آراء

آراء

أثارت التغييرات المفاجئة التي حصلت في سوريا على نحو سريع إشكاليات ومشكلات بناء الدولة أو إعادة البناء، باستعادة مصطلح غورباتشوف "بريسترويكا"، خصوصًا ما أعقبها من تطوّرات في الملف الكردي بإعلان عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمّال الكردستاني (المحكوم مدى الحياة) منذ العام 1999 في سجن إمرالي، الطلب من أنصاره إلقاء السلاح وحل الحزب، الأمر الذي يطرح مجددًا مسألة إعادة بناء الدولة في ظل تحديات المواطنة ونظام الحكم ومشكلة المجموعات الثقافية والعلاقة بين الهويّة العامة والهويّات الفرعية، وهو ما واجه الدولة العراقية منذ تأسيسها وإلى اليوم، والتي تعمّقت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
وإذا كان توصيف الدولة التركية كدولة بسيطة تقوم على نظام مركزي يعتمد على القومية الأكثر عددًا، وهو ما كان سائدًا في سوريا والعراق، وكذلك إيران، إلّا أن العراق بعد الإطاحة بالنظام السابق وقيام نظام جديد، انتقل من الدولة البسيطة إلى الدولة المركبة، ومن النظام المركزي إلى النظام اللّامركزي "الاتحادي – الفيدرالي"، وهو ما تسعى المجموعات الثقافية الكردية – السورية إلى ما يماثله من خلال الإدارة الذاتية التي تشكّلت بعد الانتفاضات التي عمّت البلاد منذ العام 2011 فيما يسمّى ﺑ "الربيع العربي".
وكان عبد الله أوجلان قد طرح مشروع "الأمة الديمقراطية"، الذي يعتبره مبادرة ترتقي بالطموح إلى تحقيق دولة تقوم على المواطنة، وأساسها المساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى أجواء من الحريّة، وهو ما يعتبره أوجلان مدخلًا مناسبًا لحلّ المسألة الكردية في تركيا، بل لمشكلة التنوّع الثقافي في المنطقة. ويحتاج الأمر إلى اعتراف بالتعددية والتنوّع، وبالتالي إدارة حوار سلمي حول سُبل الحل المناسب في الوضع الملموس وفي الظرف الملموس.
وعلى الرغم من توقيع رئيس الجمهورية أحمد الشرع اتفاقًا مع مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وإعلان الدستور السوري المؤقت الذي حدّدت فيه فترة الانتقال ﺑ 5 سنوات، ومنحت رئيس الجمهورية صلاحيات تكاد تكون غير مسبوقة، باستثناء الأنظمة التي شهدت انقلابات عسكرية، إلّا أن الإشكاليات الإثنية – القومية ستظلّ تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى، ما لم تجد حلًّا مقبولًا يقود إلى تسوية تاريخية بالاعتراف بها على أساس حق تقرير المصير، واختيار الصيغة المناسبة للعلاقات العربية – الكردية، علمًا بأن الكرد شهدوا حالات تهميش وإقصاء ومحاولات صهر وحرمان من الجنسية لأعداد كبيرة منهم والذين يسمون بالمكتومين، وتشييد ما سمّي ﺑ "الحزام العربي" ، تلك التي خطط لها النظام السابق منذ العام 1964، وشملت نحو عقد كامل من التغيير الديمغرافي، وقام بتنفيذها بقسوة محمد طلبة هلال، الضابط السابق في جهاز الأمن السوري.
أما بالنسبة للعراق، فعلى الرغم من إقرار الدستور بالنظام الفيدرالي، فحتى الآن لا تزال هويّة النظام غير محدّدة، وصعوبة تصنيفه بسبب تعويم سيادته وعدم فاعليته بفعل هيمنة العامل الخارجي، سواء كان دوليًا، والمقصود بذلك الولايات المتحدة، أو الفاعل الإقليمي المؤثر في الداخل، والمقصود بذلك إيران، علمًا بأن للولايات المتحدة ولتركيا قواعد عسكرية في العراق، في حين أن إيران تمتلك علاقات وطيدة مع فصائل مسلحة في الحشد الشعبي وعبر أذرع مؤثرة من خارجه.
ولعلّ ازدواجية نماذج التدخّل الخارجي الدولي والإقليمي، أثرتا بشكل خاص على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية للنظام، ارتباطًا بقضايا التنمية التي تحتاج إلى الأمن ومكافحة الإرهاب والمخدرات، فضلًا عن تداخلات السياسة مع السلاح والدين والمال.
وإذا كانت صيغة النظام المركزي الشمولي قد جرّت البلاد إلى حروب ودمار واستبداد، فإن صيغة ما بعد العام 2003 لم تسهم في لحمة الدولة العراقية، على الرغم من رواج دعوات إلى المحاصصة الإثنية - الطائفية باعتبارها هي الحل، لأن البلد عانى من المركزية الشديدة والصارمة التي أنتجت ديكتاتورية منفلتة من عقالها، ولكي يُصار إلى تنظيم العلاقة بين الفرقاء والفاعلين السياسيين، كان لا بدّ من وضع حلّ لمشكلة الحكم المعتقة، فاختُرعت مسألة ما يسمّي ﺑ "المكونات" التي وردت في الدستور7 مرّات، ثم جاء بايدن، الذي أصبح رئيسًا، بمشروعه الثلاثي القاضي بتقسيم العراق إلى ثلاث فدراليات شيعية، كردية وسنية، ووضع نقاط تفتيش وإصدار هويّات خاصة وجيش لحماية حدود هذه الفيدراليات، وكان الأمر يعني مستقبلًا تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق، حيث يصبح التقسيم كواقع أمرًا واقعًا.
وعلى أساس هذه الصيغة الثلاثية ابتُدع العرف الذي قُسّمت به الرئاسات الثلاث، فللشيعية السياسية (رئاسة الوزراء)، وللسنية السياسية (رئاسة البرلمان)، وللكردية السياسية (رئاسة الجمهورية)، دون اعتبار للكفاءة بقدر الولاء والزبائنية السياسية، لكنها لم تؤدّ إلى حل مشكلة الحكم بل زادتها تعقيدًا، وكانت بداية نزاع جديد ومركّب.
ويعرف العراق اليوم كيانيتين دستوريتين وإن كانتا متحدتين، لكنهما شبه منفصلتين أو مستقلتين من الناحية الفعلية، ولم يتكوّن فهم مشترك للفيدرالية ومضامينها والتجربة العراقية وخصوصيتها، وحسب وصف رئيس إقليم كردستان نجرفان البارزاني، فإن الدولة تترنّح بين: مركزية شديدة وفقًا لمنظور بغداد، ولا مركزية فيدرالية تتجاوز الحدود.
أعتقد أن النظام الفيدرالي الحالي كصيغة راهنة، لم يعد فعّالًا، والدليل على ذلك تفاقم المشكلات وتراكمها وصعوبة إيجاد حلول لها، فالمجلس الاتحادي الذي أقرّه الدستور في المادة 65، وكان يمكن أن يشكّل العامود الفقري للنظام السياسي في العراق، ظلّ معطلًا منذ 20 عامًا (أي منذ الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2005) وإلى اليوم، والمشاكل عالقة مثل المادة 140 والاختلاف حول عائدية كركوك والمناطق المتنازع عليها وقانون النفط والغاز وصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، التي غالبًا ما نرى التنازع بينهما، إضافة إلى الاختلاف الشديد في تفسير بعض مواد الدستور، حتى أن المحكمة الاتحادية، بدت متناقضة أحيانًا، فاليوم تعطي تفسيرًا وغدًا يكون تفسيرًا آخر مختلفًا، بسبب التداخلات السياسية والضغوط التي تمارسها القوى المتنفّذة.
ليس من باب التشاؤم القول أن الصيغة الراهنة وصلت إلى طريق مسدود، إذْ تقضي المسؤولية البحث عن صيغ جديدة بوضع معالجات وإصلاحات واتفاقات عملية من شأنها انتشال الدولة العراقية من واقعها الهش والمتفتّت، وصولًا إلى دولة أكثر تماسكًا وانسجامًا، دون أن يعني ذلك العودة إلى الدولة المركزية، بقدر ما هو إشباع صلاحيات الدولة الاتحادية والإقليم والمحافظات، وفقًا لما ورد في الدستور النافذ، والأمر يقتضي استبدال صيغة المحاصصة بالمواطنة.
الجدير بالذكر أن نظام المحاصصة الذي قاد إلى تعويم الدولة، وأصبح عقبة كأداء أمام تطورها، هو ذاته الذي كان وراء إغراق الدولة اللبنانية حتى أذنيها منذ العام 1943 بالمشاكل العويصة، والتي ما تزال، على الرغم من مرور ثمانية عقود من الزمن، بعيدة كل البعد عن الوصول إلى شاطئ الأمان، وإذا كان التوازن مسألة أساسية في الأنظمة الاتحادية، فإنه يقوم على الثقة أولًا، وتلبية الحقوق واحترام مبادئ المواطنة دون الإخلال بصلاحيات الحكومة الاتحادية أو صلاحيات إقليم كردستان. والتوازن لا يعني العودة إلى المركزية المفرطة التي أصبحت من الماضي، ولا التحلّل من الالتزامات التي يفرضها الدستور على الإقليم فيما يتعلّق بصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
إن إدارة التنوّع في مجتمع متعدّد الثقافات مسألة ضرورية، وهي مسألة تواجه العراق اليوم، مثلما تواجه سوريا، كما أنها إن عاجلًا أم آجلًا ستكون ملحةً وأساسيةً بالنسبة لتركيا وإيران، طالما بقت المسألة القومية دون حل مقبول يستطيع فيه الكرد أن يعبّروا عن أنفسهم باعتبارهم قومية متميزة وجزء من أمة عريقة، مثلما هي الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية، والكل له الحق في تقرير المصير وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، بما يعزّز من سبل التقدّم والتنمية والمشترك الإنساني، الذي يقوم على تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها.
إن المشاركة الإيجابية في الحياة العامة عنصر لا غنى عنه لأي مجتمع ذي طبيعة تعدّدية مثل مجتمعات الشرق الأوسط وأممه الأربعة، وحماية التنوّع وحُسن إدارته ومنع ذوبان الهويّات الفرعية مسألة أساسية. ولعلّ المشاركة هي الدرس الأول في التربية على المواطنة، تلك التي تكون حاضنة للثقافات على أساس العيش المشترك أو العيش معًا، بغض النظر عن الدين والقومية واللغة أو غيرها، وذلك عبر حوار فعّال ومستمر لبناء هويّة موحّدة تعترف بالخصوصية وتعتبرها مادة غنية لإثراء الهويّة العامة.
***
د. عبد الحسين شعبان

ازداد الاهتمام في السنوات الأخيرة على المستوى الرسمي والأكاديمي والإعلامي والشعبي بموضوعة الفاشية الجديدة وعلاقتها بصعود شخصيات وأحزاب اليمين المتطرف في العديد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، وبعض البلدان النامية، خصوصا في أمريكا اللاتينية. وجاء فوز دونالد تراب بفترة رئاسية ثانية في انتخابات عام 2024، والذي ينتمي إلى اليمين المتطرف وذو توجهات فاشية شعبوية واضحة ليزيد من هذا الاهتمام؛ إذ يشكل صعود اليمين المتطرف تحولا خطيرا، وستكون له تداعيات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني، وعلى مستوى النظام العالمي، وهو أكبر تحول تلا صعود الفاشية بين الحربين العالميتين.
لاشك أن هذه التحول مرتبط بشكل وثيق بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمر بها البلدان الرأسمالية في المركز والأطراف، خصوصا بعد تبني نهج الليبرالية الجديدة-على الرغم من ثبوت فشله بعد اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008- وما تركه من نتائج فاقمت حدة الفوارق الطبقية، ودفعت المزيد من الشرائح الاجتماعية نحو الهامش. كل هذه الظروف تهيأ الحاضنة الخصبة لصعود الأحزاب والشخصيات اليمينية المتطرفة، والتي تجد فيها شرائح اجتماعية واسعة يائسة منقذا لها من الأزمات التي تعيشها بعد خيبة آملها بالأحزاب الليبرالية التي حكمت طيلة عقود.
نحاول في هذه المقالة تتبع نشوء بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة، وعلاقتها بإرث الفاشية، من خلال تحليل الآتي: مفهوم الفاشية الجديدة، الجانب النظري-التفسيري، العلاقة بين اليمين المتطرف والفاشية الجديدة، اليمين المتطرف والهجرة الوافدة، وظاهرة الترامبية.
ما هي الفاشية الجديدة؟
يُطلق مصطلح الفاشية الجديدة في المقام الأول على تلك المجموعات السياسية والأيديولوجية والأحزاب التي عملت بعد عام 1945، خصوصا في أوروبا، والتي استلهمت بشكل مباشر تجربة الأنظمة الفاشية والنازية في فترة ما بين الحربين العالميتين في ألمانيا وإيطاليا وبلدان أوروبية أخرى. كانت هذه المجموعات تتكون في كثير من الأحيان من بقايا الناشطين الفاشيين والنازيين الذين لم يكونوا مستعدين للتخلي عن نشاطهم السياسي أو في الواقع التخلي عن أيديولوجياتهم على الرغم من الهزيمة العسكرية. وكان عدد كبير من الذين يدعمون هذه المنظمات يحنون إلى الماضي ومعزولين عن المؤسسات الديمقراطية الليبرالية وثقافتها لفترة ما بعد الحرب، ويحمل الكثير منهم وجهات نظر متطرفة وغير قابلة للمساومة، مؤكدين على الطابع "الثوري" للفاشية بدلا من نسختها القومية أو تلك التي تؤكد على بناء دولة قوية(1). وما نفهمه عن الطابع الثوري هنا استخدام العنف المفرط ضد الخصوم، وهذا يذكرنا بالمجازر التي ارتكبتها النازية ضد خصومها الداخليين والخارجيين، والاعتداءات المتكررة على المهاجرين من قبل اليمين المتطرف.
حديثا، وبعد رفع السرية عن وثائق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ظهر ما كان مشتبها به لفترة طويلة، وهو أن الجيش الأمريكي وجهاز الخدمة السرية قاما بحماية العديد من المجرمين النازيين والفاشيين بعد الحرب العالمية الثانية، وتجنيدهم كجنود وجواسيس ضد البلدان الاشتراكية(2). وكان العمل الأساس لوكالة المخابرات الأمريكية هو زرع الجواسيس في البلدان الأخيرة، وهذا ما أقر به رئيسها ألين دالاس للفترة 1953-1961، بشكل موسع في مذكراته.
على الرغم من تشوه سمعة الفاشية، وما أرتبط بها من تمييز عنصري بعد الحرب العالمية الثانية، ونجاح البلدان الرأسمالية في أوروبا الغربية في بناء دولة الرفاه الاجتماعي، لكن كان هناك وجود مستمر للفاشية على هامش السياسة السائدة. لقد كانت واحدة من السمات الأكثر لفتا للانتباه لهذه الفاشية الجديدة تتمثّل في الغياب الكلي تقريبا للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين والتي ازدهرت فيها الفاشية لأول مرة، إنها ظروف عدم الاستقرار السياسي، والضائقة الاقتصادية الشديدة، والخوف من تمدد الشيوعية والشعور الواسع بالإذلال الوطني والتطلعات المحبطة. يتمثّل أحد العوامل المساهمة في صعود الفاشيين المعاصرين في الهجرة الوافدة. خصوصا عندما يتفاقم الوضع نتيجة الركود الاقتصادي على الرغم من عدم ظهور ضائقة اقتصادية كالتي كانت بين الحربين العالميتين(3)، علما أن موضوع الهجرة يجري تسيسه على نطاق واسع، لأغراض انتخابية بحتة، حيث تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن هناك حاجة ماسة للهجرة الوافدة حاليا وفي السنوات القادمة.
منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، برزت إلى الواجهة كثير من الحركات اليمينية المعادية للأجانب، متأثرة باليمين الجديد في أوروبا وأمريكا، لهذه الحركات في بعض الأحيان جذور واضحة مع الماضي الفاشي والفاشية الجديدة، ولكنها غالبا ما تنأى بنفسها عن ذلك علنا. لقد ركزت كثير من المناقشات الأخيرة بين العلماء على التوصل إلى إجماع جديد حول تعريف شامل للفاشية، والذي من شأنه أن يسمح بتصنيف أكثر وضوحا للحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية(4) عبر العالم، أي التمييز بين الفاشية الحقيقية وغيرها من الظواهر الزائفة. فقد عرّف روجر غريفين الفاشية على أنها صنف من الأيديولوجيا السياسية التي يتمثل جوهرها الأسطوري في شكل متخلف من القومية الشعبوية المتطرفة(5).
منذ انبثاق النظام الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي العالمي الجديد، بعد تفكك المنظومة الاشتراكية، حلت إلى حد كبير أنماط جديدة من الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة محل المجموعات المتطرفة الأقدم أو التي تحن إلى الماضي الفاشي، وحققت إنجازات كبيرة في الانتخابات في العديد من البلدان. هذه الأحزاب لا تسعى في أوروبا الغربية علانية إلى الإطاحة بالأنظمة الديمقراطية أو تدعو إلى العنف، بدلا من ذلك، تؤكد على قضايا هي موضع اهتمام كثير من الناخبين، خصوصا الهجرة الوافدة والقانون والنظام. وعلى العكس من ذلك، اتخذ إحياء اليمين المتطرف في أوروبا الشرقية، شكلا من القومية المتطرفة، والتي قد تكون لها جذور مع فاشية ما بين الحربين العالميتين أو لها صلات مع الأيديولوجية الفاشية(6). وهنا لا تكون الهجرة أحد الأسباب لأن هذه المنطقة طاردة للمهاجرين، ويمكن أن يكون تاريخ الحروب والتطورات السياسية التي مرت بها المنطقة، وإعادة رسم الخرائط السياسية عدة مرات، وضم بعض الأراضي إلى دول أخرى، واخفاق التجربة الاشتراكية أسبابا قد ساهمت في صعود هذا التوجه القومي المتطرف.
الجانب النظري - التفسيري
بحكم نفور الفاشية من الفكر، تفضل عدم إضاعة الوقت في بناء نظريات مجردة حول نفسها، لكن لا ينبغي لنا أن نستنتج أنها ممارسة عمياء أو طريقة غريزية بحتة. ترى الفاشية نفسها أنها معادية لجميع الأنظمة الطوباوية التي ليس مقدر لها أن تواجه أبدا اختبار الواقع. إنها معادية لكل العلوم وكل الفلسفات التي تظل مجرد مسائل خيال أو ذكاء. لا تنكر الفاشية قيمة الثقافة، إذا كانت المساعي الفكرية العليا تجري من خلالها تنشيط الفكر باعتباره مصدرا للعمل(7)، أي موجها للعمل الذي تريد تنفيذه خصوصا العمل على تزييف وعي الناس واشغالهم عن أسباب مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية.
تدور سياسة الفاشية بالكامل حول مفهوم الدولة القومية، وبالتالي فهي لديها نقاط اتصال مع العقائد القومية، إلى جانب التمييز بينها وبين الأخيرة والذي من المهم أخذه بالاعتبار. وترى أنها تتوفر على حل للتناقض بين الحرية والسلطة؛ إذ تكون سلطة الدولة مطلقة. وإن الدولة لا تلجأ إلى الحلول الوسط، ولا تساوم، ولا تتنازل عن أي جزء من مجالها لمبادئ أخلاقية أو دينية أخرى قد تتداخل مع الضمير الفردي. ولكن من ناحية أخرى، لا تصبح الدولة حقيقة إلا في وعي أفرادها. وتوفر الدولة الفاشية التشاركية نظاما تمثيليا أكثر صدقا وأكثر اتصالا بالواقع من أي نظام آخر تم ابتكاره سابقا، وبالتالي فهو أكثر حرية من الدولة الليبرالية القديمة(8). علما هذه الأفكار تطرحها الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية على نحو مباشر أو غير مباشر، حيث تنتقد المؤسسات والنخب السياسية الليبرالية وتتهمها بالفساد.
يعتمد اليمين الجديد على منظري "الثورة المحافظة" مثل كارل شميت، وأوزوالد شبنغلر، ومنظري الليبرالية الجديدة مثل فريدريش فون هايك الذي يفضل دكتاتورية ليبرالية، وعلى هذا الأساس رأى في حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة في شيلي في بداية سبعينيات القرن الماضي بزعامة سلفادور اليندي دكتاتورية مستبدة. وفرض الليبرالية الجديدة بواسطة العنف في هذا البلد رأى فيها تحقيقا لـ "الحرية"،(9)، وهو ما أثبت الواقع عدم صوابه، حيث جلب تطبيق الليبرالية الجديدة كوارث اجتماعية واقتصادية واسعة وعمق التفاوت الطبقي.
أصبح ألكسندر دوغين الفيلسوف السياسي الروسي ونظريته "السياسية الرابعة" أحد المبادئ لتوجهات الفاشية المنظمة عالميا وفوق الوطنية. وتتمثّل موضوعته الرئيسة: أن جميع الأيديولوجيات السياسية، باستثناء الليبرالية، قد عفا عليها الزمن ويجب على جميع معارضي الليبرالية أن يتحدوا. ويجب ان يتم هذا الاتحاد تحت خيمة نظام اجتماعي استبدادي تقليدي واضح"(10).
ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية والتي اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما تعتبر النظرية الماركسية عادة أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية.
الكتاب الماركسيون الذين تصدوا للقيام بمهمة بناء مفهوم نظري للفاشية، من الذين جرى الاستلهام بأعمالهم، هم: ليون تروتسكي، جورجي ديمتروف، أنطونيو غرامشي، دانيال غيرين، بالميرو تولياتي، ونيكوس بولانتزاس(11)، والأخير لا يقوم بتقليص تفسير الفاشية إلى تناقض بسيط بل يرى أنها على العكس تنتج من تناقضات معقدة للغاية.
تؤكد جميع الكتابات الماركسية بشأن الفاشية على الصلات التي تربطها بالرأسمالية. وكان أكثر تعريفات الفاشية تأثيرا الصادر عن مؤتمر الأممية الشيوعية في عام 1935، والذي نصَّ على أن "الفاشية الممسكة بزمام السلطة هي الدكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر الرأسمالية المالية رجعية وشوفينية وإمبريالية". وكان رأي الأممية الشيوعية أن الأزمة التي عانتها الرأسمالية على درجة من الخطورة لم تكفِ معها الدكتاتورية التقليدية؛ لذلك استخدم الرأسماليون الحركة الفاشية الشاملة لتدمير الاشتراكية. ويذهب تعريف عام 1935 إلى أن الفاشية ليست "صنيع" الرأسماليين فقط؛ لأنها اعتمدت أيضا على أفراد من البرجوازية الصغيرة التي كانت ناقمة بشدة على رأس المال الكبير(12). وهذا ما نراه أيضا في الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية.
وقد شعر بعض الماركسيين أن هذا التعريف يسم جميع الأنظمة الدكتاتورية دون تمييز بالفاشية. وشعر آخرون أن البرجوازية الصغيرة تلعب دورا أكثر استقلالية، وأنها تقف إلى حد ما في طريق مصالح الرأسماليين. تبنى الماركسيون هذه الانتقادات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في محاولة لإضفاء قدر أكبر من المرونة على نموذجهم. لكن معظم الماركسيين لم يتخلوا عن قناعتهم بأن الفاشية تعمل بالأساس لمصلحة الرأسمالية(13).
وقد سبق أن قدم ديميتروف، في ثلاثينيات القرن العشرين، بداية الإجابة على سؤال، ما الذي يحفز كتلاً كبيرة من الناخبين على الانضمام إلى الفاشية؟ بالقول: "ما هو مصدر نفوذ الفاشية على الجماهير؟ إن الفاشية قادرة على اجتذاب الجماهير لأنها تخاطب بشكل ديماغوجي احتياجاتها ومطالبها الأكثر إلحاحاً. إن الفاشية لا تؤجج الأحكام المسبقة المتجذرة بعمق في الجماهير فحسب، بل إنها تلعب أيضاً على مشاعر الجماهير، وعلى شعورها بالعدالة، بل وأحياناً حتى على تقاليدها الثورية. إن الفاشية تهدف إلى استغلال الجماهير على نحو غير مقيد، ولكنها تقترب منها بأشد أساليب الديماغوجية المناهضة للرأسمالية، مستغلة الكراهية العميقة التي يكنها العمال للبرجوازية الناهبة، والبنوك، والترست، وأباطرة المال"(14).
حاليا يقدم لنا الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في كتابه "التعرّف على الفاشية"، الصادر حديثا، وصفا للفاشية، مؤكدا أن ظهور بعض سماتها لا بد أن يؤدي إلى عودة "فاشية جديدة" قد تكون أكثر قسوة من فاشية موسوليني. وإن تغيير الفاشية لشكلها لا يعني استحالة كشفها، فهي تشترك في جميع أشكالها، حتى تلك التي لم تظهر بعد، في 14 سمة يعتقد إيكو أنها تمثل جوهر كل نظام فاشي، وهي: "عبادة التقاليد، رفض الحداثة بالمطلق، اللاعقلانية، رفض النقد والفكر النقدي، الخوف من التنوّع، العمل على إحباط الطبقات الوسطى، تصوير الخصوم كأعداء يمكن هزيمتهم بقوة مفرطة، تكريس فكرة الحرب الدائمة وضرورة الاستعداد لها دائما، تكريس الفكر الشعبوي والعمل على تبرير احتقار كل طبقة للطبقة التي تخضع لها، ابتكار بطولات جماهيرية ولو وهمية، استعمال الخطاب الشعبوي السهل في مخاطبة الشعب، تقديس ما يسمى بالزعامة والرجولة، إعمال "الشعبوية النوعية" في مواجهة إنكار الحقوق الفردية"(15). كل ذلك من اجل أن تحتفظ الطبقة الحاكمة بالسلطة. وكما يقول تون فان دايك "الحق أن التاريخ يقول إن الأيديولوجيات غالبا ما تتشكل لإضفاء الشرعية على سيطرة طبقة حاكمة أو نخب أو منظمات"(16).
العلاقة بين اليمين المتطرف والفاشية الجديدة
يرفض كثير من الكتّاب تطبيق مفهوم الفاشية لوصف التوجه الفكري لليمين المتطرف الحالي. يستند هذا الرفض إلى دوافع وحجج تختلف استنادا إلى رؤية كل كاتب والنظرية التي يستند إليها في التحليل. فمثلا، يرفض إميليو جنتيل التفريق بين المفهوم والظاهرة التاريخية. ويذكر أن مفهوم الفاشية هو تاريخ الفاشية بحد ذاته، الذي ليس له أسلاف في القرن التاسع عشر، ولن يتكرر في القرن الحادي والعشرين. ويرى أرماندو بواتو، إذا أردنا أن نقبل التماهي الكامل بين المفهوم والحقيقة التاريخية المذكور في هذا القول، فإن ذلك من شأنه أن يمنعنا من استخدام مفاهيم أخرى، مثل الديمقراطية والدكتاتورية في التمييز بين ديمقراطيات ودكتاتوريات مختلفة عرفناها عبر التاريخ. وسوف يصبح استخدام العلوم السياسية مستحيلا(17)، وهذا القول دقيق وينسجم مع واقع البحث في شتى صنوف المعرفة.
لا يبدو أن هناك إرثا واضحا منفصلا للفاشية الجديدة؛ إذ إن الإرث الرئيس، هو الإرث الأيديولوجي الذي ينتمي إلى الفاشية بدلا من الفاشية الجديدة. قد يبدو قبول اليمين المتطرف الأوروبي الجديد بالنظام الديمقراطي، لكن في الواقع، ربما لا يزال مثقفوه يؤمنون بمعتقدات راسخة تتمثّل في العودة الأسطورية إلى العصر الاستبدادي الذهبي. ومن ناحية أخرى، جرى تهميش النزعة العسكرية العنيفة والروح الحربية (18)، دون أن يعني ذلك التخلي عنها.
لقد بدا واضحا أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن هناك علاقة بين فضائع الفاشية الكلاسيكية لسنوات ما بين الحربين العالميتين والحركات المعاصرة لليمين المتطرف الأوروبي؛ إذ في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، جرى تحديد أي مجموعات قومية متطرفة باعتبارها تمثّل الفاشية الجديدة أو النازية الجديد، لأسباب ليس أقلها أنها كانت تؤوي الكثير من أتباع الأنظمة الفاشية القدامى. ولكن حتى حاليا، فإن أخبار أعمال العنف أو النجاحات الانتخابية لليمين المتطرف في أوروبا تحيي شبح الفاشية في أذهان المراقبين في كل مكان. وبدون شك، ظلت العلاقة بين جميع حركات اليمين المتطرف وسنوات ما بين الحربين العالميتين أمرا واقعا لا مفر منه(19).
تحتل في عصر القطبية الأحادية، معاداة أمريكا مركز الصدارة، وكذلك معاداة العولمة والهجرة الوافدة. وبما أن التعاون عبر الحدود الوطنية آخذ بالازدياد، وخاصة بفضل شبكة الإنترنت، لذلك فإن الجيل الجديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة لم يعد كما يبدو مهتما بإحياء الفاشية الدولية(20)، ولكن لا يعني هذا عدم وجود علاقات وتنسيق وتعاون بين الأحزاب اليمينية المتطرفة خصوصا في أوروبا، وهذا ما يلاحظ في برلمان الإتحاد الأوروبي، حيث تعززت كتلة الأحزاب المذكورة في الانتخابات التي جرت عام 2024.
1- ألمانيا
بعد الحرب العالمية الثانية، كان لا يزال في ألمانيا عدد مهم من النازيين السابقين. وكانت حكومة ألمانيا الغربية، تخشى من انتعاش التطرف، لذلك، حظرت الأحزاب المناهضة للدستور ومنعت أعضائها من العمل الحكومي. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك كثير من المجموعات النازية الصغيرة، لكن دون أن تتمتع بأهمية سياسية، إضافة إلى ذلك تقدم أعضائها في السن. لكن الانتعاش الحديث والأكثر خطورة لنشاطات النازيين الجدد حدث في أوائل التسعينيات ردا على الهجرة الوافدة(21)، خصوصا من بلدان أوروبا الشرقية.
وأحدث الأحزاب اليمينية المتطرفة هو حزب البديل من أجل ألمانيا الذي تأسس عام 2013، لكنه في هذه السنة لم يتمكن من الدخول للبرلمان. ومنذ انتخابات عام 2017، أصبح الحزب أكبر أحزاب المعارضة، وهو أول حزب يميني قومي متطرف يدخل البرلمان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحقق الحزب نجاحات مهمة في الانتخابات الإقليمية عام 2024 في عدد من الولايات خصوصا في شرق البلاد وللحزب ارتباطات مع النازية الجديدة (22)، ويتبنى مواقف عنصرية معادية للمسلمين والمهاجرين عموما.
2- إيطاليا
كانت ومازالت إيطاليا النموذج الأول لدراسة الحركة الفاشية، حيث ظهرت هناك واستولت على السلطة منذ عشرينيات القرن الماضي بقيادة بينيتو موسوليني، وتحالفت مع النازية. وقد كانت الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحروب وما خلفته من تداعيات هي الحاضنة المناسبة لنمو الحركة الفاشية.
أصبحت إيطاليا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تقودها حكومة أكثر يمينية بقيادة جورجيا ميلوني، زعيمة حزب إخوة إيطاليا، الذي لديه علاقات تاريخية بالفاشية الجديدة، وذلك بعدما تمكن التحالف اليميني المُكون من حزبها بجانب حزب الرابطة وحزب فورزا إيطاليا من الفوز بأكثر من ثلث الأصوات بنسبة تقدر 44 في المئة في انتخابات عام 2022. بالنسبة إلى تاريخ حزب إخوة إيطاليا الذي تأسس عام 2012 على يد ميلوني، فإنه يعود إلى حزب الحركة الاجتماعية الإيطالية الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة جورجيو ألميراني، رئيس الأركان في حكومة موسوليني الأخيرة، وضم في عضويته أنصار الفاشية. واستمر الحزب خلال الثلاثة عقود التي أعقبت الحرب يُمارس العمل السياسي باعتباره حزبا يمينيا صغيرا (23).
وفي التسعينيات شهد الحزب تحولا جديدا على يد جيانفرانكو فيني، المتأثر بالفاشية الجديدة، وكان ينظر إلى موسوليني باعتباره أعظم رجل دولة في القرن العشرين، غير أن فيني حاول تقديم صورة أقل تطرفا؛ حيث أعاد تسمية الحزب باسم التحالف الوطني.
وفي ظل قيادته انضمت ميلوني للتحالف وتدرجت فيه. وعلى الرغم من أنها كانت من المعجبين بموسوليني، فإنا قامت بزيارة نصب "ياد فاشيم" التذكاري للهولوكوست في إسرائيل، إبان توليها وزارة الشباب في حكومة سيلفيو برلسكوني عام 2009(24). وهذا الموقف محاولة للتقرب من اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل على المستوى الأوروبي والعالمي.
3- روسيا
لفترة من الوقت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مباشرة، ظهرت بعض السمات التي حفزت سابقا نمو الفاشية وتطورها في إيطاليا. فقد تواصل ارتفاع معدل التضخم المفرط في روسيا ووصل إلى ما يقرب من 2000 في المئة سنويا. وتراجع الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي السابق نحو 40 في المئة عام 1994 (25).
كانت هذه الفترة التي حقق فيها فلاديمير جيرينوفسكي أكبر نجاحاته. متسلحا بأفكار الفاشية المألوفة، إذ نجح في جذب 22,8 في المئة من الأصوات في انتخابات عام 1993. وأشار أحد التقارير إلى أن 43 في المئة من العسكريين الروس في طاجاكستان صوتوا إلى حزب جيرينوفسكي (الحزب الليبرالي الديمقراطي). وبعد ذلك، ولأسباب عدة، تراجع الدعم للأخير وحزبه(26). ويُعد جيرينوفسكي "أول شعبوي حديث" وأحد أعمدة نظام بوتين عن طريق استيعاب أصوات الناخبين الغاضبين والمخيبة آمالهم وأصحاب التوجهات اليمينية المتشددة(27) وبقي على الدوام عضوا في الدوما حتى وفاته عام 2022.
4- البرازيل
تُعد البرازيل نموذجا لدراسة الفاشية الجديدة، حيث أنها ظهرت في بلد غير أوروبي، ويُعد من البلدان النامية، ولهذا فإن هذه التجربة جديرة بالدراسة واستخلاص النتائج منها، لأنها قد تكون مفيدة لبقية البلدان النامية التي ربما تواجه مثل هذه النزعات. علما امتدت هذه التجربة أربع سنوات (2019-2022) وهي فترة حكم الرئيس جير بولسونارو وحركته.
ولدت حركة بولسونارو من تظاهرات الشوارع الكبيرة التي جرت عامي 2015 و2016 للمطالبة بعزل رئيسة البرازيل ديلما روسيف، وهي أول مرأة تتولى هذا المنصب للفترة 2011-2016. وتستند الحركة الفاشية كحركة رجعية على البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى، بتعبير أدق الجزء العلوي من هذه الطبقة. وتضم هذه الحركة أيضا المالكين الصغار – الجزء المنظم جدا والمستقل من أصحاب الشاحنات والذي كان منذ بدايته ذو توجه يميني فاشي. وقد بحثت الأنثروبولوجية ايزابيلا خليل لمدة ثلاث سنوات توجهات المتظاهرين ذوي التوجه اليميني في البرازيل من خلال إجراء مقابلات معهم في التظاهرات، وقد أحصت أحد عشر عنصرا رئيسا حاضرا في خطاب بولسونارو ومؤيديه ضد كل من: الفساد، الشيوعية، اليسار، النسوية، السياسيين، الأحزاب، الإجهاض، المثلية الجنسية، الامتيازات والنظام(28). ويُلاحظ هناك مشتركات بين هذا الخطاب وخطاب الشخصيات والأحزاب اليمينية المتطرفة في بلدان أخرى خصوصا الأوروبية منها.
في الفاشية الأصلية، كانت البرجوازية المهيمنة هي البرجوازية الإمبريالية الكبرى، ويمكن أن تكون الفاشية عكس ذلك في بلد تابع، فهي تنظم هيمنة رأس المال الأجنبي الإمبريالي والجزء المرتبط به من البرجوازية المحلية الخاضعة لهذا الرأسمال. لذلك، فإن الليبرالية الجديدة والبرامج السياسية توسع انفتاح الاقتصاديات التابعة على رأس المال الإمبريالي، والفاشية، باعتبارها نوع خاص من الدكتاتورية، لا تتعارض مع الليبرالية الجديدة. لذلك فإن حكومة بولسونارو تنتمي إلى الفاشية الجديدة والليبرالية الجديدة(29) في الوقت نفسه. وبحسب أرماندو بواتو توجد في البرازيل ديمقراطية برجوازية تواجه أزمة وتدهورا.
اليمين المتطرف والهجرة الوافدة
أصبحت الهجرة الوافدة في عدد من بلدان أوروبا الغربية قضية سياسية، خصوصا في أوقات الصعوبات الاقتصادية. وفي ظل هذه الظروف التي أصبحت شائعة على نحو متزايد في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، يمكن بسهولة التلاعب باستخدام التمييز العنصري من قبل الأحزاب ذات التوجهات الفاشية والنازية. وبحسب إيان آدمز يبدو أن الفاشية الجديدة ليست أكثر من كراهية عنصرية منظمة سياسيا. ومن المؤكد أن هذا هو الحال في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا(30).
وإذا تركنا جانبا مسألة التصنيف، من الممكن مناقشة أن اليمين المتطرف في أوروبا الغربية حاليا، مقارنة بفترة الحرب الباردة، اضطر إلى التأقلم مع الديمقراطية الليبرالية، وبالتالي وضع جانبا أفكاره "الثورية". لكن لم يتم كبح العنف بالضرورة، حيث يمارس العنف من خلال الهجمات ضد المهاجرين من قبل المتعاطفين مع اليمين المتطرف. وتراجعت في أوروبا الغربية معاداة السامية إلى الخلف في حين برزت إلى الواجهة معاداة المسلمين، على عكس أوروبا الشرقية حيث ظلت الأولى بارزة فيها(31).
يذكر دايك "نفهم من هذا الطرح أن الأيديولوجيات العنصرية ليست نظاما مجردا سقط من السماء مصادفة على المجتمع الأوروبي، بل هو معتقدات ترسّخت تاريخيا واجتماعيا وثقافيا في الذهن الاجتماعي لعدد كبير من الأوروبيين، وتتحكم إلى حد ما في معتقداتهم عن الآخرين ضمنيا. وقد تظهر هذه المواقف مثلا حقيقة أن أكثر من ثلثي سكان أوروبا الغربية اليوم يعارض وفود المزيد من المهاجرين"(32). على الرغم من الحاجة الماسة للعمالة المهاجرة في أوروبا، نتيجة تراجع النمو الطبيعي للسكان، وهذا ما أعلنته مؤخرا عدة دول منها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وحتى هنغاريا وغيرها.
1- ألمانيا
كانت ألمانيا الغربية سابقا تتوفر على سياسية ليبرالية للغاية تجاه الهجرة الوافدة، وكانت ترحب بالكثير من "العمال الضيوف"، خصوصا من تركيا. لكن ساهم ارتفاع البطالة في الثمانينيات في نمو الفاشية الجديدة التي تغذت على الخوف والاستياء من الهجرة. وقد بقي الأمر تحت السيطرة خلال هذا العقد؛ بسبب أن الاقتصاد الألماني كان قويا ومزدهرا، لذلك نظر معظم الألمان إلى المشكلات الاقتصادية باعتبارها مؤقتة.
وقد تغيرت هذه الوضعية بسبب عاملين مترابطين. يأتي في المقام الأول، تفكك الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والفوضى الاقتصادية التي أعقبت ذلك ما عزز من تدفق المهاجرين من هذه المنطقة باتجاه الغرب الغني. وتمثّل العامل الثاني في إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 الذي عقب انهيار المانيا الشرقية، إذ لم يكن هذا التوحيد نجاحا فوريا. وسببت إعادة هيكلة الاقتصاد بطالة ضخمة في المانيا الشرقية، وهددت ازدهار المانيا الغربية. وترافق هذا الوضع واحتمال الهجرة الوافدة مع الاضطراب الاقتصادي، كل ذلك كان أرضا خصبة لنمو الفاشية الجديدة. لذلك، كان هناك نمو سريع للمجموعات النازية الجديدة، وهجمات على المهاجرين، خصوصا في ألمانيا الشرقية. وقد تأسس الحزب الجمهوري الجديد باعتباره الحزب اليميني المتطرف الرائد في وقته بعد عام 1989. وكان برنامجه يتضمن ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية (33).
2- فرنسا
على نحو مشابه، غذت الهجرة الوافدة والقلق من آفاق المستقبل النشاط الفاشي الجديد في فرنسا. على الرغم من أن كثير من الهجرة يرتبط بإرث الاستعمار الفرنسي. فهناك أعداد كبيرة من المهاجرين من بلدان شمال أفريقيا، إضافة إلى توقعات بأن كثير من المهاجرين الجدد يريدون الدخول إلى البلد نتيجة المشكلات الاقتصادية والحروب الأهلية في عدد من بلدان هذه المنطقة، لذلك كان هناك نمو في المشاعر المعادية للمهاجرين.
أسس جان ماري لوبان حزبا يمينيا متطرفا عام 1972، لكنه أصبح في الصدارة مع الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة في أوائل الثمانينيات، عندما فازت الجبهة الوطنية بمقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية والبرلمان الأوروبي. وعندما وصلت البطالة إلى ثلاثة ملايين، زعم لوبان أن ترحيل ثلاثة ملايين مهاجر سيحل المشكلة "بضربة واحدة". وتحدث عن تنامي أسلمة أجزاء من فرنسا وعواقب تهديد الهوية والثقافة الفرنسيتين. يبدو من المرجح أن مسألة الهجرة ستكون ذات أهمية متنامية، وقد تكون مصدرا لتنامي الدعم لليمين المتطرف في المستقبل(34). وقد كادت الجبهة الوطنية أن تحتل الصدارة في انتخابات الجمعية الوطنية التي جرت عام 2024 لولا مبادرة تحالف اليسار الذي أحتل المرتبة الأولى.
الترامبية
نشأ مصطلح الترامبية وبات يتداول على نطاق واسع خصوصا من قبل المحللين السياسيين والإعلاميين والكتّاب، خلال فترة رئاسة ترامب الأولى (2017-2021)، وزاد الاهتمام أكثر بهذا المصطلح بعد فوز الأخير في انتخابات عام 2024. وتواجه دراسة الترامبية صعوبات منهجية، لأن صاحبها لا يتوفر على فكر سياسي - اقتصادي منسجم، ويتسم بالمزاجية وتقلب الآراء، ثم أن صعوده السياسي لم يأت بالتدرج عبر المؤسسات السياسية بل جاء من خارجها، ومن قطاع العقار والمال حصرا، ولا يمتلك خبرة واسعة في إدارة شؤون الدولة.
الحقيقة أن فوز ترامب في انتخابات عام 2024، ودراسة النتائج المترتبة عليه سيستغرق بعض الوقت قبل التمكن من تكوين صورة كاملة له. إذ ليس كل شيء واضحاً كما قد يبدو من الوهلة الأولى. وكما قال كارل ماركس: "كل العلوم ستكون زائدة عن الحاجة إذا كان المظهر الخارجي وجوهر الأشياء متطابقين بشكل مباشر"(35).
وعن أسباب فوز ترامب يبدو أن الجانب الاقتصادي لعب دورا محوريا في ذلك. فقد شكلت الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد وارتفاع تكاليف المعيشة والإسكان والتضخم محور اهتمام الناخبين. إذ تشير استطلاعات الرأي التي جرت للخارجين من التصويت إلى أن ثلثي الناخبين يرون أن الاقتصاد في حالة سيئة أو ليست جيدة، وأن 69 في المئة منهم صوتوا لترامب(36) إضافة إلى ذلك، فقد اجتمعت أكثر القطاعات رجعية وتطرفا في الطبقة الرأسمالية لدعم دكتاتور متمرس نجح في حشد حركة جماهيرية من القوى المتناقضة خلفه. إنها الصيغة الكلاسيكية للفاشية(37).
والأسوأ من ذلك، على عكس ما حدث عندما فاز عام 2016، لن يتصرف ترامب بشكل ارتجالي هذه المرة. فسوف يدخل البيت الأبيض بأجندة مدروسة بالكامل للمليارديرات ــ مشروع 2025 ــ تستهدف الطبقة العاملة والنقابات، والأشخاص الملونين، والمهاجرين، والنساء، والمثليين جنسيا، والرعاية الطبية للمعمرين، والضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية المساعدة، وتشريعات تغير المناخ، وغير ذلك. ومن المتوقع أن يفرض تخفيضات ضريبية كبرى لصالح الأغنياء وتخفيضات في الخدمات العامة لبقية الناس(38). وقد وقع بعض الأوامر التنفيذية التي تخص ذلك منذ اليوم الأول لاستلامه الرئاسة. وهذ جلي إذ أنه جاء ليخدم الشركات الكبرى التي أوصلته إلى الحكم بتبرعاتها الضخمة لحملته الانتخابية.
أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية المتوقعة لترامب "على الرغم من المؤشرات المبنية على رؤية ترامب وترشيحاته للمناصب الرئيسة في إدارته، فإن مزاجيته، وتقلباته، وعدم امتلاكه منظومة أفكار منسجمة، كلّها عوامل ستجعل من الصعب التنبؤ بسياسته الخارجية"(39). وهذه تعد من الفترات الصعبة التي تتطلب تنسيق جهود قوى السلام والديمقراطية لإجبار ترامب على احترام حقوق الآخرين وقبول الحقائق الجيوسياسية.
باتت فترة حكم ترامب السابقة، محل دراسة وتحليل واستخلصت منها نتائج مهمة منها: إن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2016، والدعم اللاحق الذي كان قادرا على المحافظة عليه أثناء وجوده في منصبه، حير العديد من المهتمين. فمثلا، يشير ويندي براون وبيتر جوردون وماكس بنسكي إلى أن صعود ترامب، إلى جانب صعود الحركات اليمينية الشعبوية المعاصرة، لا يتناسب مع التصنيفات المعترف بها في التحليل السياسي. ومن بين الألغاز الرئيسة التي تمثلها الترامبية لمثل هؤلاء المراقبين افتقارها إلى التماسك الأيديولوجي(40). وهذه الصفة تنطبق على الفاشية في إيطاليا في عهد موسوليني.
كذلك، "على الرغم من نجاة المؤسسات الديمقراطية الأميركية من رئاسة ترامب، إلا أنها ضعفت بشدة. وعلاوة على ذلك، تحول الحزب الجمهوري إلى قوة متطرفة معادية للديمقراطية تعرض النظام الدستوري الأميركي للخطر. إن الولايات المتحدة لا تتجه نحو الاستبداد على الطريقة الروسية أو الهنغارية، كما حذر بعض المحللين، بل نحو شيء آخر: فترة طويلة من عدم استقرار النظام، تتميز بأزمات دستورية متكررة، وعنف سياسي متزايد، وربما فترات من الحكم الاستبدادي"(41).
على الرغم من أن ترامب حفز على هذا التحول نحو الاستبداد، إلا أن تطرف الحزب الجمهوري كان مدفوعا بضغط قوي من الأسفل؛ إذ أن الناخبين الأساسيين للحزب هم من البيض والمسيحيين، ويعيشون في الضواحي والمدن الصغيرة والمناطق الريفية. ولا يقتصر الأمر على تراجع المسيحيين البيض كنسبة مئوية من الناخبين، بل إن التنوع المتزايد والتقدم نحو المساواة العرقية قد قوضا أيضا وضعهم الاجتماعي النسبي. ويعتقد كثير من الناخبين الجمهوريين أن بلد طفولتهم يؤخذ منهم. فقد وجد مسح أجري عام 2021 برعاية معهد أمريكان إنتربرايز أن 56 في المئة من الجمهوريين وافقوا على أن "طريقة الحياة الأميركية التقليدية تختفي بسرعة كبيرة لدرجة أننا قد نضطر إلى استخدام القوة لوقفها"(42). وهذا ما دفع بعض المهتمين للقول بإمكانية حدوث حرب أهلية.
هذه المواقف تعكس اشتداد الصراع الطبقي في الولايات المتحدة، ويتطلب حسم هذا الصراع لصالح الطبقات والفئات المتضررة ولو تدريجيا، معارك ونضالات سياسية وفكرية وثقافية لوقف هجوم اليمين المتطرف واستعادة المبادرة للقوى اليسارية والديمقراطية المناهضة لهذا التوجه، لأن خطورة صعود اليمين المتطرف لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل سينعكس ذلك في تعزيز مواقع هذا الجناح في أوروبا وبقية العالم.
***
د. هاشم نعمة
....................
الهوامش
(1) Bosworth R. J. B. The Oxford Handbook of Fascism, Oxford University Press, 2009, p. 586.
(2) Ibid., p. 593.
(3) Ian Adams, Political ideology today, Manchester, Manchester University Press, 1993, pp. 249-250.
(4)للمزيد راجع: هاشم نعمة، "في سمات الشعبوية"، الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول 2024، ص 46-57.
(5) Bosworth, p. 601.
(6) Ibid., p. 587.
(7) Paul Schumaker (ed.), The Political Theory Reader, Oxford, Wiley Blackwell, 2010, p. 58.
(8) Ibid., pp. 59-60.
(9) رشيد غويلب (ترجمة وإعداد)، قوى اليسار الأوروبي: الأزمة المالية والسياسات البديلة، بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2015، ص 232.
(10) عصر ذهبي تقليدي جديد - اليمين المتطرف والرأسمالية المتخلفة / ناتاشا شتروبل، ترجمة رشيد غويلب، 12 تشرين الثاني 2022.
(11) Armando Boito, Reform and Political Crisis in Brazil, Leiden/ Boston: Brill, 2018, p. 190.
(12) كيفن باسمور، الفاشية: مقدمة قصيرة جدا، ترجمة رحاب صلاح الدين، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014، ص 23.
(13) المصدر نفسه، ص 23-24.
(14) سي. جيه. أتكينز، "صباح اليوم التالي: تحليل ماركسي لفوز ترامب"، موقع صحيفة "عالم الشعب" (الحزب الشيوعي الأمريكي)، 6 نوفمبر 2024.
(15) الفاشية اللافكرية الجديدة كما فضحها أمبرتو إيكو /ثقافة / الجزيرة نت.
(16) تون فان دايك، الأيديولوجيا والخطاب، ترجمة سعيد بكار ولحسن بوتكلاي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023، ص 50.
(17) Boito, p. 188.
(18) Bosworth, pp.603-604.
(19) Roger Griffin, (ed.) International Fascism, London: Arnold:1998, p. 305.
(20) Bosworth, pp.603-604.
(21) Griffin, p. 305.
(22) البديل من أجل ألمانيا - ويكيبيديا، 3 كانون الأول 2024.
(23) آية عبد العزيز، "تهديد محتمل! صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في السويد وإيطاليا"، اتجاهات الأحداث، العدد 34، نوفمبر- ديسمبر 2022، ص 53.
(24) المصدر نفسه، ص 53.
(25) James A. Gregor, Phoenix: Fascism in our Time: USA/ UK, Transaction publishers, 2002, pp. 150-151.
(26) Ibid., pp. 150-151.
(27) رحيل السياسي الشعبوي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي عن 75 عاماً، العربي الجديد، 6 أبريل 2022.
(28) Boito, p. 191.
(29) Ibid., pp. 189-190.
(30) Adams, pp. 249-250.
(31) Bosworth, p. 603.
(32) دايك، ص 56.
(33) Adams, pp. 250-251.
(34) Ibid., p. 251.
(35) أتكينز.
(36) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الانتخابات الرئاسية الأمريكية: أسباب فوز ترامب والتداعيات المحتملة، الدوحة: 11 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 1.
(37) أتكينز.
(38) المصدر نفسه.
(39) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، السياسة الخارجية لرئاسة ترامب الثانية: الرؤية والتوقعات، الدوحة: 18 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 5.
(40) Jeremiah Morelock (ed.) How to Critique Authoritarian Populism, Leiden, Brill, 2021, p. 366.
(41) Foreign Affairs, 20 January 2022.
(42) Ibid.
* نشرت في الأصل في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 451، آذار| مارس 2025.

 

لنتصور لو ان العقل في المنطقة قد ذهب ـ وهو افتراض غير واقعي ـ الى المقارنه بين الرؤية والتصورات التي عمت المنطقة تحت طائلة المتغير الالي الغربي ارتكازا للمروية التي تضع محمد على الالباني، ومعه مصر، بموقع البؤرة الانقلابيه التشبهية المتماهية مع النموذج الاعلى، بلا اي عنصر فعالية ذاتي يمكن التوقف عنده سوى الاستعانه بالخاصية التكوينيه الكيانوية لمجتمع الدولة التاريخي المنزوع التفاعلية والاصطراعية الداخلية، ضمن شروط البرانيه والفعل من خارج المكان رضوخا لنموذج مطلوب نقله،وبين حالة الانبعاثية الراهنه خارج الاله ومفعولها الابتداء، المطروده من المقاربة لتعديها الطاقة العقلية المتاحة على الاحاطة، والحاصلة في القرن السادس عشر، قبل بدايات العمليه الانقلابيه الالية الاوربية بصيغتها الاولى "المصنعية"، لنصبح في غمرة دورة تاريخيه/ آليه تكنولوجيه/ ثالثة بعد دورتين يدويتين، تعذر فيهما لنقص في المتوفر الضروري، ماديا واعقاليا، تحقق النموذجية المجتمعية فوق الارضوية، اصل ومبتدا الظاهرة المجتمعية ومنتهاها.
هذا والغالب المتوقع المستحيل هنا، احتمالية الذهاب الفوري للنطقية، واسباغ الطبيعه والخاصية المحركة والقابعه خلف الانبعاث الحالي، بعد دورتين ناقصتي النطقية، كمثل الذهاب الخارق وفوق الممكن في ساعته، لاعتبار الحاصل من قبيل الانتقال الى المجتمعية العقلية، مع اعتبار انتهاء الطور اليدوي بمثابة انقضاء اجل نوع معين من المجتمعية، انتهت وظيفتها، الامر الذي اوجد تناقضية احتدامية كبرى بين المجتمعية القائمه الاوربية الارضوية الازدواجية الطبقية، عالية الديناميات ضمن صنفها المجتمعي، والتي انبثقت الاله المتجاوزة لها فعالية بين ظهرانيها، وبين اداة الانتقال المجتمعي النوعي الاعظم غير المكتمله الكينونه ماتزال، بما يعني كون الغرب ليس اكثر من تمهيد غير مكتمل العناصر، ولايستقيم كينونة تفاعليه وتعبيرا مع الانقلابيه المطلوبة والمضمرة، بما يضع غيرها، المجتمعية اللاارضوية، بموقع الغاية والهدف المتلائم مع سياقات الانقلابية المجتمعية الراهنه، فهل كان او هو اليوم حتى واردا باي شكل، الاعتقاد بان الانقلاب الالي هو انقلاب رافديني شرق متوسطي، كتب له ان يغرق ابتداء وسط طور وحالة من التوهمية الكبرى المخالفه للحقيقه، ولطبيعة الانقلاب التاريخي الحاصل.
يصل الامر بواحد من المع المحسوبين على الافكار الحداثية في مصر، حد القول باندهاش:"ياالهي مصر جزء من اوربا" وهذا مافعله الدكتور طه حسين حين عاد لمصر من زيارة لاوربا ووجدها تعاني وطاة مرض الكوليرا، والشخص نفسه عبر عن اعتقادة الجازم بان المجتمعيات الاصطراعية مثل العراقي هي مجتمعات اقل "حضاروية"(2) مقارنه بتلك السكونية الاجترارية التي امضت قبل وقت غير قصير، اربعة قرون تحت الهيمنه العثمانيه عرفت خلالها 150 واليا، كانوا يعينون من الاستانه بفرمان دون ان يعرف اي اعتراض او حتى اعلان عن عدم الرضى عن واحد منهم، بينما قل من بين من وضعوا بموقع حكم بغداد العاصمة الامبراطورية المنهارة، من مات على فراشه، الظاهرة التي استمرت الى الغزو الابادي الامريكي 2003 .
البشرية مجتمعيتان تظل تحت طائلة منظور واحد، يجعل الظاهرة المجتمعية موجودة بلا ولادة، في حال تصير تستغرق تفاعليتها الرحميه المفضية للولادة، فلا تبدا علائم الطلق، ويصير الصراخ النطقي الاول واقعا، الا بعد ان ينتهي الطور اليدوي الرحمي بعد احتدام اصطراعي انتقالي عالي التوهميه، مابين متبقيات اليدوية، والاليه الذاهبة تحورا الى التكنولوجيا العقلية، الجنين المودع بين تضاعيف الوجود الحي، والاكثر حضورا ووجودا اصلا في الموضع الابتداء التبلوري المجتمعي في الشرق المتوسطي، وتحديدا في ارض مابين النهرين، والمكتوب عليها مواجهة اعلى مايمكن تصوره من اشكال القصورية العقلية المتجدده، والهيمنيه الساحقة الافنائية، المعجونه باشتراطات الانهيارية والتردي التاريخي الموضوعي، المنوط اصلا باليات الانتقال والصعود الكبرى، حين هيأ هذا المكان بازدواجيته ونهوضه في الدورة الثانية مابين القرن السابع والثالث عشر، اسباب الانقلابيه الاقتصادية التجارية عالميا وعلى المنقلب الاوربي حيث الديناميات الارضوية العليا تحديدا، لتبدا من هنا آليات استكمال التفاعلية التجارية الذاهبة الى الالية الصناعية، قابلها كما هو قانون الدورات والانقطاعات الرافديني، انهيار انقطاعي تاريخي هو الاخير خلال الطور اليدوي.
وتلعب التقابلية التاريخيه الشرق متوسطية الاوربيه ومحطاتها، دورا اساسا في تامين البنية الاعتقادية الحداثية المقابله للغرب من موقع الشعور بنوع من التساوي او المضاهاة، فالمنطقة تعرف انها كانت قبل قرون ليست بعيده استمرت حتى الثالث عشر، مركزا حضاريا متقدما عالميا، وهي مركز فعالية كونيه وحضاريه بدئية اسبق من الاخيرة، مامن شانه جعل التساؤل" لماذا تاخرنا وتقدم الغرب؟" من قبيل المقوله العملية، لولا انها ترد من دون اعتبار (لمابعد) اي لما يتعدى الغرب الحالي والطور النهوضي المتلازم مع الثورة الجزيرية الابراهيمه الاخيرة، لا التماهي المتمثل بالصيغة و النموذجية الغربية، ما يفترض التفريق بين "تقدم الغرب" و"تاخرنا" كذاتيتين تاريخيتين، كانتا ووجدتا في التاريخ منفصلتين متباينتين نوع محركات واسباب، وصنف تعبيرية، مابين فلسفية ارضوية نخبوية اغريقية، ولاارضوية كونية نبوية ابراهيمه، هي من اخترق الاخر مجتمعيا وسكن بين تضاعيفه الى اليوم، مع تباين الوسائل والاسباب، بين الامبراطوريات والانصبابات الكيانوية باتجاه شرق المتوسط، وبين نوع الرد الاختراقي المجتمعي العقيدي اللاارضوي.
الاهم في كل هذا هو المتغير الحاصل خارج محركات التقابلية التارخية المعتادة بصيغتها اليدوية، اثره ونوع فعاليته مجتمعيا، مع اخذ التباين البنيوي بالاعتبار، وهنا تظهر واحده من اهم قصورات العقل الابتدائية، اذ يظل مجهولا الاثر البنيوي الطاريء على التفاعلية البنيوية المجتمعية الاصل اليدويه، بما هي ( كائن بشري/ بيئة)، الى ( كائن بشري / بيئة/ آلة) وهي عنصر جديد طاريء مختلف، تتغير بموجبه الاصطراعية التشكلية المجتمعية بدخول عنصر مستجد من خارجها ومن غير طبيعتها، مايجعل من الفاصل من وقته العودة الى النوع المجتمعي الاصل ونمطيته، بما لايترك اي مجال بعدها للتغاضي عن الانشطار الازدواجي اللاارضوي / الارضوي مجتمعيا، بحثا عن مسارات الاصطراعية التفاعلية المجتمعية وانواعها بعد حضور الاله، حتى نتعرف على اشكال التفاعلية الطارئة في الحالين والصنفين، اللاارضوي والارضوي، كل ومدى قربه او بعده تلاؤما مع المستجد الانقلابي الفاصل، بحثا عن سلامة المسار المجتمعي والوعي به، بظل الانقلابيه الكبرى الواقعه بما هي الاصل الواجب التركيز عليه، وليس التوهمات الصناعوية الاليه التي كرسها الغرب دالة وهمية اعتباطية على الحداثة والعصر.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

الدول الريعية، تلك التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على الإيرادات التي تأتي من الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، تقدم نموذجًا فريدًا ومختلفًا في السياسة والاقتصاد. في هذه الدول، لا تساهم الأعباء الضريبية ولا الإنتاج المحلي في تمويل الدولة كما هو الحال في الدول الصناعية، بل تقتصر هذه الوظائف على الريع الطبيعي الذي يتم استغلاله وإعادة توزيعه بشكل غير متوازن.
وغالبًا ما تتحول هذه الأنظمة إلى أنماط من الحكم القائم على الولاء الشخصي والتوزيع العشوائي للثروات، مما يعزز من حالة الفساد المستشري وغياب المؤسسات الحقيقية. يتم تثبيت سلطة النخب الحاكمة عبر آليات غير قانونية وغير مؤسسية، مما يجعل القوانين مجرد أدوات تبرير لسلطة غير شرعية وتزيد من تفشي “الزيف” في النظام.
بعد أن لفظني السودان ونظامه الإسلاموي العسكري، لم يكن خروجي مجرد هروب من جحيم السياسة، بل قفزة في الفراغ، حيث لا يقين سوى في الابتعاد عن آلة القمع التي التهمت أجيالًا وأحلامًا ومصائر. لكن الرحيل، مهما بدا فكاكًا، لا يعني القطيعة، بل إعادة تعريف العلاقة مع المكان، مع الذاكرة، مع السؤال الأزلي عن الوطن. و قد كنت محظوظًا أن أجد نفسي في بلد تُدار فيه الأمور بقواعد واضحة، حيث الدولة ليست انعكاسًا للأفراد، بل كيان مستقل، يتجاوز الولاءات الشخصية إلى منطق المؤسسات، لكن هذه الاستقلالية ليست مطلقة، بل مشروطة ببنية أعمق، بنية لم يكن من السهل تجاهلها.
حين عدت، ولو عابرًا، إلى دول قريبة من السودان، دول احتضنت كثيرًا من أهلي وأصدقائي الفارين من ذات الجحيم، دول تحمل ملامح الثراء والبذخ، لكنها تخفي في عمقها ذات الاختلالات التي جعلتني أفر من وطني.
منذ اللحظة الأولى، كان ثقل الوهم أشد حضورًا من صلابة الواقع. الأبراج الزجاجية، الطرقات الواسعة، العلامات التجارية المتوهجة، كلها كانت تؤدي دورها في رسم صورة الحداثة، لكن ما كان غائبًا هو العمق، ذلك الإحساس بأن وراء هذا المشهد نظامًا يعمل باستقلال عن إرادة الأفراد، عن العلاقات الشخصية، عن تلك المكالمات العابرة التي تفتح الأبواب وتختصر الزمن. لم يكن الأمر مجرد صدمة حضارية، بل مواجهة مع بنية تدور حول ذاتها، تعيد إنتاج أنساقها بصرامة لا تلين، حيث يتغير الشكل لكن الجوهر يظل ثابتًا، وكأن الدول ليست كيانات سياسية وإدارية، بل مجرد تقنيات للهيمنة، آليات مُحكمة لإدارة الامتثال، حيث لا شيء يعمل بالقانون، لكن لا شيء يعمل بدونه أيضًا.
الرعب في هذه المنظومة لا ينبع فقط من فسادها، بل من قدرتها العبقرية على المحاكاة. إنها لا ترفض الحداثة، لكنها تفرغها من مضمونها، تحوّلها إلى أداء، نسخة مشوّهة من الدولة الحديثة، حيث الشكل يتقدّم على الجوهر، والإجراء يحلّ محل الفعل، كما لو أن كل شيء مجرد تمثيل لا يبلغ أبدًا لحظة التحقق. هنا، القوانين ليست قوانين، بل أدوات انتقائية تُستخدم لتعزيز الهيمنة حين تلزم، وتُترك معلقة حين تصبح عبئًا. المؤسسات ليست مؤسسات، بل هياكل فارغة تحافظ على التراتبية دون أن تنتج شيئًا حقيقيًا. الزمن نفسه يفقد صلابته، لا يسير إلى الأمام، بل يلتف حول نفسه في دائرة مغلقة، حيث التغيير ليس أكثر من إعادة تدوير للفشل بصيغ مختلفة.
ليس هذا الفساد مجرد خلل، بل هو المنطق الذي تعمل به البنية ذاتها، ليس استثناءً بل القاعدة. إنه ليس مجرد انحراف عن مسار الدولة، بل هو الدول كما تشكلت وكما تعيد تشكيل نفسها. هنا، لا يعمل النظام بالمنع الصريح، بل بالإغراء المستمر، لا يفرض الطاعة بالقوة، بل يجعل العصيان أمرًا مكلفًا حد الاستحالة. وهنا، يصبح الإنسان كائنًا رماديًا، عالقًا بين الامتثال والتواطؤ، بين الرفض والتكيف. هل يتمسك بمثالية ستتركه معطلًا إلى الأبد؟ أم ينخرط في اللعبة، مدركًا أن كل تنازل صغير ليس مجرد تكيّف، بل مساهمة في إعادة تدوير المنظومة؟ هنا، لا شيء يُحسم بالمجرد، بل بالتجربة اليومية، حيث تنحلّ الحدود بين الأخلاقي والعملي، حيث يجد المرء نفسه، رغم كل مقاومته، منزلقًا إلى الداخل، يتحول إلى ترس في آلة كان يظن أنه قادرًا على البقاء خارجها.
لم يكن عبد الله العروي مخطئًا حين تحدث عن “الدولة المستحيلة”، ذلك الكيان الذي يبدو دائمًا على أعتاب الحداثة لكنه لا يدخلها أبدًا، يراوح مكانه بين إرث سلطاني لم يختفِ تمامًا، ووعود حداثية لا تتحقق، كمن يقف على عتبة باب لا يجرؤ على عبوره.
الدول هنا ليست أدوات لتنظيم المجتمع، بل مسارح كبيرة لإعادة إنتاج علاقات القوة، حيث القانون نفسه ليس سوى قناع، حيث المؤسسات مجرد ديكور، حيث الفساد ليس مجرد عرض جانبي، بل هو الطريقة الوحيدة التي تستمر بها اللعبة.
إنها ليست دولًا فاشلة، بل دولًا تتقن فن إعادة إنتاج فشلها، تجعل منه ضرورة، تحوله إلى إيقاع يومي، إلى طريقة للحياة.
في فضاء كهذا، لا أحد بريء تمامًا، لأن الجميع، بطريقة أو بأخرى، متورطون في اللعبة. حتى أولئك الذين يرفضون الانخراط يجدون أنفسهم، في لحظة ما، مضطرين للانتظار، ينتظرون المكالمة المناسبة، لأن أي محاولة للخروج الكامل من هذه المنظومة تعني العيش على هامشها، بلا صوت، بلا تأثير، بلا قدرة على الحركة. المكالمة الهاتفية من شخص نافذ تصبح الحل الوحيد في وجه بيروقراطية موظف لا يعرف ماذا يفعل مع سيستم عقيم، حيث لا خيار آخر. في النهاية، الدول الريعية ليست مجرد أجهزة حكم، بل حالات ذهنية، أشكال من أشكال الوعي التي تجعل القمع يبدو طبيعيًا، والفساد ضرورة، والوساطة مهارة أساسية للحياة. إنها ليست مجرد أزمة أنظمة، بل أزمة وجودية، حيث الفرد لا يعيش في دول تقرر مصيره، بل في فراغ ممتد بين القانون واللا قانون، بين المؤسساتية والوصولية، بين الرسمي وغير الرسمي، حيث لا شيء قطعي، لكن كل شيء متوقع، حيث الماضي ليس تاريخًا مضى، بل حاضر يُعاد إنتاجه بلا نهاية، حيث كل محاولة للخروج ليست سوى خطوة أخرى في طريق العودة.
في هذه المنظومة التي تشكلت في دول النفط والزفت، حيث الفائض الاقتصادي يولد نمطًا من العيش قائمًا على التوزيع غير المتوازن للثروات، تكون الدول الريعية آلة لصنع الانتماءات الهشة. في هذه الدول، تتماهى السياسة مع الاقتصاد في علاقة تبعية تامة، حيث يُخضع المواطنون للولاءات الشخصية والوساطة، وتبقى الدول في يد أقلية احتكارية، مما يعزز من سطوة النخب المتنفذة. كما يقول فوكو في تحليله للقوى المنتشرة في المجتمع، إن هذه القوى لا تعمل بشكل مركزي، بل تتمثل في شبكة معقدة من العلاقات التي تشكل “الذات” وتعيد إنتاج التبعية بشكل دائم. في هذا السياق، تصبح الدول الريعية أكثر من مجرد نماذج اقتصادية؛ هي مشاريع للهيمنة اللامباشرة، وهو ما يعزز مفهوم غرامشي للهيمنة الثقافية، حيث تسعى النخب الحاكمة إلى تثبيت سلطتها من خلال “القبول الطوعي” للمواطنين بما يرضي مصالحهم.

إن هذه الدول، رغم تظاهرها بالحداثة، لا تبرح مكانها، فهي تحتفظ ببنية اجتماعية تشبه إلى حد بعيد المجتمعات التقليدية، حيث تبقى وسائل الإنتاج (النفط والزفت) تحت سيطرة نخبة محدودة، فيما يتم إغراق الشعب في دوامة استهلاكية لا نهاية لها.
***
إبراهيم برسي

في سبتمبر (أيلول) 2017 صوَّت غالبية الأكراد العراقيين (92 في المائة) لصالح استقلال إقليم كردستان، بعد نحو عقدين من الحكم الذاتي الموسع. هذا يشبه إلى حد كبير مشهد جنوب السودان في يناير (كانون الثاني) 2011 حين صوَّت 99 في المائة من سكانه على الانفصال عن الشمال.
بوسعنا أن نمرّ أيضاً على الحرب الأهلية في جنوب اليمن عام 1994، والتمرد الذي أدى إلى انفصال باكستان الشرقية عن أختها الغربية، وظهور دولة بنغلاديش في 1971، أو الحرب التي أدت إلى تفكك يوغوسلافيا، وقيام جمهوريات البوسنة وكرواتيا والجبل الأسود في 1992 ثم انفصال كوسوفو عن صربيا في 2008.
هذه أمثلة، أحسب أن غالبية القراء الأعزاء يذكرونها، وهي حوادث أدت أو كادت أن تؤدي إلى تفكك دول، ظن كثيرون أنها راسخة الجذور عصية على التفكيك.
المؤكد أن كلاً منا قد علم بتجربة واحدة على الأقل، تتضمن حالات انفصال بين أزواج أو أعضاء في عائلة واحدة أو شركاء في عمل تجاري، يعرف كل العقلاء أنه يؤدي إلى خسائر كبيرة. مع ذلك، فإن الناس يقدمون عليه، أفراداً – كما في الأمثلة الأخيرة – أو شعوباً كاملة كما في الأمثلة السابقة.
السؤال الذي لا بد أن يواجهه إخوتنا في سوريا: ما هو الظرف الذي تبلورت فيه إرادة الانفصال وتفكيك البلد، في التجارب التي ذكرناها، وفي عشرات التجارب المماثلة على امتداد تاريخ العالم الحديث، وما هي العوامل المماثلة التي قد تكون متوفرة فعلياً في سوريا اليوم؟ التأمل في هذا السؤال سيأخذنا إلى الجزء الثاني الأكثر أهمية: كيف نحول دون تفاقم العوامل الدافعة لانكسار الوحدة الوطنية، وكيف نعزز إرادة العيش المشترك والسلم الأهلي؟
إن سمحتم لي بالجواب، فإنني أرى أن ظرف انكسار الوحدة الروحية، أي إرادة التعايش، يتبلور عندما تشيع الميول المتطرفة وتنكمش الميول المعتدلة عند شريحة واسعة من السكان. التطرف يعني أن الفرد مطلع على الخسائر التي ستحصل جراء الانفصال، لكنه مع ذلك يراه أقل سوءاً من أي ضرر يترتب عليه، أو لنقل إنه يرى الوضع القائم أسوأ كثيراً من أي ظرف سيأتي بعد الانفصال. إنه أشبه بالذي يقدِم على الانتحار، أو يخوض مغامرة، يعلم سلفاً أن احتمالات السلامة فيها أقل من احتمال الهلاك. هذا تصور متطرف بلا شك، وإذا حمله الفرد فإنه يُعدّ متطرفاً.
خلال السنوات العشر التي مضت من عمر الثورة السورية، لم نسمع أحداً يتحدث عن تقسيم البلاد. حتى في المناطق الكردية التي انفصلت فعلياً عن حكومة دمشق، كان أقصى المطالب هو الحكم الذاتي، على النحو القائم في كردستان العراق. أما اليوم فنرى خرائط عن ثلاث دول أو أربع، ونسمع أشخاصاً يقولون من دون اكتراث: إذا أرادوا أن ينفصلوا، فليذهبوا إلى الجحيم، نحن أيضاً لا نريد العيش معهم. وحين ينشر هذا الكلام على منصات التواصل الاجتماعي يتفاعل معه آلاف الناس، مرحبين أو رافضين.
أعلم أن من يقول هذا متطرف أو جاهل، وأن من يتفاعل معه مثله. لكن ما الذي جرى حتى بات الناس يائسين من الشراكة الوطنية، غير مكترثين بانكسارها. يتحدثون عن تقسيم بلدهم، كما لو كان وليمة يتنافس عليها البعض ويزهد فيها آخرون.
إنني أتمنى من كل قلبي ألا يصغي السياسيون إلى من يدعوهم لإرسال الدبابات والمدافع لقتل المتمردين. أتمنى ألا يصغوا لمن يقول إن للأكثرية أن تقرر وإن على الأقلية أن تسمع وتطيع. هذه الدعوات تنبئ عن ذهنية متطرفة، وهي تؤدي إلى إشعال جمرة التطرف عند الطرف المقابل. لو كان هذا مثمراً لكان بشار الأسد قد نجح في إنهاء الثورة الشعبية طوال عقد كامل. ما يحتاج إليه السوريون هو احتواء الخائفين والغاضبين والمتشككين، وليس قمعهم أو إقصاءهم. هذا هو طريق السلامة إن أردنا العبور بسوريا إلى بر الأمان.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

لو شُيدت مدينة «إكسبو» في عصر أبي الحسن المسعوديّ (ت: 346هج)، وما حولها مِن عُمران وحياة آمنة، لذكرها في «مروج الذَّهب» مِن بناء سليمان بن داوود، لعجائبيَّة الحضارات القديمة، ظنوها شُيدت بخوارق سكان «وادي عبقر»، فمَن ينظر صورة المكان، قبل عمرانه، يرى كثبان رمال تتوسطها شجرة «الغاف»، وكانت مستراحاً للجِمال، ونهض العُمران وهي تتوسطه، مع الحفاظ على ما أَلف ظلها مِن كائنات، ونحلٍ عُرض عسله باسم «إكسبو».
هذا ما قرأته في كتاب «الشَّاهد»(2025)، الذي يحكي قصة «إكسبو 2020»، مِن الحلم إلى الحقيقة، ففي تاريخ أول «إكسبو»(1851)، لم تكن أرض «إكسبو دبي» غير رملٍ وملحٍ، وإنسانٍ يلوذ بظلال «الغاف»، ينافح مِن أجل الوجود، وحتَّى الثَّلاثينيات مِن القرن الماضي، لم يصل لأسماع البغدادي عبود الكرخيّ(ت: 1946)، عن دبي ما يوحي أنها ستستضيف(إكسبو 2020)، لذا، ذكرها ضمن: «الاستحالات» قائلاً: «ويصير بدبي مدرسة حربيَّة»(ديوانه)! وهو ينطلق مِن عاصمته، التي قفزت بإرادة الأولين، وهوت بعبث المتأخرين.
قرأتُ بداية «الشَّاهد»، فشعرتُ أنَّ القومَ يطلبون المستحيل، وهذا ما تطبعنا عليه مِن التّجاريب، فلمعروف الرّصافي(ت: 1945)، ما يُعبر به، عن خذلان: «هيَ المواطن أدنيها وتقصيني/مثلُ الحوادث أبلوها وتبليني»(النّزوح، 1922)، وبعد مئة عام ترجمها الشّاعر المطبوع موفق محمَّد قائلاً: «ورأيت مَن كان المؤملَ والمُرَجئَ/ والمُقدَسَ لا يريد سوى اِنكسارك/ فاقرأ على البلد السَّلام/ وقف الحدادَ على صِغارك»(سرمهر وأنكس).
أكتب عن «الشَّاهد» بدهشةٍ، كيف نافست التي استصغر شأنها الكرخيّ، مدناً عريقةَ التَّمدن، على الفوز بمعرض عالميّ، وتتكلل بالنَّجاح، فوسط انبهار الحضور صعدت امرأة، قادمة مِن ظل الغافة، وألقت خطابَ ترشيح بلادها، بإنجليزية وفرنسية متقنتين، عارضةً دواعي التّرشيح (2012)، وأُعلن الفوز(2013)، فرُسم التَّخطيط وصعد العُمران.
كنتُ شاهداً على «الشَّاهد»، وفر لي الفرصة طوال «إكسبو» مفوضه العام ووزير التَّسامح والتعايش معالي الشّيخ نهيان بن مبارك، الذي خصه «الشّاهد» بعنوان «الرَّجل المناسب»، لاحظتُه لم يتخذ مدى السّتة أشهر مكتباً، بل السَّاحات كانت مكتبه، فَجَرتْ يومياتُ المعرض بدقةٍ متناهية، رغم عظمة الزّحام مِن مختلف الأمم، مِن الصَّباح وحتَّى منتصف اللّيل، لم يظهر ما يعكر صفو الاجتماع، وقد بلغ العدد (24) مليون زائر.
حضر على رؤوس وفود الدّول المشاركة: ملوك ورؤساء، وزعماء طوائف، فكان استقبال سلطان «البهرة الدَّاوودية» المستعليَّة الإسماعيلية يوماً مشهوداً، فالأتباع تقاطروا بالألوف مِن الخارج. كان كلّ وفد رسميّ يُستقبل في ساحة العروض، والكلمات التي ألقاها المفوض العام على عدد الدُّول الـ(192)، بما يُليق بالكبرى منها والصُّغرى. فاجأ «الوباء» نهاية الإنجاز، فظُن أنَّ الجهود راحت هباءً، يومها تعطل عمل الآلاف، وكان التّحدي الأكبر، فطُلب التأجيل، ليكون الافتتاح(2021).
إنها قصة نجاح ليست وراءه الثروة فأوطان ثرية يفتك الفقر بمواطنيها، وليست البيئة، فبيئتها قاحلة جُعلت خصبة، وغيرها خصبة استحالت قاحلة، ولا التَّاريخ وهم لا ينكرون حياة العوز. كان وراء النّجاح آباء، كلما أنجزوا هدفاً رسموا أهدافاً. وأنا أقرأ «الشَّاهد»، وما رأيته مِن أداء الشَّابات والشّباب، المتطوعات والمتطوعين، أغبطُ لا أحسدُ، وأقول: لا أحسدُ، فمَن ينظر أحوال مدنه، التي اعتقد الأولون أنْها تأسست بقوى خارقة، وإذا هي اليوم لا يأمن مواطنها على دَمه، قد يغلبه الحسد للناجحين، مدن ثرواتها الهائلة يتقاسمها الفساد، وفرض الظَّلماء في أحوال النّساء، فتغلبت الرَّذائل على الفضائل وبالقانون!
بعد أنْ استغلت الدِّين أحزابٌ تُجيد التَّراشق بقنابل الطَّوائف والقبائل. ويثور السُّؤال: ما السّرُ بتحويل بيئةٍ عطشى طاردة، إلى جاذبة للملايين، مِن المشرق والمغرب، وفي جمرة القيظ؟ أجاب الجواهريّ(ت: 1997)، قبل ستة وتسعين عاماً، واضعاً شرطَ تجاوز الأزمات: «إذا لم ينَلُها مُصلحونَ بواسلٌ/ جريئونَ فيما يَدُعون كُفاة»(الرّجعيون 1929).
***
رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في سياق متراكب كهذا من القصورية الموروثة ومستوى غلبتها ضمن اشتراطات الانقطاعية الانهيارية الحالة على الشرق المتوسطي، وحصول القفزة الاستثناتية النوعية في الغرب، لم يكن واردا باية حال توقع انتباهه من نوع عودة الانبعاثية التاريخيه عند منتصف القرن السادس عشر في سومر في ارض مابين النهرين، عندما انتهت حالة الفوضى العامة في ارض السواد، بين منتصف القرن الثالث عشر والقرن السادس عشر، لتعود وتتبلور ناهضة اسباب حضورالديناميات الصعودية النمطية اللاارضوية الثالثة، بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية بصيغتها الاولى القبلية مع ظهور تحالف "اتحاد قبائل المنتفك"، مستبقا الانقلاب الالي الاوربي، ودالا على طبيعته الفعليه المضمرة بناء للسردية التاريخية اللاارضوية غير المكشوف عنها النقاب للحدث الانقلابي المجتمعي اللاحق على اليدوي.
وكما الحال مع التبلورية المجتمعية الاولى اليدوية، استمرت مفاعيل غلبة القصور العقلي المواكب للحدث البدئي الاول، بما اضفى عليه مجددا خاصية الاحادية المجتمعية الموروثة، خلافا للحاصل، ولما هو واقع في الموضع التبلوري المجتمعي الاول الشرق متوسطي النهري، بين مجتمعية لاارضوية هي نتاج وحصيلة الشروط البيئية الطبيعية المجافية الطاردة التدميرية الرافيدنيه مابين النهرينيه، ومقابلها الكيانوية الوطنيه المتلائمه مع الاشتراطات الانتاجية النهرية الاحادية حيث التوافق النيلي الانتاجي، والحماية الجغرافيه للكيانيه النهرية شرقا وغربا وشمالا من دون اي شكل من الاصطراعية الذاتيه، وبما يكرس حال المجتمع المتمثل في دولة، اي نمطية مجتمع الدولة الاحادية الكيانوية ذات التشكلية الواحد التكرارية الاجترارية، الخاضعه للبرانيه، والمقفلة فعالية على ذاتها، حاكمها الفرعون الهها،مقابل الحاكم النائب خادم القوة العليا الرافيديني، مقاومتها للغازي متوقفه عند نطاق الاحتواء والاقلمه التكرارية لموقع الحاكم المطلق، مالا يميل الحاكمون البرانيون الى رفضه كصيغه مثاليه لما يمكن ان يحلموا به كمتغلبين.
وليس النموذج النيلي نمطية خاصة، بقدر ماهي شكل ضمن مجتمعية غالبه، بغض النظر عن تعدد صيغها كمجتمعات ارضوية جسدية حاجاتيه، اعلاها ديناميات الاوربية على الضفة الاخرى من المتوسط، حيث الازدواج الاصطراعي الطبقي، عدا عن نمط مجتمعات اللادولة الارضوية، وهو مايكرس بالاحرى حالة الازدواج المجتمعي الارضوي بصيغتها الغالبة الظاهرة على مستوى المعمورة، والصيغة الثانيه اللاارضوية غير الموعاة، والتي تظل خارج الادراكية البشرية، بالاخص وانها تظهر بالاساس مفتقرة الى الوسائل الضرورية اللازمه لتحققها، فتظل قائمه بصيغة ماقبل تحققية شاملة للمجتمعات ككل، تخترقها استنادا لطبيعتها المتعدية للكيانيه الارضوية عقيديا كتابيا، بصيغتها الاولية بانتظارالتفاعلية التاريخيه الضرورية اللازمه قبل الانتقال الى التحقق، وهو مايعود الى الطور الثاني الانتاجوي ومترتباته بعد اليدوية، بينما تظل التعبيرية اللاارضوية، واعلى صيغها واكملها ضمن اشتراطات تعذر التحقق الاولى، نبوية حدسية ابراهيمية، تعاني الطرد خارج النوع المجتمعي الملموس والمعاش المعاين، والمعدود ضرورة احادية، فتحال الى الماوراء و"الدين"، نوع المصادره القصورية الغالبة، تعبيرا عن العجز امام الظاهرة المجتمعية وطبيعتها الازدواجية الاساس والاصل، وهو مايظل حاكما للعقل وادراكيته الناقصة على مدى التاريخ اليدوي.
قامت البدئية الاولى اليدوية مرهونه لواقع من الازدواجية المجتمعية غير المكشوف عنها النقاب لاسباب قصورية عقلية، وعادت وقامت كما متوقع اليوم مع البدئية الثانيه الاليه محكومه لذات القصورية، لابل واكثر ايغالا في الاحادية وتكريسها، فلم يؤد ماهو لازم ومطلوب وقتها، مع ماقدعرف من محاولة اقتراب من الظاهرة المجتمعية مع علم "الاجتماع/ اخر العلوم" ماهو لازم بالتخلص اولا وبداية من وطاة الاحادية الارضوية، فكان المتحقق اليوم لاماقد عرف على انه علم الاجتماع، بل "علم اجتماع الارضوية المجتمعية الاحادية"، الحضور المجتمعي الاخر بحسب تصنيفه وما مايراه منها، مجرد فرع مدمج داخل الاصل، اسمه"علم الاجتماع الديني" خلافا للحقيقة الازدواجيه التاريخيه البدئية الابكر من الارضوية، ووجود الظاهرة المجتمعية الابتدائي بصيغة الازدواج، مع التباين النوعي في الحضور والفعل والتعبيرية مابين "مجتمعية لاارضوية"، واخرى "ارضوية" وتباينهما الكلي وتفاعليتهما التاريخانيه التصيريه.
يمكن ان نتساءل بغض النظر عن التبعات والمتوقع من درجة ومستوى قطعية الاستنكار والرفض المتوقع: ترى هل بدات الانقلابيه الاليه في القرن السادس عشر، في نفس الموقع الذي وجدت فيه البدئية الاولى اليدوية؟، وهل الانبعاثة السومرية الثالثة الراهنه المستمرة منذ مايزيد على الاربعة قرون، هي الانبعاثة التحققية اللاارضوية التي ظلت منتظرة على مدى التاريخ المجتمعي اليدوي، بانتظار توفر الاسباب المادية والاعقالية الضرورية لمثل هذا الانقلاب التاريخي النوعي المنتظر؟ بعدما غدت مثل هذه الاسباب وشيكة الحضور.
نعم هذا مانعتقده ونذهب لتاكيده، مع كل ماهو مترتب على اعتقاد كهذا من تبعات ليس من المقبول باية حال استهوالها، او التردد امام مايمكن ان تولده من عواصف الرفض، بالاخص اذا قارنا بين المتوقع في حال التغاضي عن النطقية الواجبه المتاخرة والحاحها المتزايد، ومايمكن ان ينتج عن مواصلة نكران الحقيقة الاهم في التاريخ الوجودي البشري، وهو ماتتجه البشرية تباعا نحوه من احتمالية انتهاء صلاحية نوع المجتمعية الغالبة، وصولا لاعتى اشكال الاضطرابيه المغلقة المنافذ والسبل. هذا مع علمنا بما هو حاصل من ارجحية مضادة تكرسها العادة وطول الممارسة، والاقتناع الزائف المقارب للمطلق، وهو يجد نفسه في موضع الرجحان الشامل، مع مامتوفر له من امكانات، وهو ليس سوى نوع رجحان مطابق لرؤية نمطية ونوع مجتمعي بعينه، تقابله زاوية التعبيريه والرؤية اللاارضوية المضمرة ومفهومها للرجحان والقوة، ومصادرها وعناصر فعاليتها المخالفة نوعا، حيث التعبيرية الكتابية العقيدية و "الفكرة" مقابل الملموسات الكيانيه الجسدية( وطنيات وامبراطوريات) مدعمة بالاساطيل والجيوش الجراره، ومايعرف بالمادية التي لم تصمد، لاامام المسيحية(1) مع انها كانت ماتزال لاتحققية في حينه وفرديه، ولا امام الاسلام الخارج من اخر زاوية قاحله، بثلة من حفاة صدئي السيوف، لم تتمكن الامبراطورية الفارسة ازاءه غير ان تختفي كنموذج ونمط حياة تاريخي في موضعه، وقد انقلب الى مستوى من التعبيريه الابراهيمه الاقرب للاول والاساس الشرق متوسطي وظل كذلك الى اليوم.
يمكن للفكرة ومسار الاليات التاريخيانيه التصيرية، ان تضع كل ركامات وملايين اطنان الاسلحة، والاسلحة النووية خارج الفعالية، عند لحظة من تاريخ التصير المجتمعي صارت قريبه الان، مع علامات الانفصال بين الوسيله الانتاجية العليا التكنولوجية العقلية، ومادة الانتاج التقليدية المرهونه للجسدية الارضوية الحاجاتيه المنتهية الصلاحية.
***
عبد الأمير الركابي

 

منذ اواخر القرن المنصرم دخل الشرق المتوسطي طورا تازميا استثنائيا، فقد معه بالاضافة للرؤية الذاتيه الغائبه اصلا، امكانية التعكز على المتاح في حينه من ممكنات مستعاره ومنقوله، اهمها تلك التي تعود الى التماهي النقلي مع النموذجية الغربيه الحديثة الاليه، بمقابل حالة "تشبه ابراهيمي" منطو على ايحائية استعادية لتعبيرية تاريخيه مطابقة، هي بالاصل خاصية تاريخيه للمنطقة ومنجزها الكوني بما هي مجتمعية اخرى.
وبين الحركة الوهابية السعودية، ومحمد علي الالباني، انقسم التعبير المميز للمنطقة، من جهه كتيار راغب وعازم على الالتحاق بالحداثة الغربية، فبرك مايسمى بتيار "النهضة العربية" الزائف، ابتداء من الطهطاوي ومحمد عبدة والافغاني، وماتبعهما من تيارات ايديلوجه اوربية منقوله، قومية ويسارية وليبراليه، موحية بامكانيه واحتماليه اللحاق بالانقلابيه الاوربية اعتباطا، ومن دون محاولة اثبات مادي واقعي، مرتكز لرؤية منطلقها الذات والكينونه المجتمعية في لحظتها، ماكان من شانه ان وضع الميل المشار اليه بخانه النزوع النهضوي الالتحاقي الصرف بالاخر، تحت واجهة التساؤل "لماذا تقدم الغرب وتاخرنا؟" بلا محاولة اجابه مرهونه لواقع منطقة تعاني من الانهيار الانحطاطي منذ سقوط بغداد عاصمة الدورة الازدواجية الثانيه عام 1258، من دون ان يخطر على البال سؤال كان المفترض وجوبا ان يحضر بالحاج منذ منتصف القرن الثالث عشر، وصار اكثر الحاحا مع التحدي المتاخر الاوربي، والا فكيف يمكن تخيل امكان تقدم من اي نوع كان من دون التعرف على مسببات وعناصرالمرض العضال الحالة وطاته على الذاتيه منذ بضعه قرون.
على المنقلب الاخر وجد في موضع النهوض الثاني الشرق متوسطي، بعد البدئي المجتمعي الاول الثلاثي النهري، (الثنائي الرافديني ـ الاحادي النيلي)، التعبيرية الكبرى الجزيرية اللاارضوية الختامية النبوية مع القرن السابع، والتي كانت وراء الاختراقية الكبرى اللاارضوية الابراهيمه للشرق وصولا الى الصين والهند واوربا عند طرفها الغربي الاسباني، وماتسببت به من تحفيز للاليات الرافدينيه، ولبنيتها الازدواجية المجتمعية الكونية الاساس، بما جعل من بغداد عاصمة للعالم على مدى خمسه قرون، نهضت بالاقتصاد التجاري الريعي العالمي درجات غير مسبوقة، كان لها الاثر الفاعل الرئيسي في تهيئة الاسباب الانقلابيه التجارية المفضية للصناعية على المنقلب الاوربي، بما قد تمخض اخيرا عن انتهاء الطور اليدوي من الانتاجية مع مايطابقة من نوع مجتمعي.
وعلى المنقلبين كان التوجه المشار له قد اتخذ طابعا تكريسيا للحالة التردوية الانهيارية التاريخيه، فالقول بالنهضة لان طرفا اخر قد حقق نهوضا في ارض وبناء لتشكليته ودينامياته التاريخيه والنمطية المجتمعية، لايمكن ان يصدر الا عن نكوص وقصورية تاريخية، والاعتراف القائل يومها باننا قد "تاخرنا" من دون مايؤشر او يلفت النظر الى احتمالية او مظهر ولو ابتدائيا، دالا على مؤشر نهوض ذاتي من اي نوع كان، حيث لايبقى في اللوحة سوى طرف ناهض على المنقلب المتوسطي الاخر، يقابله طرف مواجه جغرافيا وتاريخيا لاوجود له ضمن الفعالية النهوضية، على العكس هو في حال ترد وانحطاط باعترافه هو، مثل هذه المعادلة لايمكن ان يبنى عليها، او يتوصل من خلالها الى تخريف اخرق من نوع ذلك الذي اعتبر من قبيل الاحتمال او امكانيه اللحاق بالطرف الاخر.
موضوع رئيسي اخر لم يكن متوقعا بالطبع للعقل المتردي ان يقاربه، فضلا ان عن يعتبره منطلقا للحكم والمقارنه بين نهوضين، الحالي الاوربي "الالي " بالدرجة الاولى وهو انقلاب زمني نوعي من اليدوية، والنهوض الاسبق الشرق متوسطي العربي ضمن الاشتراطات اليدوية، لابالوسيلة الانتاجية، بل بالرؤية اللاارضوية الابراهيمه النبوية، التي اخذت المكان ومعه العالم نحو مستوى من الديناميات المجتمعية هي الاعلى مقارنه باية حالة نهوض ابان الدور اليدوي من التاريخ البشري، دلالة على نوع ودرجه علو الديناميات التاريخيه المجتمعية في هذا الجزء من المعمورة، وهو مايعززه ويؤكد حضوره تاريخ البدء والبكورة التبلورية المجتمعية التاريخيه الاولى التاسيسية الحضارية كما معروفة.
فهل من الممكن بناء عليه المقارنه بين "تاخرنا" و "تقدم" الاوربي الحديث، ومااللازم الواجب تدبره والنظر فيه عند المقارنه، او محاولة افتراض امكانيه التشابه بعد ماهو حاصل لدى الاخر، بغض النظر عن نوعه قياسا الى مايميز التاريخ التعبيري الشرق متوسطي والياته، مع الاخذ بالاعتبار مايترتب على حضور العنصر المستجد الالي، وكيفيات تفاعليته والنتائج المترتبه عليه في حال انتقاله الى العالم المغاير كينونة وبنية وديناميات، الابراهيمي التعبير والفعالية، وماالمترتبات المضمرة او المتوقعه من مثل هذا النوع من التفاعلية المنتظره افتراضا من هنا فصاعدا.
هذا مع العلم ان الاحادية المفهومية والتصورية تترافق مع ظاهرة الغرب الحديث، وتكرس لاسباب موضوعيه وغرضية، تلك هي المرافقه للعملية النهوضية الاليه الاوربيه، سواء النموذجية الكيانيه، او مجمل النظر الى التاريخ، مع الميل البداهي وارتكازا لقوة الق وسطوة ماقد انجز وتحقق من قفزات معرفية وعلميه، لتعزيز المركزية النموذجيه الغربيه وسيلة للهيمنه على مستوى المعمورة، وفي حين كانت الضرورة وقتها تستدعي بالحاح البحث عن الذاتيه، وعن الهوية التاريخيه للمنطقة ومنجزها التاريخي الهائل، والشامل في العصر اليدوي، صادق العقل الشرق متوسطي العربي على التنازل عما هو ليس جديرا بالخوض فيه، او مقاربته، الامر الذي كان من شانه الاساءة الى الحدث الاوربي نفسه، فتكريس الاحادية والمركزية الاوربيه الابتدائية الاليه ليس في صالح اوربا، ولا العالم، فالديناميات الانقلابيه التي تبدا بالاله، هي منطلق بدئية مجتمعية وتاريخيه اخرى غير تلك الاولى اليدوية، والاله ومضمراتها تحتاج الى رؤية كونية اخرى لن تكتمل ولا هي مجهزة مسبقا، ومن دون جهد اصطراعي شامل تحولي انقلابي، ليس من حق احد افتراض اكتماله فورا لحظة انبثاق الالة بصيغتها الابتدائية المصنعية، قبل التكنولوجية والتكنولوجية العليا.
هنا نواجه مسالة غاية في التعقيد والحساسية، قد تخفف من وطاة ماقد ارتكبه العقل العربي، ان كان له وجود فاعل وقتها، من اعتباطية من الصعب نسبتها الى العقل المكتمل، تلك هي نقيصة تعذر التعرف على الذاتيه والهوية المجتمعية التاريخيه التي ظلت تحكم تاريخ المنطقه، برغم دورات تاريخها الصعودية والانقطاعية، بحيث ظل العقل اجمالا قاصرا ادراكا دون نوع وطبيعة البنيه المجتمعية، الامر العائد الى واحده من اهم الخاصيات البشرية التاريخيه بما خص العقل بازاء الظاهرة المجتمعية، والنكوص دونها، لابل وعدم الانتباه لها كمعطى قابل للاحاطة حتى وقت قريب.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

المقدمة: للتنمية الاقتصادية اهمية بالغة في التخطيط الاقتصادي السليم بل هو الاساس المحوري الحاسم في بناء الدولة المدنية الديمقراطية، واني على اعتقاد واعد بان هناك ترابط مشيمي بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية كما هو واضح في دول الغرب الاوربي بسبب ممارستها للديمقراطية منذ قرن من الزمن بتزامنها مع الثورة الصناعية، وتبدو مهلهلة وضعيفة في العراق لكونها حديثة على النهج الديمقراطي، انا امتلك وطن ذو امكانيات زاخرة وموارد وثروات متنوعة واسفي حين اذكر بعضا من السوداوية بابتلاء وطني الحبيب بمئة عام كوابيس ولعنة في ذاكرة الاجيال بالحفريات العميقة في كينونة وصيرورة اللادولة العراقية منذ تأسيسه الهجيني المنحوس 1921 ولأكثر من قرن مضى يبدو كغثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير وذلك لهلامية الهوية المتلازمة مع غياب ثقافة المواطنة لاشتباكات وتقاطعات وارهاصات الصراع الطبقي للمجتمع العراقي المتعدد الانتماءات الهوياتية والشعبوية من عرقية ومذهبية ومناطقية تبدو جراحاتها الواسعة بسعة جغرافيتها كفيلة في اضفاء السوداوية والكأابة والقنوط على تكويناتها السوسيولوجية الجمعية اضافة الى تنمر دول الجوار تركيا وايران وخبث الكويت الجارة وضغوطات المستعمر ابو ناجي البريطاني وشريكه التاريخي الولايات المتحدة الامريكية، ومن سوء الطالع تعرض كيان الوطن لزعل وغضب الطبيعة كتوسونامي الفيضانات المتكررة والمدمرة وفايروس الطاعون مع معايشة الثلاثي المقيت الفقر والمرض والجهل.
العودة الى سيمياء العنوان واخطبوط اللبرالية الحديثة امبراطورية الدولار الامريكي اللاعب الرئيسي في الانقلابات العسكرية العابرة للقارات وتغيرات النظم الديمقراطية وحتى تكون في جيوب المافيات وعصابات الموت والاغتيالات واصبح العالم على صفيح ساخن وربما قربتْ نهاية الراسمالية الجشعة المتعددة الرؤوس اوالقطط السمان بانضمام افريقيا الى مجموعة (البريكس) بعملة موحدة اثر انقلاب النيجر المسمار الاخير في نعش النهب الفرنسي وصفعة اخرى للصبي ماكرون وضربة قاتلة للدولار وامريكا واوروبا وخطوة قوية نحو عالم متعدد الاقطاب ومن المحتمل القريب انضمام مصر والسعودية وقطر والجزائر لان على جدول منهاج المؤتمر دعوة لانضمام الدول المذكورة عند نجاح المؤتمر، تحية لمؤتمر قمة " بريكس " المنعقد في 22- 8-2024 لاصدار عملة جديدة باسم بريكس تلغي هيمنة الدولار على اسواق العالم علما ان بريكس تكونت من روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا.
النص: سياسيون
العراق لا يسيطر على عملية بيع الدولار ولا على مزاد العملة، وتهريب الدولار بجري عبر الطائرات من داخل العراق !؟
لمناقشة ديباجة التوطئة لبحثي الاقتصادي اشير الى الفقرات التي سوف اطرحها اعتبرها من ركائز هذا البحث الجاد وا لتي تعتبر الرافعة المهمة في مستقبل منعش (واعد) للاجيال القادمة:
اولا-مزاد العملة: ان مزاد العملة (فرية) امريكية بريمرية، ان عملية مزاد العملة الاجنبية في البنك المركزي العراقي مرتبطة بمصارف تعود لجهات سياسية تبيع العملة الاجنبية وسبائك الذهب والعراق يتصدر لائحة الفساد العالمية، انها ظاهرة خطرة ومرعبة تشير معلومات موثقة ان في العراق 72 مصرفا اهليا وحكوميا والرقم كبير غير مسبوق على الاقل في دول الجوار اذ في كل من تركيا وايران 32 مصرفا يتم تحويل الاموال لاستيراد البضائع بمبالغ تصل الى اكثر من 200 مليار دولار يوميا، والفضيحة المالية هنا بروز الفوارق المالية بين حجم ونوعية البضائع وقيمتها وحسب المؤشر الدولي للدول الاكثر فسادا هي العراق فنزيويلا كوريا الشمالية وليبيا والسودان واليمن وافغانستان وسوريا وهذه المعطيات نُشرتْ من قبل المنظمة الدولية Transparency International طُبقتْ الفرية عام 2004 من قبل البنك المركزي العراقي من انهُ شكلا من اشكال الاحتيال الاقتصادي المرتبط بحبله السري مع عملية غسيل الاموال في العراق فمزاد العملة اصبحت وسيلة لتهريب الدولار من العراق والتي تخص المال العام، فقد تم هدر 318 ملياردولار بين سنة 2004-2014 وهي عائدات النفط العراقي الايل للنفاذ عام 2040 والذي ضخهُ البنك المركزي وهي خسارة لا يستهان بها حين يعاني الاقتصاد العراقي شللابسبب الحرب الداعشية وانخفاض سعر البرميل من النفط الخام والتوجه الى الاستدانة الداخلية والخارجية ومن البنوك الدولية ورهن مستقبل الاجيال القادمة والضمانات السيادية والرضوخ للشروط التعسفية لصندوق النقد الدولي وبالتالي وضع الاقتصاد العراقي على (حافة الانهيار).
تحديات تعصف بالاقتصاد العراقي بعد 2003 اوجدت مناخا ملائما لتهريب الدولار!؟
وثانيا: هنا المعادلة الاقتصادية المتوقعة جراء تهريب الدولار بالتاكيد تضرب الاقتصاد العراقي لوضعهِ على حافة السقوط حيث تتهاجم عليه التحديات والتداعيات والرهانات والشروخات من كل حدبٍ وصوب داخلية واقليمية ودولية تلعب دورا مريحا وسهلا في انهاك الاقتصاد العراقي ووضعهِ على الحافة المهلكة، لان العراق يفتقد الصندوق السيادي وهو صندوق توفير تمتلكهُ الدولة كعنصر استدامة في توفير السيولة النقدية وهي من فوائض الدولة من اجل الاستثمار وهو ليس بجديد تستخدمهُ دول الخليج كقطر والكويت فهو يؤمن حاضر ومستقبل الاجيال وديمومة الحفاظ على المؤسسة الاقتصادية والمالية، فغياب هذا الصندوق في العراق اوصلت الحكومة عام 2014 -2018 لصعوبة دفع رواتب الموظفين كان بالامكان تاسيسها وتقزيم ظاهرة الفساد الاداري والمالي المستشري في مفاصل الدولة وكل هذه الشروخ تساعد على انعاش مناخ تهريب الدولار وافقار البلد، وهذه اجابات بحثية على سؤال: لماذا يهرب الدولار؟
- ان العراق يفتقد الى الصندوق السيادي
-تذبذب اسعار بيع النفط الخام على المستويات الاقليمية والدولية
- لم يتجاوز العراق شكل الدولة الريعية باعتماد مشاريع الانفاق العام على بيع النفط الخام
- اللجوء الاضطراري الى صندوق النقد الدولي الذي يستنزف الاقتصاد الوطني
- تعويم العملة المحلية وهو اسوء نهج يستخدمهُ الصندوق في تعويم العملة بدلا من تقديم علاجا مناسبا وهو ما يؤدي لانهيار الاقتصاد الوطني وتساعد على تهريب الدولار.
- البيروقراطية والمحسوبية والمنسوبية والفساد الاداري والمالي.
- وقوع العراق تحت البند السابع البغيض بعد 2003 الذي ابتلع المليارات من المال العام.
- وصول نسبة الاغراق في نظام السوق الى 95% الذي اصاب الاضرار بالحالة الصناعية والزراعية والسياحة.
- انخفاض موجودات البنك المركزي العراقي وترهله واتجاهه لضخ الاموال كمخدروبشكل عشوائي لاسكات الضغط الشعبي.
- الارتفاع المفاجئ لسعر الدولار لذي ادى الى خفض القوة الشرائية للمواطن والتسبب في كساد السوق المحلية وفتح فرصة ثمينة لظهور المضاربين والجشعين الاحتكاريين مع الفلتان الامني وتهريب الدولار.
- الحكومات المتوالية على السلطة تتجه الى الاستدانة الداخلية والخارجية اكثر من 50 جهة لتامين المتطلبات الخدمية اليومية على الحد الادنى فيتجه الاقتصاد الايل الى السقوط خطرٍ اكبر متمثل بقوة الدولار كالذي يلوذُ من الرمضاء بالنارّ!.
- احتساب ايرادات النفط الخام على (التخمين) بغياب وزارة التخطيط الذي هو الاخر معتمدا على الاعلام وهو اعتماد عشوائي متخبط لا يعي الواقع ا لاقليمي والدولي.
- التوزيع الغير عادل للثروات بين المحافظات على سبيل المثال لا الحصر البصرة المغبونة تضخ الميزانية العراقية بنسبة 90%.
- ولم تكن لسلبيات الاقتصاد الاحادي سياسية اجتماعية بل شملت اخلاقيات العمل في انتشار الاتكالية وتضخم الجهاز الاداري الملوث بالبيروقراطية وبالتالي العبور السهل والمريح للدولار الامريكي عند عبور الحدود.
- انخفاض قيمة صرف الدينار العراقي امام الدولار الامريكي والذي يعني عدم استقرار سعر الصرف.
- العجز في ميزان المدفوعات الذي ادى الى استنزاف الاقتصاد العراقي ويتبعهُ انخفاض القدرة الانتاجية.
***
عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب
اذار-2025

......................
المراجع وهوامش
د- علي ميرزا-استخدام الاحتياطي في غير وظيفته
د- سمير شعبان – جريمة تبيض الاموال القاهرة 2016
ايمان محمود –الازمات الاقتصادية العالمية
وزارة الداخلية المصرية – مكاعحة غسيل الاموال 2016
قانون مكافحة غسيل الاموال – الاردن 2016

الحربان العالميتان الاولى والثانية، هي اوروبية بامتياز، وميدان الحرب الباردة الاول هو اوروبا، ومعظم الدول المنخرطة في اكبرحلفين عسكريين عالميين، وارسو والناتو، هي اوروبية، اضافة الى امريكا وكندا كأمتداد وجودي متفاعل!
المركزية الاوروبية الطاغية على العالم، جعلته اسير لتفاعلاتها التنافسية، وحداثتها المتسلحة بالتفوق في انتاج اعظم ادوات الحروب قاطبة، والتي مهدت لسيطرتها الكولونيالية، وفرض شروطها على العالم القديم والجديد، لم تستسلم اليابان لامريكا الا بعد استخدام الاخيرة للسلاح الجهنمي، الذري، على مدينتي هيروشيما ونكزاكي، والصين اخضعتها بريطانيا بقوة اساطيلها وكثافة طلقات مدفعيتها، وبحيلها الافيونية، وشعاراتها الكاذبة الداعية لحرية التجارة، اما الهند درة التاج البريطاني فلم تكتفي بريطانيا بنهب ثرواتها بل سخرت شبابها لخدمة العسكرية البريطانية في مستعمراتها حول العالم، والشرق الاوسط تقاسمته بريطانيا وفرنسا، باتفاقيات سايكس بيكو، التي لم تراعي سعي شعوبه لحق تقرير المصير، ثم اقامت انظمة محلية تسير بفلكها !
عملت بريطانيا وفرنسا على ترحيل المشكلة اليهودية التي تعاني منها اوروبا اصلا الى الشرق الاوسط من خلال وعد بلفور لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مما تسبب بخلق مشكلة مركبة ومستفحلة بتداعياتها حتى وقتنا الحالي، استيطان احلالي يؤدي الى تشريد الشعب الفلسطيني صاحب الارض، اما في افريقيا فالامر اكثر استعبادا وقهرا، فنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا شاهد، ومازالت فرنسا تعتبر غرب افريقيا مجال حيوي وتاريخي لنفوذها والتفاصيل كثيرة من الصومال حتى سبتة ومليلة !
امريكا الجنوبية اعتبرها الاوروبيون حديقتهم الخلفية التي يتزودون منها بما يثريهم ليكرسون تبعيتها كسوق لتصريف منتجاتهم التي تتغذى على خامات جنوب العالم !
مشوار طويل من الحروب المتسلسلة سلكته الراسمالية الاوروبية الامريكية، لمصلحة احتكارات كارتلاتها، والتي لا يفلت من قبضتها اي بلد من البلدان، حتى بعد موجة التحرر السياسي التي سادت العالم كنتيجة عرضية للحرب العالمية الثانية ومقاومة الشعب للسياسات الاستعمارية !
تفاوت التطور التنافسي الاوروبي يشكل دافع موضوعي للحروب الداخلية والخارجية وهو فاعل حتى الآن : والامثلة كثيرة، حروب دول البلقان، الحرب القبرصية، صراعات اسبانيا الكتلونية، استمرار احتلال بريطانيا لجبل طارق الاسباني، مشكلة شعب الباسك في عموم شبه الجزيرة الايبرية، واخيرا الحرب الروسية الاوكرانية، وتداعياتها التي اثبتت ان اوروبا لم تتخلى بعد عن نهج التسلح الذي ينتج فائض القوة للحصانة والتفوق لسوقها الداخلي والخارجي !
يقول تولستوي في ملحمته الخالدة " الحرب والسلام " : ان حادثا احترب فيه ملايين البشر، وقتل فيه نصف مليون من الرجال، لايمكن ان تكون إرادة فرد واحد هي سببه !
نعم الحروب نتاج عوامل موضوعية وذاتية، وتعاشقها يتجسد حتما بمجموعة افراد، وربما بينهم من تتوحد فيه تلك العوامل بطغيان زماني ومكاني تتجلى فيه محددات الصدفة والضرورة معا، فلو لم يكن بونابرت لكان غيره وهكذا الحال بالنسبة للكسندر الاول، او هتلر او موسوليني وفرانكو وتشرشل، حتى ريغان وبايدن وترامب او صدام وبوتين !
واكرر مقولة تولستوي " ان نابليون اداة لا معنى لها بيد التاريخ "، فالصفات الشخصية للافراد لا تحدد وجهة التاريخ، ربما تمنح الحوادث تجسيدا مطابقا لروحه، كالممثلين البارعين في اداء ادوارهم على خشبة مسرح !
يقول علي عزت بيجوفيتش : الحرب ايغال في توحش القوة، وفيها تقع افعال سادية تخالف الفطرة الانسانية، والحروب تصنع سرديتها الكبرى ويضمحل الانسان حد التلاشي امام هذه السردية، ويتقزم لمجرد شيء !
وفي معرض تناوله لنصوص تولستوي في الحرب والسلام، يذهب الى كون النصوص الروائية خير معبر عن حقيقة الحرب السافرة، فهي مادة خصبة للسرد الروائي، ويقرر ان اشتغال المؤرخ على حقبة تاريخية ما، ينتج عنها نوع من السرد البراني لتلك الحقبة اما اشتغال الاديب عن نفس الحقبة فينتج عنه سرد جواني في تفاصيله كل شياطين وملائكة تلك الحقبة التاريخية واخلاقياتها مع كل اكسسواراتها!
تولستوي يحرض غاندي على إستفزاز الضمائر لا العضلات!
هل يعقل ان 30 ألف انجليزي يستعمرون مئات الملايين من الهنود ؟ نعم لان الاكثرية منهم رضوا بالخنوع لاسباب عديدة اجتماعية وثقافية ودينية، لكنهم لو عرفوا ان الانكليز سلطة ظالمة يمكن معارضتها بوسائل المقاطعة السلمية لفعلوا ذلك، هذا فحوى مراسلات الى هندوسي التي كتبها تولستوي في واحدة من رسائله الى غاندي وآخرين من نخب المقاومة الهندية والتي تشرح فكرته، بسلاح سلمي يخير المتعجرفين بان يتصرفوا كوحوش ام بشر بقيم انسانية واخلاقية تميزهم عن حيوانات الغابة؟
رفض ومقاومة الاستعمار البريطاني لا تحتم الصدام الدموي، بل تحتم التعبئة الواعية للملايين كي لا يخنعوا ولا يستجيبوا لدعوات الطاعة العمياء للحكام، التي يبثها وعاض السلاطين من اصحاب النفوذ الديني، ولا دعوات الانتحار التي يبثها المتطرفين، فالمقاومة اللاعنفية ستضعف البريطانيين وتجعلهم بوضع لا يستطيعون الدفاع عنه، المقاطعة السلمية للملايين ستحقن الدماء وتحقق هدف جلاء المستعمرين!
***
جمال محمد تقي

 

منذ عقود والخلاف السّياسيّ أخذ يتلبد بالنّزعة الطّائفيّة بأقصى درجاتها، بين الأديان والمذاهب والقوميات، لكنَّ أفظعه القائم على أساس دينيّ، ومع أنَّ الله واحد للجميع، لكنَّ كلَّ دين ومذهب يتحدث عن إلههِ، ويظهر في صِدام مع معتقدات الآخرين، وعندما أقول بأقصى درجات الطَّائفية، أقصد سفورها عن سفك الدَّماء، وسّيف الحزب المسلول باسم الدّين، لا يخشى حرمة إنسان ولا تعاليم إله، فلأبي العلاء المعريّ(ت: 449هج): «طَموحُ السّيفِ لا يخْشَى إلهاً/ولا يَرجو القِيامَةَ والمَعادا(سَقْطُ الزَّندِ).
لا يعتقد صاحب الخِطاب الطَّائفيّ، سيبني ويُعمر وطناً، وهنا نأخذ حالة العِراق، ونكتب ذلك لعلَّ هناك مَن يتعظ، ويعرض نفسه على الأطباء للشفاء مِن هذا المرض، فللتاريخ أعينٌ وآذان. بعد حرب 1991، كتبت الصّحافة الرّسميّة سلسلة مقالات ضدّ مواطنيها، وهي سابقة أن يَقذف نظامٌ شعبه في جريدته الرَّسميّة، بما يعاف (جريدة الثورة 5 أبريل 1991)، وهي جريدة حزب يضم أهل المذاهب كافة، فلو حصرها بمن ثاروا ضده، لعفى نفسه، فكم مِن هؤلاء قُتل بسلاح المنتفضين حينها، وكم منهم بين أركان النِّظام الكبار، وأكثر من نصف البعث كانوا مِنهم؟ كذلك نشرت جريدة «بابل» (تأسست1991) سلسلة مقالات ضدّ مذهب ودين، من مواطنيها (بابل، 10,13 أبريل (نيسان) 2002).
كتبت «الثَّورة» و«بابل» هذا ببغداد، بينما كانت جماعات بالمنافي تناقش الطَّائفيّة بالعراق، فأصدرت ما عرف بإعلان طائفيّ. جاء فيه:«من أجل إلغاء الممارسات الطَّائفيّة، التي مارستها الأنظمة المتعاقبة، لا بدّ أن يعاد النَّظر في التَّركيبة الإداريّة للدولة العراقيّة، ومؤسّساتها العسكريّة والمدنيّة، من خلال إعادة النظر في طريقة التوظيف في هيئات ومؤسّسات الدولة. واعتماد مبدأ الكفاءة المهنيّة»(الإعلان، جريدة الزَّمان 20 يونيو 2002).
فإذا كان خطاب«الثّورة» و«بابل» «حيَّة رقطاء»، فقد أولدت حيَّات، والعبارة لمحمد صالح بحر العلوم(ت: 1992)، قالها(1934) قبل تحول الطَّائفية إلى مقاتلٍ: «وأترك شعور الطائفيةِ جانباً/ فالطَّائفية حيَّة رقطاءُ»(شعراء الغري). أقول أولدت حيَّات، بقانون الفعل ورد الفعل. بعد 2003 صارت الطَّائفية شائعة، حملت المجتمع مآسي الإقصاء والتهجير والقتل والخطف، وصارت مادة «أربعة إرهاب» وحش يجول على مدن وقرى أهل مذهب بعينه دون غيره، وحملت المناهج الدراسية، ودوائر الدّولة طائفيّة على طائفيّة، ولم ينبس الموقّعون على الإعلان المذكور، وهم ما زالوا أحياء -منهم تبوأ منصباً ومكانة في النِّظام الجديد- ببنت شِفة ضدّ الطّغيان الطّائفي، حتَّى صار واقعاً يعيشه العراقيون، لأنهم توهموا الانتصار على المواطنة بالطّائفيَّة، الطائفيّة التي انتقدوها رياءً. إنها دواليب المصائر، تحتاج إلى ضمائر مصلحين كفاةُ، لا ضمائر معبأة بالسّموم.
فإذا كتبت جرائد السابقين، بما يدينهم، فاليوم تحوّل البرلمان إلى ساحة ردحٍ طائفيّ، والتّجاوز الطُّفولي على مقدسات الشُّركاء بالوطن، وإذا كان الموقف مِن الحوادث السّوريّة، جرى بالشُّعور الطّائفيّ، ظناً أن المنتصر بالحشد الطائفيّ لا يُهزم، وإذا رياح الأقدار تهبُ بما ليس في الحسبان، فلو فكر النّظام السَّابق، وهو سلطة الأمس، ومعارضوه، سلطة اليوم، بخطورة ما مارسوا لعتقوا العراقيين مما جرى ويجري عليهم.
فهل يجري التّفكير باِنهاء اللُّعبة، التي يؤرخ لها بالقرون، وإلى متى تبقى هذه الصّفحة الدّامية مفتوحة؟! نعود إلى أبي العلاء، وقصيدته «عاند مَن تُطيق عناده، أو أرى العَنقاء تكبرُ أن تُصادا»، وبيته: «جَهولٌ بالمَناسِكِ ليس يَدري/أغَيّاً باتَ يَفْعَلُ أم رَشادا«(سَقْطُ الزَّندِ)، لا يجب أنّ يتصرف الطّائفيّ بحرية، ممارساً طائفيته بأقصى صورها، مِن موقع السُّلطة، على أنها الحرية والدّيمقراطيّة، يشتم مَن يشاء، ويحرض الجموع ضد الجموع. أقول: لا تأخذه نشوة النّصر، فالدوائر تدور، مثلما تُفاجئنا اليوم، والحليم مِن يعصم نفسه بخطاب المواطنة، لا خطاب«الحيّة لا تلد غير الحيَّة» (الخوارزمي، الأمثال المولّدة).
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يبدو أن نمطًا جديدًا من العلاقات الدولية واللغة الديبلوماسية بدأ يطغى على القواعد المعروفة والأعراف والتقاليد الدولية منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب مقاليد البيت الأبيض.
ولعلّ هذا التغيّر يحتاج إلى مراجعات استراتيجية وجيوسياسية على الصعيد العالمي وانعكاساتها على صعيد منطقة الشرق الأوسط، بما يستدعي مستلزمات جديدة للتكيّف مع المتغيّرات الحاصلة، لحفظ المصالح الوطنية العليا للدول والشعوب.
ولأن الخيارات أصبحت محدودة، بل يمكن القول ضئيلة، خصوصًا بعد طائفة من المتغيّرات على صعيد المنطقة، فإن الفرص باتت ضيقة، لاسيّما بعد حرب الإبادة على غزّة، والتي استمرّت بأشكال جديدة حتى بعد الهدنة، حيث قامت بعمليات انتقام في الضفة الغربية، فضلًا عن العدوان المتواصل على لبنان وانهيار النظام السوري وهروب رئيسه بشار الأسد، وتراجع الدور الإيراني وضُعف الدور الروسي.
كلّ ذلك كان مغريًا للولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائها الأوروبيين لممارسة المزيد من الضغوط على دول وشعوب المنطقة، خصوصًا وأن المحور الممانع تفكّك عل نحو شديد، وانهارت بعض أركانه، واضطّر إلى تقديم تنازلات في ظلّ اختلال موازين القوى في المنطقة.
ولعلّ المأزق لا يتعلّق بالمنطقة فحسب، بل أن الرئيس الأوكراني زيلينسكي تعرّض إلى الإهانة أمام جمع من الصحافيين لم تألفها الديبلوماسية الكونية في القرن العشرين وربع القرن الماضي من القرن الحادي والعشرين.
ويبدو أن الأمر أصبح عاديًا في ظلّ سياسة جديدة للولايات المتحدة، التي بدأها الرئيس ترامب بإعلان الرغبة في ضمّ كندا وإلحاق غرينلاند بالولايات المتحدة والهيمنة على قناة بناما، والتحلّل من اتفاقيات ومعاهدات والتزامات دولية، بل مطالبة الدول التي سبق أن قدّمت لها الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية أو عسكرية بتسديد ثمنها، ناهيك عن التهديد باتخاذ عقوبات وفرض رسوم جمركية حتى على حلفاء واشنطن الذين يستخف بهم الرئيس الأمريكي.
ثمة تطوّر خطير حصل في المنطقة أيضًا وذلك بالتداخلات التركية في سوريا ونفوذها الذي تعزّز بعد الإطاحة بالنظام السابق، بعد أن كان الشريط الحدودي، السوري – التركي، يتمدّد باتجاه حلب والمناطق المجاورة، ناهيك عن إعلان تركي الحرب على الجماعات الكردية المسلحة "الإدارة الذاتية"، التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبداية معارك بين قوات الجيش الوطني السوري والدولة السورية برئاسة أحمد الشرع وبين القوات الكردية المدعومة أمريكيًا.
يدرك الإيرانيون، الذين تراجع نفوذهم، بأن سقف التفاوض مع الولايات المتحدة قد انخفض كثيرًا، حتى أن الوصول إلى صفقة تحمي ماء الوجه أصبحت صعبة المنال بعد أن كانت متاحة قبل عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023.
وتتصرّف الإدارة الأمريكية الجديدة على نحو غير مألوف، وبالضدّ من اتفاقية فيينا بخصوص العلاقات الديبلوماسية لعام 1961، ناهيك عن الأعراف والتقاليد الديبلوماسية، التي استقر عليها تواتر الاستعمال والتكرار، بحيث أصبحت مقبولة ومعترف بها.
التغييرات السريعة ستزيد من أوزان بعض القوى وستضعف من أوزان قوى أخرى، وقد تعزّز الموقف التركي بالتمدد إقليميًا، وإذا كانت سوريا فضاءً حيويًا لها، فإن وجود قواعدها في العراق واستمرار عملياتها العسكرية يجعلها قوة إقليمية كبرى في المنطقة، لاسيّما بعد إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، عن دعوته لإلقاء السلاح وحلّ الحزب في مبادرة غير مسبوقة ودون أي شروط مسبقة، بما فيها فتح حوار حول حقوق الشعب الكردي في تركيا وضمانات إزاء عدم ملاحقة المنتمين إليه بتهمة الإرهاب، وذلك أقل ما يمكن تحديده من مطالب عامة.
إذا كانت إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة تلجآن إلى الديبلوماسية المزدوجة، أي أن تل أبيب تتغوّل وتتعامل مع قواعد القانون الدولي باحتقار، وواشنطن تبرر وتدعم وتسوّغ، فإن دبلوماسية أخرى بدأت تظهر بحيوية، وأعني بها الديبلوماسية السعودية، وهي دبلوماسية ناعمة تحاول تجنّب الصدامات وتسعى للتقريب بين طهران وواشنطن، لأنها تخشى من رد فعل إسرائيل لارتكاب حماقة قصف المفاعلات النووية، بما سيلحق بالمنطقة من آثار خطيرة عسكرية واقتصادية وسياسية وتداعيات أخرى.
لقد تركت المتغيرات الدولية تأثيرًا سلبيًا على علاقات واشنطن مع الاتحاد الأوروبي، ابتداءً من أوكرانيا ومرورًا بالنقد الشديد لمسار الاتحاد، فضلًا عن التقارب الروسي – الأمريكي، والأمر قد يأخذ بٌعدًا أكثر تطرفًا على الصعيد الأوروبي، لاسيّما بصعود الشعبوية اليمينية المتطرفة في العديد من دول أوروبا، الأمر الذي يٌنذر بتحولات جديدة وربما خطيرة، وتحمل مفاجئات غير محسوبة، قد تؤدي إلى إحداث اختلالات في نمط العلاقات الدولية، بازدراء قواعد القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، والإطار الناظم للعلاقات الدولية المعروفة، ناهيك عن انهيار القيم الأخلاقية التي كانت تنادي بها الدول الغربية، أو ما يسمى بالعالم الحر، في صراعها مع الكتلة الاشتراكية منذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، بما فيها ما بعد انهيار الأخيرة في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حيث أصبح قانون القوة هو السائد، وتعود إلى الواجهة مقولة الفيلسوف والسياسي الكبير مكيافيلي، والتي كان يردّدها كثيرًا الزعيم البريطاني تشرشل، "لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة"، وهذا ما قد يضع العالم في عاصفة أو عواصف جديدة لا حدود لها على الصُعد العسكرية والاقتصادية والسياسية.
***
عبد الحسين شعبان

كتب: الب قيصر يليوغلو
ترجمة: علي حمدان*
***

في السابع والعشرين من فبراير/شباط، أصدر عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون ــ الذي خاض نضالاً من أجل الاستقلال ضد الدولة التركية على مدى أربعة عقود ــ إعلاناً دراماتيكياً. فقد دعا إلى حل منظمته ونزع سلاح جميع الجماعات التي تقاتل من أجل تحرير الأكراد، والتخلي عن المطالب السابقة بحل فيدرالي، والدعوة بدلاً من ذلك إلى التحول إلى الديمقراطية داخل الهياكل السياسية القائمة في البلاد. وبعد يومين، أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار الفوري، متخلياً تقريباً عن طموحاته في الحكم الذاتي. ورحبت القوات الكردية في روج آفا بتدخل أوجلان، وعرض حزب الاتحاد الديمقراطي إلقاء سلاحه طالما كان بوسعه أن يستمر في الوجود كمنظمة سياسية.
كان هذا تتويجا لعملية تفاوض بين الجهات الفاعلة في الدولة والسياسيين الأكراد والتي بدأت في أواخر عام 2024، بمبادرة من حليف أردوغان دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية اليميني المتطرف. ومن غير الواضح ما الذي قد يكسبه الأكراد من الصفقة، باستثناء احتمال نقل أوجلان من السجن إلى الإقامة الجبرية. وفي حين تم الترويج للمفاوضات السابقة على أنها "عملية سلام"، فقد جرت هذه المرة تحت راية "تركيا خالية من الإرهاب"، متجاوزة البرلمان وكذلك الوسطاء كطرف ثالث. ومن الواضح أن أردوغان لا يشعر بالحاجة إلى تقديم تنازلات. وتشير التقارير غير المؤكدة إلى أنه قد ينهي الممارسة الواسعة النطاق المتمثلة في استبدال رؤساء البلديات الأكراد المنتخبين بمسؤولين معينين من قبل حزب العدالة والتنمية، في حين يكبح جماح العدوان ضد شمال سوريا الذي يهيمن عليه الأكراد وربما يطلق سراح بعض السجناء. لكن لا شيء من هذا مهم بشكل خاص، وحتى الآن لم تقدم الحكومة أي التزامات حازمة. لقد حصلت على الكثير ولم تقدم شيئا.
لقد حظي بيان أوجلان بإشادة شاملة من جانب المثقفين ذوي الاتجاه السائد والليبراليين والصحافة المؤيدة للحكومة. ولكن على اليسار، كان رد الفعل أكثر غموضا. هل خان اوجلان الأكراد؟ هل يمكن فهم تفكيك حزب العمال الكردستاني على أنه أي شيء آخر غير الاستسلام الكامل؟ ما العوامل التي دفعت إلى اتخاذ هذا القرار؟ للوصول إلى إجابة، يتعين علينا أن ننظر إلى علاقات القوة بين الجهات الفاعلة الرئيسية وحساباتها الاستراتيجية المحتملة. على الرغم من أن نظام أردوغان غارق في أزمة هيمنة استمرت لسنوات، وهزته التقلبات المالية وسوء الإدارة السياسية، فقد خضع أيضًا لعملية توطيد استبدادي. لقد أعيد هيكلة الدولة على أسس رئاسية مفرطة، مما مكن من الاضطهاد الجماعي للمعارضين، الذين سُجنوا بالآلاف. كما استخدم المحسوبية لترسيخ دعمه بين الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم جنبًا إلى جنب مع عمالها، مما أدى إلى تجنب التحديات الانتخابية من المعارضة. وقد أعادت تأكيد شرعيتها من خلال ادعائها الفضل في الإطاحة بالأسد، ووصفت هيئة تحرير الشام المنتصرة بأنها ليست أكثر من وكيل تركي.
في الوقت نفسه، أُجبِر حزب العمال الكردستاني على التراجع. ويواجه حلفاؤه في سوريا مستقبلاً قاتماً في ظل نظام معادٍ، خاضع لتركيا. ولم يعد الدعم الأميركي مضموناً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. والواقع أن أردوغان يهدد بالفعل روج آفا بغزو كامل النطاق بمجرد انسحاب امريكا. ومع تراجع أفق التحرر، أصبح السكان الأكراد حريصين بشكل متزايد على تأمين السلام، حتى لو كانت الشروط غير مواتية. وربما حسب أوجلان أنه إذا لم يستجب بشكل إيجابي لعرض الحكومة بوقف إطلاق النار، مهما كان هذا العرض ساخراً وغير صادق، فإنه يخاطر بتنفير الملايين من الناخبين الأكراد ودفعهم مرة أخرى إلى أحضان حزب العدالة والتنمية. ففي نهاية المطاف، أصبح حزب أردوغان مهيمناً في المناطق الكردية في تركيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بوعوده بالديمقراطية والسلام ــ وهو السيناريو الذي لا يريد القادة الأكراد أن يتكرر.
يبدو أن القوات الكردية تعتقد أن ابتلاع هذا الطعم المر هو السبيل الوحيد للحفاظ على قاعدتها الاجتماعية وتجنب نهاية عنيفة للحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا. وبذلك، تأمل أن تضع نفسها في موقف أقوى في المفاوضات المستقبلية، سواء مع الحكومة أو حزب الشعب الجمهوري المعارض. ومع ذلك، تظل هناك تساؤلات حول كيفية تنفيذ التفكيك المرتقب لحزب العمال الكردستاني. أصر أوجلان على أن ذلك يجب أن يتم في إطار قانوني وديمقراطي مناسب. ولكن هل توافق الدولة على هذا؟ هل ينحل حزب العمال الكردستاني رسميًا مع الاحتفاظ بالهياكل الظلية غير الرسمية في العراق وإيران في حالة انهيار المحادثات اللاحقة؟ لا يزال مثال فارك الكولومبية، حيث قدمت الدولة ضمانات للمسلحين والتي لم تحترمها إلا جزئيًا، واستمرار الجماعة في حملتها المسلحة ــ حاضرًا في أذهان الجميع.
بالنسبة لأردوغان، فإن الهدف النهائي واضح: تقسيم المعارضة وإطالة فترة رئاسته. ومن خلال طرح احتمالات الحد من القمع على مدى الأشهر والسنوات القادمة، يأمل في إقناع الأكراد بدعم تعديل دستوري يسمح له بالترشح لمنصب جديد، بشروط تجعل من السهل عليه الفوز في الجولة الأولى. وإذا نجح، فقد يؤكد شكوك العديد من ناخبي حزب الشعب الجمهوري في أن الأكراد على استعداد لخيانة مستقبل تركيا الديمقراطي لتعزيز مصالحهم العرقية. ومن شأن هذا النوع من الخلاف أن يجعل من الصعب إلى حد كبير على أي منافس رئاسي - على الأرجح عمدة إسطنبول الحالي من حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلوا - تشكيل الوحدة بين المعارضة التركية والكردية.
في حين يحاول الأكراد تحقيق أقصى استفادة من توازن القوى غير المتكافئ إلى حد كبير، فمن الواضح أن احتمالات السلام المستدام في ظل حكم أردوغان وبهجلي معدومة. فقط اجندة التحول الديمقراطي الحقيقي التي لا تقدم تنازلات للقوى الانعزالية القومية والرجعية، والذي يرتكز على النضال الاجتماعي المتجاوز للخطوط العرقية يمكن ان يغير المعادلة. ولا ترغب أحزاب المعارضة الرئيسية في مثل هذا التوجه. وحتى تظهر مثل هذه الحركة، فمن المرجح أن تستمر الاردوغانية في إملاء شروط السلام.
***
* كاتب ومترجم عماني
نيولفت ريفيو 7 مارس, 2025

 

تتداخل هنا المعوقات او العوامل المانعه دون تحقق الادراكية اللازمه في حينه والى الساعه، وعلى رأسها مسالة التفارقية النوعية النمطية المجتمعية، وما هو متوافق منها مع الصيرورة المجتمعية وافاقها المقررة، مقارنة باخرى غيرها، ربما تكون مهيأة لان تكون اكثر من غيرها حاضنه للافتتاح الانقلابي الالي ،ولبداياته تحديدا، وهو مالا يمكن مقاربة اسبابه الخارجه عن الطاقة الاعقالية الادراكية البشرية بما يخص ويتعلق بمنطوبات الظاهرة البشرية الحياتيه عموما، والمجتمعية كمحطة متقدمه، وربما اخيره من محطاتها المحسوبة والمدروسة اتفاقا مع الوجهه المقررة للوجود الحياتي المجتمعي.
من هنا وبناء عليه، يمكن ان يتم التوقف عند احتمالية انبثاق الالة في غير الموضع او نوع المجتمعية المطابقة لمنطواها، ولما هي موجودة لكي تحققه ضمن المسار المجتمعي، ووقتها يواجهنا الاصعب على مستوى الادراكية، وفي حين يتم الانغماس القصوري فيما حاصل في الموقع الذي عرف قبل سواه انقلاب الاله والرضوخ لابل الانسحاق تحت وطاتها، حيث لن تكون واردة باية حال احتمالية ذهاب التفكير والطاقة العقلية الادراكية، للبحث في مدى تطابق الكينونه النمطية المجتمعية الاوربية مع الغرضية الاليه، علما بان الغرضية المشار اليها مبهمه ماتزال وتظل كذلك مادامت متبقيات ومفاعيل الادراكيىة اليدوية ماتزال حاضره على مستوى المعمورة ككل.
هل الاله عنصر تقدم مجتمعي بالقياس لماقبله وحسب، ام هي قوة انقلاب من المجتمعية الجسدية الى العقلية؟ هذا سؤال من المستحيل وروده ابان الطور الانقلابي الالي الافتتاحي، لسبب رئيس هو الاخر نتاج القصورية العقلية التي تظل مرافقة لعلاقة العقل البشري بالظاهرة المجتمعية، فلا تقاربها عجزا، الى ان يفتتح الغرب بمناسيبة الانقلابيه المستجده بين تضاعيفه هذا الميدان مطلقا عليه تسمية "اخر العلوم" مع كل مايمكن توقعه ساعتها من احتمالية عدم النضج والاولية الابتدائية، بعد طور القرون الماضية من الانعدام الكلي للمجال او الميدان المعرفي الاساس والضروري ضرورة غير عادية، لاجل التعرف عل الذاتيه والجوانب الاهم من الحقيقة الوجودية ومآلاتها.
وياخذنا الامر لهذه الجهه الى الاهم والجوهر في الاكتشاف المستجد المجتمعي والنظر فيه، والذي يبقى خافيا ومبعدا عن الوعي والانتباه، ومن ثم عن البحث الضروري اللازم الذي لاعلم اجتماع من دون كشف النقاب عنه، ذلك هو مايعود للتحري فيما اذا كانت الظاهرة المجتمعية احادية او ازدواجيه كينونه وبنية نمطية؟ الامر الذي كان من شانه قلب كل الاستراتيجيات الحياتيه البشرية، بعد ان يكون قد غير، لابل قد قلب تماما اللحظة الانقلابيه على اهميتها الابتدائية، بحيث نصبح امام انقلابيتين كبريين، احداهما عملية انقلابيه والاخرى رؤيوية مواكبه ولازمه مقترنه بالانقلاب الحاصل ومكمله ضرورة له ولمنطوياته، واين هو ذاهب موضوعيا، وهو ماقد ظل خارج الادراكية، مكرسا الفصل بين الاله والوعي بها وبمنطواها الفعلي التحولي الانقلابي النوعي.
هل المجتمعية تنشأ بالاصل لاارضوية وتعيش تاريخها اليدوي كله تحت وطاة الغلبة المفهومية للنوع المجتمعي الاخر الارضوي، والاهم هل ياترى قد حلت ساعه نزع الهيمنه الارضوية على الادراك البشري؟ هنا يتمثل السؤال الحاسم الانقلابي والاعظم الذي به ومعه يمكن تصور الانقلابيه التاريخيه ممكنه وقابلة للتحقق،والا فان الاله لن تورث بالاخص مع انبجاسها في المجتمعية الارضوية،الا التوهميه والرؤية القاصرة الموروثة، معدلة او محسنة تحت طائلة وتبرير مايتولد ساعتها من انقلابيه في الممكنات وافاق التحقق العقلي مافوق اليدوي، والمتعدي له بمراحل، تتحول حكما الى سبب مقنع يكرس التوهمية الكبرى جاعلا منها لحظة تقدم اكبر، وحلول للعلم والعقلانيه، محل الخرافة والتدني الادراكي.
على هذا المنوال كان لابد من انتظار المسافة التوهمية المرافقة للانتقالية الاليه كمحطة انتقالية سابقه على توفر الاسباب الضرورة، حين تصير الانتقالية الانقلابيه مدار البحث مكتملة عناصرا، الامر الذي كان يوجب مرور المجتمعية القائمة واالغالبة منها الارضوية، بفترة اولى من الاصطراعية الالية مع البنية المجتمعية الموروثة، بعد دخول عنصر الالة عليها الامر الذي كانت الالة بذاتها تحتاجه حتى تكتمل هي بالذات، متجاوزه الصيغة الاولى الافتتاح التي كان لها ان تظهر وقتها بصيغة المصنعية، بما يعني خضوع الالة خلاف المعتقد الى مسار من التحول الاصطراعي قبل ان تكتمل بنيه ونوعا، اي ان الالة ليست كما قد قرر من نظروا اليها ابتداء، بل ماهي، وماستكون عليه عند نهياة الاصطراعية الثلاثية التي تتولد عنها وبسببها، حين تصبح تكنولوجيا عليا مابعد التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، مع المتغيرات المواكبه المجتمعية الناجمه عن الاصطراعية المستجده، والتي تصيب البنيه المجتمعية الارضوية بالانحلال تباعا وباطراد في عقر دارها حيث تنبجس الاله، بينما تكون الكيانيه الامبراطورية والمجتمعية الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ قد دخلت التفاعلية الرئيسية وريثة للغرب الاوربي، متحولة لمركز قياده منذ اكثر من قرن مضى.
تتداعي البنية والكينونه المجتمعية الارضوية بصيغتها الازدواجية الطبقية، وموضع انبثاق الاله لصالح بنية اخرى قارية، تقوم على افناء ستين مليونا من السكان الاصليين، بلا تاريخ بنيوي، ولا طبقات، تعتاش على الفكرة المنقضية الليبرالية الاوربيه، وعلى الرسالية الزائفه، بينما تنتقل بالالة الى التكنولوجيا الانتاجية، والى اخراج الانتاجية من نطاق الكيانيه المحلوية / الوطنيه، الى العولمة المخترقة للسيادات الكيانيه، ووقتها تكون اللاارضوية هي الصيغة والكينونه المجتمعية المطابقة للحظة، ولنوع الانقلابيه الفعلية مابعد المجتمعية، ومافوق الكيانيه الوطن قومية، وماتتطلبة من منظور غائب ومؤجل على مدى الطور اليدوي والعتبة الافتتاحية الالية ، بانتظار الانقلاب بالفكرة لاارضويا، في الوقت الذي تحضر فيه التكنولوجيا مافوق الارضوية ومافوق الجسدية، حيث وسيله الانتاج المستجده عقلية بالدرجة الاولى، ذاهبة بالبنية المجتمعية وماتبقى منها خلال ماقد تعرضت له خلال الاصطراعية المصنعية، ومن ثم التكنولوجية الانتاجية من تاكل، الى مابعد مجتمعية جسدية ارضوية حاجاتيه، والى مافوق مجتمعية ذاهبة الى التحلل كما كانت بالاصل قد صممت تصيرا ومسارا.
الانقلاب الالي انقلاب نوعي مشابه للانقلاب من (الصيد واللقاط)، ال (التجمع + انتاج الغذاء)، بدايته غير لحظة تحققه، ومختلفه عنها، بالاخص على مستوى الادراكية والوعي، بالذات بالظاهرة المجتمعية، تحديدا مايتعلق بخاصيتها الازدواجية الارضويه الجسدية الحاجاتيه، ومقابلها اللاارضوية العقلية مافوق الجسدية، والمتحررة منها ومن وطاتها ومتبقياتها الحيوانيه العالقة ماتزال بالعقل، جوهر الكينونه المجتمعية البشرية المغادر للكوكب الارضي الى الكون اللامرئي.
***
عبد الأمير الركابي

يقول ميشيل فوكو، في حفريات المعرفة، السياسة هي حرب مستمرة بطرق اخرى، عكس ان الحرب هي سياسة بطرق اخرى عنيفة، فمازالت آليات القوة تمارس حرب دائمة حرب صامتة، وبحسب حفرياته، فأن كل اشكال الحداثة ومؤسساتها تكريس لتلك الاليات المتجذرة في وحشيتها برغم واجهاتها المدنية البراقة التي توحي بالانسلاخ عن العمق السحقيق والحاضر باقسى صوره البشعة في اسلوب القتل الجماعي المنظم، والمغلف بكل انواع التحديث، السجون المدارس المستشفيات الاعلام.. ليس الفرد من يصنع السلطة كما تتبجح صناديق الاقتراع انما السلطة من يصنع الفرد، وبالتالي مازال الفرد خادم للسلطة وليس العكس، والسلطة تمارس السياسة التي هي حرب دائمة، والمحرك لا زال هو هو، اللاعدالة وتحديدا الاقتصادية، اما عن العلوم الانسانية فيقول انها تعكس مناخ السلطة السائدة، هي علوم للسيطرة على الانسان وليس لفهمه، والتاريخ اصبح تاريخ لذرائع السلطة التي مازالت هي ذاتها منذ قيام الدولة، وحتى الساعة حارسة للملكية المقدسة والتفاوت الطبقي!
قال نيتشة في شطحة من شطحاته الفذة: حذار وانت تحارب الوحوش ان تتحول الى وحش مثلهم تماما. وكل حروب بني البشر وحشية حتى اقدسها تلك التي تتقيد بوصايا الرب الذي صنعته سيرورة السلطة المطلقة لتجعلها اكثر اخلاقية!
وهذا ابن خلدون يجمل المعنى عندما يقول: إعلم ان السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره!
الحروب قاعدة والسلام إستثناء!
لا يمر يوم من ايام المجتمعات البشرية دون حروب، وما ايام السلام إلا نوعا من الاستعداد لها، او محاولة تأجيلها، او تفاديها بتقديم دياتها للغزاة او المبتزين، او الفرار منها بالهجرة الى ارض بعيدة كما كان يحصل ايام الوحشية والبربرية والمدنية البكرية، ما قبل الحداثة، وفي مجتمعات الحداثة تكثفت الحروب وصارت اكثر نظامية وتأثيرا وسرعة، خاصة بعد ان تبلورت الاشكال السياسية للدول الحديثة وجرى التوافق بينها على حدود الاقاليم وحصانتها النسبية، فالارض كلها قد تم تأطيرها، بالامر الواقع، والتبعية، القارات الخمس والجزر المحيطة بها دول معترف بها او كيانات تابعة، وتدريجيا اصبح معظمها ممثلا في منظمة الامم المتحدة، وقبلها كانت الامبراطوريات الامبريالية الاوروبية والامريكية الشمالية تستعمر اغلب شعوب وكيانات اسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية ومازالت آثار هذا الاستعمار ظاهر برغم موجة الاستقلال السياسي والتحرري التي غمرت اركان المعمورة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة 1991، وبقي بعضها خاضعا بشكل او بآخر لنفوذ الاقوياء والمهيمنين عالميا، حتى على القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي، تم رسم مناطق نفوذ بين الدول صاحبة القدرة على التوسع والاستحواذ والاستكشاف، وصار ديدن الاستكشاف اسلوب عمل لفائض القوة من اجل المزيد منها، لبسط النفوذ والتنافس على اسباب القوة المضافة، وقد انتقل هذا الديدن نحو الفضاء، بعد ان استغرق ما فوق وتحت سطح اليابسة بما فيها المتجمدة، وكل محيطاتها ومسطحاتها المائية،، غرين لاند، القريبة من امريكا مثلا تابعة للدنمارك، فوكلاند، القريبة من الارجنتين تابعة لبريطانيا، الضفة الغربية وقطاع غزة التابعة للشعب الفلسطيني مازالت محتلة بقوة البطش الاسرائيلي المدعوم امريكيا!
اوروبا اكثر قارات العالم حروبا وقتلا على مر العصور لكنها شهدت فترات استراحة وإعادة شحن بانتظار التنفيس القادم!
حروب لا تنتهي!
اكتشاف الامريكيتين واستراليا من قبل الاوروبيين كان ذروة تاريخية في حروب الغزو والازاحة والابادة، وقد اضافت لهم مصادر نوعية لمضاعفة فائض قوتهم الاقتصادية والحربية والتقنية وبسط نفوذهم على ارجاء العالم، امبراطوريات لا تغيب عنها الشمس، بريطانيا العظمى وفرنسا واسبانيا والبرتغال وايطاليا، حتى بلجيكا وهولندا، استعمروا العالم القديم والجديد، بحروب تلد اخرى!
***
جمال محمد تقي

معاوية ومسلسل المئة مليون دولار: حين راج خبر انتاج مسلسل "معاوية" قبل سنتين، كتبتُ مقالة بعنوان "مسلسل معاوية: بين محاذير الفتنة ولا جدوى المنع/ الأخبار – 26 شباط 2023"، ناقشت فيها التداعيات الاجتماعية والسياسية المحتملة لتسويق وبث هذا المسلسل. وخلصتُ إلى أن اعتماد طريقة منع وحظر الأعمال الفنية لم تعد مجدية في زمن الفضاء الإعلامي المفتوح وأتيت بأمثلة عملية تدعم هذا الرأي، وإلى أن الجهد التثقيفي النقدي والمنهجي الذي يواجه أعمالاً كهذه يبقى أكثر فائدة وجدوى، وأصح من حيث المشروعية المدافعة عن الإبداع الفني والأدبي ضد قرارات المنع والتحريم والقمع.
واليوم، وقد أُنتِجَ مسلسل معاوية بميزانية ضخمة فاقت مائة مليون دولار، وشرعت شبكة قنوات (MBC) السعودية ببثه، أعود إلى هذا الموضوع، لتسجيل بعض الأفكار والملاحظات حوله بعد مشاهدة بداياته، على أمل العودة إليه في مقالة أخرى بعد اكتمال عرض حلقاته خلال شهر رمضان الجاري.
المسلسل من إخراج الفلسطيني الأميركي طارق العريان، الذي عُرف بإخراج العديد من الأفلام والكليبات الغنائية، وتأليف الإعلامي والممثل ومقدم البرامج المصري خالد صالح، أي أنَّ الرجلين لا علاقة لهما بالتأريخ والأعمال الفنية التأريخية وخاصة التأريخ العربي الإسلامي ودقائقه. وقد قالت صحيفة "المصري اليوم - عدد 4 آذار - مارس 2025" على موقعها على النت، نقلا عن المخرج أحمد مدحت، أن المخرج طارق العريان انسحب من إخراج الفيلم وطلب رفع اسمه من المسلسل وفعلا لم يظهر اسمه في الحلقات الأولى وحل هو محله تحت عبارة "رؤية إخراجية: أحمد مدحت". والسبب كما قال مدحت هو استياء العريان من التعديلات الكثيرة التي أجريت على المسلسل أثناء عملية مراجعته من قبل هيئة العلماء في السعودية، وهو ما أدى إلى تعديلات عدة على محتواه. ومن الجدير بالذكر أن المخرج البديل عُرف بأنه مخرج شاب أنجز بعض الأفلام الوثائقية وعدد من الأفلام الروائية القصيرة، بمعنى أنه لا يختلف كثيرا عن العريان في موضوع إخراج المسلسلات والأعمال الفنية التأريخية. وذكر أنباء أخرى أن العريان ربما يكون قد عاد كمخرج للمسلسل ولكن اسمه لم يظهر معه! ومن الجدير بالذكر أن المخرج البديل عُرف بأنه مخرج شاب أنجز بعض الأفلام الوثائقية وعدد من الأفلام الروائية القصيرة، بمعنى أنه لا يختلف كثيرا عن العريان في موضوع إخراج المسلسلات والأعمال الفنية التأريخية.
معاوية شخصية تأريخية تأسيسية
إنَّ معاوية بن أبي سفيان شخصية إسلامية - بمعنى من داخل السردية الإسلامية بكل ما فيها - وهي شخصية من الوزن الثقيل بالمعنى التأريخي النقدي المحايد، ومن حيث المساحة الحَدَثيَّة التأريخية، وليس بالمعنى المعياري الديني المذهبي والفقهي ضمن ثنائيات من قبيل؛ مؤمن كافر/ حرام حلال، فلا يدخل هذا المعنى ضمن اختصاصي واهتماماتي النقدي لأنه من مشمولات رجال الدين والفقهاء لا المؤرخين والباحثين.
ومعاوية شخصية استثنائية تأسيسية بالمعنى الجوهري والمضموني؛ فهو أول حاكم "مَلك" عربي ساد قومَهُ بالقوة المادية الغاشمة والدهاء السياسي بعد ظهور الإسلام، وحوَّل الحكم الشوروي القائم على البيعتين الخاصة والعامة إلى حكم ملكي وراثي مع كل مظاهر الحكم الكسروي الهرقلي الاستبدادي العنيف الذي كان قائماً آنذاك، وجاءت الموجة العربية المسلمة من جزيرة العرب لتكتسحه وتدمره.
أعتقد أنَّ الهدف الإعلامي والسياسي الأساسي لهذا العمل التلفزيوني هو تسويغ وشرعنة الحكم الملكي الوراثي الاستبدادي الذي أسسته الأسرة الأموية، ومن بعدها العباسية والفاطمية والدفاع عنه حتى حين بلغ ذروته في حكم الحق الإلهي المقدس، وتحول الحاكم إلى "ظل الله في الأرض"، أو بكلمات المنصور العباسي (إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتأييدهِ). هدف المسلسل إذن، تسويغ وشرعنة هذا الحكم الطاغوتي الوراثي الاستبدادي، دينياً، في عصرنا الحاضر على حساب حكم الشورى الأقرب جوهراً إلى مفهوم الديموقراطية والمساواة.
وعلى أساس هذه الفكرة الجوهرية، فكرة التفريق بين الخلافة الشورية والمُلك العضوض (حكم فيه ظلم وعسف واستبداد)، نهض كتاب "الخلافة والمُلك" بقلم أحد أركان السلفية الإسلامية المعاصرة - وياللعجب - هو أبو الأعلى المودودي. وفي هذا الكتاب نجد نقداً لاذعاً وعميقاً لا هوادة فيه لمعاوية بن أبي سفيان حيث يعتبره المؤلفُ مسؤولاً عما حدث للإسلام والمسلمين بعد انقضاء العهد الراشدي، مع أن المودودي لم يكن ممن يلعنون معاوية كبعض العلماء السنة من مثل عبيد الله بن موسى العبسي شيخ البخاري، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وهو أستاذ الإمام أحمد، وصاحب "المصنف" كما يذكر الباحث عدنان إبراهيم، بل كان المودودي يترضى عليه أحيانا و"يعترف بأفضاله ومحامده" ولكنه لا يرى بأساً من أن يقول إنه أخطأ حين أخطأ ص97. ويسجل المودودي في هذا الكتاب أن الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب هو أنه تأخر كثيراً في عزل عامله على الشام معاوية، وكان يسمع لرأي المغيرة بن شعبه الذي كان ينصحه بعدم عزل معاوية واستفزازه، فيما كان عليه أن يعزله قبل أن يستفحل خطره ص84.
مَن بدأ بتوريث الحكم في الإسلام؟
وقد يقال إنَّ معاوية وعشيرته أمية لم يكونوا الوحيدين أو البادئين بالحكم الوراثي في السردية الإسلامية، فالعلويون قالوا به، وبايعوا الحسن بن علي بعد اغتيال أبيه. وقد يبدو هذا صحيحاً شكلاً ومظهراً، ولكن إذا شئنا الدقة التأريخية فلا يمكن اعتبار مبايعة الحسن بالخلافة توريثاً صريحاً مستوفياً لأركان الوراثة المعروفة. فالإمام علي - كما تنص على ذلك جميع المصادر السُّنية بخلاف الشيعية التي تعتقد بالوصية والإمامة المعصومة المتوارثة- لم يوصِ بها لابنه الحسن، بل ترك الأمر شورى بين المسلمين، فبايع الخاصةُ والعامةُ الحسنَ خليفةً.
وقد اعتبر جَمعٌ من علماء أهل السنة والجماعة أن فترة الستة أو الثمانية الأشهر التي تولى فيها الحسن الخلافة تعدُ جزءاً من الخلافة الراشدة ومكملة لها ومنهم: أبو بكر بن العربي والقاضي عياض وابن كثير وابن أبي العز، ومحمد عبد الرؤوف المناوي.
-لقد تنازل الحسن عن الخلافة طوعاً لمعاوية وليس لأحد بنيه أو إخوته بعد الصلح الشهير معه، وقبل أن يكمل عامه الأول، على أن تعود له من بعده. فلم يف معاوية بوعده في هذا الصلح ذي الشروط الخمسة عشر مع الحسن، بل تتهمه بعض مصادر التراث بأنه غدر بالحسن واغتاله بالسم، ليخلو له الجو فيوَّرث المُلكَ بعد موته إلى ابنه يزيد. ويعلل ابن خلدون - وهو سفياني الهوى- ذلك في المقدمة كالتالي: "وقد عهدَ معاويةُ إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه، مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه، وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشاً لله لمعاوية من ذلك/ المقدمة ط3، 1981، ج2، ص603".
أما الحقيقة التي ترويها مصادر التراث الإسلامي فتقول شيئا آخر حول توريث معاوية الحكم لابنه يزيد فقد خطب في المدينة طالباً البيعة لابنه. وحين لم يجد تجاوبا، بل كان المسلمون وفي مقدمتهم أبناء الصحابة يردون عليه بجفاء، قال معاوية: "أقسم بالله لئن رد عليَّ أحدكم كلمةً في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهم. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يُبتُّ أمرٌ دونهم ولا يُقضى إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله! فبايع الناس... فلقي الناسُ أولئك النفرَ فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلمَ بايعتم؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل/ ورد الحدث في غالبية المصادر الإسلامية القديمة ومنها (الكامل في التاريخ - ابن الأثير - ج 3 - الصفحة 511) و (العقد الفريد ج 4 ص 372).
ومعروف أن بني العباس سلكوا طريق الحكم الملكي الوراثي العضوض أيضا، وحتى العلويون في طورهم الشيعي اللاحق حيث جعلوا نظريتهم في الحكم تقوم نظرياً وعملياً على أساسه في الدولة الفاطمية بمصر. وفي الممالك والسلطنات الإسلامية الوراثية وآخرها العثمانية التركية، والسعودية في نجد والحجاز، والعلوية الإدريسية في المغرب الأقصى والهاشمية في العراق والأردن.
معاوية وأمه هند والطلقاء
لقد أحدث معاوية بن أبي سفيان أحداثاً جساماً وجذرية في تأريخ الإسلام يمكن وصفها بالثورة السياسية والاجتماعية الضخمة - وقد يسميها بعض المعاصرين ثورة مضادة من حيث الجوهر - حين أنشأ أول إمبراطورية تدين شكلا بالإسلام وتُساس بالاستبداد العنيف الذي جاء الإسلام ليطيحه.
وبالعودة إلى الحلقة الأولى، وبعد خمس دقائق فقط من بدايتها ومشاهدة ولادة هند بنت عتبة (الممثلة التونسية سهير بن عمارة) لابنها معاوية (يؤدي دوره الممثل السوري لجين إسماعيل)، يقفز المؤلف، إلى معاوية وهو في السابعة أو الثامنة من عمره يقرأ رسالة كُتبت على رقٍّ من أخته رملة التي آمنت سرا بالإسلام، وهربت من دار أبيها ليلا مع المهاجرين المسلمين إلى الحبشة. وفي رسالتها تدعو رملةُ أخاها معاويةَ إلى الإيمان برسالة الإسلام فيخرج الصبي معاوية ليلاً في الصحراء وهو يصرخ باسمها، ويظل حزينا عليها لا يكاد يترك رسالتها إليه!
-هكذا ينفتح المسلسل ومنذ دقائقه الأولى على تفصيلة صغيرة يُراد بها تأكيد أن معاوية كان قريباً روحياً من أخته المسلمة، ومتعلقاً بها عاطفياً وبالتالي بالإيمان بالدين الجديد الذي اعتنقته. ليس من السهل تأكيد وتوثيق هذه القصة الصغيرة في السردية الإسلامية التراثية، فمن كان يهتم بصبي صغير ويدون أحداث طفولته عصر ذاك. ولكن كيف تصح هذه الجزئية، وصاحبها وبطل هذا المسلسل الباهظ التكاليف من الطلقاء، أي من الذين أسلموا كرهاً بعد فتح مكة، وسيطرة المسلمين عليها وتدمير الأصنام والأوثان في كعبتها؟
يربو عدد الطلقاء وفق المصادر الإسلامية على ألف شخص منهم جميع أفراد أسرة أبي سفيان باستثناء أم المؤمنين رملة "أم حبيبة" التي تزوجها النبي بعد عودتها من الحبشة كما يسجل المودودي في كتابه "الخلافة والمُلك". ومن الجدير بالذكر أن أم حبيبة لم تكن ممن يساومون على دينهم حتى مع أقرب الناس إليها؛ وقد زارها والدها أبو سفيان في المدينة قبل فتح مكة، وهي زوج النبي. وحين دخل أبوها غرفة النبي طوت أم حبيبة فراش الرسول ورفعته وتركت أباها واقفاً. فسألها معاتباً لِمَ فعلت ذلك؟ فردت عليه كما أورد ابن عساكر في التاريخ (79/150) وابن سعد في الطبقات (8/79) الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (7/653)، الحافظ الذهبي في «السير» (2/222- 223) وضعَّفه محدثون آخرون: "هذا فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بُنية قد أصابك بعدي شر".
-بعد سبعة عشر دقيقة من الحلقة الأولى، يقفز المؤلف ثانية بمعاوية إلى عمر شاب في الثامنة عشرة وهو يرافق والده في تجارته إلى الشام. وأقل ما يقال هنا إنَّ هناك انعداما للتوازن الحدثي والزمني في كتابة السيناريو هو الحاضر. كما أنَّ هناك إهمالاً متعمداً لأمور وأحداث خطرة كثيرة بخصوص ماضي وسمعة هند بنت عتبة أسال القدماء حولها مداداً وفيراً. من ذلك مثلاً ما كتبه ابن كثير في "البداية والنهاية" وغيره كثر حول اتهام زوجها الأول الفاكه بن المغيرة المخزومى لها بالزنا، ورحلتها إلى اليمن لتحكيم كاهن عرّاف هناك في اتهامها...إلخ! لقد حذف المؤلف كل هذه الأحداث، وطهَّر هند أم معاوية منها تطهيراً بأن بدأ الحلقة الأولى منها بولادة معاوية "ثمرة قلبها" كما كانت تناغيه.
تغييب "آكلة الأكباد" في المسلسل
لقد كانت مشاهد معركة (أحد) بحضور هند أم معاوية، قصيرة ومضطربة إخراجياً. وحذف المؤلف والمخرج أحداثاً مهمة منها، وتحديداً، حذف ما قامت به هند مع جسد الشهيد حمزة عم النبي حين التهمت كبده بعد أن اغتاله عبدها وحشي بأمر منها، ومذ ذاك أصبح المسلمون يلقبونها بهند آكلة الأكباد، وهو الحدث الذي أولاه مصطفى العقاد صاحب فيلم "الرسالة" الشهير أهمية خاصة وقدمه بطريقة فنية وإخراجية معبرة أبدعت فيها الفنانة الكبيرة منى واصف.
ولمزيد من الإطراء والتطهير لابنها معاوية فقد أظهره لنا المسلسل حزينا لهزيمة المسلمين في أحد، مكرِّرا لعبارات السلام والعقلانية، مجادلاً أمه حول أن النبيَّ محمداً ليس ساحراً كما تقول بل إنَّ ما يقوله هو الحق. ولكن ذلك لم يدفع معاوية لإعلان إسلامه أو يمنعه من حضور إعدام الأسير المسلم خبيب بن عدي في مكة. وهنا يظهر الحزن والتكدر على معاوية لقتل الأسير المسلم! فهل سمع أهل المسلسل بقصة الصحابي الجليل حُجْر بن عدي، والذي أمر "الخليفة" معاوية بقتله صبراً "بالإعدام ذبحا" لأنه لم يتبرأ من علي بن أبي طالب ويسبه علناً. و"القتلُ صبراً" فعل كانت العربُ تنفر وتشمئز منه لخسته وتعتبره فعلاً منحطاً لا يقوم به إلا جبان رعديد لا علاقة له بالفروسية.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن عناصر من مجموعات سلفية وهابية مسلحة سورية، تفاخر بولائها لدولة بني أمية، نبشت في 27 أبريل، 2013م قبر الصحابي الشهيد حُجر بن عدي في مدينة عدرا في ريف دمشق واستخرجت الجثمان ودفنته في مكان غير معروف في إهانة سمجة وتدنيس للقبر وصاحبه الذي قُتل ظلما قبل أكثر من ألف عام!
-وفي الدقيقة 31 من الحلقة الأولى يطل علينا معاوية من ريف دمشق فارساً أنيقاً وقد صار رجلاً تجاوز الثلاثين من عمره تقريباً والسنة هي السابعة للهجرة (629 م تقريبا)، كل هذا في نصف ساعة من الحلقة الأولى في مسلسل من ثلاثين حلقة!
ثم جاء استدعاء هِرَقْل ملك الروم لأبي سفيان التاجر وابنه معاوية ليستخبر منهما عن هوية النبي الجديد في بلدهما الحجاز، وتم اللقاء بهما في قاعة بائسة أشبه بحمام تركي عتيق مهجور. فهي شبه مظلمة في قلعة أثرية متآكلة على وشك الانهيار، كالحة ومجردة من كل بهاء وزخارف تميزت بها قاعات البلاط البيزنطي المعروفة بفخامتها، فأين، يا ترى، ذهبت المائة مليون دولار التي خصصت لإنتاج المسلسل إنْ لم تظهر في ديكورات بلاط هرقل؟!
-تنتهي الحلقة الأولى من المسلسل بمشهد معاوية بن أبي سفيان وهو (لابس أبيض في أبيض) ويتوضأ ليصلي صلاة المسلمين، ثم بلقطات من مشهد دخول جيش المسلمين إلى مكة فاتحاً، فعودة إلى معاوية وهو يصلي، ومع صوت في الخارج ينادي مكررا أمر الرسول: "مَنْ دخل بيت أبي سفيان فهو آمن". وهنا يرفع معاوية يديه مؤدياً صلاة المسلمين مكبراً بصوت خاشع لا يخلو من حماسة: الله أكبر!
إن المشهد الختامي للحلقة الأولى يُظْهِرُ معاويةَ وكأنه كان مسلماً مجاهداً في السر طيلة حياته، بل ربما يذهب الظن بمن لا يعرف تأريخنا إلى أن معاوية هو الذي فتح مكة ببطولته الشخصية! وكل هذا في الحلقة الأولى فقط من مسلسل في ثلاثين حلقة، حرص أهل المسلسل على أن تكون بجرعة كبيرة من الترويج والحماسة للتجربة الأموية إلى درجة تصدم المشاهد وترفع سقف الأهداف المتوخاة ألا وهي: تسويغ وشرعنة الملكية الوراثية الكسروية القيصرية، وتطهير وتنقية مؤسسوها ورموزها؛ معاوية وأبيه أبي سفيان وأمه هند على حساب التأريخ ومبادئ دولة الشورى والبيعتين.
***
علاء اللامي - كاتب عراقي

 

قبل أسبوع من لقائه العاصف مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنه يسعى إلى التوافق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على طريقةٍ لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وأشار ضمنياً إلى أنه لا يحتاج إلى استئذان الأوكرانيين، حتى لو تعلَّق الأمر ببلدهم. لكن إذا كان زيلينسكي يودّ مناقشة المشروع الأميركي، فليمنح واشنطن امتيازاً خاصاً للتحكم في المعادن الثمينة التي تفخر بها أوكرانيا.
في الوقت ذاته تقريباً، أعلن ترمب خطة لتحويل قطاع غزة إلى منطقة ترفيهية، تديرها الولايات المتحدة، وتوفر مجالاً مشتركاً للمصالح الاقتصادية لكل من العرب والإسرائيليين والأميركيين. وقيل إن مبعوثي البيت الأبيض تحدثوا فعلياً مع دول عدة سيهاجر إليها سكان غزة، من سوريا إلى الأردن ومصر حتى شمال الصومال.
وكما في المثال الأوكراني، لم يتحدث الرئيس الأميركي مع أصحاب الشأن، أي سكان غزة، ولا مع الحكومة الفلسطينية، قبل أن يطرح هذا المشروع الذي سيغيِّر حياتهم إلى الأبد.
وقبل مشروع غزة، أخبر ترمب مواطني كندا بأنه يريد ضم بلدهم إلى الولايات المتحدة لتكون الولاية 51. كما أخبر حكومة الدنمارك بأنه يريد شراء جزيرة غرينلاند، وأخبر حكومة بنما بأن واشنطن تريد استعادة السيطرة على قناة بنما، التي تخلَّت عنها نهاية 1999. وفي هذه الأثناء أعلن فرض رسوم جمركية على واردات الألمنيوم والصلب، وهو قرار يؤثر على الصادرات الصينية، ويؤثر بدرجة أكبر على أستراليا، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ.
هذا «بعض» ما فعله الرئيس خلال 6 أسابيع من توليه السلطة. وهو يكشف عن نوعية العمل السياسي المتوقَّع أن تشهده العاصمة الأميركية في السنوات الأربع القادمة. بعض المحللين تحدث عن تغير في المزاج العام للمجتمع الأميركي، وأن الطريقة التي ظهر بها الرئيس ومساعدوه، هي مجرد صورة مكثفة للتغير المذكور. ويؤيد هذا التحليل استطلاعات رأي أُجريت بعد لقاء ترمب - زيلينسكي. أظهرت هذه الاستطلاعات أن نصف الأميركيين تقريباً يتبنون موقف رئيسهم بشأن أوكرانيا والصين. لكنَّ استطلاعات رأي أخرى أظهرت أن شعبية الرئيس ما زالت دون المتوسط العام لشعبية الرؤساء السابقين في الأسبوع الرابع من تولي السلطة. وهذا يتعارض مع الفرضية السابقة.
ويبدو لي أن ترمب يحمل سمات واضحة لزعيم شعبوي يتبنى رؤية مغايرة كلياً للتقاليد السياسية السائدة بين النخبة. ولعلها -لهذا السبب بالذات- قوية التأثير في القاعدة الجماهيرية. تتمثل هذه الرؤية في الشعار الانتخابي «فلنُعِدْ لأميركا عظمتها المفقودة».
ينطوي هذا الشعار على إدانة ضمنية للنخبة السياسية، ودعوة للشريحة الاجتماعية التي تصنف نفسها حاميةً للهوية الأميركية، كي تتحد مع الرئيس في تلك المهمة. يستعمل ترمب وفريقه الأدوات الدعائية ذاتها التي يستعملها الزعماء الشعبويون؛ من تأجيج الشعور بالتفوق على الأمم الأخرى، إلى التشكيك في نزاهة النخبة، وخصوصاً التركيز السلبي على أشخاص بعينهم، بوصفهم رموزاً للفشل، إلى تبني مبادرات ضخمة وسريعة، تُصحح الاختلالات والأخطاء.
وبالتوازي يجري التركيز على شخص الرئيس، بوصفه الوحيد القادر على قيادة السفينة، اعتماداً على ميزاته الشخصية وليست القوة المشتركة للحكومة. يقول في هذا الصدد مثلاً: «لو كنت في البيت الأبيض يومذاك لما انفجرت الحرب في أوكرانيا».
ميزة هذا المسار أنه قصير الأمد، كثير الادِّعاء وقليل النتائج. خُذْ مثلاً محاولة ترمب إصلاح العلاقة مع كوريا الشمالية في 2019، التي انتهت بفشل ذريع، رغم ذهابه شخصياً للقاء الزعيم الكوري، وهو ما يعد تجاوزاً للبروتوكول وتقاليد السياسة.
هذه المرة أيضاً سنسمع كثيراً من الدعوات والادعاءات، لكنني أرجح أن ترمب سيحصد نتائج قليلة فحسب. إن موقف رئيس أوكرانيا في مواجهة ترمب ونائبه خلال الاجتماع الشهير بالبيت الأبيض، دليل على أن زعماء العالم لن يأتوا طائعين كما تخيَّل الرئيس، حتى لو كانوا في حالة حرب وحاجة، مثل زيلينسكي. بل أميل إلى الاعتقاد أن موقفه هذا سيشجِّع زعماء آخرين على مواجهة ترمب من دون قلق.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بقلم: جوزيه أوبر
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
حكمة من اليونان الكلاسيكية: ما أجمل الديمقراطية والليبرالية إذا أدركنا الفرق بينهما
***

قبل ربع قرن من الزمان، أعلن عالم السياسة الأميركي فرانسيس فوكوياما أن التاريخ قد انتهى. فقد انتهى البحث الطويل عن أفضل نظام سياسي ممكن. وكانت الديمقراطية الليبرالية ــ التي عُرِفَت بأنها السيادة الشعبية بالإضافة إلى الحكم الذاتي الفردي وحقوق الإنسان ــ هي الحل.
اليوم، في عصر الإرهاب والحروب الدائمة والأنظمة الاستبدادية المتجددة، عاد التاريخ بقوة. ولكن فوكوياما كرر مؤخراً بتفصيل مثير للإعجاب وجهة نظره الأساسية القائلة بأن الديمقراطية الليبرالية هي أعلى أشكال التنمية السياسية، وهي وجهة نظر يشترك فيها كثيرون. ويقارن عالم الإدراك ستيفن بينكر بين الديمقراطيات الليبرالية والأنظمة القائمة على أيديولوجيات شيطانية طوباوية، ويخلص إلى أن "الديمقراطيات أقل دموية إلى حد كبير من أشكال الحكم البديلة". ومثل غيره من الكتاب المعاصرين، يستخدم بينكر "الديمقراطية" كاختصار لـ "الديمقراطية الليبرالية"، بمعنى مجموعة من الظروف المفضلة: السيادة الشعبية، وسيادة القانون، وحقوق التصويت، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وتكافؤ الفرص، وفصل الكنيسة عن الدولة، والعدالة التوزيعية، والاقتصاد القائم على السوق. وبالنسبة لمخترعيها اليونانيين القدماء، كانت الديمقراطية تعني ببساطة الحكم الذاتي الجماعي من قِبَل المواطنين.
إن حزمة الديمقراطية الليبرالية تحظى اليوم بإعجاب واسع النطاق، ونادراً ما تخضع للتدقيق والتمحيص، حتى أن الناس يميلون إلى نسيان أنها في الواقع حزمة متكاملة. وحتى المتشككون يربطون الديمقراطية بالليبرالية: ففي أوائل عام 2008، دعا الرئيس الباكستاني آنذاك برويز مشرف الحكومات الغربية إلى التوقف عن الهوس بالديمقراطية، وهو ما كان يعني به: التوقف عن التركيز على حقوق الإنسان. وعندما يستخدم فوكوياما أو بينكر أو مشرف "الديمقراطية" للإشارة إلى الالتزام بالحقوق العالمية أو الفصل بين الكنيسة والدولة، فإن قِلة من الناس يتوقفون لطرح الأسئلة. ولكن دعونا نفعل ذلك على وجه التحديد. إن الديمقراطية والليبرالية تحتويان على قدر كبير من القيمة، لكنهما ليسا نفس الشيء. فمن الممكن أن تتحدا في نظام سياسي ناجح، ولكن زواجهما ليس حتمياً.
يُوضّح تاريخ الحُكم الذاتي للمواطنين في دُول المُدن اليونانية ماهية الديمقراطية—وما الذي تقدمه (وما لا تقدمه). كانت أثينا القديمة، مثل بعض دول المدن اليونانية الأخرى، ديمقراطية، لكنها لم تكن ديمقراطية ليبرالية. لم يتبنَّ الأثينيون القدماء حقوق الإنسان، ولم يفصلوا الدين عن سلطة الدولة القسرية. أما الليبرالية، فهي مُثُل أخلاقية وُلِدَت من عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وتتمحور حول قيمة الاستقلالية الفردية. وتُقدّم الليبرالية مبررات لاعتبار الحقوق عالمية، وملازمة لكل فرد بشري، ولماذا يجب على الدولة القسرية أن تظل محايدة فيما يتعلق بالدين. وقد يكون النظام السياسي ليبراليًا دون أن يكون ديمقراطيًا—كما كان الحال في إمبراطورية النمسا والمجر في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال.
بقطع النظر عن اعتراضات مشرف، فإن الديمقراطية اليوم لا تواجه أي معارضة صريحة. وحتى النازيون الجدد في ألمانيا يطلقون على حزبهم السياسي اسم الديمقراطيين الوطنيين (وليس الاشتراكيين الوطنيين). ويصف المستبدون الصينيون نظامهم الاستبدادي بأنه ديمقراطي. وتروج دساتير الدول التي نشأت بعد الثورة، والسياسات الخارجية للقوى الكبرى، ومهام الوكالات الدولية، للديمقراطية باعتبارها هدفاً لها. ولكن ماذا إذن؟ ما المشكلة إذا أصبحت الديمقراطية غير قابلة للتمييز عن الليبرالية، وإذا ما تم مساواة الحكم الذاتي الجماعي بحقوق الإنسان والحكومات العلمانية؟
إذا كانت الديمقراطية بهذه الأهمية، بحيث تستحق حشد جهود وموارد هائلة، فيجب أن يكون لدى الناس تصور واضح عمّا تعنيه. لقد نتج جزءٌ من المعاناة الإنسانية خلال ربع القرن الماضي، ضمن محاولات بناء الديمقراطية، عن حقيقة أن الطبقة السياسية لم تكن تمتلك تصورًا واضحًا حول مكونات الديمقراطية الليبرالية. وإذا كانت الديمقراطية تستحق النضال من أجلها، فمن الضروري فهم أسسها.
عندما يستخدم الباحثون مصطلح الديمقراطية بالمعنى الضيق، فإنهم يشيرون عمومًا إلى مجرد "حكم الأغلبية، لا أكثر"، على عكس سيادة القانون. بالنسبة لأولئك الذين، مثل جيمس ماديسون، المؤلف الرئيسي للدستور الأمريكي، يخشون شبح حكم الغوغاء، فإن الديمقراطية دون ليبرالية قد تؤدي إلى طغيان الأغلبية. وتُظهر الديمقراطيات اليونانية القديمة أن تصوّر الديمقراطية على أنها مجرد حكم الأغلبية هو خطأ. فالديمقراطية، حتى قبل أن تكون ديمقراطية ليبرالية، هي في الواقع أكثر من مجرد حكم الأغلبية.
اختزال الديمقراطية إلى حكم الأغلبية يبرر هيمنة النخب. كان أفلاطون، بخطته لـ"الملوك الفلاسفة"، من أوائل المدافعين عن هذا النخبوية، إذ كان يؤمن بأن الحكم الجيد يتطلب إبعاد معظم الناس عن المشاركة الفعالة في السياسة. كان هدف أفلاطون من حصر السلطة في أيدي قلة هو تعزيز الفضيلة. وفي العالم الحديث، هناك أيضًا منظّرون سياسيون مؤثرون، مثل الراحل رونالد دوركين، يجادلون بضرورة إبقاء الناس العاديين على الهامش باسم الدفاع عن القيم الأخلاقية الليبرالية مثل الاستقلالية، والحقوق، والعدالة التوزيعية.
ولكن، مهما كانت النوايا حسنة، فإن النهج النخبوي في الحكم يُعد خطيرًا (بالإضافة إلى كونه غير ديمقراطي) لأن الالتزام الأخلاقي وحده لا يكفي لتوجيه السلوك اليومي لمعظم الناس معظم الوقت. فالأخلاق الليبرالية وحدها لا يمكنها أن تخلق نظامًا اجتماعيًا مستقرًا قائمًا على الاختيارات الحرة للأفراد الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة. ولتحقيق الاستقرار الاجتماعي، تحتاج الليبرالية المعاصرة إلى أساس سياسي، إما ديمقراطي أو سلطوي.
هناك طريقتان للوصول إلى المعنى الجوهري للديمقراطية. الأولى، بالنظر إلى المجتمع اليوناني القديم الذي ابتكرها، حيث كانت تعني بالنسبة لهم سلطة هيئة واسعة من المواطنين لاتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات العامة. ولكن لماذا ينبغي لمواطني القرن الحادي والعشرين أن يهتموا بتصور مجموعة من الرجال الذين كانوا يملكون العبيد ويمنعون النساء والمهاجرين من المشاركة السياسية لماهية الديمقراطية؟ الإجابة هي أننا لا نزال نطمح إلى مفهومهم الأساسي للديمقراطية.
نشأت كلمة "الديمقراطية" في دولة المدينة أثينا بعد الثورة الأثينية عام 508 قبل الميلاد. في تلك الثورة، أطاح شعب أثينا بقائد سياسي مدعوم من قوى أجنبية كان قد نفى معارضيه وحاول فرض حكومة قمعية يسيطر عليها أعوانه. بعد الثورة، استدعى الأثينيون المنتصرون من المنفى زعيمهم المفضل، كليستينيس. أدرك كليستينيس أنه لم يكن ممكنًا العودة إلى الحكم عن طريق الطغاة أو التحالفات الضيقة من الأرستقراطيين. لقد أصبح شعب أثينا الآن المؤلف الجماعي والضامن لنظام دستوري جديد. لقد وضعت الثورة الشعب الأثيني على مسرح التاريخ.
أثبت النظام التجريبي الذي صممه كليستينيس في ظل ظروف الأزمة نجاحًا استثنائيًا. مع الحكومة الجديدة، صعدت أثينا إلى الصدارة في العالم اليوناني. وفر المواطنون من الطبقة العاملة، الذين حصلوا حديثًا على حقوقهم، قوات مسلحة كبيرة ومتحمسة. وصوّتوا لاستخدام الفوائض المالية لتحقيق أهداف عامة. وبفضل تخلصهم من الخوف من أن يستولي الطغاة على أرباح مبادراتهم، استثمر الأثينيون في مجتمعهم. ازدهرت الفنون والحرف، وازدهرت الصناعة والتجارة. تعاونت أثينا مع منافستها إسبرطة لهزيمة غزو هائل من قبل الإمبراطورية الفارسية القوية، ثم أنشأت إمبراطورية في بحر إيجه، ونجت من حرب كارثية مع إسبرطة، وساهمت في تحقيق نمو اقتصادي لليونان استمر لمدة قرنين. ساهم صعود الديمقراطية الأثينية وحيويتها في وضع الأساس الثقافي للحضارة الغربية.
كانت الحجة الأفضل، وليس الصوت الأعلى، هي التي كانت لديها فرصة جيدة للفوز .
أطلق الأثينيون على حكومتهم الجديدة اسم "الديمقراطية"، أو ديموقراطيا باللغة اليونانية، وهي تجمع بين ديموس ("الشعب") وكراتوس ("السلطة"). وبالتالي تعني الديمقراطية "سلطة الشعب"، ولكن تحديدًا ديموس بمعنى "جميع المواطنين"، وكراتوس بمعنى "القدرة على الفعل". أكد الاسم الجديد على كل من مثالية وواقعية. أولاً، أعلنت الكلمة أن المواطنين كجماعة، بدلاً من الطغاة أو مجموعة صغيرة من الأرستقراطيين، هم الأحق بحكم دولتهم: فالشعب هو السلطة العامة الأكثر شرعية. كما أكدت مثالية الديمقراطية على أن الشعب يتمتع بالقدرة الأخلاقية والفكرية على حكم أنفسهم. قد يكونون عرضة للخطأ، لكنهم قادرون على السعي لتحقيق المصالح العامة بطريقة عقلانية.
حكم الشعب نفسه من خلال استخدام المؤسسات الجديدة لحكومته الديمقراطية في صنع السياسات وتنفيذها، دون وجود حاكم أعلى. كان المواطنون من مختلف الطبقات الاجتماعية يناقشون قضايا السياسة العامة بأساليب تتسم بالتعاون والتنافس في آنٍ واحد. لقد جمعوا المعلومات والمعرفة لإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات. لم يكن الصوت الأعلى هو الذي يفوز، بل كانت الحجة الأقوى هي التي تحظى بفرصة جيدة للانتصار. في قرعة سنوية، كان الأثينيون يختارون 500 مواطن ليكونوا أعضاء في مجلس ديمقراطي. كان أعضاء المجلس يستشيرون الخبراء، ويناقشون السياسات، ويحددون جدول أعمال الاجتماعات المتكررة للجمعية العامة، التي كانت مفتوحة لجميع المواطنين. في عصر أرسطو، كان اجتماع الجمعية العامة النموذجي يجذب ما بين 6,000 إلى 8,000 مواطن يشاركون في التصويت.
لكن البعض استاء من قوة الشعب. فقد سخر الأرستقراطيون الساخطون، الغاضبون من فقدان احتكارهم السياسي، من الحكومة الجديدة باعتبارها هيمنة أغلبية تسعى إلى مصالحها الخاصة على أقلية متميزة من أصحاب الثراء والتعليم. تساءلوا: كيف يمكن لأشخاص عاديين—مزارعين، خزّافين، تجار تجزئة، صانعي أحذية—أن يفهموا أي شيء عن شؤون الدولة المهمة؟ وكيف يختلفون عن العبيد الكادحين؟ بالنسبة للأرستقراطيين الغاضبين، أصبح مصطلح ديموس مصطلحًا ازدرائيًا، مقتصرًا على المواطنين الذين كانوا مضطرين للعمل لكسب رزقهم. وبالنسبة للرافضين للديمقراطية، كانت الأغلبية من الطبقة العاملة تستحوذ بشكل غير مشروع على السلطة، التي كان ينبغي أن تظل في أيدي "القلة الممتازة"—أي الرجال الذين اعتقدوا أنهم الأحق بالحكم بسبب ثروتهم الفائقة، وتعليمهم، ونَسَبهم.
وبعد رفض الديمقراطية، ابتكر الأرستقراطيون اليونانيون خرافة مفادها أنها تعني في الواقع "طغيان الأغلبية بلا قانون". لكن مقارنة الديمقراطية بمصطلحات يونانية أخرى تشير إلى أنظمة الحكم (الأرستقراطية، والأوليجارشية، والملكية، وما إلى ذلك) تُظهر بوضوح أن الديمقراطية ظهرت في الأصل كمصطلح إيجابي، استخدمه أولئك الذين رأوا الدولة على أنها ملك مشترك لجميع المواطنين.
بالنسبة للديمقراطيين الأثينيين، كان الديموس يشمل جميع من يمكن تصوّر قدرتهم على ممارسة السلطة السياسية بنشاط داخل حدود الدولة. وفقًا للخيال الثقافي اليوناني القديم حول "من يمكن أن يكون مواطنًا"، كان المواطنون هم "الذكور الأحرار، البالغون (أكبر من 18 عامًا)، إما من مواليد البلاد أو ممن أثبتوا ولاءهم للدولة". وبالنظر إلى التاريخ، كان هذا التصور يُعد متقدمًا نسبيًا لأنه لم يشترط على المواطنين امتلاك ثروة أو مستوى تعليمي معين. ولم يكن هناك مستوى من الشمولية في المواطنة يضاهي ما حققته أثينا القديمة حتى عصر الثورات في القرن الثامن عشر.
بالطبع، في القرن الحادي والعشرين، يبدو التصور الثقافي اليوناني القديم لمن يمكن أن يكون مواطنًا مشاركًا محدودًا للغاية إلى درجة تجعله غير شرعي. فقد استُبعدت النساء والعبيد ومعظم المقيمين الأجانب في أراضي أثينا. ولهذا، يزعم بعض الباحثين في التاريخ اليوناني أن أثينا لم تكن ديمقراطية. لكن ما يقصدونه في الواقع هو أن أثينا لم تكن ديمقراطية ليبرالية، حيث لم يعترف الأثينيون بحقوق الإنسان للعبيد والنساء والمقيمين الأجانب لفترات طويلة. وبالفعل، لم تكن أثينا ديمقراطية ليبرالية، لكنها كانت ديمقراطية—بمعنى أنها كانت تُحكم من قبل مواطنيها.
لقد شهد أواخر القرن الخامس قبل الميلاد أهم تغيير دستوري في تاريخ الديمقراطية الأثينية. فقد تبنّى المواطنون الأثينيون، بعد فترة عصيبة من الحرب الخارجية والطاعون والحرب الأهلية، قواعد جديدة وضحت العلاقة بين المراسيم السياسية والمبادئ الأساسية للقانون الدستوري. جعلت هذه القواعد المراسيم التي تُصدرها الجمعية العامة للمواطنين خاضعة للطعن القانوني، بحيث يمكن إبطال أي مرسوم عبر المراجعة القانونية. ساعد هذا القيد على سلطة الديمقراطية المباشرة في استقرار المجتمع الأثيني بعد الحرب الأهلية، حيث ضمن أن الأغنياء والفقراء على حد سواء أعادوا التزامهم بالمشاركة في مجتمعهم. لم يكن هذا الإصلاح الديمقراطي انعكاسًا جذريًا من "طغيان الأغلبية" إلى "حكم القانون الدستوري"، بل كان تحسينًا للديمقراطية. في الواقع، وضع الأثينيون قيودًا على سلطة الجمعية العامة منذ بداية العصر الديمقراطي.
لا ينبغي للديمقراطية أن تكون حطام قطار الأغلبية
إن القاعدة التي تحكم ممارسة النفي توفر مثالاً واضحاً للحد من السلطة التشريعية للجمعية ـ وهو الحد الذي كان ديمقراطياً ولكن ليس ليبرالياً. ففي كل عام، كان الأثينيون يصوتون في اجتماع للجمعية على ما إذا كانوا سيعقدون عملية نفي. وعادة ما كانوا يصوتون بـ"لا". وفي خمس عشرة مناسبة معروفة، كانوا يصوتون بـ"نعم". ثم كانوا يعقدون اجتماعاً ثانياً، في الساحة العامة، حيث كان كل مواطن يحضر معه قطعة من الفخار (أوستراكون) يكتب عليها (أو يطلب من صديق متعلم أن يكتب) اسم الشخص الذي يرى أنه الأجدر بالنفي من أثينا لمدة عشر سنوات. وكان الشخص الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في هذا "التصويت على الأقل شعبية" يُنفى من المدينة. لم يكن هناك محاكمة ولا استئناف.
لقد انتهك النفي السياسي الحقوق الفردية التي أصبحت لاحقًا جوهر الليبرالية، لكنه كان ديمقراطيًا بلا شك، كما أن الأثينيين حددوا نطاقه بدقة. فقد قُيدت إمكانية إجراء النفي إلى مرة واحدة سنويًا، وكان التصويت على الشخص المنفي يتم فقط في الاجتماع الثاني. ومن خلال قانون النفي السياسي، قيد الأثينيون دستوريًا سلطتهم التشريعية مباشرة بعد ثورتهم الديمقراطية. جاءت الإصلاحات القانونية اللاحقة لتقنن وتوسع مبدأ تقييد السلطة التشريعية، وهو مبدأ كان موجودًا منذ البداية.
إن هذه النقطة مهمة لأن العديد من الناس اليوم يفترضون أن الحد من سلطة الحكومة هو ابتكار حديث ليبرالي صريح. ولكن هذا ليس صحيحاً. ذلك أن الديمقراطية غير الليبرالية قادرة على فرض القيود على نفسها. وبوسع المواطنين الديمقراطيين أن يختاروا حكم القانون كمبدأ دستوري، وبوسعهم أن يفعلوا ذلك دون استحضار الفكرة الغامضة القائلة بأن القوانين هي التي تحكم. والديمقراطية لا ينبغي لها أن تكون حطام قطار الأغلبية.
لقد قامت الديمقراطية الراسخة في اليونان القديمة على حكم ذاتي مشترك ومحدود يمارسه المواطنون. فهل لا يزال هذا هو جوهر الديمقراطية في عصرنا؟ يمكن تناول هذا السؤال من زاوية فلسفية. تخيّل مجتمعًا حديثًا واسع النطاق يعيش ضمن حدود دولة مستقلة؛ وليكن اسمه "ديموبوليس". يتميّز سكان ديموبوليس بتنوعهم الكبير؛ ففيهم الأغنياء والفقراء، وينتمون إلى أصول عرقية مختلفة. كما تتعدد توجهاتهم الفكرية؛ فبعضهم ليبراليون، وآخرون تحرريون، وهناك جمهوريون، فضلًا عن أتباع ديانات ومعتقدات شتى.
إن سكان ديموبوليس تحرّكهم مصالحهم الذاتية كما هو الحال لدى البشر عمومًا، وليسوا أكثر ميلًا للتعاون من غيرهم. ومع ذلك، فهم يتفقون على ثلاثة أمور أساسية:
1. تأسيس دولة مستقرة وآمنة.
2. تحقيق ازدهار يكفي لمنافسة الدول الأخرى.
3. ضمان عدم وقوع الحكم في قبضة فرد قوي أو تحالف مستبد.
كما يملك سكان ديموبوليس القدرة على وضع قواعد دستورية جديدة لدولتهم، لكن نجاح النظام الجديد مرهون بحصر هذه القواعد في نطاق يحظى بدعم فعلي من المجتمع المتنوع الذي يشكّل هذه الدولة.
لا يفترض واضعو دستور ديموبوليس أنهم يؤسسون نظامًا سيكون الأفضل عالميًا لجميع الشعوب في كل مكان. بل إنهم يسعون إلى إقامة حكومة تتيح لشعب ديموبوليس تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: الأمن، والازدهار، وعدم الوقوع تحت حكم استبدادي. سيدفع المواطنون بعض التكاليف على شكل وقت وضرائب ليعيشوا دون حاكم متسلط، لكنهم لا ينوون تكريس حياتهم بالكامل لإدارة الحكم. يتحمل واضعو دستور ديموبوليس الافتراضيون مسؤولية جماعية لوضع قواعد منطقية ومستدامة لأنفسهم وللأجيال القادمة. ويجب أن تُمكّن هذه القواعد المواطنين وذريتهم من فرض تلك القوانين، وتعديلها عند الضرورة. لذلك، يجب أن يكون المواطنون راغبين وقادرين على العمل المشترك ككيان جماعي.
ولكي يحقق أهل ديموبوليس أهدافهم الثلاثة، فإنهم يحتاجون إلى إرساء قواعد أساسية. وتتطلب القاعدة الأولى المشاركة في وضع القواعد وإنفاذها. ويعني شرط المشاركة أن كل الأشخاص الذين يتصورهم أهل الثقافة مواطنون محتملون هم مواطنون فعليون. ولأن هذا هو العصر الحديث، فإن هذا يشمل كل الرجال والنساء البالغين من السكان الأصليين، وبعض الأجانب المجنسين على الأقل. وتعني قاعدة المشاركة أيضاً أن الجميع يتقاسمون تكاليف الحكومة. ويتحمل كل المواطنين واجب المساعدة في وضع القواعد وإنفاذها. ويتحملون واجباً مماثلاً بمعاقبة أي شخص يفشل في أداء واجب المشاركة. وقاعدة المشاركة ضرورية للحد من الانتفاع المجاني. فكل مواطن، بقدر ما يهتم بمصلحته الذاتية على نحو عقلاني، يستطيع أن يختار التمتع بسلع الأمن والرخاء وعدم الاستبداد دون المساهمة في الجهود المبذولة للحفاظ عليها. ولكن الدولة لن تظل آمنة ومزدهرة لفترة طويلة إذا ما حاصرها المنتفعون المجانيون.
إن القاعدة الثانية تتعلق بكيفية اتخاذ القرارات. إن عدم الاستبداد يعني أنه لا يمكن لأي فصيل محدد من الشعب أن يحكم بشكل شرعي، باعتباره مستبداً جماعياً، على بقية الشعب. إن المشاركة بالإضافة إلى عدم الاستبداد تعني أن كل مواطن لابد وأن يتمتع بحق التصويت المتساوي، وأن تتاح له فرصة متساوية للمشاركة في وضع التشريعات وتولي أي أدوار سياسية أخرى تنشأ في سياق إرساء القواعد. وعلاوة على ذلك، لابد وأن تهدف السياسة التشريعية ليس فقط إلى عدم الاستبداد، بل وأيضاً إلى الكفاءة. وإذا كان لها أن تحقق غاية الأمن في بيئة خطيرة وقابلة للتغيير، فلابد وأن تكون القرارات التي يتخذها المواطنون أفضل من الاختيارات العشوائية. ومن أجل اتخاذ قرارات أفضل، فإن المواطنين يحتاجون أيضاً إلى حرية الفكر والتعبير والتجمع.
إن القاعدة الثالثة تفرض حدوداً على السلطة الجماعية: إذ يتعين على العملية التشريعية وصنع السياسات أن تقيد قدرة المواطنين الجماعية على وضع قواعد تهدد المساواة الوظيفية أو حرية المواطنين. والواقع أن الحماية القوية ضرورية لأن الحرية السياسية والمساواة المدنية ضرورية لتأمين الأغراض الأساسية التي توجد الدولة من أجلها. ولأن المواطنين يتفقون على أنهم يريدون دولة آمنة ومزدهرة وغير طاغية، فإن المواطنين ـ بوصفهم مشرعين ـ يدركون أنه لا يجوز لهم وضع أي قاعدة من شأنها أن تجعل الدولة غير آمنة أو فقيرة أو استبدادية. وباختصار، لابد أن تفي القواعد بمعيار دستوري: فلابد وأن تكون القاعدة التي تحظر التشريعات التي تهدد الغايات الثلاث المتمثلة في الأمن والرخاء وعدم الطغيان راسخة قانونياً ومطبقة.
إن الميل الحديث إلى خلط الديمقراطية بالليبرالية جعل من الصعب تنفيذ نظام ديمقراطي ناجح دون أن يكون ليبراليا .
إن القواعد الأساسية الثلاث ــ التي تتطلب المشاركة في وضع القواعد وإنفاذها، ووضع الإجراءات اللازمة لاتخاذ القرارات المشتركة والفعّالة، ومنع التشريعات التي من شأنها أن تهدد الظروف اللازمة لاتخاذ القرارات وتنفيذها ــ تفضي إلى حكومة أساسية للمدينة الشعبية الخيالية. وتتمتع هذه الحكومة بسمات جوهرية مماثلة لتلك التي تميزت بها الديمقراطية اليونانية القديمة: الحكم الذاتي الجماعي والمحدود من قِبَل هيئة كبيرة ومتنوعة من المواطنين الأحرار والمتساوين سياسياً. وهذه الحكومة ليست ليبرالية بالمعنى المعاصر الذي يضمن حقوق الإنسان العالمية، ولكنها ليست أيضاً طغياناً أغلبياً. بل إنها في واقع الأمر ديمقراطية.
إن ديموبوليس مجرد تجربة فكرية، لكنها تمتلك نظائر قريبة في العالم الحقيقي. فعلى مدار الربع قرن الماضي، سعى كثيرون إلى إنشاء حكومات دولة جديدة تكون غير استبدادية، آمنة، ومزدهرة – كما شهدنا في الربيع العربي والثورات الملونة في أوروبا الشرقية. وكما فعل الأثينيون القدماء ومواطنو ديموبوليس الخيالية، كانت هذه الحركات تسعى إلى الديمقراطية باعتبارها حكمًا ذاتيًا جماعيًا، لكن ليس جميعها تبنّى الليبرالية. وبالنسبة لبعض الليبراليين، يُنظر إلى ذلك على أنه فشل أخلاقي. ومع ذلك، فإن الفوضى والاستبداد اللذين أعقبا كثيرًا من التحولات الديمقراطية المفترضة يشيران إلى فشل سياسي أعمق. ويمكن أن يُعزى هذا الفشل جزئياً إلى حقيقة مفادها أن الديمقراطية الأساسية، من دون الليبرالية، لم تكن قط على قائمة السياسة الدولية.
هناك أسباب عديدة لعدم نجاح الربيع العربي والحركات الثورية الحديثة الأخرى في إقامة دول مستقرة، مزدهرة، وغير استبدادية. لكن الميل الحديث إلى الخلط بين الديمقراطية والليبرالية جعل من الصعب تطبيق نظام ديمقراطي ناجح لكنه غير ليبرالي. مثل هذا النظام قد لا يرقى إلى تطلعات الليبراليين الديمقراطيين، حيث إنه: قد لا يدعم حقوق الإنسان،وقد يفرض الامتثال الديني،و قد لا يوزع الموارد المادية بعدالة. ومع ذلك، يمكن للنظام الديمقراطي غير الليبرالي أن يكون مستقرًا، دون أن يتحول بالضرورة إلى طغيان الأغلبية. فهو يجب أن يضمن المساواة السياسية إلى جانب الحد الأدنى من الحريات السياسية الأساسية للمواطنين. عندما يكون الخيار بين الاستبداد القمعي أو الفوضى، تظل الديمقراطية – بوصفها حكمًا ذاتيًا جماعيًا – هدفًا يستحق السعي إليه. بل إن الديمقراطية قد تكون أساسًا متينًا للنظام السياسي، وربما تمهد الطريق نحو الديمقراطية الليبرالية في المستقبل.
تقدّم الديمقراطية والليبرالية سماتٍ جديرة بالتقدير للمجتمع الحديث، لكن لا يجب الاستخفاف بالصعوبة التي ترافق الحفاظ على الحكم الذاتي الجماعي للمواطنين مع حماية الحقوق الليبرالية وتعزيزها. تظهر هذه الصعوبة بوضوح في الولايات المتحدة خلال القرن الحادي والعشرين، حيث تواجه البلاد تحديات الإرهاب العالمي والمحلي، والاستقطاب السياسي، وأشكال التمييز القديمة والجديدة، وصراعات الهوية الجماعية، والتفاوت الاقتصادي المتزايد. تتحسن آفاق الديمقراطية والليبرالية، محليًا ودوليًا، عندما يدرك الناس الفرق بينهما.
(انتهى)
***
...........................
الكاتب: جوزيه أوبر/Josiah Ober: أستاذ العلوم السياسية والدراسات الكلاسيكية في جامعة ستانفورد. أحدث كتاب له هو "صعود وسقوط اليونان الكلاسيكية" (2015).

 

قبل عام وفي شهر شباط/ فبراير تحديدًا (2024)، لبّيتُ دعوةً من كرسي اليونسكو في جامعة الموصل لإلقاء محاضرة عن "الإرهاب والأمن التعليمي"، وحينها كانت الموصل قد أخذت تتعافى من الإرهاب الداعشي (2014 - 2017)، وتفيض إبداعًا وجمالًا.
اليوم العالمي لمنع التطرّف العنيف
لعلّه من "وحي" إرهاب داعش ووحشيته، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في العام 2016 (الدورة 77 رقم 243)، يقضي بالاحتفال ﺑ "اليوم العالمي لمنع التطرّف العنيف"، وهكذا أصبح يوم 12 شباط / فبراير من كل عام مناسبة لمراجعة الإجراءات والتدابير المتّبعة من جانب الحكومات والمنظمات الدولية، وما تحقّق على هذا الصعيد لمنع التطرّف العنيف وما لم يتحقّق، ولاسيّما في مجال التعليم والتربية، أي الخلفية الثقافية والفكرية المتعلّقة بالتطرّف والعنف.
وتوقّفتُ وأنا أتناول الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لظاهرة التطرّف عند الفظاعات التي شهدتها هذه المدينة العزيزة، والتي تحتاج إلى خيال حسب جيرارد جينيت، المفكّر الفرنسي وأحد أبرز أعلام النقد البنيوي؛ وبالفعل فإن ما حصل في الموصل يحتاج إلى خيال خصب كي يمكن تصوّر كيف استطاع أهلها تجاوز تلك المحن والعذابات والآلام، وهي ذاتها التي عاشها الكرد والإيزيديون والمسيحيون وسائر المجموعات الثقافية الإثنية والدينية خلال عمليات التطهير والعسف التي تعرضوا لها، وهو ذاته ما عاناه أهل فلسطين عمومًا وغزة خصوصًا خلال حرب الإبادة الأخيرة.
تعريف الإرهاب
على الرغم من أن مصطلحات مثل التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب والإرهاب الدولي متداولة منذ عقود من السنوات، إلّا أن ثمة اختلافات في تفسيراتها وتأويلاتها، تبعًا للأغراض الأيديولوجية والمصالح السياسية لكل جهة أو فريق، خصوصًا في ظل غياب تعريف مانع جامع، إذْ هناك ثمة ترابط لدرجة الانشباك أحيانًا بين هذه المصطلحات، ومع ذلك فالأمم المتحدة عجزت عن التوصل إلى توافق دولي بشأن تعريف الإرهاب، مثل ما عجزت قبلها عصبة الأمم منذ العام 1933 وما بعد تأسيس الأمم المتحدة، وتحديدًا إلى العام 1974، من إيجاد تعريف للعدوان.
والأمر لا يتعلّق بصعوبة التوصّل إلى تعريف للإرهاب، الذي ظلَّ مطروحًا في أروقتها منذ تأسيسها وإلى اليوم، بل لتعارض المصالح السياسية للقوى المتنفّذة في العلاقات الدولية. وما بين العام 1963 والعام 2001 صدر نحو 13 قرارًا دوليًا (تصريحًا أو اتفاقيةً)، ولكنها جميعها لم يتم فيها وضع تعريف للإرهاب الدولي، سواءً في فترة الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين أم ما بعدها.
وبعد أحداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001 الإرهابية الإجرامية، صدرت ثلاث قرارات دولية، لكنها لم تحدّد ماهية الإرهاب الدولي بوضع تعريف متّفقٌ عليه، على الرغم من أن هذه القرارات وصّفت الحالة، وكانت هذه القرارات قد صدرت إثر الهجوم الذي قام به تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن على برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون.
وكان القرار الأول برقم 1368 قد صدر في 12 أيلول/ سبتمبر 2001 أدان العمل الإرهابي، أما القرار الثاني فهو القرار رقم 1373 الذي صدر في 28 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه (2001)، ويُعتبر من أخطر القرارات التي اتخذتها المنظمة الدولية، ففيه عودة للقانون الدولي التقليدي، الذي كان يجيز" الحق في الحرب"، حيث أعطى الحق في شنّ "الحرب الوقائية" أو "الحرب الاستباقية" إذا كان ثمة خطر وشيك الوقوع أو محتمل من جانب القوى الإرهابية، فمن حق الدول شنّ الحرب حماية لمصالحها الحيوية وأمنها القومي، كما كانت قواعد القانون الدولي التقليدي تبرر ذلك، وبالطبع فإن ذلك عمليًا يقتصر على الدول المتسيّدة في العلاقات الدولية.
أما القرار الثالث، فهو القرار 1390، الذي صدر في 16 كانون الثاني / يناير 2002، وفرض عقوبات على الدول التي تمتنع عن الانخراط في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.
داعش ودزينة القرارات الدولية
بعد احتلال داعش للموصل (10 حزيران/ يونيو 2014) وتهديدها أربيل وإقليم كردستان، وتمدّدها باحتلال نحو ثلث الاراضي العراقية (محافظتا الأنبار وصلاح الدين وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى) ، صدرت أربع قرارات دولية مهمة هي:
القرار رقم 2170 في 15 آب/ أغسطس 2014، الذي قضى بإدانة التطرّف، واعتبر عمل داعش الإرهابي تهديدًا للسلم والأمن الدوليين.
القرار رقم 2178، الذي صدر في 24 أيلول/ سبتمبر 2014 ودعا إلى إدانة التطرّف والعنف.
القرار رقم 2185، الذي صدر في 20 تشرين الأول/ نوفمبر 2014.
وكان القرار رقم 2195 الذي صدر في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2014، قد دعا لعمل جماعي لمواجهة داعش.
محو الذاكرة
لعلّ أول ما استهدفه الإرهاب وتنظيم داعش هو تغيير منظومة التعليم، منهجًا ووسائلًا، وضخّ ثقافة متعصّبة ومتطرّفة باستخدام الترغيب والترهيب، عبر شعارات إسلاموية، والهدف هو محاولة خلق وعي ثقافي أحادي لا يقبل الآخر ولا يعترف بالحق في الاختلاف، بل يسعى لتأثيمه وتحريمه وتجريمه.
وقد استهدف داعش فئة الشباب بشكل عام والناشئة بشكل خاص، حيث أقدم على تغيير المناهج الدراسية والتربوية، وكان قصده محو الذاكرة بما يتجاوز الإرهاب الفيزيولوجي ليمتد إلى الإرهاب الفكري، خصوصًا بمحاولة غسل الأدمغة، وهو ما حاولت أنظمة وتجارب أخرى تطبيقه، سواءً كانت تلك نازية أم فاشية أم اشتراكية متطرّفة باسم الطبقة العاملة وجمهور الكادحين، وملحقاتها اشتراكيات قوميّة باسم توحيد الأمة العربية وتحرير فلسطين، كما كانت في العراق وسوريا أو غيرها من التجارب العالمثالثية.
وبغض النظر عن تخلّف تلك المحاولات الداعشية وأخواتها، فإن تجارب أخرى شهدتها أوروبا لتغيير مناهج أو ذاكرة شعوب وقعت تحت الاحتلال، والعنوان هو واحد، عدم الإقرار بالتنوّع ورفض التعدّدية والتمسك بالتفسير الشمولي الإطلاقي.
ونستعيد هنا سؤال الزعيم الفرنسي شارل ديغول لمرافقيه، وهو يتوجّه بجيشه لتحرير فرنسا، وماذا عن التعليم؟ فقيل له أنه بخير، حيث كانت جامعة السوربون العريقة، والتي تمثّل رأس رمح في المقاومة الثقافية، تقوم بمناقشة الأطاريح في الأقبية، ويتلقى الطلبة دروسهم ويقومون ببحوثهم في أجواء من السرية والكتمان كجزء من مواجهة الاحتلال الألماني.
والسؤال هو ذاته الذي وجّهه الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، في الوقت الذي كانت الطائرات الألمانية النازية تدكّ لندن، مسقطةً قنابلها فوق رؤوس ساكنيها، وحين تلقّى جوابًا إيجابيًا عن انتظام التعليم وممارسة الجامعات لدورها، هتف من أعماقه: إذًا بريطانيا بخير.
شهادات حية
كنت قد استمعت إلى شهادات وقصص وحكايات من أساتذة جامعيين من الموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك، وجميعها كانت تصبُّ في المقاومة السلمية اللّاعنفية المدنية، حتى بعد احتلال داعش دور العلم، حيث كانت العقوبات الغليظة والصارمة، والتي تصل إلى الموت أحيانًا، تخيّم فوق رؤوس الجميع.
بعض الأساتذة فضّل ترك الجامعات والبقاء في منازلهم، ولم يغادروها طيلة فترة الاحتلال الداعشي، والبعض الآخر عبّر عن ممانعته بطرق مختلفة، حتى وإن كان المعلن يختلف عن المُضمر، علمًا بأن داعش حاول إيجاد بيئة حاضنة وأخرى مستعدّة وثالثة مولّدة لأفكاره، لكنه لم يتمكّن فرض هيمنته على العقول والإرادات، على الرغم من أجواء الإرهاب والرعب التي أشاعها. الجدير بالذكر أن وضع الأستاذات الجامعيات كان أكثر صعوبةً وتعقيدًا، فالاضطهاد كان مزدوجًا، أولًا لكونهنّ نساء؛ وثانيًا عليهنّ الانصياع للمنهج الداعشي.
الانتقام من التاريخ
وكي يتم محو الذاكرة الجماعية، فقد تم نحر الثور المجنح في بوابة نركال رمز حضارة الآشوريين، وتدمير مدينة نمرود وتجريف آثارها التي تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وكان قد بناها الملك الأشوري شليمنصر وتدعى "كالحو"، وطالت يد التخريب مدينة الحضر وجامع النبي شيت وجامع النوري ومنارة الحدباء، وعشرات الجوامع والكنائس والمراقد والأديرة.
لم يكن ذلك ليحدث لولا التعصّب الذي استحوذ على عقول البعض، فأنجب التطرّف، وهذا الأخير هو ابن التعصّب، وحين يصير التطرّف سلوكًا يتحول إلى عنف، والعنف حين يضرب عشوائيًا يصبح إرهابًا، وعندما يكون عابرًا للحدود يدعى إرهابًا دوليًا، خصوصًا حين يستهدف إضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة، وإضعاف ثقة الدولة بنفسها، وبالطبع إضعاف ثقة المجتمع الدولي بقدرة الدولة على مواجهة الإرهاب.
مقاربة سيسيوثقافية
وتحتاج مكافحة الإرهاب إلى مقاربة سيسيوثقافية وحقوقية تجمع في جنباتها البحث في أسباب التعصّب الديني والطائفي والقومي العنصري الاستعلائي، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ارتباطًا بالأمن التعليمي بشكل خاص والأمن الإنساني بشكل عام.
التطرّف هو من نسل التعصّب. ليس كلّ متعصّب هو متطرّف، إلّا إذا انتقل التعصّب من التفكير إلى التنفيذ، حينذاك يصبح تطرّفًا. وهكذا فكلّ متطرّف هو متعصّب بالضرورة، سواءً كان لأسباب قومية أم دينية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم غيرها، ويمكن أن يكون المتعصّب إسلاميًا، كما يمكن أن يكون علمانيًا، لأن المتعصّب يعتقد أنه يمتلك الحقيقة والأفضلية على الآخر، فأينما يتّجه أو يميل تتجّه وتميل معه، ويصبح مثل هذا التفكير خطرًا حين يصير سلوكًا مهيمنًا على شخص أو جماعة متطرّفة، فيؤدي تحت ذات المسوغات الافتراضية إلى العنف، بل حتى إلى ارتكاب الجرائم، لأنها ستكون مبرّرة. وثمة تجارب مارست فيها الانظمة الاشتراكية والقومية مثل هذه الأعمال، كما مارستها أنظمة وجماعات إسلامية تعطي لنفسها مثل هذا الحق، وتحت ذات المبرّرات.
ثلاث أدوار لمواجهة الإرهاب
ولمواجهة الإرهاب لابدّ من خطاب جديد، فليس الخطاب الأمني وحده كافيًا، بل لابدّ من خطاب فكري وثقافي مقنع، كما يمكن للجبهة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى الجبهة القانونية والقضائية، مثل ما هي الجبهة الدينية والمدنية، أن تلعب دورًا مهمًا في مكافحة التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب، وبالطبع ستكون المعركة الإعلامية واسعة ومتنوعة في ظلّ اقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، وتحتاج إلى خطاب وسطي اعتدالي سلمي بنشر قيم التسامح واللّاعنف عبر ثلاثة أدوار؛
الأول - الدور الوقائي، ولعلّ مقولة "درهم وقاية خير من قنطار علاج" تنطبق على موضوع محاربة التعصّب وتداخله مع التطرّف والعنف والإرهاب، وهذا يحتاج إلى بيئة آمنة توفّر الحدّ الأدنى من احترام الإنسان وحقوقه، فضلًا عن محاربة الفساد، الوجه الآخر للإرهاب، والذي يسهّل الجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات وتجارة الأسلحة والأعضاء البشرية؛
والثاني - الدور الحمائي، أي الحماية من العمل الإرهابي قبل وقوعه عبر معلومات استخبارية وتحريّات أمنية وإنذارات مبكّرة، فضلًا عن الاعتماد على وعي المواطن، ولا بدّ هنا من الاهتمام بالشباب وتوفير فرص لهم لممارسة هواياتهم والتمتّع بأوقات فراغهم وتعزيز ثقافة السلام والتعاون والتضامن والتسامح وحكم القانون، بعيدًا عن ثلاثية الظلام التي تُنتج الإرهاب؛
والثالث - الدور العلاجي، وذلك برعاية ضحايا الإرهاب، الذي أساسه التعصّب والتطرّف بهدف تأهيلهم، فضلًا عن بعض المتورطين بالإرهاب، والذين هم وجه آخر للضحايا بحكم الظلم الاجتماعي، لدمجهم بالمجتمع عبر مناهج تعليمية علمية وعملية حديثة.
إرهابان لا يبنيان وطنًا
إن محاربة التطرّف ليست بالتطرّف المضاد، بل بقرع الحجة بالحجة ومواجهة الفكرة بالفكرة ودحض الرأي بالرأي، فضلًا عن ذلك توفير بيئة تقبل الآخر وتقرّ بالتنوّع وتحترم التعدّدية، فعنفان لا يولدان سلامًا، وتعصبان لا يولدان تسامحًا، وظلمان لا ينتجان عدالة وإرهابان لا يبنيان وطنًا.
والأمر يتطلّب الاستثمار في التعليم لتنمية الوعي ومحاربة الجهل والتخلف، وتأمين الحقوق الأساسية، ونشر ثقافة المواطنة التي تقوم على الحريّة والمساواة والعدالة، لاسيّما الاجتماعية وإن بحدّها الأدنى والشراكة والمشاركة، فنحن شركاء في الوطن وينبغي أن نكون شركاء باتخاذ القرار.
***
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر

غدت الحروب متلازمة كالحتميات لتاريخ البشرية، وجزء من طبيعتها، كأسلوب حياة مستدام، اضفت عليها المعتقدات الدينية والدنيوية قداسة تحلل انبثاقها وتحرم تجريمها، مثلها مثل ابغض الحلال عند الله، وكأن الحروب قد كتبت على الجميع دون إستثناء، وقد وضعت ضوابط لجعل ايقاعها مستساغا، بما هو واقع تاريخي لا مفر من التعاطي مع تكراره المزمن!
فجرائم الحرب لا تجرم الحرب نفسها إنما التمادي غير المبرر في تفاصيل سيرها، وبعد ان يكون المنتصر قد حقق مبتغاه في النيل من خصمه المنكسر، وعادة ما يكون المنتصرون فيها من يتحكم في اطلاق الاحكام عليها ثم استشراع ما يناسبهم من اعراف وقوانين، فالقوانين الدولية، ومحكمة العدل الدولية، والاجواء والاجراءات الايجابية التي برزت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر، قد ارست نوع من النزوع نحو توازن الاقوياء النوويين، والذي سمح للضعفاء، والمتشبثين بالسلام المبني على العدل، ان ينتزعوا من خلال منظمة الامم المتحدة الكثير من التشريعات والقوانين والتعاريف التمييزية متعددة الاطراف للحد من استسهال الجنوح للحروب بدل الحوار وحل الخلافات بالطرق السلمية!
بعد الحرب العالمية الاولى قامت منظمة عصبة الامم، وجرى تجاوزها بعد ان تجاوزتها الحرب العالمية الثانية فقامت على اطلالها منظمة الامم المتحدة، والآن يشهد العالم مرحلة انتقالية تراكمت شواهدها منذ ايام الحرب الباردة وانبثاق الاحلاف العسكرية الكبرى، حلف وارسو وحلف شمال الاطلسي، الناتو، ثم انحلال الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين 1989، وما تلاه من ارتدادات جيوسياسية، ادت الى توسع حلف الناتو، مع إستبقاء عقيدته في احتواء اوروبا الشرقية وعزل روسيا، وهذا ما انعش من جديد النفس التوتري في اوروبا، فمحاولة روسيا لترميم حدودها المتداخلة مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق اصطدم بصد غربي متكالب، صب الزيت على نار الازمة الاوكرانية الروسية، وعندما جاء ترامب قرر اصلاح المعادلة لانها ستؤدي الى قيام تحالف راسخ بين روسيا والصين العدو الاول والمنافس الاجدر والاخطر لامريكا وقطبها الاوحد والمهدد بالافول، وبدلا من ان تتصرف اوروبا الغربية باستقلالية وتبني علاقة متكافئة مع روسيا، صابتها هستيريا القاصرين، الخائفين، حتى اصبحوا دعاة حرب لا افق لها، غير كسر الروس والانتصار عليهم حتى آخر اوكراني!
إستعباد حداثي!
في حروب القرون ما قبل الراسمالية، كان استعباد المسبيين والاسرى امر معتاد، وبعد سيادة مجتمع الحداثة الراسمالي اصبحت للظاهرة الكولونيالية سمة استعباد لشعوب باكملها بعد ان تستعمرها وتتلاعب بمصائرها، فالعبيد الذين استجلبهم الاوروبيين من افريقيا اثناء المرحلة الاستعمارية الاولى كانوا وقودا لاعمار العالم الجديد، امريكا، بعد حروب ابادة الاقوام صاحبة هذا العالم، اي ان الراسمالية الغربية المتوحشة مارست سياسة الاستعباد الحداثي المزدوج، عندما استولت على ارض الهنود الحمر، وعندما استجلبت الافارقة ليعملوا كعبيد في تلك الارض، ويتحول الاستعباد من شكله الاولي الذي يملك فيه السيد حق التصرف بعبده ونسله حتى الموت، علاوة على حق عرضه للبيع والشراء في اسواق النخاسة الى الشكل الثاني الكولونيالي الى الشكل الثالث الذي يجعل من مجتمعات باكملها تتمتع بحريتها الشخصية لكنها خاضعة لتقسيم عمل دولي يجعلها في موقع المفعول به وعلى طول خط السير انتاجا وتوزيعا وعرضا وطلبا!
الحروب سياسة بوسائل عنيفة!
تعرف السياسة بانها فن الممكن، واذا كانت الحرب هي سياسة في الاصل فانها حتما فن له كامل اركان الممكنات، مادامت العقلية الاولى، بوحشيتها وبربريتها، هي الممكن الوحيد لعقلية مدنيتها القائمة!
يتبع الجزء الرابع
*** 

 جمال محمد تقي

 

 

لم يسبق لفكرة الخالق، او "الله"، واكتشافها كضرورة وجودية نوعية مجتمعية ان نوقشت من قبل ضمن سياقات تشكل التعبيرية اللاارضوية، ومستوى الجهد الهائل، ودرجة العبقرية العقلية التي اقتضتها بدلا للارضوية وسبابها الكيانيه الحاجاتيه والبشرية التي اليها تعود التشكليات الكيانيه، مقابل الكيانيه الكونية مافوق، والمتعدية للكيانيه كجغرافيا وكائن بشري، ماكان يستوجب حضور قوة عليا، تجرد الارض من كل اشكال الحضور، او السلطة، او الكيانيه المعروفة، واضعه اياها بعهدة السماء والقوة الخارقة الاعلى، ومتخلصة بهذا من قوة فعل الارضوية الغالبة وجبروتها في حينه، في وقت ماتزال التحققية اللاارضوية مؤجله الى زمن وطور اخر،لم تتوفر اسبابه بعد.
ولنتخيل اليوم كيف واجه العقل الرافديني السومري الاول مسالة (ارض اللاارضوية الكونية العليا)، ومالذي استوجبته في حينه من بنائية شاملة لوجود مجتمعي اخر غير مرئي، موضعه السماء، مع كل مرويته الوجودية، وقصص الخليقة الاولى على الارض، "وادم" الاب الاعلى للكائن الموجود لكي يعمر الارض، وموجبات الكينونه اللاارضوية اليومية السلوكية الموافقه لاحكام السماء، ومايترتب عليها من حساب قادم بعد الموت، حيث العالم الاخر، مايرتفع بالكائن البشري من الارض ليرهن وجوده بكينونة اخرى، وبنهاية وحصيلة مقررة ينتهي عندها الوجود على الكوكب الارضي، ليبدا زمن مافوق الارض، بما جعل الوجود البشري على امتداد التاريخ ازدواجيا، ممتنعا على الغلبة الكلية الارضوية، برغم ملموسيتها وفعلها الحي اليومي الحاجاتي المباشر.
مع ذلك فان هذا الجانب لايلقى اي توقف او مجرد تلبث، حين ينظر الى المجتمعية كظاهرة مع اولى تبلوراتها، فالاركولوجيا الاوربية المتاخرة همها الاول والاخير هو الجانب الارضوي، والبحث عن اللقى والاثار، وما يسمى الوثائق، مع انها ان اكتملت تشكلا لاتمثل الجانب الاساس، فلا يتبقى مهما جرى على يد "الباحثين" وعلومهم، سوى الجانب المبسط المعاش من الوجود المجتمعي من دون منطواه السماوي، الذي يعامل ببداهة على انه مشمول من ضمن الظاهرة الوحيده المجتمعية الارضوية، قد تقتضيها اسباب متعلقة بنواقص الكينونة البشرية.
ان مايذهل لهذه الجهه دلالة على قصورية العقل الارضوي، النكوص امام المنجز العبقري النبوي كفعل فوق ارضوي، من قبل اشخاص من نوع المسيح عيسى او محمد، الاول بظل الامبراطورية الرومانيه، واختراقه لها اعزلا بلا سلاح ولاجيش وحتى من دون اب،مع مع تحقيقة الاختراقية المجتمعية اللاارضوية باستمراره وجودا "حيا" الى اليوم بين تضاعيف جزء هام من المعمورة، بعد الفي عام، او محمد الامي القابع في اخر العالم واكثره " تخلفا"، والمخنوق بحضور فارس وروما هو وقبائل الجزيرة المازومة، ليخرج من ارضه بمائتي الف محارب من الحفاة، فيصل الصين والهند وغربا الى اسبانيا في عشرين عاما وهو مالم يعرف له مثيل ارضوي، ليبقى حيا حيث وصل الى اليوم، بينما ماركس ونظريته الحداثوية الطبقية لم تدم اكثر من قرن ونصف حتى انهارت، وصارت من الماضي، برغم العلمية والديالكتيك وماديته التاريخيه، ما يضعنا امام نوعين من الفعل والعبقرية، احدهما اني محدود خاضع للملموس وحركته وتقلباته، واخر كوني فوق ارضي قابع في الدواخل البشرية، متعد فعالية للفعل الارضي الامبراطوري والعقلي بما لا يقاس ولا يقارن.
عالمان ومجتمعيتان، عدم الاعتراف بثنائتهما المتلازمه هو غمط للاثنين، واسقاط للحقيقة المجتمعية الواقعية بكليتها، مهما يكن النزوع الارضي المادي الاحادي العياني للغلبة المطلقة والواحدية الداله على القصور الادراكي، ونقص الطاقة العقلية، المستفيده مؤخرا ومنذ الختام النبوي قبل الف واربعمائة عام، من الانحطاطية الشاملة على الصعيدين الارضوي واللاارضوي في الموضع الذي عرف ابتداء وقبل غيره، التاسيسات الاولى للازدواج المجتمعي، فلم يبق من اللاارضوية وتعبيريتها غير الفقه والتكرار وقائعا واقوالا تعداها الزمن مع اعلان الختام، فالنبي محمد الذي اعلن كونه الختام النبوي، انما كان وقتها يبلغ العالم عن دخول اللاارضوية طورا اخر غير النبوة والحدس الالهامي، مايستوجب نوعا اخر من التعبيرية، وليس اجترار والامساك بتلابيب ماقد انتهت فعاليته.
هنا يتمثل التحدي الاكبر الوجودي التاريخي الكوني المنتظر، خلافا لما قد ساد الى اليوم من مفاهيم التماهي مع الغرب، ومحاولة الحاق المنطقة بالمفاهيم والنموذجية الغربيه، الامر المتعدي كليا للغرب وماهو محكوم به، بالاخص مع الانقلابية الاليه منذ حلولها هناك بصيغتها الافتتاحية الاولية المصنعية، وماقد تسببت به من انقلابيه عقلية وعلمية على المستويات المختلفة ارضويا، وبما يبقي مفعول الاله ضمن ذات المقاصد اليدوية الارضوية السابقة، في الوقت الذي تتوفر فيه اليوم ومع الانقلاب الالي نفسه، اسباب الانتقال اللاارضوي تعبيرا ونظرا انقلابيا مابعد نبوي حدسي، مرتكزه الادراكية العليّة اي العقلانيه اللاارضوية.
فالاله ليست صيغه واحده نهائية، بل هي محكومة بالتغير والتحور، من مصنعية الى التكنولوجية الانتاجية الحالية، الى التكنولوجيا العقلية العليا، اي هي قوة تامين اسباب الانتقالية اللاارضوية، وليس اقامه المصانع وصناعة السيارات والطائرات، وهذا يستوجب ان يرى اللاارضويون بانهم ذاهبون وشيكا الى الاكوان العليا، وان الوجود على الارض هو حالة مؤقته انتقالية مابين "الانسايوان" المزدوج الكينونه (جسد/ عقلي)، الى الانسان / العقل، الذاهب للانفصال عن الجسد، واخر متبقيات الحيوانيه الباقية عالقة به وحاملته، وهذا ماكان يعنيه من مثلوا اللاارضوية وانبيائها العظام الكبار، وعباقرتها عن زمن التحقق، وان التكنولوجيا العليا هي الثورة الاليه بالمنظور اللاارضوي، حيث الاكتمال والوصول الى المبتغى منها، ومن حصولها في الطرف الثاني من المتوسط، بصفتها ثورة عقلية اخرى، تنهي متبقيات الارضوية المستمرة حتى بعد انبجاس الاله ومانتج عنها من توهمية حداثوية خضعة لهيمنه العقل اليدوي الموروث الراسخ، كان لها ان ظهرت بين تضاعيف مجتمعية ارضوية عالية الديناميات بسبب ازدواجيتها الطبقية.
ثمة جهد هائل وخارق ينتظر العقل اللاارضوي من هنا فصاعدا، لامثيل له ولاسابق، هو مايمثل بعد اليوم الحقيقة التحولية البشرية والانقلابية المتعدية للارضوية والجسدية، مع متبقياتها السائرة للزوال، مثل الموت الجسدي، والحاجاتيه، وكل اشكال الكيانيه الموضعية ونظمها الراهنه، واليدوية المنتهية الصلاحية، الامر الذي سيحتاج الى مالا يمكن الان وصفه من الجهد والعمل الخلاق اللائق بالعقل اللاارضوي المتعدي للقدرات الارضوية المعروفه بسنين ضوئية، وان قوبل بكل الرفض الذي يمكن تخيله او من المستحيل تخيله.
ايها الكائن البشري، انت ذاهب الى العالم الاخر، تلك هي مهمتك التي عليك تحقيقها من الان فصاعدا، بغض النظر عن، وبرغم كل القصورات التي تعاني منها، مع غيرها من المتبقيات الارضوية المانعه، بالاخص لان الاحتمالية تقول بان الشرق الاوسط سيكون هو البؤرة الانتقالية التحولية العظمى كما كان ابتداء، والا فان المتبقي على مستوى المعمورة خيارا في نهاية المطاف، هو الفناء.
***
عبد الأمير الركابي

من اهم مظاهر الانحطاطية الشرق متوسطيه المستمرة منذ اكثر من سبعة قرون، غياب التحدي الابراهيمي من الاهتمام العقلي، على افتراض وجود مايدل على حضوره الفعال باية درجه ومستوى، وفي مكان وموضع من المعمورة، تعبيريته الرئيسية والاهم عن ذاته، نبوية حدسية ابراهيمية، لم تحضر هذه على الاطلاق من بين مايمكن اعتباره مجالات وموضوعات جديره بالمراجعه، بحثا عما يمكن ان يكون مساعدا على عبور حالة التردي الشامل وتوقف عمل الديناميات التاريخيه المجتمعية، هذا على الرغم من تعاظم الرغبه باللجوء لمتبقيات هذا المنجز، ومحاولة بعث فعاليته المتوقفه عن طريق تكرار نماذجه ومناسباته الفعالة المنصرمه، والتي غدت من الماضي، وادت المطلوب بناء على اشتراطات زمنها الذي انقلب وتغير مع حضورها، لنغدو بعدها، وبعدما وجدت، مشمولين بمفاعيل زمن اخر كمثل الاسلام الختامي وماتحقق بفعله انتشارا وفعالية امبراطورية دامت لاكثر من خمسة قرون، وكرست الانتشار المفهومي شرقا وصولا الى الصين وغربا حتى غرب اوربا.
والاشكال الاكبر والعقبة الكاداء لهذه الجهه، ان الابراهيمية والنبوية العملية منها كالمسيحية والاسلام، لايخضعان عقليا للتاريخانيه، وانهما مع جملة النبوية خارج فعل الزمن والتاريخ، فليس لهما ماض وحاضر ومستقبل، وهذه الصفة المتعدية للتاريخ تناسب مصدرهما الالهي فوق الزمني، والذاهب بهما الى انتهاء الوجود البشري على كوكب الارض/ القيامه، مايعني كونهما حضور عالم آخر في قلب الحياة الارضية المجتمعية المادية، تاخذها لمافوق ارضوية.
هذا في حين سادت مع الحضور الاوربي المتاخر الالي على مستوى المعمورة، نزعه متشبهه بالمصدر الغالب تفكرا ونموذجا، تكرس الارضوية ومايعرف بالعقلانيه والعلم، بما يخرج المنظور المعروف بالديني من دائرة الاهتمام، وصولا لالغائة كضرورة وموجب حياتي فضلا عن الخياراو احتماليته على مستوى الحياة المعاشة وتنظيمها، قابله في هذا الموضع من العالم نزوع مضاد سلفي انبعاثي، تعددت اشكاله كصيغة دفاعية بلا فعالية منتظره، حضور الغرب ومثله ومفاهيمه الحداثوية ظل يعزز انبعاثها، من دون اية حصيله يمكن احتسابها على صعيد مضاهاة الواقع عالميا، بعد الانقلاب الالي ونهوض الغرب، او الخروج من دائرة وعالم الانهيار الانحطاطي المستمر.
لم تخطر على البال على الاطلاق، احتمالية وقوف المنطقة الابراهيمه الشرق متوسطية امام مفترق تاريخي ابراهيمي، يخرج بالتعبيرية الكونية التاريخيه من عالم غير المدركة خلفيته الى الواقع والمعاين، بمعنى الثورة داخل الابراهيميه، ومع ان الغرب قد شرع كابتداء وتمهيد في وضع اسس النظر الى الظاهرة المجتمعية التي كانت خارج الادراكية العقلية على مدى تاريخ البشرية، الا ان ماقد تحقق في مجال "اخر العلوم" لم يكن قد وصل الحد الضروري واللازم لاجل مقاربة ماهو مطلوب ومساعد على ظهور مايمكن ان يفتح الباب، امام طور اخر تكميلي مناسب للمرحلة التاريخيه من الرؤية اللاارضوية النبوية بصيغتها الحدسية الاولى، فلقد كان المطلوب وغير المتوفره اسباب بلوغه بعد، اماطة اللثام عن الحقيقة المغفله غير المكشوف عنها بما خص المجتمعات ونوعها، واذا كانت كما هو سائد وغالب، واحدة ام اكثر نوعا، وصولا الى التعرف على ثنائية النمطية المجتمعية اللاارضوية/ الارضوية.
وقتها كان من الوارد او يصير من المعقول التفكير بمصدر اخر واقعي وملموس للتعبيرية الاخرى النبوية الابراهيمه، فضلا عن ان يحضر التفكير بضرورة وامكان ان تكون الرؤية المذكورة خاضعه، وان بحسب شروطها وكينونتها، للتاريخانيه وللتطور نوعا، ومع ان الغرب قد اكتشف وقتها بان التعبيرية الفوقية نتاج البنية التحتية، الاانه ظل يرى في التعبيرية النبوية صيغة وحيده ماورائية دينيه، نافيا عنها صفة المجتمعية ولو من باب الاحتمال، ولايقف الامر لهذه الجهه عند النوع والنمطية المجتمعية من دون مكمله، والعامل البنيوي التكويني البشري وازدواجية كينونته العقلية الجسدية، الامر الذي يسهم في تعميم اشكال الرؤية المعتبرة ماورائية كطور من اطوار مسيرة العقل، كما قرر الغرب اعتباطا بحسب هيغل على الاقل، متنقلا بالعقل من الاسطورة، الى الدين، الى الفلسفة، بينما الواقع ان ماعرف من تعبيرية هو الاخر ثنائية، ابراهيميه نبوية شرق متوسطية، وفلسفية اغريقية مقابلة من نوع وصيغه اخرى، هي قمة التعبيرية الارضوية مقابل التعبيرية اللاارضوية الشرق متوسطية.
هل الانتقال من اليدوية مجتمعيا الى الاله يغير شكل التعبيرية اللاارضوية واعلى صيغها واكملها النبوية الابراهيمه؟ لقد قلبت الاله الغرب الاوربي على الصعد كافة، وغيرت منظوره للاشياء وللكون كما كان ممكنا، وبحسب مامتاح ومتوفر من قدرة المجتمعية الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نمطيتها وصنفها بسبب الازدواجية الطبقية، على التفاعل مع الطاريء الانقلابي النوعي، غير ان هذا ليس اخر ولانهاية مامتضمن في الانقلابية الالية على مستوى المعمورة، بانتظار شمولها العالم بعد اوربا الرائدة، ومطلقة الانقلابيه المفهومية والمجتمعية الابتداء، وهو مالن يكون النهاية، ولا اخر ماسيترتب على الحدث التحولي الحاسم، وخصوصا بما يتعلق بالجزء من العالم المعروف بالشرق الاوسط الابراهيمي، الاسبق تبلورا مجتمعيا، وصياغه تاسيسية بدئية للحياة البشرية، وللتعبيرية الكونية الازدواجية الاكمل، فاذا كانت الالة لم تنبجس ابتداء في هذا الموضع بالذات، وظهرت مقابله على الطرف الاخر من المتوسط، موضع التفاعلية التاريخي مع الجانب الشرقي، فان ماعرف وحدث الى اليوم لن يكون النهاية، ولا اخر مامنتظر كونيا.
بالتوقف عند باب التعبيرية اللاارضوية الشرق متوسطية باعتبارها مجتمعية غير مدركة، وقف العقل البشري بسبب قصوريته الابتدائية دون الكشف عن خاصياتها ومصدر تعبيرها، ليس من المستبعد ان نجد المحركات المتزايدة الفعالية مع الوقت وزيادة اسباب التردي الثاني، بعد فترة التماهي الاولى مع الغرب، الغالبة اليوم، والسائدة كانحطاطية ثانيه، شامله بعدان انتفت وخرجت من الحسبان الاسباب المتوهمه عن اللحاق بالغرب لمجرد الرغبة ووطاة العجز عن مقاربة الذات والاخر.
فلنتوقع اليوم ومن هنا فصاعدا، بدء الاضافة النوعية اللاارضوية المعتادة بصيغتها الراهنه، الموافقه لطبيعة هذا الجزء من المعمورة، ولمقتضيات حقيقة الوعي الكوني بعد الانقلاب الالي، لاارضويا، بانتظار الثورة الكبرى في علم الاجتماع ومترتبات البنية التعبيرية الموافقه للانقلابية المجتمعية اللاارضوية الالية، بعد النبوية اليدوية، وهو مايمكن تخيله كمسار انتقالي كوني مستجد، من المنتظر ان يكون هو الانقلاب الكوني الفعلي المواكب لظهور الالة وقد شارف على الانبثاق، بمقابل احتمالية اخرى هي الفناء.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

عندما تفقد الدولة قدرتها على أداء الوظائف الأساسية التي تعتبر جوهرية لوجودها، وتشمل هذه الوظائف عادة، إدارة شؤون الحكم وتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع، الحفاظ على النظام الداخلي، تقديم الخدمات العامة وضمان الأمن والاستقرار لمواطنيها. لكن، عندما لم تتمكن إلى جانب انهيار المؤسسات الإدارية وعدم الاستقرار الوطني، السياسي والاجتماعي، من توفير تلك المهام، تكون، وفقا لخصائص الدولة الاساسية المتعارف عليها في النظم المدنية، دولة فاشلة. العراق، بسبب انهيار سيادة القانون وضعف النظام القضائي والقانوني وانعدام الأمن والاستقرار السياسي والمجتمعي وانتشار المحسوبية وتفشي الفساد المقنن والجريمة المنظمة وإختراق الميليشيات المسلحة لمرافق الدولة، أصبح يعاني من عدم القدرة على توفير أبسط الخدمات الأساسية للمجتمع أو الحد من نقص المياه والكهرباء وسوء الرعاية الصحية وارتفاع معدلات الفقر والبطالة وانهيار البنى التحتية وغياب المشاركة السياسية الحقيقية وانعدام الشفافية. فيما بلغت دوّامة الصراعات السياسية مدياتها البينية لافراز الأزمات المجتمعية. الأمر الذي غالبا ما أدى إلى عجز الدولة عن بسط نفوذها الجيوسياسي أو حماية مواطنيها وحدودها ومواردها الوطنية، بذلك ساعدت القوى والأحزاب التقليدية الماسكة بالسلطة للسيطرة على المؤسسات العامة واستنزاف قدراتها المعنوية والاقتصادية والبشرية بطرق غير قانونية. إن انقسام النخب السياسية وتعايشها مع الأزمات، قد أدى إلى غياب التوافق حول القرارات المصيرية، وخلق حالة من الفوضى السياسية وعدم قدرة الحكومات المتعاقبة على تلبية تطلعات الشعب، مما عمق الصراع الداخلي وتدهور الأوضاع واستغلال الجماعات المتطرفة للفجوات الأمنية لإثارة الفتن وأعمال العنف. أيضا، أضعاف الدولة وجعلها عرضة للتدخلات الدولية وعدم القدرة على ضمان المصالح الوطنية وإلى فقدان المواطنين الثقة بها، الأمر الذي زاد من مشاعر الإحباط واليأس...
جماعات فئوية
عندما تكون الحكومات غير قادرة على بسط سيطرتها على الدولة ومحيطها الجيوديمغرافي، يصبح من الممكن، أن تتمرد الأحزاب والجماعات الفئوية على الدولة، مما يفضي ذلك إلى عدم التوازن وبالنهاية إلى صراع على السلطة والنفوذ بطرق غير مشروعة. وعندما تصبح الإدارة المركزية للدولة غير قادرة على ضبط الميكانيكية الاقتصادية سيؤدي إلى انهيار الأسواق المحلية وإلى غياب الاستثمار وإهمال الخدمات العامة وتدهور جودة الحياة. وعندما تكون سلطة الدولة غائبة، فمن الطبيعي، أن تسعى الجماعات المسلحة لملء الفراغ وممارسة التجارة بالمخدرات والأسلحة كوسيلة لتمويل الجهات غير الحكومية التي تتقاسم النفوذ والتأثير الإثني. إن ازدواجية صنع القرار في العراق وتمركزه بين قوتين متضادتين «الدولة» و»الدولة العميقة»، أدى إلى تآكل ثقة الناس بالمؤسسات الرسمية ودفع بالهروب من البلاد بحثا عن الأمان. وتجلى فشل الديمقراطية والحكم الرشيد وسيادة القانون ودولة المواطنة بمظاهر غياب حكومة مركزية قوية بإستطاعتها الحد من الأزمات وتدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية أو محاربة الجريمة السياسية والفساد الإداري والمالي وتحقيق الشفافية والعدالة الاجتماعية. بيد أن العديد من المكونات، العرقية والدينية والفئات المجتمعية والفكرية والشخصيات الاجتماعية، باتوا، لا يثقون بالعملية السياسية، مما أدى إلى ابتعادهم عن المشاركة السياسية الفعلية بسبب تماهي القوى الماسكة بالسلطة للتفرد بالحكم والهيمنة على صناعة القرار السياسي وتسويف المبادئ الدستورية والقانونية والمصالح الوطنية. وهو أمر، لو لم يحدث، كان من شأنه أن يعزز مكانة الدولة ومقدرتها للتحرر من الضغوط السياسية والأمنية الداخلية والخارجية.
ضعف مؤسسات
إذن، الدولة الفاشلة ليست مجرد نتيجة لفشل الحكومة في بسط إراداتها الحصرية، بل هي حالة مركبة تنتج عن ضعف المؤسسات واختراقها من قبل منظومات الفساد وسيطرة الأحزاب، والأهم، التباين الاجتماعي بسبب عدم التوازن والتناقضات السياسية والعقائدية.
فيما الدولة بحاجة إلى كفاءات حرفية نزيهة تمتلك عقيدة وطنية ورؤية استراتيجية متكاملة لمعالجة الأسباب جذريا والنهوض بالعراق نحو الاستقرار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي. السؤال: هل بإمكان القوى المدنية التي تتعارض مواقفها مع سوء إدارة الدولة، مواجهة الفوضى السياسية وإنهاء الأزمات الخطيرة التي يتعرض لها العراق والمجتمع العراقي برمته منذ عقدين من الزمن. فيما تتربع طبقة سياسية طائفية، شيعية سنية كردية، على مقاليد الحكم، ينصب كل همها على المكاسب والامتيازات الفئوية والجهوية. الأسباب التي جعلت العراق ومصالحه الوطنية والجغرافية عرضة للتهديد والابتزاز والعدوان الخارجي، الإقليمي والدولي. في ظل الأوضاع الداخلية المتأزمة والظروف السياسية والأمنية التي تتعرض لها المنطقة، والعراق بشكل خاص، إلى تهديدات وفرض الإرادات الخارجية، يجب، على أحزاب السلطة وأصحاب القرار في العراق تغيير عقيدتهم السياسية ومغادرة الهرج الطائفي والكسسب السياسي غير المشروع وشعار «أخذناها وما ننطقها بعد؟.» وأن يقتنعوا، بان، سلطة فوضوية، لا يمكن إلا أن تنتج أزمات خطيرة، مواجهتها، تتطلب مرحلة استراتيجية شاملة ومتكاملة تتجاوز ردود الفعل العشوائية بإتجاه خطط مدروسة تعزز الوحدة الوطنية الشرعية وتوظف القوى المجتمعية والسياسية لتحقيق التغيير والإصلاح والتداول السلمي للسلطة عبر انتخابات نزيهة بإشراف دولي لحفظ سيادة العراق وأمن شعبه.
***
عصام الياسري

في القص الديني وسرديته الشائعة، الصراع ديدن، والحروب سجية ووسيلة لبقاء الاصلح والاقوى والاذكى والاكثر ايمانا بالله، القادر على نصر من يشاء وخسف الارض بمن يشاء انه هو وليس غيره من يحمل الاسماء الحسنى، فهو الجبار والمتكبر والسلام والقهار، هو الوحدة بين الشيء وضده، الله ثقب اسود وابيض في آن واحد لكل آلهة البشر منذ وحشيتهم الى بربريتهم الى مدنيتهم، يكون او لا يكون؟ الله فعل، كن فيكون!
هنا نخص الديانات التوحيدية المتناسلة تحديدا، والتي غرفت بعناية من بحر الماثيولوجيا الرافدينية جواهرها، كأساطير الخليقة والطوفان، ونواميس الموت والحياة، واختراعات، البشر انصاف الالهة، وإسرائهم للسماء السابعة للقاء مجمع الالهة، وحبكة صراعات الالهة الخيرة والشريرة، في العوالم العلوية والسفلية، وتوالدها التطوري الذي اقام نظام الكون المادي والروحي، ففي البدء كان البحر بموجه العاتي ممثلا بالإلهة نامو التي انجبت الإله آن إله السماء وكي إلهة الارض وبزواجهما انجب إنليل إله الهواء الذي فصل الارض عن السماء وهكذا ولدت نانا إلهة القمر واوتو إله الشمس، تعدد الالهة لا ينفي مرجعيتها، سيرورتها الاولى الى حيث إلوهية البداية الواحدة، والاولوية كانت للماء، وجعلنا من الماء كل شيء حيا، الملائكة مخلوقات من ذات المجمع الربوبي، انها متخصصة بوظائف محددة كملاك الموت عزرائيل الذي يقبض الارواح ثم يسلمها الى الإله كور رب العالم الاسفل، وجبرائيل ملاك الرحمة والتواصل والملائكة الوصيفة كميكائيل وروفائيل الذين يسبحون باسم الرب ويتمثلون لارادته وخدمته بمطاردة الشياطين، ملائكة تتنكر بحسب الحاجة وبقوى خارقة من نفحات الرب، تطير باجنحة خارقة وقوية كما قوة الثور المجنح!
دخلت الالهة بحروب عديدة كانت سببا للاستمرار والبقاء والتطور، ومن دم ولحم الالهة الميتة تصنع الالهة المنتصرة حياة جديدة الانسان احد مخلوقاتها، من ضلع آدم صنع الرب مخلوقة حواء، التي انجبت بنكاحها مع آدم ايام جنة عدن قابيل مع تؤمته الانثى اقليما، ثم انجبت هابيل وتؤمته لبودا، وكيف قتل قابيل هابيل، تنافسا وعصيانا لوصايا الرب، والانبياء فلاسفة وثوار ومصلحين وبعضهم ملوك ومخترعين بطاقات روحية تستلهم من الرب شرعية وحصانة وراية ايديولوجية مقدسة لتحقيق تغييرات ثورية شاملة لواقع تاريخي ملموس، مأزوم ويحتضر، وتحديدا للانبياء المتطلعين لدين له دولة وعليه كانت الحروب احدى اهم الركائز الشرعية للحروب المقدسة والعادلة بحسب شريعة الرب !
الاديان التوحيدية تعاطت فعليا مع ظاهرة الحروب كونها حاجة لكبح جماح الشر والدفاع عن النفس إزاء المعتدين والكفار والامثلة كثيرة، ربما تميز عنها المسيح بنبرته الداعية لاعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فدعوته ومعجزته كانت تجاوزا للغيتو التوراتي الذي اعتبر العبرانيين هم ابناء الله وشعبه المختار دون الاغيار، فكانت نظرته اكثر اتساقا مع روح التحرر من مفاسد المال والنفاق الديني والسياسي السائد، والقوة الاخلاقية لدعوته كانت مؤثرة بملحمية مثله الشخصي الذي كلما تعتق كلما تجرد من حسيته حتى صار ايقونة لفكرة الخلاص، بسبب اخلاصه حتى الصلب، وبطولته في تحمل الالم عن خطايا البشر !
الحروب الدينية بعد اختتام عهود النبوة المقدسة، اصبحت شائعة بدمويتها وفجورها واستهتارها في كل الارجاء، وخاصة في القارة الاوروبية، وتحديدا حروب الكاثوليك والبروتستانت، درجة لا يتصورها اي إله او نبي، بما فيهم يسوع نفسه !
من حروب الردة الى حروب ملوك دول الطوائف الاسلامية، الى الحروب الصليبية، حروب متوالدة لا علاقة لها بالدين كإيمان، وانما تستخدم الدين كغطاء وآصرة لما له من طاقة روحية غائرة في العقل الباطن للبشرية منذ طفولتها الاولى، لتلبية نداءات التغيير المسكونة باستدامة مصادر العيش والاستحواذ !
يقول ابن خلدون: ان الحروب والمقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله.
يتبع الجزء الثالث
***
جمال محمد تقي

والمسالة الكبرى والجوهر الاساس في نظرية ماركس، اي الطبقات واصطراعيتها، لم تكن قابله في حينه، ويوم قرر ماركس اجمال العالم بها كمحرك تاريخي، للادراك كما قد صارت، وقد غدت ساعتها متجهه الى زوال، فالطبقات واصطراعها ـ وهو ماكان خارج وعي ماركس كليا ضمن ماكان يعيشه من ظروف ـ هي ظاهرة يدوية مجتمعيا، تنتهي مع الدخول في عصر الالة، مع العلم ان البداية والمفتتح الانقلابي المشار اليه، يولد احتدامية غير عادية من نوع تلك التي جعلته هو او رفيقة انجلس يدمدم امام الحال البريطاني العمالي: "امتان"، علما بانها احتدامية انتقالية الى ما بعد طبقية، فالطبقات هي وليد الطور المجتمعي البيئئ/ البشري اليدوي الاول، يبدا بالزوال والانتهاء مع دخول العنصر المستجد الالي ضمن الديناميات المجتمعية، عندما يصير التدخل الواعي في البنية المجتمعية ممكنا، بما يتلائم ومصالح القوى المالكة المتنفذه، ومنها المتحولة من طبقات "برجوازية" الى مجرد "برجوازية" بلا اشتراطات الطبقية، مثلهم مثل العمال بلا صفة الطبقية كما هو حاصل اليوم.
ولم يكن ماركس وقتها برغم منجزه غير العادي، معفيا من التوهمية التي سببتها لحظة الانتقال الالي، ان لم يكن بالحرى الاكثر توهمية وايهاما على مستوى المعمورة كمنظر اساس، لاشك ان الجانب المهم العملي من نظريته تطبيقا يعود الفضل فيها الى لنين الروسي الايديلوجي التحولي الالي بالفكرة والالة، في مجتمع ادنى تبلورا برجوازيا، مقارنه بالمنطلق الاوربي الغربي "الكلاسيكي" النموذجي.
ومن غير المعتاد ولا المسبوق ان جرى النظر الى عموم المنجز الغربي المعروف بالحديث على اعتباره مصدر توهمية كبرى غير مسبوقة في التاريخ البشري، مع ان مثل هذا النوع من الوقوع تحت طائلة اللحظة الفائقة للمتوفر والمتاح والموروث اعقالا، مما هو متوقع منطقيا، فالاعقال اليدوي ومحاولة الاحاطة والادراك مع انبجاس الاله، كان هو الفاعل والذي سعى وقتها للتفاعل مع الحدث الانقلابي النوعي الذي مايزال في بداياته، بالاخص على مستوى الادراكية العقلية المفترض ان تحضر بعد استيعاب المنجز التحولي غير المعلومه ابعاده الكاملة وقتها بعد، هذا في وقت لم يكن فيه مايمكن، او هو بوضع يتيح له النظر الى المنجز الغربي الادراكي الاني، بعد ظهور الاله من زاوية تخرج عن الاعجاب، ان لم يكن الانبهار بعلموية وعقلانية ما يصدر عن نقطة انطلاق الاله على مستوى المعمورة، بينما بقية العالم مايزال رازحا تحت وطاة الاشتراطات اليدوية التفكرية والمعاشية.
هذا علما بان الاله وماواكبها ونتج عنها من تصورات واجمالي رؤية اوربيا، كان بالاحرى لحظة افتتاح توهمي ماقبل آلي، مايصدر عنه وينتج في غمرته على صعيد الافكار والنموذجية الكيانوية ومايتصل بها، مجرد محطة استباقية انتجتها ظروف الانقلاب في ساعتها بانتظار اطوار اخرى لاحقة، ينتظر ان تنتجها اشتراطات اكتمال مقومات الانقلاب الالي، ومنها وفي مقدمتها تلك العائدة الى الجانب التحولي الذي تنطوي عليه وتتضمنه العملية الانقلابية التي توحي بها الاله، تلك التي اليها تنتسب المحاولة الابتدائية المبسطة والافتراضية بلا اساس، الماركسية، بمقابل مامنتظر من احتمالية انقلابية تحولية مجتمعية، هي المتوافقه مع الحقيقة التاريخيه والمسارات المجتمعية الاصطراعية الابتدائية، الارضوية اللاارضوية.
من الاكبر من بين نواقص وقصورية نظرية ماركس، تابيديتها للنمطية المجتمعية الارضوية المعاشة والمتلائمه مع اشتراطات الانتاجية اليدوية الاولى، فماركس اصلا يبدا متمسكا بالمجتمعية الراهنه حين يتبنى جزءا منها ويذهب الى فرضه مجتمعيا، فالشيوعية المفترضة تقول بالمجتمعية الحالية بدون طبقات، بينما التحولية الاليه الفعليه التي لم يكن بالامكان ادراك ابعادها في القرن التاسع عشر، هي تحولية في النوع والنمطية المجتمعية، من مجتمعية جسدية حاجاتية ارضوية الى مجتمعية / عقلية، متحرره من وطاة الجسدية والمتبقيات الحيوانيه العالقة بالكائن البشري وبالعقل السائر نحو عالمه مافوق الارضي، منتهيا من الطور الحالي اليدوي الانتقالي مابين الحيوان والانسان/ العقل، مرورا بالكائن البشري الحالي "الانسايوان" الذي يطلق عليه اعتباطا اسم "الانسان".
والحديث جار عن مجتمعية لها آلياتها المحركة ونوع دينامياتها الحياتيه المعروفة على مر تاريخ الكائن الحي وحركة تحولاته الطويلة التفاعلية في قلب الطبيعه، هي ليست، ولم تكن يوما من النوع الانقلابي اللحظوي الاني كما افترض الغرب الحديث، فسجل بذلك لحظة التوهمية الكبرى المتناسبة مع نوع وطبيعة اللحظة الانتقالية في بدايتها ومفتتحها، بانتظار ان تتبلور الاسباب والموجبات الضرورية الناجمه عن التفاعلية الراهنه المستجده بعناصرها الاساسية وماصار اساسيا وفعالا ضمن حركتها، علما بان مايشار اليه من نكوص ابتدائي ليس اوربيا حيث ابجست الاله، بقدر ماهو شامل للمعمورة التي تذهب الى المصادقة على علموية وعقلانية مايراه الغرب، وماقد ارساه من مفاهيم ونموذج حياتي ورؤى، مرتكزا الى، ومستغلا ماقد صار متوفرا عليه من قدرات وممكنات غير عادية، اوجدتها الاله مع تسريعها الاستثنائي للاليات المجتمعية هناك.
وماتقدم من اكثر المناحي تعريضا للرؤية التحولية المجتمعية للانكار والرفض البداهي القصوري المصدر عقليا وتراكميا، بالاخص من قبل اولئك الذي يصل بهم الامراو يحتاجون لاسباب لاعلاقة لها بالحقيقة ولا بالادراكية السليمه حد الايمانيه المتعدية للمعقول، كمثل من يعتبرون انفسه " شيوعيين" على مستوى العالم، ومازالوا الى اليوم، وبعد انهيار مايعرف بالاتحاد السوفيتي التوهمية الايديلوجية الالية الكبرى، يعتقدون بان الشيوعيه محكومة لقانون تاريخي وحتمية لابد منها، علما بان مايعرف مما يعتقدونه الى الان قد مر بثلاث مراحل: الاولى اوربية ابتدائية تاسيسية نظرية، والثانيه ايديلوجية الية روسية تحولت الى صينيه اوربية شرقية، ولاارضوية في جنوب العراق استمرت مابين الثلاثينات واوائل الستينات، مندمجه بآليات التحول اللاارضوي المجتمعي جوهر الانقلاب الالي.
مع تبلور المنظور التحولي اللاارضوي كمنتهى وقمه انتقالية آليه بعدما وصلت الاله مشارف التحورية مابعد المصنعية والتكنولوجية الانتاجية الحالية، بانتظار التكنولوجيا العليا، يمكن توقع انتباه من بقي يعتقد بالنظرية الماركسية الى ضرورة الانتقال الى المنظور اللاارضوي، موفرين بذلك وسيلة عالمية منظمه ومتلاقية ذهنيا وتنظيما، من شانها ان توفر الكثير من الجهد والوقت ضمن مسار اقامه تيار التحولية الكونية، الانتقالي المجتمعي الى المجتمعية العقلية ومغادرة متبقيات الجسدية.
***
عبد الأمير الركابي

مع القصورية التي لازمت العقل البشري، ومن اهم مظاهرها  النكوص ادراكا امام الظاهرة المجتمعية كمعطى بذاته، وهو ما قد استمر ساريا على مدى الطور اليدوي من التاريخ الانتاجي المجتمعي، لم يحدث ان طرقت باب المجتمعية، الا بعد حصول الانقلاب الالي عند مبتدئه، وان بصيغه ابتدائية اوليه، استحقت ان تسبغ عليها صفة الجده، ليغدو علم الاجتماع "اخر العلوم" المتلازم مع الانقلابية الالية تحديدا، والذي حدث ان انقلب فجاه متعديا نحو اكتشاف القانون التاريخي الناظم لوجود وحركة المجتمعات ووجهتها الانقلابية المضمرة الكبرى، مع القرن التاسع عشر ونظرية ماركس و"ماديته التاريخيه" وحتمياتها الناظمة للاليات المجتمعية الاخذه بها نحو المحطة، او المرحلة النهائية التي هي عود على بدء مفترض بلا اثبات، هو "الشيوعيه البدائية" نحو "الشيوعيه العليا".

وكانت الطبقات كمكون رئيسي وخاصية نمطية مجتمعية اوربية، قد اكتشفت في حينه لتصبح قاعدة  واساس، باصطراعيتها جرى تعميمها من قبل ماركس مقررا " ان تاريخ المجتمعات ماهو الا تاريخ صراع طبقي"، اسهمت الغلبه الاوربية عالميا بفعل الالة وماوفرته من الاسباب في تعميمها على مستوى المعمورة، في حين لعب الانقلاب الالي الروسي بوسائل ايديلوجه، الدور الاهم على هذا الصعيد، بعد دخول الاضافة العملية اللينينيه بتحويل الطبقة الى "حزب مالعمل"، اي الاستبدادية الشرقية الروسية، محدثة بيد  الانتلجنسيا ـ الفئة الجديدة وليدة المتغير البنيوي الناتج عن حضور الالة كعامل تغيير نمطي مجتمعي ـ   مع نقله المجتمعية التقليدية اليدوية (الكائن البشري /البيئة)، الى بنية اخرى ثلاثية  التفاعلية (كائن بشري/ بيئة/ آلة)، الاخيرة من خارج، وغير طبيعه العنصرين التاريخيين، هيأت الاسباب للتدخل الواعي في البنية والكينونة المجتمعية، وولدت بناء عليه نوعا جديدا من التفاعلية الاصطراعية على هذا الصعيد.

وعلى العموم فان المتغير الاوربي الابتدائي الالي المصنعي، وما قد واكبه من انقلاب " حداثي" غير عادي في الديناميات المجتمعيه على مستوى النموذجيه الكيانيه والدولة، وفي المجالات المعرفية ككل، كان كافيا لان تحظى الانجازات الغربية فوق اليدوية بما لايضاهى من الاعتبار عالميا، خصوصا وان المجتمعات البشرية وقتها كانت ماتزال خارج الفعالية الالية، ماتزال واقعا يدوية، ماوضع النموذجية الغربية بموقع الارفع والمرتجى المستقبلي، فلم يكن ثمة وقتها مايمكن ان يضع التفكرات والنموذجية الغربيه تحت طائلة الفحص غير المتوفرة اسبابه، ماظل يشمل بالاخص المنجزات الفكرية والتصورية الاساسية والكبرى، ومنها الماركسية التي وجدت في التناقض الراسمالي الغربي، واجمالي  العالم ماقبل الراسمالي المعرض للهيمنه والاحتلال وفقد السيادة الذاتية بالقوة والاكراه، مادة وسلاحا بوجه الامبريالية  الطاغية بالدرجة الاولى.

وليست الماركسية لوحدها من بين ماتحقق على يد الغرب الحديث، كانت تستحق التوقف باعتبارها منجزا آليا اوليا، هو افتتاح لمرحلة وطور تاريخ انتقالي مجتمعي، يقارب الانتقال من طور "الصيد واللقاط" الى " التجمع + انتاج الغذاء" صيغة المجتمعية المعروفة الى اليوم، هذا غير العديد من التوهمات التي ساقها الغرب على عجل في حينه، وسعى لتكريسها كمطلق نهائي قبل اوانه، ساعده في ذلك بما خص النواحي المجتمعية، قصورية الوعي بالمسالة المجتمعية الموروثة والباقية اثارها، برغم بدايات الانتقال الالي قبل التكنولوجي الانتاجي الحالي الراهن، وما منتظر من قفزة تكنولوجية قادمه  متوقعه.

ويتمثل اكتشاف ماركس من حيث القاعده البنائية النظرية، لافي الطبقات وصراعها الذي لم يكتشفه هو،  انما في توهمية الاكتشاف المجتمعي المفبرك عن "المرحلة الشيوعية" بحيث يفترض مرور المجتمعات البشرية ابتداء بها من دون اي اثبات، لابل وبتجاوز متعد على الحقيقة التبلورية المجتمعية،  ماركس ومعه انجلز ماكانا مؤهلين، او في وضع يتيح لهما اصدار مثل هذا الحكم التاريخي المجتمعي القاطع، ويعتبرانه حقيقة، هذا بغض النظر عن اصرارهما على ربط مفهومهما المفتعل للبدئية المجتمعية، ليضعا في رحابه كتابات من نوع ماقد وضعه انجلز عن اصل "العائلة والملكية الخاصة والدولة"، من دون الانتباه  الى ان الدولة ليست ظاهرة شامله لعموم المجتمعات، وان هنالك مجتمعات ليست قليله، هي مجتمعات " لادولة"، وجدت في اميركا اللاتينيه، وامريكا قبل الغزو الاستيطاني الغربي الحديث، واستراليا،  وبعض افريقا واسيا، وهي بلدان لم تعرف الملكية الخاصة، ولا الطبقات، والاهم بما يخص احدى اهم المواضع التي لعبت دورا  اساسيا بدئيا مجتمعيا في ارض مابين النهرين في سومر، انها وجدت كمساواتيه ومشاعية اشتراكية مافوق اشتراكية طبقية، بما انها " اشتراكية مجتمعية"، شاملة وليست جزئية قاعدتها " الطبقة"، احد مكونات المجتمعية.

وليست الاشتراكية المجتمعية، المشار اليها بالحالة المؤقته او المتغيرة جوهرا، فالاشتراكية المجتمعية السومرية الارض سوادية الرافدينيه العراقية، هي نمطية دائمه تظهر استجابه لقانون الدورات والانقطاعات الذي ينتظم كقانون تاريخ هذا الموضع من المعمورة، بالتراوح  بين كوراجينا كمثال مبكر هو او ل من نطق في التاريخ البشري  /في لوح مكتوب/ بكلمه "حرية / امارجي" وحقوق المستضعفين، وكل حقوق الانسان التي يتبناها البشر اليوم، دالا على نوع مساواتية اشتراكية ممتنعه عن انتاج التمايزات المجتمعية ابتداء، وصولا الى القرمطية ومجمل التعبيرات التي ظهرت في ارض السواد خلال الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، من تشيع انتظاري واسماعيلية وحلاجيه،  مع المعتزله واخوان الصفا والخوارج، كسلطة خارج سلطة بغداد التي هي اصلا هروب من الاسفل الى الاعلى،تامينا لاسباب الاستمرار التي لم تكن ممكنه في الكوفة التي هرب منها ومن انتفاضاتها العباسيون، ابتداء الى الرمادي، ومن ثم الى الهاشميات، حين قامت بوجههم وقتها انتفاضة الراوندية.

والشيء نفسه حدث اليوم منذ القرن السادس عشر، حين عادت اللاارضوية الاشتراكية المجتمعية التاريخيه للانبعاث في دورة ثالثة هي الراهنه، تحت شروط اليدوية والبرانيه الشرقية المتعاقبه سلالات واشباه امبراطوريات على عاصمة امبراطورية الدورة الثانيه المنهاره منذ 1258،  وصولا الى العثمانيين ومااعقبهم من انقلاب البرانية مع الاحتلال الانكليزي عام 1917 ساعة انتقلت من اليدوية الى  الاحتلال الالي، الذي نتجت عنه في ارض السواد "الشيوعية اللاارضوية" في الجنوب، في عاصمة الانبعاث الحديث المنتفجي / الناصرية/ بعد محاولات تاسيسية فاشله، جرت في العاصمه المنهارة، ليقوم في موضع الاشتراكية المجتمعية من الثلاثينات، وحيث الموضع الاكثر تاخرا ويدوية، شيوعية مجتمعية لم تعرف مثلها، لااوربا ولا روسيا والصين على صعيد التغلغل المجتمعي خارج الطبقي، استطاع عام 1959 ان يسير تظاهرة من مليون ونصف المليون في مجتمع بفترض انه " مسلم"، تعداده لايتجاوز السبعه ملايين.

***

عبد الأمير الركابي

فلسفيا لا توجد ضرورات دون صدف، والتقاطعات بينهما حتمية، فالضرورة ظاهرة لاسباب واشتراطات موضوعية تنبع من الجدل "التغير المستمر" الداخلي للظواهر، اما الصدفة فتنبع من الجدل الخارجي للظواهر وتنحسر سيرورتها بذاتيتها، وكلاهما، الصدفة والضرورة، يقعان تحت سطوة قوانين جدل داخلي وخارجي أعم، تتحكم بالسيرورة الكلية للظواهر الطبيعية والمجتمعية، اي باطلاقية على اشكال الحركة المعروفة وغير المعروفة للمادة والطاقة والمجتمع، من الميكانيكية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والاجتماعية وما قد يأتي بعدها من اشكال غير معروفة للحركة الكونية، والقوانين هي : وحدة وصراع الاضداد، ونفي النفي، والتحول من الكم الى الكيف .

الحروب غير النظامية او النزاعات الجماعية والفردية كانت ولازالت ملازمة للبشر، منذ مراحل الوحشية والبربرية واخيرا المدنية، الفرق انه في المرحلة المدنية، اي بعد رسوخ المجتمعات الزراعية ثم ظهور الدولة كمؤسسة مجتمعية " طبقية" ضامنة ومحتكرة للسلطة ما بعد العشائرية والقبلية، برز شكل جديد من الحروب والنزاعات، هو ما نطلق عليه اليوم بالحروب النظامية، حروب بين الدول والامبراطوريات، حروب بابل واشور وسبارطة والإسكندر المقدوني الى المغول والى نابليون وحرب الافيون الى الحروب العالمية الاولى والثانية الى حرب فيتنام والعراق وفلسطين واوكرانيا، والحبل على الجرار!

تتعدد الاسماء والمعنى واحد!

حروب اهلية، حروب طائفية، حروب دولية، حروب استباقية، حروب انتقامية، حروب عادلة، حروب عنصرية، حروب حدودية، حروب تحررية، حروب كولونيالية، حروب مقدسة، حروب نووية، حروب بيولوجية وكيميائية، حروب شاملة، حروب ذكية وغبية حروب، حروب فضائية، حروب إبادية .

للاسماء علاقة بهوية الجهات المتحاربة وصفاتهم، او بنوع السلاح الحيوي المستخدم فيها او بجغرافيتها او باهدافها، لكنها جميعا مشاريع للقتل، ودمار العمران، واستغلال القوة لتحقيق اهداف مختلفة، كالاحتلال والسيطرة على الموارد والدفاع عن النفس والتحكم بالمصائر ومنع العدوان، وبعضها يتلبس دوافع وذرائع ايديولوجية وثقافية ودينية هي في النهاية تشكل محاولة لشرعنة المشروع القاتل!

 الحروب غريزة أم دين أم..؟

عندما يفترس الحيوان، حيوان آخر، فهو يفعل ذلك بدافع اشباع جوعه، وعندما يشبع لا يعود للافتراس حتى تحركه غريزة الجوع مرة اخرى، وعندما لا يجد ما يفترسه يموت، اما البشر فكانوا لا يفترسون او يتصيدون او يجمعون الثمار ليومهم فقط وانما يحتاطون لنفاذ الصيد او الثمار بفعل التفكر والتذكر، الذي ميزهم عن معشر الدواب، فكانوا ومازالوا يحسبون حساب الغد، لذلك هم ينافسون بعضهم للاستحواذ على المصادر المستدامة، وهذا ديدن انسان جاوة ونياندرتال ولوسي وذريتهم حتى الساعة، يتقاتلون لاشباع غرائزهم! وبرغم غزارة الانتاج والتطور البشري الحاصل وخاصة التكنولوجي والمعرفي والاخلاقي لكن سوء التوزيع، وانانية قانون الملكية الخاصة المقدس، وظهور فائض الانتاج وفائض القوة عند البعض جعلهم يستثمرون بالقيم الفائضة لاستعباد القسم الاخر الاقل فائضا وقوة، لاستدامة ومضاعفة فوائض القوة والقيم المنتجة عند المستثمرين، واذا سال لعابهم على ما في ايادي الاخرين فلا بأس من الحرب لانتزاع ما ينتزع او ابادة وتهجير من يقاوم الاقوى وسيد السلطة والثروة!

الجوع ابو الكفار، ولو كان الفقر رجلا لقتلته، وما وجد متخم إلا وجنبه جائع، وكيف تستعبدون الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا؟ نتف من التراث الثري الذي يدعو للانسنة والتكافل ليؤكد فقدان التوازن بين الانتاج والتوزيع!

 أناتول فرانس خير من جسد هذه المعاني خاصة في روايته "جزيرة البطريق" لقد توصل الى ان الحرب فتح جديد للاسواق، وبالتالي فهي وسيلة الدولة الصناعية لفتح الاسواق المغلقة، وكلما زاد الانتاج ازداد عدد الحروب!

يتبع الجزء الثاني

***

جمال محمد تقي

     

عاصر المحامي والوزير مكرم الطَّالبانيّ(1923-2025) عهود الدَّولة العراقيَّة كافة؛ مِن العهد الملكيّ(1921-1958)، والجمهوريّ بانقلاباته(1958-2003)؛ وفي العهود كافة: كان إمَّا سجيناً، وحزبياً تحت الأرض، أو وزيراً. أحد المحامين(1947) عن يوسف سلمان يوسف(فهد/ اُعدم1949)، مؤسس حزبه «الشّيوعي العراقيَّ»، بعدها سُجن وأطلق سراحه، ليكون بعد( 14 يوليو 1958) مديراً ومفتشاً عام، ثم تكليفه بوزارة البلديات(1959)، لكنه لم يبدِ حماساً، لأنها كانت مشروطة بالتخلي عن انتمائه الحزبيّ، وحين توزر ممثلاً لحزبه(1972) بعد إعلان الميثاق الوطني وقيام الجبهة بين البعث الحاكم والشّيوعي(1973-1979)، فأصبح وزيراً للري ثم للنقل. لكلّ ما تقدم يكون مُكرم الطَّالبانيّ آخر السَّاسة المخضرمين. كان وجهاً معروفاً لدى النّظام الجديد آنذاك(1968-2003)، فقبيل اِستلام البعث السّلطة(الأربعاء 17 يوليو 1968)، طلب أمين حزب «البعث» وقائد الانقلاب الجديد أحمد حسن البكر(تـ: 1982) مقابلته سراً، فوصله بهيئة طبيب، للتمويه؛ طالباً اِشتراك حزبه الشّيوعي بالانقلاب على العهد «العارفيّ»؛ ولم تحصل الموافقة، لتجربة اليسار المريرة مع «البعث» والقوميين السنة(1963). لذا؛ عندما بُثت البيانات، قبل إعلان البكر رئيساً للجمهورية، سمعها الطَّالبانيّ ببرود، وسط وجوم العراقيين، فهو مِن القلائل، مِن غير قادة «البعث»، لديه عِلم بالانقلاب، فقد ظلت هوية الانقلاب مخفيةً لأيام، وإذاعة لا تبثُ غير القرآن والبيانات.

كنا نسمع أنَّ الحزب الشِّيوعيّ، قبل الجبهة الوطنيَّة، كشف سر اِنقلاب مدبر ضد حكومة «البعث»، وساعة الصّفر يوم (1 يناير1970)، كان أحد الانقلابيين الضَّابط عبد الغني الرَّواي(تـ: 2011)، الذي لحزب مكرم واقعة مؤلمة معه، يوم كُلف بتنفيذ الشّريعة بالشّيوعيين وأنصارهم(1963)، لهذا الغرض أخذ فتاوى من فقهاء المذهبين، الشِّيعي والسّنيّ، لهذا كان حزب الطَّالباني حريصاً على كشف الانقلاب، فكلفته قيادته، لصلته بالبكر، حمل رسالة له، وحال تسليمها اتَّخذ الإجراء لإحباطه. استغل الطَّالباني الفرصة، بما قَدمه للبكر مِن فضلٍ، ونجح بإطلاق سراح المحكومين بالإعدام مِن رفاقه، بحوادث الموصل(1959). خرج معظم قادة حزبه مِن العِراق، بعد إلغاء الجبهة بينهم وبين «البعث»، بسبب المطاردات والإعدامات التي نالتهم. ظل الطَّالباني داخل العراق، بعد تقديم استقالته مِن الوزارة، وربّما خرج وعاد، فلعب دوراً في الوساطة، بين النّظام والمعارضة، ويلتقي بين فترة وأخرى بصدام حسين(أعدم: 2006)، بشأن الوساطة، أو الشَّفاعة لمحكومين بالإعدام. مثلما التقى بالبعثيين قُبيل نجاحهم باستلام الحُكم(1968) ممثلين بأحمد حسن البكر، التقى بهم قُبيل سقوطهم(2003)، ممثلين بصدام حسين، وبطلبٍ من الأخير، فالـ(35) سنة، بوقائعها الهوائل، مرت مرور السّحابة، بين اِرتفاع وسقوط. بحث صدام مع الطَّالبانيّ المسألة الكرديّة ومقترحات المعارضة، وكأنه لم يسمع سنابك الخيل تطرق على حدوده؛ فحينها كانت استعدادات الغزو قد تمت، وقضي الأمرُ.

أتذكر، اِحتفل اليسار بانتصار الفيتناميين (ربيع 1975) على الأميركان، يومها رأينا الطَّالباني، بأناقته المعهودة، يُقدم الشّاعر محمَّد صالح بحر العلوم(تـ: 1992)، في مجلس السلم والتضامن ببغداد، يشحذ فيه روح الأربعينيات، عندما قال قصيدته السَّائرة آنذاك «أين حقّي»، لكن ما أنشده بحر العلوم ليتنا لم نسمعه، لتبقى صورته كما رسمناها للشَّاعر المطبوع، فما سمعناه كان صدىً خافتاً، وقد بلغ مِن الكبر عتياً، وبعدها نكسته المدائح المبتذلات.

مَن يقرأ مذكرات الطَّالبانيّ يشعر به يماهي بين الماركسيّة والصوفيَّة؛ فتراه مع اِعتزازه بيساريته، أظهر اعتزازاً بتكية أجداه الطَّالبانيين، نسبة لقرية «طالبان» الكُرديَّة، مِن تكايا القادريّة، التي اِتَّخذت مِن علي بن أبي طالب عميد سلسلتها، وتقاسمت إقليم كردستان مع البارزانيّة، إحدى تفرعات النّقشبنديّة، التي تَّتخذ مِن أبي بكر الصِّدِّيق عميداً، دون ظهور نزاعٍ بين العميدين، علي وأبي بكر، في أعراف التكيتين، خلاف الحدة المذهبيَّة الطَّاغية(بعد 2003). لم يكن الطَّالباني آخر السِّياسيين المخضرمين فحسب، بل آخر الوزراء، الذين لم يدخل بيوتهم غير معاشهم (الرَّاتب)؛ وأظنها أمةً قد خلت.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

 الرؤية "الوطن كونيه العراقية" القادمه

 تنقسم الكيانيه المجتمعية الى صنفين ونوعين بحسب النمطية البدئية وتباينها: كونية متعدية للكيانيه لاارضويا، وكيانوية محلية "وطنية"، هكذا وجدت بالاصل ومع اولى التبلورات المجتمعية في الشرق المتوسطي نهريا، مابين كيانيه وطنيه هي النيلية المصرية، واخرى متعدية للكيانيه في ارض مابين النهرين، مايعني اختلاف التعبيرية بين مايعرف ب "الوطنيه" العامه على مستوى المعمورة على مدى الطور اليدوي الانتاجي، واخر "وطن كوني" متعد للمحلية، وغير موجود حين يحضرالا كونيا ازدواجيا امبراطوريا من جهه، يواكبه وينتج عن اصطراعيته، تعبير اخر مجتمعي لاارضوي، سماوي،مايعني في الحصيلة ازدواجية التعبير اتفاقا مع ازدواجية الكينونة والبنيه.

 والنمطيتان تتباينان على مستوى الاصطراعية المفروض عليهما خوضها على طريق التشكل، فالاحادية التعبير، تفاعليتها مقصورة على العامل الطبيعي البيئي، وفي غمرته تكتسب خاصياتها، في حين تتشكل الكينونه الازدواج في غمرة الاصطراع مع عاملين، اولهما البيئي الطبيعي الطار والمجافي، يتلوه اصطراع مجتمعي ارضوي لاارضوي، سببه كون البيئة المتباينه كليا قد ولدت ابتداء نمطيتان مجتمعيتان مختلفتان نوعا، الامر الذي يبقي الكيانيه المزدوجة هنا واحدة غير موحدة.

 ولا يوجد الاصطراع المومى اليه عبثا او بلا منتهيات تشكلية موصولة بالضرورة المجتمعية وما تنطوي عليه، وهي متجهة نحوه كنهاية وغاية تتولد عن التفاعلية التاريخيه وتراكماتها، تظل مطوية وخارج الادراكية البشرية على مدى الطور اليدوي من الانتاجية، عندما تكون الاحادية المجتمعية الارضوية هي الغالبة نمطا ونموذجا ومفاهيما، يكرسها ويديم غلبتها القصور العقلي المواكب دون الحقيقة المجتمعية، فالعقل لا يكون مع تبلور الظاهرة المجتمعية، ورغم حضوره الابتدائي، مكتملا، بقدر ما هو في حال تشكل ونقص ادراكية واحاطة، ابتداء من لحظة وثبته الافتتاحية مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، الى ان ياتي الطور المجتمعي وتفاعلاته وما ينتج عنها، كمحطة اخيرة ضرورة، قبل اكتماله، وخروجه من متبقيات الهيمنه الجسدية التي عاني من وطاتها ملايين السنين، لابل مليارات عندما كان في البداية كامنا في الجسدية الحيوانيه وغلبتها شبه المطلقة، قبل ان تبدا رحلة تحرره وصيروته نحو الاكتمال بحصيلة بانتظار منتهى المجتمعية الراهنه.

 تبدا المجتمعية لاارضوية جنوب ارض ما بين النهرين، منطوية على المقصد والنهاية التي ترومها المجتمعية وهي مصممه لكي تبلغها منتهى، غير انها وان عبرت عن ذاتها بما متاح وممكن لها ابتداء، تظل غير قادرة على التحقق، لنقص في الوسائل المادية الضرورية لزوم التحول ما بعد الجسدي، ادراكا غير متوفره اسبابه عقليا بعد، وماديا بانقلاب وسيلة الانتاج من اليدوية الى الصيغة العليا التكنولوجية، ما يفرض حكما طورا مديدا من الغلبة النموذجية النمطية الارضوية، تبقى هي الغالبة على مستوى المعمورة، لحين انتهاء الطور اليدوي، وحتى ساعتها ومع البداية الانقلابيه الاليه، فان متبقيات الطور السالف، واسباب القصورية العقلية وموروثاتها تظل هي الغالبة، لابل وتتعزز بقوة مفعول الالة وتسريعها الديناميات المجتمعية الى اقصى ما يمكن تصوره.

 وقتها يبدا طور من التفاعلية الالية المجتمعية غير المنظورة، والمحجوبة بقوة متبقيات الوعي الموروث، فيتعذر الانتباه الى مقاصد واتجاهات التفاعلية المستحدثة مع الالة والتي هي في الجوهر عملية انهاء للمجتمعية اليدوية الاحادية الارضوية جوهرا، تعززه تحورات الالة نفسها اصطراعيا، من صيغتها "المصنعية"، الى التكنولوجية باعلى مراتبها العقلية، ما بعد الانتاجية الحالية، وهو ماصار واقعا وشيكا، بانتظار العنصر الاخطر والاهم الذي لاانتقالية مجتمعية عقلية من دونه، ذلك هو الادراكية المفهومية، حيث الانقلاب على القصورية التاريخيه العقلية، ومغادرتها خارج منظورات الكيانوية المجتمعية ( الوطنيه/ القومية) الغالبة حتى الان، وعلى مدى الطور اليدوي المنصرم.

 ما ان تنبجس الالة، وعلى عكس ما هو مشاع من انواع التصورات التتابعية التعاقبية الموكوله الى صنف وطور بذاته هو المختبر والمعاش، حتى تصبح المجتمعات في حال تحول من الجسدوية الارضوية، الى اللاارضوية المتوافقة كينونة مع اشتراطات وضرورات الانقلابيه فوق الجسدية، تلك التي تظل مطوية غائبة ادراكا على مدى التاريخ المجتمعي، والعائدة الى الصيغة التعبيرية العظمى "الوطن كونية" العراقية المغفلة والمطوية، او التي تعرف وعرفت فيما سبق وعبر الدورات التي مرت على هذا المكان (الدورة الاولى السومرية البابلية الابراهيمة المنتهية بسقوط بابل، والثانية العباسية القرمطية الانتظارية) اشكالا من التعبيرية ما قبل التحققية الادراكية، حدسية نبوية، ظلت حاضرة كاختراق كوني في قلب المجتمعات الارضوية، متماشية مع اشتراطات الغلبة الارضوية وتعذر التحقق الاني، بانتظار توفر اسباب التحقق التحولي المادية والادراكية.

 توجد المجتمعات البشرية وتتبلور، محكومة لقانون العودة على بدء، لاكما تهيأ لماركس من الشيوعية الاولى الى الشيوعية العليا، بل من اللاارضوية المعزولة مكانا ونمطا، الى اللاارضوية الانتهاء، عندما تتحول المجتمعات بحكم الالة وتحوراتها وصيغتها الاعلى، الى مجتمعات "فكرة بحته" هي العامل الفاعل في الكينونة المجتمعية وتعبيريتها الوطنية لاكما كانت المجتمعات الارضوية اليدوية، مادية جغرافية بشرية تاريخيه ولغوية، بينما تنقلب الاشتراطات الافنائية، من البيئية الاصل الى الالية التدميرية، قبل ان تعم حالة استحالة الكيانيه الارضوية مع تبدل وسيلة الانتاج من الارضوية الى مابعدها ويتجاوزها.

 هنا تاتي "الوطن كونية الرافدينيه" حصيلة التاريخ الانقطاعي الدوراتي، والاصطراعية الازدواجية بعد فترة من اشكال من الافنائية البرانيه، ومنها وفي مقدمها الافنائية الايديلوجية المتماهية مع الغرب التوهمي الحداثي، عدا التحول من الاحتلال العسكري، الى الافناء التدميري وازالة الكيانيه، وحلول عالم الاضطراب الاقصى، والفوضى والخراب الذي لا مخرج منه، بظل غياب الرؤية، وافتقاد المنظور الغائب اصلا، بعد سقوط صيغ الايديلوجية الببغاوية النهائي، ليغدو الاستباق شبه الفنائي الرافديني العراقي على مستوى المعمورة ساعتها وقد نضجت فيه الاسباب الضرورية، مولدا للرؤية المطوية الغائبة على مر التاريخ، بعدما تحولت الى رؤية عالمية اختراقية لا موضعية، مثلما سبق للابراهيمه الاولى ان كانت، ووقتها ينقلب التاريخ، ويبدا الكائن البشري رحلة الانتقال من الجسدية الحاجاتيه، الى العقل المستقل المتحرر من وطاة الجسد، كما من اشتراطات السكن الارضي المؤقت. كما كان مقررا ومصصما بالاصل للمجتمعية وللكائن البشري ان يذهب.

***

عبد الأمير الركابي

لم يظهر باي شكل مايدل او يشير الى احتمالية  تبلور منظور دال على الذاتية والكينونة الرافدينيه العراقية في العصر الحديث، مع ما يفترض ان  يمتاز به من مقاربة حديثة  ادراكية لازمه، بعد اشكال التعبيرية التي عرفها هذا الجزء من المعمورة خلال الدورتين السالفتين من تاريخه، السومرية البابلية الابراهيمه الاولى، والعباسية القرمطية الانتظارية الثانيه، ونحن نتحدث هنا عن موضع تحكمه كقانون نافذ، متوالية الدورات والانقطاعات، الامر المرهون والمرافق للكينونه الازدواجية المجتمعية الفريدة على مستوى المعمورة، ومع غلبة القصورية العقلية وقتها، وابان الطور اليدوي، فلقد ظلت التعبيرية المواكبة للدورات والفعالية اللاارضوية ضمنها، ما قبل ادراكية، موكولة الى الحدسية النبوية الابراهيمة الاولى، واشكال التجلي القرمطي الاسماعيلي الحلاجي الخوارجي الامامي الشيعي، وصولا الى الانتظارية الختام الاحالي الى طور اخر قادم، بعد الاقتناع خلاصة، باستحالة التحقق وقتها ابان اصطراعية الدورة الثانيه واشتراطاتها اليدويه.

  واي نظر في التاريخ المنوه عنه ومنجزه نوعا ومستوى تعبيريا عن المطلوب، لابد ان ياخذنا كسيرورة طبيعيه الى الطور الثالث الراهن، بحثا عن الصيغة الثالثة الملائمه من التعبيرية المنتظرة، ضمن شروط الخروج من اليدوية الى الزمن والطور الاخر، علما بان الدورة الراهنه الثالثة قد بدات كانبعاثية حديثة منذ القرن السادس عشر، اي في ذات الفترة الزمنية التي وجدت ابانها الالة في اوربا، ان لم يكن قبلها وفي طليعتها، الامر الذي لم ينتبه له احد من العراقيين الماخوذين بالتماهي مع النموذجية الغربية ومنظوراتها، ومفاهيمها الالية الابتدائية،  فعز بناء عليه الاعتقاد الضروري بالايقاعية التشكلية العراقية الانبعاثية الحديثة الراهنه، تكرارا واتفاقا مع كينونتها التاريخيه، في حين اعتمدت المروية والسردية الاستعمارية الويرلندية عن "العراق الحديث" الموجود  كلدتبة نشكلية من 1831 لاسباب واليات غربية عائدة الى الايقاع الراسمالي العالمي، ونظامه الناشيء والمعمم على المعمورة، وفي المقدمه منها تلك التي لم تعرف بعد الانتقال الالي.

 وقتها ومع ثقل وطاة الانقطاعية الانهيارية المستمرة منذ 1258 عام سقوط عاصمة امبراطورية الدورة الثانيه، واستمرارية الشروط الانتاجية اليدوية التي ضمنها جرت عملية الانبعاث الحديث الثالث بحقبتيها،  القبلية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، والانتظارية الحديثة النجفية، من القرن الثامن عشر بعد الثورة الثلاثية التي حررت العراق الاسفل من بغداد الى الفاو عام 1787، وصولا الى الاحتلال الانكليزي عام  1917، بعد ثلاث سنوات من  وصول الحملة البريطانيه الى الفاو، واختراق منطقة الامان المجتمعي التاريخي صعودا نحو العاصمة المنهاره، في وقت ظلت التشكلية وقتها من دون نطقية بانتظار عبور مقتضيات اليدوية الباقية، مع مايواكبها من العجز القصوري المستمرادراكا، فتح الباب لطور من النظر الى الذات بعين الاخر، ونقل واستعمال وسائل الاخر التعبيرية جاهزة، بغض النظر عن الشروط الواقعية التي هي انعكاس لها في موضعها، ومع العشرينات والثلاثينات تبلورت ظاهرة الوطنية البرانيه المنقولة الايديلوجية من هذا النوع، الماركسية، والليبراليه، والقومية، الحزبية تحديدا، بمقابل الدولة التي اقامها الاحتلال هو الاخر برانيا، من خارج النصاب الاجتماعي والتشكلية المجتمعية، ضمانا لاستمرارية مصالحه، لتصبح الوطنيه هي مايضاد الاحتلال بغض النظر عن الذاتيه او المحركات التي تستند اليها واقعا، ماقد جعل العراق برانيا كليا من اعلى ومن اسفل، بعدما كان برانياشرقيا يدويا من اعلى، منذ هولاكو وماقد تبعه من دول  الخروف الابيض والخروف الاسود، واشباه امبراطوريات متعاقبة على العاصمة الامبراطورية المنهارة، الى العثمانيين اخر البرانيين اليدوين، قبل الاحتلال الانكليزي الغربي الالي.

 لايعني هذا ان الاليات التشكلية الذاتيه قد توقفت وقتها، او انها خضعت لمايراه  "الوطنيون" البرانيون، مثل الماركسيين، من اصطراعيه طبقية توهمية، او الليبرليون من  منظور برجوازي بلا اساس، او القوميون الذين يحولون التعبيرية اللاارضوية التاريخيه الجزيرية الابراهيميه المحمدية، الى قومية، والنبي محمد الى غاريبالدي بحسب عفلق، فهولاء خضعوا هم انفسهم بحسب اللحظة والحاجة الى حكم الاليات الذاتيه ومقتضياتها غير الناطقة، فكانت ثمة شيوعيه لاارضوية، من البديهي ان تخضع لاشتراطات هي المساواتيه العليا  اللاارضوية  الكوراجينيه القرمطية تاريخيا وواقعا، وهو ماقد شمل الحزب الشوعي من الثلاثينات انطلاقا من الناصرية عاصمة المنتفك السومري، وموضع الانبعاث الثالث الراهن، بعد محاولات بغدادية فاشلة، وكذا بالنسبة لحزب البعث بعد محاولات تأسيس بغدادية باءت هي الاخرى بالفشل، لتتحق في ذات المدينه الاحدث في تاريخ العراق، الى ان انتهت الشيوعية الانتظارية بعد ثورة تموز 1958،وتبدل اشكال الاصطراعية التشكلية، حين تحول الحزب الشيوعي بعد عام 1964 مع عزيز محمد، الى حزب براني معدوم العلاقة بالاليات التشكلية، خاضع لمحركات، الغالب فيها الموقع الكردي، وقد تحول الى ظاهرة ايديلوجية محضه مضادة، وحتى معادية للشيوعية اللاارضوية، تعتاش على سرقة  ومصادر تاريخها، بعدما توقفت هي كليا عن ان يكون لها اي حضور في تاريخ العراق التشكلي الاصطراعي.

 ووقتها كانت الاشتراطات الاصطراعية قد تبدلت كليا، والبرانيه العليا ماعادت موكولة الى الدويلات واشباه الامبراطوريات، ولا الى الغرب الالي، بعدما دخل العنصر الريعي على المشهد، وصارت الدولة من اعلى مستقلة عن المجتمع، متحرره من مقتضيات ووطاة العلاقة بالاسفل، ماقد زين لها امكان تصفية المجال اللاارضوي وحضوره المادي غير الناطق، وبدل الاصطراعية وعناصرها  بالمقابل انطلاقا من تحسس خطر واحتمالية الاجهاز على الموقع الانتظاري  النجفي، ماقد وسع دائرة المجابهة الى ايران، وحفز  الميل المخالف عمليا وفقهيا، المرفوض تاريخيا في النجف،  لاقامة" الدولة الاسلامية" الخمينية  من النجف نفسها، حيث كان مقيما منفيا من قبل الشاه، ليدخل العراق من يومها تاريخ العيش على حافة الفناء الثاني، لا البيئي، بل الاحترابي، بدءا من الحرب العراقية الايرانيه بعد الثورة هناك، اطول حرب بين بلدين بعد الحرب العالمية الثانيه،  والتي اسقطت امتياز الريعيه الاستقلاليه، وحملت نظام البعث الديون،  ما قد اصابه بالجنون والاختلال السياسي  العسكري،  بحثا عن تعويض غير ممكن من دون استمرار الحروب التي اورثت البلاد اول حرب عالمية، تبعها اقسى حصار مضروب على دولة في التاريخ لمدة 12 عاما، وما جاء من حرب عالمية اخرى ثانية، وانهاء للكيانيه العراقية،  قبل سلسلة الحروب الطائفية، والتفجيرات التي  كلفت ما تكلفة حرب بين بلدين/ الى اليوم، من الانهيار الشامل والكلي ـ  وتسيد الحثالة المجتمعية ـ على الصعد كافة، بظل اختفاء اي شكل من اشكال الاثر او الحضور لاي تعبير يمكن نسبته الى  ما عرف ب "الوطنيه"  واحزابها، وقد اختفت من الوجود، او تحولت الى دكانه تأتمر بأوامر السفارة الامريكيه في بغداد، كما حال من يسمون انفسم بالشيوعيين.

***

عبد الأمير الركابي

....................

*  يتبع / ملحق: الرؤية "الوطن كونيه العراقية" القادمه

 

في انحسار الزمن تحت ثقل الانتروبيا - الإنتروبيا مصطلح اخترعه لأول مرة رودولف كلاوزيوس. لكنه لم يعطِ لا هو ولا غيره تعريفاً واضحاً له، حتى أدخل بولتزمان عليه مفهوماً إحصائياً بحتاً. فالإنتروبيا باختصار شديد هي مقياسٌ لفوضى نظام معيَّن - وفي انشطار الوجود بين التلاشي والخلق، ينسج جان فرانسوا ليوتار في "أخلاقيات ما بعد الحداثة" سردًا يستشرف انهيار النظام كما نعرفه، أو بالأحرى، استحالته إلى صورة أخرى لا تعترف بمقاييس الحداثة. الحكاية ليست إلا انعكاسًا لنزاع كوني بين مبدأين: الأول هو التفكك الحتمي الذي تفرضه قوانين الانتروبيا، والثاني هو القفزات العشوائية نحو نظام جديد يتشكل وفق احتمالات نادرة وغير متوقعة. في هذه المعادلة، الإنسان ليس سوى عارضٍ زائل، يتذبذب بين عقلٍ يشكل الواقع وواقعٍ يعيد تشكيل العقل.

لكن الأزمة التي يكشفها ليوتار ليست أزمة مستقبل بعيد، بل هي أزمة راهنة، تتجلى في اهتزاز الحقيقة، في تقويض الدولة وسيادتها، وفي تآكل الأشكال السياسية التي بدت لوهلة وكأنها انتصار للعقلانية والحرية. الديمقراطية، ذلك المشروع الذي ظن الحداثيون أنه الغاية المثلى، لم تعد أكثر من فكرة تائهة في فضاء لا يكترث إلا لفاعلية القوة وسرعة الانتقال بين الأنظمة.

يتجسد هذا التحول في لحظةٍ معاصرةٍ من خلال صعود نموذج جديد للسلطة، يجسده إيلون ماسك كأيقونة للنظام ما بعد السياسي. بدأ مساره من افتتان بالسفر إلى الفضاء، لكنه لم يكن افتتانًا علميًا بقدر ما كان مشروعًا لإعادة تشكيل الواقع وفق شروط رأس المال المطلق. المريخ ليس مجرد كوكب، بل هو استعارة لحلم الفناء وإعادة الولادة، حلمٌ يتجاوز الدولة والقانون والمجتمع، حيث لا يبقى سوى ملكية فردية تعيد تعريف السياسة كمنظومة تعاقدية محضة. في هذا العالم، المؤسسات والتاريخ وحتى الإنسان ليسوا سوى متغيرات مؤقتة في معادلة السيادة المطلقة.

ايلون ماسك، بهذا المعنى، ليس شخصًا، بل ظاهرة: تكثيفٌ لعناصر العدمية النشطة، تلك التي لا تؤمن بالإصلاح بل تعمل على تسريع انهيار القائم بغرض كشف بنيته التحتية، وتحويله إلى مادة خام لمشروع هيمنة بلا حدود. إنه يسعى إلى مضاعفة الفوضى بحيث تولد منها طاقة جديدة تعيد تشكيل علاقات القوة وفق منطق السوق، حيث لا وجود للأمم، بل شبكات، ولا وجود للحدود، بل فضاءات سيولة بلا نهاية.

هذا الحلم التكنوقراطي لا يضع اختيارات بقدر ما يخلق احتمالات قابلة للتسريع. فالمجتمع المدني، كما نعرفه، لا مكان له على المريخ، تمامًا كما لا مكان له في عالم تحكمه المنصات الرقمية وعقود الملكية المطلقة. الأرض، من منظور هذا المشروع، لم تعد سوى محطة مؤقتة، ميدان تجارب لخلق الفراغ المدني الذي سيُعاد إنتاجه لاحقًا في الفضاء الخارجي.

الاستبدال هنا هو القاعدة، والكلمات التي شكلت روح الحداثة - الحرية، المساواة، الإخاء - لم تعد إلا علاماتٍ فارغة، هاشتاغات تتكرر ضمن دوائر مغلقة، لا تحيل إلى مرجع حقيقي سوى آلية اشتغالها الخاصة. هكذا، تتحول الشبكات الاجتماعية إلى مساحات تتلاشى فيها الحقائق، حيث تصبح المعلومة مجرد ضوضاء اتصال، ويصبح الزمن السياسي مشوهًا تحت وطأة اللحظة الفورية. فالتاريخ نفسه، كما كان يُبنى على صراعاتٍ وتحولات، يُعاد تشكيله اليوم كحدثٍ شبكي بلا ذاكرة.

لكن هذا لا يعني أن مشروع ماسك استبدادي بالمعنى التقليدي، فهو لا يؤمن بالحكم بقدر ما يؤمن بتفكيك البنى التي تجعل الحكم ممكنًا. إنه لا يسعى إلى السلطة كغاية، بل إلى خلق منظومة تكون فيها السلطة بلا مركز، حيث تتكاثر مراكز القوة ضمن شبكة تتوسع كالفيروس، تتجاوز الحدود، وتتلاعب بمفاهيم السيادة كما يتلاعب رأس المال بالمجتمعات.

إن صلب هذه الرؤية ليس التكنولوجيا في حد ذاتها، بل مفهوم الزمن الذي يُعاد تشكيله وفق شروط رأس المال المطلق. الفورية هي القانون الجديد: لا انتظار، لا تخطيط، بل استثمار اللحظة بوصفها فرصة للتوسع. كل شيء يجب أن يحدث الآن، وبأقصى سرعة ممكنة. حتى الحروب، حتى الأزمات، ليست سوى وقودًا لهذه العملية.

في قلب هذا المشهد، يصبح الإنسان - أو دماغه - مجرد كيان قابل للاستبدال، شبكة من الذبذبات العصبية التي يمكن محاكاتها أو تجاوزها. وإذا كان ديكارت قد قال "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، فإن ما بعد الحداثة التكنوقراطية تهمس: "أنا متصل، إذن أنا قابل للاستبدال". الإنسان لم يعد هو المركز، بل بات هامشًا في معادلة لا تبحث عن الثبات، بل عن التحول المستمر.

هكذا، يقف إيلون ماسك ليس كمبتكر، بل كمهندس للفراغ: حيث لا تبقى السياسة سوى ظلٍ باهتٍ لمشروع أكبر، مشروع يمحو الحدود بين الافتراضي والحقيقي، ويحوّل العالم إلى مختبر دائم لإعادة إنتاج الهيمنة بوسائل لم تعد تحتاج إلى العنف التقليدي، بل تكتفي بخلق شروط الاستغناء عن كل ما كان يبدو يومًا ضروريًا. في هذه الرؤية، لا مكان للتاريخ، ولا مكان للإنسان، بل فقط تسارعٌ بلا وجهة، حيث يصبح العالم كله مادة أولية لحلمٍ تكنوقراطيٍ بلا نهاية.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

القانون الجديد للأحوال الشخصية العراقي ضرب الأساس الذي أُعلن له وذكر في الأسباب الموجبة، وهو أن الناس أحرار في أحوالهم الشخصية بما يؤمنون، وذكروا أن أتباع المذهب الجعفري متضررون من عدم العمل وفق مذهبهم في قانون ١٨٨ الساري، ولكنهم وقعوا في سذاجة الفهم للفقه الجعفري، وأهم سمة فيه وأساس عظمته، وهو أنه فقه فردي، وأن باب الإجتهاد مفتوح فيه، وأن المكلف غير ملزم باتباع المجتهد الأكثر تقليدا ولا الرأي المشهور، ولا فقهاء النجف.

وهنا نسأل لماذا يحرم العراقي الذي يقلد مرجعا من غير النجف في العمل بفتاوي مرجعه؟ ولماذا يتبع المشهور؟ إذن اين الحرية للمواطنين بالعمل وفق معتقداتهم، المستند للدستور المادة ٤١؟

خاصة اذا كان هذا المواطن إمرأة ؟ فأغلب الإجتهادات الجديدة التي لصالحها هي آراء غير مشهورة، مثل سن البلوغ ١٣ سنة، او زواج البالغة الرشيدة بدون إذن الولي والزام الزوج بايقاع الخلع اذا طلبته الزوجة وجوبا عليه.

هذا القانون يقول لا للعمل بالإجتهادات الجعفرية الجديدة وابقوا - كما بقى الآخرون من المذاهب الأخرى على آراء فقهائهم القدماء - ولاتجددوا في فقهكم. وهنا مقتل الفقه الجعفري المتجدد الذي يواكب الحياة.

اغلب القانونيين يتصورون أن الأحكام الشرعية مثل القانون الذي يعدونه نصا لا اجتهاد أمامه، الحكم الشرعي بالفقه قابل للتغير بحسب إجتهاد كل مجتهد ولذلك هو مواكب للزمن ومتغير بحسب تطور الحياة، فلايجوز تقليد الميت، أي على المكلَّف إتباع غير المشهور من الفتاوى جبرا، إذا اجتهد مرجعه برأي ما غير مشهور.

ولذلك نشاهد الجمود عند القانونيين لأنهم يقيسون الفقه عليه.

الفقه إجتهاد بشري في النص التشريعي الثابت، وعمل المكلف الجعفري هو إتّباع من يراه الأعلم أو يراه مجموعة من الفضلاء أنه الأعلم فيأخذ برأيهم، وهذا هو الذي يحكم عمله وليس قانون فيه الكثير مما يخالف مذهبه (كما سأوضحه في منشورات قادمة) .

ان السعي وراء اسم فقط والحصول على نصر موهوم من أشخاص غير مؤهلين سوف يجعل هذا الفقه العظيم مجرد نصوص ميتة.

أن مثل هذا القانون المهم والذي يغير حياة الناس لابد ان يدرس دراسة مستفيضة، وأن تشارك به جعات دينية وقانونية وشعبية وممثلون عن المجتمع المدني، بحيث يشبع دراسة وبحثا، فالقانون المعدل هذا شوه الفقه الجعفري ولم ينصره ولم يطبقه كما يجب تطبيقه.

كان الأجدر أن يتم تلبية أتباع المذهب الجعفري بطريقة أسهل، وهي إجرائية أن ينتدب ويعين رجل دين (فقيه) في المحاكم يعرف ويتابع آراء المجتهدين ويعمل بآخر فتاواهم ويلبي مطالب الناس بحسب مجتهديهم، مهما كثر المجتهدون وبذلك نحفظ للفقه الجعفري فرادته وتميزه،لكن كما يبدو أن البعض يريد أن ينسب لنفسه نصرا ويعمل (حلاوة بكدر مزروف).

***

ا. د. بتول فاروق - النجف

١٣/ ٢/ ٢٠٢٥

عاش العراق تاريخه الاطول بين تواريخ المجتمعات البشرية بلا رؤية للذات وللخاصيات الوطنيه، والامر لهذه الجهة لايخص ناحية او مسالة خاصة متعلقة بالكيانيه العراقية تحديدا بقدر ماتتعداها الى الواقع المجتمعي البشري ككل، والى اجمالي التشكلية المجتمعية  الكيانيه بعد التبلورات الاولى، الامر الذي يعود تقريبا الى قرابة العشرة الاف عام، عندما بدات في هذا المكان بالذات علائم التشكلية النمطية البيئية الاولى تاريخيا، قابلتها في وقت مقارب حالة شرق متوسطية نهرية اخرى، هي النيليلة التي ستنتج صيغة كيانيه صارت هي النموذج على مستوى المعمورة، تلك هي الصيغة الكيانيه "الوطنية" التي يعتبرها جغرافي مصري مثل جمال حمدان قمة ومنتهى ممكنات التشكل المجتمعية الكياني على مستوى المعمورة.

وتتغلب الصيغة المشار اليها اعلاه لتغدو بمستوى البداهة التعميمية، دلالة على حال لم  يحصل التوقف عنده لاسباب تكاد تكون عضوية، متعلقة بالجانب العقلي من الكينونة والنشوئية البشرية الاعقالية، وعملية ترقي وتصير العقل، لتدل على قصورية كانت غير قابلة للتجاوز في حينه، بالذات وتعيينا بما خص العلاقة بالظاهرة المجتمعية، ومدى وممكنات ادراكها والتعرف على كنهها، وهي حالة ستستمر غالبة عموما على مدى الطور اليدوي من التاريخ البشري، الى ان بدات اولى علامات الاقتراب من الظاهرة المجتمعية ومحاولة ادراك منطوياتها مع بدايات الانقلاب الالي الحديث، هذا علما بان بدايات مايعر ب "علم الاجتماع الغربي" او "اخر العلوم"، لم تفلح في تحقيق اللازم وكشف النقاب عن الحقيقة المجتمعية التي ظلت وقتها والى اللحظة غائبة، كما كانت على مر التاريخ السابق، وماحدث ان الغرب على عكس المطلوب، قد كرس بقوة مفهوم الكيانيه  بصيغتها الاخيرة الحديثة ( الدولة/ الامه)، وعممها، لابل ولم يتوانى عن  فرضها بالقوة والاكراه.

وهكذا ظلت النقيصة الكبرى نفسها قائمه بعدما تحولت مع تبدل نوع الانتاجية التاريخي الى معضلة كبرى، وعامل خطورة يمكن ان تواجهه المجتمعات والبشرية على مستوى المعمورة، فما نشير اليه من نقص ادراكي اصلي، واساس بدئي، ليس مسالة ذاتيه، والمقصود هنا الخاصيات الرافدينيه مابين النهرينيه وماترتب عليها وعلى منطوياتها التاسيسية، مما يستدعي اعادة النظر في الظاهرة المجتمعية وموجباتها، وتصميمها الكوني الذي يعين مستهدفاتها ومن ثم مستهدفات الكائن البشري كينونة ومآلا، فكيانيه النهرين كانت حين قامت بالاصل نقيضا، ومن نمطية ونوع مجتمعي اخر، مقارنه بالنيلي التبسيطي الكيانوي والادراكي، بينما ولدت في ارض النهرين العاتيين المدمرين، الاسباب والموجبات الكونيه الغعلية الموافقه للصيرورة البشرية للاكيانيه المتعدية للكانيه الانيه، تقوم اساسا كاصطراعية ازدواجية من مجتمعيتين: لاارضوية اساس وبدء، وارضوية هي حصيلة الانصباب من الجهات الثلاث المفتوحة شرقا وغربا وشمالا باتجاه ارض الخصب جنوبا، وبدء اصطراعية هذه مع النمطية الاخرى المتشكلة قبلا في غمرة الاصطراع مع البيئة الطاردة، وحالة العيش على حافة الفناء، لتزيدها من الاسباب سببا مهما، يكرس خصوصياتها وجوهر كينونتها اللاارضوية المجافية كليا.

لم يعرف العراق ارض الرافدين وما بين النهرين على مدى تاريخيه، الكيانيه الارضوية " الوطنيه الاحادية" على الاطلاق، وهي كيانيه ادنى كينونة، مقارنه بالنوع المجتمعي الاعلى والاكثر توافقا مع الحقيقة الوجودية البشرية، والباقية خارج البحث، بانتظار توفر العقل بالتفاعلية الطويلة على اسباب الادراكية الضرورية المغفلة، وبغض النظر عن متبقيات وماتراكم من اصناف النظر الى تاريخ العراق،  بناء لبداهة الالحاق بالنموذج القابل للاحاطة، فان ماحدث هنا من تشكلات على مستوى الكيانيه، ظل كونيا  متعديا للوطنيه، امبراطوري مع سرجون الاكدي حاكم زوايا الدنيا الاربع ( قصتة الشخصية ولادة حتى الحكم، هي قصة النبي موسى)اول امبراطور ازدواجي في التاريخ البشري من  2371 ـ 2316، ولاارضوي سماوي نبوي حدسي كوني من اسفل، وصولا الى بابل / المدينوامبراطورية/ كتشكل نهائي للمجتمعية العليا النازلة، بعد عجزها عن اخضاع مجتمعية اللاارضوية واضطرارها للانكفاء خارج المكان، تامينا للريع غير الممكن داخليا، بعد اضطرارها الى خوض الغزوات الداخلية المكلفة جدا لحلب الريع، ماقد استوجب استقلالها في اعلى وعلى حافة المجتمعية اللاارضوية في مدن محصنه ومسورة اعلى تحصين، معزولة عن المجتمعية السفلى، اعلاها تجسيدا لنوعها "بابل" قبل "بغداد"  بانتظار "بابداد"،مع ان الثانيه هي هروب عباسي من الاسفل(1)، من الكوفة الى الاعلى لاجل الاستقلال المدينو/امبراطوري.

والمجتمعية الاصل تبلورا، هي مجتمعية ( الكائن البشري/ البيئة)  تشكلا وكينونة مادامت الانتاجية اليدوية هي السارية،  وقد وجدت في الشرق المتوسطي استهلالا على نوعين، كوني لاارضوي مستقبلي ازدواجي، تبدا اولى تبلوراته وسط مجافاة النهرين وتدميريتهما وفوضاهما المخالفة للدورة الزراعية فيضانا، مع جملة الاشتراطات البيئية الطاردة، وانفتاح الحدود من الجبال الجرداء والصحارى شرقا وغربا وشمالا، ماعدا منطقة الامان التاريخي جنوبا، مقابل المصرية حيث التوافقية البيئية الانتاجية للنيل الذي يفيض بانفاق مع الدورة الزراعية، والحماية التي توفرها الصحراء والبحر في الشمال ضد الانصبابات والغزو، مايجعل المجتمعية من دون ديناميات اصطراعية مجتمعية، من البديهي تشكلها في الدولة، في نمطية دولة احادية، هي الاكثر شيوعا على مستوى المعمورة، مع تعدد اشكالها، وبالاخص اعلاها ديناميات ضمن صنفها، المجتمعية الاصطراعية الطبقية الاوربية على المنقلب المتوسطي الاخر.

تشكليا ومن حيث الديناميات والقانون التفاعلي المجتمعي، تظل الارضوية الاحادية بصيغتها المتعارف عليها تاريخيا هي الغالبة، لانتفاء الاسباب الضرورية واللازمة للتحقق اللاارضوي الرافديني  المشروط اولا بانتهاء القصورية العقلية اليدوي، وانقضاء الطور اليدوي من الانتاجوية، بما يعني بقاء نمطية مابين النهرين خارج الادراكية ابان الطور اليدوي، وانتسابها الى الطور الثاني الالي كشرط موضوعي مادي واعقالي ضروري لحضورها.

ولايعني بدء الانتقال الالي في بداياته، تحقق الادراكية الاليه في حينه وساعته، فاوربا التي يقع بين ظهرانيها الانقلاب المشاراليه، ليست مؤهله لان  تدرك الحاصل فيها، وبالاخص من ناحية النوع النمطي، ومن ثم الكياني، فتظل ابتداء رازحه تحت وطاة الارضوية اليدوية السالفة ونوع ومستوى ادراكيتها للمسالة المجتمعية، الى ان تحين اللحظة، وتتوفر الاسباب والتراكمات الضرورية لانبثاق الرؤية اللاارضوية الازدواجية، مع بدء الانتقالية التحولية البشرية من "الانسايوانيه"، الى "الانسان العقل"، والى اشتراطات التحول من الارضوية الى الكونيه، ووقتها فقط يكتمل الانتقال التاريخي من اليدوية الانتاجية الى الاليه بصيغتها العليا / التكنولوجية.

***

عبد الأمير الركابي

 

زُج ما يُسمَّى بـ «قانون تعديل قانون الأحوال الشّخصيّة» (188 لسنة 1959)، مع قانوني «العفو العام»، و«إعادة العقارات» - المستولى عليها قبل (2003)، وليس بعدها - فأقرَّ البرلمان (21/1/2035) القوانين الثلاثة بمزاد غريب، حتَّى على تقاليد الأسواق، وبعدها قامت المحكمة الاتحادية (4/2/2025)، بوقف تنفيذ التَّعديل، وقصدها ليس (تعديل) الأحوال الشّخصية، إنَّما قانون «العفو العام»، المتصل بما جنته على العراقيين مادة (4 إرهاب) و«المخبر السّري»، المصوت عليها وفق اتفاقات رؤساء الكُتل، أمَّا الأعضاء فعليهم رفع الأيدي، فتكتل حزب الدّعوة، وهو ما يشار إليه بالدَّولة العميقة، يلح مؤيداً تبطيل (اشتقاق من الباطل) الأحوال الشّخصيّة، وتسليمها للفقه، كمظهر من مظاهر الدَّولة الدّينية، التي ينشد إقامتها، وبالمقابل أخذ يلح على إلغاء إقرار قانون العفو العام.

ما يهمنا هو «الأحوال الشَّخصيّة»، فليت المقصودَ تحريرُ هذا القانون مِن اِعوجاج، فسمُّي- جزافاً- تعديلاً، بما اشتهر بتصويت السَّلة، ولا عِلم لي إذا كانت «السَّلة» مِن أدوات الدّيمقراطية، وهي أداة الأسواق لا البرلمانات، وهنا أول مرة ألجأ للذَّكاء الاصطناعيّ، وأسأله عن تصويت السِّلال؟ فأجاب بنعم، ولكن ليس بمعنى التَّصويت دفعة واحدة على ما في السَّلة، إنما حصل قديماً أنْ «يُطلب مِن الأعضاء، وضع أصواتهم في سَلة، أو صندوق خاص، من دون إعلانهم عن خيارهم علناً، مما يُعزز السّرية».

استخدم لفظ التَّعديل تلطيفاً للأسوأ، وهو في الحقيقة تبطيل لا تعديل، وإلا فاللَّفظ منافٍ لحقيقة ما يُراد إقراره، فحسب المعاجم العربيّة: «تعديل الشَّيء تقويمه، فاعتدل حتَّى استقام» (لسان العرب)، والعدل ضد الأعوج، فكيف بإلغاء قانون يحفظ حقّ الطَّفل والمرأة يُعد تعديلاً؟ في سن الزَّواج والحضانة، وكلاهما يقعان على كواهل الأطفال والنّساء.

اعتمد «المعدلون» على مادة الدّستور الثَّانية: «لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام»، ومعلوم الثَّوابت هي الأُصول المعروفة، أمَّا تفاصيل الزّواج فمِن وضع الرّجال، ولأبي حنيفة(ت: 150هج) عبارة قالها عندما أُشكل في مسألة: «نحن رجال وهم رجال» (الزَّمخشريّ، ربيع الأبرار)، والدَّليل اختلاف المذاهب في مسائل الزَّواج بتباين الفقهاء، ولو كان ذلك مِن الثّوابت ما صنفت كُتبُ «اختلاف الفقهاء»، وما ظهرت في مكاتبنا الألوف المؤلفة في اختلاف الاجتهادات! فأي ثوابت للإسلام تتعارض مع سن الزواج (18) عاماً؟ وأي ثابت تتجاوزه مدة الحضانة للأم؟ كذلك اعتمد (المعدلون) على المادة (41): «العراقيون أحرارٌ في الالتزام بأحوالهم الشَّخصيَّة...».

أليس هذا مبعثَ فوضى في المجتمع؟ وما دُست هذه المادة في الدّستور إلا ثأراً لمن أزعجه قانون (188/1959)، فقد جعل عقود الزَّواج للمحاكم، لا للفقهاء، مع تحديد سن الزَّواج اللائق، والميل لمصلحة الطَّفل بحضانة الأمّ. ليس هناك دولة تنظر إلى الأمام بلا قانون أحوال شّخصية، يحمي الطُّفولة. سيقولون: إنَّها الدِّيمقراطيّة؟ أقول: إذا كان الأمر كذلك، فالنَّاس أحرار في ممارسة الضّرر الاجتماعيّ!

بينما للأطفال الحقّ بالحماية مِن معاملات تقرّ خطوبة الرَّضيعات، والاستمتاع بهنَّ «لا بأس به»، والدُّخول بإكمال التسع سنوات! هل فكر المعدلون بفظاعة المشهد؟! مِن باب آخر جَعل (التَّعديل) الفقهاءَ فوق المحاكم، لتغدو مكاتب خدمية لِما يبرمه الفقيه. بينما قانون (188)، أخذ ما يناسب العصر من المذاهب، جاعلاً مصلحة الإنسان أولاً. اِطَّلعت على معظم قوانين الأحوال الشّخصية، لدول قريبة وبعيدة، فوجدتُ الزَّواج عند كافتها (18) عاماً، والحضانة للأمِّ بين (15) إلى (18) عاماً. فهل تراها خالفت «ثوابت الإسلام»؟

وأين فقه المصلحة؟ سبق الشّاعر وقال في محنة مشابهةٍ: «مشت كلّ جارات العراق طموحةً/ سراعاً وحالت دونه العقبات» (الجواهريّ، الرَّجعيون 1929). يبقى الأمل بالقضاء العراقي يرفض تطبيق قانون التّبطيل، فهو شرخ في تاريخ العدالة، فلا يجب أن تكون مصائر الأطفال والنّساء خاضعة للمساومة، فيصوت عليها بـ «السَّلة».

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ما يجري في العالم من تسارع للاحداث والصراعات، ماهي الا حرباً للسرديات مختلفة وصراعاً انتقل من السردية الى ارض الواقع، ومحاولات لفرض الوجود من طرف على حساب الطرف الأخر، اذن هي معركة لاثبات الشرعية.

فلم تعد تقتصر المعارك على الأسلحة والجيوش، بل انسحبت إلى ميادين الفكر والثقافة والإعلام، تُعرف هذه الظاهرة بـ"حرب السرديات" حيث تتنافس الدول والجماعات وحتى الأفراد على فرض رؤاهم ورواياتهم الخاصة للواقع والتاريخ، في جوهر هذه الحرب، تكمن مسألة "إثبات الوجود" ومحاولة للسعي إلى ترسيخ الهوية والتأثير على وعي الجماهير وصناعة الحقيقة المقبولة.

فالسردية ليست مجرد قصة تُروى، بل هي إطار فكري يؤثر في فهم الناس للأحداث ويشكل هويتهم الثقافية والسياسية، وفي سياق الحروب التقليدية أو تناطح الأيديولوجيات، تسعى الأطراف المختلفة إلى فرض وبسط رواياتها حول الشرعية، والاحقية والعدالة والقيم التي تدافع عنها.

في الوضع الطبيعي لن تحتاج الامم لسردية مثيرة تثبت بها احقيتها من غيرها في نزاع ما!

لكن يبرز اهمية خلق سردية بشكل خاص عند الصراعات التاريخية، حيث تحاول كل جهة إعادة تشكيل الماضي بما يخدم مصالحها، وفي النزاعات السياسية، حيث تستخدم الحكومات والمؤسسات الإعلامية السرديات لتبرير سياساتها.

وتعمل على تغذية تلك السرديات بشهادات حية مرة، لأناس عاصروا تلك الحقبة الزمنية او تستشهد بصور وبيانات ومخطوطات ووثائق تعضد على لسان السردية.

ولا يقف الامر عند هذا الحد بل قد تخاض حرب السرديات عبر وسائل متعددة، من أبرزها، الإعلام التقليدي والجديد اذ تستخدم الدول والمنظمات القنوات التلفزيونية والصحف ومنصات التواصل الاجتماعي لنشر رواياتها والتأثير على الرأي العام.

كذلك يلعب الأدب والسينما والموسيقى دورًا مهمًا في ترسيخ السرديات عبر الزمن، حيث تساهم في خلق صور نمطية وتشكيل وعي الأجيال. والمسلسات المصرية التاريخية خير دليل

اما التعليم والمناهج الدراسية فتعد أداة حاسمة في بناء السردية الوطنية وترسيخ قيم وتصورات محددة حول التاريخ والهوية.

يعد "إثبات الوجود" أحد الأهداف المركزية لحرب السرديات، وهو يعني تأكيد الهوية والحقوق في مواجهة التهميش أو الطمس الثقافي والسياسي.

يظهر هذا بوضوح في قضايا يعيشها العالم اليوم، مثل القضية الفلسطينية حيث يتنافس الفلسطينيون والإسرائيليون على سرديات متناقضة حول الاحقية بالأرض والتاريخ والحقوق، ويستخدم كل طرف الإعلام والتعليم والدبلوماسية بل وحتى الطبخ فكل طرف يقول انه اول من اخترع الفلافل! لترسيخ روايته.

ان التوثيق الرصين لعادات وتقاليد وموروثات الشعب ما هو الا صك ملكية للارض والهواء لتلك البقعة، وعند العودة للقضية الفلسطينية وسرديته حول الارض نرى ان العالم بات يهمش تلك السردية، وغالبا ما يطالب بإعادة كتابة التاريخ من جديد، والتوجه نحو اسرائيل وتصوير ثقافتها كنموذج عالمي، او الترويج لهويتها الخاصة كبديل منافس.

ولا تواجه السرديات بمنطق القوة بل بسرديات مغايرة لها وذلك باتباع استراتيجيات متعددة، منها تعزيز التفكير النقدي لدى الأفراد ليتمكنوا من تحليل السرديات المختلفة وفهم دوافعها، اي لا يقبل اي سردية خرافية وتهمل من المبالغة وعدم الدقة الشيء الكثير.

اما إنتاج السرديات البديلة فيجب ان تستند إلى حقائق واضحة وصحيحة وهنا ياتي دور الإعلام المستقل كونه القوة الناعمة بدعم السردية عبر دعم الصحافة الحرة والإعلام المستقل لضمان تقديم روايات غير منحازة وقائمة على الحقائق وتوظيف التعليم والفنون كوسائل لنشر السردية الوطنية أو القومية بطرق أكثر تأثيرًا وديمومة.

في ظل تزايد الصراعات الفكرية والمعلوماتية، أصبحت حرب السرديات أداة حاسمة في رسم خريطة النفوذ والتأثير العالمي، إن النجاح في هذه الحرب لا يعتمد فقط على القوة العسكرية أو الاقتصادية، بل على القدرة على صناعة وإيصال روايات مقنعة تخاطب العقول والقلوب. في النهاية، من يمتلك السردية الأكثر إقناعًا هو من يستطيع إثبات وجوده بقوة في ميدان التاريخ والسياسة والثقافة.

***

رسل جمال

تذهب نظرية (حافة الهاوية) تلك التي يجري توظيفها في الحقل السياسي والصراعات الدولية إلى أنه عليك التمترس إلى أقصى درجة، ورفع سقف مطالبك إلى حدود غير مقبولة، وجعل الأمر وكأن حرباً كبيرة ستقوم. في تلك اللحظة سيفقد الجميع الأمل مطلقاً في إمكانية الوصول الى أي حل سلمي، هنا يكون الجميع قد وقف على حافة الهاوية.

ومن ثم حين تُقدِّم تنازلاً بسيطاً جداً سيهرع الجميع للقبول بباقي مطالبك، اعتقاداً منهم أنهم أحرزوا نصراً، ونزعوا فتيل التوتر، وتجنبوا سيناريو الحرب.

فهي إذن استراتيجية التصعيد لأزمة دولية ما إلى قمة الصراع، ودفعها إلى حافة الهاوية من أجل إخضاع الطرف الآخر عبر استدعاء الخوف، وهواجس النهاية المأساوية الكامنة داخله.

ونظرية حافة الهاوية (Brinkmanship) تلك كان قد نظَّر لها وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس، في خمسينيات القرن المنصرم، وتم تطبيقها بالفعل إبان الصراع الكبير بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي فيما يعرف بالحرب الباردة، والحرب الكورية عام1953م وكذلك وقت الأزمة الكوبية عام 1962م.

من هنا يمكننا أن نفهم الاجراءات التي شرع ترامب في اتخاذها في الآونة الأخيرة ضد كثير من بلدان العالم، والتي وضعت الاستقرار الدولي على الحافة، إذ تدور في سياق ما تطرحه تلك النظرية السياسية.

كذلك التصريحات المتعلقة بالشأن الفلسطيني، فما أعلنه ترامب من مخططات تهجير للفلسطينيين والقضاء على مشروع الدولة الفلسطينية لصالح الصهيونية العالمية هي الأخرى، في اعتقادنا، تندفع وفق مقتضيات تلك الرؤية.

فهي إجراءات في اعتقادي سيتراجع ترامب وحلفاؤه عن بعضها لكنهم لن يكفّوا عن الضغط لمرات عديدة في سبيل تحقيقها طالما أن الظرف الدولي يسمح بذلك ولم يجدوا تكتلاً دولياً حقيقياً يتصدى لهم.

غير أن حافة الهاوية الحقيقة التي يأخذ ترامب أمريكا والغرب إليها، والتي نقصدها في هذا المقال، هي حافة هاوية الحضارة الغربية واقتراب انهيارها، إيذاناً بحتمية تشكُّل نسق حضاري جديد، وربما تكون تلك هي الحسنة الوحيدة من وراء وجود ترامب وحلفائه في السلطة.

حقيقة أن الرجل الفائق لدى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، أو السوبرمان الذي بشر به، نجده وقد تجسَّد في شخص (دونالد ترامب)، هذا الرجل الجسماني النفعي، ذو النزعة البراجماتية الانتهازية، والخالي من أية مشاعر إنسانية، الذي لا يعرف مقتضيات الرحمة الإنسانية ولا يفهم إلا مصالحه وفقط ودون أن يعبأ بأية قيم إنسانية.

ربما لو عاش نيتشه حتى رأى ترامب لعدل عن كثير من أطروحاته، أو لانهار مغشيًا عليه من رداءة وكارثية تفسيرها.

تنصيب ترامب هو إذن علامة على بداية دخول الحضارة الغربية والأمريكية تحديداً طور الانهيار، ومن ثم سيتذكر التاريخ تلك اللحظة جيداً.

ونلمح هنا توافق الرؤية الترامبية التام مع النظرة ما بعد الحداثية، فكل شيء قابل للبيع بما فيها الكرامة الإنسانية، والقيم، والمبادئ الخالدة، والتاريخ، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.

وأنه لا أحد يمكنه مقاومة الإغراءات المادية في عصر ما بعد الحداثة، إنها، وفقًا للقناعة الترامبية، تجعل الشعوب تُسقِط من ذاكرتها تاريخها، تُثملها وتضعها في حالة سكر ونشوة بفعل المتع المادية الآنية الكاذبة.

فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذاته هو أحد أحدث منتجات ما بعد الحداثة في طورها الأكثر رداءة، هو تعبير عن بلوغها أقصى درجات الانحطاط الإنساني، ذلك الجسماني الخاوي والمُفرغ من الداخل، ورجل المصارعة الذي يُمجِّد القوة كقيمة مركزية ولا يعبأ بالقيم الإنسانية، رجل البيزنس والمقاولات حيث قيم الربح والخسارة هي الحاكمة وأن كل شيء قابل للمساومة ومن ثم البيع والشراء، كما يتم استدعاء المُتع الجنسية والدفع بها لأقصى حد، الاستهلاك المفرط، الحياة المنزوعة من أي غائية حقيقية، العمل الفاقد للقيمة كعروض الأزياء ومستحضرات التجميل والمضاربات وسمسرة العقارات، المهم لديه هو تحقيق أعلى ربح بأقل جهد.

كذلك النظرة الدونية للآخر، غير الغربي تحديدًا، ذلك الذي هو ما دون الإنسان ومِن ثَمَّ فحياته وممتلكاته وثرواته مباحة طالما أن ذلك سيحقق السعادة والرفاهية القصوى للإنسان الغربي، فهو حقًا (الكائن المستباح)، إذا جاز لنا أن نستعير من المفكر الإيطالي جورجيو أجامبين.

كذلك الإيمان بمقدرة المال على شراء كل شيء، فهو، أي ترامب، يعتقد أنه اشترى الكرسي الرئاسي بأمواله وأموال حلفائه، وهو مُحِقّ في ذلك إلى حد كبير.

رغم علمانيته نجده وقد تحالف مع التيارات الدينية المتطرفة (كالصهيونية الدينية أو المسيحية الصهيونية) فهي بمقدورها تثبيت أركان دولته والغاية حتماً تبرر الوسيلة.

وإذا ما كان مفكرنا العظيم ديستوفيسكي يردد أن الحضارة الغربية قد اتسمت بسمات ثلاث رئيسية هي (النفعية المادية، ضمور الحس الخلقي، التمركز حول الذات) فإن ترامب وأعوانه قد دفعوا بتلك الخصائص والسمات إلى حدودها القصوى.

في يقيني أن لحظة جلوسه على كرسي الرئاسة هي تدشين لعصر دخول الحضارة الغربية والأمريكية تحديدًا في طور الانهيار التام بعد فترة سبقتها من الاضمحلال الأخلاقي والقيمي، فهي إذن حافة الهاوية.

فترامب هو هتلر الجديد لكن في نسخته الأكثر رداءة ودموية والذي سيقود أمريكا والنظام العالمي معها إلى حافة الجنون.

***

دكتور محمد عمارة تقي الدين

ليس من مهمة الدولة إدخالك الجنة. ليست وظيفتها أن تقودك إلى المطلق، ولا أن تُلقنك شكلًا واحدًا للخلاص، ولا أن ترسم لك طريقًا سرمديًا نحو النجاة. الدولة، في جوهرها، كيان مادي، هش، مؤقت، قائم على التفاوض بين المصالح، خاضع لقوانين التاريخ والتقلبات الاجتماعية. لا يمكنها أن تدّعي امتلاك مفاتيح الأبدية.
ومع ذلك، ما زالت السرديات السلطوية تصرّ، بإلحاحٍ وضاعة، على الالتفاف حول العقل الجمعي، وتدجينه عبر منظومات الخطاب الديني والسياسي، بحيث يُغلق الأفق أمام أي محاولة للفكاك من قبضتها.
لكن لماذا تحتاج السلطة إلى الدين؟ ولماذا يتكئ المستبد على رجل الدين كما يتكئ الاعرج على عصاه؟
يبدو الأمر وكأنه استدعاءٌ مقصود لوهم السرمدية، حيث يحاول الحاكم، كيانٌ زائل بحكم التاريخ، أن يُلبس نفسه رداء المقدس، أن يعبر هشاشته عبر أوهام الإطلاق، أن يتمدد في الزمن عبر أذرع الأيديولوجيا اللاهوتية.
منذ اللحظة التي يدرك فيها أي نظام سلطوي محدوديته، يبدأ في استدعاء الغيبي، يحتمي به، يستخدمه كسلاحٍ ضد أي محاولة لتفكيك بنيته.
السردية هنا ليست جديدة: الملك الذي يتوجّه بمباركة الكهنة، الخليفة الذي يُسمى “ظل الله في الأرض”، الطاغية الذي يحيط نفسه بفقهاء السلطة، في مشهدٍ كاريكاتوري يختزل ألفيةً من التاريخ في صورةٍ واحدة، حيث يجلس السياسي في مركز الهيمنة، بينما يجلس رجل الدين على حافة المشهد، كمجرد انعكاسٍ سلطوي لصورة الحاكم.
حين تتحول الدولة إلى وسيطٍ بين الإنسان والمطلق، يصبح الدين أداةً لإعادة إنتاج السلطة، لا مشروعًا روحيًا مستقلًا. لا تكتفي الدولة بتطويع الدين لخدمتها، بل تحوّله إلى خطابٍ مغلق، لا يسمح بأي تأويلٍ خارج المسموح به، ويُستخدم لتبرير الاستبداد، وتشريع الإقصاء، وعزل المثقف أو نفيه أو التخلص منه أو جعله ضمن منظومة الهيمنة.
يتحول الفقر إلى “ابتلاء”، والقمع إلى “حماية”، والصمت إلى “حكمة”.
لا يعود الإيمان مسألةً شخصية، بل يتحول إلى ميثاقٍ اجتماعيٍ قسري، تفرضه السلطة كإجراءٍ إداري، كجزءٍ من البيروقراطية السلطوية، حيث يصبح التدين علامةً إجبارية على الولاء، لا اختيارًا فرديًا ينتمي إلى حقل التجربة الداخلية للإنسان.
في السودان، لم يكن نظام الجبهة الإسلامية إلا امتدادًا فجًّا لهذه السردية، حيث استخدم الإسلاميون الدين غطاءً لتبرير حكمهم، وحوّلوا جهاز الدولة إلى مؤسسةٍ لإعادة إنتاج الطاعة تحت لافتة الشريعة.
حين استولت الجبهة الإسلامية على السلطة بانقلاب 1989، قدمت خطابًا قائمًا على أن الحكم الإسلامي هو الطريق إلى “المدينة الفاضلة”، حيث يصبح السودان نموذجًا “للدولة الرسالية” التي تقود العالم الإسلامي.
لكن في الممارسة، لم يكن هذا المشروع سوى إعادة تدويرٍ لصيغ الاستبداد الكلاسيكي، مع إضفاء طابعٍ ديني يمنحه غطاءً شرعيًا.
تحولت الدولة إلى مؤسسةٍ عقائدية، تُوظف فيها أجهزة الأمن والمخابرات، ليس فقط لقمع المعارضين، بل لمراقبة إيمان الأفراد، حتى بات الولاء للنظام يتجسد في الشعائر والتصريحات قبل أي شيءٍ آخر.
لم يكن الهدف خلق مجتمعٍ أكثر تدينًا، بل خلق مجتمعٍ أكثر خضوعًا، حيث يصبح التدين جزءًا من البنية البيروقراطية للهيمنة.
كما في كل الأنظمة التي تستخدم الدين كأداة، كان لا بد من تصفية المثقفين الذين يشكلون تهديدًا لهذا البناء.
لم يكن من الممكن السماح لأي خطابٍ بديل أن ينمو، فإما أن يتم تدجين المثقف داخل المنظومة، عبر تقديمه كواجهةٍ دينية “معتدلة”، أو يتم نفيه تمامًا، سياسيًا أو حتى جسديًا.
هكذا وجدنا عشرات المفكرين السودانيين يختارون المنافي، بينما أُفرغت الساحة الثقافية لصالح خطابٍ دينيٍ مؤدلج، يُعيد إنتاج نفسه عبر فقهاء السلطة، الذين تحولوا إلى أدواتٍ ناطقةٍ باسم النظام.
في المقابل، كان الشيوخ والفقهاء الرسميون يتمتعون بامتيازات السلطة: القصور، والصفقات، والظهور الإعلامي المكثف، في حين كانت المساجد المستقلة تتعرض للمضايقة، وأحيانًا الإغلاق.
لم يكن الدين هو المقصود في ذاته، بل كان مجرد قناعٍ سياسيٍ لتمرير مشروع الهيمنة، حيث تتحول المنابر إلى أداة ضبط، لا إلى فضاءٍ للبحث عن المعنى أو للحوار المفتوح.
لكن لماذا تصرّ السلطة على التلبّس بالمقدس؟ ولماذا تعيد إنتاج هذا النموذج رغم فشله؟
الإجابة تكمن في طبيعة السلطة ذاتها، في حاجتها الدائمة إلى تبرير وجودها عبر أدواتٍ ما فوق سياسية.
السياسة، في جوهرها، تقوم على الصراع والموازنة والمصالح، وهي جميعًا أمورٌ نسبية، متغيرة، مؤقتة.
الدولة التي تفقد قدرتها على إقناع الجماهير بشرعيتها من خلال الإنجاز والتنمية، تلجأ إلى استراتيجيةٍ أخرى: تحويل الشرعية إلى سرديةٍ لاهوتية، بحيث لا تعود المسألة متعلقةً بكفاءة الحكم، بل بقدسيته، بحيث يصبح الاعتراض على السلطة نوعًا من التجديف، وتصبح المعارضة السياسية ضربًا من الخروج على النص المطلق، لا على القانون الوضعي.
لكن إذا كانت الدولة ليست مسؤولةً عن خلاص الأفراد، فلماذا تصرّ على لعب هذا الدور؟ ولماذا يصرّ بعض الأفراد على قبول هذه السردية، حتى عندما تكون ضد مصالحهم المباشرة؟
الإجابة تكمن في ما أسماه أنطونيو غرامشي بـ”الهيمنة الثقافية”، حيث لا تفرض السلطة سيطرتها فقط بالقوة، بل عبر التحكم في الخطاب، في الأفكار، في ما يُقال وما لا يُقال.
السلطة الأكثر إحكامًا ليست تلك التي تضطهدك، بل تلك التي تقنعك بأن اضطهادها هو شكلٌ من أشكال الحماية، وأن قمعها لك هو نوعٌ من الرعاية، وأن بقاءها ضروري، حتى لو كان ثمن ذلك هو اختناق المجال العام، وانغلاق الأفق، وانعدام أي إمكانيةٍ لتصور مستقبلٍ خارج الهيمنة.
لكن هل نكتفي بالنقد، أم نطرح سرديةً مضادة؟ هل يمكن تصور دولةٍ لا تحتكر الدين، ولا تُفرغه من مضمونه الإنساني، ولا تستخدمه أداةً في مشاريع السلطة؟
الدولة التي لا تزعم احتكار الحقيقة ليست بالضرورة دولةً ليبراليةً متوحشة، ولا دولةً فوضويةً بلا معنى.
يمكن تصوّر دولةٍ مدنية، اشتراكيةٍ ديمقراطية، تضمن الحقوق دون أن تفرض الوصاية، تحترم الإيمان دون أن تؤدلجه، تتيح المجال للنقد دون أن تمتصّه داخل آلتها البيروقراطية.
في النهاية، الدولة ليست نبيًا، ولا الحاكم قديسًا، ولا النظام السياسي كيانًا سرمديًا.
إنها جميعًا مؤسساتٌ بشرية، قابلةٌ للتغيير، قابلةٌ للزوال، لا تحمل أي قيمةٍ مطلقة، ولا تمتلك أي شرعيةٍ فوق تاريخية.
وإذا كان الإنسان سيحاسب فردًا، فلا مبرر لأن يُفرض عليه طريقٌ واحد، مرسومٌ بأيدي رجال السلطة، باسم الدين، أو باسم الدولة، أو باسم أي سرديةٍ أخرى تحاول تطويعه داخل مشروع الهيمنة.
***
إبراهيم برسي

لا يمكن التخلص من السيطرة الأجنبية دون تحقيق الاستقلال الثقافي

"ازرع بذور ثقافة صحيحة في الجيل الحالي..، تجن نهضة شاملة يحققها جيل الغد ويستمتع بها" هي جملة قالها العالم الكبير الدكتور قسطنطين رزيق، الذي رأى أن ثقافة أمة، أيّ أمّة..،  هي الزاد الذي يستمد منه أبناء الأمة وقادتها وأعلامها، وهي القدرة على مجابهة  الصعاب وبناء الغد، على أسس أفضل والسعي بهم نحو مجتمع العدالة والحرية والسلم والتقدم، والمثقف عادة ما يعتبر "الديمقراطية " السقف الذي يستظل به إذا أراد أمنا وحماية، وهي الرئة التي يتنفس بها، والواقع أن المثقف هو قلب الأمّة النابض وعقلها المدبر، وإن تعرض القلب والعقل لعطب ما توقفت عجلة تقدم الأمة كلها

منذ آلاف السنين والإنسان يبحث عن طريقة يغير بها نمط حياته، ويسعى لينتقل من الفردانية إلى العيش مع الجماعة، التي منها يحقق ذاته ويؤمن الظرف المناسب للتواصل في نمط الحياة الديمقراطية على اختلاف أشكالها ونظمها، فكل من كتب عن الثقافة والمثقف يكاد لا يخرج عن حدود التعريفات التي قرأوها هنا وهناك، ودأبوا على تقديمها للطلبة في الثانوية والجامعة أو في الملتقيات،  فالبعض أرجعها إلى الزراعة   culture، في المفهوم الفرنسي القديم، وهو استعمال مجازي للدلالة على ما يجري من ترقية الأفكار والآداب، والبعض الآخر قابلها بكلمة الحضارة، التي تعكس  الهمجية والبربرية.

وإن كان بعض الباحثين اعتبروا أن الثقافة مرتبطة بالحضارة، حيث تشمل هذه الأخيرة  كما قالوا الأمور المادية والوسائل المادية أيضا،  فإن البعض الآخر فرق بين الحضارة والثقافة، كون الثانية  خاصة بكل أمّة على حدة، وهذا مخطئ لأن الثقافة الغربية استطاعت على نشر جذورها في الأمة العربية، خاصة دول العالم الثالث، الذي عرفت شعوبه السيطرة الاستعمارية، وإن كانت هذه الشعوب نالت استقلالها العسكري، فإنها لم تنل استقلالها الفكري والسياسي والثقافي كذلك، والجزائر كنموذج ما تزال مستعمرة ثقافيا، فيما راح البعض بالقول أن الثقافة أكثر شمولا، لأنها تنحصر بالأمور "الذهنية"..

فمما  لا شك فيه أن المشكلة في المجتمع أي مجتمع (الجزائر نموذجا)  هي مشكلة "ذهنيات"، وتغييرها يأتي مع الجيل الذي يكون قادرا على التغيير، ليس على طريق "الربيع العربي" مثلما يحدث الآن، من أجل التحرر، وإسقاط الأنظمة، وهنا يبادرنا سؤال وجيه، هل إسقاط النظام وإجبار الحاكم على الرحيل بطريقة أو بأخرى، يعني القضاء على الفساد أو نهايته؟، فتغيير الذهنيات لا يأتي بالنار والحديد، ولكن بالفكر، قليلون جدا من لهم فكر " نيّر" ولكن هؤلاء غير مرغوب فيهم، وغالبا ما يكونون  في الهامش، وتمارس عليهم شتى أساليب الإقصاء،  وأساليب أخرى إما تنتهي بالاغتيال، أو  تدفعهم إلى الانطوائية، وهذه بدورها تقود إلى الشعور باليأس ثم  الإقبال على الانتحار، وكم من فيلسوف مات مشنوقا أو مسموما، ولنا أمثلة في الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، الذي خص للحديث عن الثقافة والحضارة وبناء الإنسان مجالا واسعا في كتبه ومؤلفاته، ونذكر أيضا الأديب السوري ندرة اليازجي الذي صور لوحة كانت عبارة عن فسيفساء لما سماه بـ: " حضارة البؤس"، ركز فيها على قضايا  الشباب، وكانت له أحاديث في الصداقة  والزواج، وفلسفة الكذب  وغير ذلك..

الاستقلال الثقافي عامل من عوامل تحضر المجتمع

الصراع بين الشرق والغرب، ومن له حق الملكية  الفكرية، جعل البعض يطالبون بالاستقلال الثقافي، باعتبار أن الثقافة تعبير عن هوية المجتمع، غير أن الاصطدام وقع بين أصحاب هذا المطلب ودعاة الحداثة، وقد عرف بعض الكتاب المحدثين "الاستقلال الثقافي"  بأنه لا يعني كراهية الثقافات الأجنبية  ولا يتضمن قطع العلائق مع الثقافات الأخرى، إنما يعني تنظيم ثقافة البلاد وتوجيهها حسب ما تقتضيه مصالح الأمة، ذلك صحيح، غير انه غير مطبق في الواقع، لأن المسؤولين على قطاع الثقافة لم يسعوا إلى تحقيق الاستقلال الثقافي،  وراحوا بالقول أنه لابد من أن ننفتح على الآخر ونطور ثقافتنا، وأن هذه الأخيرة بحاجة هي الأخرى إلى تلقيح اصطناعي من نوع خاص، لكي نمزج ما هو غربي مع ما هو شرقي، ويمكن أن نضرب مثالا لما دأبت عليه بعض الفرق الموسيقية في الجزائر وبخاصة في عاصمة الشرق قسنطينة، عندما أدخلت فن "الجاز" على فن المالوف"، رغم أن الاثنان يختلفان.

فكل ما يقدم يكاد أن يكون تحصيل حاصل لما أنتجه الآخر، وأصبح هذا الآخر مثل الجنّ يسكن جسده وذهنه المنغلق على أفكاره الأنانية حتى لا نقول "الخبيثة"، يضع "الأقنعة" حتى لا تنكشف حقيقته المزيفة، فهل يمكن القول أن "المثقف" في المجتمع العربي بصفة عامة والمثقف الجزائري بصفة خاصة هو ذلك الوعي الزائف، لقد سئل أحد الفلاسفة في حوار أجرته معه جريدة "لوموند" le monde حول ماهية "المثقف"، فكان رده : أنا لا أعرف من هو المثقف، أعرف أن هذا كاتب وذاك موسيقي، والآخر المهندس الذي يخطط، و الذي يعالج يقال له طبيب" وهكذا، أما المثقف فلم أتصادف معه"، ويفهم من ذلك أن القضية تتعلق بالاختصاص، وكلّ والمجال الذي يعمل فيه، لكن الواقع أن "المثقف" لابد عليه كما يقول قسطنطين  رزيق  أن "يعرف شيئا عن كل شيئ، ويعرف كل شيء عن شيء"..

فما أعظم ما يكابده المثقف وهو يعصر ما أنتجه المفكرون، يقول عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكُتّابِ وهو يحثهم على العناية بتراثهم ودينهم: " فتنافسوا يا معشر الكتاب في صفوف الآداب وتفقهوا في الدين، وابدأوا بعلك كتاب الله والفرائض، ثم العربية فإنها حقائق ألسنتكم، ثم أجيدوا الخط، وأرووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها، وأيام العرب وأحاديثهم وسيرها، فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم"، ولنستمع إلى ( أمادو هامباتي بل)  الذي يقول: " من مميزات المثقف الأساسية استعداداه لسماع الرأي الآخر واحترامه لرغبته في التوصل لتفاهم متبادل عن طريق الحوار وكراهيته للتعصب،  وانفتاحه على الفهم العالمي، فهو يتمثل ثقافة مجتمعه  ويستلهم أحلام قومه وآمالهم، وفي نفس الوقت يعمل على تجاوزها أو تغييرها إن أصابها خلل .

الصِّرَاع بين "المُتَفَرْنِسِينَ" و"المُعَرّبـِينَ" متجذر في التاريخ

الصراع لم يعد بين الشرق والغرب كما يعتقد البعض، وإنما هو صراع بين أبناء الوطن الواحد، المنقسمين ثقافيا إلى مُفَرِنِسٍ ومُعَرَّبٍ، مثلما يحدث في الجزائر، وأثبتت الدراسات في ميدان الثقافة  مثلما جاء في كتاب  بعنوان : آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة" لأحد الكتاب المشارقة أن " الدول المستعمرة كثيرا ما تسعى لنشر ثقافتها في بعض البلاد، بغية تقوية نفوذها السياسي فيها، وقدم صاحب هذا الكتاب شواهد تاريخية عديدة، تؤكد أن  النفوذ الثقافي كثيرا ما يكون مقدمة للنفوذ السياسي، كما أن السيطرة السياسية كثير ما تسعى لترسيخ أقدامها عن طريق تقوية السيطرة الثقافية، ولهذا رأى الباحثين في المجال أن الاستقلال الثقافي أصبح ضرورة ملحة من اجل التخلص من السيطرة الأجنبية، والسؤال يطرح نفسه بنفسه كيف يتخلص المجتمع  الجزائري على سبيل المثال من السيطرة الأجنبية.

الصراع ما زال قائما إلى اليوم بين جماعة المتفرنسين والمعربين،  تحاول الجماعة الأولى أن تلبس للثانية ثوب "الرجعية"، وتنعتها بالتزمت، والتعصب والتخلف، وتحاول دوما إلغائها من الوجود، وظل المثقف المُعَرّبُ في الصف الأخير،  يحلم ويرسم أحلامه على الورق، في الكتب والصحف والمجلات، ويهربها نحو المواقع الإلكترونية، واليوم نجده يعلن ثورته عبر "الفايسبوك"، ووجد في هدا العالم الافتراضي المتنفس الكبير، ليعبر عن نجاحه كما يعبر عن فشله فيه أو يفعل ما لا يقدر على فعله أمام المسؤول، يركد وجوده ويقول للآخر : " أنا هنا"  لو باسم مستعار أو صورة رمزية.

المثقف والظاهرة الإسلامية وجها لوجه

محاربة الدين والرافضين لتطبيق تعالمه، حتى لا نقول "اللادينيين" ومحاربة المتلاعبين به،  من تجار السياسة، جعلت المثقف في موقف  في مفترق الطرق، ووجد نفسه في موقف  حرج جدا،  ووقع ما يسمى بالانشقاق الذاتي للمثقف، لأنه أصبح يعيش في تموجات ضبابية، أمام التعدد الإيديولوجي، وظهور دعوات جديدة لتكوين الدولة الإسلامية وطغيان الشعور القبلي والطائفي على الشعور الوطني، هذا الالتباس حسب المحللين قام من الصورة التي رسمها إيديولوجيو التاريخ الإسلامي للتاريخ العربي، حيث اعتبرت الإيديولوجيا الإسلامية (الجماعات السلفية والوهابية على الخصوص) أن التاريخ بدأ معها وأن كل ما سبقه جاهلية، مثلما جاء في كتاب الدكتور سلامة كيلة بعنوان:  العرب ومسألة الأمة، وكأنها تدعو إلى  أسلوب العيش البطريكي القديم، وهي النظرة السائدة الآن، وهذه النظرة أدت إلى تجاوز أن هناك تاريخا واحدا وتطورا تاريخيا واحدا يخصان مجموعة من البشر، فالصراعات الطائفية ودعوات الوهابية لتأسيس رؤية سلفية،  فسخت العلاقة بين المثقف ومجتمعه.

في كل هذا وذاك لا يمكن بناء الديمقراطية في مجتمع جاهل متخلف، أو مجتمع تسيره المادة وتسيطر عليه الأنظمة الفاسدة وتتحكم في قراراته ومصيره، مجتمع مثقفيه لا يعرفون من الثقافة سوى كتابة بعض الأشعار والقصص الصغيرة أو حتى الروايات، يتفلسفون في الصغيرة والكبيرة إلى درجة الفتوى، وهم يفتقرون إلى فكر يحرر مجتمعهم من نير المادة والعبودية، مثقفين هم مجرد ديكور يجلسون  وراء مكاتبهم ويتركون كاتبتهم تدير وتسير، تأمر وتنهي وتقرر، وقد تجدهم لا يفقهون شيئا من أمور التسيير سوى حمل القلم للتوقيع على وثائق يجهلون محتواها، فلا هم أفادوا المجتمع بأفكارهم وتجاربهم والمجتمع، ولا استفادوا هم من تجارب " الآخر" الذين يقتبسون إنجازاته ويمارسونها في حياتهم اليومية، وهم يملكون ما لا يملكه هذا "الآخر"، فمسخ نفسه وأصبح يعيش "الازدواجية" لأنه فقد كل المفاهيم والأفكار التي تعتبر نتاج الواقع، فبدلا من أن يبدع قلد وأغرق نفسه ومن حوله في التقليد.

***

علجية عيش

اعتبر 15 تشرين الثَّاني (نوفمبر) يوماً سنوياً لبغداد، لاسترجاع إرثها الحضاري وتاريخها الغابر، وسط حاضر لا تسر به أفقر العواصم، فكيف ببغداد، لكثرة ما مرَّ عليها من أوجاع، وقد قيل عنها، في ما مضى، مِن قِبل ابنها المؤرخ أحمد بن إسحاق بن واضح اليعقوبي (القرن الثالث الهجري)، وهو يتحدث عن العراق في كتابه (البلدان): (وإنما ابتدأتُ بالعِراق، لأنَّها وسط الدُّنيا، وسُرة الأرض، وذكرتُ بغداد لأنَّها وسط العِراق، والمدينة العظمى، ليس لها نظيرٌ في مشارق الأرض ومغاربها، سِعةً وكبراً، وعمارةً، وكثرة مياه، وصِحة هواء)(1). غير أنَّ تأسيسها كان في ربيع الأول 145هـ، المصادف في الميلادي حزيران (يونيو) 762 ميلاديَّة، فلماذا يكون يومها تشرين الثّاني، إلا إذا أرادوا تاريخ مناسبة لها غير تاريخ تأسيسها.

نقل أبو حيان التَّوحيديّ (ت: 414هـ)- عن قدماء- كلاماً مختصراً عن اختيار تأسيس المُدن: «إنَّ المُدُن تُبنى على الماء والمرعَى والمُحتَطَبِ والحَصانة»(2)، وبغداد جمعت الثّلاثة، فإذا كان الماء كان المرعى والمُحتطب، والحَصانة، أنَّها صرة العِراق، على دجلة، والفرات ليس بعيداً عنها، ولأنَّها كانت حصينة، قبل تمصيرها، اُتخذت مقراً لدير مِن أديرة النَّصارى (النّساطرة)، ومِن العادة يستقرون في الأمكنة الآمنة.

يذكر محمّد بن جرير الطّبري (ت: 310هـ)، وهو يؤرخ لبناء بغداد: أنَّ أبا جعفر المنصور (حكم: 136 - 158هـ) عندما نزلها ليختارها عاصمة له، (أحضر البطريق، صاحب رحا البطريق، وصاحب بغداد، وصاحب المخرم، وصاحب الدَّير، المعروف بستان القِس، وصاحب العتيقة، فسألهم عن مواضعهم)(3)، وكانوا في قرى منتشرة حول بغداد.

فبعد التأكد مِن مناخها في الحرّ والبرد، وخلوها مِن الهوام التي تفسد الطّعام والأبدان، وضمان وصول الميرة لها، عبر دجلة والفرات، القريب منها، وقع الخيار عليها، فبدأ البناء في الجانب الغربيّ، المعروف بالكرخ، وقد اشترى الأرض، التي أقام عليها مدينته المُدوَّرة مِن صاحبها الرّاهب، ولما أراد البناء، ويرى تصميمها، على أرض الواقع، فأمر بتخطيط الأساسات، ونثر عليها مِن حبوب القطن المرشوشة بالنّفط(4)، فاُشعلت النّيران بها (فنظر إليها والنَّار تشتعل، ففهمها، وعرف رسمها، وأمر أن يُحفر أساس ذلك على الرَّسم، ثم ابتدئ في عملها)(5).

كان ذلك السنّة (144هـ)، لكنْ والمنصور كان مشغولاً بالإشراف على بناء بغداد، لتكون عاصمة لدولته، ثار عليه قريبه محمد بن عبدالله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب (المعروف بالنّفس الزَّكيَّة) بالمدينة، وكانت واقعةً خطيرةً، كادت تعصف بالخلافة العباسية، الحديثة آنذاك، ثم ثار أخوه إبراهيم بعده بالبصرة، فترك المنصور البناء، ولم ينجز منه شيئاً، سوى حفر الأساسات للمدينة المُدوَّرة، تركها أبو جعفر ليتابع المعارك الحامية الوطيس بالمدينة والبصرة، حتى انتهت بقتل الثّائرين (145هـ)، فعاد أدراجه إلى بغداد لإكمال البناء.

كانت الخلافة العباسية، بشخص أبي جعفر المنصور، مهددة مِن داخل الهاشمية التي اتخذها أبو العباس السّفاح (ت: 136هـ) عاصمة، الواقعة بظهر الكوفة، ثم انتقل عنها إلى الأنبار ليسمي مقامه الجديد الهاشميَّة أيضاً، فمات هناك، وحَكم منها المنصور، وكان سبب الانتقال من هاشميَّة الكوفة إلى هاشميَّة الأنبار ثم إلى بغداد(6)، شغب (الرَّاونديَّة)(7)، واسم الهاشميَّة نسبة إلى بني هاشم، وليس مكاناً قديماً بهذا الاسم. بمعنى كان الدَّافع للانتقال عن الكوفة وهاشميتها والأنبار سياسياً، ليأمن المنصور على نفسه وجنده(8).1035 baghdad

بغدادو البابلية

كانت بغداد قبل بنائها (مزرعةً للبغداديين، يُقال لها المباركة)(9)، وعن بابلية بغداد، يقول البلدانيّ القديم أحمد بن عمر المعروف بابن رسته (المتوفى بعد 300 هـ)، وهو بلداني فارسي: (هذه الكورة مدينة السَّلام، وهي المسماة بغداد وبغدادذ، اسم موضع، كانت في تلك البقعة، مِن قَبلُ زعموا أنه كان موضوعاً للأوثان والأصنام في الدهر القديم، وهي أرض بابل، وبابل أقدم هذه المواضع)(10). غير أنّ ناشري الكتاب يضعون حاشية، لم يقلها ابن رسته، في فارسيَّة اسم بغداد.

كذلك يفيدنا المؤرخ علي ظريف الأعظميّ (1882 - 1958) في اسم بغداد البابليّ، بعد الاكتشافات في عالم الآثار، الذي كان مخفياً على القدماء، لذا تناقلوا رواية أحد المتعصبين الفرس، الذي سنأتي على بيانه: (أثبتت الكتب التاريخية الصحيحة، المستندة إلى الآثار المكتشفة حديثاً في بغداد وأطرافها، أن هذه المدينة، مِن المدن الكلدانيَّة القديمة العهد، وكانت عامرة قبل الميلاد بنحو ألفي سنة، وقد أيدت ذلك الكتابة المنقوشة، على كثير مِن الآجر القديم، الذي وجده الباحثون فيها، وقد كُتب على بعضه بالحرف المسماريّ اسمها (بل دودو)، وعلى بعضه بغدادو، أو بغدانو، ومعنى (بل دودو) مدينة الإله في لغة السّريانيين الكلدان، والظاهر أنَّ هذه الكلمة صُحفت على توالي الأعوام والقرون إلى بغداد، وقد أخطأ مَن زعم أنَّ لفظة بغداد فارسية، وأن أصلها (باغ داد)، بمعنى عطية الصنم)(11). جاء ذلك في كتاب الأعظمي (مختصر تاريخ بغداد)، ونوضح هنا: لا علاقة له بمختصرات (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي (ت: 463هـ) المعروفة.

يؤيد ذلك بحثٌ علميَّ أنجزه الباحثان العراقيان المعروفان، كوركيس عواد (ت: 1992) وبشير فرنسيس (ت: 1994)، جاء في بحثهما: (ظهرت الدراسات الأثرية، أن مثل هذا الاسم قد ورد في الكتابات المسمارية القديمة، التي ترجع إلى العصرين البابلي والآشوري بصورة بغدادو، وبغدادى، ويكدادو، وتُقرأ خدادو أيضاً، يُرقى زمن هذه الكتابات إلى أوائل الألف الثَّاني قبل الميلاد، ويتبين منها أيضاً أنَّ مدينة قُرب بغداد الحالية، وإقليماً أيضاً، كانا يعرفان بمثل هذا الاسم في العصر البابليّ)(12). كما (أرجع البعض اسم بغداد إلى أصل آرامي، مركب مِن بيت وكداد، ومعنى ذلك: بيت، أو دار، أو مدينة الضَّان، أو الغنم، وأيدوا رأيهم بإيراد أسماء آراميَّة لمدن عراقيَّة، مبدوءة بالباء على شاكلتها)(13).

كذلك ذكر الباحثان ما تردد عند بعض المؤلفين (أنَّ أصل اسم بغداد فارسيّ، وهو ما ذهب إليه بلدانيو العرب أيضاً، فقالوا: إن اسمها مركب مِن كلمتين فارسيتين: بغد -داد، ومعنى ذلك عطية الإله)(14).

ما يخص اسم بغداد الفارسي المزعوم، عند القدماء، كتب الخطيب البغدادي (ت: 463هـ): (إنما سميت بغداد بالفرس لأنه أهدي لكسرى خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لهم صنم يعبدونه بالمشرق يقال له: البغ. فقال بغ داد. يقول: أعطاني الصَّنم. والفقهاء يكرهون هذا الاسم مِن أجل هذا، وسماها أبو جعفر مدينة السلام، لأنَّ دجلة كان يقال لها: وادي السلام)(15).

كذلك جاء عند ياقوت الحموي (ت: 626هـ): (قال بعض الأعاجم: تفسيره بستان رجل، فباغ بستان وداد اسم رجل، وبعضهم يقول: بغ اسم للصنم، فذكر أنه أهدي إلى كسرى خصيّ من المشرق فأقطعه إياها، وكان الخصيّ مِن عباد الأصنام ببلده فقال: بغ داد أي الصَّنم أعطاني، وقيل: بغ هو البستان، وداد أعطى، وكان كسرى قد وهب لهذا الخصي هذا البستان فقال: بغ داد، فسميت به، وقال حمزة بن الحسن: بغداد اسم فارسي معرّب عن باغ داذويه، لأنَّ بعض رقعة مدينة المنصور كان باغا لرجل، من الفرس اسمه داذويه)(16). مِن المعلوم، عندما قال الحموي (بعض الأعاجم) يقصد الأصفهانيّ، الذي سنأتي إلى ذِكره.

لكنَّ مِن أين دخل هذا (التفريس) على اسم بغداد، وقد أصبحت عاصمة الدُّنيا؟ ولم يقل به ابن واضح اليعقوبيّ (ت: 292هـ) في كتابه (البلدان)، ولم يقله محمَّد بن جرير الطّبريّ (ت: 310هـ) في تاريخه، ولا غيرهما مِن بلدانيين ومؤرخين، قبل القرن الرابع الهجري. يبدو أنّه نشأ في الفترة البويهيّة، وحكم أسرة آل بويه لبغداد كسلاطين مع وجود الخلفاء العباسيين، وهم قوم مِن الفرس الدّيلم. قال به اثنان مِن الكُتاب الفُرس، أحمد بن محمَّد المعروف بابن الفقيه الهمذاني (ت: 365هـ): (سميت بغداد لأنَّ كسرى أهدي له خصي من المشرق، فأقطعه بغداد، وكان لقوم ذلك الخصي صنم بالمشرق، يقال له البغ. فقال الخصي: بغداد. يعني ذلك الصَّنم أعطاه ذلك الموضع)(17).

أشار لي الباحث الأهوازي الصَّديق عبدالنَّبي القيم إلى أن مؤلفاً فارسيَّاً آخر معروف بالتّعصب، كان وراء بث ادعاءات مِن هذا القبيل، وهو حمزة بن الحسن الأصفهاني (ت: 360هـ)، لم يلحقه اللَّقب مِن مرور بأصفهان، أو تعليم، إنَّما مدينته أصفهان، وله كتاب (تاريخ أصفهان)، وكتاب (أصبهان وأخبارها)، وكتاب (أعياد بغداد الفرس)، وقد ذكره ياقوت الحموي بالقول: (وكان مع ذلك رفيعاً ناقص العقل، غير ثبت، ولم يُعرف في عصره أعرف منه بالفارسيَّة، ولا أحسن تصرفاً فيها منه)(18)، وهو الذي نقل عنه الحموي، وأشار إليه بالحمزة بن الحسن، وهو الأصفهانيّ نفسه.

قال أبو الرّيحان البيروني (ت: 440هـ) في عصبية حمزة بن الحسن الأصفهاني الفارسية، وهو يتحدث عن التقويم وأسماء الشُّهور، وادعاء المؤرخين بالمعرفة بها، وهم ليسوا كذلك: (كلٌّ يعمل على شاكلته، وكلّ حزب بما لديهم فرحون.. ولمثل هذا تَعرَّض حمزة بن الحسن الأصفهانيّ، في رسالته عن النَّيـــروز، حيث تعصـــب للفـــرس، في عملهـــــم في سنـــة الشَّمــــس..) (19). مَن يقرأ كتب البيروني، سيجده ضد التعصب الشعوبي أو الديني تماماً، فقد شكل حالة مبكرة مِن التَّسامح، فليس عليه غريبة هذه الملاحظة عن أمثال الأصفهاني.

أما عن ترهات هذه الرواية، فليس من عاقل يعقلها، بأنَّ الصين أو الهند أهدت لكسرى خصياً، ليعطيه بغداد بقراها وبساتينها هديةً، وأنَّ اسمه (البغ) وداد أعطى، فيكون المعنى (الصنم أعطاني)، غير أن فُرس اليوم أخذوا يتشبثون بهذه النسبة، ليس جهلاً إنما قصداً، كي يظهروا العراق بستاناً فارسياً، وهم من أبناء الثورة ومن خصومها، لكنهم متفقون في ترهات حمزة الأصفهاني(20).

بناء بغداد

يعد الخطيب البغدادي أحد أوسع الذين كتبوا عن تاريخ بغداد، أو تاريخ مدينة السَّلام، ويمكن أن يكون ابن طيفور (ت: 280هـ)، في كتابه (بغداد) هو الأوسع، لكن لم يصلنا منه إلا جزء واحد، تضمن أيام الخليفة عبدالله المأمون (ت: 218هـ). قال الخطيب: (بلغني أن المنصور لما عزم على بنائها، أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، فمثل لهم صفتها التي في نفسه، ثم أحضر الفعلة والصناع من النَّجارين والحفارين والحدادين وغيرهم، وأجرى عليهم الأرزاق، وكتب إلى كلِّ بلد بحمل من فيه ممن يفهم شيئاً من أمر البناء، ولم يبتدئ في البناء حتى تكامل بحضرته من أهل المهن والصناعات ألوف كثيرة، ثم اختطها وجعلها مدورة. ويقال: لا يعرف في أقطار الدنيا كلها مدينة مُدوَّرة سواها، ووضع أساسها في وقت اختاره له نوبخت المنجم)(21).

ما جاء به الخطيب البغدادي، قد ذكره اليعقوبي، وهو قد سبقه بنحو قرنين من الزمن، ما قاله عن جلب أبي جعفر المنصور لأهل المعرفة والفنون الهندسية، قال: (وجه في إحضار المهندسين، وأهل المعرفة بالبناء، والعلم بالذَّرع (مسح الأرض) والمساحة، وقسمة الأرضين، حتى اختط مدينته المعروفة بمدينة أبي جعفر المنصور، وأحضر البنائين والفَعلة، والصُّناع، من النَّجارين والحدادين والحفارين، فلما اجتمعوا وتكاملوا، أجرى عليهم الأرزاق، وأقام لهم الأجرة، وكتب إلى كلِّ بلدٍ في حملِ مَن فيه، ممَن يفهم شيئاً مِن البناء، فحضره مائة ألف مِن أصناف المهن، والصّناعات، خبرَ بهذا جماعة مِن المشايخ، أنَّ أبا جعفر المنصور لم يبندِ البناء حتَّى تكامل له الفعَلة، وأهل المهن مائة ألف، ثم اختطها في شهر ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائة، وجعلها مُدوَّرة، ولا تُعرف في جميع أقطار الدُّنيا مدينة مُدوَّرة غيرها)(22).

حفرت تزامناً مع البناء الآبار وشقت القنوات، لتدخل المدينة للشرب، ولصناعة اللّبن (الطَّابوق غير المفخور أو المشوي)، وتحضير الطين كمادة في البناء، ومِن اللِبن كان البن (العظام) المربعات، بقياس ذراع في ذراع، ويصل وزن الواحدة منها مئتي رطل، واللبنات الأنصاف، طولها نصف ذراع ووزنها مئة رطل(23).

كان المهندسون، الذين كلفوا بتصميم وبناء المدينة المدورة أربعة، ذكرهم ابن واضح اليعقوبي كالآتي: (وكان الذين هندسوها: عبدالله بن مُحَّرز، والحجَّاج بن يوسف، وعُمران بن الوضاح، وشهاب بن كثير)(24). قسمت بغداد إلى أربعة أرباع، وكلُّ مهندس اختص بربع. كان معهم عدد مِن المنجمين، ويمكن إضافة مهندس خامس إلى الأربعة، الذي اختص بعمارة المسجد، وهو الحجَّاج بن أرطأة، فـ(هو الذي خطَّ مسجد جامعها بأمر أبي جعفر)(25). جعل المؤرخ المصريّ أحمد تيمور (ت: 1930) هؤلاء مهندسي بغداد الأربعة ضمن كتابه (أعلام المهندسين في الإسلام) (طبع 1957).

قد يثار السؤال أو الاستفسار: لماذا أمر المنصور، أو أشير عليه، أن تكون مدينته مُدوَّرة الشّكل، والقصور عادة تكون مربعة، فيأتي الجواب مِن الخطيب البغدادي: (أنَّ أبا جعفر بنى المدينة مُدوَّرة، لأنَّ المُدوَّرة لها معان سوى المربعة، وذلك أنَّ المربعة إذا كان الملك في وسطها كان بعضها أقرب إليه من بعض، والمُدوَّر من حيث قسم كان مستوياً، لا يزيد هذا على هذا ولا هذا على هذا)(26). هذا، ولكم النَّظر في ما عُرف بالطَّاولة المستديرة.

أمر أبو جعفر المنصور، مِن الكوفة، الحجاج بن أرطأة لخط المسجد الجامع، مثلما تقدم ذِكره، وصاحب المذهب أبا حنيفة النُّعمان (ت: 150هـ)، فعمل الأخير على عدِّ اللِّبن للبناء، وقصة ذلك (أنَّ المنصور أراد أبا حنيفة النُّعمان بن ثابت على القضاء، فامتنع مِن ذلك، فحلف المنصور أن يتولّى له، وحلف أبو حنيفة ألاَّ يفعل، فولاه القيام ببناء المدينة وضرب اللِّبن وعدَّه، وأخذ الرّجال بالعمل. قال: وإنَّما عمل المنصور ذلك ليخرج مِن يمينه، قال: وكان أبو حنيفة المتولّي لذلك، حتَّى فرغ مِن استتمام بناء حائط المدينة مما يلي الخندق، وكان استتمامه في سنة تسع وأربعين ومائة)(27). كان أبو حنيفة يعد اللّبن بالقصب (على رجلٍ كان لبَّنه)، فكان أول مَن عدَّ بالقصب(28).

تكاليف البناء

تذكر السجلات التي كشف عنها عيسى بن أبي جعفر المنصور، أنَّ تكاليف بناء بغداد، وجامعها، وقصر الذَّهب، وتشييد الأسواق، والخنادق، والقباب، والأبواب (أربعة آلاف ألف وثمانمئة وثلاثة وثلاثين درهماً)، أي مئة ألف ألف فلس وثلاثة وعشرين ألف فلس، بلغة الأرقام اليوم تبلغ أربعة ملايين درهم، أو مئة مليون فلس، وكانت أجرة البنَّاء الواحد في اليوم قيراط من الفضة(29).

واجه أبو جعفر المنصور نقصاً في الخشب والسّاج المجلوب مِن الهند، فبعد أن هُيئت مواد البناء ومنها الخشب والسَّاج، نشبت الثورة ضده بالمدينة والبصرة، فترك البناء لمواجهة الثائرين، مثلما تقدم، وقد تضاربت الأخبار، فشاع خبر عن هزيمة الجيش العباسي، فقام مولى المنصور، الذي أوكله على بغداد بحرق الخشب والسّاج، كي لا يكون تحت يدي الثّائرين، وبهذا كان المنصور حريصاً على المال، حتَّى اُتهم بالبخل، وأخذ يُلقب بالدَّوانيقي، والدَّانق يمثل أصغر عملة آنذاك، قد يُقابله بلهجة العراقيين اليوم، عندما يصفون بخيلاً يقولون: (أبو فليس).

كان المنصور دقيقاً في الحسابات ومواجهة الفساد، الذي يحصل عادة في الصَّرف على مشروع مثل هذا، قال أحد الموكلين بالبناء: (لما فرغتُ مِن بناء ذلك الرُّبع، رفعت إليه (المنصور) جماعة النّفقة عليه، فحسبها بيده، فبقي عليَّ خمسة عشر درهماً، فحبسني بها، في حبس الشَّرقيَّة أياماً، حتَّى أدَّيتها)(30).

خيال مبكر بالرَّادار

ذكر الخطيب البغدادي عن أحدهم، وهو يتحدث عن القبة الخضراء التي شيدت لأبي جعفر المنصور بمدينته المُدوَّرة: (قال: سمعتُ جماعة من شيوخنا يذكرون: أنَّ القبة الخضراء كان على رأسها صنم، على صورة فارس في يده رمح، فكان السُّلطان إذا رأى أنَّ ذلك الصَّنم قد استقبل بعض الجهات، ومدَّ الرّمح نحوها، علم أنَّ بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت حتى ترد عليه الأخبار، بأن خارجياً (متمرداً) قد نجم من تلك الجهة، أو كما قال)(31).

أما عن مصير القبة الخضراء، فيُفيدنا صاحب (تاريخ مدينة السَّلام) بالآتي: (أنبأنا إبراهيم بن مخلد القاضي، قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي قال: سقط رأس القبة الخضراء، خضراء أبي جعفر المنصور، التي في قصره بمدينته يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثلاثمئة، وكان ليلتئذ مطرٌ عظيمٌ، ورعد هائل، وبرق شديد، وكانت هذه القبة تاج بغداد، وعلم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى هذا الوقت، فكان بين بنائها وسقوطها مائة ونيف وثمانون سنة)(32).

خلاصة القول: دخلت في اختيار بغداد عاصمة حكايات وأوهام، مِن قِبل القصاصين، كاسم أبي جعفر المنصور (مقلاص)، وأنَّ الرُّهبان عندهم في كتبهم الدّينيَّة يبنيها شخص اسمه مقلاص، أو الدّوانيقي، لكن ما أدخله حمزة بن الحسن الأصفهاني على اسمها، وجعله صنماً أو بستاناً فارسيين، كان وهماً مقصوداً، كي تكون هذه المدينة داراً من حقّ الديلم الفرس، وهم البويهيون، واليوم يتجدد الوهم عليها، بسطوة جديدة، والتوطئة تكون باستبدال (البغ وداد) الفارسية ببغدادو البابلية.

***

د. رشيد الخيون

..........................

1 - اليعقوبي، كتاب البلدان (مع كتاب الأعلاق النَّفيسة لابن رسته)، ليدن المحروسة: مطبعة بريل 1892، ص 233.

2 - التَّوحيدي، كتاب الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزّين. بيروت: دار الحياة للطباعة والنَّشر 2 ص 27.

3 - الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك، تحقيق: عبدأ علي مهنا، بيروت: مؤسسة الأعلميّ للمطبوعات 6 ص 540 - 541.

4 - النّفط: كان موجوداً ومستخدماً، كمادة محتقرة، آنذاك، يخرج مِن الأرض مِن تلقاء نفسه، ويجمع ويستخدم في الإضاءة والحروب، فهناك فرقة في الجيوش تسمى (النفاطين)، مهمتهم رمي العدو بمشاعل تشتعل بالنفط، وهناك عدد من المعدومين أحرقوا بالنّفط (انظر مقالنا: قانون نفط العراق يعقر الناقة، جريدة الاتحاد 24/4/2018).

5 - الطَّبري، تاريخ الأُمم والملوك 6 ص 542.

6 - مصطفى جواد، هاشمية الأنبار وهاشمية الكوفة، مجلة سومر (مجلة تبحث في آثار العِراق القديمة، صدرت ببغداد)، العدد الثامن، الجزء الثّاني 1952، ص 158.

7 - الرّاونديَّة: فرقة ناصرت العباسيين، وساهمت في ثورتهم، أتباع رجل اسمه عبدالله الرّاونديّ، ثأروا لأبي مسلم الخراساني، فخشي من بأسهم (مشكور، موسوعة الفرق الإسلاميَّة، ترجمة: علي هاشم، بيروت: مجمع البحوث الإسلاميَّة 1995، ص 252).

8 - الطّبري 6 ص 539.

9 - المصدر نفسه 6 ص 543.

10 - ابن رسته، الأعلاق النَّفيسة ويليه كتاب البلدان لليعقوبي، مدينة ليدن المحروسة: مطبعة بريل 1892، ص 108.

11 - الأعظميّ، مختصر تاريخ بغداد، بغداد: المكتبة العربية، طُبع على نفقة نُعمان الأعظميّ الكُتبي 1926 ص 3.

12 - أًصول أسماء الأمكنة العِراقيَّة، مجلة سومر (مجلة تبحث في آثار العِراق القديَّمة تصدر ببغداد)، العدد الثَّامن 1952، الجزء الأول، ص 256 - 257.

13 - المرجع نفسه.

14 - المرجع نفسه.

15 - البغداديّ، تاريخ مدينة السَّلام، تحقيق: بشار عواد معروف، بيروت: دار الغرب الإسلاميّ 2002 الجزء 1 ص 364.

16 - الحمويّ، معجم البلدان، بيروت: دار صادر 1995 الجزء 1 ص 456.

17 - ابن الفقيه، كتاب البلدان، بيروت: عالم الكُتب 1996 ص 278.

18 - الحموي، إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب (معجم الأدباء)، تحقيق: إحسان عباس، تونس: دار الغرب الإسلاميّ 3 ص 1220.

19 - البيرونيّ، الآثار الباقيَّة عن القرون الخاليَّة، لايبزك 1923 ص 52.

20 - انظر مثلاً مقال الكاتب الفارسي أمير طاهريّ (العراق وطهران.. أوهام)، الشَّرق الأوسط، المؤرخ 9/6/2023، وردنا عليه على صفحات الجريدة نفسها في المؤرخ 13/6/2023.

21 - البغداديّ 1 ص 375.

22 - اليعقوبيّ، ص 238.

23 - المصدر نفسه.

24 - اليعقوبي، ص 241.

25 - الطَّبريّ 6 ص 573.

26 - البغداديّ 1 ص 382.

27 - الطّبري 6 ص 543.

28 - المصدر نفسه.

29 - المصدر نفسه 6 ص 576.

30 - المصدر نفسه 6 ص 573.

31 - البغدادي 1 ص 383.

32 - المصدر نفسه.

ذو صلة

 

يعدّ النَّاس مَن يخرج على ما يعتقدون خائناً، حتَّى إذا عرض نفسه للهلاك، أكثر مِن مرة في سبيل انتمائه السَّابق، فتجد أحد المتقدمين في حزبه، بمفاهيم اليوم، قد بذل الغالي والرَّخيص، وتشرد أهله، واِفتقر إلى حد الإملاق والجوع، ما أن ظهر منه ما يخالف ولاءه الأول، يصبح في طرفة عين خائناً عميلاً جاحداً، لا يُذكر له شيء مِن ذلك الولاء المخلص، والتّضحية الصَّادقة، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى، مِن الأحزاب والأنظمة، في الأمس واليوم، بل وأهل الأديان والمذاهب مارسوها كافة، عند الميل إلى موقف آخر.

جُمعت في شبث بن ربعي التِّميمي الرِّياحيّ (تـ: 70 هـ)، تقلبات المواقف السّياسية والعقديَّة، وهو شخصية معروفة يكاد لا يخلو كتابٌ مِن أمهات التّاريخ مِن ذكرٍ له. ولد قبل الإسلام، ثم وأدركه، وأحسن إسلامه، عاش إلى منتصف الدّولة الأموية، فقد أمتد به العمر إلى التسعين عاماً، فقد عدَّه أبو حاتم السِّجستانيّ (تـ: 250 هـ) في كتابه «الوصايا»، ضمن القسم الملحق بكتابه «المعمرون».

كما ذُكر أنه «مِن أشراف بني تميم، وكان جاهليَّاً إسلاميَّاً فارساً، لا يدفع عن حسب وشرف، بطلاً شجاعاً» (ابن أعثم، كتاب الفتوح)، لذا كان قائداً في كلِّ جيشٍ يُقاتل في صفوقه.

دخل الإسلام ثم ارتدَّ مع مرتدي اليَمامة، وصار مؤذناً للمتنبئة سَجِاح التَّميميَّة، ثم جدد إِسلامه في خلافة عمر بن الخطاب (اغتيل: 23 هـ)، فشارك قائداً لقومه في حرب القادسية بالعراق (17هـ)، أُتهم بالتحريض ضد عثمان بن عفان (قُتل: 35 هـ)، وظل محايداً في معركة الجمل بالبصرة (36 هـ)، اِنحاز بمعركة صفين (37 هـ) لعليّ بن أبي طالب (اغتيل: 40 هـ)، وكان أحد القادة. ثم أرسله عليّ في الوفد المفاوض للصلح، لكنه اِنشقَّ مع رافضي «التّحكيم»، فعُدَّ أول الخوارج، وذُكر عنه: «إنه أول مَن حرر الحوريّة(اسم الخوارج الأول)» (آل نعمان، الجامع لكتب الضَّعفاء والمتروكين)، بعدها عاد تائباً إلى صف عليّ، فقاتل الخوارج معه، وبالجملة «كان شبث علويَّاً» (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف).

استمر ضد الأمويين، وهو أحد الذين كتبوا إلى الحُسين بن عليّ (قُتل: 61 هـ)، بالقدوم إلى العراق لتسلم الخلافة، لكنه اِنقَلب ضده منحازاً إلى الأمويين، فناده الحُسين: «يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثِّمار وأَخضرّ الجناب وطمت الجمام» (البَلاذري). غير أنه اِعترض على مَن سعى بحرق مخيم الحُسين: «وقال شبث بن ربعي: يا سبحان الله، ما رأيت موقفاً أسوأ من موقفك، ولا قولاً أقبح من قولك، فاستحيا شمر (ابن ذي الجوشن) منه» (البلاذري). بعدها حارب المختار بن عبيد الله الثَّقفيّ (قُتل: 67 هـ)، محارباً بصف الزُّبيريين. أخيراً اعتزل بسبب الكُبر.

لم نأتِ بقصة شبث الرّياح، لكتابة ترجمة له، فاسمه مشهور في أمهات التّاريخ، مثلما تقدمت الإشارة، بقدر ما وجدناه نموذجاً، قل مثله، أن يتقلب هذه التقلبات السّياسية، وإن شئتم سموها الحزّبيّة، فماذا كان يبتغي، وهو سيد قومه، وفي كلّ محلٍ يحل به، أو جهةٍ يميل إليها، لا يتقدم عليه أحد؟ أقول: ماذا لو ثبت الرِّياحيّ في موقف من المواقفٍ، كيف يؤرخ له؟ مَن يقرأ التّاريخ، بعين محايدة، لا يتعصب لِما مضى وغبر، فكان شبث مسلماً شارك في الفتوحات قائداً، وصار علوياً قائداً، ثم خارجياً، وعاد علويّاً، وفي كل هذه المواقف استمر مخلصاً، مكلفاً بمهمات القيادة. لم يكن الرّياحي منفرداً في سلوكه، فالمئات في يوم عُدّوا مقدسين، وفي يوم آخر نعتوا مدنسين.

هذا، وللأمير الشّاعر عبد الله بن المعُتز (قُتل: 296 هـ) ما يفيد: «فمَن قال خيراً قيل: إنَّك صادقٌ/ ومِن قال شراً قيل: إنَّك كذوبُ» (الدِّيوان)، كلّ رأى تقلب الرّياحيّ بعينه.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم