اسقاط الماضي المنتهي والمنقلب على الحاضر، وتحديدا على المستقبل، فهو في الحالة المشار اليها، واقع تحت وطاة ماقد سبق، او تحت قوة فعالية واثر الماضي الذي لم يبرح  الهيمنه على العقل بعد، فاليدوية تبقى مهيمنه ومسيطرة على العقل ابان الطور الاول، وبالاخص المصنعي من الانقلابيه الالية / التكنولوجية، الامر الذي يستمر شاملا المعمورة، ودالا على قصوريتها ادراكا للحاصل الراهن، في اوربا غربا ومنها  ماركس، وعلى مستوى ابعد واشمل، فالانقلابيه الاليه لم تحدث مرهونه للبرجوازية فحسب، وهي اتخذت اشكالا اشد توهميه مثلما حدث لروسيا التي انتقلت الى الاله من دون برجوازية، وتبعتها الصين وبلدان اوربيه اخرى، مدعية التحول المسمى ب "الاشتراكي" بالفذلكة اللينينيه والماوية المغالية في تكريس المنظور اليدوي واسقاطة على مابعده.

الاهم والذي لم يدخل على الاطلاق ميدان المراجعه، هو الحضور الامريكي المفقس خارج رحم التاريخ، وتصدره العملية الالية والانتقال بها من خارج التاريح المجتمعي، وبلا تاريخ يدوي، فالكيانيه الامريكية هي كيانيه آليه صرفة، نتاج وحصيلة ومنتج الاله لوحدها بلا برجوازية ولاصراع طبقي، ليس له اي اساس في هذا الموضع من الكرة الارضية، قام بحكم كينونته الابتدائية بالقفز بالالة من المصنعية الى التكنولوجيا الانتاجية، مع الابقاء على المروية والسردية الاوربية "الطبقية" من قبل كيانيه قامت على امحاء مجتمعية لادولة، من اكثر من ستين مليون كائن بشري، مع ادعائها بانها موضع رسالي، وجد لكي يغير العالم، اي يمحو ماقبله من مجتمعية تاريخيه، فقلب الانتاجية البرجوازية والكيانوية الوطنيه، بالانتاج المعولم واختراق السيادات بما فيها، بل في مقدمها الاوربية.

هذا كله ومايزال ثمه من يمكن ان يتحدث عن الطبقات و ( الدول الامم)، والبرجوازية والبروليتاريا التي لم تعد حاضرة ولاوجود لها،  الا بالعودة الى القرن التاسع عشر، والاحتداميه المصنعية التي منحت ماركس يومها، ماقد جعله يتوهم مالا اساس له خارج اللحظة الانتقالية الآنيه.

لم يكن يخطر على بال ماركس ان الالة المصنعية هي صيغة اولية ابتدائية ضمن مسار العنصر الثالث النوعي المباين المختلف، بما هو عامل وعنصر تفاعلية وتحولية انقلابيه مجتمعية كنوع، مابعد يدوية، وبناء عليه لم يكن ليتصور، او كان بامكانه وضمن نطاق مامتاح له من ممكنات ادراكية، احتمالية الانتقال المجتمعي نوعا مابين الارضوية الجسدية الحاجاتيه التي ركز عليها، وبين المجتمعية العقلية باعتبارها غرضية المجتمعية الاساس والاصل،  وليس الشيوعيه التي اعتمدها بحكم حدود ادراكه، كهدف محكوم لقانون، وهنا نقع امام قضية جوهرية تخص العقل ومستوى ادراكيته، ومامتاح له من قدرة على الاحاطة ابان الطور اليدوي الاول من التاريخ المجتمعي، وهو ماليس لماركس يد فيه، بما هو شرط موضوعي خارج عن ارادته وارادة الكائن البشري.

اين يحدث وكيف، الانقلاب التحولي المنتظر اللاحق على الانبجاس الالي الاوربي؟ وهل الازدواج المجتمعي "طبقي" حكما وفقط، ام انه منطو على صيغة اخرى اعلى، موافقة لقانون التحولية المجتمعية، تظل غير منظورة وغير مدركة تحت طائلة القصورية العقلية، بانتظار الاحتدامية الاصطراعية المتولدة عن الانقلاب الالي بصيعته الابتدائية، ومايترتب عليه من توهمية عظمى، واهوال تناقضية وحياتيه رهيبه، بحيت تاتي لحظة نقف فيها على عتبه المنظور التحولي اللاارضوي، العائد للكينونه الازدواجية المجتمعية ( ارضوية/ لاارضوية)، ومسارها الاصطراعي التاريخي المديد الى الساعة، وحلول ساعة انبثاقها وانتقال العقل خارج القصورية الكبرى، لتصبح الانقلابيه الالية/ التكنولوجية، انقلابيه مجتمعية تحولية لاارضوية، عقلية متحررة من الجسدية الحاجاتيه.

***

عبد الامير الركابي

كثيرًا ما نردد كلمات من غير أن ننتبه إلى ما تحمله في طياتها من معان مسبقة، وكيف تشكل وعينا دون أن ندري. ومن أخطر هذه الكلمات كلمة "الاستعمار"، التي صارت تطلق على الفترة التي هيمن فيها الغرب على كثير من بلدان العالم، ومنها بلادنا العربية.

ولكن، هل سألنا أنفسنا يومًا ما الذي تعنيه هذه الكلمة حقًا؟ ومن الذي صاغها، ولماذا؟

إذا عدنا إلى الجذر اللغوي للكلمة، نجد أنها مشتقة من "عَمَر" أي أصلح وأقام وأعطى الحياة. فكأن من يستعمر يأتي إلى أرض خراب ليعمرها، ويبني فيها حضارة من العدم. وهنا تكمن المشكلة. فهل كانت أراضينا قبل مجيء المحتل أرضًا بلا تاريخ، بلا حضارة، بلا شعب؟ بالطبع لا.

بلادنا، من المحيط إلى الخليج، كانت عامرة بحضارات عريقة، بأنظمة حكم، باقتصادات مزدهرة، بثقافات غنية، وبمجتمعات متطورة. لم تكن "أرضًا بلا شعب" كما ادعت بعض الروايات الاستعمارية، ولم تكن صحراء قاحلة تنتظر من يأتي ليزرع فيها بذور المدنية. ما حدث كان شيئًا مختلفًا تمامًا: كان احتلالًا، استيطانًا، نهبًا للموارد، وتدميرًا ممنهجًا للبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية القائمة. كان استبدالاً لحضارة بحضارة، وليس "تعميرًا" لفراغ.

لماذا، إذن، نستخدم نحن أنفسنا مصطلحًا يصور المحتل كمصلح ومنقذ؟ لأن اللغة، في كثير من الأحيان، تكون أداة هيمنة. فالذي يسيطر على الأرض، يسيطر على السردية، ويكتب التاريخ من وجهة نظره. وهكذا، تتحول عملية السلب والنهب إلى "رسالة تحضر"، ويصبح القهر والاستغلال "مهمة تنوير". ونحن، حين نكرر هذه المصطلحات من غير وعي، نكون قد قبلنا – دون أن ندري – بالرواية التي كتبها المنتصر.

هذه الظاهرة ليست جديدة. فالمؤرخ الإنجليزي الشهير "إريك هوبسباوم" قال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. ولكن الخطر الأكبر هو عندما يبدأ المهزومون أنفسهم بترديد رواية المنتصر، فيصبحون شركاء في تشويه تاريخهم الخاص. إنها حالة من "الاستعمار الفكري" الذي يظل مُستمرًا حتى بعد رحيل آخر جندي محتل.

ولعل في تجربتنا العربية أمثلة صارخة على ذلك. ففي الجزائر، مثلاً، لم يكن الاحتلال الفرنسي "استعمارًا" بالمعنى التعميري، بل كان محاولة لطمس الهوية الوطنية، وتحويل البلاد إلى جزء من فرنسا، مع نهب ثرواتها وتهميش لغتها ودينها. وفي مصر، جاء نابليون تحت شعار "التنوير" ومعه المطبعة وعلماء الآثار، لكنه جاء أيضًا بالمدافع والبارود، وكان مشروعه في الأساس مشروعًا استغلاليًا استعماريًا بامتياز.

والأمر نفسه ينطبق على فلسطين. فما يسمى بـ "استعمار" فلسطين هو في حقيقته عملية استيطان استبدالية، تهدف إلى إحلال شعب مكان شعب، وثقافة مكان ثقافة، وتاريخ مكان تاريخ. ووراء استخدام كلمة "استعمار" في هذا السياق تبرير ضمني بأن الأرض كانت "بلا شعب"، أو أنها كانت بحاجة إلى من "يعمرها"!

إن التحرر الحقيقي يبدأ بتحرير العقل واللغة

إذا اتفقنا على أن "الاستعمار" تسمية مغلوطة، فإن السؤال الجوهري الذي يلي هو: ما الذي كان يدفع هذه الآلة الضخمة للتحرك عبر المحيطات والصحاري؟ وما هي الآليات التي اتبعتها لترسيخ وجودها وتحقيق أهدافها؟ هنا، ننتقل من نقد المصطلح إلى تشريح البنية الاقتصادية والسياسية للمشروع الاستعماري، التي جعلت من "التعمير" اللفظي غطاء لنهب منهجي.

أولاً: الاقتصاد.. محرك الآلة الاستعمارية الأول

لم تكن الدوافع الاستعمارية، في جوهرها، "رومانسية" أو "تنويرية" كما أُريد لها أن تظهر. لقد كانت، بكل وضوح، اقتصادية بالأساس. يمكن تلخيص هذه الدوافع في معادلة بسيطة:

1.  المواد الخام: كانت الدول الصناعية الناشئة في أوروبا بحاجة ماسة إلى موارد رخيصة وغير محدودة تقريبًا: القطن من مصر، الفوسفات من المغرب والجزائر، المطاط من الكونغو، النفط لاحقًا من الخليج. كانت بلادنا مخزنًا للمواد الأولية ينهب بشكل ممنهج ليمد آلات الثورة الصناعية في الغرب.

2.  السوق الاستهلاكية: بعد أن أنتجت المصانع الأوروبية سلعًا بكثرة، احتاجت إلى أسواق جديدة لتصريفها. فكانت البلاد المستعمرة سوقًا احتكارية تجبر على شراء البضائع الأوروبية، مما أدى إلى الإجهاز علي الصناعات المحلية الناشئة لأنها لم تستطع المنافسة. لقد حولنا من منتجين إلى مستهلكين دائمين.

3.  رأس المال الفائض: كان لدى الطبقات الرأسمالية في أوروبا فائض من رؤوس الأموال تبحث عن مجالات استثمارية ذات ربح أعلى. فكان إنشاء المشاريع في المستعمرات (سكك حديدية، موانئ، مطارات) استثمارًا مربحًا ومحميًا بجيوش الاحتلال.

هكذا، تحولت الاقتصادات المحلية المترابطة والمكتفية ذاتيًا إلى حد كبير، إلى اقتصادات مشوهة تابعة تمامًا للمركز الأوروبي. اقتصاد يقوم على تصدير مادة خام واحدة (اقتصاد أحادي الجانب) واستيراد كل شيء آخر. هذا التشوه هو أحد أعقد إرت الاستعمار وأصعبها معالجة، وهو ما يفسر جزءًا كبيرًا من تبعيتنا الاقتصادية الحالية.

ثانيًا: الاستعمار الاستيطاني.. أبعد من مجرد نهب

ليست كل أشكال الهيمنة متشابهة. فبينما كان الهدف في بعض المستعمرات هو الاستغلال الاقتصادي، ظهر شكل أكثر شراسة ووحشية هو الاستعمار الاستيطاني، كما في حالات الجزائر وفلسطين. هنا، لم يكن الهدف مجرد استغلال الأرض والثروة واليد العاملة، بل استبدال السكان الأصليين تمامًا بمستوطنين جدد. كانت العملية عبارة عن: تطهير عرقي ممنهج، سواء بالطرد أو الإبادة. ومصادرة الأراضي على نطاق واسع ومنظم. ثم بناء مجتمع مواز منغلق على نفسه، له مؤسساته وقوانينه واقتصاده، يقوم على أنقاض المجتمع الأصلي.

والأخطر تدمير الذاكرة الثقافية والتاريخية للمكان واختراع سردية جديدة تبرر الوجود الجديد.

في هذه الحالة، تتجاوز الآلة الاقتصادية هدف الربح إلى هدف الاستيلاء على الوجود نفسه. والخطاب "التعميري" هنا يصبح أكثر ضراوة: "جئنا إلى أرض بلا شعب لنعمرها".

ثالثًا: الإرث السياسي.. صناعة الدويلات الهشة

لم يكتف المحتل بترك اقتصاد مشوه، بل ترك وراءه هياكل سياسية مصممة للفشل. عند ترسيم الحدود (كما في اتفاقية سايكس-بيكو الشهيرة)، لم يراع أي اعتبارات تاريخية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية للشعوب. كل ما كان يهم هو:

 تقطيع أوصال المنطقة إلى دويلات صغيرة يسهل السيطرة عليها.

  خلق صراعات حدودية وداخلية مستدامة (كمشكلة المياه، المناطق المتنازع عليها) لضمان انشغال هذه الدول ببعضها وبمشاكلها الداخلية، وبالتالي بقائها ضعيفة ومحتاجة دائمًا إلى دعم خارجي.

تركيب أنظمة حكم طائفية أو عرقية (كما في العديد من الدول الأفريقية) أو دعم نخب محلية موالية تخدم مصالحه حتى بعد الرحيل. هكذا، تحولت "الدولة الوطنية" في كثير من الأحيان من إطار للتحرر والاستقلال إلى سجن للهويات وإطار لاستمرار التبعية.

التحرر من التبعية يحتاج إلى وعي جديد

ما حدث بعد رحيل الجيوش الاستعمارية كان في كثير من الأحيان استبدال الاستعمار العسكري المباشر بـ استعمار غير مباشر، عبر التبعية الاقتصادية، والهيمنة السياسية، والاختراق الثقافي.

لذلك، فإن التحرر الحقيقي لا يعني فقط تصحيح المصطلحات، بل يعني تفكيك هذه البنى الاقتصادية والسياسية المشوهة التي خلفها الاستعمار. يعني بناء اقتصاد منتج ومتنوع وقائم على الذات، لا اقتصاد ريعي تابع. يعني بناء أنظمة سياسية تقوم على المواطنة الحقة، لا على الولاءات الطائفية أو القبلية التي ورثناها. يعني، في النهاية، امتلاك إرادتنا وسرديتنا ومشروعنا الحضاري الخاص.

هذه هي المهمة الصعبة التي تواجهنا اليوم: كيف نستعيد وعينا، واقتصادنا، وسيادتنا، من بين براثن إرث استعماري طويل، تمت تسميته، بخبث شديد، "تعميرًا".. يجب أن نعيد النظر في المصطلحات التي نستخدمها، وأن نعيد تعريف تجربتنا بكلماتنا نحن، لا بكلمات من هيمن علينا. لم يكن ما حدث "استعمارًا"، بل كان احتلالاً. لم يكن "تعميرًا"، بل كان تخريبًا ممنهجًا في كثير من الأحيان. لم يكن "تنويرًا"، بل كان استغلالاً ونهبًا للثروات.

إن مهمة المثقف اليوم هي أن يكون حارسًا للذاكرة واللغة. أن يفتح أعيننا على هذه المفاهيم، وأن يقاوم محاولات تزييف الوعي عبر تزييف الكلمات. فلا يكفي أن نطرد المحتل من أرضنا، بل يجب أن نطرده أولاً من عقولنا وكلماتنا.

***

د. عبد السلام فاروق

شاهدتُ السياسي العراقي عزّت الشابندر في لقاء تلفزيوني "مع حميد عبد الله" على قناة دجلة العراقية يتحدث عن تجربة الإسلام السياسي في العراق، وكيف أنّ صلابة الإيمان قد حصّنت جماعات من الأفراد ضد بطش السجون وجلَد المعتقلات وسطوة الموت ذاته، فلم يتزحزحوا في ساعة القهر القصوى. إلَّا أنّ الامتحان الأعمق والأعقد لم يكن هناك، وإنَّما حين انفتحت أمامهم أبواب الدنيا بزخارفها، وامتدّت إليهم يد السلطة ببريقها، فإذا بتلك الصلابة تنكسر، وإذا بالثابتين في وجه العذاب يسقطون عند عتبة الحكم وسطوته. إذ يُفضَح جوهريًا ضعف الإنسان أمام فتنة الامتلاك لا أمام رهبة الفقد. ولم يقارب هذه المفارقة الشابندر، ولم يُلمّح إلى أسبابها، وإنما ذكرها في مورد التعجّب.

المفارقة قد تبدو سهلة في تحليلها والإجابة عليها ولكنها مهمة وضرورية: فالإنسان وفق مؤشرات الدراسات الحديثة، يقوى حين يواجه التهديد المباشر، فيستنفر إرادته ليبقى ويصمد. لكنه يضعف حين تُفتح أمامه أبواب اللذّة ويُترك له خيار التملّك بلا رقيب داخلي راسخ. ففي العذاب يولد التضامن، وتشتدّ الروابط، ويغدو الثبات شهادة جماعية، بينما في السلطة ينفكّ هذا الرابط، ويتحوّل الإغراء إلى عزلة خادعة تكشف الفرد على حقيقته. وما يبدو بطولة في وجه السوط والموت، قد يتلاشى عند أول بريق للمال والنفوذ، لأنّ جوهر الامتحان لا يكمن في تحمّل القهر، بل في مقاومة الغواية. عندها يتبيّن أنّ الإنسان لا يسقط أمام شدّة العذاب، بل أمام لذّة الامتياز، وأنّ الثبات في الفقد أهون من الثبات في الامتلاك.

هذا الانهيار أمام السلطة لم يكن استثناءً إنسانيًا، فقد كررته وألمحت إليه التجربة التاريخية والفلسفية: فهذا الإمام علي يقول: "الشجاع من غلب هواه." فنيكولو مكيافيلي في الأمير يشير إلى أنّ الحفاظ على الحكم غالبًا ما يفرض الانحناء أمام الغوايات والوسائل غير الأخلاقية، حتى على الأكثر صلابة في المبادئ. وتوماس هوبز في الليفياثان يرى أنّ الإنسان، رغم سعيه للبقاء أمام الخطر المباشر، لا يقاوم السعي وراء النفوذ والامتياز حين تتاح له الفرصة، مما يفسّر سقوط القيم أمام بريق السلطة.

إضافة إلى ذلك، تظهر التجارب التاريخية الحديثة لمختلف الأحزاب السياسية والتوجهات- الدينية وغير الدينية- التي قاومت الاستبداد، وأفرزت شهداء ومقاومين أبطال في المعتقلات، شهدت تراجعًا لمبادئها الأخلاقية حين تمكنت من الوصول إلى مواقع النفوذ والسلطة، وأصبح الإغراء بالامتياز الشخصي أكبر من الرهبة من الموت. وهنا يتجلى أن الامتحان الأخلاقي الحقيقي لا يُقاس بالمقاومة المباشرة للخطر، بل بقدرة الإنسان على الثبات أمام الترف والسلطة.

من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن تفسير هذا الانهيار عبر فكرة "العزلة النفسية والامتياز الفردي". حين يعيش الفرد في سياق جماعي تحت الضغط، تتولد شبكة من الالتزامات الأخلاقية المشتركة، ويصبح التضامن وسيلة للحماية والبقاء. لكن عند انفتاح السياق وإتاحة القوة للفرد منفردًا، تتفكك هذه الشبكة، ويبرز الصراع الداخلي بين الرغبة الشخصية والقيم المشتركة، فتتكشف هشاشة المبادئ أمام الإغراءات.

هكذا يمكن القول إنّ الإنسان لا يُختبر حقًا في ظل القهر وحده، بل حين تُفتح أمامه أبواب الامتلاك والسلطة. ما يبدو صلابة بطولية في وجه السوط، قد ينهار أمام بريق الكرسي. والمفارقة العميقة تكمن في أنّ امتحان القوة الحقيقية هو مقاومة الغواية وقوتها، لا مجرد تحمّل العذاب، وأن صمود الفرد أمام الفقد أهون من مقاومته أمام امتياز السلطة.

***

د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.

لا ينكر إلا جاهل أو متجاهل أننا نعيش أزمة وعي وجودية، تشبه انكسار البوصلة في بحر من الاضطرابات الحضارية. فالعقل الجمعي العربي، بكل طبقاته، ما يزال يرزح تحت وطأة المعطى الجاهز والمفكر فيه مسبقًا، سواء كانت مرجعيته قبلية عصبية أو دينية تقليدية.

المعضلة هنا ليست في التقليد ذاته، فكل حاضرة لها ماضيها، ولكن في تحول هذا التراث من وقود للإبداع إلى قيد على العقل. لقد أصبحنا نعيش على ريع الأفكار لا على إنتاجها؛ نستهلك المعرفة كما استهلكها أسلافنا، دون مساءلة أو نقد أو تمحيص.

الوعي المأزوم

الأمر الأكثر ألماً أن النخب المفترضة – سياسية كانت أم فكرية أم دينية - قد تحولت من قوى دافعة للتغيير إلى قوى كابحة له. فبدلاً من أن تكون منارات تستشرف المستقبل، أصبحت حراساً أمنين على مقابر الماضي؛ ترفع شعار "هكذا فكر الأسلاف"، وكأن العقل البشري توقف عن الإنتاج منذ ألف عام!

هذه النخب ترفض التغير المعرفي لأنه يهدد امتيازاتها، ويقوض شرعيتها القائمة على الوصاية الفكرية. فهي تعيد إنتاج الخطاب ذاته، بلغة جديدة أحياناً، ولكنها تبقى في الدائرة نفسها: دائرة الاجترار والتبعية الفكرية.

المجتمع المغلق

لم يعد الوعي التقليدي حصناً منيعاً يحمي الهوية، بل تحول إلى سجن كبير يقيد العقل، ويعطل طاقته على الإبداع والابتكار. فأصبحنا نرى العالم من خلال شبكة مفاهيم موروثة، لا نستطيع تجاوزها أو مساءلتها. كل فكرة جديدة تقابل بالرفض والاتهام بالخروج عن الثوابت، وكأن الثوابت هي أوامر نهائية لا تقبل المراجعة أو التطوير.

هذا النمط من التفكير ينتج عقلاً مغلقاً يرفض الحوار مع الآخر، ويخاف من المختلف، ويعتبر أي اجتهاد جديد خروجا عن الإجماع المزعوم. وهو بذلك يغلق على نفسه أبواب المستقبل، ويبقيه في دائرة التبعية والحضور الغائب.

تطوير الوعي: المعركة المصيرية التي لا بد منها

إثراء الوعي وتطويره ليس ترفاً فكرياً، بل هو معركة مصيرية تحدد مكانتنا في عالم يتغير بسرعة مذهلة. وهي مهمة شاقة؛ لأنها تتطلب كسر أصنام العقل التي عبدناها لقرون، والخروج من المنطقة الآمنة التي اعتدنا عليها.

هذه المهمة لا تقع على عاتق النخب وحدها، بل هي مسئولية مشتركة بين المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية والدينية. فالمدرسة يجب أن تتحول من مكان للتلقين إلى فضاء للتساؤل والنقد، والجامعة يجب أن تكون ورشة لإنتاج المعرفة لا مجرد ناقلة لها، والإعلام يجب أن يكون منصة للحوار الحر لا لترديد الشعارات الجاهزة.

نحو وعي جديد أو لا وعي

نحن أمام خيار وحيد: إما أن نعيد تشكيل وعينا الجمعي بما يتناسب مع تحديات العصر، وإما أن نبقى على هامش التاريخ؛ نعيش على ذكريات الماضي وأوهام الأمجاد الغابرة.

الطريق الوحيد المفتوح على المستقبل هو طريق الثورة المعرفية، التي تطلق العقل من قيوده، وتحرره من سلطة الجاهز والمسلم به. طريق لا بد أن نبدأ به الآن، قبل أن يغلق علينا المستقبل أبوابه إلى الأبد.

فإما أن نكون أو لا نكون.

لا تكمن الكارثة في انسداد أفق الوعي الجمعي، بل في انعدام الإحساس بالكارثة. فالمجتمع الذي يفقد القدرة على نقد ذاته، ويحول تراثه إلى تابوهات مقدسة، هو مجتمع يغلق باب المستقبل بيديه، ويوقع على شهادة وفاته الحضارية بإرادته.

الوعي المعلب

لم نعد أمام تراث حي يحاور وينمو، بل أمام منتجات فكرية مغلفة جاهزة للاستهلاك. لقد قُتلت الأفكار وتحولت إلى أشباح نقدسها دون أن نفهمها؛ نرددها دون أن نعيها. حتى الخطاب النقدي نفسه أصبح نسخة مكررة من خطابات الماضي؛ يدافع عن نفسه بنفس أدواته، وكأنه يدور في حلقة مفرغة.

هذه التعبئة الجاهزة للوعي تنتج عقلاً استهلاكياً غير قادر على الإنتاج، يعتقد أن الحقيقة ملك له وحده، فيرفض أي حوار مع المختلف، ويختزل العالم إلى أبيض وأسود، صديق وعدو، مؤمن وكافر.

النخب والانقلاب على الدور

الأخطر من تحول النخب إلى حراس للتقليد هو تحولها إلى سماسرة تابوهات. فهي لا تكتفي بالدفاع عن القديم، بل تستثمر فيه رمزياً ومادياً؛ فتصبح مصلحتها في بقاء الأزمة لا في حلها. هذه النخب ترفع شعارات الأصالة والهوية لتبرير جمودها، وتحول النقد إلى خيانة والاجتهاد إلى خروج.

هنا يصبح الوعي المزيف وسيلة للهيمنة والسيطرة؛ حيث تستخدم التابوهات لإسكات أي صوت مختلف، وإلغاء أي عقل يسائل أو يشك أو يجتهد.

الهروب إلى الماضي

نحن لا نعيش أزمة ماض، بل أزمة حاضر يهرب إلى الماضي. فالعقل الجمعي الذي يعجز عن فهم واقعه والتعامل مع تحدياته، يلجأ إلى الماضي كملاذ نفسي وأيديولوجي. يصبح الماضي هو الجنة المفقودة التي نعيش على ذكرياتها، بينما يتحول المستقبل إلى كابوس نخشى مواجهته.

هذا الهروب إلى الماضي ليس حلاً، بل هو جزء من المشكلة؛ لأنه يعمق أزمة الحاضر ويغلق أبواب المستقبل.

هل هناك مخرج من المتاهة؟

المخرج يبدأ بالاعتراف بأننا أمام أزمة وجودية تهدد مستقبل الأمة. لا بد من ثورة وعي تعيد بناء العقل العربي من جديد؛ ثورة تبدأ بتحرير العقل من سلطة المسلمات والتابوهات، وتعيد وصله بأسئلة العصر وتحدياته.

هذه الثورة تتطلب:

1.  تفكيك خطاب التقديس: بمراجعة التراث نقدياً، والتمييز بين المقدس والدنيوي، وبين الثابت والمتغير.

2.  تحرير العقل من الأيديولوجيا: فالعقل المسيَّب أيديولوجياً هو عقل مغلق غير قادر على الرؤية الموضوعية.

3.  بناء ثقافة السؤال بدل ثقافة الجواب: فالجواب الجاهز يقتل التفكير، بينما السؤال يفتح أبواب المعرفة.

4.  اعتماد العقلانية والنقد كمنهج حياة: في التعليم والإعلام والفن والسياسة.

إما أن نولد من جديد أو نغرق في بحر الماضي

نحن أمام خيار وحيد: إما أن نجري عملية ولادة جديدة للوعي؛ نتحرر فيها من قيود الماضي وأوهام اليقين، ونفتح عقولنا على آفاق المعرفة والعصر، وإما أن نستسلم للجمود ونغرق في بحر الماضي، فتصبح مجرد ذاكرة منسية في تاريخ الأمم.

فهل نغير وعينا، أم يغير الوعي قدرنا؟

***

د. عبد السلام فاروق

يبقى ماركس على تميز منجزه في حينه، ممثلا للانقلابيه المتاحه على مستوى النظر باعتبار الحاصل انتقالا في وسيلة الانتاج، من اليدوية الى الاليه، من دون احتمالية لابل ضرورة الانقلاب المجتمعي نوعا، مابين مجتمعية ارضوية ظل ماركس يكرر القول بانها في الجوهر حاجاتيه تحركها الدوافع الغريزية المعاشية، الى مابعدها، وماهي موجوده لكي تبلغه باعتبارها محطة انتقال بين الحيوانيه والعقلية، فاذا نظرنا لموقع ومكان المنجز المشار اليه وماترتب عليه، فان حصوله مع اجمالي حالة النهوض الاستثنائي الذي عرفه الغرب تحت طائلة الاله وفعلها مجتمعيا وعقليا، يعد من قبيل القمة الانقلابيه، الدالة على منتهيات المجتمعية الممكنه بناء للوضع الالي الناشيء، محسوبة وفقا لنمطية مجتمعية بذاتها، هي "الطبقية" الاوربية، لا المجتمعية على مستوى الكوكب على تنوعها، وبالاخص ازدواجها المجتمعي.

ومن الواضح الذي كان الغرب يصر على نفيه لصالح تكريس المركزية الاوربية، ان الانقلابيه الاليه ليست ولايمكن ان تكون من حيث الرؤية والمترتبات العملية، محصورة في الموضع الذي انبثقت فيه الاله، من دون اي احتمالية يمكن توقعها، او انتظارها بناء على ماهو متوقع من انتشار الاله على مستوى المعمورة، ماكان ومازال من شانه ادخالنا ضمن عملية تاريخيه لاحقة على انبثقاق الاله اوربيا، والى اللحظة الراهنه، وهو مسار عائد الى فعالية الاله مجتمعيا، وتفاعلها على هذا المستوى، وماينجم عنه من متغيرات تطرأ عليها تحورا، من المصنعية الى التكنولوجية، مع الخروج عن نطاق وفعالية "المجتمعية التاريخيه" الى " المجتمعية المفقسة خارج رحم التاريخ"، وانتقال الزعامه الانتقالية اليها، مع المصادرة التي تمارسها مفهوميا كما تفعل امريكا مع الارث الاوربي الالي، مع انها مجتمعية خارج المجتمعية، وبلاطبقات، قلبت بوجودها العملية الانتاجية الكيانيه الطبقية، فعولمتها خارج مفاهيم الوطنيه والسيادة، ماقد فتح الباب مطردا نحو عالم مختلف لامكان فيه لماركس الابتدائي الاوربي الطبقي، الجزئي، المرهون للطور الابتدائي من الانتقالية التحولية الاليه.

وهذا ماصار واجبا وملحا الى اقصى الحدود ادراكه ذهابا الى قلب اجمالي موضوعات الغرب الالية الاستهلالية، وفي مقدمها قمة الانقلابيه التحولية الطبقية، فلا المجتمعات "طبقية" تاريخها كما راى ماركس "ماهو الاصراع طبقات"، ولا الاله وسيله انتاج انبثقت لتحل محل وسيلة الانتاج اليدوية فحسب. وهنا تتمثل اليوم الحاجة الى " الثورة العقلية التحولية العظمى المنتظرة" كحصيلة للاصطراعية الغربية الاستعمارية الافنائية للموضع الاصل اللاارضوي الازدواجي، بعدما اقدمت الكيانيه المفقسه خارج التاريخ، على عملية افنائه ووضع اشتراطات وموجبات منعه من الحضور كذاتيه، بما فيها الكيانيه البرانيه المتشبهه بالغرب.

بعد الشيوعيه اللاارضوية الايديلوجيه المستبدله من لدن البنية والكينونه اللاارضوية، واندحارها في غمرة وتداعيات ثورة تموز 1958، حلت اشتراطات التحولية العظمى، واقترب كشف النقاب عن الحقيقة المجتمعية المضمرة المغيبه، والخارجه حتى الان عن طاقة العقل البشري، والعقل الراهن الغربي على الاحاطة، الامر الذي تتفاعل موجباته والاشارة اليه، بدلالة الثورة اللاارضوية الثالثة العراقية التشرينيه عام 2019، وجوهرها الكوني التحولي، وماهي موكله به، بعد الثورتين اللاارضويتين غير الناطقتين، في حزيران عام عشرين من القرن الماضي، وتموز 1958 . مامن شانه اظهار الحقيقة المطموسة عن التحول المجتمعي على مستوى المعمورة، وماسيكون حاضرا باعتباره ضرورة قصوى قد لاتستمر الحياة من دونه، الامر الذي يشجع على لفت انتباه القوى الطامحه على مستوى العالم للتغير، لان تبادر للالتحاق بالتحولية المجتمعية بدل الانقلابيه الطبقية التي انتهى زمنها ودورها، وبهذا تكتسب اليسارية السابقه وتحظى بفرصة الفعالية من جديد، معززة بحضورها وجهة الانتقالية التحولية، لتغدو كما تطمح قوة تحول حية، بدل الاحتمالية الاخرى الناجمه عن الاصرار العقائدي المفضي الى اللاجدوى والانقراض.

***

عبد الأمير الركابي

......................

(1) (ولاتوقف في التراث التاسيسي الامريكي للمضاهاة المرضية وعصاب استحضار مالا يستحضرولقد" تزاحم على المدح والتقريض الكتاب ورجال الكنيسه والمثقفين والمترسلون والاخباريون. مثال ذلك ان وليام مستوغتون( 1531/ 1701) مواطن من ماشوستسن كان يرى ان امريكا امة جرى اختيار مواطنيها بعناية، وان الله تصرف كما تغربل الحبوب في الغربال لفصل الحبوب الصالحة عن الزوان: على هذا المنوال، ستنمو البذرة الطيبه وسط الصحراء، وراى صموئيل سوال (1652/ 1730) وهو كاتب يوميات ورئيس المحكمه التي ستحاكم السحرة في "سالم" ان انكلترا الجديده هي المكان الذي سترتفع فيه " اورشليم الجديده" وثمة امثله عديده على مانقصده، للاطلاع عليها يقرا " كتاب العراق: الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة الاف عام"/ عبدالامير الركابي /دار الانتشار العربي ـ بيروت/ فصل" هندي بلا لون .. لاكيانيه ولا طبقات".

(2) يقول اورسيوس" لهذا قدر الله الملك في هذه المواضع وهذه الامم في الدنيا ارباعا: البابلي في الشرق، والقرطاجني في القبل، والمجدوني في الجوف" الشمال"، والروماني في الغرب، وكان بين السلطان الاول بابيل، والسلطان الاخر وهو سلطان رومه، فشبه السلطان الاول ـ وهو السرياني ـ بالوالد الموروث. وشبه السلطان الاخر ـ وهو الروماني ـ بالولد الوارث. واما الافريقي والمجدوني فانهما شبها بالوكيلين على الملك حتى كبر الولد الواجب له الميراث"/ تاريخ العالم/ الترجمه العربيه القديمه، حققها وقدم لها د عبد الرحمن بدوي/ المؤسسه العربية للدراسات والنشر/ ص 167/.

( 3) يراجع " حدث ويحدث في العراق والمنطقه.. امركة ام صهينه ؟"/ دار رؤى اشكالية/ فتحي رشيد/ وتقول الاحصاءات ان امريكا انفقت في حربيها على العراق 2،4 تريليون دولار امريكي.

(4) (ففي تصريح صادر عن اللجنة المركزية المجتمعة على عجل في 13 اب 1959، جرى التاكيد بان "المجازر والتعذيب ناجمه عن نقص في تربيه الجماهير وعن عدم فهم كاف للوضع السياسي في البلاد" وقد نادى الحزب الشيوعي ( المقصود الحزب الشيوعي الارضوي حزب الافندية) في الايام اللاحقة بالحاح اكبر بالالتفاف حول قاسم وبتكتيل" البرجوازية الصغيرة والوسطى الوطنيه والعمال والفلاحين)/ الاتحاد السوفياتي والصين ازاء الثورات ماقبل الصناعية/ هـ كارير دانكوسو س.و. شرام/ دار الحقيقة بيروت / ص69 .

(5) اكثر اشكال الحقد الذي يمارسه شيوعيو الارضوية الافندية على الشيوعيه اللاارضوية، الاصرار على الالتصاق بتاريخها 1943/1964 وادعاء الانتساب اليها وهو مالاحياة ولاوجود لهم من دونه.

(6) كراس "فهد" الشهير "حزب شيوعي لا اشتراكيه ديمقراطيه".

 

لاحظتُ صبياناً وشباناً يضعون في أعناقهم «خنجرَ أبي لؤلؤة» ذا الرَّأسين أو الشَّفرتين(الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك)؛ عوذهم به آباؤهم وأمهاتم؛ وهي واحدة مِن الأكاذيب والجهالات المقصودة؛ على أنه «سيفُ ذي الفقار»؛ فمِن المغرضات أنّ يصبح خنجرُ قاتل عمر بن الخطاب سيفاً بيد علىِّ بن طالب؛ في مصورات أحفاد الغلاة؛ كي يظهر أنَّ علياً قد قتل عُمرَ. أقول: إلى أين تذهبون برقاب وعقول صبيانكم وشبابكم، وأنتم تعوذونهم بطائفية متوحشة، ألا شاهت الوجوه والعقول.

جاء ذِكر «سَيْف ذي الفَقار»، في كتب التَّاريخ كافة، أنه غنيمة مِن معركة «بدر» (2هـ)، صار للنبي، ثم أهدي لعليٍّ، وظل يتداول بين أجيال العلويين، فصار لحفيد الحسن بن عليٍّ، محمَّد النَّفس الزَّكية (قُتل: 145هـ)، ثم استأثر به العباسيون، وآخر أخباره كان عند هارون الرَّشيد (تـ:193هـ) (الطَّبري، نفسه)، وضاع ليظهر مركباً عليه خنجر أبي لؤلؤة «ذور الرَّأسين».

إنَّ صورةَ سَيف ذي الفَقَار، المنتشرة في تماثيل ومصورات ومداليات، تُخالف الوصف الذي اِتَّفق عليه المؤرخون الأوائل. كان محلى بثماني عشرة فقرة، ولم يتحدث أحدٌ عن شفرتين في طرفه، ومعلوم أنَّ الفترة الصَّفوية رتبت وقائع وأحداث فيها الغلو والتَّطرف، فغُلَّف سَيف ذي الفَقار بخنجر أبي لؤلؤة (قُتل 23هـ) قاتل عمر بن الخطاب(23هـ).

هُدم المقام الذي كان يسمَّى بقبر أبي لؤلؤة، أو «بابا شجاع» تمجيداً له، عام 2007، والذي شُيد بمدينة كاشان الإيرانية، مِن قِبل أسرة عظيمي، التي أدعت الانتماء له (جميل، مقال قبر أبي لؤلؤة في المدينة أم كاشان؟!). فأبو لؤلؤة قُتل بالمدينة، بعد ساعة مِن طعنه لعمرَ، فكيف يظهر قبره بكاشان؟!

لقد كثر التَّهادي بسيف ذي الفَقار، وأُقيم له نصب تذكاريَّة، وصار مداليات في الأعناق، ولا بد مِن التَّصحيح للخيال المشوه، فهذا ليس سيف الرَّسول الذي أهداه لعليٍّ، وربَّما لم يعرف المتهادون، والدَّاعون إلى قيام النُّصب التذكارية لذلك السَّيْف هذه الحقيقة. لكنَّ القضيةَ أخذت تُعلن، والمجتمعات المختلطة لم ينقصها مثل هذا الخراب، وقد دخل مجال الفن.

إنه تحوير غير محايد، فهناك تحوير قصص لأغراض شتى لا تكون مؤذية، لكنَّ مثل هذا التحوير مقصود بلؤم، حفر شكله في العقول، والمزَوّرون يعرفون أنه إهانة لعلي بن أبي طالب أنّ يظهر متوشحاً خنجر أبي لؤلؤة. أقول: رفقاُ بصبيانكم وأنتم تقلدونهم وتعوذونهم بكذبةٍ؛ مفطرة في الإيذاء.

عندما يزوُّر التّاريخ يتحول إلى قناعات راسخة؛ مع أنه مِن خَيال المزوُّرين، تزور الأضرحة، وتُعطى أسماء غير أسمائها، فالدَّفين قد يكون عدو مَن عُرف به الضّريح، وتزور الحيطان والوقائع، وكلّ شيء قابل للتزوير، لكنْ حذاري مِن المؤذيات منها، فلكثرة تعبئتها في العقول تصبح حقائقَ، تظهر في المواسم.

 فلتكرارها مثلاً رسخت قولة «يا أهل العراق يا أهل الشّقائق والنّفاق»، لعليّ بن أبي طالب(اغتيل: 40هـ)، وهي قولة عبد الله بن الزّبير(قُتل: 73هـ)، فهناك مَن رماها تشفياً بالعراق وأهله، لتبقى طعنةً مدى التّاريخ، فنسبتها لقائلها ابن الزُّبير لا تبدو مؤثرة طاعنة؛ لذا نُسبت لإمامٍ وخليفة وهو عليّ بن أبي طالب، فأهل العِراق كافة كانوا علويين، وأهل الشّام كافة كانوا أمويين في الاِنتماء.

جاء نص العبارة على لسان ابن الزّبير، عندما ورده خبر مقتل أخيه مصعب بالعِراق: «وَأما الَّذِي أفرحنا فَعلمنَا أَنَّ قَتله شَهَادَة، وَأَن ذَلِك لنا وَله فِيهِ الْخيرَة، أَلا وَإِن أهل الْعرَاق أهل الشِّقاق والنِّفاق؛ باعوه بِأَقَلّ ثمن كَانُوا يأخذونه مِنْهُ، إِنَّا وَالله مَا نموت إِلَّا قصعاً بِالرِّمَاحِ وَتَحْت ظلال السُّيوف» (ابن قُتيبة، عيون الأخبار، القلعي، تهذيب الرِّياسة وترتيب السّياسة).

ربّما عبر معروف الرُّصافي(تـ: 1945) عمَّا قصدنا، مع اختلاف الغرض: «لُقنْتُ في عصر الشَّبابِ حقائقاً/ في الدِّين تقصرُ دونها الأفهامُ/ ثم انقضى عصر الشَّباب وطيشه/ فإذا الحقائقُ كلُّها أوهامُ»(الدِّيوان 1959). إذا أدرك ذلك الرُّصافيّ الفرد، فمِن العادة تثبت المزورات في المجتمعات ثبوت أنياب الوحش في الفريسة؛ وكم يبدو الأطفال والصّبيان، وهم يعلقون خنجر أبي لؤلؤة تعويذةً في رقابهم، فرائس لمَن زوَّر واستبدل خنجر أبي لؤلؤة بسّيف عليٍّ؛ وهذا على ما يبدو يتم تعليمه داخل مدارس أحزاب دينية موغلة بطائفيتها.

***

د. رشيد الخيُّون

ان كان لبلد او لامّة ان يأخذان موقعا محترما ضمن بقية الأمم فليس سوى التعليم على رأس أولويات ذلك الهدف. التعليم الاولي بداية من المراحل الابتدائية تنشيء الأجيال القادرة على انتاج مجتمع صحّي أساسه الاخلاق والوعي، ثم تكمّله الدراسات المتقدمة وصولا للدراسات العليا. ولست أجد في اساسيات انشاء نظم التعليم تلك من حجر اصلب ولا اضمن من وجود عقل او عقول قادرة على وضع ستراتيجيات بمختلف المديات ورؤى واهداف واضحة المعالم مع سياسات عمل قابلة للتطبيق ميزتها المرونة وإرادة التطور لكن...و اخ من لكن، حيث تسكب هنا أطنان من العبرات...لكن مع ضرورة بل وحساسية الثبات الحكيم الذي هو عكس التقلبات كيفما مالت ريح الصرعات والاجتهادات والشطحات الفكرية. ان ضمان الاستيعاب وتراكم الخبرات وتعديل الهنّات والأخطاء خلال مختلف مراحل التطبيق، وهو امر طبيعي بل وصحّي في غالب الأحوال، لا يمكن الحصول عليه مع التغيرات او التعديلات الكثيرة ضمن مرحلة زمنية قصيرة، حيث تكون التعديلات والتعديلات على التعديلات ثم العودة عن تلك الأخيرة لغيرها ضمن مدد قصيرة مصدر هدم وتخريب مهما كانت النوايا خيّرة او صادقة...و هذه من اساسيات علوم الإدارة ويعرفها كل من درس او مارس الإدارة.

نظام الامتحانات التقويمية للتخصصات المتماثلة في الجامعات، والذي يتلخص باختيار عدد من المواد الدراسية للمراحل الدراسية المختلفة، ثم وضع أسئلة امتحانية موّحدة في كل الجامعات الوطنية بقصد قياس مستوى التحصيل الدراسي لطلبة الجامعات او لنقل مستوى التدريس ونتاجه في الجامعات. بمعنى ان طلبة قسم الهندسة المدنية (مثلا) في جامعات بغداد والمستنصرية وووو الموصل والبصرة وواسط وووووو يمتحنون بمادة الأسس (مثلا) بأسئلة موحدة تختارها لجنة وزارية. هذا النظام ابتدأ العمل به في العراق حسبما أتذكر سنة 1995/1996 او بعدها بسنة، وقد كانت أوامر ال"قيادة" حينها رعبا بكل ما تحمله الكلمة حيث كانت تقضي بمعاقبة الأستاذ التدريسي الذي تكون نسبة نجاح طلبته اقل من 30%، وبالفعل فقد كانت العقوبة تحويل التدريسي الى ما يسمى معسكر ضبط (الرضوانية) مدة شهر يذوق فيها مختلف أنواع الإهانة والتنكيل، وهذا ما حصل حسب ما أتذكر لأستاذٍ فاضلٍ بدرجة بروفيسور  كان قد تجاوز الخمسين من العمر، وقد ترك البلد بعدها ليعاني ذل الغربة في ليبيا القذافي بدلا عن الهوان امام أولاده وعائلته وزملاءه.

لا ازعم انني اعلم من الخبراء والعلماء الذين أشاروا او قرروا إعادة نظام الامتحانات التقويمية، حيث لابد ان لهم وجهة نظر وحجج وفي كل الأحوال فما انا الا شخص بسيط لا وزن لما أقول. لكن حسب معايشة طويلة في ومع الجامعات العالمية الرصينة لم اجد مثل تلك الامتحانات لا قبلا ولا حاليا. بلى توجد اختبارات صلاحية ممارسة المهنة (بعد انتهاء الدراسة الجامعية) في تخصصات مثل الهندسة والطب والقانون والمحاسبة...الخ، تقوم بها مؤسسات مستقلة عن المؤسسات الجامعية والفشل فيها لا يلغي شهادة التخرج للطالب كما انه لا ينعكس على الأستاذ ولا على الكلية بشكل مباشر لأنه في كل الأحوال اختبار للجهد الشخصي للطالب. وحتى في حال وجود تجارب قريبة منها فانها تكون على مستوى الكلية او الجامعة ذاتها لضمان رصانة المخرجات وتعدّ من مكملات الحصول على الشهادة.

بسرد مختصر لاهم مواطن الضعف في نظام الامتحانات التقويمية أثناء الدراسة الجامعية يمكن القول:.

1. تؤدي بالضرورة لتُحجِّم الإبداع والخصوصية وذلك من حيث:

أ‌. فقدان المرونة الأكاديمية:

- كل كلية (خصوصًا الرصينة منها) تصمم مناهجها بما يتناسب مع رؤيتها ورسالتها البحثية والتربوية وخصوصيتها المناطقية والموارد المتوفرة.

- فرض امتحان موحّد يعني إلزام جميع الكليات بنفس المخرجات والطريقة وربما نوع الأمثلة والكتب المنهجية، مما يحد من التنوع والابتكار.

ب‌. تشجيع الحفظ والتلقين:

- الطالب يركز على اجتياز الامتحان الموحد أكثر من تنمية التفكير النقدي أو الإبداعي.

- وهذا يتعارض مع فلسفة الجامعات المرموقة التي تُعطي أولوية للتفكير الحر، البحث المستقل، والمشاريع التطبيقية.

ت‌. إضعاف الهوية الأكاديمية للكلية:

- بعض الكليات تتميز بتخصصات فرعية أو توجهات بحثية خاصة (مثلاً كلية طب تركز على البحث السريري، وأخرى على الصحة العامة كما ان بعض الكليات الهندسية تكون موجهة اكثر للنواحي التطبيقية وأخرى للتصاميم والابداعات النظرية).

- الامتحان الموحد قد يُجبر الجميع على منهج وسطي يذيب هذه الخصوصية.

ث‌. إضعاف الابتكار في التدريس:

- عند وجود امتحان مركزي، يُصبح هم الأساتذة "تدريب الطلبة على شكل الامتحان" بدل تطوير طرق تدريس جديدة أو مشاريع بحثية مبتكرة. وقد يكون الخوف والتوجس من الانعكاسات السلبية المحتملة عامل تثبيط للحماس والانفتاح الفكري للتدريسي.

2. مقارنة مع الجامعات العالمية:

- الجامعات العالمية الرصينة تُفضل التقييم المتنوع: أبحاث، مشاريع، امتحانات داخلية، تقييم عملي، عروض شفوية… إلخ.

- الجودة تُقاس عبر اعتماد خارجي (Accreditation) يضمن أن الكلية تحقق المعايير، لكن يترك لها الحرية في كيفية بلوغ هذه المعايير.

- في التخصصات التي فيها امتحانات موحدة (كالطب)، غالبًا الامتحان يكون في نهاية البرنامج أو في شكل "اختبارات تقدمية" تساعد الطالب ولا تُلغِي خصوصية الكلية.

ذلك إضافة للأعباء الإدارية والمالية واللوجستية الكبيرة على الكليات قبل واثناء توقيتات تلك الامتحانات التقويمية التي تأكل الكثير من جرف التقويم الدراسي، تسبقها العديد من محاضرات التهيئة والتدريب على أداء تلك الامتحانات والذي يختلف اجرائيا عن المتعارف عليه من الامتحانات التقليدية، حيث يكون الهاجس الأول والأهم للقيادات الجامعية الخروج من ربقة تلك الامتحانات دون التعرض للعواقب المحتملة لحصول طلبتهم على نتائج ضعيفة.

نعم، خلاصة القول هنا، ان الامتحانات الموحدة أثناء الدراسة الجامعية تُضعِف الإبداع والخصوصية الأكاديمية لكل كلية، وتخلق جوا من التوتر لدى الملاكات التدريسية والأهم من ذلك كله انها لا تؤدي لوضع صورة حقيقية عن مستوى المخرجات التعليمية لان أساسها خلط غير مفهوم بين فلسفة التعليم العالي الذي سمّي عاليا كونه انطلاق في فضاء الابداع المتحرك المتغير مع المعطيات الجديدة كل يوم وبين فلسفة المحفوظات والنمط الواحد الذي قد ينفع في المراحل الابتدائية الأولية التي يتوجب فيها على كل الطلبة معرفة حروف الهجاء وجدول الضرب (مثلا)... وحتى في هذه قول كثير لولا ضيق المجال، ولهذا السبب فالجامعات العالمية المرموقة لا تعتمدها وتفضّل ضمان الجودة عبر الاعتماد الأكاديمي والاختبارات المتنوعة داخل كل جامعة.

أقول قولي هذا واعيا وواثقا انها مجرد كلمات شخص بسيط لا وزن له في منظومات القرار، لكنها ابراء للذمة وليعتبرها من لا يتفق تخاريف عجائز وليمض فيما يشاء ويشتهي والله تعالى المستعان لاجيالنا الحالية والمستقبلية.

***

أ.د. سلام جمعه باش المالكي

ليس الانقلاب من اليدوية الى الاليه هو انقلاب في وسيلة الانتاج جوهرا، بقدر ماهو انقلاب في النوع المجتمعي، ولحظة تحول من الارضوية الجسدية، الى اللاارضوية / العقلية، يبدا حيث تنبجس الاله في الموضع غير القادر على ادراك وتبين ابعاده، فيحصره في الانتقالية على مستوى وسيلة الانتاج لتصبح تلك عتبه بداية، ومحطة انتقال مجتمعي توهمي، تؤدي حدة دينامياتها التحولية غير المنظورة الى جعل المجتمعية الارضوية الطبقية منها بالذات، تذهب الى مقاربة التحولية بما تتيحه كينونتها الاصطراعية، متخيلة ماممكن من تحول "طبقي" ناف كحصيلة للطبقية، من دون الانتقال على مستوى النمطية الاخرى، والنوع المجتمعي المغاير، لتبقى مثلما هي عليه، وكما كانت، ارضوية وان تكن بلاطبقات، ولا ملكية خاصة، ولا دولة، الامر المتوفرة اشكال منه راهنا واصلا في البنى المجتمعية، ومثالها مجتمعات اللادولة، امريكا الهندي الاحمر،الامريكيه اللاتينيه، الاسترالية، غيراجزاء من افريقيا وبعض من آسيا.

ويلعب السبق الالي دورا حاسما في منح النمطية المجتمعية التي تنبثق في رحابها الالة، قدرات وامكانات على مستوى تسارع الديناميات والطاقة، تيسر لها الغلبة النموذجية والتفكرية على مستوى المعمورة، بغض النظر عما يرافق الفترة المشار اليها من اهوال واضطراب، وعنف واجحاف هائل، يقف في مركزه الميل للغلبة والمركزية والانتاجية الاستغلالية الجشعه المتعدية على غيرها، والاستعمارية التسلطية باسم "التقدم"، ماتظل تلعب دورا اساسا في استمراره القصورية وعيا، وبالذات وتعيينا، بما يتعلق بموضوعه وسيلة الانتاج ودورها في صياغة النوع المجتمعي، والاختلافات المرحلية والتاريخيه المحالة لقوانين الوجود، من المجتمعية الارضوية الجسدية الحاجاتية اليدوية الاولى، الى الغاية الوجودية والهدف التحولي الاعظم اللاارضوي مجتمعيا، حيث التحول العقلي مابعد الجسدي المقرر ابتداء.

وتلعب دورا حاسما في تكريس التوهمية الاليه وقتها ناحيتان، في مقدمتها ارضوية الموضع المنبثقة فيه الاله، والاهم هو استمرار القصورية العقلية التاريخيه بازاء الظاهرة المجتمعية في ارضها كما عالميا، والعجز ادراكا دون الوقوع على الازدواج المجتمعي والاصطراعية المواكبه له مع اجمالي الاليات المتصلة به، مع استهدافاته، الامر الحال على الموقع الاساس المؤهل كينونة لبلوغ مثل هذه الادراكية افتراضا، بحكم الكينونة والمسار التاريخي وتفاعله، فارض الرافدين حيث اللاارضوية والازدواج الاصطراعي، هو محرك التاريخ، لاتكون الانتقالة الفاصلة العظمى نحو وعي الذات قد تحققت وقتها، ومع ان بدء انبعاث هذا الموضع الخاضع لقانون الدورات والانقطاعات منذ القرن السادس عشر، وهو تاريخ انتقال العالم الى المجتمعية العقلية، غير ان النطقية الاساس والضرورة الفاصلة، ظلت من حينه وحتى مابعد الانتقال الاوربي الى الطور المصنعي الابتدائي من تاريخ التحولية وتوهميته غائبه، ماقد منح الغرب ووجهته التغلبيه على مستوى المعمورة، فرصة التفرد التوهمي كتصور ونموذج شمل حتى موضع التحولية نفسه، والقى عليه بوطاة المنظور والتصور الالي.

هذا علما بان الموضع المذكور كان قد بدا عملية تشكله الراهنه الثالثة صدوعا لالياته التاريخيه، قبل انبثاق الاله في اوربا في القرن السابع عشر، ومرت عليه تشكليا فترتان، اولى قبلية مثلها "اتحاد قبائل المنتفك"، وثانيه انتظارية نجفية انبعاثية، من دون نطقية لاارضوية ازدواجية كانت بانتظار التفاعليه الكبرى، مع الدخول تحت طائلة الانتقالية الاليه وغلبتها الكوكبيه، وتكريسها منظورها ل"العراق الحديث" المتخيل والخاضع لاليات الافتراضية الاليه وتوهميتها ككيانيه مفتعله، من خارج الموضع الازدواجي التاريخي، الصاعد تشكلا بلا نطقية مايزال.

ضمن هذا السياق نشات الاصطراعية البنيوية التحولية المجتمعية اللاارضوية الازدواجية اليوم، مع الانتقالية المؤقته الاليه، احد طرفيها مايزال بلا نطقية، والاخر بنطقية متضخمه توهميه، ظل التصور الغالب بشأنها يكرسها بما هي عليه، غير منتبه فضلا عن الاعتراف، الى احتمالية الاصطراعية البنيوية من دون نطقية، وهو ماتلجأ اليه وظلت تلجا اليه على مر تاريخها الطويل، ومنه مامر عليها من دورات سومرية بابلية ابراهيمه، وعباسية قرمطية انتظارية، مؤدية الى النطقية الاولى والابراهيمه الكوراجينيه، والثانيه القرمطية الاعتزالية والاخوان صفائية الخوارجيه، الاسماعيلية التشيعية الانتظارية، غير القابلة للتحقق، في حين تمثلت اليوم في الانتقال من نطاق القبيلة والانتظارية النجفيه في قفزة مقاربة للانتقالية الكبرى المستهدفة في استخدام التحولية الارضوية الدنيا بصيغتها الاعلى الطبقية"الماركسية"، فاذا بالموضع الاكثر "تخلفا" جنوبا يتحول الى بؤرة انقلاب تحولي مافوق ارضي.

هنا ومن دون دراية من احد او جهه، وجدت الصيغة الشيوعية الماركسية الثالثة، الاولى " الماركسية الاوربية"، والثانيه "التطبيقية الماركسية اللينينه"، والثالثة غير المكشوف عنها النقاب "الشيوعية السومرية اللاارضوية" التي تذهب بالتحولية الدنيا الارضوية الى التحولية المجتمعية العليا، وهو مالم يكن ليدرك في حينه، مع ان بعض الاشارات دلت عليه، مثل ماذهب اليه " فهد" يوسف سلمان يوسف، حين فرق بين "شيوعيه الافندية" البغدادية، وشيوعية الناصرية، معتمدا على تجربة لنين وروسيا، حيث وجدت البلشفية وقتها مقابل المنشفية (6) وهو ابعد ماكان ممكنا ان ينطق به مع نوع وحدود ادراكية، مؤسس الشيوعيه التي تتعداه وقتها نوعا.

انتهت الماركسية بصيغتيها الاوربية المنطلق، والروسية التطبيقية الاليه الاستبدادية، الامر المتوقع والبديهي مع تقدم السيرورة التحولية، وانتقالها من الفترة الاولى الاليه الاوربية ومنظوراتها التوهمية الاستباقية، الى مابعدها، وماهي موجوده بالاصل كي تذهب اليه، مع مايرافق المسار المشار له من انقلاب في الوضع الاجمالي على المستويات المختلفة، وصولا الى التازم الاكبر الانتقالي الضرورة الفعلي، الكامن بين تضاعيف العملية الانتقالية المجتمعية، مع عملية التحول في وسيلة الانتاج، من المصنعية الاولى ومارافقها من نموذجية مجتمعية وتصورية، الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، والى التكنولوجيا العليا العقلية ومايترتب عليها من تفارق بين وسيله الانتاج وطبيعة وموضوع الانتاج، مع مقتضيات الانقلابيه الفاصلة العقلية والكبرى الحاسمه المنتظرة منذ بدايه التبلور المجتمعي، مايمكن تصور امكان واحتمالية، ان لم يكن ضرورة ارتفاع العقل التحولي الادنى والابتدائي باعلى صيغه كما تجلت في شيوعية ماركس، كي يتحرر من وطاة ومتبقيات المنظورالارضوي، مغادرا عن طريق الالتحاق بالمنظور اللاارضوي، حالته التردوية الراهنه المؤشرة عمليا للانقراض، او التحول الى" طائفة" معزولة خارج الزمن والواقع.

ـ يتبع ـ حلقة أخيرة

***

عبد الأمير الركابي

كان مقتل رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين (1995) نذيراً بشل ما أتُفق عليه بأوسلو (1993)، ومن نتائجه ظهرت السُّلطة الفلسطينيّة، وظهر أفق لحلِّ القضية الفلسطينية، حسب قرار الأمم المتحدة (242) بعد حرب (1967). وكان مقتل رابين مِن نتائج التعصب والتَّشدد الممزوج بين السّياسة والدِّين، بعدم الاعتراف بحلِّ الدّولتين.

أشار الكاتب والإعلامي سليمان الهتلان في مقال نشرته «الاتحاد» (17 أغسطس 2025): «نتنياهو وإسرائيل الكبرى قراءة في دلالات التحول الصّهيوني»، قائلاً عما صرح به نتنياهو «ليس فقط بسبب طابعه الاستفزازيّ، بل لأنه يعكس توجهاً أعمق في الفكر السّياسي الإسرائيليّ نحو ترسيخ رؤية توراتيَّة، تضع اليهود في موقع شعب الله المختار (إلى قوله): محاولة لإعادة صياغة الرواية الصّهيونيّة».

أقول: كان الأخطر في الشّعار (إسرائيل الكبرى) اليوم، أنه يأتي على لسان رئيس وزراء، ولو كان على لسان داعية ديني أو منظمة لهان الأمر، ففي حال طرحه مِن قِبل رئيس حكومة، فإنه لا يُفهم منه غير التنكر لوجود فلسطيني، وكأن فلسطين لا وجود لها في التاريخ والجغرافيا، مع أنَّ الاسم: فلسطين، وبحر فلسطين، وسُكان فلسطين، والفلسطينيّ، والفلسطينيين، وردت في الكتاب المقدس، العهد القديم، في مئتين وأربعة وخمسين نصاً منه.

أما في التّاريخ العربي الإسلاميّ، قبل أنّ تكون فلسطين ضمن الدّولة العثمانيَّة، وقبل الانتداب البريطانيّ بقرون، كانت كياناً سياسيّاً يُعرف بـ«جند فلسطين»، والجند يعني «البلد»، وله أمراء معروفون. قال هَمَّام بن غالب الفَرزدق (ت: 101هج): «سما بالمهاري مِن فلسطين بعد ما/ دنا الفيء مِن شمس النَّهار فولت» (البَلاذُري، جمل مِن أنساب الأشراف).

هذا، وعندما دخل المسلمون بيت المقدس أو إيليا، وجدوا المسيحيين الفلسطينيين، وجرى التفاوض معهم، وتُركت لهم كنيسة القيامة (البَلاذُّريّ، كتاب الفتوح)، مع وجود اليهود كسكان قدماء، كان عددهم حسب «معجم الكتاب المقدس» الصّادر سنة (1894) مادة «فلسطين»: ستمائة ألف أو ستمائة أسرة، وفي العام (1940) كان عدد السّكان جميعاً مليون وأربعمئة وستة وستين ألفاً وخمسمئة وست وثلاثين نسمة، على مساحة قدرها عشرة آلاف وأربعة وعشرون ميلاً.

هذا، كان عدد اليهود داخل فلسطين قبل خروج بريطانيا (1948)، يوم إعلان دولة إسرائيل، ستمئة وتسعة وعشرين ألف يهودي، وعدد الفلسطينيين مليون وثلثمئة وتسعة عشر ألف نسمة، على المساحة نفسها التي ذكرها «قاموس الكتاب المقدس»، بالكيلومترات، سبعة وعشرون ألفاً وأربعة وعشرون كيلومتراً مربعاً (أكرم زُعيتر، المعارف المصريَّة 1955).

ليست المشكلة مع اليهود الأُصلاء بفلسطين، ولكن مع الهجرة بكثافة إليها، على حِساب الفلسطينيين، فيرى الفلسطينيّ ما علاقة اليهودي الرُّوسي والأميركي والأوكراني والإثيوبي وغيرهم مِن مختلف الشّعوب والأمم بفلسطين، وهذا ما تنبّه له وجهاء الطَّائفة اليهوديّة العراقيَّة، عندما عرض عليهم البريطانيون ما جاء في وعد بلفور، فكان جوابهم: «إنَّ فلسطين مركز روحي لنا، ونحن نساعد المعابد ورجال الدِّين فيها مالياً. لكنّ وطننا هذه البلاد، (العِراق) التي عشنا في ربوعها آلاف السِّنين، وعملنا بها، وتمتعنا بخيراتها. فإذا رأيتم أنْ تساعدوا هذه البلاد وتحيوا اقتصادياتها، وتسندوا تجارتها وماليتها، فإننا نشارك في الرَّخاء العام» (مير بصريّ، تاريخ يهود العِراق في القرن العشرين).

فما هو المسوغ لإلغاء هذا الوجود، فمثل تصريح رئيس الوزراء «إسرائيل الكبرى» سيقابل بشعار «فلسطين الكبرى»، وهذا مطروح ممَن لا يرون وجوداً لإسرائيل مِن الأساس، فما هي مصلحة الشَّعب الإسرائيليّ بمثل هذا الشّعار، أليس توطين وجودها إلى جانب دولة فلسطينية يُنهي هذا الصّراع، الذي بُنيت وتراكمت عليه صراعات، والحقّ الذي ينكره عتاة التّشدد بوجود دولة فلسطينية، ومحاصرة السُّلطة الفلسطينَّية بالمستوطنات، لا يعني أنّ الوضع سيستقر بإسرائيل، والحقّ لا يسقط بالتّقادم، فما زال هناك شعار «إسرائيل كبرى» سيوَّرث شعار «فلسطين كبرى»، وماذا بعد؟ أما المختارون مِن الشُّعوب فكلُّ أتباع ديانة يطرحون أنفسهم كأنهم أهل الله وشعبه المختار.

***

رشيد الخيّون كاتب عراقي

 

كما بقية العالم، كان لابد للعراق ان يمر بالمرحله الافتتاحية الارضوية من الانقلاب الالي مع مترتباتها ومايواكب صعودها من انقلابيه شامله على المستويات المختلفة عمليا حياتيا نموذجيا، وتفكريا، ووقتها يكون هذا الموضع من المعمورة على استثنائية نمطيته وفعاليته التاريخيه، واقعا تحت حكم حقبة من تاريخه الانقطاعي بين الدورتين، الثانيه المنقضية والتي انجزت المحركات الاقتصادية الضرورية للانتقال الالي البرجوازي اوربيا، والحالية المنبعثة مع القرن السادس عشر، ضمن اشتراطات الخضوع للبرانيه اليدوية الشرقيه الحالة عليه منذ القرن الثالث عشر، مع سقوط عاصمته الامبراطورية، وتحولها الى قاعدة تتعاقب عليها منذ هولاكو في 1258، الدول ومشابهات الامبراطوريات، خلال الفترة بين الثالث عشر والسادس عشر اولا، بظل غياب العراق الكلي، ثم من السادس عشر، الى نهاية الطور العثماني المقترن بالاصطراعية التي ولدت من حينه، مع بدء التشكلية الحديثة، بما منع  الى ابعد الحدود النفوذ التعاقبي البراني الشكلي المنحصر في بغداد اصلا، من ان يبسط سلطته على البلاد، وبالذات على الجزء المنبعث اللاارضوي منها في ارض السواد، جنوب العاصمة الامبراطورية المنهارة وصولا الى الفاو.

وتعرف التشكلية مابين النهرينيه الحديثة محطتين تاريخيتين سابقتين على الحضور الغربي في مع القرن العشرين، اولى قبلية قاعدتها " المنتفك"، وثانيه انتظارية استعادية نجفية،  تبدا مع القرن الثامن عشر بعد الثورة الثلاثية 1787 ،القبلية التي حررت العراق الاسفل من بغداد الى جنوب البصرة، مع الاختلاف الهائل في طبيعتهما ودلالاتهما، مع استمرار "اللانطقية" مهيمنه على الطرف الصاعد تشكلا، فالحضور الغربي  من حيث الدلالة يتفوق على انهيارية الدورة الثانيه ومااعقبها من البرانيه الهولاكوية، من حيث كون البرانيه الاولى يدوية بخلاف الاحتلال الانكليزي الالي الانقلابي، وتمايزهما عن بعضهما جوهرا وفي الممارسة ونوع الحضور، فالبرانيه المستمرة الاولى الى نهياية الفترة العثمانيه، لم تكن تملك تصورا نموذجيا كيانويا كما الحال اليوم مع شيوع مفاهيم الكيانات والدول، واسقاط المروية الويرلندية الاكراهية البرانيه المتهافته والقصورية، الجاهلة بابسط اسس المطلوب المطابق للحالة، مشفوعه بالجانب العملي التطبيقي الشامل على مستوى المعمورة وفي المنطقة، حين كان هم الاستعمار الغربي وقتها "صناعة الامم" كتدبير يجده متلائما مع اغراضه.

ووقتها ستعاني التشكلية الرافدينيه الحديثة من قوة فعل جانب آخر يخص الكينونة التاريخيه، تمثل اليوم بالذات في القصورية الذاتيه المتجدده، فالعراق على مدى تاريخه الطويل خلال دوراته، كان بلا رؤية ذاتيه او متفق عليها، لتعدي نوعه المجتمعي، ونمطيته الموضوعية طبيعة، للقدرات العقلية على الاحاطة، وقد تمثلت اليوم في تاخر النطقية الذاتيه، بمقابل الغلبة الكاسحه النموذجية الغربية المرافقة لبدايات الانقلاب الالي، ماقد حول حدة واشتداد الحاجة الاستثنائي للنطق، الى  زخم استعارة لمامعدود في حينه وساعته كمبتغى وغاية من لدن ماهو اعلى منه طبيعة ونمطية تاريخيه، لندخل طورا من تاريخ التشكلية، غاية في الاستثنائية غير المالوفة، ولا المتعارف عليها في اي مكان، هي بالاحرى وجهة مسار التشكلية الانقلابيه الكونية المضمرة في الصيغة الانقلابيه الالية الاوربية  والمتجاوزة لها الى غير نمطيتها كنتيجة منتظرة.

ومع سيادة الويرلندية قصورا وعجزا ذاتيا، لم تتوقف الاليات الذاتيه عن الفعل بالاخص كما قد حصل مع صيغ التحولية الطبقية الاوربية "الشيوعيه"، فكان ان وجدت هنا بحكم دفع الاليات الذاتيه "شيوعية لاارضوية"  واخرى "شيوعيه ارضوية"، الاولى قامت جنوبا في مدينه الناصرية عاصمه المنتفك موضع الانبعاث السومري اللاارضوي الحديث، والثانيه سبقتها في العاصمة المنهارة من دون اي اثر و افعاليه تذكر، ولم يقف هذا الاستبدال عند الشيوعية فقط، فلقد حصل مع الفكرة القومية ممثلة بالبعث الشيءذاته، وبعد محاولات تاسيس بغدادية فاشلة، عادالبعث  وتاسس في الناصرية، ليحضر من حينه ذات "الازدواج" التاريخي، دولة لادولة غير معلنه في الاسفل، مقابل دولة الاحتلال البرانيه المؤسسة في العاصمه المنهارة، ولينتهي مع "الجبهة الوطنيه" وثورة 14 تموز1958 الى اقتلاع واكل الصيغة الاحتلالية في الشوارع، في غمرةالثورة اللاارضوية الثانيه غير الناطقة.

ليس حزب " فهد/ غالي الزويد" حزبا شيوعيا من نوع مامتعارف عليه من احزاب شيوعيه منها حزب حسين الرحال البغدادي ابتداء، وعزيزمحمد/ الكردي منذ عام 1964 الى الوقت الحاضر، فالعراق هو البلد الوحيد الذي عرف  بفعل ازدواجيته التكوينيه التاريخيه نوعين من الاحزاب المستعارة، لاارضوية وارضوية معادية للاولى،  وهو مايشمل الشيوعي والبعث المتحول والمحور لاحقا هو الاخر الى حزب سلطة ريعي عائلي، متحالف مع الحزب الشيوعي الارضوي  الحالي، المتماثل مع اشتراطات الاحتلال الافنائي الامريكية والمتفاعل مع المخطط الافنائي الامريكي .

بين 1934/ حتى 1964 قام في العراق نمط حركة تتبنى المنظور التحولي الطبقي الماركسي بصيغته الابتدائية،  انما وفق اشتراطات وجود وفعالية وكينونه لاارضوية متعدية لنظرية ماركس ولنين، تنتمي الى كوراجينا وحمدان قرمط، والنمط الاعلى والامثل مجتمعيا،  تشاركيا سماويا، المتعدي لتمايزات  الملكية والسلطوية الكيانيه، والذاهب كونيا الى مابعد مجتمعية، وان هو وجد محكوما لشروط اللانطقية الباقية الى مابعد الثورة اللاارضوية الثانيه عام 1958، المتعدية  استهدافا والخارجه عن نطاق ومهمات مايعرف بالثورة"البرجوازية" (4) ماافضى  الى الاجهازعليها، وذبح اداتها المحركة عام 1963، وهوماقد استغله حزب الشيوعية الشكلي الارضوي، مع سطو عزيز محمد ممثل الدينامية القومية الكردية على قيادة الحزب، وبدء غلبة  نوع آخر من الشيوعيه المتعارف عليها، المصادرة والمعادية للشيوعية اللاارضوية، وبالذات وخصوصا، عن طريق الاصرار على الانتساب الكاذب المعيب المخزي لها، وتعمد تلطيخها بالعفن عن طريق سرقة ارثها التاريخي. (5)

ضمن هذا الصنف الفريد من التفاعلية مع الطرف الافنائي الغربي ابتداء من صيغته الاولى الكيانوية الاحتلاليه المباشرة، ومن ثم تعبيرية العجز النطقي،  وفي السياق انتهاء مفعول الغرب بصيغته الانقلابيه النموذجية الاولى كيانيه ( الدولة / الامه)، لصالح تزعم الكيانيه المفقسة خارج رحم التاريخ الامريكيه، والعولمه  المتداخله مع الانقلابيه في الوسيله الانتاجية من المصنعية الى الانتاجية التكنولوجيه، و جهدها لانهاء اخر وكل متبقيات"الكيانيه" والسيادات الوطنيه بلا افق ولامشروع بديل، بينما تتنامى بين تضاعيف المجتمعات والعملية الانتاجية، اسباب الانتقال الى الطور التكنولوجي الثاني "العقلي"، ولايعود للمجتمعية اليدوية اي حضور او متبقيات ممكنه، مع حلول نذر التازم الاعظم على المعمورة، بينما تتجلى باطراد،ملامح الاختلال الشامل الافنائي، ويصير من غير الممكن ولا القابل للاستمرار تحت طائله وثقل التاريخ والمصير، غياب النطقية العظمى اللاارضوية، ذهابا للعتبه الاخيرة المؤجلة من الانقلاب الالي الفعلي،  وهو مايقع على عاتق الموضع الجدير به، ارض اللاارضوية الاولى المغيبه، ارض مابين النهرين.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

في مطلع القرن العشرين، وفي سياق الصراعات الطبقية العنيفة التي ولّدتها أزمة الرأسمالية وحروبها الهمجية، برزت فكرة عالم جديد داخل حركات المساواة. وفي مواجهة فكرة القطيعة الثورية هذه، برز تياران سياسيان جديدان أيضاً: الفاشية والاشتراكية الوطنية. وقد أفسح سحق الثورة الاجتماعية في إيطاليا وهزيمة الثورة الألمانية المجال لهذه التنظيمات الشمولية.

تتميز الفترة الحالية باختلال التوازن الاقتصادي، وتنامي التفاوت الطبقي، وانهيار فكرة المصلحة الاجتماعية، وانهيار جماعات المستغَلين أيضاً. ومرة أخرى، يظل أفق الرأسمالية غامضاً. الأيديولوجيات القديمة مُهتزة، ويسود انعدام الأمن والخوف، وقانون الأقوى يَعِدُ بالسلامة، حتى مع تقليص متطلبات الربح للمساحة السياسية "للإصلاحات". أمام اتساع نطاق القضايا المطروحة، تفقد معالم الماضي وضوحها مع نسيان التاريخ، ويتسع مجال الالتباس. تكتسب التحالفات والتقاربات السياسية قوةً من خلال استحضار قيمة مبدأ السلطة القديم. يبدو أن الانفصال الواعي عن نظام الربح وحده كفيلٌ بتوضيح الأفكار وفتح آفاق جديدة. في غضون ذلك، يبدو أن توضيح جوانب الحاضر المظلمة من خلال فهم أفضل للماضي أمرٌ حيوي.

الاشتراكية الاستبدادية

الاشتراكية الاستبدادية، أو الاشتراكية من الأعلى، هي نظام اقتصادي وسياسي يدعم شكلاً من أشكال الاقتصاد الاشتراكي، ويرفض التعددية السياسية. يُمثل مصطلحها مجموعة من الأنظمة الاقتصادية والسياسية التي تصف نفسها بأنها "اشتراكية" وترفض المفاهيم الليبرالية الديمقراطية للتعددية الحزبية، وحرية التجمع، وحق المثول أمام القضاء، وحرية التعبير، إما خوفاً من الثورة المضادة أو كوسيلة لتحقيق غايات اشتراكية. وقد وصف الكتّاب والباحثون العديد من الدول، أبرزها الاتحاد السوفيتي والصين وكوبا وحلفاؤها، بأنها دول اشتراكية استبدادية.

على النقيض من أشكال الاشتراكية الديمقراطية، والمناهضة للدولة، والليبرالية، تشمل الاشتراكية الاستبدادية بعض أشكال الاشتراكية الأفريقية، والعربية، وأمريكا اللاتينية. على الرغم من اعتبارها شكلاً استبدادياً أو غير ليبرالي من أشكال اشتراكية الدولة، والتي غالباً ما يُشار إليها ويُخلط بينها وبين الاشتراكية من قِبل النقاد، ويُجادل النقاد اليساريون بأنها شكل من أشكال رأسمالية الدولة، إلا أن تلك الدول كانت ماركسية لينينية أيديولوجياً وأعلنت نفسها ديمقراطيات عمال وفلاحين أو ديمقراطيات شعبية. يميل الأكاديميون والمعلقون السياسيون وغيرهم من العلماء إلى التمييز بين الدول الاشتراكية الاستبدادية والدول الاشتراكية الديمقراطية، حيث كانت تُمثل الأولى في الكتلة السوفيتية، وتُمثل الثانية دول الكتلة الغربية التي حُكمت ديمقراطياً من قِبل أحزاب اشتراكية - مثل بريطانيا، وفرنسا، والسويد، والديمقراطيات الاجتماعية الغربية بشكل عام، من بين دول أخرى. يُعرف أولئك الذين يدعمون الأنظمة الاشتراكية السلطوية باسم "التانكي" tankies ازدرائياً. على الرغم من أن الاشتراكية الاستبدادية نشأت من الاشتراكية الطوباوية التي دعا إليها الكاتب السياسي الأمريكي "إدوارد بيلامي" Edward Bellamy (1850-1898) والتي وصفها الباحث الاشتراكي الأمريكي "هال درابر" Hal Draper (1914-1990) بأنها "اشتراكية من أعلى"، إلا أنها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالنموذج السوفيتي، وتمت مقارنتها بالرأسمالية الاستبدادية. وقد تعرضت الاشتراكية الاستبدادية لانتقادات من اليسار واليمين، نظرياً وعملياً.

الجذور السياسية

تنبع الاشتراكية الاستبدادية من مفهوم الاشتراكية من أعلى. عرّف "هال درابر" الاشتراكية من أعلى بأنها الفلسفة التي تستخدم إدارة نخبوية لإدارة الدولة الاشتراكية. أما الجانب الآخر من الاشتراكية فهو اشتراكية أكثر ديمقراطية من أسفل. وتُناقش فكرة الاشتراكية من أعلى في دوائر النخبة أكثر من الاشتراكية من أسفل - حتى لو كانت هذه هي الفكرة المثالية الماركسية - لأنها أكثر عملية. اعتبر درابر الاشتراكية من الأسفل النسخة الأنقى والأكثر ماركسية منها. ووفقاً له كان "كارل ماركس" و"فريدريك إنجلز" معارضين بشدة لأي مؤسسة اشتراكية "تؤدي إلى استبداد خرافي". ويجادل درابر بأن هذا التقسيم يعكس الانقسام بين الإصلاحي والثوري، السلمي والعنيف، الديمقراطي والسلطوي، إلخ، ويحدد النخبوية كأحد الأنواع الستة الرئيسية للاشتراكية من الأعلى، من بينها "العمل الخيري"، و"النخبوية"، و"البانيّة"، و"الشيوعية"، و"النفاذية"، و"الاشتراكية من الخارج".

ووفقًا للمؤرخ الاشتراكي الأمريكي "آرثر ليبو" Arthur Lipow كان ماركس وإنجلز "مؤسسي الاشتراكية الديمقراطية الثورية الحديثة"، التي وُصفت بأنها شكل من أشكال "الاشتراكية من الأسفل" القائمة على حركة جماهيرية للطبقة العاملة، تُناضل من الأسفل من أجل توسيع نطاق الديمقراطية وحرية الإنسان. يُناقض هذا النوع من الاشتراكية العقيدة الاستبدادية المناهضة للديمقراطية" و"الأيديولوجيات الجماعية الشمولية المختلفة التي تدّعي الاشتراكية"، بالإضافة إلى الأنواع العديدة من "الاشتراكية من الأعلى" التي أدت في القرن العشرين إلى حركات وأشكال دولة تحكم فيها طبقة جديدة استبدادية اقتصاداً خاضعاً للدولة باسم الاشتراكية، وهو انقسام يمتد عبر تاريخ الحركة الاشتراكية. يُحدد ليبو "البيلاامية" Bellamyism نسبة إلى إدوارد بيلامي و"الستالينية" Stalinism نسبة إلى جوزف ستالين كتيارين اشتراكيين استبداديين بارزين داخل الحركة الاشتراكية.

تاريخ الحركة الاشتراكية

تعود الصراعات والنزاعات السلطوية-الليبرالية داخل الحركة الاشتراكية إلى الأممية الأولى وطرد الفوضويين عام 1872، الذين قادوا الأممية المناهضة للسلطوية، ثم أسسوا أمميتهم التحررية الخاصة، الأممية االفوضوية "سانت إيميير" St. Imier. في عام 1888، أدرج المحرر اليساري الأمريكي "بنيامين تاكر" Benjamin Tucker الذي أعلن نفسه اشتراكياً فوضوياً واشتراكياً ليبرالياً معارضاً لاشتراكية الدولة السلطوية والشيوعية الإجبارية. ووفقاً للكاتب المؤرخ الفرنسي "إرنست ليسين" هناك نوعان من الاشتراكية: "أحدهما ديكتاتوري، والآخر ليبرالي". كانت اشتراكيتا تاكر هما: اشتراكية الدولة الاستبدادية التي ربطها بالمدرسة الماركسية، والاشتراكية الفوضوية الليبرالية، أو الأتاركية التي دعا إليها. وأشار تاكر إلى أن "طغيان اشتراكية الدولة الاستبدادية على أشكال أخرى من الاشتراكية لا يمنحها الحق في احتكار فكرةالاشتراكية". ووفقًا لتاكر، فإن ما يجمع بين هاتين المدرستين الاشتراكيتين هو نظرية العمل في القيمة والغايات، التي سعت الفوضوية من خلالها إلى وسائل مختلفة.

ووفقاً للكاتب السياسي الأتاركي اللاسلطوي الكندي "جورج وودكوك" George Woodcock تحولت الأممية الثانية إلى ساحة صراع حول مسألة الاشتراكية الليبرالية مقابل الاشتراكية الاستبدادية. لم يقتصر الأمر على تقديم أنفسهم بفعالية كمدافعين عن حقوق الأقليات، بل استفزوا أيضاً الماركسيين الألمان لإظهار تعصب ديكتاتوري كان عاملاً في منع الحركة العمالية البريطانية من اتباع التوجه الماركسي الذي أشار إليه قادة مثل الكاتب والسياسي الاشتراكي الإنجليزي "هنري هيندمان" Henry Hyndman. وفقًا للفوضويين، مثل مؤلفي كتاب "الأسئلة الشائعة للفوضويين"، فإن أشكال الاشتراكية من الأعلى، مثل الاشتراكية الاستبدادية أو اشتراكية الدولة، هي التناقضات الحقيقية، بينما تُمثل الاشتراكية الليبرالية من الأسفل الاشتراكية الحقيقية. بالنسبة للفوضويين وغيرهم من الاشتراكيين المناهضين للسلطوية، فإن الاشتراكية "لا تعني سوى مجتمع بلا طبقات ومعادٍ للسلطوية (أي ليبرالي) يدير فيه الناس شؤونهم بأنفسهم، سواءً كأفراد أو كجزء من مجموعة (حسب الوضع). بعبارة أخرى، تعني الاشتراكية الإدارة الذاتية في جميع جوانب الحياة، بما في ذلك في مكان العمل. وصف المؤرخ الأمريكي "هربرت أوسجود" Herbert Osgood الفوضوية بأنها "النقيض المتطرف" للشيوعية الاستبدادية واشتراكية الدولة.

الاشتراكية الطوباوية

وُصف اقتصاد إمبراطورية "موريا" Mauryan الهندية في القرن الثالث قبل الميلاد بأنه "ملكية اشتراكية" و"نوع من اشتراكية الدولة". وقد برزت عناصر من الفكر الاشتراكي الاستبدادي في سياسات فلاسفة يونانيين قدماء مثل "أرسطو" و"أفلاطون". وقد فضّل أوائل دعاة الاشتراكية الحديثة المساواة الاجتماعية من أجل إنشاء مجتمع قائم على الجدارة أو التكنوقراطية، قائم على المواهب الفردية. ويُعتبر "هنري دي سان سيمون" Henri de Saint-Simon أول من صاغ مصطلح الاشتراكية. كان سان سيمون مفتوناً بالإمكانيات الهائلة للعلم والتكنولوجيا، ودعا إلى مجتمع اشتراكي يقضي على الجوانب الفوضوية للرأسمالية، ويقوم على تكافؤ الفرص. ودعا إلى إنشاء مجتمع يُصنّف فيه كل فرد وفقاً لقدراته، ويُكافأ وفقاً لعمله. ركّزت اشتراكية سان سيمون بشكل أساسي على الكفاءة الإدارية والصناعة، وعلى الاعتقاد بأن العلم هو مفتاح التقدم. ورافق ذلك رغبة في تطبيق اقتصاد منظم بعقلانية، قائم على التخطيط، ومُوجّه نحو التقدم العلمي واسع النطاق والتقدم المادي.

كانت أول رواية روائية رئيسية اقترحت دولة اشتراكية استبدادية هي رواية "إدوارد بيلامي" Edward Bellamy بعنوان "النظر إلى الوراء" Looking Backward، التي صوّرت يوتوبيا اشتراكية بيروقراطية. نأى بيلامي بنفسه عن القيم الاشتراكية الراديكالية، وفي نواحٍ عديدة، لا يزال مجتمعه المثالي يُقلّد العديد من الأنظمة في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر. ومع ذلك، ألهم كتابه حركة سياسية جماهيرية تُعرف بالقومية داخل الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر. كانت هذه الأندية القومية، التي سُميت بهذا الاسم لرغبتها في تأميم الصناعة، داعمةً قويةً للشعبويين الذين سعوا إلى تأميم أنظمة السكك الحديدية والتلغراف. ورغم دعايتها وانخراطها في السياسة، لم تُحقق هذه الأندية أي نجاح يُذكر.

بدأت الحركة القومية في التراجع عام 1893 بسبب الصعوبات المالية التي واجهتها منشوراتها الرئيسية وتدهور صحة بيلامي، والتي اختفت بشكل أساسي بحلول مطلع القرن. في المجتمع الذي تصوره الرواية، تم إلغاء الملكية الخاصة لصالح ملكية الدولة، وتم القضاء على الطبقات الاجتماعية، وتم القيام بجميع الأعمال البسيطة والسهلة نسبياً طواعية من قبل جميع المواطنين الذين تتراوح أعمارهم بين 21 و45 عاماً. تمت مكافأة العمال وتقديرهم من خلال نظام تصنيف يعتمد على الجيش. الحكومة هي المؤسسة الأقوى والأكثر احتراماً، وهي ضرورية لتوفير هذه اليوتوبيا والحفاظ عليها. يحدد "آرثر ليبو" Arthur Lipow الحكم البيروقراطي لهذا المجتمع المثالي كمنظمة شبه عسكرية للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية. رفع بيلامي من شأن الجيش الحديث كمحفز للمصلحة الوطنية.

أكبر انتقاد لمجتمع بيلامي هو أنه يقوم على فكرة الاشتراكية من الأعلى. يُفرض النظام على الشعب من قِبل نخبة من الخبراء، ولا توجد سيطرة ديمقراطية أو حرية فردية. ويجادل ليبو بأن هذا يؤدي بطبيعته إلى الاستبداد، إذ كتب: "لو كان العمال والأغلبية العظمى كتلةً وحشية، لما كان هناك مجالٌ لتشكيل حركة سياسية منهم ولا لتكليفهم بمهمة بناء مجتمع اشتراكي. لن تُنشأ المؤسسات الجديدة وتُشكل من الأسفل، بل ستتوافق بالضرورة مع الخطة التي وضعها مُسبقاً المُخطط الطوباوي".

في مُقدمته لكتاب "بيتر كروبوتكين" Peter Kropotkin's بعنوان "غزو الخبز" The Conquest of Bread، اعتبر "كينت بروملي" Kent Bromleyأن أفكار الاشتراكيين الطوباويين، مثل الفرنسي "فرانسوا نويل بابوف" François-Noël Babeuf والإيطالي "فيليب بوناروتي" Philippe Buonarroti، تُمثل الاشتراكية السلطوية، على عكس الاشتراكي الفرنسي "شارل فورييه" Charles Fourier، الذي يُوصف بأنه مؤسس الاشتراكية التحررية.

المدرستان النمساوية والشيكاغوية في الاقتصاد

مع التمييز بين "المسارين الطوعيين والقسريين"، إلا أن فهمهما وتوصيفهما للاشتراكية يقومان على الاستبداد والدولانية. ويستند أحد التعريفات النمساوية للاشتراكية إلى مفهوم اشتراكية الدولة المتمثل في "ملكية الدولة للسلع الرأسمالية". وينص تعريف آخر على أن الاشتراكية "يجب أن تُفهم على أنها تدخل أو اعتداء مؤسسي على الملكية الخاصة ومطالباتها. أما الرأسمالية، فهي نظام اجتماعي قائم على الاعتراف الصريح بالملكية الخاصة والتبادلات التعاقدية غير العدوانية بين مالكي الممتلكات الخاصة".

كان "فريدريش هايك" Friedrich Hayek، اقتصادي المدرسة النمساوية، أحد أبرز النقاد الأكاديميين للجماعية في القرن العشرين. وقد أدرك اتجاهات الاشتراكية من الأعلى في الجماعية، بما في ذلك النظريات القائمة على التعاون الطوعي، وانتقدها بشدة. بخلاف "بيلامي"، الذي أشاد بفكرة النخب التي تُطبّق السياسات، جادل "هايك" بأن الاشتراكية تؤدي بطبيعتها إلى الاستبداد، مدعيًا أنه "لتحقيق غاياتهم، يجب على المخططين خلق سلطة - سلطة على رجال يمارسها رجال آخرون - بحجم لم يُعهد من قبل. الديمقراطية عقبة أمام هذا القمع للحرية الذي يتطلبه التوجيه المركزي للنشاط الاقتصادي. ومن هنا ينشأ الصدام بين التخطيط والديمقراطية.".[43] جادل "هايك" أيضاً بأن كلاً من الفاشية والاشتراكية يستندان إلى التخطيط الاقتصادي المركزي، ويُقدّران الدولة على الفرد. ووفقاً لهووفقًا لهايك، بهذه الطريقة يُصبح من الممكن للزعماء الشموليين الوصول إلى السلطة كما حدث في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى..[43] كما استخدم اقتصاديو المدرسة النمساوية، مثل "هايك" ومعلمه "لودفيج فون ميزس" Ludwig von Mises، كلمة الاشتراكية كمرادف للاشتراكية الاستبدادية والتخطيط المركزي والاشتراكية الحكومية، وربطوها زوراًزورًا بالفاشية،،[44][45][46] حيث كتب "هايك" أنه "على الرغم من أن وعد اشتراكيينا المعاصرين بمزيد من الحرية حقيقي وصادق، إلا أنه في السنوات الأخيرة انبهر المراقب تلو الآخر بالعواقب غير المتوقعة للاشتراكية، والتشابه الاستثنائي في كثير من النواحي بين الظروف في ظل "الشيوعية" و"الفاشية".".[47] كما ساوى اقتصاديو مدرسة شيكاغو، مثل "ميلتون فريدمان" Milton Friedman، بين الاشتراكية والتخطيط الاقتصادي المركزي، بالإضافة إلى الدول الاشتراكية الاستبدادية والاقتصادات الموجهة من قبل الدولة، مشيرين إلى الرأسمالية باعتبارها السوق الحرة..[48] ومع ذلك، يعتبر الباحثون الفاشية ومشتقاتها، مثل "الفالانجية" Falangism و"النازية" Nazism والنازية، إلى جانب أنظمة عسكرية أخرى مستوحاة من الفاشية، أيديولوجيات يمينية متطرفة معادية للاشتراكية، تبنت إلى حد كبير سياسات اقتصادية سوقية ليبرالية، مع حصر التخطيط الاقتصادي في جهود الحرب..[49]

انتقد "ميزس" السياسات الليبرالية الاجتماعية ذات الميول اليسارية، مثل الضرائب التصاعدية، ووصفها بالاشتراكية، ووقف خلال اجتماع لجمعية "مونت بيليرين" Mont Pelerin واصفاً، واصفًا أولئك الذين "يعبرون عن وجهة نظر مفادها أنه قد يكون هناك مبرر" لهم بأنهم "حفنة من الاشتراكيين".".[50] من ناحية أخرى، جادل "هايك" بأن الدولة يمكن أن تلعب دوراً دورًا

في الاقتصاد، وتحديداً في إنشاء شبكة أمان اجتماعي، منتقداً اليمين والمحافظة، بل ومدافعاً عن بعض أشكال اشتراكية السوق أو اشتراكية هايك. دعا "هايك" إلى توفير بعض الدعم لمن يُهددهم الفقر المدقع أو المجاعة بسبب ظروف خارجة عن إرادتهم. وجادل بأن ضرورة مثل هذا الترتيب في المجتمع الصناعي لا شك فيها، سواء كان فقط لمصلحة من يحتاجون إلى الحماية، أم الرعاية الصحية الشاملة الإلزامية والتأمين ضد البطالة، على أن تُنفذ الدولة ذلك، إن لم تُقدمه مباشرةً. وكان "هايك" مُصراً على ذلك. كما ساوى "ميزس" بين المصارف المركزية والاشتراكية والتخطيط المركزي. ووفقاً له تُمكّن البنوك المركزية البنوك التجارية من تمويل القروض بأسعار فائدة منخفضة بشكل مصطنع، مما يؤدي إلى توسع غير مستدام للائتمان المصرفي وإعاقة أي انكماش لاحق. ومع ذلك، اختلف "هايك" مع هذا الرأي، وصرح بأن الحاجة إلى سيطرة البنوك المركزية أمر لا مفر منه. وبالمثل، خلص "فريدمان" إلى أن للحكومة دوراً في النظام النقدي، واعتقد أنه يجب استبدال نظام الاحتياطي الفيدرالي في النهاية ببرنامج كمبيوتر. بينما انتقد "فريدمان" الرعاية الاجتماعية، وخاصة الضمان الاجتماعي، بحجة أنه خلق حالة من الاعتماد على الرعاية الاجتماعية، كان مؤيداً لتوفير الدولة لبعض السلع العامة التي لا تُعتبر الشركات الخاصة قادرة على توفيرها، ودعا إلى فرض ضريبة دخل سلبية بدلاً من معظم الرعاية الاجتماعية واستندت آراؤه إلى اعتقاد مفاده أنه بينما تُنجز قوى السوق أمورًا رائعة، إلا أنها لا تستطيع ضمان توزيع الدخل بما يُمكّن جميع المواطنين من تلبية الاحتياجات الاقتصادية الأساسية. يتبع بعض اقتصاديي المدرسة النمساوية "ميزس" في القول بأن السياسات التي يدعمها "هايك" و"فريدمان" تُشكل شكلاً من أشكال الاشتراكية.

المدرستان النمساوية والماركسية في الاقتصاد

تتفق المدرستان النمساوية والماركسية في الاقتصاد في انتقادهما للاقتصاد المختلط، لكنهما تتوصلان إلى استنتاجات مختلفة بشأن الدول الاشتراكية الاستبدادية. في كتابه "العمل البشري"Human Labor  جادل "ميزس" بأنه لا يمكن أن يكون هناك مزيج من الرأسمالية والاشتراكية - يجب أن يهيمن إما منطق السوق أو التخطيط الاقتصادي على الاقتصاد. وشرح "ميزس" هذه النقطة بالتفصيل مجادلاً بأنه حتى لو احتوى اقتصاد السوق على العديد من المؤسسات التي تديرها الدولة أو الشركات المؤممة، لن يجعل هذا الاقتصاد مختلطاً لأن هذه المؤسسات لا تُغير الخصائص الأساسية لاقتصاد السوق. ستظل هذه الشركات المملوكة للقطاع العام خاضعة لسيادة السوق، إذ سيتعين عليها الحصول على السلع الرأسمالية من خلال الأسواق، والسعي لتعظيم الأرباح، أو على الأقل محاولة تقليل التكاليف واستخدام المحاسبة النقدية في الحسابات الاقتصادية.

وبالمثل، يُجادل المنظرون الماركسيون الكلاسيكيون والأرثوذكسيون في جدوى الاقتصاد المختلط كحل وسط بين الاشتراكية والرأسمالية. وبغض النظر عن ملكية الشركات، إما أن يكون قانون القيمة وتراكم رأس المال الرأسمالي هو الذي يُحرك الاقتصاد، أو أن التخطيط الواعي وأشكال التقييم غير النقدية، مثل الحساب العيني، هي التي تُحرك الاقتصاد في نهاية المطاف. منذ الكساد الكبير فصاعداً، لا تزال الاقتصادات المختلطة القائمة في العالم الغربي رأسمالية وظيفياً لأنها تعمل على أساس تراكم رأس المال. وعلى هذا الأساس، يُجادل بعض الماركسيين وغير الماركسيين على حد سواء، بمن فيهم الأكاديميون والاقتصاديون والمثقفون، بأن الاتحاد السوفيتي السابق ودولاً أخرى كانت دولاً رأسمالية دولة، وأنه بدلاً من أن تكون اقتصادات اشتراكية مُخططة، كانت تُمثل نظاماً إدارياً قيادياً. في عام 1985، جادل السياسي الأسترالي "جون هوارد" John Howard  بأن الوصف الشائع للتخطيط الاقتصادي على النمط السوفيتي بأنه اقتصاد مُخطط هو وصف مُضلّل، فبينما لعب التخطيط المركزي دوراً هاماً، كان الاقتصاد السوفيتي يتميز بحكم الواقع بأولوية الإدارة شديدة المركزية على التخطيط. لذلك، فإن المصطلح الصحيح هو اقتصاد يُدار مركزياً بدلاً من التخطيط المركزي. وقد نُسب هذا إلى اقتصاد الاتحاد السوفيتي واقتصاد حلفائه الذين اتبعوا النموذج السوفيتي عن كثب. من ناحية أخرى، بينما يصف اقتصاديو المدرسة النمساوية الاقتصادات المختلطة الغنية بأنها لا تزال "رأسمالية"، فإنهم يصفون سياسات الاقتصاد المختلط بشكل روتيني بأنها "اشتراكية". وبالمثل، يصفون الأنظمة الفاشية مثل إيطاليا الفاشية وألمانيا النازية بأنها "اشتراكية"، مع أن الباحثين يصفونها بأنها أنظمة رأسمالية.

نظام الحزب الواحد

غالباً ما تُعارض الدول الاشتراكية الاستبدادية نظام التعددية الحزبية بهدف ترسيخ سلطة الحكومة في حزب واحد يمكن أن يقوده رئيس دولة واحد. ويكمن المنطق وراء ذلك في أن النخب لديها الوقت والموارد اللازمة لتطبيق النظرية الاشتراكية، لأن مصالح الشعب في هذه الدولة الاشتراكية تُمثل من قِبل الحزب أو رئيس الحزب. وقد أشار الباحث الاشتراكي الأمريكي "هال درابر" Hal Draper إلى هذا باسم "الاشتراكية من الأعلى" socialism from above. ووفقًا لـ "درابر" تأتي الاشتراكية من الأعلى في ستة أشكال تُبرر وتتطلب وجود نخبة في قمة النظام الاشتراكي. ويختلف هذا عن المنظور الماركسي الذي يدعو إلى الاشتراكية من الأسفل، وهي شكل من أشكال الاشتراكية أكثر نقاءً وديمقراطية.

تُعتبر إريتريا، وموزمبيق، وفيتنام أمثلة خارج أوروبا على دول كانت اشتراكية يحكمها حزب واحد في مرحلة ما من القرن العشرين. في إريتريا، برز الحزب الحاكم عام 1970 وهو جبهة تحرير شعب إريتريا (EPLF)، ومع سيطرتها على الدولة، بدأت الجبهة العمل على مبادئ اشتراكية مثل توسيع نطاق حقوق المرأة وتوسيع نطاق التعليم. في موزمبيق، نشأ حكم الدولة الواحدة لجبهة تحرير موزمبيق (FRELIMO) بينما كانت الدولة لا تزال اشتراكية أيديولوجياً بعد انتهاء الحكم البرتغالي عام 1975. في فيتنام، يعتبر الحزب الشيوعي الفيتنامي نفسه في مرحلة انتقالية نحو الاشتراكية، كما يعتبر نفسه طليعة الشعب العامل والأمة بأسرها.

الاقتصاد

هناك العديد من الخصائص الأساسية للنظام الاقتصادي الاشتراكي الاستبدادي التي تميزه عن اقتصاد السوق الرأسمالي، وهي أن الحزب الشيوعي لديه تركيز للسلطة في تمثيل الطبقة العاملة وقرارات الحزب هي مُدمجة في الحياة العامة لدرجة أن قراراتها الاقتصادية وغير الاقتصادية تُصبح جزءًا لا يتجزأ من أفعالها العامة؛ ملكية الدولة لوسائل الإنتاج التي تُصبح فيها الموارد الطبيعية ورأس المال ملكاً للمجتمع؛ التخطيط الاقتصادي المركزي، وهو السمة الرئيسية للاقتصاد الاشتراكي ذي الدولة الاستبدادية؛ تُخطط السوق من قِبل وكالة حكومية مركزية، عادةً ما تكون لجنة تخطيط حكومية؛ وتوزيع عادل اجتماعياً للدخل القومي حيث تُقدم الدولة السلع والخدمات مجاناً وتُكمل الاستهلاك الخاص. يتميز هذا النموذج الاقتصادي بشكل كبير بالتخطيط المركزي الحكومي. من الناحية المثالية، يكون المجتمع هو المالك كما هو الحال في الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، ولكن في الممارسة العملية، تكون الدولة هي مالكة وسائل الإنتاج. إذا كانت الدولة هي المالكة، فإن الفكرة هي أنها ستعمل لصالح الطبقة العاملة والمجتمع ككل. عملياً، يكون المجتمع هو المالك نظرياً فقط، والمؤسسات السياسية التي تحكم المجتمع مُنشأة بالكامل من قِبل الدولة. بينما يؤكد الماركسيون اللينينيون أن العمال في الاتحاد السوفيتي السابق والدول الاشتراكية الأخرى كانوا يتمتعون بسيطرة حقيقية على وسائل الإنتاج من خلال مؤسسات مثل النقابات العمالية، يجادل الاشتراكيون الديمقراطيون والليبراليون بأن هذه الدول لم تمتلك سوى عدد محدود من الخصائص الاشتراكية، وأنها عملياً كانت رأسمالية دولة تتبع نمط الإنتاج الرأسمالي. جادل "فريدريك إنجلز" Friedrich Engels في كتاب "الاشتراكية: الطوباوية والعلمية" Socialism: Utopian and Scientific، بأن ملكية الدولة لا تلغي الرأسمالية في حد ذاتها، بل ستكون المرحلة النهائية للرأسمالية، والتي تتكون من ملكية وإدارة الإنتاج واسع النطاق والاتصالات من قبل الدولة البرجوازية. في كتابي "الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية" Imperialism, the Highest Stage of Capitalism و"الإمبريالية والاقتصاد العالمي" mperialism and the World Economy ، عرّف كل من "فلاديمير لينين" Vladimir Lenin و"نيكولاي بوخارين" Nikolai Bukharin على التوالي، "نمو رأسمالية الدولة كواحدة من السمات الرئيسية للرأسمالية في عصرها الإمبريالي. في كتابه "الدولة والثورة State and Revolution "، كتب لينين أن الادعاء الإصلاحي البرجوازي الخاطئ بأن الرأسمالية الاحتكارية أو رأسمالية الدولة الاحتكارية لم تعد رأسمالية، بل يمكن تسميتها الآن "اشتراكية الدولة" وما إلى ذلك، شائع جداً.

هل يُمكن لدولة ديمقراطية أن تكون اشتراكية؟

خلال الحرب الباردة، غالباً ما كان العديد من المراقبين العاديين يجمعون بين الأنظمة السياسية والاقتصادية في فكرة عامة واحدة هي "الرأسمالية" أو "الشيوعية". ومع ذلك، فإن النظامين منفصلان. في الواقع، كانت هناك أنظمة استبدادية رأسمالية. ومن الأمثلة على ذلك كوريا الجنوبية، وتايوان، وسنغافورة. كانت لهذه الدول أنظمة سياسية استبدادية، لكنها سمحت بالملكية الخاصة لرأس المال (المصانع) والاستثمار الأجنبي. وبالتالي، لا ترتبط الرأسمالية دائماً بالديمقراطية.

ولا يزال الجدل قائماً حول ما إذا كانت الديمقراطيات الحقيقية، كتلك الموجودة في غرب وشمال أوروبا، اشتراكية بالفعل، مع وجود العديد منها. حيث يُطلق على الدول الإسكندنافية اسم "الديمقراطيات الاجتماعية" بدلاً من الاشتراكية الديمقراطية. تتمتع هذه الدول بحكومات ديمقراطية، لكنها تُنفق مبالغ طائلة على الرعاية الاجتماعية. ومع ذلك، يُزعم أن "العصر الذهبي" للاشتراكية الديمقراطية قد انتهى بحلول أوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما بدأت التكاليف المرتفعة لبرامج الرعاية الاجتماعية تُبطئ النمو الاقتصادي. وبغض النظر عن الجدل الدائر حول مدى اشتراكية الدول الإسكندنافية، يُظهر التاريخ أن الدول يُمكن أن تمتلك حكومات ديمقراطية وأنظمة اقتصادية اشتراكية.

توجد كل من الاشتراكية الاستبدادية والاشتراكية الديمقراطية، ولكن على نطاق واسع، وليس على مستويات نهائية يسهل فصلها. لا تزال كوريا الشمالية قائمة كأثر من آثار التخطيط المركزي على النمط السوفيتي، بحكومة استبدادية تماماً واقتصاد تسيطر عليه الدولة بشكل شبه كامل. تقدم الدول الأوروبية، مثل بريطانيا، والدول الاسكندنافية، رعاية صحية بنظام الدفع الفردي، والعديد من برامج الرعاية الاجتماعية السخية الأخرى لسكانها. تتمتع هذه الدول بحكومات ديمقراطية، لكن سيطرة حكومية كبيرة على خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم.

كما تُعدّ الصين أبرز مثال حديث على اقتصاد سوقي قائم إلى حد كبير على حكومة استبدادية. في الواقع، يُعزي البعض النمو الاقتصادي السريع للصين منذ تسعينيات القرن الماضي إلى حكومتها الشيوعية الصارمة. ومثل الاتحاد السوفيتي من قبله، لا يسمح الحزب الشيوعي الحاكم في الصين للأحزاب السياسية الأخرى بالتنافس على السلطة. ومع ذلك، وعلى عكس الاتحاد السوفيتي، شجعت الحكومة الصينية بنشاط الاستثمار الأجنبي. لذلك، على الرغم من أن تدفق العلامات التجارية الأجنبية والشركات الخاصة قد يجعل الصين تبدو كديمقراطية غربية على مستوى الشارع، إلا أن حكومتها لا تزال استبدادية بحتة.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

بين علي علاوي وعبد الخالق حسين

يعزز حياد الباحث في الشأن التاريخي من لحمة الأمة، ويرسخ احترام معنى الدولة في أذهان الأجيال الجديدة، تلك التي ولِدت ونشأت في عهد تراجع الانتماء لهوية وطنية جامعة، بمقابل صعود الطوائف والعِرقيّات. إن قراءة التاريخ ما دامت تحت سقف الموضوعية، واحترام الآليات العلمية قادرة على استكشاف أعمق لا لطبقات المعنى الكامن خلف السرديات المتناقضة فحسب، بل لتعقيدات الحياة الراهنة، وتناقضاتها، فلا وجود للتاريخ أصلاً إلا في الحاضر.

هذه هي المرة الثانية التي أقرأ فيها شيئاً مما يكتبه الدكتور عبد الخالق حسين عن رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم، وعهده الجمهوري. وهو في المرتين يحيل على مصادر، لتأكيد رأي يؤمن به، أو لتفنيد رأي آخر يجده غير صائب. لكنه يتصرف بالكلام المنقول لتصبح له دلالة جديدة، أو يحذف  جزءاً من حديث صاحب المصدر، فيقوِّله ما لم يقله، ويحجب جزءاً أساسياً لا غنى عنه من أفكاره المركزية.

كنت قد نشرت في صحيفة المثقف مقالاً قبل عامين بعنوان "ماذا أراد عبد الكريم قاسم من نوري السعيد؟ عن إشكالية قراءة التاريخ"، ناقشت فيه تعليقاً للدكتور عبد الخالق حسين، عقب فيه على حديث لأحد قرائه، على هامش مقال له بعنوان "في الذكرى الخامسة والستين لثورة 14 تموز العراقية"، نشره في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 17/ 7/ 2023. كان في تعليقه بعض الأخطاء التاريخية، وترويج لرأي غريب، عن وجود رغبة لدى الزعيم قاسم للحفاظ على حياة نوري السعيد رئيس الوزراء الأكثر شهرة في العهد الملكي، ومعاملته باحترام، للإفادة من خبراته، وكيف "أرسل مرافقه وصفي طاهر لجلبه سالماً ومحترماً، ولكن لما وصل.... وجد الجماهير هناك تسحل بجثة السعيد". أحال الكاتب لتوثيق هذه الرواية على مذكرات إسماعيل العارف الوزير في عهد قاسم. وبرغم تأكدي من أن الأمر ليس أكثر من توهم محض، لكنني فضلت العودة لمذكرات العارف، ولم أجد فيهاً شيئاً مما نُسب إليه، بل شيئاً آخر مختلفاً تماماً!

وقبل يومين، وقفت على مقال آخر للدكتور عبد الخالق حسين، نُشر هنا في صحيفة المثقف بتاريخ 18/ 7/ 2025 عنوانه "لماذا ألغت قيادة ثورة 14 تموز مجلس الإعمار؟"، تناول فيه، مثلما قال، وسأنقل هنا نص كلامه: "مقابلة تلفزيونية مع الدكتور علي علاوي، وزير المالية الأسبق في حكومة السيد مصطفى الكاظمي ... وموقفه السلبي من ثورة 14 تموز، وخاصة عن قيام قيادة الثورة بحل مجلس الإعمار، ومنجزات الثورة الكثيرة في عمرها القصير... وجواباً على سؤال مقدم البرنامج ... حول أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية، ركز الضيف على السنوات الأخيرة من العهد الملكي، وأشاد بدور مجلس الإعمار، الذي تم حله في عهد ثورة 14 تموز 1958 دون أن يوضح مبررات هذا الحل. كذلك لتبخيس دور قائد المثورة (كذا) في إنجاز الكثير من المشاريع، قال إن أغلب المشاريع التي انجزها عبدالكريم قاسم، كانت مخططة من قبل مجلس الإعمار إبان العهد الملكي مثل مدينة الثورة (الصدر حالياً) وغيرها، وإن قاسم أخذ الفخر الـ(credit) له، أي نسب الفضل لنفسه في تنفيذ هذه المشاريع".

لكن من يشاهد فيديو المقابلة سيجد أن آراء الدكتور علي علاوي لم تُعرض بشكل كامل، وأنه كان بعيداً عن إصدار أحكام القيمة تجاه شخص، أو مرحلة، أو نظام. لقد قدم الدكتور علاوي عرضاً موضوعياً وافياً لأبرز المراحل التي مرَّ بها الاقتصاد العراقي المعاصر، منذ نشأة الدولة في العام 1921 حتى مرحلة ما بعد 2003. نعم، قد نختلف معه في هذه الجزئية أو تلك، غير أن قراءته كانت علمية، وجديرة بالاحترام.

 من أجل إيضاح الحقيقة، ولأن الدكتور عبد الخالق حسين وزَّع مآخذه على أربع فقرات، فسأعتمد هذا التقسيم لأبين من آراء الدكتور علي علاوي، ما له صلة بتلك المآخذ، وذلك بنقل الفكرة التي يتبناها بتمامها، وإثبات زمن ورودها في فيديو المقابلة. وسأستخدم اللغة العربية الفصحى، لأن طبيعة اللقاء التلفزيوني فرضت على الضيف والمحاور اللجوء لبعض المفردات العامية أحياناً. وسأثبت فيديو المقابلة التلفزيونية في آخر المقال، ليكون الوصول إلى الحقيقة سهلاً لمن يريد.

أولاً – المرحلة الاقتصادية الأفضل في تاريخ العراق

لم يكن هناك سؤال مباشر عن "أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية"، أما الأسئلة ذات الصلة، مما وجهه المحاور في المقابلة التلفزيونية، فقد كان على الدكتور علي علاوي، وهو الخبير المتخصص بالاقتصاد أن يعيد صياغة السؤال الأول منها: (أفضل فترة مالية مرَّ بها العراق؟)، ليوجهه وجهة صحيحة، مميزاً "الكمَّ عن النوع"، أي مستوى دخل الفرد، والوفرة المالية المجردة عن المفهوم الكلي للاقتصاد، وآفاق تطوره وانتعاشه.

يجد الدكتور علاوي أن الحالة الأولى تنطبق على أواخر سبعينيات القرن الماضي - بغض النظر عن طبيعة النظام السياسي الحاكم آنذاك–  فقد كان مستوى المعيشة يُقارن بالبرتغال وإسبانيا، وذلك لارتفاع أسعار النفط، وزيادة صادراته، والنسبة السكانية غير الكبيرة، وتوفر رصيد احتياطي من العملة الصعبة يزيد على أربعين مليار دولار، أي ما يساوي اليوم مئتين وخمسين مليار دولار تقريباً. وقتها، كان النظام الاستبدادي قد أفاد من هذا الرصيد المالي الكبير لتثبيت سلطته، قبل أن يحرقه لاحقاً في حروبه العبثية. أما عن المرحلة التي شهدت آفاق انتعاش وتنوع وتطور حقيقي للاقتصاد العراقي في مفهومه الكلي تخطيطاً وتنفيذاً فهي تنطبق برأي السيد علاوي على "أواخر سني العهد الملكي، بين عامي 1955 – 1958، ثم عبرت إلى الفترة الأولى من حكم عبد الكريم قاسم، أي وصلت إلى أوائل الستينات. وأستطيع القول (الكلام للسيد علاوي) إن هناك مرحلة ثالثة واعدة.... كانت أيام حكومة عبد الرحمن البزاز، لأنه أعاد النظر بالسياسة الاشتراكية لعبد السلام عارف، وبموضوع التأميم ذي الاهداف الإيديولوجية لا الاقتصادية....وكان أمام حكومته آفاق جيدة، لكنها، للأسف، لم تستمر" (د: 1، ث: 20 - د: 3، ث 22).

وحين أعاد المحاور بعد مضي وقت طويل من اللقاء توجيه السؤال ذاته بشيء من التفصيل: (ما أفضل فترة مالية وتنموية مر بها العراق، هل كانت في العهد الملكي، أم العهد الجمهوري، أم القومي؟)، عاد السيد علاوي بدوره  ليقرن من جديد سنوات الخمسينات أيام الحكم الملكي مع أوائل عهد عبد الكريم قاسم، فقال:

 "إذا أخذنا النمو المتراكم..... فالعراق في العهد الملكي أيام الخمسينات كان يعتبر من الدول النمور، إذ كان نموه الاقتصادي يتراوح بين سبعة، وثمانية في السنة، وهذه مؤشرات قريبة من مؤشرات الصين، فكان من أكثر الدول في سرعة النمو الاقتصادي... تستطيع القول إن سنوات العصر الذهبي كانت في الخمسينات، وتعبر أيضاً إلى أولى سني حكم عبد الكريم قاسم، إذ كان ينتهج السياسية (الكلية) نفسها تقريباً" (د: 49، ث 19 – د: 51، ث: 18).

لأي سبب حذف الدكتور عبد الخالق حسين جزءاً أساسياً من رأي الدكتور علي علاوي، وصوَّر للقراء أنه منحاز، ويريد "تبخيس دور قائد الثورة"؟ في حين إن الدكتور علاوي كان يؤشر السنوات النموذجية للاقتصاد العراقي بموضوعية وحياد، بدليل أنه لم يحصرها بعهد واحد، بل وزعها على ثلاثة عهود متباينة في المشارب والتوجهات، ثم ذهب به الحرص العلمي إلى تحديد سنوات بذاتها من تلك العهود، استناداً لمعطيات واقعية، مع أخذه للنسبية في الحسبان. أما الدكتور عبد الخالق حسين فهو يختزل الفترة الذهبية للاقتصاد العراقي بمرحلة واحدة، ويقصي بحكم مطلق جميع ما سواها. إنه يمنح الـ(credit) للزعيم قاسم فقط، شاملاً سنوات حكمه كلها، حين يقول: "يشهد التاريخ أن أهم مرحلة تحقق فيها ازدهار اقتصادي هي مرحلة ثورة 14 تموز(1958-1963) بلا أي شك"!

ثانياً: مشاريع مجلس الإعمار بين التخطيط والتنفيذ

تأسس مجلس الإعمار في العام 1950، لينهض بمهام التخطيط لمشاريع البنية التحتية، والإنتاج، والخدمات، بالتعاقد مع كبريات الشركات العالمية المتخصصة بالبناء والإعمار. وقد تمتع المجلس الذي ضم نخبة من الخبراء بصلاحيات كبيرة، واستقلال عن وزارات الحكومة، ورُصدت له ميزانية كبيرة مستقلة بلغت 70 % من عوائد بيع النفط، وهو ما مكنه من التخطيط والإعداد لمشاريع كبيرة توزعت على جميع محافظات العراق، وشملت بناء السدود، وشبكات الري، واستصلاح الأراضي، والموانئ، ومشاريع الإسكان لذوي الدخل المحدود، ومشاريع انتاج الطاقة الكهربائية، والطرق المعبدة، والجسور، والمدارس والمعاهد العلمية، والمستشفيات، والمصانع.

تعرض مجلس الإعمار لحملة تسقيط غير مبررة، أشاعها كبار رجال العهد الجمهوري الأول، وتم الاستغناء عن خبرائه، ليعاد تشكيله بهيأة جديدة ترأسها الزعيم قاسم، لكن سرعان ما تم حلُّه في العام 1959. ولعهود لاحقة استمر التعتيم على منجزات مجلس الإعمار، إلى أن  راحت الحقائق تتكشف تباعاً. غير أن الدكتور عبد الخالق الحسين له رأي آخر، فهو يقول:"ولو افترضنا جدلاً أن جميع هذه المشاريع والقوانين قد خطط لها في العهد الملكي، فما قيمة هذه المخططات التي كانت حبراً على ورق....إلى أن جاء عبدالكريم قاسم، وحولها إلى مشاريع حقيقية... فالعبرة ليست بالتخطيط، ومن الذي خطط فحسب، بل بالتنفيذ ومن نفذ".

 لنلاحظ هنا كيف أن لغة الدكتورعبد الخالق حسين تقلل من قيمة منجزات مجلس الإعمار، ولا تريد الإقرار بالفضل إلا للزعيم قاسم: "لو افترضنا جدلاً... ما قيمة هذه المخططات... حبراً على ورق... العبرة ليست بالتخطيط". فأولاً، لا مبرر هنا ل"الافتراض جدلاً"، فالكتب العلمية، والأطاريح الجامعية، والوثائق، والأفلام المصورة في اليوتيوب تحدد بدقة مشاريع مجلس الإعمار. وتشهد أيضاً، أن نسبة كبيرة من البنية التحتية في العراق، والتي لا يزال قسم كبير منها يعمل بكفاءة حتى الآن هي ثمرة من ثماره. وليس من الصعب على من يريد قطع الشك باليقين أن يرجع لبعض المصادر المتخصصة بالموضوع، ومنها، مثلاً، الكتب والنشرات التي أصدرتها الحكومة العراقية عن قوانين، ومنهاج مجلس الإعمار، و"تجربة العراق الملكي في الإعمار 1950 – 1958: دراسة في التاريخ الاقتصادي" للدكتور عبد الله شاتي عبهول.

 وثانياً، إن مشاريع مجلس الإعمار لم تكن مجرد "حبر على ورق"، بل أن نسبة طيبة منها أنجزت بالفعل أيام العهد الملكي، فبحسب شهادة أكاديمي متخصص"أنجز مجلس الإعمار حتى انفجار ثورة 14 تموز 1958عدداً من المشروعات المهمة في قطاع الري واستصلاح الأراضي، مثلاً، أكمل المجلس مشاريع الثرثار وبمرحلتيه، فضلاً عن مشاريع سدة الرمادي والمسيب ومنشآت الضبط في الناصرية. أنجز المجلس كذلك بناء عدد من الجسور المهمة مثل جسور الباب الشرقي والأعظمية والكوفة وطويريج والخازر والسماوة وبعقوبة للقطارات والعمارة والموصل، كما أكمل تعبيد طرق بغداد – حلة، حلة – ديوانية، حلة – نجف، وبغداد – الفلوجة، وطاسلوجة – دوكان، وعمارة – بصرة، وكركوك – طقطق، أما في الصناعة فإن المجلس أنجز بناء معملي السمنت في حمام العليل قرب الموصل، وسرنجار (كذا) في السليمانية، ومعامل الغزل والنسيج والسكر من (كذا) الموصل، ومصفى القير في منطقة القيارة، ومعمل الغزل والنسيج في معسكر الرشيد....... فضلاً عن مشاريع إسكان العمال في كل من دبس وسرجنار والموصل" (د. عبد الله شاتي عبهول: تجربة عبد الكريم قاسم في التخطيط الاقتصادي، 23- 24(. هذا فضلاً عن نسبة أخرى من المشاريع كانت في طور الاكتمال، لاسيما تلك المشاريع الكبرى التي تحتاج بطبيعتها لسنوات من العمل، مثل سدَّي دوكان ودربندخان، وكان قد بدأ العمل ببنائهما في منتصف الخمسينات، واكتملا في عهد الزعيم قاسم، وسوى ذلك الكثير.

ثالثاً: حل مجلس الإعمار

لا يبدو كلام الدكتور عبد الخالق حسين دقيقاً حين يذهب إلى أن حل مجلس الإعمار كان سبباً خاصاً لاتخاذ الدكتورعلي علاوي موقفاً سلبياً تجاه العهد الجمهوري الأول، وأنه لم يوضح مبررات حل مجلس الإعمار. فعن هذا الجانب الأخير قال الدكتور علاوي إن من الممكن فهم وجهة النظر التي حُلَّ على أساسها مجلس الإعمار "لأن الوزارات من حقها تقديم وتصميم المشاريع.... فالمفروض - في الظروف الاعتيادية – أن الوزارات بالتنسيق مع وزارة المالية هي التي تنظم..." وتنفذ المشاريع (س :1، د: 10، ث: 50 – س: 1، د: 11، ث: 7).

ومهما يكن من أمر، فإن عمل مجلس الإعمار كان يتطور على نحو إيجابي عاماً بعد عام، وفقاً لخطط وبرامج مدروسة بعناية. ولأن فكرة إنشائه كانت صحيحة، فقد أخذت تجربته تؤتي ثماراً طيبة. أما مبررات حلِّه، كما يقدمها الدكتور عبد الخالق حسين فلا تبدو مقنعة، لاسيما تلك التي لها صلة باستحداث وزارة للتخطيط، يقول: "فوزارة التخطيط يا سادة يا كرام، لا تقل أهمية عن مجلس الإعمار، إن لا تفوقه (كذا)، كما هو السائد في معظم دول العالم المتقدم والمتخلف!". إن حديثاً مثل هذا يغفل عن جوهر الفكرة التي انبثق عنها مجلس الإعمار، أي ذلك التخطيط الحريص على أن يشمل بعنايته لا المشاريع الخدمية فحسب، بل بنية الدولة بأكملها، فالمجلس بأعضائه وخبرائه المستقلين سيحمي من جهة ثلاثة أرباع عوائد النفط من أن تتبدد، أو تصبح رهينة بميول هذا المسؤول السياسي أو ذاك، فيتأخر توظيفها، ومن جهة ثانية لن تعترض طريقه مشاكل الروتين الإداري. أما الوزير في ظل نظام حكم يهيمن عليه العسكر، فلن يتمكن من العمل بأريحية، وسيبقى مكبلاً بقيود كثيرة، مهما بلغ من الكفاءة والشجاعة والنزاهة.

رابعاً: الهجرة من الريف وقانون الإصلاح الزراعي

 يقول الدكتور عبد الخالق حسين: "وعن هجرة الناس من الريف إلى المدن وخاصة بغداد... حاول السيد الوزير أن يلقي اللوم على قانون الإصلاح الزراعي، ولكن بعد قليل تراجع واعترف أن الهجرات بدأت في أوائل الخمسينات، أي في العهد الملكي، وقبل الثورة بسنوات".

إن الدكتور عبد الخاق حسين يحمل هنا كلام الدكتور علاوي ما لا يحتمله: "حاول، تراجع، اعترفَ"، إذ أن سياق حديث الدكتور علاوي لم يكن عن بدء هجرة الفلاحين نحو العاصمة بغداد، بل عن هجرة أخرى أعقبت قانون الإصلاح الزراعي، كما أن طبيعة اللقاء التلفزيوني تختلف عن تأليف نص مكتوب، إذ هي لا تتيح للمتحدث إكمال الفكرة التي يروم إيصالها أحياناً، بسبب ما يستدعيه المقام من أجوبة فورية سريعة، ووجود محاور قد يقطع بأسئلته سلسلة الأفكار، لكن الدكتور علاوي أتم حديثه عند أول فرصة (د: 53، ث 50 – د: 55 – ث 43).

في الموضوع ذاته، يؤكد الدكتور عبد الخالق حسين إن "سبب الهجرة ليس قانون الإصلاح الزراعي، بل ظلم الإقطاعيين، وقانون حكم العشائر (نظام دعاوى العشائر) الذي سنه الإنكليز بعد احتلالهم العراق"، وكلامه هذا يصح على هجرة الفلاحين نحو العاصمة بغداد أيام العهد الملكي، لكنه لا يفسر لنا أسباب استمرار هجرتهم حتى في عهد عبد الكريم قاسم، وتركهم للأراضي التي مُنحت لهم بلا زراعة. وتلك إحدى النتائج السلبية المترتبة على قانون الإصلاح الزراعي. يقول الدكتور علاوي: "الفكرة صحيحة، أنك إذا منحت الفلاح الأرض فستصبح ملكاً له، وسيستطيع التصرف بها بطريقة أفضل. لكن العمل الزراعي له سياق كامل، فمن الذي سيوفر لك البذور؟ ومن سيسوق لك الإنتاج؟ جميع هذه المهام كان يقوم بها مالك الأرض.... لماذا يتوجه الفلاح إلى الزراعة حين تتوفر فرص جيدة للعمل في الحكومة، ووظائف في المدن؟" (د: 54، ث: 44 – د: 55، ث: 9).

 لقد كان القطاع الزراعي أيام العهد الملكي يُشكل ركنا أساسيا يُعوَّل عليه في تنويع مصادر الدخل، وكان العراق بلداً زراعياُ، يعتمد على نفسه في زراعة ما يحتاج إليه من المحاصيل، ويصدر الفائض منها إلى دول الخارج. لكن الدوافع السياسية فعلت فعلها في سن قانون الإصلاح الزراعي على عجل، فأصبح العراق مستورداً، وأخذ المستوى المعيشي للفلاحين يتراجع إلى مستويات سيئة للغاية، وصفها حنا بطاطو بقوله: "كان الفلاحون الذين أصبحوا يُخَصَّون الآن وبموجب القانون بحصة تتراوح بين ٤٠ و ٥٠ بالمئة من المحصول ناقص ما يساوي البذار إذا قدمه صاحب الأرض، وعلى الرغم من ذلك واجهوا في السنوات الأولى من عهد قاسم وضعاً أسوء مما سبقه نتيجة لتراجع الإنتاج الزراعي" (حنا بطاطو، العراق: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار، الكتاب الثالث، 152).

ختاماً، ما أكثر وأسهل الحديث عن ضرورة التعلم من دروس التاريخ، حتى لا نكرر أخطاء الماضي. لكننا حين نشطر عمر الدولة العراقية، وننحاز لعهد، على حساب آخر فلن يكون في مقدورنا سوى توظيف أدلة بشكل انتقائي، لتبرير ما ترسخ في أذهاننا من مواقف قبلية، ونتائج حتمية تأبى التزحزح، وتنفي تماماً أي نطاق لاحتمالات أخرى. إننا بذلك نقفز فوق حقائق الطبيعة البشرية، غافلين عن بديهيات المقارنة بين رجال سياسة رحلوا قبل أكثر من ستة عقود، بخيرهم وشرهم، أناس مثلنا، لهم نصيبهم من لحظات الشجاعة والتردد، والسلام والخصام، والمحافظة والثورية، وتوهج الذكاء وخذلان الخبرة. بَعُد العهد بهم، وبمشاريعهم العمرانية، وبقينا نحن، نلوك سيرهم، بينما يحلم الأنسان العراقي بتعبيد شارع، وتشييد جسر بسيط، وتأمين الطاقة الكهربائية ولو لبضع ساعات في اليوم. وفي أثناء ذلك نواصل حديثنا الماضوي، مدفوعين بعاطفة تغفل لفرط حرارتها الوهاجة عن أغلى ثمار التاريخ: أن نحرص على تجنيب أجيالنا الجديدة شر تلك الهوة التي علقنا فيها لعقود طويلة، ونحثهم على امتلاك ذاكرة ثقافية غير مأزومة، أملاً بأن يتصالحوا مع تاريخهم برمته، وأن يتيقنوا من أن تعمير الأوطان، وبناء الاقتصاد الناجح إنما ينبعان من قلب الإنسان متى تشبث بالأمل، ومن إرادته ووعيه، لا من بركات ملك، أو زعيم، أياً كان.

***

د. عباس عبيد - أكاديمي وباحث من العراق

....................................

* رابط فيديو المقابلة التلفزيونية مع الدكتور علي علاوي:

https://www.youtube.com/watch?v=McTBsH8HfY4

لم يعد ممكنا التغاضي عما يحل على "اليسار" على المستوى العالمي، من حال غير مالوف ولامشخص من التداعي، صار يولد شعورا يزداد ترسخا بتجاوز ماهو واقع لمايمكن اجماله حتى ضمن مفاهيم التازم بصيغها المتعارف عليها، فالحاصل لهذه الجهه يغدو اكثر فاكثر محكوما لمايمكن نسبته الى مترتبات من نوع تعدي الطور او المرحلة التاريخيه، بمعنى مؤقتية وابتدائية الخلفية الموضوعية التي اليها يرتكز مفهوم اليسار المعاصرنشأة وضرورة.

 ومع مايمكن ان يلاحظ على هذا الصعيد من تناولات من غير المتوقع خروجها عن نطاق "الايمانيه" المبهمه، حتى وان على قاعده نبذ التعصب، او التمسك المعتاد بالهيكليات، الا ان مايشار له مايزال هو وموجباته خاضعا للمنظور الاصل، ذلك الذي منه وفي غمرته ولدت الظاهرة المعروفة باليسارية، وعلى راسها الماركسية والشيوعية، فلم تدخل لعدم اكتمال موضوعاتها بعد، في هذا المجال بالذات، منطلقات وتاسيسات مابعد طبقية، ومابعد منظور اوربي حداثي مواكب للالة وانبثاقها، مع كل ماولد في غمرته من توهمية تضليليه، هي اليوم في لحظة الانحدار، في وقت يلح فيه الخروج من دائرة الوعي المشار اليه، تحت طائلة الضرورة القصوى، وماقد بلغته من تراكم مقارب لاحتمالية الانقلابيه النوعية على مستوى المعموره، واقعا وتفكرا.

 ويعنى هذا في التطبيق ان مسالة اليسار بالذات، ناهيك عن مفاهيم متغلبه اخرى ونوعية لامجال على مستوى "تازمها" تحديدا، للتوصل بخصوصه الى اي تصور او قاعدة حكم فاصلة من دون اعتماد" المنظور الاخر"، المنتظر حلوله محل منظومة التصورات الاوربيه الحداثية الالية، وهو مايمكن ملامسه احتمالية الانقراض اليساري من دونه، فالمنظور الغربي الحديث اجمالا، واليساري ضمنه، هو عتبه اولى مؤقته وابتدائية ضمن عملية اشمل، هي المقصود والمبتغى الذي تنطوي عليه العميلة التحولية الكبرى، من اليدوية الى الالية بتدرجاتها، من المصنعية الاولى الاوربية، الى التكنولوجية الانتاجية اللامجتمعية (المفقسه خارج رحم التاريخ المجتمعي الامريكيه)، الى الطور التكنولوجي الاعلى المنتظر من هنا فصاعدا، ولان الانبجاس الاول الالي قد حدث في الموضع المجتمعي الارضوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه، ولانه حالة "ازدواج" طبقي، فلقد كان متوقعا ان يتسم مارافقه من انقلابيه تفكرية بالدرجة الاولى، وبحضور متقدم ومدو،"الاكتشاف المتاخر" الدال على قصورية العقل اليدوي التاريخي بازاء المسالة المجتمعية، مع رفع النقاب عن "الصراع الطبقي"، وجعله منطلقا لتعيين قانون وحتمية ناظمه للعملية التاريخيه على يد ماركس و "ماديته التاريخيه"، الامر العائد زمنيا الى القرن التاسع عشر تحديدا، قبل ان تنتقل الفعالية الالية الى الكيانيه الجديدة المركبه أنيا، على انقاض مجتمعية هي بالاصل نمطية اخرى، من صنف مجتمعات "اللادولة"، تمت ابادتها بقوة مفعول الالة الحاسم.

 هذا من دون ان يعرف العالم تعديلا، او ابتداعا كليا لمنظور آلي جديد، موافق للحاله التصدرية القيادية المجتمعية بلا تاريخ مجتمعي، ولا طبقات، ومع القرن العشرين عندما انتهى دور اوربا الافتاحي بتوهماته، استمر التوهم باعتباره حاجة وضرورة، وصودر ليصير حضور امريكا صدارة "غربيه"، وانتساب استمراي لمامعتبر قمة وذروة واجبه، لتغطية حقيقة كون المسار الالي ليس محطة واحدة، وانه يمكن ان يصير فعل نقيضه طبقيا وبنية عاجزة عن توصيف ذاتها، ولاتملك من المقومات مايمكن ان يضعها في صف المجتمعات وبناها نتاج تاريخها البنيوي الممتمد الى عشرة الاف عام، كما كان ممكنا لاوربا ان تدعي، لدرجة تكريس غلبتها النموذجية لابل ومركزيتها التاريخيه.

 هذا في حين صار صعود النموذج الابادي الامريكي ابن ساعته، مرهونا بمصادرة النموذجية الغربيه، وادعاء الانتساب لها كخطاب تعريفي معلن، يقابله في العمق خطاب اخر مستتر، هو خطاب ابادة ماسبق، باسم " الرسالية"، وكون امريكا هي المصطفى الرباني الالهي الرسالي(1)، ماهو بالاحرى اضمار تكريسي لمبدا الاباده الممارس بالاصل لاجل اقامه الكيانيه مع ازاله الهندي الاحمر من الوجود، والاهم في كل هذا ليس التداخل المشار اليه بين حقيقة وجودية محورة ومقلوبه، وبين اصرار على الانتماء لمنظور غالب سابق، حرصا على استمرارية المنظور الابادي نفسه، معمما على المجتمعات التاريخيه برمتها، بل الاهم هو قصورية العالم، واستمرار خضوعه للرؤية الابتدائية الغربيه وتوهميتها، والعجز دون الكشف عن الحقيقة الانحدارية الحالة على العالم مفهوميا وانتاجيا ونمطيا.

 لا اساس يمكن ان يمنح الرؤى اليسارية والطبقية الاصطراعية الثبات والديمومة النهائية، وان كان ذلك قد وجد ضمن ظروف القرن التاسع عشر، وحتى القرن العشرين، مع التوهمية الروسية"الاشتراكية" الايديلوجية، الممتزجه بالاستبدادية الروسية "اللينينيه"، وصدارة الانتلجنسيا المستندة للاله وفعلها، مع منظومة" مالعمل" وتوهميتها المنهارة اخيرا امام العولمه الانتاجية ومرونه التكنولوجيا الانتاجية على يد المجتمعية بلا تاريخ، ماكان من شانه الذهاب بالمسار العام الالي وتواليات فتراته وتراكمها، الى المازق الشامل لاجمالي الرؤية التوهمية الغربية المصنعية الباقية كلزوم لتبرير مايناقضها.

 ليس الانقلاب الالي التا ريخي "طبقي"، الامن ناحية المنطلق الذي انتهى وقته، وكل التزام به، فضلا عن الاصرار عليه هوقصور و "رجعية" بحسب المصطلحات اليسارية، فالمجتمعات ليست "ازدواجا طبقيا" سوى في اوربا، بل هي من حيث الحقيقة والقانون الناظم للظاهرة المجتمعية "ازدواج مجتمعي"، والتحول او المنقلب الالي بعد اليدوي، هو لحظة انحسار النمط المجتمعي الارضوي، وعلى راسه الطبقي اعلى اشكاله ديناميات، والمستند الى قوة مفعول وحضور اليدوية الانتاجية الجسدوية الحاجاتيه، في الوقت الذي لم تكن فيه الصيغة اللاارضوية متوفرة على اسباب التحقق، وظلت في حال اصطراع وتفاعلية وصولا الى الانقلاب الالي الراهن، والذي مايزال لم تكتمل ملامحه بعد، مع مروره بالحقب والفترات الاوربية التوهمية الاولى، والعولمية المفقسه خارج رحم التاريخ، مايجعل من "اليسار" المفترض والمطلوب اتفاقا مع الجوهر التحولي الانقلابي الالي، انتقالا فاصلا وحاسما من القانون الالي الطبقي، الى القانون الاصطراعي المجتمعي، مع تباين الاهداف والحصيلة والنتائج المقصودة والمنتظرة كليا.    

***

عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم