آراء

آراء

حَكمَ الخليفة النَّاصر لدين الله أطول فترات بني العباس (575-622 هج)، في عهده عادت الخلافة إلى قوتها، وأمنَ النَّاسُ مِن عصابات اللُّصوص المتحكمين في الطّرقات والتّجارات، كما أنهى ازدواجيّة الخلافة والسّلطنة، مِن البويهيين الفرس إلى السّلجوقيين الأتراك، وكانت ميليشيات طائفيَّة، استغلت ضعف الخلافة فتحكمت بها لثلاثة قرون.

 قضى على السّلجوقيين، بعد انتهاء البويهيين، كما في عهده حُرر «بيت المقدس» بفلسطين مِن الإفرنج، بجهود صلاح الدّين الأيوبيّ (ت: 589 هج)، وقتها وصل مِن بغداد لوحٌ نُقش فيه بيان باسم النَّاصر، علّقه صلاح الدّين «على باب بيت المقدس» (ابن الكازروني، مختصر التَّاريخ مِن أول الزَّمان إلى منتهى دولة بني العبَّاس)، بعد أنْ عادت مصر إلى الخلافة (567 هج) ببغداد.

ربَّما لم تشتهر وقفة النَّاصر لدين الله العباسيّ بوجه التشدد والتّزمت الدّينيّ، الذي حرض على تطبيقه فقهاء عصره ضد غير المسلمين، مِن سكان بغداد وتوابعها، مثالهم كان القاضي والمحتسب ووالي الجوالي (أهل الذِّمة) محمّد بن يحيى بن فضلان (ت: 631 هـ)- غير صاحب الرّحلة أحمد بن فضلان (309 هج)-.

 كتب ابن فضلان «رقعةً» (رسالةً) إلى الخليفة النّاصر لدين الله، مطالباً بتطبيق معاملةٍ شديدةٍ على غير المسلمين، مستعرضاً ما طُبق ضدهم في عهود سابقة، كفتوى المحتسب أبي سعيد الاصطخريّ (ت: 329 هج) بقتل الصّابئة المندائيين كافة، والتّضييق على اليهود والنّصارى، لكنّ الفتوى لم تُنفذ، مذكراً بالعهود التي فرضت ما عُرف بأحكام أهل الذِّمة عليهم، كعدم بدئهم بالسّلام، ولا يرتفع بناؤهم، وغيار ملابسهم، وإهانتهم عند تسلم الجزية منهم، وهي واحد وعشرون شرطاً (الصّفدي، الوافي بالوفيات).

زاد عليها ابن فضلان إبعادهم عن الطّب والصَّيرفة والكتابة، والدَّواوين عموماً، مع وجود أطباء وكحالين (أطباء عيون) أكفاء منهم، دبروا أبدان الخلفاء، وأشرفوا على صحة النَّاس (ابن أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، ابن جُلجل، طبقات الأطباء والحكماء، ابن حُنين، تاريخ الأطباء والفلاسفة)، إلا أنَّ ابن فضلان اعتبر ذلك حيَّلاً وأكاذيبَ، يتخذونها لدخول مجالس الخلفاء، وكنز الأموال، فأوصى باستخدامهم في أرذل المهن، وعلى أحبارهم وقساوستهم الحضور بأنفسهم لدفع الجزية بمشهد مذل، لا يُسمح لهم إرسالها بيد نوابٍ عنهم (نص رقعة ابن فضلان في كتاب الحوادث الجامعة والتَّجارب النَّافعة في المئة السّابعة).

ورد في الرّسالة، أو الرّقعة مثلما جاء اسمها، التي ملأت ست صفحات، أمور كثيرة، يُظهر فيها كاتبها ذروةَ التّعصب الفقهيّ، غير أنّ الخليفة النَّاصر أهملها تماماً. جاء في الخبر: «فلما وقف الخليفة على رقعته لم يعدّْ عنها جواباً» (المصدر نفسه).

 اتخذت الدَّولة العباسيَّة المذهب الحنفيّ في التَّطبيقات الفقهيّة، منذ عهد الخليفة المهديّ ابن أبي جعفر المنصور (158-169 هج)، وحتّى آخر الخلفاء المستعصم بالله (قُتل: 656 هج)، وفي ظل تلك المُعاملة ساهم الذين أراد ابن فضلان حجرهم عن الحياة العامة، بالترجمة التي هي أساس التَّقدم الثّقافيّ، وبالطّب، والهندسة، والفلسفة، فكان المشرف على العمران بسامراء، في زمن جعفر المتوكل بالله (ت: 247 هج)، دُليل بن يعقوب النَّصرانيّ، بما فيها «ملوية سامراء» والمكان الذي أقيم عليه المرقد العسكريَّ بسامراء، وكان أرضاً اشتراها الإمام عليّ الهاديّ (ت: 354 هج) مِن دُليَل (الطّبريّ، تاريح الرُّسل والملوك).

يتبين مِن سلوك النّاصر، مع أهل الذِّمة، أنه لا علاقة بين تدين الحاكم وشدته على غير المسلمين، وإلا فالنّاصر كان متديناً: جمع الحديث النّبويّ، وجدد المشاهد، وبنى الأربطة للصوفيّة والزُّهاد، بينما أحد أسلافه، المتوكل بالله لم يكن متديناً، بل صاحب مجالس أنس، ومشغول بالوَرْد، فهو القائل: «أنا ملك السَّلاطين والوَرْد ملك الرَّياحين فكلٌّ أولى بصاحبه» (الثَّعالبيّ، خاص الخاص)، ويلبس الملابس الموردة، وسك نقوداً موردة، ومع هذا، طبق في غير المسلمين «الشّروط العمريّة» (230 هج)، بشدةٍ (الطَّبريّ، نفسه).

فقد النّاصر بصره، لذا ترجم له صلاح الدِّين الصّفدي (ت: 768 هج) في «نَكت الهِميان في نُكت العميان»، ولرِّبنا تُعدّ تجربته في إعادة الاستقرار والتَّسامح درساً مفيداً.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

من كان يتصور أن الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون"-السياسي الليبرالي الذي طالما تفاخر بتبعية أوروبا للقيم الكونية - سيقف في قاعة الأمم المتحدة داعماً للاعتراف بدولة فلسطين، بينما كبار فلاسفة الغرب، أولئك الذين ملأوا الدنيا خطابات عن العدالة والتحرر، يختفون خلف صمت أشبه بالموافقة على المجزرة؟ أين "يورجن هابرماس" صاحب نظرية "الفعل التواصلي" الذي كان يفترض أن الكلمة يجب أن تسبق الرصاصة؟ أين منظرو مدرسة فرانكفورت الذين طالما تحدثوا عن "العقل الأداتي" ووحشية الرأسمالية، بينما إسرائيل تحول غزة إلى مختبر للدمار بأحدث الأسلحة؟ 

لقد كشف العدوان على غزة زيف الخطاب الغربي عن "القيم العالمية". فما قيمة عقل يناقش الحرية في الكتب، ثم يصمت عندما تزهق أرواح الأطفال تحت الأنقاض؟ ما قيمة فلسفة ترفع شعار "لا للعنف" ثم تبرر العنف عندما يكون صهيونياً؟ 

العقل المشلول..

في أقسام الفلسفة في جامعاتنا العربية، كنا ندرس "هابرماس" و"أدورنو" و"هوركهايمر" بقدسية تكاد توازي النصوص الدينية. كنا نعتقد أن هؤلاء الفلاسفة يمثلون الضمير الأوروبي، صوت العقل الذي يرفض التوحش. لكن غزة كشفت أن هذا "الضمير" مشروط ببوصلة السياسة. فهابرماس، الذي طالما حذر من "استعمار العالم الحيوي" - أي تحويل البشر إلى أدوات - لم يجد حرجاً في توقيع بيان يؤيد "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! وكأن الدفاع عن النفس يعني ذبح 15 ألف طفل وامرأة! 

صمت الفلاسفة.. خيانة فكرية. فالفلسفة، منذ سقراط، ملزمة بأن تكون صوتاً للحقيقة حتى لو خالفت السلطة. لكن يبدو أن فلاسفة أوروبا اليوم – باستثناءات قليلة – تحولوا إلى "مثقفي بلاط"، يكتبون ما يريده النظام العالمي الجديد. لقد فضحوا أنفسهم: فمن يتحدث عن "الأخلاق الكونية" ثم يصمت أمام الإبادة، ليس فيلسوفاً، بل "ببغاء أيديولوجي". 

مدرسة فرانكفورت: نقد الرأسمالية أم تبريرها؟ 

مدرسة فرانكفورت، التي قدمت نقداً لاذعاً للحداثة والرأسمالية، تقف اليوم في مفترق طرق وجودي. فكيف تنظر عن "تحرر الإنسان" ثم تتجاهل أسوأ أشكال القمع في القرن الحادي والعشرين؟ كيف تنتقد "العقل الأداتي" - أي تحويل الإنسان إلى أداة – ثم تصمت عندما يتم اختزال الفلسطينيين إلى أرقام في تقارير الإعلام الغربي؟ 

الجواب بسيط: لأن النقد الغربي، رغم راديكاليته الظاهرة، يظل محكوماً بإطار استعماري. فهو ينتقد الرأسمالية عندما تستغل العامل الأوروبي، لكنه يتجاهل أنها نفس الرأسمالية التي تمول الصواريخ التي تسقط على بيوت الغزيين. إنه نقد انتقائي، يمارس "العدالة" في حدود الجغرافيا البيضاء، وينسى أن البشرية لا تتجزأ. 

"المعرصون" الجدد!

"العرص"- في الثقافة الشعبية - هو الشخص الذي يبيع مبادئه لمن يدفع أكثر. والفلاسفة الأوروبيون اليوم، بمن فيهم بعض اليساريين، تحولوا إلى "معرصين" بمعنى الكلمة. فهابرماس، الذي كان يعتبر وريثاً لفكر "كانط" في السلام العالمي، لم يحرك ساكناً إلا ليذكرنا بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"! وكأن الفلسطينيين ليسوا بشراً لهم الحق في الدفاع عن أرضهم! 

لم يعد الفيلسوف الغربي ذلك المتمرد الذي يقف ضد السلطة، بل أصبح جزءاً من آلة التبرير. إنه يشبه ذلك الكاهن في العصور الوسطى الذي كان يبارك جيوش الإقطاع قبل إبادة القرى. الفارق الوحيد أن الكاهن كان يستخدم الدين، والفيلسوف اليوم يستخدم "النظرية النقدية" لتمرير الوحشية. 

 هل انتهى عصر الفلاسفة؟ 

ربما لا. فالتاريخ يعلمنا أن الفلسفة الحقيقية لا تموت، لكنها تنتقل إلى حيث ينتهك الإنسان. اليوم، ليست كتابات هابرماس هي التي تقرأ تحت أنقاض غزة، بل قصائد محمود درويش وخطابات فرانز فانون. الفلسفة التي تخون إنسانيتها تصبح حبراً على ورق. 

لكن الأمل يظل موجوداً. فكما أنجبت أوروبا يوماً "فولتير" و"سارتر" و"سيمون دي بوفوار"، فقد تنجب يوماً فلاسفة جدد يرفضون الانحياز إلى القوة ضد الحق. حتى ذلك الحين، علينا أن نعي أن الفلسفة ليست كتب تقرأ، إنما موقف يتخذ. والموقف الأخلاقي الوحيد اليوم هو الوقوف مع الحياة ضد الموت، مع غزة ضد آلة الحرب. 

أما أولئك الفلاسفة الذين اختاروا الصمت، فسيبقون في ذاكرة التاريخ كمن فضلوا أن يكونوا "أدوات للسلطة" بدلاً من أن يكونوا "أصواتاً للحقيقة".

في لحظات التاريخ الحاسمة، تختبر النظريات كالنار تجرب الذهب. وغزة كانت اختباراً صادماً لكثير من الادعاءات الفلسفية الغربية. فهابرماس، الذي بنى مشروعه على "أخلاقيات المناقشة" و"التواصل العقلاني"، لم يجد ما يقوله إلا تأييداً للدولة التي تقتل كل يوم العشرات من الأطفال والصحفيين والأطباء. أليست هذه مفارقة قاتلة؟ كيف لفيلسوف يدعو إلى "عالمية الأخلاق" أن يصمت حين تُنتهك أبسط قواعد الإنسانية؟ 

الجواب يكمن في أن الفلسفة الغربية، رغم كل خطابها النقدي، ظلت أسيرة المركزية الأوروبية. فـ"العقلانية" التي يتحدثون عنها هي عقلانية انتقائية، تطبق على أوروبا وأمريكا، وتعلق عند حدود العالم العربي والإسلامي. إنها أخلاقيات ذات بعد واحد: تدين القمع في أوكرانيا، وتبرره في فلسطين.  

كانت مدرسة فرانكفورت ترفع شعار "تحرير الإنسان من كل أشكال الهيمنة"، لكنها اليوم تتحول إلى أداة لهيمنة جديدة. فـ"هربرت ماركوزه"، الذي كتب "الإنسان ذو البعد الواحد"، كان يحذر من تحول الفرد إلى مجرد ترس في آلة الرأسمالية. لكن ماذا لو كانت الآلة اليوم هي آلة الحرب الإسرائيلية؟ لماذا لا يرى فلاسفة المدرسة أن الفلسطيني هو الضحية المثالية للإنسان "المستلب" الذي حذروا منه؟ 

السبب هو أن النقد الغربي، حتى في أكثر أشعاره راديكالية، لا يجرؤ على تجاوز الخط الأحمر: "القداسة اليهودية". فكما أن انتقاد الكنيسة كان تابوًا في العصور الوسطى، انتقاد إسرائيل اليوم هو التابو الجديد. حتى اليسار الأوروبي، الذي يزعم مقاومة الاستعمار، يتعامل مع إسرائيل كحالة استثنائية، وكأن الاستعمار الاستيطاني يصبح "تقدميّاً" إذا حمل شعارات غربية! 

الفلاسفة والسلطة 

لم يعد الفلاسفة اليوم، كما كانوا في عصر التنوير، صوتاً للمهمشين، بل تحولوا إلى "كهنة النظام". هابرماس، الذي يعتبر أحد آخر عمالقة الفكر الغربي، لم يعد يختلف عن سياسي محترف يختار كلماته بحسابات دبلوماسية. لقد خان الفيلسوف مهمته الأولى: أن يكون ضميراً غير مريح للسلطة. 

في المقابل، نرى فلاسفة حقيقيين خارج المؤسسة الأوروبية، مثل "جوديث بتلر" التي تجرأت على انتقاد الصهيونية، أو "نعوم تشومسكي" الذي ظل وفياً لموقفه المناهض للاستعمار. لكن هؤلاء يعاملون كـ"منبوذين" في الأوساط الأكاديمية الغربية. وهذا يكشف حقيقة مؤلمة: الفلسفة الغربية لم تعد فضاءً للتفكير الحر، بل أصبحت جزءاً من صناعة التبرير الأيديولوجي. 

 من تحت الأنقاض 

إذا كانت الفلسفة الغربية تعجز عن قول الحقيقة، فلا بد من البحث عن أصوات أخرى. ربما يأتي الجواب من جنوب العالم، من فلاسفة أمريكا اللاتينية الذين يتحدثون عن "استعمارية السلطة"، أو من أفريقيا التي تطرح سؤال "إزالة الاستعمار من العقل نفسه". أو ربما يأتي من الفلسطينيين أنفسهم، الذين يكتبون فلسفتهم بدمائهم، كما فعل "إدوارد سعيد" حين كشف زيف "الاستشراق". 

الفلسفة الحقيقية ليست نظرية مجردة، بل موقف واضح من الظلم. وإذا كان هابرماس وأقرانه قد خانوا هذه المهمة، فليس هذا فشلاً للفلسفة ذاتها، بل فشل لنموذج فلسفي أصبح خادماً للسلطة. 

أخيرا.. هل يمكن إنقاذ الفلسفة من نفسها؟ 

ربما تكون غزة قد كشفت أن الفلسفة الغربية، في جزء كبير منها، وصلت إلى طريق مسدود. لكن هذا لا يعني نهاية الفكر النقدي، بل بداية لفلسفة جديدة، أكثر شجاعة، أقل خضوعاً، وأكثر التزاماً بالضحايا. فلسفة لا تخاف من أن تسمى "منحازة"، لأن الحياد في زمن الإبادة هو تواطؤ. 

لكن التاريخ نفسه سيتذكر أن الفلسفة الحقيقية لم تمت، فقد انتقلت إلى حيث تكتب ليس بالحبر، بل بالدم. أولئك الذين اختاروا الصمت، فلن يذكرهم التاريخ إلا كحاشية في سجل الخيانة.

***

د. عبد السلام فاروق

مدخل عام: حين يُصبح الخلاص أسطورة

منذ أن بدأ الإنسان يصطدم بجدار العجز، تشكّلت في لاوعيه فكرة "الخلاص" بوصفها تعويضًا نفسيًا عن واقعٍ لا يُطاق. لم تكن الأديان وحدها من صاغت هذه الفكرة، بل تلاقت حولها أساطير الشعوب وملاحمها الكبرى: من كريشنا الهندوسي، إلى الماشيح اليهودي، إلى المسيح العائد، وصولًا إلى المهدي المنتظر في الثقافة الإسلامية.

هذا "المنقذ" هو اختزال لرغبة عميقة في العدالة، لكنه كثيرًا ما يتحول – كما يُشير المفكر ماجد الغرباوي – إلى إسقاطٍ لأوهام القوة على المجهول، وتفريغ للذات من مسؤوليتها التاريخية. في هذا المقال، نحاول أن نتأمل الفكرة لا بوصفها "عقيدة غيبية"، بل كـ"وظيفة اجتماعية وأسطرة دينية"، وأن نقرأ حضورها وتناقضاتها على ضوء نقد العقل الديني، كما طرحته أعمال فكرية مثل مدارات عقائدية ساخنة، البحث عن منقذ، نقد الفكر الديني، وغيرها من الكتب التي حاولت تفكيك الوعي الغيبي ووهم العدالة المؤجلة.

المخلّص في الوجدان البشري.. من الحاجة إلى الأسطرة

تظهر الحاجة إلى "المنقذ" حين يُفقد الإنسان ثقته بإمكانات الإصلاح الذاتي أو الجمعي. في أزمنة الانكسار، يولد المخلّص؛ لا من رحم الواقع، بل من ظلال الأمل المعزول. إن فكرة "الخلاص المؤجل" تعبّر عن عجز الجماعات عن المواجهة، فتحتمي بالوهم كدرعٍ نفسي.

وفي هذا السياق، تنمو الأسطورة لتلبي حاجة داخلية، لكنها سرعان ما تُختطف سياسيًا، ويُعاد إنتاجها كأداة هيمنة.

اللاهوت الشعبي، بحسب ماجد الغرباوي في مدارات عقائدية ساخنة، يميل إلى تهريب الإلهي نحو الخارج، نحو الزمان المؤجل، أو المخلّص الغيبي، لا ليعبده بوعي، بل ليُبرر عجزه المزمن. وهنا، يتحوّل "المنقذ" إلى مسكِّن روحي ووسيلة تأجيل للمواجهة، يكرّس القبول بالواقع بدل مقاومته.

يرى مصطفى حجازي في كتابه سيكولوجية الإنسان المقهور أن المجتمعات المقهورة نفسيًا تطور آليات دفاعية من ضمنها التعلّق بصورة مخلّص خارجي يتولى عنها ما تعجز هي عن فعله. يقول: "حين تعجز الذات عن الفعل، تبحث عن خلاص خارجها، وتعيد تشكيل وعيها ليكون معلقًا بالأمل لا بالفعل."

ويضيف كارل يونغ في الإنسان ورموزه أن صورة "المنقذ" تمثل أركيتايبًا نفسيًا جماعيًا، لكنه حين لا يُقترن بالتحول الداخلي، يتحوّل إلى عبء على الوعي، لا إلى وسيلة للخلاص.

المهدوية في الإسلام: من النص إلى الأيديولوجيا

في السياق الإسلامي، تبلورت عقيدة "المهدي المنتظر" ضمن مناخات سياسية واجتماعية مضطربة. لم يرد اسم المهدي في القرآن الكريم، ولم ترد عقيدته بنص قطعي. ورغم ذلك، بُني حوله تراثٌ ضخم من الروايات، شكّل لاحقًا ركيزة لمشاريع سياسية كبرى.

في التشيع الإمامي، ارتبطت المهدوية بعقيدة "الإمام الثاني عشر الغائب"، بينما توسّعت الفكرة في الخيال السني أيضًا، عبر تصور ظهور مهدٍ من آل البيت في آخر الزمان.

يرى أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي أن فكرة "الإمام الغائب" لم تكن عقيدة أصيلة، بل جاءت كضرورة لتجاوز الفراغ السياسي بعد الإمام الحسن العسكري. ويؤكد: "المهدي ليس حقيقة تاريخية مثبتة، بل ضرورة عقائدية فُرضت بعد أزمة الغيبة.". كما يُظهر التاريخ أن المهدوية لم تبقَ حكرًا على الفقه والعقيدة، بل تحوّلت إلى أداة سياسية كبرى:

الديانة البهائية: تأسست نتيجة تأويلات الشيخية للمهدوية، خصوصًا عند أحمد الإحسائي والباب.

حادثة جهيمان في الحرم المكي (1979): تم اقتحام الكعبة بزعم أن المهدي المنتظر قد ظهر.

جماعات عراقية مثل جند السماء وأنصار المهدي واليماني: جميعها استثمرت المهدوية في العنف والسلطة.

ويؤكد فالح مهدي في كتابه البحث عن منقذ أن هذا النمط من التدين المهدوي يعكس حالة انكسار جمعي، تُغذى بأسطورة تسكّن الألم، لكنها لا تغيّره.

وظيفة الأسطورة: الكهنوت والسياسة

وفقًا لماجد الغرباوي، فإن الدين حين يُختزل إلى طقوس ورموز، يفقد بعده الوجودي ويتحول إلى أداة تخدير. وهنا، تصبح المهدوية نموذجًا مثاليًا: عقيدة غيبية لا تتطلّب فعلًا، بل انتظارًا.

تاريخيًا، استُخدمت هذه العقيدة لتبرير السكون. كلما اشتد الظلم، قيل للناس: اصبروا، فالمهدي قادم. وهكذا، تُنتزع من الإنسان إرادته، ويُعاد تشكيل وعيه ليكون تابعًا، لا فاعلًا.

يصف عبد الله القصيمي هذه الظاهرة قائلًا: "المنقذ ليس من سيأتي، بل من لن يأتي، لأنه ضرورة سياسية لا ضرورة إنسانية."

ويحذر صادق جلال العظم من "تجميد الزمن التاريخي" عبر أسطرة الزمن الغيبي، حيث يتحوّل الإنسان من فاعلٍ إلى منتظر، ومن حرٍّ إلى مرهون بوعد لا يُسائل.

ويرى فالح مهدي أن الشعوب التي جُرّدت من القدرة على الفعل، غالبًا ما تُلقّن فكرة المنقذ لتبرير ضعفها، لا لتحريرها.

نقد عقلي وفلسفي للفكرة

1. التناقض مع المسؤولية الإنسانية

إذا كانت العدالة لا تتحقق إلا عبر كائن خارق، فما جدوى التكليف؟ وما وظيفة الضمير؟ يقول ماجد الغرباوي:

"كلما علّقنا نجاتنا على غائب، فرّغنا أنفسنا من المسؤولية، وعلّقنا العدالة على احتمالٍ مجهول لا يمكن محاسبته."

ويؤكد صادق جلال العظم أن هذا الإيمان يعفي الإنسان من المساءلة، ويُحوّل الدين إلى تسويف زمني.

2. الخلل المنطقي في الفكرة

المهدي، بحسب الروايات، غائب منذ أكثر من ألف عام. فهل يُعقل تعطيل التاريخ بانتظار فرد؟

يرى ميرسيا إلياد في أسطورة العود الأبدي أن هذه العقلية تدور في زمنٍ دائري، لا تاريخي، تُجمّد الفعل وتؤبد الوهم.

3. إزاحة الفاعلية إلى الخارج

يقول فالح مهدي: "الشعوب التي تنتظر المنقذ، لا تتحرر، بل تغيّر نوع القيد فقط." ويضيف في تاريخ الخوف: المنقذ حين يُستدعى للهروب من الخوف، لا يصنع خلاصًا، بل يُعيد إنتاج العجز.

والقرآن ذاته يعلن المبدأ المضاد تمامًا: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم."

تحرير الوعي من وهم الخلاص الغيبي

فكرة المنقذ تُبقي الناس في دائرة الانتظار، وتُنتج نوعًا من العبودية الرمزية. يقول ماجد الغرباوي: "حين يصبح الانتظار دينًا، يُعاد تشكيل الوعي ليتناسب مع الطاعة لا مع النقد."

ويضيف أحمد الكاتب: "حين يعلق الناس خلاصهم على شخصية خفية، يصبحون جزءًا من لعبة الوهم، لا من معادلة الإصلاح."

في البحث عن منقذ، يوضّح فالح مهدي أن الشعوب التي تعوّدت على القهر تميل إلى الخلاص الغيبي، بدل بناء مشروعها التحرري. حتى كارل يونغ يحذّر من هذه الصورة، إذا لم ترتبط بالتحوّل الداخلي، فتحوّل الأمل إلى عائق.

وهكذا، لا يمكن تحرير الفعل إلا بنقد بنية الانتظار نفسها، وفهم الخلاص كمسار ذاتي–اجتماعي، لا كـ"معجزة غائبة".

خاتمة: حين يتحرر الإنسان من سرداب الخلاص

ليست المشكلة في الأمل، بل في تأبيد الانتظار. وليست الخطورة في المهدي كرمز، بل في المهدي كقيد.

حين تتحوّل فكرة "المنقذ" من أفق أخلاقي إلى نظام تبريري للجمود، يفقد الإنسان سيطرته على مصيره، ويعيش خارج التاريخ.

لقد أظهر النقد المعرفي والديني أن "المهدوية" ليست مجرد عقيدة، بل بنية نفسية–سياسية تتغذى من الخوف وتُستخدم لتعليق الفعل. والمخلّص الحقيقي ليس من يهبط من الغيب، بل من ينهض من القاع. والمهدي ليس هو الذي يُنتظر، بل الذي نصنعه في وعينا، في تمرّدنا، في رفضنا للظلم. فالتحرر لا يبدأ بظهور فرد، بل بقرار جماعي ألا ننتظر أحدًا.

***

محمد ساجت السليطي - كاتب وباحث عراقي

.....................

قائمة المراجع والمصادر

1. ماجد الغرباوي، (مدارات عقائدية ساخنة)

2. صادق جلال العظم، (نقد الفكر الديني)

3. فالح مهدي، (البحث عن منقذ: دراسة مقارنة بين ثماني ديانات)

4. فالح مهدي، (تاريخ الخوف: نقد المشاعر في الحيز الدائري)

5. عبد الله القصيمي، (هذا هو الإنسان)

6. مصطفى حجازي، (سيكولوجية الإنسان المقهور)

7. أحمد الكاتب، (تطور الفكر السياسي الشيعي: من الشورى إلى ولاية الفقيه)

التقيت يوماً دبلوماسياً من هولندا، عمل في لبنان وتزوج فيه، فصرفنا معظم الوقت في نقاش عن ذكرياته وتأملاته فيما رأى هناك. وذكر لي نقطة كنت قد لاحظتها أيضاً، وهي التسييس الشديد لكل مسألة، حتى رسوم الكهرباء وتنظيف الطرقات وتشجيع السياحة، وأمثالها.

وكان مما أخبرني أنه التقى قريباً بأهل زوجته، فدار الحديث كالعادة عن أهل السياسة ونزاعاتهم، فسألهم: لماذا لا يتحدثون عن أمور قريتهم: عن البلدية، والنظافة، والمركز الصحي، والمدرسة... إلخ، فقالت له إحدى السيدات: إن المشكلة كلها في الرؤوس، فإذا صلحت صلح كل شيء. ثم عادوا لحديثهم المعتاد. وفي اليوم التالي سألهم إن كانوا قد توصلوا إلى شيء، فأخبره أحدهم أنهم يتحدثون في ذلك الأمر وغيره، على سبيل التسلية وقتل الوقت، لا أكثر ولا أقل.

قال لي الرجل إن الوضع هناك يستحيل إصلاحه؛ لأن السياسة ابتلعت كل شيء. السياسة –بطبعها– عالم متأزم؛ لأن موضوعها الرئيس هو التسوية بين المصالح المتباينة، وتهدئة النزاعات التي تتولد عن اختلاف التوجهات والمشارب. أما حياة الناس اليومية فتديرها الأجهزة المكلفة بالخدمات العامة، مثل صيانة الطرق وتشغيل شبكات الكهرباء والهاتف والمرافق الصحية والتعليم، وغيرها. فإذا دخلت هذه الأجهزة في بطن السياسة، أو أُلحقت بالدوائر السياسية، انقلب دورها من خدمة الجمهور إلى الأغراض السياسية للجماعة الحاكمة أو شركائها، أو حتى المعارضة.

إذا أردت أن تعرف كيف تبتلع السياسة كل شيء، وكيف يجري تسييس كل شيء، فاقرأ ما تنشره الصحافة من تقارير وأخبار عن سوريا اليوم. واقرأ تعليقات الناس على مواقع التواصل الاجتماعي؛ السوريين وغيرهم من العرب على حد سواء. انظر لمواضيع جدلهم، هل تجد فيها شيئاً عن الزراعة وإعادة بناء القرى التي هُجرت أو خُربت؟ هل يتحدثون عن تأهيل الجرحى والمتضررين في المعارك السابقة؟ وهل تسمع عن ترتيبات لإعادة ملايين السوريين الذين هجروا بلادهم إلى دول الجوار، وبعضهم ما زال يعيش في مخيمات بائسة؟ هل تسمع عن مشاريع تأهيل شبكات الماء والكهرباء والهاتف والمراكز الصحية... إلخ؟

هناك بالتأكيد خبر أو اثنان عن كلٍّ من هذه المسائل. ولكنها لا تكاد تُرى. المواضيع التي تحتل المساحة الأوسع هي المنازعات، من تخوين وتكفير وتدليل على وجوب القتل والتدمير وإفساد الحياة. إن أردت معرفة الروحية العامة التي تهيمن على هذه النقاشات، فانظر إلى لغتها الخشنة، انظر إلى مقدار الشتائم التي يستعملونها في وصف من يعدُّونهم اليوم أعداء، مع أنهم كانوا وسيبقون شركاءهم في الوطن وشركاءهم في القرار، سواء أحبوهم أم أبغضوهم.

ماذا يستفيد شخص يعيش في حلب أو دير الزور، أو في الكويت أو القاهرة أو بيروت، أو في لندن أو استوكهولم، من شتم الناس المقيمين في السويداء أو درعا أو حماة أو إدلب، حتى لو كانوا مخالفين له في السياسة أو الدين؟ بل لماذا ينشغل بالجدل حول مشكلة السويداء أو درعا أو القنيطرة أو غيرها، وهو عاجز عن المشاركة في الحل؟ أي إن كلامه سيكون مجرد تأجيج للمشاعر، وتشجيع للكراهية، بدلَ أن يكون مقولة خير أو دعوة للخير.

إذا كان حريصاً على ذلك الجزء من سوريا (أو أي بلد آخر) فليدعُ إلى حقن الدماء أولاً، وليفكر في الأعمال التي تعين على التسالم، وتحسين الحياة والمعايش لعامة الناس، بخاصة أولئك المحتاجون للإرشاد والمساعدة، بدل أن يصرف طاقته في توزيع الأحكام والتهوين من قيمة الناس هنا أو هناك.

قبل نحو 30 عاماً، سأل أحد الصحافيين المرحوم محفوظ النحناح، السياسي الجزائري، عن الحل الذي يقترحه للنزاع الأهلي الذي كان ناشباً في بلده يومئذ، فتلى الآية المباركة: (كُفُّوا أيديَكُم وأقيموا الصَّلاة). وأنا أقول لهؤلاء الذين سيَّسوا كلَّ شيء فأفسدوا السياسة ولم يصلحوا شيئاً: «كُفُّوا ألسنتكم... سكوتكم هو الغنيمة»... أصلحكم الله.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

أطلق اللغويون على مجموعة لغوية تضم الشعوب التي يسكن متحدثوها حاليا في الشرق الأوسط وشمال وشرق أفريقيا. وبالتحديد (بلاد الشام، العراق، شبه الجزيرة العربية، اليمن، أثيوبيا واريتريا). وهي تضم اللغات (الأكدية) بفرعيها الآشورية والبابلية) والكنعانية والاوغاريتية والفينيقية والآرامية والعبرية، والمندائية، والسريانية والعربية، والسبئية، والجيزية بفرعيها (الأمهري والتغريني) بالسامية وشعوبها بالساميين.

وأول من اطلق اسم (اللغات السامية Semetic Languages) على هذه الأسرة؛ هو المؤرخ واللغوي الألماني أوغست لودفيغ فون شلوزرSchlzer  البعض يسميه شولتز (1735- 1809) وهو أحد أعضاء مدرسة غوتنغن الألمانية للتاريخ وذلك في عام 1781م نسبة الى سام بن نوح اعتمادا على كتاب العهد القديم كون هذه المجموعة تشترك بخصائص مشتركة.

إلا أن زميله الالماني يوهان غوتفريد آيكهورن (1752-1827) – أحد أعضاء المدرسة - أستخدم مصطلح (السامية) للإشارة إلى المجموعة (العبرية والعربية والآرامية السريانية) التي لها أوجه التشابه استنادا للتحليل المقارن للغات (العبرية والعربية والآرامية والسريانية) الذي نشره المستشرق الفرنسي غيوم بوستل (1510- 1581) في عام 1538 باللاتينية، ومن بعده وصف المستشرق هيوب لودولف (1625 - 1704) عالم لغويات ألماني والذي يعتبر أول وأشهر من اهتم باللغة الجيزية من خلال العلاقة التي نشأت بينه وبين راهب غريغوري من إثيوبيا (من مناطق قبيلة الأمهرا)، ومن خلال هذه العلاقة، حصل من الراهب على معرفة وافية عن اللغة الجيزية حيث تبين له وجود أوجه التشابه بين هذه اللغات الثلاث واللغة الجيزية، ومع ذلك لم يطلق أي من الباحثين آنذلك على هذه المجموعة وصف (سامية).

وأقول ان كان لا بد من الاعتماد على العهد القديم كان على شلوزر استخدام التسمية البابلية (الأكدية/ الآرامية) لان العهد القديم يعرف كلمة بابل بمعنى بلبلة اللغات أي كانت هناك لغة واحدة أثناء بناء برج بابل وحيث عاقب الله العاملين في البناء بـ بلبلة لغاتهم كي لا يتسنى لهم التفاهم واكمال مشروع برجهم، هذا يعني كانت هناك لغة واحدة مستخدمة في بابل والمنطقة سواء أكانت الأكدية أو الآرامية أثناء كتابة العهد القديم وتجزأت الى لغات عدة.

وبعد ذلك واستنادا الى النظرية التي طرحت من قبل بعض المستشرقين على أعتبار جميع الاقوام (الاكديين، الاشوريين، الكلدانيين، الاراميين، ...) نزحوا من الجزيرة العربية فسميت هذه اللغة بالجزرية إلا أنهم لم يستطيعوا اثبات ذلك فالآثار الموجودة في بلاد النهرين هي الأقدم ولم يعثر في الجزيرة على ما يثبت ذلك، لذا لا أتفق مع هذه النظرية ايضا وأعتقد الاصح ان نسمي هذه المجموعة بالارامية لحين بيان المشترك مع الاكدية لننتقل الى التسمية الاكدية والتي هي الأصح.

ولكون الآرامية أصبحت لفترة ما لغة الامبراطوريات (الاشورية، الكلدانية، الاخمينية) وبسبب توسع نفوذ هذه الامبراطوريات وحكمها في المنطقة لذا انتقلت الكتابة الآرامية من خلالهم الى هذه الدول التي سمي شعبها بالساميين، بمعنى كانت اللغة المستخدمة والتي كانت تسهل عملية الانتقال والتعايش فيما بينهم هي مزيج من الأكدية والآرامية وتلاقحها مع اللغات المحلية، وإلا كيف لي أن أقرأ النقوش الموجودة في الصومال وأرتيريا وأثيوبيا واليمن والسعودية وأترجمها رغم كونها مدونة بخط آخر فضلا عن نقوش بلاد الشام والعراق وفلسطين والاردن وربما لاحقا نقوش أخرى في دول الخليج. ويقول الأب أميل أدة1:

(أن جميع الهجائيات التي تستحق هذا الاسم، قديمة كانت أم حديثة، تنتسب الى حد ما، الى الهجائية الكنعانية الفينيقية. فآراميو سوريا وبلاد النهرين الذين نقلوا لغتهم الى هذه الهجائية، أسهموا في نشرها بواسطة تجارتهم، حتى الصين والبلاد العربية. وبفضل الهجائية، إحتلّت اللغة الآرامية مركز الأكادية البابلية كلغة دبلوماسية وتجارية في الشرق المتوسط، ومن ثم كلغة وطنية في مجمل بلاد الهلال الخصيب).

***

نزار حنا الديراني

................

1- الأب أميل أده / أقوال المؤرخين وعلماء الآثار – من الأنترنيت

 

برز اسم طائفة الدُّروز، أو الموحدين، أو بني معروف، بقوة هذه الأيام، بما يُقدم مِن على الشّاشات مدحاً وقدحاً، لِما حصل بالسُّويداء السُّوريّة، حيث وجودهم، قبل ذلك، مَن لم يعرف الإيزيديّة بهذا الشّيوع بعد واقعة بالموصل (2014)؟ وهكذا تبرز الطّوائف بالحوادث والوقائع. يجد الفرصة، مَن يريد «التّكفير» و«التّشهير»، فيذهب إلى الأُصول، ويُنسى الواقعة وتفاصيلها. ليس هناك ذنبٌ لمنتمٍ لهذه الطَّائفة أو تلك، وجد الأبناء الآباء فساروا على تقاليدهم. كذلك لا توجد عقيدة تبقى كما هي، فالعقائد قابلة للانشطار، إنَّها سُنن الحياة، وأعيد وأذكر بما نُسب لمعاوية بن أبي سُفيان (ت: 60هج)، وأجده يغني عن المقال في ما قصدنا إليه: «معروف زماننا منكر زمان قد مضى، ومنكره معروف زمان قد بقي» (البلاذريّ، جمل من أنساب الأشراف).

فما تأسّس قبل ألف عام له ظروفه وأسبابه، عندما تبلور وصار مذهباً، فاختلط وتعايش، والدُّرزيَّة أعطت مجتمعاتها ما أعطت، وتحملت ما جرى عليها. كانت ظاهرة الحاكم بأمر الله الفاطميّ (ت: 411هج)، غير منفصلة عن النّزاع بين الدّول والعقائد، فالدَّولتان متقابلتان (العباسيَّة والفاطميَّة)، والفاطميون يريدون بغداد، والخليفة العباسيّ القادر بدين الله (ت: 422هج)، عدَّ العدة للمواجهة العقائديّة بسنيته، فشدّد الحاكم الفاطمي مِن العقيدة الإسماعيليَّة، باتخاذ ما يحمل النّاس على التمترس حولها، فهو لم يكن مبدعاً للعقيدة الدُّرزيّة، إنما وجد دعوة جاهزة فاحتضنها، وكانت البداية الفعليّة (407هج)، عندما وصل حمزة بن عليّ الزَّوزني حاملها له، فرَّسمها عقيدةً للدّولة، واتخذ التّوحيد وفقاً لمقالتها. هذا، ولو فتشت لوجدت مئات المؤلفات عناوينها «التَّوحيد»، فكلُّ مذهب يوحد الله بعقيدته.

أثار اتخاذ أفكار حمزة بن عليّ عقدةً رسميَّةً حسد الدَّاعي الآخر نشتكين الدّرزيّ، فتعرضت الدَّعوة إلى حرب داخليّة، اضطر الحاكم إلى تجميدها، للخلاص مِن الدّرزيّ، لكنَّ الاسم سارت به الرّكبان، وعلى الرّغم مِن أنهم يصيحون نحن «الموحدون» و«بنو معروف»، لكنْ هيمن لفظ «الدّروز» فسكتوا، وقبلوا بـ«الموحدون الدّروز» (أبو صالح ومكارم، تاريخ الموحدين الدُّروز).

قام الخليفة العباسي، لمواجهة الدّعوة الجديدة والإسماعيليّة، بإصدار محضر فقهي طعن بنسب الفاطميين. أمضاه رؤساء المذاهب ببغداد، بينهم العلويون الشّيعة، والشّيخ المفيد (ابن الجوزي، المنتظم). بقدر ما تعصّب الحاكم تشدّد القادر، فصنّف كتاباً كفَّر فيه المعتزلة وغيرهم، يُقرأ في الجمعة (البغدادي، تاريخ بغداد)، وعلا الأمر بالحاكم إلى فرض التَّوحيد، بالدَّعوة التي تبناها.

إذا كان القادر بالله منفيّاً مِن قبل ابن عمَّه، والأزمة في البيت العباسيّ شديدة، كانت أخت الحاكم «ست المُلك» وابنه ضده، فبعد غياب الأب أعلن الابن اضطهاد الدُّروز، بتقتيلهم وملء الحبوس بهم. قيل: «كانت مِن أعقل النّساء وأحزمهنَّ»، وخشية مِن خراب البيت الفاطميّ بسلوك أخيها، عملت ضده (تغرى بردى، النّجوم الزَّاهرة). فجُمدت الحركة «الدّرزيّة»، ولم تعد رسميّة، وظلّت بحدود الشّام: سورية ولبنان وفلسطين. يقرّ الدُّروز بالوحدانيّة، ويعتقدون، كغيرهم مِن الملل: في آخر المطاف «ستعتنق البشريّة بكاملها الدّرزيّة» (أوبنهاتم، الدُّروز).

لديهم وصايا سبع، أبرزها: صدق اللِّسان، حفظ الإخوان، ترك عبادة البهتان، البراءة مِن الأبالسة والطّغيان (أبو عزّ الدِّين، الدُّروز في التّاريخ). أرأيتم، كيف أنَّ أبناء مذاهب اليوم لا شأن لهم بالتأسيس وصياغة العقيدة، فالعقائد موروثات، ولولا النّزاع العباسيّ الفاطميّ ما تبنى الحاكم الدُّرزيَّة، التي قمعها نجله الظّاهر لإعزاز الله (ت: 429هج)، ولا طُلب مِن أبي حامد الغزاليّ (ت: 505هج) تصنيف «فضائح الباطنيّة»، الذي لم يعفِ الأطفال مِن اختبار العقيدة، ولا جلس القادر يرمي التَّكفير مع صلاة الجمعة.

مرّت المنطقة بدورات عصيبات، والضَّحايا أبناء الطّوائف، يأتي السّياسيّ يتسيّد بطائفته مضطهداً الآخرين، ولما يرحل تُحسَبُ أفعاله على طائفته، لأنه جعلهم أدواته، فيجري الثَّأر منهم. لذا، اعصموا الطَّوائف مِن الحزبيّة، فإذا كان الغرور بالسُّلطة، فالدّهرُ لا يغفل، والكلام يُنسب لأبي العَتاهيَة (211هج): «سكتَ الدَّهرُ زماناً عنهم/ ثم أبكاهم دماً حين نطق» (سبط ابن الجوزيّ، مرآة الزَّمان).

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

وأنا أتابع ما يجري في سوريا، إذ تتآكل البنية الوطنية وتقترب من حافة التفكك، لا يسعني إِلَّا أنَّ أستحضر المشهد العراقي ما بعد سقوط نظام صدام، حين بلغت المحنة ذروتها: بلد ينهار، وخراب يمتد من الجغرافيا إلى الذاكرة، وجراح تفيض على طوائفه جميعًا. ذلك أنّ المحنة العراقية– بشهادات التاريخ لا الانفعالات– كانت أعمق، والخراب أشمل والجراح أكثر اتساعًا. ومع ذلك، بقي العراق قائمًا رغم ما فيه.

كان في عمق هذا التماسك رجل يسكن النجف، اسمه السيد علي السيستاني، آلت إليه زعامة التشيّع، رجل صاغه العلم وهذّبته الروحانية، فعاش بمنأى عن غواية السلطة وظهورها الزائف. لم يرضخ لردود الأفعال، ولم يفتح باب الدم حين استُدرج إليه مرارًا. رأى أتباعه يُذبحون على أعتاب كل حسينية ومسجد، فاختار الصمت المسؤول، والاتزان الذي يعلو على الغريزة.

لكن حين شارف الوطن على الحذف التام عام 2014، وحين بدا أنّ الذبح لن يستثني أحدًا، نطق بكلمة كانت أثقل من الحرب نفسها، وأصفى من الانفعال: فتوى الجهاد الكفائي. لم تكن دعوة للقتل، بل إعلانًا عن الحد الأخير لمسؤولية الوجود. لذلك يقول الدارسون: إن هذا النوع من الفتوى هو ما جعل علماء الدين الشيعة قادةً للشعب، ومنها اتسعت سلطاتهم السياسية والاجتماعية، المضافة إلى سلطتهم الروحية. [1].

يرى فالح عبد الجبار-عالم الاجتماع العراقي- أنّ الهوية الشيعية قوتها تعتمد في ثلاثة عناصر أساسية: أولًا، وفرة الرموز الدينيَّة التي تتيح بناء سردية جمعية متجددة. ثانيًا، كثافة الشعائر الدينية- الشعبية، ولا سيَّما زيارة الأربعين بوصفها طقسًا جماعيًا هائل الحضور. وثالثًا، وجود مرجعية دينية جامعة تمتدّ في عمقها التاريخي لأكثر من ألف عام، بما يوفّر استمراريةً مؤسسيةً نادرة في السياقات الإسلاميَّة [2].

إن قراءة فالح عبد الجبار لقوة التشيع من خلال ثلاثية (الرمز– الشعيرة– المرجعية) تفتح الباب لفهم التشيّع كمنظومة ثقافية- تاريخية تمتلك قدرة نادرة على إنتاج الذات وإعادة توليدها عبر الزمن.

1. فالرموز: الدينية الشيعية لا تشتغل فقط كجسور تواصل بين الماضي والمقدّس، بل هي أيضًا بنى إنتاج للمعنى في الحاضر. فالإمام الحسين، مثلًا، لم يبق رمزًا لمأساة تاريخية، بل تحوّل إلى مفهوم أخلاقي- سياسي يتجاوز شرطه التاريخي. الرمز هنا يُعاد تأويله مع كل سياق جديد. وهذه القدرة على "تجديد الرمز" هي ما يجعل التشيّع حيًّا في بنيته وشعاراته.

2. في الشعيرة: الزيارة، العزاء، اللطم، المواكب.. هي أشكال لإنتاج "جسد جمعيّ" له إحساسه الخاص بالزمن، والعدالة، والانتماء. إنها شعائر لمقاومة النسيان. وبذلك تتحوّل الشعائر إلى آلة سردية كبرى تعيد حياكة الذات الشيعية باستمرار، إذ يكون الجسد الشعائري بمثابة نصّ يتحرك على الأرض.

3. أما المرجعية: فهي بنية تراكمية تمارس وظيفة تأويلية وزمنية؛ إنَّها "ذاكرة حية" تحتفظ بتوازن الجماعة، وتمنحها القدرة على مقاومة التفتت والانزلاق نحو العدمية أو التطرف. قوّتها لا تكمن في سلطتها الفقهية فحسب، بل في كونها تمثّل نوعًا من "العقل الجماعي المتراكم"، القادر على إدارة التعارضات دون تمزيق البنية.

ما يقدّمه فالح عبد الجبار هو أكثر من توصيف اجتماعي– إنَّه تشخيص لأنثروبولوجيا التماسك الشيعي. فهذه الثلاثية تُنتج ما يمكن تسميته بـ"الهوية الدينامية"، أي هوية قادرة على أنَّ تكون وفية لذاكرتها دون أنَّ تتجمد فيها.

ومن ثَّم، ليس من العبث أنّ تتجلّى مواقف السيد السيستاني الحاسمة، فهي امتداد لتقليد مرجعي في ساعات مفصلية، تعاملت فيها النجف مع التحولات الكبرى بوعيٍ وطني وديني بالغ. ففي عام 1918، عند اجتياح الاحتلال البريطاني للعراق، اتخذت المرجعية موقفًا يطالب بالعدالة وخروج المحتل، معلنةً بداية حضورها السياسي في مواجهة القوى الأجنبية. وفي عام 1920، أطلق المرجع الشيخ الشيرازي شرارة الثورة ضد الاحتلال عبر فتوى شهيرة، أصبحت منطلقًا لثورة العشرين العظيمة، ومهّدت لقيام نظام ملكي دستوري عام 1924.

وانشغلت المرجعية في النجف بقضايا الإقليم، فساندت عام 1948 القضية الفلسطينية، ودعت مرجعية السيد محسن الحكيم المنابر الدينية لدعم نضال الشعب الفلسطيني، وأفتت بدفع الحقوق المالية الشرعية له، متجاوزةً الانقسامات المذهبية والدينية. وفي عام 1956، عبّرت المرجعية عن تضامنها مع مصر إبان أزمة السويس، وصدرت عنها بيانات واضحة تُجسّد هذا الموقف التضامني.

وفي عام 1968، حيث صعود حزب البعث إلى السلطة، ارتكز المشروع السلطوي الجديد على رؤية أمنية تُعيد ترسيم خريطة التهديد الوطني. فبينما شُيطن الأكراد بوصفهم التهديد الإثني الأبرز، نُظِر إلى الأحزاب الشيعية على أنَّها تشكيلات فكرية أولية، محدودة الانتشار، وغير قابلة – في تصور النظام – للتحول إلى قوى سياسية فاعلة، مما أبقاها في البداية خارج دائرة القمع المباشر، كأنها لا تزال في طور التكوين غير المثير للقلق. لكن في الفترة ما بين عامي 1980 و1988، وخلال الحرب مع إيران، اندفعت الدولة في أتون حرب طويلة أنهكت البنية المجتمعية والسياسية، وأعادت إنتاج "الشيعة" كهوية متهمة ومخترقة. واتّسم خطاب السلطة بازدواجٍ فادح: إذ حُمِّل بعض الشيعة تهمة الخيانة، فلاحقهم السجن والنفي والإعدام، فيما جرى استيعاب فئات أخرى في أجهزة الدولة، لا بوصفهم شركاء، بل كوسائط في معادلة ضبط ومراقبة الطائفة من الداخل.

وفي عام 1991، عقب الانتفاضة الشعبانية، أصبحت السلطة تنظر إلى التشيع كجسم متمرّد على منطق الدولة ذاتها. تحوّلت العلاقة إلى قطيعة قمعية، إذ جُرِّدت الطائفة من أي شرعية سياسية أو وطنية، وتمت معاملتها كعدو داخلي تجب محاصرته، لا محاورته[3].

أما في المرحلة ما بين 1991 -2003، في ظل الحصار وما بعده، ومع التآكل التدريجي لهيبة الدولة تحت وطأة العقوبات الدولية، انفتحت الثغور أمام فواعل شيعية كانت حتى ذلك الحين تعمل في الظل. تحرّكت هذه الكيانات من الهامش إلى المركز المجتمعي، لتعيد إنتاج الفعل الديني بوصفه فعلًا اجتماعيًا ومؤسساتيًا قادرًا على ملء الفراغ كما حصل مع التجربة الفريدة للسيد محمد محمد صادق الصدر. فكانت تلك لحظة التحول التي مهّدت لصعود النفس الشيعي المؤسسي بعد عام 2003، كتحقّق تاريخي متراكم.

(ما بعد 2003): أحدث سقوط النظام لحظة انكسار جذري في معادلة الدولة والطائفة، إذ انتقل الشيعة من الهامش المعارض إلى مركز الفعل السياسي، من خلال إعادة صياغة لشرعية الدولة من جديد. وهذا التحول جاء كولادة مؤلمة لعلاقة مأزومة بين الإرث الديني وسنوات السحق وضرورات الدولة الحديثة وسلطة الاحتلال الأمريكي، بين المرجعية كمركز رمزي للشرعية، والدولة كمؤسسة سيادية تتطلب إنتاجًا دنيويًا للسلطة.

لقد كانت فاعلية الشيعة كامنة في حضور المرجعية الدينية، كقوة رمزية عميقة أعادت تنظيم حركة الفعل داخل المجتمع. فقد شكّلت المرجعية نقطة اتزان وسط الفوضى، ودَفعت المجتمع دفعًا نحو الدولة كأفقٍ ضروري وضامن لتفادي الانهيار. ومع أنّ المرجعية لم تُخفِ مآخذها الجوهرية على مسار العملية السياسية، فإنها– وبلغة الصمت المدوي– أوصدت الأبواب في وجه الطبقة السياسية، عن موقف أخلاقي ناقد، يُضمّن العتب والمعارضة معًا.

بعد هذه الجولة المكثّفة، ينهض السؤال بطبيعته دون استدعاء، ويقفز إلى الذهن بحدة: ما الذي تفتقر إليه التجربة السورية، إذا ما وُضعت في مقابلة– وإنْ بشروط تاريخية مغايرة– مع نظيرتها العراقية؟ في تقديري، يكمن الجواب في جملة من العناصر العميقة، ومنها:

أوَّلًا: الافتقار إلى مرجعية اجتماعية دينية عقلانية جامعة، تتجاوز الحزبية والطائفية تتسع للبلد ككل.

ثانيًا: تفتّت البنية المرجعية: فالساحة السورية خضعت لتنازع المرجعيات منذ سنوات: الإسلام السياسي والسلفي، القوميين، الليبراليين، والعسكرة الخارجية.

ثالثًا: غياب مركز وطني- أخلاقي يجتمع حوله أغلبية السوريين يضبط البوصلة عند اللحظات الحدّية. في التجربة العراقية، حتى مع غياب الدولة كانت النجف دائمًا "حدٌّ رمزيّ" للانهيار، لا يُسمح بتجاوزه. ومن ثَّم، ما الذي يمكن أن تستفيده سوريا من النجف بوصفها مرآة للاستلهام لا للاستنساخ فهذا الأمر متعذر بالضرورة؟

أن تُؤسّس سوريا الجديدة على عقلانية غير انتقامية، عابرة للطوائف، تراهن على الإنسان لا على الجماعة.

أن تشتغل على إنتاج مرجعيات فكرية وأخلاقية تشبه دور النجف لا في تديّنها، بل في حكمتها التاريخية.

أن يُفهم أن إنقاذ الدولة لا يعني بالضرورة استنساخ الدولة، بل استرداد المجتمع أولًا.

فسوريا في وضعها الراهن بأمسّ الحاجة إلى مثل هذه الحكمة والعقلانية المتجاوزة لا لصدّ العنف بالعنف، بل لمنع سقوط البلد نفسه وحذفه نهائيًا من الخارطة. سوريا بحاجة إلى حكمة السيستاني لا إلى ارتهان حكمت الهجري بالخارج والتقوي بإسرائيل. سوريا اليوم ليست بحاجة إلى استدعاء الخارج ولا إلى تبرير الاحتماء بمشروع استيطاني يمزّق روحها، بل إلى صوت بعقل السيستاني وروحه، يُنقذها من السقوط ويعيد بناء الضمير الجمعي، وإيقاف النزيف بالمسؤولية لا بالمزايدة. سوريا لا تحتاج إلى مزيد من الحلفاء بل إلى حكمة تحفظ لها الحق في البقاء. سوريا اليوم في قلب مأزق معقّد ومتشابك؛ فهي معلّقة بين نظام يحكمها وتثقله جماجمُ القتلى، ومحتشد بجنود عابرين لفظتهم أوطانهم الأصلية لتطرّفهم، لا يحملون من لغة العالم سوى السلاح، ولا من الثقافة سوى منطق الرصاصة. ومن جهة أخرى، ثمَّة إسرائيل لا ترى في الجغرافيا السورية إلَّا رقعةً يجب تفكيكها، وتركيا تحوّل المأساة السورية إلى منصّة لتوسيع ظلّها وبسط خطابها.

وفي هذا الفضاء المتداخل من الطوائف والولاءات والسوق السياسي المفتوح على الخارج، ستعيش سوريا لسنوات من التيه- مع الأسف- لا تعود الحلول الكلاسيكية كافية، ولا تُجدي المعالجات المؤقتة. ما يُنقذ سوريا لا هو انتصار فريق ولا هزيمة آخر، بل ولادة عقل يتجاوز الاصطفاف ومشروع يؤمن به أهله لأنَّه يلامس حقيقتهم لا مصالح وكلائهم.

نكمل توسعة الفكرة وإنضاجها في المقالة القابلة.

 ***

أ.م.د حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله

....................

[1] ينظر: عبد الأمير زاهد، الدور الديني لمرجعية النجف المعاصرة في صناعة السلام، بحث منشور كتاب " نحو ثقافة الحوار بين الأديان، وهو جزء من وقائع أعمال المؤتمر الدولي الأول، بيروت 12-13 أيلول، سبتمر- 2017، 208.

[2] ينظر: فالح عبد الجبار، صراع الأمة والدولة، ضمن كتاب الصراع المذهبي، تحرير: حسن ناظم، إياد العنبر، الناشر: كرسي اليونسكو للحوار- جامعة الكوفة، الطبعة الأولى- 2018م، 49.

[3] ينظر: عبد الأمير زاهد، الدور الديني لمرجعية النجف المعاصرة في صناعة السلام، 208.

 

في كل أمة تُختبر هويتها، تكون اللغة أول الحصون المُستهدفة، وأول الأسوار المُراد إسقاطها. وعلى أرض مصر، التي تنطق بالحياة منذ فجر التاريخ، يتجدد الجدل: هل ما نتحدثه في شوارعنا ومقاهينا "لهجة عربية" أم "لغة مستقلة"؟!

هي ليست معركة أصوات وكلمات، بل معركة انتماء وذاكرة. فاللهجة العامية ليست غريبة   عن العربية، بل فرع نابت في شجرة واحدة، يحمل نكهة الأرض وطين النيل، لكنه يرتوي من نبع الضاد.

في هذا المقال، نكشف الزيف، ونردّ الحكاية إلى أصلها.. حيث تبدأ الكلمة من الجذر، لا من الوهم.

لغتنا هويتنا ومعركتنا الأبدية

لم تسلم اللغة، كغيرها من مظاهر الهوية، من محاولات التشويه والتفكيك. فقد ظهرت في السنوات الأخيرة أصوات تدّعي أن العامية المصرية "لغة مستقلة" عن العربية، وكأنها نشأت من فراغ، لا جذور لها ولا تاريخ.

هل من المنطقي الزعم بأننا لا نتكلم العربية؟ أو أن اختلاف بعض المفردات واللهجات يعني القطيعة التامة مع اللسان العربي؟ إنها محاولة مفضوحة لضرب الانتماء وتزييف الهوية الثقافية، تكرار لادعاءات قديمة أرادت أن تفصل المصريين عن عروبتهم، بزعم أنهم "فراعنة فقط"، وكأن العروبة والإسلام يتناقضان مع الخصوصية المصرية!

اليوم تعود هذه المحاولات بثوب لغوي، بادعاء أن ما نتحدثه في مصر ليس له علاقة بالعربية، بل هو "لغة مصرية حديثة". وهذا عبث علمي لا يصمد أمام أي قراءة جادة في التاريخ أو في علم اللغة. إن القول بأن العامية المصرية تمثل "لغة مستقلة" يحتاج إلى استقراء هادئ يستند إلى أدوات العلم، لا إلى الأهواء والأجندات. اللغة كائن حي، تتغير وتتطور، لكن تطورها لا يعني بالضرورة أنها تنفصل عن أصلها.

سنناقش هنا أبرز المزاعم المثارة على منصات التواصل، عبر مراجعة علمية دقيقة لأهم المصادر التي يُستند إليها في ترويج هذه الفكرة الضالة. كما سنبرهن ببراهين دامغة أنها فكرة لا تستحق حتي مجرد النظر أو إعادة تدويرها على الذهن!

أكذوبة مكشوفة

أحد أبرز الادعاءات تقول إن الدكتور إبراهيم أنيس أثبت أن المصريين لا يتحدثون العربية. لكن هذا الادعاء يفتقر للدقة. أنيس، أحد أعمدة علم اللغة في العالم العربي، درس اللهجات العربية، ومن ضمنها العامية المصرية، ضمن الإطار العام للغة العربية.

دراسته رصدت الخصائص الصوتية واللهجية، لكنها لم تقل يومًا إن العامية لغة منفصلة. تمامًا كما تختلف لهجات بلاد الشام أو الخليج، تظل العامية المصرية جزءًا لا يتجزأ من المشهد العربي العام.

آراء فردية شذت عن الإجماع

في كتابه "حاضر الثقافة في مصر" طرح بيومي قنديل رؤيته بشأن خصوصية العامية المصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال التعبير الثقافي المستقل.

لكننا أمام رأي فردي، لا يستند إلى إجماع علمي ولا إلى دراسات مقارنة كافية. خصوصية اللهجات لا تعني الانفصال، بل التنوع داخل الوحدة. والفيصل دائمًا هو إمكانية الفهم المشترك، وهي قائمة بوضوح بين المصريين وبقية الشعوب العربية.

توظيف ناقص

محاولة الربط بين اللغة المصرية القديمة والعربية عبر قاموس أحمد كمال باشا تحتاج إلى إعادة تمحيص؛ فالقاموس في ذاته محاولة رائدة، لكنه لا يقدم دليلاً على وحدة الأصل بين اللغتين. فاللغات ـ كما هو معروف في اللسانيات ـ تتأثر ببعضها بفعل التراكم والاحتكاك، دون أن يعني ذلك انحدارها من مصدر واحد. ثم إن المنهجية التي اعتمدها كمال باشا لم تحظَ بقبول واسع، بل واجهت تساؤلات علمية من متخصصين في اللسانيات التاريخية.

الدليل الأول: الديجلوسيا

هناك أدلة كثيرة أسوقها إليكم للبرهنة على ما لا يحتاج لبرهان: أن الفصحي واللهجات العامية، ومنها المصرية، لهم أصل واحد مشترك هو القرآن، مهما زعم الزاعمون غير ذلك.

إن العربية، عالمياً، تُصنّف كلغة "ثنائية اللسان"(diglossic):  لها لغة رسمية (الفصحى) وأخرى محكية (اللهجات العربية) تُستعمل في الحياة اليومية. وهناك لغويون مثل "محمود البدوي" يقسمون استخدام اللغة إلى خمس درجات، من "الفصحى التراثية" إلى "عاميات غير متعلمة"، وهذا يؤكد ترابط مستويات مختلفة ضمن نظام لغوي واحد .

ثم إن اللهجات تُستخدم حسب الدرجة الاجتماعية والسياق: العامية للحديث اليومي، والعربية الفصحى للأغراض الرسمية والفكرية. ولم يقل أحد من علماء اللسانيات فى كل العالم أن اللغات ثنائية اللسان تنم عن لغات منفصلة، فلماذا نتبرع نحن بادعائها؟ ولماذا الآن؟!

الدليل الثاني: البنية المشتركة

من حيث "الصوتيات"؛ فإن اللهجات العربية جميعها واللغة العربية الفصحي تستخدم نفس النظام الصوتي الجذري، رغم بعض التغييرات (مثل تحول القاف إلى همزة أو غين في العامية..إلخ). وإذا كانت العامية المصرية تستبدل القاف بهمزة/جيم غنة، لكن النظام الصوتي لا ينفصل، بل يُحوَّل وفق قواعد لهجوية متسقة.

ومن حيث "الصرف والنحو"، فإن العامية رغم تبسيطها نطقاً واستخداماً إلا أنها تحتفظ بالبنية الصرفية والنحوية العربية الأصلية: أفعال ثلاثية، ضمائر، أدوات استفهام... إلخ. وهناك دراسات كثيرة؛ مثل: Arabic Dialects and Classical Arabic Language"" تظهر بوضوح وجلاء أن الهيكل العام بين الفصحي واللهجات العامية متطابق إلى حد كبير فى المجمل، لكن مع اختلافات سطحية لا ترقي إلى حد النظرية العامة.

ومن حيث "المفردات" فإن المفردات الأساسية فى العامية تنحدر بلا خلاف من الجذور العربية، مع كلمات دخيلة هي خليط من التركية والفارسية والإنجليزية والقبطية والفرنسية، وكما هو واضح أن التأثر هنا لا يعود إلى الجذور الفرعونية كما يزعمون، وإنما للاستعمار. وهو تأثر يشبه تأثير التوابل فى الطعام، لا يغير ماهية الطعام، وإنما يزيده شهية!

ودعونا نتساءل هنا: إذا كانت نية الزاعمين حول انفصال العامية المصرية عن لغتنا العربية الفصيحة نية سليمة لا تشوبها شائبة، فلماذا تمسكوا بقاموس أحمد باشا كمال، وهو ليس دليلاً على شئ، ولم يذكروا شيئاً عن معجم اللغة العامية لأحمد تيمور، رغم تأكيده الدامغ على الصلة الطبيعية بين العامية المصرية وبين العربية الفصحي؟!!

الدليل الثالث: دليل تقني

هناك نظم تقنية وأبحاث خاصة بالشبكة العصبية للذكاء الاصطناعي، استطاعت الربط بين اللغة العربية الفصيحة المكتوبة وبين العامية،وجرب بنفسك أن تتحدث مع شات جي بي تي باللغة العربية الفصحي فسيخاطبك بها تلقائياً، وإذا غيرت لهجتك للعامية المصرية فسوف يغير لهجته بالتبعية؛ لأن النظامين اللغويين لديه مرتبطان بنظام لغوي واحد.

وهنك أبحاث لغوية كثيرة قامت وكُتبت حول هذا الأمر، منها:

-    دراسة دكتور خالد شعلان، بالجامعة البريطانية فى دبي 2007: عرضت نظامًا لتحويل العامية المصرية إلى فصحى آليًّا، مما يدل على وجود علاقة معجمية ونحوية مباشرة.

-    دراسة أشرف النجار بالشارقة 2021: لاحظت الدراسة أن الفصحى والعامية كلتاهما تشتركان في الشكل اللغوي، لكن الاختلاف واضح في التفصيلات؛ ورغم اختلاف اللهجات جداً، إلا أن دراستها موحدة ضمن المنظومة العربية.

المنطق والسياق التاريخي

بعيداً عن مهاترات التريند، دعونا نلجأ للسياق التاريخي لتطور اللهجة المصرية؛ فبعد الفتح الإسلامي، دخلت العربية مصر وانتشرت بالتدريج، واثرت وتفاعلت مع القبطية. لبثت عدة قرون قبل أن تتبلور إلى العامية المعروفة اليوم. هذه التطورات تعكس نمط تطور طبيعي داخل اللغة، لا انفصالاً كاملًا. فالمعروف ثقافياً أن اللغة كائن حي متجدد.

الآن نلاحظ أن اللهجات المصرية مفهومة في غالبية العالم العربي نظرًا لانتشار الإعلام المصري: أفلام، مسلسلات، موسيقى. ألا يؤكد لنا الفهم المشترك بين اللهجات (مثل المصرية، الشامية والخليجية) أن النبع لهذه اللهجات هو نبع واحد مشترك؟! هذا بديهي، وهو فهم يعزز وجود "لسان عربي مبين" وهو لسان مشترك متعدد اللهجات وأساليب النطق.

كالشمس أو كالنجوم

هي حقيقة مؤكدة كالشمس الساطعة فى يوم صائف. لكنهم يريدون، لغرض فى نفوسهم، ليّ عنق الحقائق. وإذا أردتم دلائل إضافية، عالمية هذه المرة، فدعوني أوضح لكم حقائق مستقرة فى عرف المسلمات الأكاديمية حول بنية اللغات:

1.  البنية اللغوية: اللهجات تشكل امتداداً للفصحى، لا كيانات مستقلة.

2.  الأساس المشترك: اشتراك اللهجة واللغة بنيوياً يحول دون انفصالهما بداهةً.

3.  إمكانية الترجمة: نجاح عمليات التحويل الآلي بين اللهجة واللغة المرتبطة بها يعني بالتبعية أنهما من أصل واحد.

4.  الإجماع العلمي: أغلب الدراسات الأكاديمية تعتمد على الفرضية الرحبة بوجود تنوع لهجي محفوظ ضمن نسق لغوي موحد. لا يوجد دليل على استقلال تام للهجات.

إن العامية المصرية ليست “لغة منفصلة”، بل إحدى لهجات العربية، تشترك معها في الجذور، والقواعد، والكثير من المفردات. والتنوع اللهجي يعزز ثراء اللغة، ولا يقلل من انتمائها إلى العربية الفصحى، بل يضفي عليها طابعًا محليًا يثريها ثقافيًا ولا ينفي شمولها الحضاري.

إنني أقولها بوضوح: كفى تضليلًا! كفى عبثًا بلغة هي وعاء حضارتنا، ولسان تراثنا، وجسر تواصلنا مع إخوتنا العرب!

***

عبد السلام فاروق

ماذا لو انهار الدولار؟

سؤال يبدو بسيطا، لكن إجابته تعني زلزالًا اقتصاديًا سيهز عروش القوى العظمى، ويقلب موازين العالم رأسًا على عقب. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يترك مجالًا للشك عندما أرسل تحذيرًا صارخًا: "من يريد أن يجرب فعل ذلك، فليجرب.. لكن عليه أن يكون مستعدًا لدفع الثمن". كلمات تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا، بل وعريضًا، لكل من يجرؤ علي تحدي الهيمنة الأمريكية عبر استبدال الدولار بعملة أخرى. 

فهل نحن أمام بداية نهاية الهيمنة المطلقة للدولار؟ أم أن أمريكا، بقوتها العسكرية والاقتصادية، قادرة على سحق أي محاولة لزعزعة مكانته؟ ومن يقف خلف هذه المحاولات؟ هل هي مجموعة "بريكس" بقيادة روسيا والصين، أم أن العالم كله بدأ يئن تحت وطأة الدولار كسلاح سياسي قبل أن يكون عملة تبادل تجاري؟ 

الدولار.. هو الإمبراطورية 

الحديث عن الدولار لا ينفصل عن الحديث عن القوة الأمريكية. منذ اتفاقية "بريتون وودز" عام 1944، أصبح الدولار هو العمود الفقري للنظام المالي العالمي، مرتبطًا بالذهب أولًا، ثم بالنفط لاحقًا عبر صفقة البترودولار مع السعودية في السبعينيات. لكن الأهم من ذلك كله هو أن الدولار تحول إلى أداة سياسية بامتياز. 

الولايات المتحدة تستخدمه كسلاح لفرض العقوبات، لإخضاع الدول المتمردة، ولإرهاب أي نظام يحاول الخروج عن الطاعة. إيران وفنزويلا وسوريا وغيرها شهدت كيف يمكن لعقوبات مالية أن تحول اقتصاد دولة من الازدهار إلى الانهيار في سنوات قليلة. لكن السؤال الآن: هل بدأ هذا السلاح يفقد حدّه؟ 

بريكس.. محاولة كسر القيد الذهبي 

مجموعة "بريكس" (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا) تحولت في غضون سنوات إلى نادي للدول التي تريد الهروب من هيمنة الدولار. في قمتها الأخيرة بالبرازيل، كانت الرسالة واضحة: البحث عن بدائل نقدية تقلل الاعتماد على العملة الأمريكية. 

روسيا، بعد عقوبات الغرب القاسية عليها، أصبحت أكثر حماسًا لتعويم الدولار. والصين، بقوتها الاقتصادية الصاعدة، تدفع بعملتها "اليوان" لتكون منافسًا جديًا. بل إن بعض الصفقات بين هذه الدول أصبحت تتم بعملات محلية، متجاوزة الدولار تمامًا. لكن ترامب يرد بتحذيره: "ثمن ذلك باهظ جدًا". فماذا يعني هذا التهديد؟ 

الثمن الباهظ..

الولايات المتحدة الأمريكية، بالتأكيد لن تسمح بتآكل هيمنة الدولار، لأن ذلك يعني انهيار أحد أهم أركان قوتها العالمية. التاريخ يقول إن أمريكا مستعدة لخوض حروب من أجل الحفاظ على هذه الهيمنة. فهل ننسى كيف تم تدمير العراق وليبيا جزئيًا بسبب محاولاتهم التخلص من الدولار في صفقات النفط؟ 

اليوم، روسيا والصين هما الهدف الأكبر. العقوبات على روسيا ليست فقط بسبب أوكرانيا، بل لأن موسكو تمثل تحديًا مباشرًا للنظام المالي الأمريكي. والصين، باقتصادها العملاق، قد تكون اللاعب الأقدر على قلب الطاولة. لكن هل ستجرؤ على خوض معركة مفتوحة مع العملة الخضراء؟ 

 معركة العملات..

التحذير الأمريكي ليس كلامًا في الهواء. إنه إعلان واضح صريح بأن معركة العملات هي الجبهة الجديدة في الحرب الباردة بين الشرق والغرب. لأن الدولار هو درع أمريكا ورمحها. أي محاولة لإسقاطه ستواجه برد قد يكون اقتصاديًا، سياسيًا، أو حتى عسكريًا. 

لكن السؤال الأهم: هل العالم مستعد لدفع الثمن؟ وهل الدول المتمردة على الهيمنة الأمريكية قادرة على تحمل العواقب؟ المستقبل سيخبرنا، لكن ما نعرفه الآن هو أن المعركة بدأت، وأن ترامب قد أطلق أول رصاصة تحذيرية.

 هل نشهد ميلاد نظام نقدي عالمي جديد؟ 

لم يعد الدولار مجرد عملة لتبادل السلع والخدمات، بل تحول إلى أداة للهيمنة والابتزاز السياسي. لكن المفارقة الكبرى تكمن في أن القوة المفرطة للدولار قد تكون سببًا في بداية أفوله. فالعالم لم يعد يقبل أن يكون رهينة للسياسة النقدية الأمريكية، خاصة عندما تتحول هذه السياسة إلى سيف مسلط على رقاب الدول التي تخرج عن النهج الأمريكي. 

ترامب، في تصريحه الأخير، كان ينطق بلسان الإمبراطورية الأمريكية التي تدرك أن فقدان الهيمنة النقدية يعني بداية النهاية لقوتها العالمية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل يمكن لدول "بريكس" وغيرها أن تنجح في تحدي هذا النظام، أم أن أمريكا قادرة على سحق أي تمرد نقدي قبل أن يكتسب زخمًا؟  

 روسيا.. من الانهيار إلى التمرد 

بعد العقوبات الغربية القاسية التي أعقبت الغزو الأوكراني، وجدت روسيا نفسها في موقف لا تحسد عليه: إما الاستسلام للضغوط المالية الأمريكية، أو البحث عن بدائل جذرية. واختارت الكرملين الخيار الثاني. 

أولا : التجارة بالروبل حيث فرضت موسكو على الدول "غير الصديقة" دفع ثمن الغاز والنفط بالروبل، في خطوة غير مسبوقة لتجاوز الدولار. 

ثانيا : التحالف مع الصين إذ أن أكثر من 70% من التبادل التجاري بين البلدين يتم الآن بالروبل واليوان، متجاوزًا الدولار تمامًا. 

ثالثا : ضاعفت روسيا من احتياطاتها الذهبية، في إشارة واضحة إلى استعدادها لعصر ما بعد الدولار. 

لكن هل يكفي ذلك؟ الروبل لا يزال عملة هشة، والاقتصاد الروسي منكمش تحت وطأة الحرب. التمرد على الدولار يحتاج إلى أكثر من إرادة سياسية؛ يحتاج إلى قوة اقتصادية وعمق مالي قد لا تملكه روسيا وحدها. 

 الصين.. التنين الذي يتربص

بينما تخوض روسيا معركتها بالغاز والذهب، تلعب الصين لعبة أطول وأذكى. 

- اليوان الرقمي: بكين تطور نظامًا نقديًا رقميًا قد يصبح بديلًا عالميًا لـ"سويفت"، النظام الذي تتحكم فيه أمريكا. 

- القروض باليوان: في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، تقدم الصين قروضًا تنموية باليوان، مما يوسع نطاق استخدام عملتها. 

- تحالفات اقتصادية: من خلال مبادرات مثل "الحزام والطريق"، تخلق الصين شبكة اقتصادية موازية تقلل الاعتماد على الدولار. 

لكن الصين توازن بحذر. فهي لا تريد صدامًا مفتوحًا مع أمريكا، لأن مصلحتها تقتضي الاستمرار في التصدير إلى السوق الأمريكية. هل نستطيع إذن أن نقول إن بكين تريد إضعاف الدولار، لا إسقاطه؟ 

 دول البريكس.. بين الوحدة والانقسام 

المجموعة التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا تطرح نفسها كمنافس للنظام الغربي، لكنها تعاني من تناقضات داخلية: 

- الهند: تخشى من هيمنة اليوان مثلما تخشى من الدولار، وتفضل نظامًا متعدد الأقطاب. 

- البرازيل: تتعامل بحذر، فهي لا تريد إغضاب واشنطن التي تبقى شريكًا تجاريًا رئيسيًا. 

- جنوب إفريقيا: اقتصادها ضعيف لقيادة أي تحول نقدي. 

إذن، فكرة إصدار "عملة بريكس موحدة" تبدو بعيدة المنال حاليًا. لكن مجرد وجود هذا التحالف يرسل رسالة واضحة أن العالم لم يعد راضيًا عن هيمنة الدولار الأحادية. 

الحرب الاقتصادية.. وما بعدها 

الولايات المتحدة لن تتخلى عن سلاحها المالي دون قتال. وسنرى على الأرجح: 

1. عقوبات أكثر قسوة: كما حدث مع روسيا، أي دولة تحاول التخلي عن الدولار قد تواجه تجميد أصول وحظرًا مصرفيًا. 

2. ضغوط دبلوماسية: واشنطن ستستعمل نفوذها في صندوق النقد الدولي والبنك العالمي لعرقلة أي تحالفات نقدية منافسة. 

3. حروب بالوكالة: كما في أوكرانيا، قد تشعل أمريكا نزاعات إقليمية لإضعاف الدول المتمردة. 

لكن الخطر الأكبر على أمريكا هو أن يصبح التمرد على الدولار ظاهرة عالمية، لا مجرد سياسة لعدد قليل من الدول. فحتى الحلفاء التقليديون مثل السعودية بدأوا يتحدثون عن قبول اليوان في صفقات النفط. 

 هل هذه نهاية الهيمنة الأمريكية؟ 

المعركة الحقيقية ليست بين الدولار وعملة أخرى، بل بين نظام عالمي أحادي القطب يقوده الغرب، ونظام متعدد الأقطاب تتصارع فيه القوى الكبرى. 

إذا نجحت أمريكا في قمع التمرد النقدي سنشهد مزيدًا من الهيمنة الأحادية، ولكن مع عداء متزايد من بقية العالم ، أما إذا نجحت روسيا والصين في تعويم الدولار فسوف ندخل عصرًا جديدًا من الفوضى المالية، تتصارع فيه العملات على الزعامة، وتنهار الثوابت الاقتصادية التي حكمت العالم منذ 80 عامًا. 

ترامب قالها بوضوح "من يجرؤ على تحدي الدولار، عليه أن يدفع الثمن". لكن السؤال الأصعب: هل أمريكا نفسها مستعدة لدفع ثمن الحفاظ على هذه الهيمنة؟ لأن التاريخ يعلمنا أن كل إمبراطورية ظنت نفسها خالدة.. سقطت في النهاية.

***

عبد السلام فاروق

مقدمة توضيحية: هذا المقال ليس جديداً، إذ نشرته قبل أربع سنوات وتحديداً يوم 31/12/2021 على مواقع الانترنت، كتعليق على مقابلة تلفزيونية مع الدكتور علي علاوي، وزير المالية الأسبق في حكومة السيد مصطفى الكاظمي (7 أيار 2020 حتى 13 أكتوبر 2022)، وموقفه السلبي من ثورة 14 تموز، وخاصة عن قيام قيادة الثورة بحل مجلس الإعمار، ومنجزات الثورة  الكثيرة في عمرها القصير. وكان مقالي بعنوان (مستقبل العراق المظلم)، وهو، كما يلاحظ الأخوة القراء، وكما اكتشفتُ أنا أيضاً فيما بعد، أنه غير موفق، وفيه نوع من الانفعال والتسرع، إذ كما تفيد الحكمة: (الكتاب أو المقال، يعرف من عنوانه). وهذا العنوان: "مستقبل العراق المظلم" رغم أنه يدل على جزء من محتوى المقال بسبب المشاكل البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تواجه العراق، ولكن ليس على المحتوى الرئيسي. وقبل أيام أردت مراجعة هذا المقال بمناسبة الذكرى 67 لذكرى الثورة، فلم أتذكر العنوان! وأخيراً عثرت عليه، ولكن بعد جهد جهيد وبمساعدة غوغل. لذلك أرى من الضروري أن يكون العنوان يدل على المحتوى، ويساعد على معرفة مكان المقال في الآرشفة الحاسوبية. لذا عدت إليه وراجعته، ووضعت له عنواناً جديداً يساعدني على معرفة مكانه عند الحاجة في المستقبل، وهو المثبت أعلاه. وبمناسبة ذكرى الثورة رأيت من المفيد إعادة نشره لفائدة الجيل الجديد في معرفة التاريخ والحقيقة.

***

العودة للمقال الذي نشر في 31/12/2021

بمناسبة مئوية تأسيس الدولة العراقية، أجرت فضائية (العراقية) شبه الرسمية، مقابلة مع السيد وزير المالية الدكتور علي عبدالأمير علاوي، دامت ساعة و 21 دقيقة، استعرض فيها المراحل المهمة التي مر بها العراق منذ التأسيس عام 1921 و إلى يومنا هذا.(رابط الشريط رقم 1 في الهامش).

ونظراً لأهميتها، نالت تصريحات السيد الوزير اهتمام الإعلاميين والمعلقين السياسيين. فقد أشار إلى المشاكل الكبرى التي تهدد وجود العراق ومستقبله كدولة وسماها بحق (المشاكل الوجودية)، مثل اعتماد العراق شبه الكلي على النفط لنحو 90% من موارده المالية، وخطر الاستغناء عن النفط بعد حوالي عشر سنوات من الآن، حيث هناك توجه عالمي لحماية البيئة من انبعاث ثاني أوكسيد الكاربون، والاحتباس الحراري ومخاطره على البشرية، و الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة البديلة مثل الطاقة الشمسية والرياح والشلالات والأمواج البحرية وغيرها. ولذلك فمصير النفط كمصير سلفه الفحم، سيتحول إلى بضاعة بائرة في باطن الأرض، وبالتأكيد سينهار سعر البرميل إلى أدنى ما يمكن، وهذا يعني إفلاس العراق مالياً.

وجواباً على سؤال مقدم البرنامج، الاعلامي السيد كريم حمادي، حول أفضل مرحلة في تاريخ الدولة العراقية حصل فيها بناء المشاريع الاقتصادية والخدمية، ركز الضيف على السنوات الأخيرة من العهد الملكي، وأشاد بدور مجلس الإعمار، الذي تم حله في عهد ثورة 14 تموز 1958 دون أن يوضح مبررات هذا الحل. كذلك لتبخيس دور قائد المثورة في إنجاز الكثير من المشاريع، قال أن أغلب المشاريع التي انجزها عبدالكريم قاسم، كانت مخططة من قبل مجلس الإعمار إبان العهد الملكي مثل مدينة الثورة (الصدر حالياً) وغيرها، وأن قاسم أخذ الفخر الـ(credit) له أي نسب الفضل لنفسه في تنفيذ هذه المشاريع !

لا أريد أن أناقش كل ما صرح به السيد الوزير، فأغلبها صحيحة، وخاصة مخاطر الاعتماد الكلي على النفط في الموارد المالية، لأن هذا يعني انهيار الدولة العراقية في المستقبل القريب. ولكني أود في هذا المقال أن أوضح بعض الأمور التي مر عليها السيد الوزير دون أن يفيها حقها، وكذلك المخاطر الأخرى التي تهدد وجود العراق كدولة ولم يشر إليها. فهناك الكثير من المخاطر إن لم يتخذ المسؤولون إجراءات وقائية ضدها فمستقبل العراق في مهب الريح، ويكون مظلماً ومرعباً وربما سيكون غير قابل للبقاء كدولة. وقد يرى البعض أن هذه نظرة تشاؤمية، ونقد مبالغ به...الخ، فالجواب أن من واجب المثقف تشخيص مواطن الخطأ، ودق ناقوس الخطر قبل فوات الأوان، وتجنب سياسة النعامة في دفن رأسها بالرمال.

أولاً، مرحلة الإزدهار الاقتصادي:

يشهد التاريخ أن أهم مرحلة تحقق فيها ازدهار اقتصادي هي مرحلة ثورة 14 تموز(1958-1963) بلا أي شك، وذلك لإعتماد قائد الثورة ورئيس الحكومة الزعيم عبد الكريم قاسم على خيرة الكفاءات الوطنية المخلصة، والمتحمسة لخدمة الوطن عملاً بمبدأ: (الشخص المناسب في المكان المناسب)، بدون أي تمييز. ويشهد بذلك باحثون أجانب مثل حنا بطاطو الذي قال: "ومما له مغزى أن أصحاب المصانع لم يعرفوا ازدهاراً كالذي عرفوه في عهد عبد الكريم قاسم (1958-1963)، الذي كانت سياساته الاقتصادية والمالية موحى بها - إلى درجة غير قليلة- من الوطنيين الديمقراطيين [يقصد الحزب الوطني الديمقراطي]، وبدقة أكبر، من محمد حديد الذي كان له في تلك السنوات نفوذه في الحكومة حتى عندما كان خارجها" (حنا بطاطو، تاريخ العراق، ج1، ص346). وللمزيد للإطلاع على منجزات ثورة 14 تموز 1958، في التنمية الاقتصادية، - الإنتاجية والخدمية-، والتنمية البشرية في عمرها القصير، يرجى فتح الرابطين 2 و3 في الهامش.

ثانياً، مَنْ خطط لهذه المشاريع ولمن الفضل في تنفيذها:

بعد أكثر من نصف قرن على الثورة، وللانتقاص من دور حكومتها، وزعيمها في تحقيق أكبر ما يمكن من منجزات للشعب العراقي من مشاريع وقوانين تقدمية مثل (قانون الأحوال الشخصية رقم 181 لعام 1959) الذي أنصف المرأة، وقانون الإصلاح الزراعي، وقانون إلغاء حكم العشائر، و(قانون رقم 80  لسنة 1961) الذي استرجع بموجبه 99.5% من مساحة العراق من الشركات النفطية، وغيرها كثير... قالوا أن جميع هذه المشاريع والقوانين كان قد خطط لها في العهد الملكي، مثل بناء ميناء أم قصر، ومد الخط العريض بين بغداد والبصرة، وبناء مدينة الثورة، ومدينة الطب، ومعمل الأدوية في سامراء، والزجاج في الرمادي، وتعليب الفواكه في كربلاء، ومضاعفة عدد المدارس والطلبة والمعلمين والمئات غيرها، أقول ولو افترضنا جدلاً أن جميع هذه المشاريع والقوانين قد خطط لها في العهد الملكي، فما قيمة هذه المخططات التي كانت حبراً على ورق، وحبيسة الأدراج لسنين طويلة في العهد الملكي، إلى أن جاء عبدالكريم قاسم، وحولها إلى مشاريع حقيقية قائمة على أرض الواقع، وبتلك الإمكانيات المالية المحدودة في ذلك الوقت العصيب حيث المؤامرات الداخلية والخارجية لوأد الثورة؟ هذه المشاريع ستبقى نصباً تاريخية شامخة على مر السنين تذكر بوطنية وإخلاص الزعيم عبدالكريم قاسم وثورة 14 تموز المجيدة.

فالعبرة ليست بالتخطيط، ومن الذي خطط فحسب، بل بالتنفيذ ومن نفذ. فبعد 2003 هناك المئات من المشاريع التي خُطط لها، وحتى دُفِع الكثير من تكاليفها بالعملة الصعبة لجهات أغلبها وهمية، ولكن لم يتم تنفيذها، بل سُرقت تلك الأموال الهائلة وبقيت المشاريع بلا تنفيذ. كذلك هناك الألوف من المعامل المعطلة مثل معمل الورق في البصرة، وغيره، ترفض حكومات ما بعد 2003 إعادة تأهيلها بضغوط من أتباع دول الجوار مثل إيران وتركيا، لإنعاش اقتصاديات هاتين الدولتين، إضافة إلى ما يحصل عليه التجار من أرباح فاحشة، وإبقاء العراق بلداً مستهلكاً يستورد حتى الغاز من إيران ويترك غازه الطبيعي يُحرق في الجو ويدمر البيئة العراقية.

ثالثاً: حل مجلس الإعمار:

هذا المجلس تأسس بناءً على اقتراح المرحوم عبدالكريم الأزري، الوزير المخضرم في العهد الملكي، كما أشار الدكتور علي علاوي، وكما جاء في مذكرات الأزري. وفعلاً قام المجلس ببناء السدود مثل سد سامراء لحماية بغداد من الغرق ولأغراض زراعية أيضاً. وبالمناسبة، هذه السدود وغيرها من المشاريع الإروائية الكبيرة لم تكن من تخطيط مجلس الإعمار، بل كانت من تخطيط خبير الري البريطاني المعروف (ويليم ويلكوس)، في أواخر العهد العثماني كما درَّوسنا في مرحلة تعليمنا الابتدائي عن هذه المشاريع المنجزة وغير المنجزة.

لماذا تم حل مجلس الإعمار؟؟؟

والآن نأتي إلى بيت القصد! لماذا تم حل مجلس الإعمار بعد ثورة 14 تموز في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم؟، علينا أن نرجع إلى الشخصية الوطنية الفذة، والخبير الاقتصادي الراحل محمد حديد الذي تبوأ منصب وزارة المالية في حكومة الثورة. وهو بالمناسبة، أول عراقي خريج جامعة لندن للاقتصاد (London School of Economics)، والذي شهد بحقه الباحث حنا بطاطو كما أشرنا أعلاه.

يقول الراحل محمد حديد في مذكراته عن أسباب حل مجلس الإعمار ما يلي:

(حول تخصيص 70% من واردات النفط لوزارة الإعمار و 30% فقط للشؤون الأخرى، المشاريع الاجتماعية والخدمات مثل الصحة والتعليم ...الخ: أن حكومة الثورة غيرت المعادلة فجعلتها 50% للإعمار، و50% للميزانية الاعتيادية لسببين:  أولاً، إن هذه المشاريع الاجتماعية لا تقل شأناً ومركزاً في الأسبقية عن المشاريع الاقتصادية العمرانية، ذلك أن التعليم والصحة والشؤون الاجتماعية المعنية بالإنسان، ربما تكون أكثر تحقيقاً لمصلحته من المشاريع العمرانية الاقتصادية، أي أن الاستثمار في الإنسان لا يقل أهمية عن الاستثمار المادي في المشروعات الاقتصادية مع الاعتراف بأهميتها بالنسبة للتنمية الاقتصادية. والسبب الثاني هو أن الـ 70 في المائة من واردات النفط، التي كانت تخصص للخطة الاقتصادية كانت لا تنفق جميعها بسبب عجز الجهاز الفني والإداري عن تنفيذ الخطة الاقتصادية، وتبقى مبالغ كبيرة منها مجمدة في الميزانية، وتنعكس في أرصدة نقدية إما في حسابات البنك المركزي، وإما الأرصدة الإسترلينية المودعة في بريطانيا وغيرها من الأقطار الأوربية. ولذلك كان من غير المعقول لأن يبقى المجتمع محروماً من الخدمات التي يحتاج إليها، في الوقت الذي تبقى واردات الدولة معطلة في حسابات مجمدة.)) (محمد حديد، مذكراتي، الساقي، ط1، 2006، ص339).

وكما ذكرنا آنفاً أن حكومة الثورة قد حققت منجزات في مختلف المجالات من مشاريع اقتصادية وتنمية بشرية في اربع سنوات ونصف السنة وبدون مجلس الإعمار، حققت ضعف ما حققه العهد الملكي خلال 38 سنة. فإعمار البلاد لا يعتمد على وجود أو عدم وجود مجلس الإعمار، بل بتوافر النزاهة و الاخلاص الوطني، والضمير والشرف لدى القيادات السياسية المتنفذة في الحكومة. علماً بأن حكومة الثورة " أسست وزارة التخطيط في العراق عام 1959 تم استحداثها بعد إلغاء وزارة الاعمار. أول وزير للوزارة كان الدكتور طلعت الشيباني." (ويكيبيديا). فوزارة التخطيط يا سادة يا كرام، لا تقل أهمية عن مجلس الإعمار، إن لا تفوقه، كما هو السائد في معظم دول العالم المتقدم والمتخلف!

رابعاً، قانون الإصلاح الزراعي وهجرة الفلاحين إلى المدن

وعن هجرة الناس من الريف إلى المدن وخاصة بغداد، (سكان خلف السدة والشاكرية...الخ)، حاول السيد الوزير أن يلقي اللوم على قانون الإصلاح الزراعي، ولكن بعد قليل تراجع واعترف أن الهجرات بدأت في أوائل الخمسينات، أي في العهد الملكي، وقبل الثورة بسنوات. وهنا أود أن أشير إلى أن سبب الهجرة ليس قانون الإصلاح الزراعي، بل ظلم الاقطاعيين، وقانون حكم العشائر الذي سنه الإنكليز بعد احتلالهم للعراق، حيث وزعوا عليهم الأراضي الزراعية الأميرية كرشوة لكسب شيوخ العشائر، وتحويلهم من شيوخ ووجهاء لرعاية أبناء عشائرهم إلى إقطاعيين ظالمين لهم، وحولوا أبناء عشائرهم إلى أقنان وعبيد يباعون مع الأرض، يعانون من الجوع والجهل والمرض. وهذا كان سبب الهجرة، وليس قانون الإصلاح الزراعي. وهذه الظاهرة لم ينفرد بها العراق، بل كانت ومازالت متفشية في معظم بلدان العالم الثالث، خاصة في مصر قبل ثورة 23 يوليو 1952.

المخاطر التي تهدد مستقبل العراق

1- الاعتماد الكلي على النفط المعرض للزوال بعد عقد أو عقدين من الزمن، وعدم الاعتماد عليه في إنتاج الطاقة والموارد المالية.

2- شح المياه: جميع منابع مياه الرافدين وشط العرب هي في تركيا وإيران، وهاتان الدولتان مستمرتان في بناء السدود وحجز المياه عن العراق وهلاكه عطشاً، ولذلك فبعد عقد أو عقدين ستجف الأنهر العراقية. أما شط العرب، وأنهر البصرة فقد تحولت بعد 2003 إلى مستودعات لمياه الصرف الصحي، التي تسبب في تفشي الأمراض.

3- اتساع التصحر، وهو نتيجة لشح المياه،

4-الانفجار السكاني، كان تعداد نفوس العراق عام 1920 نحو 1.4 مليون نسمة، وبعد مائة سنة قفز العدد إلى 40 مليون، أي حوالي 28 ضعفاً. إذ تفيد الدراسات أن هناك زيادة في السكان بنحو مليون نسمة في السنة في مستواه الحالي. وهذا يعني أن العراق يواجه مشكلة الزيادة في السكان، ونقص في موارد المعيشة وغيرها من الموارد الضرورية لإدامة الحياة.

5- الصراع الطائفي والأثني بين مكونات الشعب العراقي، وتغلب نزعة الولاء للانتماءات الثانوية (الدينية، الطائفية، الأثنية، والمناطقية)، على الولاء الوطني العراقي، بل وضعف الشعور بالانتماء لهذا الوطن، وعدم حرص المواطن على ممتلكات الدولة، بل ويسعى إلى تخريبها عمداً. وهناك معلومات كثيرة في هذا الشأن لا مجال لذكرها.

6- تفتت النسيج الاجتماعي، وعودة البداوة، والقبلية والعشائرية وما يرتبط بها من تخلف، وصراعات وحروب داخلية فيما بين العشائر، كلها بدأت في عهد حكم البعث الصدامي الساقط،

7- تفشي وباء الإسلام السياسي ومليشياتهم المنفلتة، وعدم اعتماد السياسيين الإسلامويين على العلوم والتكنولوجيا وفن الممكن في حل المشاكل، بل الاعتماد على الغيبيات والدعاء بالنصر من عنده تعالى، وشيطنة المعارضين لهم لتصفيتهم بشتى الوسائل،

8- انهيار التعليم في جميع مراحله، وتفشي البطالة، والفقر، والاعتماد الكلي على الدولة في التعيينات،

9- تفشي الفساد الإداري والرشوة في جميع مفاصل الدولة، فالمواطن العراقي الذي يراجع دوائر الدولة لأي سبب، لا تُحل مشكلته ما لم يدفع رشوة للموظف،

10- عدم التزام المواطنين بالقوانين وواجباتهم إزاء الدولة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، وكما ذكر السيد الوزير، لم يدفع أغلب المواطنين فواتير الكهرباء، وأن هناك 13 تريلون دينار بذمة المواطنين لوزارة الكهرباء، أي ما يعادل 10 مليار دولار. وهذا يعتبر سرقة للمال العام لم يحصل في أي بلد في العالم غير العراق.

11- محاولات دول الجوار، وخاصة إيران وتركيا لإضعاف العراق وإنهاكه وتدميره. إذ تحاول تركيا احتلال نحو 100 ألف كم مربع من شمال العراق بحجة أن هذه كانت أراضي عثمانية، والآن لتركيا قوات عسكرية في بعشيقة بدعوى محاربة حزب العمال الكردي (PKK).(شاهد فيديو في الهامش رقم 4). ولهذه الدول مثل إيران أنصار على شكل أحزاب سياسية متنفذة، ومليشيات مسلحة في العراق، تأتمر بأمر الولي الفقيه الإيراني على حساب وطنهم وشعبهم، لأن الإسلام السياسي لا يعترف بالوطن ولا بالوطنية.

ولا شك أن هناك مشاكل كثيرة أخرى، ولكن نكتفي بهذا القدر.

ما العمل؟ مقترحات لتحويل العراق إلى دولة صناعية، وزراعية وسياحية

لذلك، وإزاء هذه المشاكل المتراكمة وتصاعدها نحو الأسوأ، ولا شك أن كل منها يكفي لقصم ظهر البعير كما يقول الأعراب، فهل يمكن لهذا العراق أن يعيش كدولة عصرية متحضرة بحدوده الجغرافية الحالية، تتكيف مع ما يتطلبه العصر الحديث؟

أنا أشك في ذلك، وأعتقد أن هذا شبه مستحيل، ولذلك فمستقبل العراق مظلم ومرعب، ومعرض للإنهيار ما لم يعي المسؤولون في الدولة حجم المشكلة، ويتخذوا التدابير اللازمة لدرأ الكارثة، وهذا ممكن فقط لو توافرت النوايا الصادقة، والنزاهة والشرف والاخلاص للوطن، يعني شخصيات وطنية مثل الزعيم عبدالكريم قاسم وأعضاء حكومته النجباء (حكومة ثورة 14 تموز)، وحقاً ما قاله الشاعر:

سَيَـذْكُـرُني قـومي إذا جَـدَّ جِـدُّهُـمْ.... وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر.

السؤال هنا: هل يمكن منع كارثة انهيار الدولة العراقية عند الاستغناء عن النفط وغيره من المشاكل؟

الجواب: نعم ممكن إذا حاول المخلصون تلافي الكارثة بصدق ونزاهة، وهناك اقتراحات وحلول كثيرة طرحها العديد من الزملاء الأفاضل في مقالاتهم، ومناقشاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولكن كما يقول المثل الإنكليزي: (القول اسهل من الفعل Easier said than done).

فحكومات الدول المصدرة للنفط كانت تعلم بنضوب النفط والغاز يوماً، ولكن اليوم ظهر سبب آخر، وهو ترك النفط والغاز كمصدر من مصادر الطاقة وذلك للحفاظ على سلامة البيئة من التقلبات المناخية، وظهور البدائل النظيفة المتجددة للطاقة.

وقد اهتمت حكومات الدول الخليجية منذ بداية نهضتها الاقتصادية في منتصف القرن الماضي، بإيجاد البدائل عن النفط والغاز كمصدر للموارد المالية، والحفاظ على حصة الأجيال القادمة من هذه الثروة الناضبة، وذلك بتخصيص نسبة معينة من الموارد النفطية في الاستثمار في مختلف المجالات الاقتصادية وفي مختلف دول العالم. وقد نجحت الدول الخليجية أيما نجاح في هذا المضمار، بحيث صارت الموارد المالية من هذه الاستثمارات تعادل الموارد النفطية وربما تفوقها في المستقبل. لذلك فعندما يصبح النفط ثروة بائرة، يكون لدى هذه الدول البديل الدائم، ويتحملون الصدمة، وكأن شيئاً لم يكن.

أما في حالتنا العراقية، فأفضل فرصة ذهبية توفرت للاستثمار في المشاريع غير النفطية، ودعم القطاعات الاقتصادية الإنتاجية في الصناعة والزراعة والثروة الحيوانية والقطاعات الخدمية، والسياحية، توفرت في عهد حكم البعث، حيث بلغت الواردات النفطية أرقاماً فلكية للدولة، ففي عام 1979 كان رصيد الدولة نحو أربعين مليار دولار. وهذا مبلغ ضخم في ذلك الوقت، كان بإمكان حكومة البعث أن تحذو حذو الدول الخليجية في الصناعة والزراعة والتنمية البشرية وغيرها، ولكن بدلاً من ذلك، راحت الحكومة، وخاصة في فترة رئاسة صدام حسين، بتبديد هذه الثروة واستدان عليها نحو 120 مليار دولار، وصرفها على عسكرة المجتمع، وشراء ذمم الاعلاميين في العالم لتجميل وجه الدكتاتور، وحكاية كوبونات النفط باتت معروفة للجميع، وتم تبديد هذه الثروات على شن الحروب العبثية على إيران ومن ثم احتلال الكويت...و(حرب تلد حرباً أخرى) إلى آخره من قائمة كوارث الدمار الشامل. وكما أشار الوزير علاوي، أن الحروب الصدامية العبثية كلفت العراق نحو 400 مليار دولار.

ثم جاءت مرحلة ما بعد 2003، وخلال الـ 18 سنة الماضية فشلت الحكومات المتعاقبة في التخلص من تركة البعث، بل زادوا عليها بالفساد، والأنانية، وسرقة أموال الشعب، وفقدان الشعور بالوطنية والمسؤولية، إلى أن وصلنا إلى هذا الوضع المأساوي المزري، وضع اللادولة، والدولة الرديفة، والدولة الفاشلة وغيرها من المسميات..

لست خبيراً بالاقتصاد، ولكن اعتماداً على الحس العام (commonsense)، فمن واجب الدولة القيام بتشكيل لجان من الخبراء الوطنيين النظيفين في مختلف المجالات، وبالأخص الاقتصاديين والصناعيين والماليين، والمفكرين وغيرهم، وما أكثرهم، والحمد لله، لدراسة الأزمة، وإيجاد الحلول الواقعية لها، ولكن حسب تقديراتي كمواطن متابع للقضية العراقية ومهتم بها، أطرح النقاط أدناه قابلة للتعديل والإضافات. فلو توفرت النوايا الصادقة، والنزاهة والاخلاص للشعب والوطن، لأمكن إخراج العراق من مأزقه وأزمته المالية وغيرها وذلك كالتالي:

1- من الممكن الإسراع في الاستثمار الاقتصادي بمختلف مجالاته بما هو متوفر من الواردات النفطية، وحذو الدول النفطية وغير النفطية في هذا المجال.

2- التخلص من المحاصصة الطائفية في مؤسسات الدولة، واعتماد مبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب،

3- مواجهة الانقسامات المجتمعية بحملة تثقيفية مكثفة، ومستدامة، ومنع أي تمييز: ديني، أو طائفي، أو أثني أو مناطقي..الخ

4- منع ذكر الانتماء الديني والطائفي والأثني في بطاقة الهوية الوطنية العراقية،

5- حل المليشيات المسلحة السائبة وحصر السلاح بيد الدولة فقط،

6- حملة تأهيل جميع المعامل المتوقفة عن العمل، إذ هناك آلاف المعامل الصغيرة المتوقفة عن العمل، يجب الاسراع في تأهيلها، لتوفير العمل لملايين العاطلين، فهناك عشرات الجامعات والمعاهد، وألوف المدارس الاعدادية وغيرها تخرج سنوياً مئات الألوف من الخريجين الشباب يبحثون عن عمل،

7- تشجيع القطاع الخاص، إذ لا يمكن للدولة وحدها أن تكون هي المصدر الوحيد لإيجاد العمل للعاطلين، أما التعيينات بدون عمل فهي بطالة مقنعة تؤدي إلى تضخم جهاز الدولة، وترهله، والكسل والخمول في أداء الواجب،

8- تشجيع الأفراد على المبادرات الشخصية، في خلق أعمال حرة لهم مع مساعدة الدولة لهم مادياً في أول الأمر.

9- تشجيع الاستثمارات الخارجية في جميع المجالات في العراق،

10- الاستثمار في إنتاج الطاقة من المصادر البديلة المتجددة مثل الطاقة الشمسية حيث تتوفر أشعة الشمس في العراق في جميع فصول السنة. وفي هذا الخصوص يجب إقامة علاقات اقتصادية مع الصين الشعبية المعروفة بقدرتها في صناعة الألواح الشمسية ونصبها، وذلك بفتح معامل لصنع الألواح الشمسية في العراق، وتشجيع شركات أهليه عراقية، وتدريب العراقيين في هذه الصناعة، وحث الناس على استخدام هذه الطاقة النظيفة والمجانية عدا تكاليف نصب الألواح على سطوح بيوتهم، كذلك قيام الحكومة بتجهيز جميع أبنيتها بالطاقة الشمسية. فهناك دول تخطط للاستفادة من صحاريها لإنتاج الطاقة الكهربائية الشمسية وتصديرها إلى دول أخرى.

11- في قطاع السياحة: العراق بحكم موقعه الجغرافي، وتاريخه العميق والعريق، وكونه مهد الحضارة البشرية، وغزارة الآثار التاريخية، والمواقع الدينية، مؤهل ليكون أفضل دولة سياحية لمختلف أنواع السياحة، الترفهية، والثقافية، والدينية لأتباع مختلف الديانات والمذاهب. إضافة إلى إمكانية تحويل منطقة الأهوار، وشط العرب إلى مشتى والرياضة المائية.

12- الاهتمام بالصناعات البتروكيماوية، وتطويرها بحيث توفر مواداً تستخدم في الصناعات المختلفة،

فطالما عندنا النفط كمادة أولية يمكن التقدم في هذا المجال، وكذلك صناعة الأسمدة الكيمياوية،

13- تقليص العطل بشكل عام، فهناك من يستغل المناسبات الدينية، وأغلبها ليست عطل رسمية، ولكن هؤلاء البعض يستغلونها للتهرب من العمل. وإذا ما أضفنا إليها يومين في كل أسبوع، إضافة إلى العطل الرسمية، فالوقت المهدور بالعطل يساوي ما يقارب نصف سنة تكون دوائر الدولة والمؤسسات الاقتصادية والتعليمية وغيرها معطلة. وهذا لا يوجد إلا في العراق.

14- الاهتمام بالثروة الزراعية والحيوانية، وبالأخص زراعة النخيل، إذ كما جاء في الحديث: "أكرموا عمتكم النخلة". فقبل الحروب الصدامية العبثية كان العراق أكبر بلد مصدِّر للتمور، حيث كان فيه نحو 40 مليون نخلة، وعند سقوط الصنم الصدامي كان في العراق نحو 8 ملايين نخلة فقط. كذلك يجب تشجيع إنشاء أحواض لتربية الأسماك، والاهتمام بتكاثرها في الأنهر والبحيرات، وسن قوانين تمنع استخدام السموم والمتفجرات لصيد الأسماك بالطرق الهمجية التي تؤدي إلى نفوق أعداد كبيرة من الأحياء المائية، وهذه جريمة لا تغتفر،

15- الإهتمام بقطاع النقل: يتميز العراق بموقعه الجغرافي فهو الطريق الرابط بين آسيا وأوربا، وعليه يجب التركيز على شبكة النقل بمختلف أنواعه، الجوي والبري والبحري، وهذا يحتم الاهتمام بالنقطة الأخيرة وهي:

16- الإسراع في بناء مشروع ميناء الفاو الكبير، وبذلك يمكن تحويل الفاو إلى أكبر مصدر يدر على العراق في الموارد المالية، كما هونكونغ ودبي وغيرهما من الموانئ. ولذلك تحاول دول الجوار قتل هذا المشروع لكي لا ينافس موانئها.

لا شك أن هناك وسائل أخرى كثيرة يمكن أن تساهم كبديل عن النفط في تمويل الموازنة العراقية وحل الأزمة المالية ودرأ خطر انهيار الدولة العراقية بعد النفط.

وكل عام وأنتم وعراقنا الحبيب والعالم بألف خير

***

د. عبد الخالق حسين

...........................

روابط ذات علاقة

1- تغطية خاصة مع كريم حمادي | الضيف: علي علاوي .. وزير المالية | العراق والدولة.. مئة عام من التقلبات

https://www.youtube.com/watch?v=McTBsH8HfY4

2- عبد الخالق حسين: منجزات ثورة 14 تموز 1958

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=605277

3- منجزات الزعيم عبدالكريم قاسم خلال فترة حكمه

http://www.akhbaar.org/home/2018/7/246337.html

4- فيديو قصير: متحدث عراقي يؤكد أن تركيا تتأهب للسيطرة على أراض عراقية غالية وضمها لها وتبلغ مساحتها 100 ألف كم بحجة أنها كانت يوما تابعة لها

https://www.facebook.com/abdulkhaliq.hussein.1

5- د. حميد الكفائي: استعادة الدولة أولى من الاحتفال بذكراها المئوية

https://akhbaar.org/home/2021/12/289956.html

5- أ. د. عادل شريف: العراق في مئويته الأولى، سياسات مستوردة وانقسام مجتمعي

https://almasalah.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=220434

 

القلم: من فضلك يا صديقي أعد عليا حديثك عن العولمة التي حلم بها الرواقيون والفيلسوف الفرنسي (هنري دو سان سيمون) (1825:1760) الذي كان ينشد نشر السلام والمحبّة وإزالة كل الموانع التي تفصل بين الشعوب؛ فيصبح المجتمع كله كوكب متعاون لخدمة البيئة والبشرية.

الكاتب: عفوًا يا رفيقي إنك تخلط بين ذلك الحلم الذي تصوره الفلاسفة والواقع الذي أرست قواعده الديانات السماوية التي نبذت العنصرية والعصبيات العرقية والفروق الجنسية وجعلت معيار التفاضل بين الشعوب والأمم هو التراحم والتعاون من أجل خير البشريّة.

أمّا العولمة التي تروج لها القوة الاستعمارية فهي تقدم النفعية على دونها من القيم الروحية وهي متعارضة بطبيعة الحال مع القول بعالمية الإسلام تلك التي تعبر ثوابتها عن الشريعة الربانية والمقاصد الشرعية التي تتفق مع الفطرة الإنسانية لذا أعيد حديثي ثانيةً الذي لم أكمله، حيث غابت عن مداركك الخديعة التي صبغها الغرب بصبغة مثالية. فالعولمة الغربية الصهيوأمريكية: خدعة وهمية يصعب تحقيقها في زمن العقول الغبية وبين الدول غير المنتجة التي اكتفت بتجارة الموارد الطبيعية.

ورغم ذلك نجد البرجماتيين النفعيين يروّجون لها باسم الوحدة الإنسانية في الثقافات الآسيوية والأفريقية، وبين الأقطار العربية وغرضهم هو تفكيك القوميات والعصبيات وأصحاب الديانات حتى لا تهدد مصالح السادة الذين يخططون في الوقت نفسه لتفريقهم وإعادة تقسيمهم لفرق ومذاهب وطوائف يتعذر تآلفها واجتماعها. أمّا تشكيل الاتحادات وعقد الاتفاقيات والتناغم في الآراء والتكامل في المصالح، وتوقيع التحالفات فلا يصلح في نظرهم إلا للأكابر المنتجين أصحاب الثروات والمخترعات وقادة العالم الراشدين.

وأضاف كُتاب قاموس العالم الجديد: إنّ هذه المعاني والدلالات منبثقة من نظرية التداولية، وأنهم صاغوها بدقة واحترافية لحماية مصالحهم وثقافتهم التي لا تدين للولاء إلا للنفعية، - كما قلت - بعيدًا عن المُثل العقلية والقيم الروحيّة والأخلاق الدينية. لذا أضحى لزامًا عليّ مناشدة القراء لغربلة الوافد من المصطلحات والنظريات والمعارف والشائعات والمواقع والقنوات والتطبيقات الالكترونيّة وما تقدمه من معلومات، لفضح الأكاذيب وكشف المكائد والمخططات التي دُست بين النصائح والشعارات، وحسبي أن أفسّر لك وأوضح لقرائنا طبيعة الفلسفة المعاصرة التي انطلقت منها الحروب الدائرة.

فنظرية التداولية - في طورها الثاني - أضحت مستغرقة في الضبابية، وذلك لأنها لم تقف عند الألفاظ والإحالات والدلالات الأسلوبية، بل اجتازت ذلك كله لتنفذ إلى الأفكار والمشاعر والأحاسيس والضمائر، لتبدل ثوابتها وتفككها من روابطها، وجعلت الأكاذيب والمغالطات المنطقية من أوائل أسلحتها الخفية، المدعومة بالدعاية والإعلانات الموجهة بأساليب علمية وتقنيات تكنولوجيّة ذلك فضلًا عن تأسيسها جمعيات دولية وعقدها دورات تدريبية لصناعة المشاهير في كل المجالات لغرس القيم والأخبار، في بنية ثقافات الأمم الساذجة، بداية من الأطفال والحرفيين والعمال والطلاب والساسة وانتهاء بالشيوخ والقساوسة والأحبار.

أمّا السلاح الثاني؛ الذي أود أن أحدثك عنه حتى لا تنخدع فيه وتستند إليه في معارفك ومعتقداتك، وفي دراساتك للتاريخ الذي زوروه، فهو يختص ببنية الخطاب الشيطاني، الذي صبغوه بالمسحة العلمية والتصورات الأسطورية، وبالتقنيات التكنولوجية سبكوه. فقد أضافوا لفلسفة حروبهم مبحثين بل قل كارثتين: أولهما مبحث ميتافيزيقا العلوم الأسطورية الذي يهتم بتحديث الأساطير الكلاسيكية في ثوب بريق أخاذ يفوق التصورات الخيالية، اعتمادًا على ما أطلقوا عليه: الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المبهرة، فتتحدث عن العفاريت والجن في نظرية البوابات الأرضية والكائنات الرمادية والروبوتات المحاكية للصورة البشرية، وعالم يأجوج ومأجوج، وهاروت وماروت، والمدن المسحورة، وعجلة التاريخ، والكائنات المخفية غير المرئية، والمهدي الذي آن أوانه، والمسيح والشيطان والإنجيل المفقود، ونسخ القرآن، وسكان الكواكب الفضائية وظهور بعضهم في الواقع بصورة بشريّة. كما أعادوا طبع كتب السحر والاتصال بالكائنات الغيبية مثل كتاب (العزيف) وقاموس (الشيطان) وكتاب (شمس المعارف) وكتاب (مخطوطة نيكروميكون)، ودفعوا معظم مواقع التواصل للحديث عن الأماكن المهجورة التي يخشاها البشر هربًا من قبائل الجن الذين سكنوها، وأحاطوا العرافين والمتنبئين المعاصرين بهالات من التبجيل باعتبارهم علماء العصر وأرباب الكرامات التي تصدق تنبؤاتهم وعلى الجدران محفورة، وذلك كله بالإضافة إلى ابتداع ديانات عبثية وفوضوية جديدة وإحياء الهرطقات القديمة، وادعاء أن مكتبة الفاتيكان تحوي عشرات الكتب والمقدسات المحظورة، التي ينبغي إعادة نشرها للوقوف على حقائقها الملية التي ما زال المتدينون يعانون من تحريفها وضياع أصولها.

وثانيهما: مبحث كيمياء الفكر: الذي يسبك الواقع بالخيال ويخلط الحق بالباطل والعلم بالخرافة بنسب ومقادير أقرب للمعادلات الكيميائية لكي يتمكن هذا النهج من خداع الذهن وإرباك أحكامه العقلية والمشاعر النفسية والقضاء على البصيرة الروحية. ذلك المبحث الذي يقوده كبار المتخصصين في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللغات الكلاسيكية، والآثار والتاريخ والتمثيل والموسيقى والإخراج السينمائي والديانات والملاحم الأسطورية  بالإضافة إلى المتخصصين في تكنولوجيا الصور وتزوير المخطوطات وتزييف الوثائق وخبراء في الحروب السيبرانية لتدمير البرامج الإلكترونية؛ وذلك كله لحبك الأكاذيب وتدعيم الشائعات بحجج تلفيقية تؤيد المحتوى الذي يروجون له في الثقافة العالمية.

ولا ننسى يا صديقي أن دستور هذه السفسطة الشيطانية محمول على قاعدتين أولهما: أن قوة الأكاذيب ليست في براعة حبكتها بل في انتشار مزاعمها، وذيوع أخبارها، لكي تصبح شائعة تلوكها الألسن وتعتادها المسامع فتحسبها الأذهان واقعات من فرط تكرارها حتى تُمسي حقيقة ومرجعية تساندها ادعاءات لها مسحة علمية وتصورات ميتافيزيقية وأصول تاريخية.

أما القاعدة الثانية: فتتمثل في احتكار المقومات المهيمنة على الحروب العصرية وآلياتها من المعارف العلمية وتطبيقاتها وتصنيعها، وقدرتها على الاستئثار بها وقنوات التحكم في الاتصال والإعلان والإعلام ذلك فضلًا عن أخذ الحيطة والتدابير لإخفاء المحركات الفاعلة والعقول المخططة والمصادر الداعمة وأخيرًا : التلويح بالقوة العسكرية التقليدية لردع المخالفين وتصفية المنشقين ومحاصرة المعترضين.

أمّا الحديث عن النوادي الماسونية والجمعيات والمؤسسات التابعة لها والتطبيقات الإلكترونية التي تدار تحت إشرافها، والمواقع الإجرامية التي تحميها، مثل: (الدارك ويب)، والمخدرات الرقمية (i-doser)، والأفلام الإباحيّة وعوالم المتعة التي تروج لها، والمثلية الجنسية التي تدافع عنها، ناهيك عن حفلات الشواذ والملحدين، وغير ذلك من نهوج الشياطين؛ فجميعها تدرج ضمن الحروب الموجهة ضد الإنسانية العاجزة عن المشاركة في الأحداث الجارية أو دفع الأخطار والشرور القاسية تلك التي لم يبق منها سوى اليأس والانهزامية، وانتظار الموت على يد جبابرة العنف والنفعية والشيفونية.

القلم: أيها الكاتب، هذه نهاية مأساويّة لا تليق بمثلك، وأنت من دعاة المقاومة ومساندة النفوس الأبية التي لا ينقصها سوى الوعي والعلم والعمل الجاد وإخلاص النية، فالتنقيب عن النفيس المنشود، وتحسس مكمن العزيز المفقود، والتجسس على الغامض والقابع وراء الأبواب والسدود، وتبين حقيقة الخبر الشائع والمشهود. وذلك لصد هذه الهجمة الشرسة ليستحق لنا العيش في هذا الوجود ونعيد الحق لأهله ويتحقق وعد الله الوارد في الكتاب المعبود.

واعلم أن هذه الحكمة ليست غربية ولا محاكية لتعاليم أجنبية؛ فقد قالها الثعالبي ورفاقه من عباقرة فقه اللغة العربية.

وبهذه الإشارات تمت المقامة؛ فالاستفاضة في الحديث عن الحروب العصرية ليس متاحًا لأن الكاتب ينقب عن المجهول والاجتهاد والتخمين في هذا الموضوع ليس مباحًا.

***

بقلم: د. عصمت نصار

كانت ردود الأفعال الغربية، لا سيما البريطانية والأمريكية على ثورة 14 تموز 1958 في العراق صادمة أصابت صانعو القرار الغربي بـالذهول فور إعلان نجاح الثورة ومقتل بعض أفراد العائلة المالكة، لأنه لم تكن لديهم معلومات استخباراتية كافية تتنبأ بحدوث انقلاب بهذا الحجم، حيث وصفت الحدث بأنه "زلزال". تلقت العواصم الغربية هذا التحول المفاجئ بانزعاج كبير جعلها تعيد صياغة حساباتها في الشرق الأوسط، لأن حِراك تموز شكل نقطة تحول فارقة من صدمة فقدان النفوذ، سواء من الناحية السياسية أو الإعلامية أو الاستراتيجية.

لم تكن ثورة 14 تموز، من المنظور الغربي، مجرد انقلاب عسكري داخلي، بل زلزال جيوسياسي هدد مصالحهم في المنطقة، لا سيما في ظل أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة في تلك الفترة. فوجئ الغرب بسرعة وسهولة الإطاحة بالنظام الملكي، الذي كان حليفاً استراتيجياً ضمن "حلف بغداد". أسهمت الثورة المقرونة بالحِراك الشعبي في تقويض الحلف الغربي بالمنطقة بحيث أعاد رسم خريطة تحالفاته في الشرق الأوسط، بفعل الخوف الحقيقي لديهم من تمدد النفوذ السوفيتي واحتمالية انجراف العراق نحو المعسكر الشرقي.

كانت الرؤية البريطانية للنظام الملكي العراقي بأنه أحد أبرز أذرع نفوذها في الشرق الأوسط، من بوابة حلف بغداد الذي كان جزءاً من استراتيجيتها لاحتواء دول المعسكر الاشتراكي. شعرت بريطانيا بخيبة كبيرة بفقدان نفوذها بخسارة أحد أعمدة "حلف بغداد"، ولذلك حاولت التأثير لاحقاً عبر قنوات غير مباشرة بمراقبة النظام الجمهوري الجديد بحذر، ولم تندفع إلى مواجهة مباشرة خشية الانجرار إلى صراعات مفتوحة.

وبحكم معرفة الغرب بدول المنطقة، أدركوا بأن القوة الناعمة لوحدها لم تعد كافية لإعادة الهيمنة على العراق، مما دفعهم إلى تنويع أساليب وأدوات التدخل من خلال الدعم الاستخباراتي والتعاون مع بعض الانظمة الإقليمية الموالية. فعملت على دعم هذا التوجه الذي دعاها إلى التمسك بإعادة تقييم البعد الاستراتيجي بحلفائها في المنطقة خشية أن تنتقل العدوى الثورية إليهم.

وبعد أن وصفت الوثائق البريطانية الأحداث بأنها "كارثة دبلوماسية"، رأى الغرب في ثورة 14 تموز لحظة خطيرة، ليس لأنها أطاحت بنظام حليف، بل لأنها فتحت الباب أمام مرحلة من القومية العربية والتقلبات السياسية التي لم تكن منسجمة مع المصالح الغربية. ومع مرور الوقت، انتقل الغرب من الصدمة إلى محاولة التأقلم مع النظام الجديد ومحاولة فهم طبيعة التحولات في العراق والمنطقة.1678 newspaper

وباستكشاف وثائق أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، ووزارة الخارجية البريطانية، بالإضافة إلى ما كشفته (CIA،MI6) عبر وثائق منشورة، ندرك مصداقية هذا التوجه من خلال البرقيات الفورية الصادرة من السفارة البريطانية في بغداد إلى لندن التي وصفت الأحداث بأنها: "إطاحة دموية مفاجئة ومدمرة، قلبت التوازن الإقليمي الهش في الشرق الأوسط". إحدى المراسلات المؤرخة في 15 تموز 1958 أوردت: "لم يعد بالإمكان اعتبار العراق دولة صديقة في الوقت الراهن... المصالح البريطانية النفطية في خطر، ويجب تقييم الوضع الأمني في الخليج والأردن فوراً". وهناك برقية من السفير الأمريكي في بغداد إلى واشنطن بتاريخ 14 تموز 1958: "نحن بصدد تطور خطير، الحكم الملكي انتهى. الضباط الجدد لا يُظهرون ميولاً شيوعية مباشرة، لكن علينا مراقبتهم عن كثب." ومذكرة من "جون فوستر دالاس"، وزير الخارجية الأمريكي إلى الرئيس أيزنهاور: "إذا انجرف العراق إلى دائرة النفوذ السوفيتي، فستكون ضربة استراتيجية تماثل فقدان إيران عام 1953... لكن علينا أن نتحلى بالحذر في التدخل."

مراسلات تعكس مدى عمق الصدمة المفاجئة، وهناك الكثير من التقارير التي نشرت لاحقاً أكدت بأن استخبارات (MI6) بدأت على الفور بمتابعة الوضع الأمني والسياسي داخل العراق، وناقشت العديد من السيناريوهات التي تصب في دعم الضباط القوميين المعادين للثورة، وتنسيق مع بعض الأطراف في داخل الجيش العراقي لشن انقلاب مضاد، وتمويل بعض الصحف العراقية الصفراء المعارضة داخل العراق. وساهمت بعض وسائل الإعلام الغربية في شيطنة توجهات الثورة من خلال التركيز على العنف وتسليط الضوء على مقتل الملك فيصل الثاني، والأمير عبد الإله، ورئيس الوزراء نوري السعيد، معتبرة أن استخدام العنف في عملية تغيير السلطة شكل صدمة حضارية.

قامت الاستخبارات البريطانية (MI6) بمحاولات لزعزعة النظام الجديد أو التأثير عليه من الداخل، بما في ذلك تقديم الدعم لبعض الفصائل المعارضة بشكل سري. دعمت بشكل مباشر الأنظمة الملكية في الأردن والسعودية ودول الخليج، وعززت العلاقات مع شاه إيران، وكثفت الوجود العسكري والاستخباراتي في الخليج العربي.

وعلى الرغم من الموقف الأمريكي الداعم لحلف بغداد، إلا أنه كان أقل انخراطًا من بريطانيا، لم ترتبط بنفس العمق التاريخي أو النفوذ المباشر في العراق. كان موقف الولايات المتحدة مضطرباً، اعتبرت الثورة تهديداً للتوازن الاقليمي وضربة قوية للمصالح الأمريكية بالمنطقة. اكتفت امريكا بإنزال قوات المارينز في لبنان بناءً على طلب الرئيس اللبناني "كميل شمعون" الذي خشي أن تمتد آثارها إلى لبنان. أخذت أمريكا تراقب الأحداث بحذرعلى ضوء حساباتها المتعلقة بالحرب الباردة، وتوجسها بأن يستغل الاتحاد السوفيتي الثورة لتوسيع نفوذه في الشرق الأوسط.

تعاملت إدارة الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" مع الحدث كأزمة إقليمية تحمل تداعيات استراتيجية في إطار الحرب الباردة، وجرى التداول في البنتاغون حول إمكانية التدخل العسكري لحماية المصالح، لكن القرار النهائي كان الامتناع عن التدخل المباشر، وفضّلت العمل عبر القنوات الدبلوماسية والاستخباراتية، وبتنسيق مع بريطانيا. وفيما بعد بدأت (CIA) محاولات لاختراق النظام الجديد أو التأثير فيه أو الانقلاب عليه. بعد عام 1959، بدأ التنسيق السري مع عناصر من بعض القوميين والبعثيين الناقمين على الزعيم عبدالكريم، واحدة من تلك المحاولات التخطيط لعملية اغتيال الزعيم عام 1959. أثمرت الخطوات التآمرية الداعمة للقوى المناهضة للثورة بانقلاب 1963، الذي جاء بالبعثيين إلى السلطة.

كانت تعليقات البعض من النواب البريطانيين في مجلس العموم على حِراك 14 تموز 1958، متباينة، بعضهم أشار إلى أن الذي حصل في العراق كان تمرداً داخلياً ضد تصاعد وتيرة القمع الداخلي. وأشار أحد النواب إلى أن السلاح الذي استُخدم في الثورة كان من مخزون الجيش العراقي المدعوم من بريطانيا، والثورة كانت حركة حقيقية وشعبية ولكنها تفتقد إلى الشرعية الدستورية، لأنها جاءت عن طريق انقلاب عسكري. وغياب العمليات المسلحة والجيش الذي تبع الثورة، أكد بأن الثورة لم تكن مدفوعة من قوى خارجية، بل كانت فعلاً داخلياً من نخبة من الضباط العراقيين، وبقيادة وتفويض شعبي، وأسبابها كثيرة أبرزها الفقر، التفاوت الطبقي، وتراكم الثروة بيد نخبة ضئيلة من رجال السلطة، إضافة إلى حساسية تبعية النظام الملكي إلى الجهات الأجنبية.

نقلاً عن صحيفة "الحوادث" اللبنانية العدد (151) الصادرة بتاريخ 14 تموز 2021، التي ذكرت بأنه أثناء تأبين مجلس العموم البريطاني، ضحايا العائلة المالكة في العراق، وقف أحد أعضاء حزب العمال البريطاني يتساءل في سخرية مريرة يوم اعلنت بريطانيا الحداد على عملائها الذين مُزقت جثثهم في بغداد قائلاً: اهكذا تنهار في ساعة واحدة كل القواعد التي بنيناها طيلة أربعين عاماً في العراق. ويتساءل: أمن المعقول أن ينتهي كل شيء في طرفة عين. أرجو أن لا أكون مغالياً إذا قلت أن الكثير من المؤرخين سيذهبون إلى أن الثورة الفرنسية تعتبر تافهة بجانب الثورة العراقية. كان في فرنسا سجن باستيل واحد ولكن في العراق عشرات السجون التي لا يُعد سجن الباستيل بجانبها شيئاً يذكر. ويكفي تسليط الضوء على السجن المشهور باسم "نقرة السلمان".

وفوق كل هذا كان في العراق كل الأجهزة الغربية وحلفائها بالمنطقة في إطار حلف بغداد، وهناك السفير البريطاني "مايكل رايت" حاكم العراق الفعلي الذي كان يعتقد أن طيراً لا يجرؤ على التحليق في سماء بغداد قبل أن يستأذن من السفارة البريطانية. كل هذه الأجهزة كانت تكتم أنفاس العراقيين ولكنها عجزت عن معرفة ما كان يجري في ضمائر الأحرار الذين كانوا يعدون العدة وينتظرون ساعة الصفر.

ملاحظة: مصدر صحيفة "الحوادث" من مؤرخ ثورة 14 تموز الأُستاذ هادي الطائي، علماً هو من شارك مع نخبة من المواطنين الوطنيين صبيحة الثورة، وله صور توثق ذلك أمام مبنى السفارة، في اسقاط تمثال الجنرال مود قائد الحملة البريطانية لاحتلال بغداد عام 1917.

***

د. عبد الحسين الطائي - أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

أولاً: العهد الملكي

سأضع وجهات نظري وأفكاري وانطباعاتي في ثورة تموز وفيما جرى بعدها حتى إنقلاب الثامن من شباط عام 1963 ومقتل عبد الكريم قاسم ورفاقه الثلاثة في دار الإذاعة العراقية في الصالحية من بغداد.. أضعها في نقاط مركّزة ولا أقول إنها القول الحق:

ما كان العهد الملكي دمقراطياً أبداً فلا حرية رأي ولا أحزاب ولا جرائد ومجلات حرّة مستقلة سوى جريدتي البلاد والزمان وهما بيضاوان وكالماء لا لونَ لهما ولا طعم ولا رائحة. لا أجواء دمقراطية ولا صحافة يسارية علماً أنَّ في كل من بريطانيا وأمريكا حزب شيوعي عَلَني. أعدم نوري السعيد أوائل علم 1949قادة الحزب الشيوعي العراقي الثلاثة بعد إعادة محاكمتهم وعلّق جثثهم في ساحة أو في شارع. وقبل ذلك أمر الوصي عبد الأله بتعليق جثة العقيد صلاح الدين الصبّاغ (أحد قادة حركة الأول من مايس عام 1941) في باب وزارة الدفاع العراقية لأكثر من يوم. من هنا بدأت كارثة تعليق الموتى شنقاً كتقليد أما َ ظاهرة سحل الجثث فهي قديمة إذْ سُحلت جثّة مسلم بن عقيل بعد قتله في دروب الكوفة بأمر أمير العراق عُبيد الله بن زياد ابن أبيه [ابن عم الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان]. كان الحل الأفضل إحالة العقائد الأربعة إلى وظائف مدنية أو نفيهم إلى خارج العراق بدل أعدامهم. عدد من أصدقائي ومعارفي كانوا في سجون العهد الملكي لأنهم شيوعيين.

كم كان عدد كبار الإقطاعيين العراقيين أعضاءً في مجلس النواب العراقي في المتوسط وعلى الدوام؟ عاصرت مهزلة الإنتخابات عهدذاك عام 1948 وشهدت كيف يتم التزوير والإحتيال وشراء الذمم والأصوات تمارسها الشرطة الملكية لضمان فوز مرشحي النظام الملكي وشهدت بأمي عيني كيف قُمعت فعاليات التمهيد لإنتخابات عام 1954 وكيف تم حلّ مجلس النواب بعد أنْ فاز بعضويته بعض رجال العراق الأحرار المعارضين لنوري السعيد والأستعمار البريطاني.

صحيح.. لم يجبرنا أحدٌ على حمل أو تعليق صور رجالات العهد الملكي ولم يطلبوا منّا تعهدات بالولاء للسلطة القائمة مقابل منحنا شهادتي عدم المحكومية وحسن السلوك الضروريتين لدخولنا إحدى الكليات أو إشغال إحدى الوظائف الحكومية. في الحقيقة كان طلب هاتين الشهادتين وصمة عار في جبين نوري السعيد [رأس الحكم الملكي المدبر] وكل العهد الملكي! وإلاّ فهما يعنيان أنَّ البرئ متهم حتى يُثبت براءته! وأنَّ الشاب خريج الدراسة الثانوية مطعون في سلوكه حتى يثبت العكس أي انَّ الشباب العراقي مستقبل العراق كله متهم وعليه علامات استفهام!؟ أي عار هذا أي عار!

حين تظاهر العراقيون خريف عام 1956 إنتصاراً لمصر وشجباً للعدوان الثلاثي على مصر قابلتهم الحكومة الملكية بالنار فسقط قتيلاً من سقط وكان أحدهم زميلي في دار المعلمين العالية الشهيد ناجي نعمة (من أهالي السماوة). وحين تضامنت نخبة من أساتذة الكليات مع مصر جرى فصلهم من وظائفهم وكان أحدهم عميد كلية دار المعلمين العالية الدكتور خالد الهاشمي وأساتذة آخرون منهم يوسف عبود ويوسف العطار وجابر عمر. وأكثر.. سجن نوري السعيد الشخصية الوطنية الدمقراطية المعروفة الأستاذ كامل الجادرجي ثلاث سنوات. أين دمقراطية العهد الملكي إذاً؟ وما سندها الدستوري؟ أرسى أسس نظام الحكم في العراق رجلُ غير عراقي جاء به الإنكليز من الحجاز ونصبوه ملكاً فعلامَ استند النظام دستوريّاً؟ لا سندَ له بتاتاَ سوى مستعمر أجنبي إحتل العراق وكبّله بالمواثيق والمعاهدات الجائرة ومن ثمَّ جعله طرفاً في حرب لا ناقة له فيها ولا جمل وهي الحرب العالمية الثانية حيث أُجبر العراق أنْ يكون مع الإنكليز في الحرب ضد دول المحور ألمانيا وإيطاليا واليابان. وفي هذا السياق أدخل نوري السعيد وعبد الأله أوائل عام 1955 أدخلا العراق في حلف بغداد المكون من بريطانيا وتركيا وإيران وباكستان وهو حلف موجّهٌ أساساً ضد الإتحاد السوفيتي.

خُلاصة: (1) كانت ثورة تموز 1958 حتمية ضرورية لإنهاء الملكية وتأسيس النظام الجمهوري (2) الوصي ونوري السعيد يستحقان القتل الفوري (3) ما كان الملك فيصل الثاني يستحق القتل لا هو ولا باقي أهل بيته. كان المفروض الحفاظ عليه حيّاً وإبقاءه في العراق تحفظاً حتى تثبّت الجمهورية ركائزها وحينذاك يُخيّر بين البقاء في العراق محايداً ومستقلاً وبراتب مُجزٍ أو ترك العراق لأي بلد يشاء.

ثانياً: ثورة 14 تموز 1958

ما حدث صبيحة يوم 14 من شهر تموز عام 1958 هو ثورة قام بها الجيش العراقي بتخطيط وتنفيذ نُخبة من الضباط الوطنيين العراقيين هم خلاصة الوطنية العراقية ورمز معاناة الشعب العراقي طوال فترة حكم النظام الملكي للفترة 1921 حتى 14 تموز 1958 عاصر بعضهم إنتفاضات الجيش العراقي (أو ساهم فيها) في 1936 بقيادة الفريق الركن بكر صدقي أو حركة رشيد عالي الكيلاني في مايس 1941 وما تلا ذلك من إنتفاضات الشعب العراق ووثباته واحتجاجاته وشهدوا ما تعرض له هذا الشعب من عسف وجور وتسلط وعنف وقمع وسجون. وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير نكبة فلسطين وما جرى خلال حرب 1948 / 1949 بين العرب وإسرائيل من خيانات وتواطؤ علني بين ملوك يحكمون العرب وكلٍّ من بريطانيا وإسرائيل وتم تقسيم فلسطين وضاعت فلسطين. الضباط العراقيون الأحرار كانوا من بين القادة الذين ساهموا في تلك الحرب ـــ المهزلة وعانوا ما عانوا من خيانات الملك عبد الله ملك شرق الأردن وصديق بن غوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل! كان هذا الملك القائد الأعلى للجيوش العربية المقاتلة في فلسطين وكان القائد العام لهذه الجيوش ضابط بريطاني هو (كلوب باشا، أبو حنيك) فأية نتيجة تُرتجى لصالح فلسطين؟ برز من بين الضباط العراقيين الذين قاتلوا في فلسطين ببسالة وبطولة اسم عبد الكريم قاسم الذي سيقود ثورة 14 تموز 1958 ويكون رئيساً لوزراء العراق لأربعة أعوام ونصف تقريباً.

الضباط العراقيون الأحرار هم رمز الوطنية العراقية لكنهم جميعاً تأثّروا بعبد الناصر ثائراً ثم سياسياً قاد مصر نحو الإستقلال ثم الحياد الإيجابي مع نهرو وتيتو. كانوا ناصريين بشكل أو بآخر متفاوتين من حيث الحس القومي والعروبي وكانوا جميعاً متمسكين بالإسلام ديناً بهذا العمق أو ذاك بلا إستثناء. هم بأغلبيتهم عراقيون.. مسلمون.. قوميون ـــ ناصريون. وكان فيهم يساريون أو متعاطفون مع الشيوعيين.

النكبة الأولى: الخلاف مع عارف

بالخلاف مع عبد السلام عارف وإعفائه من كافة مسؤولياته ثم تجريمه والحكم عليه بالإعدام (لم يُنفّذ هذا الحكم ثم أعفى عبد الكريم قاسم عنه وأطلق سراحه) حلّت النكبة الأولى والكبرى بثورة 14 تموز ومثّلت الشرخ الأكبر بين الضباط الأحرار أنفسهم ثم في أوساط الشعب العراقي. ما كان لائقاً أبداً معاملة أول مَن دخل بغداد يقود فوجاً عسكريا فجر14 تموز 1958 وأمّن العاصمة أمام الثورة وسمع العراق صوته يُبشر بالثورة  فأحبّه العراقيون من كافة الأطياف دون معرفة سابقة به. قال لي صديق عسكري ما يلي: نجحت ثورة 14 تموز بقيادة ثلاث جهات هي /  لواء قاده الزعيم عبد الكريم قاسم وفوج قاده العقيد عبد السلام محمد عارف وسريّة من سرايا اللواء الأول في المسيب قادها الرئيس الأول عبد الجبار عبد الكريم الظاهر ثم توالت التأييدات من قبل وحدات عسكرية وضباط متفرقين بين الفرق والألوية والأفواج.

كان ضرورياً الإبقاء على عبد السلام عارف قائداً ورمزاً لثورة 14 تموز وعدم المساس به لكنَّ قاسم اقترف الخطأ الأكبر الذي أدّى (من بين أسباب أخرى) إلى نهايته قتيلاً أمام الملأ وبحضور... محمد عبد السلام عارف نفسه!!

في أواخر العام 1958 شرع البعثيون يفكرون ويخططون للتخلص من عبد الكريم قاسم. سألتُ أحدهم لماذا يريدون التخلص من قاسم أجاب: إنه حجر في الطريق لا بدَّ من إزالته للمضي إلى أمام. حصل هذا أواخر عام الثورة، 1958.

النكبة الثانية: تمرّد الشواف وإعدام الضباط الأحرار

خطأ عبد الكريم قاسم القاتل الآخر هو موافقته على تنفيذ حكم الإعدام بحق رفاقه في تنظيمات الضباط الأحرار بتهمة إشتراكهم بتمرد الشوّاف وفيهم برئ لا علاقةَ له بهذا التمرد غيرَ أنَّ الشوّاف أذاع اسمه باعتباره مؤيّداً لحركته وكان هذا الضابط البرئ قائدَ فرقة في كركوك هو الزعيم (العميد) ناظم الطبقجلي. كذلك إعدام العقيد مدحت الحاج سرّي ــ وهو من أوائل الضباط الأحرار وكان مديراً للمخابرات العسكرية حينذاك ــ  كان إعدام هذا الرجل خطأ وخطيئة معاً إذ كان الحاج سرّي ضابطاً وطنياً شجاعاً مقداماً نكلَّ به نوري السعيد بتحويله إلى ضابط تجنيد!

رأيي الشخصي: بدل إعدام هذه الكوكبة من خيار ضباط الجيش العراقي والتنكل بآخرين.. بدل ذلك كان من الأليق بقاسم إحالتهم على التقاعد أو تنسيبهم إلى وظائف مدنية أو تعيين كبارهم رُتبةً سفراء أو ملحقين عسكريين أو إحالتهم إلى إمرة الإدارة وعفا الله عمّا سلف. كيف عفا قاسم عمّن حاول اغتياله في شارع الرشيد ولم يفكرْ بالعفو عن رفاقه في السلاح وفي تنظيمات الضباط الأحرار؟

حدث مفصلي: الأول من مايس (آيار) 1959

سارت إحتفالاً بأعياد عيد العمال العالمي في شوارع بغداد الرئيسة مظاهرة مليونية كان طابعها ومظهرها العام عماليين ثوريين مع لافتات عريضة تحمل شعارات ثورية سابقة لأوانها وفيها [تطرّف يساري طفولي] من قبيل (عاش زعيمي عبد الكريمِ حزب الشيوعي بالحكم مطلب عظيمِ) وشعارات أخرى مكرّسة لتعظيم وتمجيد قاسم وهو فرد. في مظاهرات أخرى ومناسبات أُخر رُفعت شعارات أو نادى بها متظاهرون من قبيل (ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة).. حبال مسلم بن عقيل في الكوفة! أو (إعدمْ إعدمْ جيش وشعب يحميك من كل خائن) وأضاف الشاعر عبد الوهاب البياتي فقال في إحدى قصائده (سنجعل من جماجمهم منافضَ للسجائر) وقرأ الجواهري قصيدة في محفل جماهيري قال في بعض أبياتها (فضيّق الحبلَ  واشددْ من خناقهمو.. فربما كان في إرخائه ضررُ.. تصوّر الأمرَ معكوساً وخذْ مثلاً / مّما يجرّونه لو انهم نُصروا.. أكان للرفقِ ذكرٌ في معاجمهمْ / أو عن كريمٍ وعن أصحابهِ خبرُ) وقد صدقت هنا نبوءة وصدق تحذير الجواهري فلقد حدث في الثامن من شباط عام 1963 ما سبق وأنْ حّذر منه علناً وعل رؤوس الإشهاد وأمام حشد جماهيري كبير وكنتُ أحد الحضور. لم يرفقْ خصوم قاسم به ولا بكل الموالين له من شتى الأحزاب والفئات. في مساء الأول من مايس وبعد إنفضاض المظاهرات الصاخبة التي عمّت بغداد إحتفالاً بهذا اليوم جمع قاسم أركان وزارة الدفاع كافةً المرافقين ورؤساء الوحدات وضباط سرايا الإنضباط العسكري والحاكم العسكري وطه الشيخ أحمد وخطب فيها خطاباً مطوّلاً إنفعالياً متوتراً وكان قاسم في غاية التوتر والعصبية أنهاه بتوجيه سؤال واحد محدد إلى جميع الحضور وبإسمائهم: فلان (مع ذكر الرتبة العسكرية) هل أنا شيوعي؟ فلان وأنت فلان هل عبد الكريم قاسم شيوعي؟ ثم وفي غاية العصبية توعد حزباً سياسياً محددا وبالإسم بالويل والثبور! لم يكشف أحدٌ هذا اللقاء وما جرى خلاله أبداً وكانت تلك أُمسية تأريخية حاسمة أنهت مرحلة ودشّنت بداية مرحلة جديدة وصفحة جديدة في مسيرة ثورة  14 تموز 1958 ثم تشتيت وبعثرة الضباط الموالين للثورة وللزعيم ونقل بعضهم إلى وظائف أخرى أو كملحقين عسكريين أذكر منهم غضبان السعد وسليم الفخري والزعيم داوود الجنابي وعدداً كبيراً من صغار الضباط ومن طلبة الكلية العسكرية وتم تسريح دورة ضباط إحتياط بكاملها والأكثر إيلاماً: إشتداد ظاهرة الإغتيالات وقتل اليساريين في الشوارع وقتل وتهجير الكثير من أهالي الموصل. وفي مدينة الحلة قتل الشقي ناجي الدليمي المرحوم رزوقي منجي الشمعوني في الشارع العام ليلاً وكان يتمشى مع الرياضي حساني كاظم الموسوي وصديقه الآخر الحاج مهدي حميد طخّة الذي أُصيب بطلق ناري ثم جرى حبسه وهو الجريح بحجة إهانته لأحد أفراد الشرطة! أصبح ناجي الدليمي بعد إنقلاب تموز 1968 ضابط شرطة أمن تحت إمرة ناظم كزار وتمت تصفيته سويةً مع هذا إثر محاولة كزار قتل البكر في مطار بغداد عام 1973.

(مصدر المعلومات حول إجتماع عبد الكريم قاسم بضباطه في مقره في وزارة الدفاع: ضابط قريب لي يثق بي يعرف إنتمائي السياسي كان حاضراً في ذلك الإجتماع.. وحذّرني من مغبّة ما سيأتي وطلب مني الإنسحاب من عالم السياسة لكني بالطبع لم أفعلْ).

بعد خطاب قاسم في كنيسة مار يوسف في كركوك في تموزعام 1959 أخذت أمور العراق سياقاً آخر ومنحىً آخر أدّى إلى سقوط ثورة 1958 ومقتل قاسم نفسه ونزول العراق إلى الهاوية التي يتردى فيها الآن. كانت مؤامرة كبرى استهدفت أسس ومرتكزات الوطنية العراقية بالدرجة الأولى. ضاعت الوطنية وحلَت محلها شعارات فضفاضة تجاوزت آفاق الوطنية المحددة والمعروفة. حلّت محل الوطنية أفكار غائمة طوباوية فات زمانها غي قابلة للتحقيق جعلت الكثير من الناس يؤمن بها حُلُماً عزيزاً لمّاعاً جذّاباً للعواطف والمظاهر (القومية والوحدة العربية)؟ وأخيراً ضاعت الوطنية وحلّت العولمة والإبراهيمية محلها وضاعت القومية والوحدة العربية وصار نداء المنادين [العروبة لا القومية العربية]! أنا لا أرى فرقاً بينهما. عن أية قومية ووحدة عربية يجري الكلام وهذا حال العرب اليوم وهذا وضع البحرين والإمارات وقطر والسودان والمغرب جماعات التطبيع مع إسرائيل بالإبراهيمية أو بغيرها: بالمبادلات السلعية الترامبيّة: للمغرب الصحراء الغربية مقابل التطبيع ورفع البند السابع عن السودان مقابل التطبيع وحماية إسرائيل للبحرين والإمارت مقابل التطبيع وهكذا مشى سوق السلع الرأسمالي. يواجه العراق اليوم تحديات مصيرية كثيرة داخلية وخارجية ستستغلها أمريكا (الحليف الستراتيجي للعراق؟) ذات يوم وتعرض على حكومة بغداد (أيّاً كانت) صفقة تجارية متبادلة فحواها بقاء الحكومة في دست الحكم مقابل التطبيع والإعتراف بإسرائيل! بدأت المشاكل تتصاعد منذ الآن وما قبل الآن في العراق منها: التخلص من النفوذ الإيراني.. حل الفصائل.. سلاح ووضع الحشد الشعبي.. رواتب موظفي إقليم كردستان (أين تذهب نسبة 17 % من ميزانية العراق المخصصة لحكومة الإقليم؟).. ميناء الفاو وخور عبد الله.. تركيا وأزمة مياه دجلة والفرات.. علاقات العراق مع  سورية ونظامها الداعشي الهزيل الجديد المنحني أمام غطرسة إسرائيل وقصفها المستمر لسورية.. 

***

د.عدنان الظاهر

  تموز 2025

كان فزع وزراة التعليم العالي بدخول ثمانية جامعات عراقية ضمن قائمة العلم الأحمر فزعا غير مبررا ومفتعلا بل أنه شكل استجابة كاذبة لوضع مزري حيث تورط تلك الجامعات في تزوير البحوث وانتهاك النزاهة العلمية والتجاوز على تقاليد النشر الأكاديمي، والجامعات المتهمة بذلك هي:

جامعة بغداد.

جامعة البصرة

جامعة الموصل

جامعة المستنصرية

الجامعة التكنولوجية

جامعة بابل

جامعة الكوفة

كلية المستقبل الجامعة

ماذا يعني تصنيف Research Integrity Risk Index وماذا يؤشر:

مؤشر RI² غير معني بقياس جودة البحث العلمي، ولكنه مؤشر أو معيار يؤشر التزام المؤسسة بمبادئ النزاهة فيما يخص البحث وفيه أسوأ معيار وضع العلم الأحمر Red Flag وهناك قبلها وضع المؤسسة أو الجامعة بفئة الخطر العالي High Risk وعلى وفق ما يلي:

معدل سحب البحوث (Retraction Rate): أي نسبة الأبحاث التي يجري سحبها بعد نشرها لأسباب التوصل لحقيقة تزوير و-أو انتحال و-أو اكتشاف أخطاء جسيمة. في الورقة العلمية المنشورة..

معدل النشر بدوريات محذوفة (Delisted Journals Rate): وهي مجلات خرجت من قواعد بيانات Scopus أو Web of Science بسبب عدم التزامها بالمعايير الأكاديمية المعمول بها دوليا.

أن تشكيل وزارة التعليم والبحث العلمي العراقية لجنة لتحقق من ذلك هو أمر مضحك مبكي وكأن الوزارة تسبح في برج عاجي لا تعلم ما يجري في الجامعات العراقية من انتهاك فج وصريح لكل التقاليد الأكاديمية، وأن سلوك افتعال الصدمة والأستغراب من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي هو سلوك ليست بجديد لأمتصاص ٱثار عمق الأزمات التي تعاني منها الجامعات ومؤسسات البحث العلمي.

وللأسف الشديد أن الجامعات العراقية كانت تتمتع بسمعة عالمية في عقود خلت سابقة للعام 2003 إلى جانب سمعتها الإجتماعية الطيبة وكفاءة خريجها ولكن الحروب العبثية للنظام السابق وسياسات التبعيث وسقوط النظام لاحقا وما رافق ذلك من انهيار لمؤسسات الدولة أسهم كثيرا في ألحاق الأذى بسمعة المؤسسات العلمية العراقية.

وفي وقت يتجه فيه العالم إلى تعزيز استقلالية الجامعات لما في ذلك من تدعيم مناخات صناعة المعرفة، ولتحريرها من الأطر البيروقراطية باتجاه المزيد من الحريات الجامعية المؤطرة بقيم الرصانة العلمية والانضباط الأكاديمي، فإن ما تفعله النخبة السياسية هو تصدير أزمتها الحزبية والسلطوية إلى الجامعات العراقية.

أن أسباب تخلف البحث العلمي وتدهوره هو جزء من تخلف الحياة العامة الذي يعكسها تخلف البنية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والذي ينعكس بدوره على تخلف المنظومة التربوية والتعليمية والتي يرتبط بها العلم والبحث العلمي والقناعة به كمنهج للحياة وحل المشكلات. وتتضح ابرز أسباب ملامح ضعف البحث العلمي وكفاءته فيما يأتي:

هيمنة الفكر السياسي والديني المتعصب في الحياة العامة والذي يرفض جميع أشكال التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي والمعلوماتي، ويتشبث في الماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر، ويرفض ممارسة النقد والنقد الذاتي لفكره وممارساته، فيعتبر ما عنده صالح لكل الأزمان والأمكنة، وبالتالي يشل قدرة العقل على التواصل مع معطيات الحضارة العالمية.

الاستبداد السياسي المتمثل بفقدان حرية الرأي وغياب الديمقراطية في كل مفاصل الحياة، ابتداء من السلوكيات الفردية والمؤسساتية صعودا إلى قمة النظام السياسي، التي تحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد وعطائه، وتحول الكيان الاجتماعي إلى كتلة هامدة عديمة التمايز والفاعلية، تجيشها متى ما تشاء وتخرسها عند الحاجة وتساوي أفرادها هلاكا، حيث أن التمايز الفعال بين الأفراد في القابليات والقدرات هو احد حقائق الوجود الإنساني وصيرورته.

ويرتبط بالعوامل المذكورة أعلاه غياب ثقافة أهمية البحث العلمي والاكتشافات العلمية والرغبة في الإبداع والاختراع في الوعي والتفاعل الاجتماعيين، وبالتالي يغيب التفكير والتشجيع والدعم عن المسار البحثي والعلمي وعن العلماء والباحثين والمكتشفين في المجتمع، وترتبط جذور ذلك أصلا في غياب القيمة البحثية في مناهج التعليم بمراحله المختلفة والقائمة أصلا على الحفظ والتلقين والاستذكار التقليدي، وهذا النظام التعليمي التلقيني لا يحتاج إلى كفاءات عالية ولا إلى مستلزمات تقيم متطور لقياس مهارات الطلاب في الفهم والتفكير وحل المشكلات، إلى جانب كونه نظام يدفع إلى الكسل والاتكالية والخمول العقلي، ولا يستثير في الطالب فكرا أو تساؤلا بل يقتل فيه ملكة التفكير، وتنتفي في هكذا نظم تعليمية القدرة على صناعة الباحثين في الخطط التعليمية عبر التراكم المعرفي في مراحل التعليم المختلفة.

ضئالة الموارد المالية المخصصة للبحث العلمي وللباحثين في الجامعات العراقية بصورة عامة بسبب من غياب إستراتيجية واضحة في هذا المجال وتخلف النظرة إلى الإنفاق باعتباره إهدارا واستهلاكا للأموال غير مجدي، وليست استثمارا طويل الأمد يأتي أضعاف ما ينفق عليه، الى جانب ما حملته كورونا وأزمة النفط العالمية من شحة في المال والانفاق.

الفساد الإداري والمالي وضعف معايير الكفاءة والأهلية المهنية والعلمية في انتفاء الكادر القيادي لمؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، واللجوء إلى معايير الحزبية والمذهبية والطائفية والموالاة في انتقاء الكوادر الإدارية، وغالبا ما تكون هذه القيادات بعيدة كل البعد عن مفهوم الاستقلالية والنزاهة، بل هي أطراف أساسية في صراعات مصلحيه ضيقة مع غيرها، بل هي أطراف في الفساد بمختلف مظاهره، مما يحرم هذه المؤسسات من الاستقرار والنزاهة والحيادية التي هي شروط لازمة للارتقاء بالعلم والبحث العلمي. ويرتبط بذلك ويرافقه سياسات أبعاد الكوادر العلمية عن مواقعها العلمية والبحثية من خلال التهجير ألقسري والإحالة على التقاعد وانتهاء بالتصفيات الجسدية ومسلسل الاغتيالات للكوادر في مختلف التخصصات العلمية.

أن غياب إستراتيجية شاملة للبحث العلمي في العراق تتضح آثاره جليا في ما يسمى بالفوضى البحثية، والتي تتضح أبرز معالمها في العمل البحثي الفردي لأغراض فردية وذاتية بحتة، سواء لأغراض الترقية العلمية فقط أو للحصول على المال في أمكنة النشر، وعدم وجود فرق بحثية تتكامل بين أفرادها، وهو سمة مهمة من سمات تطور وارتقاء البحوث في عالمنا المعاصر، وعدم التنسيق بين المراكز البحثية المنتشرة في البلد الواحد، وانفصال البحوث عن المشكلات الاجتماعية واحتياجات المجتمع، مما أدى بدوره إلى تكرار واجترار البحوث السابقة، فهي لا تخدم في معظمها قطاعات صناعية أو زراعية ولا تواكب حاجات المجتمع في ميادينه الناشئة الحديثة كتقنية المعلومات والتكنولوجيا المتطورة، وكان ذلك سببا في إنتاج كم هائل من المجلات والدوريات ذات الموضوعات المتكررة في البلد الواحد بل وفي القسم والكلية والجامعة الواحدة في البلد المعني، واغلب هذه الدوريات غير معروف عالميا ولا يضيف قيمة علمية للبحوث العالمية .

عدم وضوح فكرة أن الجامعات هي جزء من آليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي يجب أن تكون بحوثها على تماس مع مشكلات المجتمع بمختلف قطاعاته، وبسبب غياب الرؤى في هذا المجال نرى أن اغلب بحوث الماجستير والدكتوراه تستهدف تهيئة وتدريب الكادر على طرائق ومنهجية البحث العلمي، وهي بهذا بعيدة كل البعد عن المساهمة في البحث عن الحلول للمشكلات الاجتماعية المختلفة، وبسبب من ذلك تأتي اغلب الأبحاث سواء الأساسية منها أو التطبيقية تكرارا لسابقتها، إن لم يكن تكرارا مملا فهو تكرارا بحلية شكلية ترضي المشرف عليها، وقد تبدو لصاحبها أصيلة وهي بعيدة كل البعد عن الأصالة.

غياب إستراتيجية واضحة للبحث العلمي في ضوء احتياجات المجتمع المحلي لها، حيث أن المبادرة الفردية للباحث والأستاذ تلعب دورا كبيرا في تقرير ذلك، ومعظمها يجري لأغراض الترقية العلمية أو لأغراض المتعة العقلية الخالصة للبحث، ويجري ذلك في ظل انعدام صناديق متخصصة لدعم وتمويل البحوث، وضعف القاعدة المعلوماتية، وعدم وجود مراكز أو هيئات للتنسيق بين المؤسسات البحثية، وضعف الحرية الأكاديمية كتلك التي يتمتع بها الباحث في بلدان العالم الديمقراطي، وعدم تفهم أو انعدام دور القطاع الخاص ومشاركته في الأنشطة العلمية حيث لا يزال قطاعا متخلفا يركز على الربحية السريعة والسهلة ولا يعي حقيقة وأهمية البحث العلمي في تطويره.

تدهور المستوى العلمي والتحصيلي للطلاب جراء تدهور الوضع الأمني والانقطاع عن الدراسة، أو النجاح بأي ثمن تحت وطأة تهديد الأستاذ الجامعي من قبل مليشيات الأحزاب السياسية ـ الطائفية وفرض معايير مشوه للتفوق الدراسي لا تعبر عن إمكانيات الطلاب الفعلية، بل تعبر عن أولويات الانتماء السياسي أو المذهبي أو الطائفي، وهي تذكرنا بممارسات التبعيث لفرض النتائج الدراسية وانتقاء الطلبة على أساس الولاء للحزب الحاكم.

ضعف البنية التحتية للأبحاث النظرية والتطبيقية من مختبرات وأجهزة ومكتبات علمية، فالمختبرات وأجهزتها وصيانتها ونقص المواد الأساسية لها بمختلف التخصصات ونقص الكادر الفني ذات الصلة بذلك هو سمة بارزة لأغلب ما تعانيه الجامعات العراقية وتشكو منه، إلى جانب ضعف قاعدة المعلومات الحديثة، سواء من مطبوعات ودوريات علمية عالمية أو غياب المكتبات الرقمية أو الالكترونية وقواعد البيانات البحثية وغبرها من أدوات التعليم الالكتروني للتواصل مع العالم البحثي.

اما الجامعات الأهلية فهي مشاريع ربحية لمالكيها وتعاني من تردي المعايير وضعف الرقابة وضعف مخرجاتها التي تفوق حاجة سوق العمل واحد منابع بطالة الخريجين، إلى جانب تغلغل مستثمري الجامعات الأهلية في قرارات وتوجهات وزارة التعليم العالي وتشكل عوامل ضغط على الوزارة واغلب مالكيها من احزاب السلطة ويملكون دعما سياسيا بل اصبح العديد من هذه الجامعات امكنة لغسيل الأموال والفساد، كما انها من البيئات الضاغطة على الأستاذ الجامعي من خلال تحالف خفي بين المستثمر وبين الطالب الذي يدفع الأجور له والأحساس لدى الطالب يجب أن ينجح مقابل ذلك وليست بأمكانياته العلمية تجسيد لشعار " ادفع قسطا تنجح سنة دراسية".

أن معالجة أزمة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق تكون عبر معالجة الأزمة بقمة هرم السلطة في النظام السياسي، أي أزمة التوجّه العام للحكومات المتعاقبة في ظل نظام المحاصصة؛ فلا نهوض للتعليم نحو الجودة والجدوى، أو للبحث العلمي نحو الجدّة والجدّية، ولا للمجتمع نحو التجدد الحضاري في دولة تعاني من التفكك في رؤيتها السياسية، والضبابية في نظرتها إلى نفسها والمجتمع، والفوضى في إداراتها والعشوائية في سياساتها، والتي تتعامل مع المناصب الحكومية والوزارات كغنائم وليست لخدمة المجتمع.

***

د. عامر صالح

يشغل السّياسة والإعلام هذه السَّاعة سلاح الميليشيات؛ أما الاسم عندها فهو «سِلاح المقاومة»؛ وحسب خطابها أنَّها جماعات عقائديَّة، لا يبدو أمرها بيدها، يظهر الانتماء في ما ترفعه مِن رايات ومصورات وشعارات، فهي مسألة غير مخفية، حتّى «مبدأ التّقية»، الذي مِن المفروض تؤمن به؛ لم يعد له وجود، لأنها القوة، و«التّقية» للضعيف أمام سلاحها. سمعتُ أكثر مِن قائد يقول: «لا نتخلى عن سلاحنا، والانضمام إلى الجيوش الرّسميَّة، لأنَّ هذا السّلاح ما سلحنا به الإمام المنتظر، فلا نسلمه إلا له وبأمره». فهو الذي أسسهم تمهيداً لظهوره، في أيّ لحظة.

يؤيد ذلك خطباء، مِن على منابرهم، يرسمون خرائط تحرك جيش المنتظر، وما الجماعات إلا بمثابة طلائعهِ. يضغط الأميركان، وتضغط الحكومات المبتلية، لنزع السّلاح وتوحيده بيد الدَّولة، وهذا هو الطّريق إلى إنعاش الاقتصاد وتطوير التعليم، لكن بسبب الجماعات مهددة تلك الدُّول بالحرب، وعقوبات مؤذية، وأيّ جماعة تستقل بالسّلاح تُشكل نداً، بحالٍ مِن الأحوال، للدولة. لا اعتراض على العقائد، مهما كانت، لا وجود المهدي ولا غيرها، مع أنَّ المصدر الأساس المفروض في العقائد والتشريع الدّيني هو كتاب القرآن، والقرآن لم يذكر شيئاً. ذكرتُ الكتاب الكريم، لا للنقض، فكلّ العقائد لها احترامها، ما زال هناك بشر يؤمنون بها، إنما لتوضيح أنّ الاختلاف في هذه العقيدة موجودٌ حتّى داخل المذهب نفسه، فالقرآن بالأخير برهان قاطع.

أنجز الباحث العِراقي القدير فالح مهدي، (1972) ببغداد، كتاباً قيماً عنوانه «البحث عن منقذ- دراسة مقارنة بين ثماني ديانات»؛ بينها العالمية المشهورة؛ وغيرها شرقاً وغرباً، لم يكن منقذ أحدها مسلحاً، ولا ظهرت منها جماعة تقول: سلاحنا هو سلاح المنقذ؛ وكذلك لم يقلها كبار المذهب الذي تؤمن به الجماعات المسلحة؛ فهي مجرد عقائد النّاس لا الدُّول، فلا الزَّرادشتيّة ولا البوذيّة، في التاريخ الغابر والحاضر، ولا غيرها مِن التي شملتها الدِّراسة، ادعت ذلك. مِن حقّ قادة الجماعات المسلحة اتخاذ عقيدة المنقذ لنفسها، الذي تراه، لكن وماذا عمَن يشاركهم الوطن، وهو لا يقرّ بهذه العقيدة؟ كذلك لا اعتراض على العجائبيَّة التي يطرحونها عبر الإعلام، إذا لم تتحول إلى سياسة مباشرة بقوة السّلاح، وهذا خراب للأوطان.

لا نلجأ إلى حُججِّ الآخرين لنقض هذا المنطق، إنما نلجأ إلى كبار مشائخ العقيدة المؤسسين أنفسهم، ولنرى ماذا يقولون في هذا الخِطاب؟ ينقل شيخ الطّائفة أبو جعفر الطُّوسي(تـ: 460هج)، وصية المهدي لنائبه الأخير عليّ السّمريّ(تـ: 329هـج): «عظم الله أجر إخوانك فيك؛ فإنّك ميتٌ ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك؛ فقد وقعت الغيبة التَّامة؛ فلا ظهور إلّا بإذن الله»(كتاب الغيبة). أقول: فأي أذن مِن الله في سلاح الجماعات وخطابهم؟ كذلك نقل الصَّاحب ابن عباد(تـ: 385هج) الآتي: «إن كلّ رايةٍ قبل راية قاعدهم الذي يسمَّونه قائماً، راية ضلالة»(كتاب الزَّيدية). ربّما لاختلاف المذهب لا يقرون برأي الصَّاحب الزَّيديّ المعتزليّ. لكن ماذا يقولون لأبرز رواة الحديث عندهم الشّيخ محمَّد الكُلينيّ(تـ: 329هج)، الذي عاش إرهاصات تشكيل العقيدة؟

قال: «كلُّ رايةٍ ترفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت، يعبد من دون الله»(الكلينيّ، كتاب الكافيّ). فيا أخوتنا نُقدر حماسكم وخيالاتكم، وأفتونا مأجورين، هل أنتم جادون بخطابكم هذا أمّ تكابرون؟ على حساب شعوبكم، التي تنشد أبسط مقومات الحياة ولم تجدها؛ والضَّغوط كما ترون على أشدها، فلا تجعلوا العقائد مشاجب لسلاحٍ أعيا النَّاس وأذلهم. عودوا إلى الواقع؛ صحيح أنَّ الخيالَ جميلٌ ومغرٍ، لكنَّ لا صِلة له بعمران الأوطان وكرامة الإنسان. أخذُ مِن أبي العلاء المعريّ(تـ: 449هج): «إذا قلتُ المحال رفعتُ صوتي/ وإنْ قلتُ اليقينَ أطلتُ همسي»(لزوم ما لا يلزم)؛ وأنتم يا سادة سفهتوا العقول بالمحال.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في زمن تتسارع فيه الخطى، وتترنّح فيه الثوابت، لم يعد بالإمكان أن نقرأ العالم بذات العيون التي قرأت الماضي. لقد دخلنا قرنًا لا يكتفي بتبديل الوجوه، بل يعيد صياغة قواعد اللعبة، ويهزّ ركائز النظام العالمي من جذورها. ولم تعد الأحداث تمضي على هامش التاريخ، بل باتت تكتبه من جديد... بأقلام من نار، وبحبرٍ من دماء الشعوب المغلوب على أمرها.
في خضم هذا التحوّل العاصف، يقف الضمير الإنساني حائرًا، يبحث عن صوته وسط ضجيج القوة، ويطرح السؤال الذي لا يموت: ما الذي يصنع مستقبل الأمم؟ أهي القوة؟ أم العدالة؟ أم المعرفة؟ أم خليط تتصارع فيه المصالح والمبادئ؟

منذ مطالع الألفية الثالثة، والعالم يتقلب على صفيح ساخن من التحولات، يشهد النظام الدولي اضطرابات متتالية وولادة مشهد عالمي جديد تتنازع فيه القوى، وتتعدد فيه الأقطاب. لم تعد الهيمنة حكراً على قطب أوحد، بل تكسّرت الأحادية وتوزعت مراكز القوة على خارطة جديدة تتشكل بأنفاس الصراع وتحت وقع المتغيرات الجذرية. في أفق هذا التحوّل الزاخر بالتقلّبات، تلوح في الأفق ملامحُ نظامٍ عالميٍّ جديد، تتقدّمه قوى بارزة تشقّ طريقها بثباتٍ نحو الصدارة؛ فها هي الصين تنهض كعملاقٍ لا يلين، وروسيا تعود بثقل التاريخ وجموح الطموح، بينما تسير الهند، وإن بخطى أهدأ، وتكتلاتٍ تتحدى المألوف مثل منظمة بريكس، إلى جانب نفوذ مؤثر لقوى إقليمية صاعدة كإيران والبرازيل …

في هذا السياق يقول المفكر السياسي بريجينسكي:” إن القوة الجيوسياسية الحيوية تتغير، وتوزيع القوة الاقتصادية والسياسية في العالم يتغير بسرعة كبيرة“ وهو ما بات واضحًا بعد عام 2023، الذي لم يكن مجرد سنة على التقويم، بل علامة فارقة تهاوت فيها أعمدة القانون الدولي، وتصدعت قواعد المنظومة الإنسانية. لقد تعرضت القيم التي طالما تغنى بها الخطاب الغربي ـ من حقوق الإنسان إلى الأعراف الدولية ـ لهزات عميقة، تمثّلت في مشاهد مروّعة في غزة، حيث ارتفعت راية القوة المجردة، وسقطت الرايات الأخلاقية تحت أقدام الحسابات العسكرية والسياسية.

هنا تتردد أصداء كلمات نعوم تشومسكي التي تصف الحقيقة بلا رتوش:” القانون الدولي يُستخدم كسلاح فقط عندما يخدم مصالح القوى الكبرى، أما حين يتعارض معها، يتم تجاهله بلا خجل."، وكأنما صدى جون لوك الذي قال: "أينما ينتهي القانون، يبدأ الاستبداد. “

لقد بات العالم ساحة يمتزج فيها الخير بالشر، وتضيع فيها الحدود الأخلاقية بين الظالم والمظلوم بين الطاغية والمستضعف. وكما عبّر الفيلسوف جان بودريار:” لقد أصبحنا نعيش في عالم لم يعد فيه الخير والشر يختلفان، بل أصبحا يمتزجان“ وهكذا، لم تعد الحروب تُخاض فقط على الأرض، بل في الضمير الإنساني نفسه.

لكن برغم قتامة المشهد، فإن الحقيقة تفرض ذاتها، القوة ضرورة لا مهرب منها للجميع، لبقاء الإنسان والمجتمع والدولة، لا سيّما في عصر تتزايد فيه التهديدات، وتضيق فيه فسحات الأمان. غير أن القوة اليوم لم تعد مقصورة على جيوش جرّارة ولا على خزانة عامرة بالذهب، بل أصبحت تتمثل في عنصر واحد يتجاوزهما: المعرفة.

لقد سبق أن قال المفكر ألفين توفلر:” المعرفة هي القوة. “ وأيده في ذلك بيتر دراكر حين أعلن أن:” القرن الحادي والعشرون سيشهد أن الموارد الإنتاجية الرئيسية ستكون المعرفة والمعلومات“- غير أن هذه الرؤية الحديثة، بكل ما فيها من بصيرة، قد لامسها قبل قرون ضمير النبوة حين نطق الإمام عليّ عليه السلام بالحكمة الخالدة:” العلم قوة والجهل ضعف“ عبارة قصيرة تحمل في طيّاتها خلاصة قرون من الصراع بين النور والظلمة، بين البناء والهدم، بين الأمم التي ارتفعت بسلّم العلم، وتلك التي انهارت تحت أثقال الجهل.

ولهذا، لم يكن غريبًا أن نشهد في الحرب الأخيرة التي اشتعلت في الشرق الأوسط، كيف أصبحت العقول هدفًا للرصاص، والعلماء مشاريع اغتيال في إيران. إن استهداف المفكرين والباحثين، ومطاردة كل من يمتلك قدرة على التفكير أو التأثير، لم يكن مجرد هامش في الصراع، بل هو جوهره الخفي. فالقوة المعاصرة لا تُواجه فقط في ميادين القتال، بل تُجهَض في مهدها حين تُستأصل البذور التي قد تُنبت غدًا وعيًا وكرامة.

وهكذا، لم تعد القوة تُقاس بما تمتلكه الدول من أسلحة، بل بما تحوزه من عقول. فالعقول هي من تبني الاقتصادات، وتبتكر التكنولوجيا، وتعيد رسم حدود النفوذ.

وهنا يبرز المفهوم الأعمق للقوة كما طرحه عالم السياسة جوزيف ناي:” إن السياسة العالمية ليست مجرد لعبة أحادية القطب، إنها توزيع معقد للقوة الصلبة والناعمة“ فنحن في عالم لم يعد فيه القتال بالسيوف وحدها، بل بالأفكار، ولم يعد الردع يُصنع في مصانع السلاح فحسب، بل في مختبرات الذكاء والتخطيط والاستبصار.

وهكذا، يتطلب بناء القوة الحقيقية إرادة مجتمعية لا تعرف الخوف، وعقلًا استراتيجيًا يقيس بعين الحكمة لا بردود الأفعال، ويستند إلى البصيرة لا إلى العاطفة المنفعلة. فهذه هي القوة القادرة على الحماية، وعلى ردع الظلم والطغيان، وصياغة مستقبل لا تُفرَض فيه الحلول والقيم بالقوة، بل تُكتسب بالقناعة والعدل والمعرفة.

إن العالم الذي نعيش فيه اليوم ليس سوى مرآةٍ مشروخة لحقائق متشابكة، تتداخل فيها أطياف الطموح والخوف، المعرفة والقوة، المبادئ والمصالح. وما بين انهيار القانون وصعود العقول، يبدو أن مستقبل البشرية لن يُرسم بمنطق الهيمنة وحدها، ولا بالعاطفة العابرة، بل بعقل راجح يزن الأمور بميزان الحكمة، وإرادة تصنع من المعرفة سلاحًا، ومن القيم جدارًا، ومن القوة وسيلةً لا غاية.

لقد ولّى زمن البساطة في فهم القوة، فإما أن نُدرك تعقيد هذا العصر، ونتهيّأ له بعقلٍ حُرّ، ورؤية بعيدة، وقيم راسخة… أو نُترك نُقاد كما يُقاد العاجزون، في عالم لا يرحم الضعفاء ولا ينتظر المترددين.

فهل البشرية على قدر التحدي؟

***

حميد علي القحطاني

تمر الذكرى ال 67 لثورة 14 تموز التي قادها مجموعة من الضباط الكبار وفي مقدمتهم قائد الثورة الشهيد عبد الكريم قاسم والتي أسقطت االحكم الملكي في العام 1958، وأسست للحقبة الجمهورية،ويتفهم القارئ او المحلل السياسي جوهر التقيمات المختلفة للحقب التاريخية في العراق وخاصة في حقبتي الملكية والجمهورية الأولى وتداعيات كل منهما على الآخر وقد عبر هذا الحدث المفصلي في تاريخ العراق عن نضوج العوامل الذاتية والموضوعية في أحداثه إلا أن نقل الثورة إلى مسارات مستقرة بما يفضي إلى نظام حكم ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة سلميا و ديمقراطيا قد تعثر وفشل بسبب القصور الفكري والسياسي لبعض من قيادات الثورة وتكالب الأعداء عليها في الداخل والخارج مما سهل عملية الأنفراد في الحكم وانحراف مسار الثورة لاحقا،

قراءة الثورة اليوم تختلف عن قرائتها قبل 67 عاما

 بفعل تراكم المعارف النظرية والممارسات والخبرات العملية في التغير السياسي وجوهره والكيفية التي يتم بها حل أزمة الحكم والنظام السياسي, حيث ان القراءة الفردية بعيدا عن تأثيرات العقل الجمعي او الهبات السيكولوجية الجماهيرية يضفي بعدا منصفا عادلا لثورة تموز بعيدا عن المزاج المضر والمنحاز, الأمر الذي يحرم تقييم تلك الحقبة بديناميات العقل غير المتحيز والمتأثر " بسيكولوجيا الجماهير "،

الهبات الجماهيرية الفاقدة للتفرد والعقلانية هي من  افسد مسارات الثورة وحراكها المشروع صوب التغير المنتظر للخلاص من نظام قوامه الأقطاعية والقبلية والطائفية في نظام يقف على قمته ملك ليست عراقي, فكان الشارع العراقي لا ينصاع إلا بتوجيهات من الراعي السياسي او الديني لأحداث خراب في مختلف الاتجاهات وكانت الأندفاعات الضارة ليست دفاعا عن الثورة بل من حيث لا يعلم الجمهور هو حفر في العمق لتسهيل سقوطها بيد اعدائها.

وللأسف ان الحقبة انذاك هي حقبة سايكوـجماهيرية قوامها العزف على الأنفعالات بعيدا عن التأثر الحقيقي بالفكر التقدمي ومشروعه الكبير في تحقيق العدالة الأجتماعية وطموحاته في تحقيق السعادة المجتمعية للخلاص من الفقر والبطالة والفاقة وتحرير العراق وثرواته من السيطرة الاستعمارية، قيادة الثورة بفعل محدودية تفكيرها وهذا ليست عيبا فيها بل بأنتمائها العسكري المعروف الذي من الصعب عليه ان استلم السلطة بواسطة الدبابة ان يسلمها لاحقا الى القوى المدنية, وكانت قوى قيادة الثورة وخاصة جناحها العسكري مغرمة بالخطابات الرنانة التي تتدغدغ العواطف وتقصي العقل من دائرة الفعل, وكان الأنفراد وعدم الأصغاء من قبل القيادة العسكرية للقوى المحركة للثورة بل العداء لها هنا وهناك احد اسباب انحرافها وفشلها لاحقا, فالزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم في لحظات كثيرة لم يفرق بين خصومه وانصاره فكان بالنسبة له الجميع سواسية وكان اخطرها تحت شعار " عفى الله عما سلف " الذي اودى بحياة الزعيم النزيه وكان خاتمتها الأنقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963عند استلام البعث للسلطة،

نظام الحكم اليوم في العراق وفق الدستور ما بعد الأحتلال هو جمهوري أي يفترض ان يكون امتداد طبيعي للجمهورية الأولى ولا يفهم من نظام المحاصصة كيف يتم اغفال ولادة الجمهورية الأولى في العام 1958 او تهميش ذكراها باختلاف الرؤى والتقيمات لها حيث يفترض ان يجري التركيز عليها في إطار شكل الحكم وليست تفاصيل الأحداث التي قد نتفق او نختلف معها بعيدا عن ارضاء بعض قيادات الأحزاب الطائفية السياسية والصفقات المشبوهة التي تستهدف تزوير التاريخ واحتكار الحقائق وتوظيفها لخدمة مصالح ضيقة فالعراق جمهوريا شئنا أم أبينا ويفترض ان يكون الدستور هو وثيقة العقد الأجتماعي التي أتفق عليها لا مزاج العداوة والكراهية،

ولتكن ذكرى ثورة الرابع عشر من تموز درسا في قيمة التداول السلمي للسلطة واحترام ارادة الشعب العراقي في اختيار ممثليه عبر ممارسة ديمقراطية نزيه لا يكون فيها للسلاح مكانا في أكراه الشعب على الأختيار،

***

د. عامر صالح

يحتفل الكثير من العراقيين هذا العام في الذكرى (67) لانطلاق ثورة 14 تموز، الحدث المحوري في تاريخ العراق السياسي المعاصر، الذي جسد الإرادة الوطنية للكثير من شرائح المجتمع العراقي. الاحتفال بذكرى الثورة يتيح لنا فرصة للتفكير النقدي حول الكثيرمن النتائج، ورسالة تذكير للأجيال الجديدة بأهمية فهم التاريخ من أجل بناء مستقبل أفضل، وتجنب تكرار أخطاء الماضي. الاحتفال بها يمكن أن يكون جسراً رابطاً بين الماضي والحاضر، بعيداً عن مخاطر التوظيف السياسي المغلق، وأن تُستثمر في تحفيز الوعي التنويري والتثقيف بأهمية الحوار الوطني البناء الذي يعترف بالحقوق والتعددية واحترام الآخر المختلف.

تحمل ثورة  تموز أهمية رمزية وتاريخية ولحظة انتقال حاسمة سواء من الناحية السياسية والوطنية والثقافية، حدث محوري أنهى النظام الملكي وأعلن قيام الجمهورية العراقية، وفتح الباب أمام متغيرات جذرية في بنية الدولة العراقية، شملت النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلاقات الخارجية والهوية الوطنية. ورغم الجدل حول طبيعة الحدث، وما تلاه من اضطرابات شكل نقلة جذرية في بنية الحكم والسلطة.1658 July

ورغم التحديات الداخلية والخارجية، يرى الكثير من الباحثين بأن ثورة تموز مثلت حركة تحرر من الهيمنة الأجنبية بكل صورها، وشكلت رمزاً فاعلاً لمقاومة النفوذ الأجنبي وبداية لاستقلال القرار الوطني المرتبط بحزمة إنجازات مثلت طموحات الفئات الشعبية المسحوقة. احتلت المكانة الأبرز في الذاكرة الجمعية العراقية، سواء بالنقد أو التأييد، فهي لحظة تَشكُّل مفصلية ما زال الجدل قائماً حول آثارها، والحديث عنها تجاوز السياسة ليصل إلى الأدب والفن والأغاني الوطنية والشعبية التي خلدها الشعب بأكثر فئاته.

كان العراق جزءاً من منظومة إقليمية متمثلة بحلف بغداد ومرتبطة بالغرب، وفي ذروة تصاعد المد الايديولوجي القومي واليساري في الشرق الأوسط، وتنامي السخط الشعبي حيال التفاوت الطبقي والاحتكار الاقتصادي وهيمنة الإقطاع، حدثت ثورة 14 تموز بعد سلسلة ضغوطات سلطوية بالضد من إرادة الجماهير، بفعل استئثار النخبة الملكية الحاكمة بالثروات، وتهميش اغلبية الشعب، مقرونة بتزايد شعور التململ بين صفوف الجيش العراقي، الذي رأى في ذاته حاملاً لمشروع التغيير. وتفاقم نقمة شرائح مجتمعية واسعة من العمال والفلاحين والمثقفين العراقيين، اسهم في نضوج الظروف الموضوعية والذاتية التي دفعت نخبة من الضباط الوطنيين الواعين، الذين أغلبهم من أبناء الطبقات المتوسطة أو الفقيرة، بالتفكير بتغيير النظام بعد محاولات عديدة.

افلحت المحاولة الثامنة في قيام الثورة التي دشّنت مرحلة جديدة في الحكم قائمة على النظام الجمهوري، بعد إسقاط النظام الملكي الذي كان يُعد امتداداً للهيمنة البريطانية في الشرق الأوسط. وكان انسحاب العراق من حلف بغداد، وابتعاده عن سياسة المحاور بمثابة رسالة واضحة المعالم لمدى استقلالية العراق الجديد في قراراته الوطنية، وبالتالي انفتاحه على دول العالم الحرّ.1659 July

يُشار إلى هذا الحدث الذي حصل في تموز 1958، باسم "ثورة 14 تموز"، لكن في بعض الأدبيات الأكاديمية كثيراً ما يُدرج كـ "انقلاب عسكري ذو نتائج ثورية". إذا عَرّفنا مفهوم الثورة في الإطار الأكاديمي المجرد بأنها حركة تحرر قام بها نخبة من العسكر لاسقاط النظام الملكي، بالتأكيد تصنف "انقلاب عسكري"، ولكن إذا نظرنا إلى نتائجها بتحليل واقعي، نجد بأنها قد أجرت تغييراً بنيوياً شاملاً في المجتمع العراقي على الأصعدة كافة، تستحق مكانتها الحقيقة كثورة، رفعها التأييد الجماهيري الكبير الذي استمر لأيام عديدة في كل مدن العراق، جماهير من مختلف شرائح المجتمع العراقي لم تكن مؤدلجة بل دفعها اليأس من النظام الملكي وتماديه في الممارسات القمعية في تعليق الحياة السياسية وتحجيم الحريات. 

هناك الكثيرمن الباحثيّن يرى بأن إسقاط النظام الملكي وإنهاء الحكم الوراثي الذي كان أداة بيد الاستعمار البريطاني، وإعلان الجمهورية وتحرير البلاد من الهيمنة البريطانية، وتحويل العراق إلى قوة مناهضة للاستعمار بانسحابه من حلف بغداد. وقيام الحكم الجديد بإصدار حزمة قوانين إصلاحية تلامس حياة الناس كـ "قانون الإصلاح الزراعي، قانون الأحوال الشخصية، قوانين اسهمت في تعزيز وتقوية القطاع العام"، وفق هذا المنظور وبالمعاييرالموضوعية يُعد حدث 14 تموز 1958، "ثورة" لأنها غيّرت بنية النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي تغييراً جذرياً.

المؤرخ الفلسطيني المحايد حنا بطاطو، المتخصص بتاريخ العراق، في كتابه "العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية"، لا ينكر دور العسكر في اندلاع الثورة، لكنه يركز على نتائج الحدث أكثر من أسلوب التنفيذ، يرى بأن حدث 14 تموز يُعد ثورة لأنه أدى إلى تحولات جذرية، أنهى النظام الملكي والإقطاعي، وجرى توزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين على ضوء قانون الإصلاح الزراعي. وتم تعزيز دور الطبقات الفقيرة والعمالية، وتصفية النفوذ البريطاني، وأكد بأن الجيش كان أداة لتنفيذ الثورة، أحدث تغييراً بنيوياً عميقاً في بنية الدولة والمجتمع. ويشاطره الرأي المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه "تاريخ الوزارات العراقية"، بأن الحدث ثورة شاملة مكتملة الأركان وليس مجرد انقلاب. وأكد بأن الجيش لم يكن طامعاً بالسلطة، بل تحرّك بفعل معاناة الشعب، والنتائج جعلت الحدث ثورة فعلية.1660 July

آراء بعض من المؤرخيّن المحايدين، تؤكد الحدث بأنه ثورة تحرر وطني ضد الهيمنة الغربية، وتتويجاً لحراك شعبي طويل ضد الاحتلال البريطاني والحكم الملكي. تم وصفه انقلاباً عسكرياً لكنه أدّى إلى ثورة سياسية واقتصادية، والجيش هو مَنْ حرك التغيير، لكن التحولات التي تبعت الحدث جعلته ثورة فعلية بمعايير التغيير الاجتماعي والاقتصادي، أي الحدث بدأ انقلاباً عسكرياً، لكنه تحوّل إلى ثورة بتأثير نتائجه. ولم يكن الحدث حركة عسكرية عابرة، بل شكل لحظة فارقة أعادت صياغة مسارات الدولة والمجتمع، وصداه يتردد في الذاكرة الوطنية العراقية لما نتج عنه من إنجازات لامست نبض الشارع العراقي. وفي قراءة علمية متزنة لهذا الحدث، تبرز الحاجة إلى استجلاء خلفياته، وتحليل أهدافه، وتقييم مخرجاته وفق معايير رصينة تراعي التعقيد البنيوي للمجتمع العراقي.

وهناك من يرى الحدث بأنه انقلاباً عسكرياً تقليدي في دولة نامية، نفذه ضباط جياع للسلطة، احتكروا الحكم لأنفسهم، ونجحوا في تغيير النظام لكنه لم يكن ثورة جماهيرية شعبية، بل الجماهير تحركت بعد نجاح الانقلاب، والحدث لم يأتِ بتفويض جماهيري وبدون مشاركة مدنية أو انتخابات، ودون التشاور مع الشعب، بل فُرِض النظام الجديد بقوة السلاح، ومن ثماره مقتل أفراد العائلة المالكة بطريقة دموية أثارت جدلاً كبيراً. وسيطرة العسكراستمرت في فرض مشروعهم السلطوي بالقوة، مما أدى لاحقاً إلى انقلابات عسكرية متتالية.

ورغم تلك الإنجازات الكبيرة، لم تخلُ الثورة من أخطاء جوهرية أفضت إلى تراجع زخمها وانكفاء أهدافها، لا سيما بعد تكريس الحكم الفردي وإقصاء بعض القوى السياسية وتعزيز التوجهات في إطار عسكرة السياسة، مما أدى إلى ضمور الحياة السياسية المدنية، وإرتفاع وتيرة الصراع السياسي الذي قاد إلى بداية لحلقة طويلة من عدم الاستقرار السياسي والتدهور الأمني الذي انعكس على مجالات الحياة كافة. وبالتالي انكفاء التجربة إلى دائرة الحكم الفردي، بفعل اتساع حجم التآمر على منجزاتها، أدى إلى تفاقم السخط الاجتماعي، والتآمر الذي قاد إلى العديد من الانقلابات والاضطرابات التي استنزفت الدولة والمجتمع في العقود اللاحقة.

ثورة 14 تموز مثّلت لحظة اشتباك عميقة بين التوق الوطني إلى التحرر والتغيير وبين معضلات الإدارة ومسارات التنمية في بناء الدولة. وإذ يُسجَّل لها ما أنجزته في قطيعة العراق مع الاستعمار والتبعية، فإن تقييمها علمياً يفرض الإقرار بكونها في المحصلة ثورة حقيقية، تظل ذكراها درساً بليغاً في الوطنية العراقية، وفي أهمية المواءمة بين التحولات السياسية والاستعداد لبناء دولة عادلة ومستقرة.

***

د. عبد الحسين صالح الطائي

اكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

....................

ملاحظة: الصور المرفقة من أرشيف مؤرخ ثورة تموز الأُستاذ هادي الطائي.

كأداة قمع سياسي متدرج وعميق، في خدمة هيمنة الرأسمالية المعاصرة!

الرقابة والسيطرة الرقمية

تعمل الشركات الرقمية، بالتعاون مع الدول الكبرى، على مراقبة تحركات الأفراد عبر الأجهزة الذكية ووسائل الاتصال المختلفة، حيث تخضع جميع الأنشطة الرقمية، بما في ذلك الاجتماعات المغلقة التي يفترض أنها آمنة، للمتابعة وللتحليل المستمر. في الواقع تقريبا، لا توجد أي مساحة رقمية محصنة بالكامل 100%؛ إذ تجمع البيانات بشكل منهجي، ثم تستخدم لتقييم الأفراد والمجموعات وتصنيفهم وفقًا لأنماط سلوكهم واتجاهاتهم الفكرية والسياسية.

إضافةً إلى ذلك، تحولت الرقابة الرقمية إلى أداة مركزية لرصد التوجهات الفكرية والسياسية للمستخدمين والمستخدمات، مما يمكن الشركات والحكومات من متابعتهم واستهدافهم عبر حملات تضليلية منظمة، أو فرض عقوبات رقمية تحدد وتقلص تأثيرهم في الرأي العام. تطبق هذه الاستراتيجيات بشكلٍ ممنهجٍ وخفي ضد التنظيمات العمالية، والتنظيمات اليسارية، والمؤسسات الحقوقية والإعلامية المستقلة، حيث تواجه هذه الجهات تضييقًا متزايدًا يقيد انتشار أفكارها في الفضاء الرقمي العام عبر أساليب ناعمة غير مباشرة ويصعب رصدها. حيث توظف الخوارزميات بشكلٍ دقيق لتقييد وصول المنشورات السياسية اليسارية والتقدمية دون حذفها بشكل مباشر، مما يجعل القمع الرقمي أكثر تعقيدًا وخطورة وغير مرئي. إذ يبدو التفاعل المنخفض مع المحتوى التقدمي وكأنه استجابة طبيعية من الجمهور، بينما هو في الواقع نتيجة خوارزميات معدة مسبقًا لتقليل انتشاره، مما يخلق انطباعًا زائفًا لدى الناشطين والناشطات بأن أفكارهم لا تحظى باهتمام، وأنها تفتقر إلى الشعبية، ومن ثم يستنتجون ضرورة إعادة النظر فيها!

الاحباط الرقمي

الإحباط الرقمي أداة جديدة ومتطورة للهيمنة الطبقية، حيث تستخدم الخوارزميات والذكاء الاصطناعي بشكل ممنهج وغير محسوس، وعلى مدى طويل وبشكل تدريجي، لنشر محتوى يعزز الشعور بالعجز والاستسلام، خاصةً بين المستخدمات ومستخدمي المنصات الرقمية من التوجهات اليسارية والتقدمية. تعمل هذه الآلية على تضخيم فشل وضعف التجارب الاشتراكية والتنظيمات اليسارية، وإبراز الرأسمالية كنظام أزلي لا يقهر، مما يرسخ فكرة استحالة التغيير. كما يتم تعزيز الفردانية، والترويج لحلول فردية كالاستهلاك وتطوير الذات، مما يعزل الأفراد عن أي فعل سياسي جماعي منظم.

إلى جانب ذلك، توجه النقاشات داخل التنظيمات اليسارية نحو صراعات هامشية وتبرزها، مما يشتت الجهود ويضعف القدرة على المواجهة. تعتمد الشركات الكبرى على تحليل السلوك الرقمي لاستهداف المستخدمين والمستخدمات والمجموعات، بمحتوى يولد الإحباط، ويجعلهم يشعرون باستحالة أو صعوبة التغيير الاشتراكي. هذه السياسات والاساليب ليست عفوية، بل أداة علمية واعية لإجهاض أو إضعاف روح التغيير وضمان بقاء النظام الرأسمالي دون تحدٍ حقيقي ومؤثر.

الاعتقال والاغتيال الرقمي

يعد الاعتقال الرقمي مرحلة أكثر خطورة من الرقابة والسيطرة الرقمية، حيث لا يقتصر على تقييد وصول المحتوى، بل يمتد إلى فرض قيود تعسفية على حسابات الأفراد والمجموعات، وتعليقها مؤقتًا ولفترات مختلفة، أو حذفها نهائيًا فيما يمكن اعتباره شكلاً من أشكال الاغتيال الرقمي، يتم دون أي شفافية أو معايير واضحة أو قوانين محلية أو عالمية تدافع عن حقوق المستخدمين والمستخدمات. غالبًا ما تستخدم ذرائع مثل "انتهاك المعايير المجتمعية" أو "الترويج للعنف" كحجج لحجب هذه الأصوات، رغم أن المحتوى الذي ينشره النشطاء يكون في الكثير من الأحيان توثيقًا لجرائم الرأسمالية كدول وشركات أو انتهاكات حقوق الإنسان.

مثال على ذلك هو القمع الرقمي الذي تمارسه منصات التواصل الاجتماعي ضد المحتوى الفلسطيني الذي يوثق الجرائم الإسرائيلية ضد المدنيين. خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، قامت شركات مثل فيسبوك، إنستغرام، وتويتر وغيرها بحذف وحظر عدد كبير من الحسابات والمنشورات التي توثق جرائم الاحتلال تحت مزاعم «مخالفة المعايير المجتمعية» أو «الترويج للإرهاب»، رغم أنها كانت توثيقًا دقيقًا لجرائم حرب مثبتة وثقتها منظمات حقوق الانشان. كما جرى استهداف وكالات إعلامية مستقلة من خلال تقييد وصول منشوراتها أو حذف حساباتها بالكامل، في محاولة واضحة لإسكات الأصوات التي تكشف حقيقة الانتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين.

المراقبة الذاتية الطوعية

يتزامن القمع الرقمي وتقييد وصول المنشورات مع ظاهرة "المراقبة الذاتية الطوعية"، حيث يبدأ الأفراد وحتى المجموعات بفرض رقابة على أنفسهم، أو تعديل خطابهم السياسي، أو حتى تغيير محتواه، والتحول إلى قضايا نظرية عامة، والابتعاد عن المواجهة المباشرة مع الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، خوفًا من تقييد وصول منشوراتهم أو التعرض للحظر خلال الاعتقال الرقمي، أو الاغتيال الرقمي من خلال إغلاق حساباتهم من قبل خوارزميات الذكاء الاصطناعي في المنصات الرقمية. يؤدي هذا الخوف إلى تقويض حرية التعبير، ويصبح عاملًا مؤثرًا في إعادة تشكيل وضبط الخطاب العام حتى قبل فرض القيود الفعلية، مما يعزز الهيمنة الفكرية للرأسمالية، ويقلص مساحة المقاومة الرقمية، ويحول الإنترنت إلى فضاء مضبوط ومؤطر ذاتيًا وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.

 على سبيل المثال، خلال فترات الاحتجاجات الجماهيرية في بلدان مختلفة ضد سياسات الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، بشكل عام وبدرجات متفاوتة، لاحظ العديد من المستخدمين والمستخدمات أن منشوراتهم التي تحتوي على كلمات مثل "إضراب عام"، "عصيان مدني"، "ثورة"، أو نصوص تكشف الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، لم تحقق الانتشار المعتاد، في حين أن المنشورات ذات الطابع التحليلي العام حول الاقتصاد والسياسة لم تتأثر بنفس القدر. دفع ذلك العديد من الناشطين والناشطات إلى تجنب استخدام مصطلحات تصنفها المنصات على أنها "تحريضية"، مما أدى إلى تحوير الخطاب العام نحو محتوى أقل حدة وثورية، وبالتالي تقليص مساحة التعبير الحر وإضعاف دور وسائل التواصل الاجتماعي كأداة للتعبئة والحشد السياسي والتغيير الجذري.

تآكل الديمقراطية باستخدام الذكاء الاصطناعي

بعد السيطرة على العقول والوعي البشري من خلال الرقمنة، لم يعد الأمر مجرد وسيلة لتعظيم الأرباح الرأسمالية، بل تحول ايضا إلى أداة رئيسية لإضعاف وحتى تقويض الديمقراطية البرجوازية النسبية بدلًا من تعزيزها أو تطويرها، رغم محدودية مصداقيتها في العديد من البلدان، حيث تخضع هذه الديمقراطية لتأثير المال السياسي، والقوانين الانتخابية المجحفة المصاغة لخدمة مصالح معينة، إلى جانب عوامل أخرى. فبدلًا من دعم المشاركة الشعبية الواعية في الحياة السياسية، يجري تسخير الرقمنة والذكاء الاصطناعي لإعادة تشكيل والتلاعب بالرأي العام بما يتوافق مع مصالح الطبقات الحاكمة، عبر التأثير في الانتخابات، وتضييق مساحة النقاش الحر، وتوجيه الخطاب السياسي والإعلامي لخدمة القوى الرأسمالية المسيطرة.

إن السيطرة الطبقية على الذكاء الاصطناعي تعني أن هذه التكنولوجيا، التي يفترض أن تكون أداة لتعزيز الشفافية والديمقراطية، تستخدم فعليًا لإنتاج وترويج السرديات التي تحافظ على النظام الرأسمالي القائم. يتم استغلال تحليل البيانات الضخمة والخوارزميات الذكية لتوجيه المعلومات السياسية بما يخدم المؤسسات الرأسمالية، والأنظمة والتنظيمات اليمينية والفاشية الجديدة، والقوى الاستبدادية، مما قد يضعف قدرة الجماهير على اتخاذ قرارات سياسية مبنية على وعي نقدي حقيقي.

في ظل النظام الرأسمالي، لا يستخدم الذكاء الاصطناعي لتمكين الجماهير أو تعزيز القرارات الواعية والشفافة، بل كأداة مساهمة لتشويه الحقيقة، وإعادة إنتاج الخطاب الدعائي، والتضليل الإعلامي الذي يضعف جوهر الحقيقي للديمقراطية القائم على الشفافية وحرية الوصول إلى المعلومات والتعددية الفكرية والسياسية. يتم ذلك عبر استهداف فئات محددة بمحتوى موجه استنادًا إلى تحليل سلوكهم الرقمي، مما يؤدي إلى خلق رأي عام مصطنع يكرس الهيمنة الطبقية ويعمق الاستقطاب السياسي والاجتماعي. لا يقتصر الأمر على تضليل الناخبين والناخبات، بل يمتد إلى إعادة تشكيل بيئة النقاش السياسي، بحيث تفرغ من مضامينها الحقيقية وتشبع بدعاية تخدم الرأسمالية وافكارها اليمينية.

يتجاوز تأثير الذكاء الاصطناعي مجرد التلاعب بالمعلومات، ليصبح أداة مركزية في إعادة إنتاج السلطة السياسية الرأسمالية. فمن خلال توظيف الخوارزميات في إدارة الحملات الانتخابية، وتصميم الخطاب السياسي وفقًا لمصالح رأس المال، والتأثير على خيارات الناخبين والناخبات عبر تقنيات الاستهداف الدقيق، يتم تحييد الأصوات المعارضة وإضعاف البدائل اليسارية والتقدمية - الديمقراطية.

ومثال على ذلك، تدخل الملياردير اليميني إيلون ماسك في الانتخابات الألمانية لعام 2025 عبر منصته "إكس" (تويتر سابقًا)، حيث دعم بشكل مباشر حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، من خلال ترويج محتوى موجه بالذكاء الاصطناعي على منصته، مما أثر على الرأي العام وأعاد إنتاج الاستقطاب السياسي لصالح القوى اليمينية والنازية الجديدة.

في هذه البيئة، لم تعد الانتخابات تعكس الإرادة الشعبية حتى بشكلها النسبي، حيث تحولت إلى ساحة صراع بين الدول الكبرى والقوى الاحتكارية والطغم المالية، التي تستخدم الإنترنت والذكاء الاصطناعي كأداة للهيمنة السياسية والفكرية. يؤدي ذلك إلى تشويه التعددية السياسية وإفساد الآليات الديمقراطية النسبية القائمة، حيث يتم إما إضعاف الأصوات التقدمية أو دفع الجماهير نحو بدائل زائفة تعيد إنتاج النظام الرأسمالي نفسه، وفي أقصى الحالات إحداث تغيير سطحي فقط.

بدائل القوى اليسارية والتقدمية والحقوقية لمواجهة ذلك:

الذكاء الاصطناعي كأداة لتحرير حقوق الإنسان

 الذكاء يجب أن يتم توجيه الذكاء الاصطناعي ليكون أداةً لتحرير واحترام حقوق الإنسان، لا لتقييدها أو انتهاكها. ولتحقيق ذلك، لا بد من اعتماد مبادرات يسارية تقدمية تضمن الشفافية، الرقابة، واستخدام الذكاء الاصطناعي بطرق تعزز العدالة والمساواة، بدلًا من أن يكون وسيلةً بيد الأنظمة الاستبدادية والدول والشركات الكبرى لمراقبة الأفراد وتقليص وقمع الحريات. ينبغي النضال من اجل إنشاء أطر قانونية دولية ومحلية صارمة تجرم استخدام الذكاء الاصطناعي في انتهاك حقوق الإنسان، سواء من خلال المراقبة، أو استهداف المعارضين والنشطاء، أو فرض الرقابة الرقمية التي تؤدي إلى الاعتقال والاغتيال الرقمي وتقييد حرية التعبير.  يجب مراعاة العدالة وحقوق الإنسان الأساسية التي كفلتها المواثيق الدولية. كما يجب إخضاع جميع التطبيقات الأمنية للذكاء الاصطناعي لمراجعة قضائية مستقلة، مع إشراك منظمات المجتمع المدني في تقييم مخاطرها على الحريات، وتشكيل شبكات تضامن عالمية لرصد انتهاكات الذكاء الاصطناعي، ومقاطعة الشركات التي تبيع تقنيات المراقبة للأنظمة الاستبدادية، ووضعها في قوائم سوداء.

 لضمان ذلك، لا بد من دعم وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي وبرامج مفتوحة المصدر تدار من قبل هيئات مستقلة تضم ممثلين عن المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية، بحيث تكون خاضعة لرقابة ديمقراطية تمنع إساءة استخدامها من قبل الحكومات والشركات الاحتكارية والأنظمة الاستبدادية. يمكن لهذه الأنظمة أن تستخدم لتعزيز حقوق الإنسان من خلال الكشف عن الانتهاكات، ومراقبة أداء الحكومات، وتحليل البيانات لكشف الممارسات القمعية.

تعزيز دور التنظيمات اليسارية والتقدمية والحقوقية في مراقبة استخدام الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية، إذ يمكن بناء تحالفات دولية تضغط لإيقاف استغلال هذه التكنولوجيا في تكريس الهيمنة والسيطرة والقمع الرقمي. كما يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون أداة فعالة لمكافحة الرقابة الرقمية من خلال تطوير تقنيات تشفير البيانات وتأمين الاتصالات لحماية النشطاء والمعارضين، إضافةً إلى رصد أنشطة الحكومات الدكتاتورية وكشف خروقاتها لحقوق الإنسان. كما ينبغي تعزيز الوعي المجتمعي بخطورة الرقابة والسيطرة الرقمية وسبل مواجهتها عبر تشريع قوانين محلية ودولية تمنع انتهاك الخصوصية، وتوفير أدوات تقنية تساعد الأفراد على حماية بياناتهم وضمان حرية التعبير في الفضاء الرقمي.

الذكاء الاصطناعي لدعم الديمقراطية والمشاركة الشعبية

من الضروري تحويل الذكاء الاصطناعي من أداةٍ تساهم في تآكل الديمقراطية النسبية إلى وسيلةٍ لتعزيزها وتطويرها. يجب أن تكون التكنولوجيا عاملًا مساعدًا في تمكين الجماهير، وتعزيز المشاركة السياسية على أسس المساواة، وضمان الشفافية والنزاهة في العملية الديمقراطية. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير منصات حوار وتصويت إلكترونية آمنة وشفافة تتيح للمواطنات والمواطنين التعبير عن آرائهم والمشاركة بشكل مباشر وفعال في اتخاذ القرارات على مختلف المستويات، مما يعزز الديمقراطية التشاركية وتكون القوة والسلطة في أيدي الجماهير. كذلك، يمكن تطوير أدوات ذكاء اصطناعي تحلل وتكشف الأخبار الزائفة والمعلومات المضللة تلقائيًا، مما يحمي الجماهير من حملات التضليل التي تهدف إلى تقويض قدرتهم على اتخاذ قرارات مبنية على الحقائق. كما يمكن استخدام هذه الأدوات بشكلٍ واسع وحر ضمن مشروع عام يهدف إلى تعزيز الشفافية الإعلامية ومواجهة الهيمنة الإعلامية الاحتكارية. يتطلب ذلك أيضًا النضال من أجل تشريع قوانين دولية ومحلية واضحة تمنع استخدام الذكاء الاصطناعي في التلاعب بالرأي العام، وتضمن أن تكون المعلومات المقدمة للجمهور صحيحةً وموضوعية، وتعكس الواقع دون أي تحيز يخدم مصالح طبقية أو أيديولوجية محددة.

***

رزكار عقراوي

...........................

* مقاطع من كتابي” الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟” الرابط المجاني للكتاب: https://rezgar.com/books/i.asp?bid=3

من المؤسف حقّا أن تدخل مكان عبادة ككنس أو كنيسة أو مسجد أو مكان عبادة الأديان غير الإبراهيميّة، أو ممارسة لطقوس لها خصوصيّتها في دين أو مذهب كضريح أو حسينيّة، وتشعر بعدم الأمان نتيجة ما نراه من تحفظات وتفتيش، هذا التّشديد هو أمر طبيعيّ نتيجة لما حدث في العقدين الماضيين خصوصا من تفجير لكنائس ومساجد وحسينيّات، وما رأيناه قريبا من تفجير كنيسة مار إلياس في ضواحي دمشق، وما قامت به وزارة الدّاخليّة الكويتيّة في إقامة الشّعائر الدّينيّة العاشوريّة في المدارس بُعدا عن الحسينيّات لتحفظات أمنيّة، وهناك نماذج أخرى في أماكن مختلفة.

تعايشت المجتمعات العربيّة في خطّها الأفقي فيما بينها لقرون على مستوى جميع مكوّناتها، فطبيعيّ أن تجد تعانق الكنيسة مع المسجد في مصر والعراق وبلاد الشّام والسّودان، فعاش المسيحيون بتنوعهم مع المسلمين، يشتركون في أفراحهم وأتراحهم وتجارتهم ومعيشتهم، فألف المسلمون أجراس الكنائس، وشاركوهم أعيادهم ومناسباتهم، كذلك ألف المسيحيون أذان المساجد، وشاركوا إخوانهم المسلمين أعيادهم وأفراحهم، ولم يجدوا حرجا حتّى اليوم أن تكون مفاتيح كنيسة القيامة، وهي من أكثر الأماكن المسيحيّة قدسيّة في العالم، وإليها يحجّون؛ أن تكون مفاتيحها بيد عائلتين مسلمتين، ولم يفكّر المسلمون وهم الأكثرية أن يخربوها، أو يضايقوهم فيها، بل أسهموا في إحيائها وبقائها وصلاح عمارتها، هذا لا يعني عدم وجود حوادث سلبيّة في التّاريخ، لأسباب سياسيّة أو دينيّة أو مذهبيّة، لكن لا يلغي هذا وجود تعايش في الخطّ الأفقيّ في المجتمعات العربيّة طيلة التّأريخ.

ولمّا كنتُ في جربة بتونس، وفيها يتعايش الإباضيّة والمالكيّة مع اليهود؛ زرت الشّيخ محفوظ دحمان في مخبره المعنيّ بالتّجليد والتّرميم، ووجدتُ في مخبره مخطوطا باللّغة العِبريّة فسألته عنها فقال: «عندنا يهود في جربة يحتاجون إلى نسخ من كتبهم في صلواتهم وأدعيتهم، ويأتون إلينا لنسخها وتجليدها، والّذي تراه هو نسخ من مزامير داود، وميزة هذا الكتاب أنّ نصفه مكتوب بالعربيّة بخطّ عِبريّ، والنّصف الآخر مكتوب بالعِبريّة خطّا ونطقا، وعمر المخطوط هذا حوالي مائة وخمسون سنة تقريبا، واليهود جالية كبيرة في جربة يصلون إلى ألف وخمسمائة شخص، ومتعايشون مع المسلمين إباضيّة ومالكيّة بشكل كبير، أي في حدود مائة وخمسين إلى مائتي عائلة تقريبا، ويوجد تعامل كبير بينهم عشائريّا وماليّا مع الإباضيّة في جربة، فهناك علاقات تجاريّة وزراعيّة وصناعيّة بينهم، ولكلّ حرّيّته في معتقده وطقوسه».

وأخبرنا السّيّد مريوان النّقشبنديّ مدير العلاقات والتّعايش في وزارة الأوقاف والشّؤون الدّينيّة بإقليم كردستان العراق، أنّه أثناء «حرب داعش لليزيديين أو الإيزديين في بلدة سنجار بكردستان العراق، واليزيديون من الطّوائف الموحدة، الّتي تتخذ من الطّاووس رمزا لها، وهي أقليّة تنتشر خصوصا في العراق وسوريّة، ولهم طقوسهم الخاصّة، فلمّا حدث اضطهاد لليزيديين من قبل داعش؛ كان من كردستان جنديّ مسلم طلعت قرعته للحجّ، وقد دفع أربعة آلاف دولارا للحجّ، وقبل أربعة أيام من ذهابه؛ هاجمت داعش بلدة اليزيديين، فترك الحجّ، وذهب لنصرة اليزيديين حتّى استشهد في المعركة»، وذلك أنّهم ألفوا بعضهم، وتعايشوا بفطرتهم وسجيّتهم الإنسانيّة.

وقد رأيتُ بنفسي مصاديق أفقيّة عمليّة متنوعة للتّعايش في عالمنا العربيّ اليوم، لا أريد الإطالة لذكرها، بيد هناك أيضا نماذج تراثيّة في أدبيّاتنا العربيّة والإسلاميّة، وإن كان بعضها سلبيّا، بيد أن هناك مصاديق إيجابيّة، تعطي إضاءات يمكن الالتفاتة إليها، منها قوله تعالى: « وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» -الحج: 40- أي لولا سنّة التّدافع لهدّمت الصّوامع وهي دير الرّهبان، والبيع وهي الكنائس، وأخبرني الأب المارونيّ حنّا إسكندر أنّ «البيع هي الكنيسة لها قبّة دائريّة، وفي السّريانيّة البيعة يعني البيضة، أي أعلاها على شكل بيضة، وهنا بمعنى الكنيسة بالشّكل البنائيّ»، والصّلوات كنس اليهود، والمساجد معروفة، وسنّة التّدافع تؤدّي إلى حفظها لا إلى خرابها، ونشر الخوف فيها، وفي الأدبيّات عن أبي بكر الصّديق (ت: 13هـ): «لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصّوامع».

فأصبح من المستقرّ حفظ عبادات النّاس ولو وقت الحرب، فكيف بحالة السّلم، وأصبح مستقرّا عقلا واجتماعا أنّ الّذي يدخل أيّ دور عبادة يشعر بالأمان والاطمئنان فيها، وأنّ الاقتراب منها تخويفا أو فسادا جرم كبير، ولو اختلفوا مع دائرة المجتمع الأفقيّة عقائديّا أو طقوسيّا، فهذا لا يرفع حريّة المعتقد وممارسة الطّقوس، وحريّة أن تكون لهم أماكن عبادتهم، لها حرمتها ومكانتها، فما نراه اليوم في عالمنا العربيّ من حين لآخر من تفجير وخراب لكنائس ومساجد وحسينيّات ودور عبادة، وإرهاب من فيها؛ يقف المرء أمامها حيران، أهو تخطيط سياسيّ مسبق لإثارة الفوضى الدّينيّة والطّائفيّة في عالمنا العربيّ، أم هو انحراف فكريّ ومعتقديّ تؤمن به بعض الجماعات المتطرّفة، وتبرّر له فكريّا وعقائديّا، أم هو نتيجة خطاب سلبيّ أدّى إلى مثل هذه النّماذج الأليمة، والّتي تؤثّر سلبا في التّعايش السّلميّ، وتقضي على التّعدّديّة في العالم العربيّ، فنحن بحاجة إلى مراجعات أكبر ليس لحفظ المقدّسات التّعبديّة فحسب؛ بل لحفظ حريّات النّاس، وأنّ جميع أوطاننا العربيّة تسع اختلافاتهم وتوجهاتهم، وتتعامل معهم إنسانيّا، وتترك ما عدا ذلك لاختياراتهم، ليشعر الجميع أنّ الأمن والانتماء يأتي من داخلهم كأمّة واحدة، لا أن يكون معلّقا بجهات معيّنة يظهر خلافه عند أدنى اضطراب أمنيّ وسياسيّ.

***

بدر العبري – كاتب وباحث عُماني

(في الأكاذيب المُخادعة، والمعارف المضللة، والمكور المُهلكة)

القلم: كنت قد اعتدتُ التجسس على وحي أفكار صديقي الكاتب كيما أتعرف على طبيعة المداد الذي يسكبه في أحشائي حتى أسطر به الأوراق التي تحوي الكلمات والجمل المعبرة عن المقاصد والمآرب، تلك التي تستقبلها الأذهان فتقود بدورها المدركات والمشاعر وتولد آليات الفصل بين الأخطاء والصوائب، فبصرتُ إلهامات علوية تقود كاتبنا للكشف عن مخاطر الأضاليل والأكاذيب والمكائد التي باتت عُدة المخططين المعاصرين للحروب ومخترعي الأسلحة ومفتعلي الكوارث والمصائب، وفطنت أن الدلالات والمعاني وألفاظ الكلام ما هي إلا أجراس تنبّه الأيقاظ وتوقظ النيام، وتأكد لهم أن حروب هذا العصر لها أساليب شيطانية فالوسوسة وإفساد الأفكار، أقوى من البارود والقنابل في هدم الحضارات وتفكيك المجتمعات وإحداث الدمار.

وتذكرت لحظتها سفسطة الكذب التي ابتدعها إبليس، وصنع منها سيف المخادع وخنجر الخائن وسم المتآمر الخسيس.

وأدركتُ كذلك حكمة فلسفة الكذب التي حوتها أقوال الفلاسفة والحكماء لمناهضة وساوس الشيطان الماكر، وتيقنت أيضًا من صدق نية كاتبنا الذي أزمع أن يحدثنا عن تلك المخاطر وآليات الإنقاذ من شرورها الخفي منها والظاهر.

الكاتب: مهلًا أيها الرفيق، في زمن غاب فيه ود الصديق وحنان الشقيق؛ فلما العجلة فقد اخترقت الحجاب المستور، الكامن في السرائر من الأفكار والأمور. وقادتك ظنونك أني أهملت أسئلتك واستفساراتك التي شغلت بالك وبدلت أحوالك. واعلم أني وضعتها في بؤرة الشعور والاهتمام، وهي قيد البحث والتحري حتى تسلم جوائبها من التدليس والأوهام والإيهام.

فسؤالك عن كيفية استحالة الكلمات والمعاني والدلالات إلى قنابل وألسنة من اللهب، وصواريخ تنطلق من جوف الأرض، فتبدد سكينة الأمنيين إلى دمار تعجز عن وصفه كتب التاريخ، ذلك فضلًا عن تحول الحوارات إلى صراع وعراك بين الدول والحضارات، وانقلاب رؤساء البلاد القوية، إلى نهيبة وبلطجية، وقطاع طرق لسرقة أرزاق المستضعفين والمسالمين والمغفلين والمخدوعين بأكاذيب النخب المأجورة، والجماعات المدسوسة المفطورة على الغش وبصناعة الفتن وبالخيانة مأمورة.

ولما العجب يا صاحبي فقد سطر معجم الدروس، ومفردات القاموس عصبة من المحتالين واللصوص. فعرّفوا الحرية، بأنها لعبة مخفية، يتاجر بها في المجتمعات الرجعية وأصحاب الديانات السماوية؛ تارة باسم العقلانية والعلوم والمدنية، وأخرى من أجل المساواة وحقوق الأقلية.

وللحرية دلالة أخرى لا يعيها إلا أبناء الأمم الراقية، من الأوربيين والأمريكان وأصحاب البنوك والشركات والأقمار والاتصالات التي تجوب الآفاق السارية.

وقالوا عن العدالة: أن ميزانها من صنعهم الذي لا يقضي إلا بأحكامهم؛ فمن أبى وعصى جزاءه السجن والشنق والعصى، وإن كان مظلوماً ..

أمّا الكريم من أصحاب المعالي؛ فهو المستبد الذكي الحصيف الذي يفتح خزائنه ليعطيهم؛ فجرائمه تستحق الحماية وأنين شعبه يحتاج للأدب والرباية.

وقالوا عن العولمة: أنها خدعة وهمية يصعب تحقيقها في زمن العقول الغبية، إذ ذاك أمكن أن يكون للحديث بقيّة.

***

بقلم: د. عصمت نصّار

 

نحن أمام مشهدٍ فظيعٍ، تحولت المناسبات الدينية إلى حلبات صراع، فما عادت مِن تقاليد طائفة لذاتها، تمارسها مِن قرون بهدوء، إنما أصبحت مناكفات على الأرض وفي الفضاء. حدث في محرم هذا العام أنَّ شاعراً ألهبَ جمهورَه بالسّب والشّتم للمعتبرين عند المذهب الآخر، قابله نقيضه بتوزيع الحلوى في الأول مِن الشَّهر، على اعتبار أنَّه رأس السَّنة الهجريَّة. طُرحت المقابلة قضيةَ رأي عام، فربحتها الفضائيات برامجَ جاذبة للمشاهدين، وهي قضية فعل وردِّ فعل آنية، لا علاقة لها بمجريات التَّاريخ، فالتّاريخ شيء آخر. في هذه الأجواء انطلقت دعوةٌ مليونيّة للتطبير، وارتفعت نسب التَّكفير في برامج «بودكاست» وغيرها.

بهذا صارت دعوة محسن الأمين (ت: 1954) مِن دِمشق، وهبة الدِّين الشَّهرستاني (ت: 1967) مِن بغداد إلى التعقل في الممارسات الطُّقوسيّة، باطلةً، ولو أظهرا اليوم دعوتيهما لنقض عليهما الجمهور المخدَّر بالكراهية، فمشهدٌ ضارب رأسه بالقامة، وجالد ظهره بالسَّلاسل، ينظر للآخر، غير المتظاهر بالحزن، عدواً. لذا، يواجهه بالسّبّ والإهانة، لأنّه يعتقد أنّ البلاد بلاده، لا وجود لغيره عليها. يقابله الآخر بردِّ فعلٍ بالتَّكفير، وترى العقلاء، مِن الطَّائفتين، في «حَيص بيص» مِن أمرهم.

كتب ابن بحر الجاحظ (ت: 255هـ) في رسالة «النَّابتة» مُعظماً مقتلي عثمان بن عفان (35ه) والحُسين بن عليّ (61هـ)، كما ذكر مقاتل الآخرين، لكنَّ هاتين الفاجعتين أثارتا الأحزانَ وبقيتا تؤرقان الأجيالَ، حسب ما فهمنا مِن رسالته الموجهة إلى أحد قضاة وقته. والجاحظ عندما عادل بين الحدثين انطلق مِن الإنصاف الذي يراه، وهو أديب ومتكلم معتزليّ. بعده بقرون قال ابن تيمية (ت: 728هـ): «مِن المصائبِ العظيمةِ فإِنَّ قتلَ الحُسينِ، وقتلَ عُثمانَ قبلَهُ: كَانَا مِنْ أَعظمِ أسبابِ الفِتنِ في هذه الأمَّةِ، وقتلتهما مِن شرارِ الْخَلْقِ عندَ اللَّهِ» (مجموع الفتاوى).

لا أظن أنّ المتصارعين في حلبة الطّائفيَّة اليوم، قد قرأوا رسالةَ الجاحظ ولا فتاوى ابن تيمية، فأخذا يقابلان عثمان بالحسين، وكأنَّ الحقّ في قتل الأول، والباطل فقط بقتل الثّاني، وبالعكس، بل تصاعد الخطاب إلى تبادل التّهم، ليس أحدهما يتهم الآخر، فهذا لم يثر جمهوريهما، إنما نبشوا الماضي، فأشاروا إلى عليّ بن أبي طالب (قُتل: 40هـ) بقتل عثمان، وهم يحرصون على فقه ابن تيمية تماماً، لكنْ لا يعجبهم قوله: «وكانَ فِي جهَّالِ الفريقَيْنِ مَن يظنُّ بِعلِيِّ وعثْمانَ ظنوناً كاذبة، برَّأَ اللَّهُ مِنهَا علِيّاً وعُثمانَ: كانَ يظنُّ بعلِيٍّ أَنَّهُ أَمر بِقَتلِ عُثمان، وكانَ علِيٌّ يَحلِفُ، وهو البَارُّ الصَّادقُ بِلا يمينٍ أَنَّه لَم يقتُله، ولا رضي بقتلهِ، ولم يُمالِئ على قتلهِ، وهذا معلومٌ بلا ريبٍ مِن علِيٍّ رضي اللَّه عنه» (مجموع الفتاوى).

بالمقابل يتقيد الطَّرف الآخر بأقوال الشّيخ المفيد (ت: 413هـ)، وهو أحد أول المراجع وأبرزهم لدى طائفته، لكنه لا يُصدق ولا يحب اعتباره لملفق حكاية «كسر ضلع الزَّهراء» صاحب «أراجيف» أي فتن، وأنَّ الأئمة لم يُقتَلوا جميعاً، لا علي بن الحُسين، ولا محمد الباقر، ولا جعفر الصَّادق، ولا محمد الجواد، ولا علي الهادي، ولا الحسن العسكريّ، ويشك في قتل الرّضا (المفيد، تصحيح الاعتقاد). فإذا صدقَ قول المفيد سيُغلق «ديوان الكسبة» باسم الحُسين، والعبارة لحسين النّوريّ (ت: 1902) في «اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر»، ستبور تجارة العزّ الذي يمرح فيه ويرتع.

 لا شأن للمكفِّرين ولا السَّبابين ولا المُطبِّرين بالعمران، بل العكس يعتبره «جهال الفريقين» إفلاساً لتجارتهم. إنها معضلة كبرى عندما يُسَخر النّفوذ لعمارة الخراب، وعندما يسود الجهل ثقافةً، فما يجري فضيحة حضاريَّة، وعندما يتمكن الجاهل يرى العلمَ جهلاً، والوطنَ وما به طوعَ جهله. للإمام محمَّد بن إدريس الشّافعي (ت: 204هـ) ما يعبر عن الحال: «مِحنُ الزَّمانِ كثيرةٌ لا تنقضي/ وسرورُهُ يأتيكَ كالأعيادِ/ مَلكَ الأكابرَ فاسترق رِقابهم/ وتراه رقّاً في يدِ الأوغاد» (الدِّيوان)، وهذا لا يريد وطناً.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يتكثف النقاش داخل الأوساط الأكاديمية حول مشاركة العلماء في مناصرة قضايا الحريات والعدالة، ومن ضمنها مناصرة القضية الفلسطينية. مع تزايد عدد المشاركين من العلماء والباحثين، وأساتذة وطلبة الجامعات حول العالم، في الفعاليات لدعم فلسطين ومؤازرة الشعب الفلسطيني، وتزايد الدعوات إلى مقاطعة مراكز الأبحاث والجامعات الإسرائيلية من قبل عدد من الجامعات الغربية، ومقاطعة الفعاليات التي يشارك فيها علماء وباحثين إسرائيليين، فإن هذا التوجه يثير انتقاداتٍ داخل بعض الأوساط العلمية، ومن قبل بعض الأكاديميين الذين يخشون من أن تُقوّض المناصرة الحياد العلمي وتُثير مزاعم تحيز العلم وإساءة استخدام السلطة. على الرغم من ذلك، يرى بعض العلماء أن الدفاع عن المظلومين ونصراهم، والتصدي للظلم وفضحه هو واجب عقلي وفطري، تمليه القيم والأخلاق الإنسانية، ودفاعٌ عن مصداقية العلم. توجد مخاوفٌ بشأن استقلالية العلماء ودورهم في المجتمع في كلا طرفي النقاش، مما يُبرز التحديات التي يواجهها العلماء حالياً. وبينما لا يراهن البعض على مدى مقبولية المناصرة، فيما يقترح البعض أن يُشارك العلماء في نقاشاتٍ حول واجباتهم، وأن يُحدّدوا أنواع القيم التي تُعتبر مقبولة للتضمين في التواصل العلمي حول مناصرة القصايا العادلة. لكنني بصفتي باحثاً فلسطينياً فإنني أنحاز بالكامل لفكرة مشاركة العلماء والأكاديميين ـ بالكلمة، والموقف، والممارسة ـ في مناصرة كافة القضايا التي تمس الإنسان ومستقبله في هذا الكون، ومن ضمنها على سبيل المثال: قضية التغير المناخي، البيئة، حقوق الإنسان، السلام والأمن، الفقر والجوع.. الخ، وفي مقدمة هذه القضايا القضية الفلسطينية.

المناصرة - دفاع عن العلم أم تدميره؟

تثير الطبيعة المسيسة والمستقطبة للغاية لنقاش المناصرة تساؤلات حول مكانة العلماء والباحثين ودورهم المجتمعي. يؤكد العديد من مؤيدي المناصرة إلى أهمية دور العلماء الحيويً في مناصرة قضايا العدالة في العالم، حيث يساهمون في كشف الظلم وتقديم الحلول، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية العدالة. ويجادلون بأن مشاركة العلماء أمر مبرر لأنهم يعتبرونها مسؤولية اجتماعية أساسية للعلماء في أوقات الأزمات. تماماً مثل مشاركة العلماء في قضايا أخرى تهم البشرية مثل البيئة وتغير المناخ، ويدعون إلى المشاركة علناً وسياسياً، مثل عالمة الجغرافيا البشرية البريطانية "كيرستي هوبسون" Kersty Hobson، وعالم البيئة الأسترالي "سيمون نيماير" Simon Niemeyer، وعالمة المناخ النيوزيلندية "أميليا شارمان" Amelia Sharman. إن العلماء والأكاديميين مواطنين، كغيرهم من الناس، وبالتالي عليهم التزام بالانخراط في النقاش السياسي والسياسات، لأنه إذا لم يفعلوا فإن القرارات تُتخذ من قِبل أولئك الأقل دراية بالمنهج العلمي، والذين لا يملكون فهماً جيداً للحقائق مثل العلماء. ومع ذلك، فقد أثيرت مخاوف بشأن الصراع المحتمل بين الدعوة، والمناصرة، والمشاركة، والسعي إلى علم موضوعي خالٍ من القيم.

 يُقال إن الانخراط في مناصرة السياسات قد يؤدي إلى تصور أن المعرفة العلمية تتأثر بشكل غير مشروع بالقيم السياسية، أو أن الخبراء يسيئون استخدام مناصبهم الموثوقة لخدمة أجندات سياسية. وبالتالي، يهدد هذا التصور بتقويض المصداقية والموضوعية العلمية.

ومع ذلك لا تزال هناك أسئلة أكثر جوهرية غير مستكشفة، مثل لماذا لدى العلماء هذه المخاوف والأدوار التي يعتقدون أن العلماء يجب أن يلعبوها في المجتمع. هناك بُعدين أساسيين يجب استكشافهما: المخاوف المعرفية المتعلقة بنزاهة المعرفة العلمية وموضوعيتها ومصداقيتها. والمخاوف الوجودية المتعلقة بأدوار ومسؤوليات العلماء في سياق مجتمعي.

يُظهر كثير من العلماء أن لديهم شعورٌ قويٌّ بواجب إيصال نتائجهم إلى الجمهور وصانعي السياسات. كما يؤكد العديد من فلاسفة العلم أنه لا يمكن فصل العلم عن القيم، وبالتالي فإن الدعوة إلى علم خالٍ من القيم غير ممكنة، بل غير مرغوب فيها. ما نحدده على أنه "علم جيد" يتشكل من خلال الأحكام القيمية. القيم جزء من كيفية عمل العلم؛ إنها تشارك ـ بشكل مشروع ـ في الأحكام العلمية التي يصدرها العلماء أنفسهم، وكذلك في فهم وتقييم الدور الذي يلعبه العلم في المجتمع. إن خطاب القيم في العلم ذو صلة في سياق المناصرة، حيث يطبق العلماء المنخرطون في المناصرة أحكاماً قيمة إضافية في كيفية وما يدافعون عنه، مثل نظرتهم السياسية للعالم.

يكمن قلق البعض في أن القيم السياسية المرتبطة بالمناصرة قد تمارس أيضاً تأثيرًا غير مقبول على إنشاء المعرفة العلمية، مما يؤدي إلى علم متحيز أو "المناصرة الخفية". ومع ذلك، فإن مجرد الانخراط في المناصرة السياسية لا يعني تلقائياً أن القيم السياسية قد أثرت بشكل غير مقبول على إنشاء المعرفة العلمية.

العلم والسياسة

"طرحت مؤسسة العلوم والتكنولوجيا"  Foundation for the Science and Technology في عام 2020 ـ وهي مؤسسة بحثية بريطانية، تُوفر منصة محايدة لمناقشة قضايا السياسة التي تتضمن عنصراً من العلوم أو التكنولوجيا أو الابتكار ـ سؤالاً مُلِحًاً حول العلم والسياسة: "كيف يُمكن الجمع بينهما والحفاظ على انفصالهما؟".

تمحور النقاش، حول السبل التي يُمكن ـ بل وينبغي ـ من خلالها اتخاذ القرارات السياسية بناءً على المعرفة العلمية. خلال هذه العملية، ناقش المشاركون دور الاستقلال العلمي، وضرورة فصل العلم عن النفوذ السياسي، وإلى أي مدى ينبغي أن يشمل "العلم" الدراسة الأكاديمية الأوسع للمعنى، بما في ذلك العلوم الاجتماعية والفنون والعلوم الإنسانية.

لا شك أن العلم والسياسة يتقاطعان بطرق عميقة وهامة، هل يمكن فصلهما؟ من منظور التاريخ الثقافي، لطالما كان العلم سياسياً. إن "المعرفة" مفهوم ديناميكي وقابل للاكتشاف. وهو أيضاً مفهوم ذو موقع تاريخي. قبل القرن التاسع عشر، كان الشعر والبلاغة والفلسفة الأخلاقية تُعتبر جميعها بنفس أهمية "العلم"، إذ كانت تُعلّم تقدير الجمال والخير والحقيقة. في أواخر القرن الثامن عشر في ألمانيا، كما جادل الأكاديمي الألماني "باس فان بوميل" Bas van Bommel كانت هذه المواد الإنسانية تُمثّل في الواقع تعليماً إنسانياً من عصر النهضة، وتُفسّر على أنها "العلوم الدقيقة" (schöne Wissenschaften) على عكس العلوم الجامعية (اللاهوت والقانون والطب)، والعلوم العليا (höhere Wissenschaften) التي شملت الرياضيات والفيزياء. وبالتالي، يُمكن اعتبار أي تخصص، مجتمعًاً "علميًا"، شريطة أن يتبع المنهج الاستقرائي الأساسي لاستخلاص النتائج من الأدلة (البيانات).

أما اليوم، فقد أصبح تعريف العلم أضيق بكثير، ويقتصر على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM). يعكس هذا التحول التغييرات التي طرأت خلال القرن التاسع عشر في تعريف بعض التخصصات وترتيبها هرمياً باعتبارها أكثر قيمة - وأكثر ارتباطاً بالموضوعية و"الحقيقة" - من غيرها. وهكذا، فبينما كان يُنظر إلى الفن في السابق على أنه يكشف عن حقائق جوهرية عن الطبيعة البشرية والوجود الأخلاقي، فقد أصبح، بحلول عهد الفيلسوف الألماني "فيلهلم تراوغوت كروج" Wilhelm Traugott Krug  (1770-1842)، مجرد "عرض لما يُرضي الجمال". في المقابل، لم يكن العلم "مهتمًا بذلك قط، بل فقط بإنتاج الحقيقة أو بالأحرى اكتشافها".

لا تزال فكرة العلم كاكتشاف للحقيقة والفن كجماليات محورية في التسلسل الهرمي بين الفنون والعلوم الإنسانية في التعليم الغربي. من المألوف أن يدافع وزراء العلوم في الغرب عن قيمة العلوم الإنسانية. فهذه، في نهاية المطاف، هي "التخصصات ذاتها التي تجعل حياتنا جديرة بالعيش. إنها تُمكّننا من التفكير النقدي والتواصل. إنها تمنحنا بوصلة أخلاقية نحيا بها. إنها تُعزز تقديرنا للجمال، وتساعدنا على فهم أصولنا، بل وإلى أين نتجه. ومع ذلك، فإن العلوم الإنسانية ليست مجرد مرشد للحياة، بل هي أيضاً بالغة الأهمية لفهم كيفية وأسباب اتخاذ الناس لهذه القرارات، وكيف تنشأ وتتطور المعتقدات، وكيف يُفضّل شكل من أشكال الحجج على آخر، ولماذا يُعدّ مبدأ الموضوعية بالغ الأهمية، بل وإشكالياً، لعلم القرن الحادي والعشرين وسياساته.

إن إدراك هذه التفاعلات الحتمية بين العلم والسياسة - بدءًا من تحديد ما هو مهم، وصولاً إلى من يمكنه القيام بالحساب، ومن الاستدامة الاقتصادية للبحث إلى نطاقه الدولي وتطبيقه - أمرٌ بالغ الأهمية. فإذا لم يكن العلم موضوعياً وسياسياً دائماً، فإننا بحاجة إلى التركيز بشكل أكبر على ضمان تكامل القيم العلمية مع القيم الأخلاقية والاجتماعية.

العلم والأخلاق

يبدو أن العلم والأخلاق مجالان منفصلان تماماً، فلا صلة بينهما. في حالة اتباع العلم لمنهجه، من الضروري التسليم بصحة البحث وملاءمته؛ فلا حاجة للنظر في الأخلاق إطلاقاً. ومع ذلك، إذا قيل إن على الباحث اتباع قواعد المنهج العلمي بأمانة، وهو قيد أخلاقي بحد ذاته، ثم استنتج أنه من المستحيل وجود علم بدون أخلاق، فإن الحجة الأصلية مضللة نوعاً ما.

من الواضح أن أي كون ممكن قائم على مبادئه الخاصة التي يستحيل وجوده بدونها. تُشكّل المبادئ أساس الكون، لذا فإن رفضها يؤدي إلى دماره. نشأ العلم الحديث بعد تبني مبادئ معينة واتباعها. ألا يُعتبر هذا عملاً أخلاقياً؟ قد يختلف مفهوم "الأخلاق" باختلاف الناس. فالأشخاص الذين يلتزمون بالقواعد الاجتماعية والمبادئ العامة يُعتبرون محترمين، إلا أن سلوكياتهم وأفعالهم قد لا تُوصف بالأخلاقية.

مثلاً، السائق الذي يلتزم بقواعد وأنظمة القيادة أكثر احتراماً ممن يتجاهلها، لكن هذه القواعد والأنظمة ليست بالضرورة أخلاقية، ومن لا يلتزم بها ليس شخصاً لا أخلاقياً. وبالمثل، فإن التزام العالم بالمبادئ العلمية ليس عملاً أخلاقياً. بمعنى آخر، يوجد نظام في كل عالم يتكيف الناس معه غالباً بدافع العادة. فهل يجب أن نعتبر الأفعال المعتادة أخلاقية؟ القواعد الأخلاقية عامة وشاملة لدرجة أن تطبيقها يختلف باختلاف المواقف. أي أن الشخص الأخلاقي لا يقوم بعمل أخلاقي إلا في مواقف محددة عندما يكون على دراية بالتزاماته، ثم يقرر بناءً عليها. لذلك، يستدعي الفعل الأخلاقي الاعتراف بالتزام أخلاقي واتخاذ إجراءات لتنفيذه. لكن الوفاء بهذا الالتزام لا يعني بالضرورة عواقب إيجابية أو سلبية. فإذا كان منفّذ الفعل مُدركًا لنتيجة فعله وسببه، فإنه يكون خارج نطاق الأخلاق والحرية.

يبدو أن العلم والأخلاق لا يجتمعان، أو بالأحرى، الأخلاق تبدأ حيث ينتهي العلم. ولكن كيف يُمكن اتخاذ قرار في ظلام الجهل؟ اتخاذ القرار المبني على اليقين مستحيل في الأخلاق. يجب على المرء اختيار طريق، وقد يبدأ هذا الخيار بتحديد ما إذا كان أخلاقياً أم لا. كيف يُمكن اتخاذ قرار عندما يكون المرء غير متأكد؟ في عصرنا على الأقل، تبدو الأخلاق كمفارقة حيث يجب على المرء اتخاذ قرار عندما يكون اتخاذ القرار مستحيلاً. وهذا القرار فعل سلبي. أي أن المرء لا يتخذ قراراً أخلاقياً. لا يختار أحد الخيارات المتاحة. بل يتجنب بعض الخيارات وقد يواجه طريقاً مسدوداً، أو قد يجد الخيار الوحيد المتبقي له/لها. في مثل هذه الظروف، لا تُبنى الأخلاق على العلم، بل يتجاوز نطاقها نطاق العلم.

في هذا الجزء، لن تُثمر النقاشات حول العلم والأخلاق كمجالين مستقلين. قد يكون من المناسب النظر إلى المشكلة من منظور مختلف وطرح هذه الأسئلة: ما مكانة العلم والأخلاق في العالم الحديث؟ هل هناك أي تطابق بينهما في عالم الحداثة؟

لا يُمكن تصور العالم الحديث بدون العلم التكنولوجي. ففي هذا العالم، يتواجد العلم والتكنولوجيا في كل مكان، ويعتمد عليهما كل شيء تقريباً. في هذا العالم، لا يعتمد العلم ولا السياسة على الأخلاق، ولكل منهما أصوله وأسسه الخاصة. لكن هذا ليس نهاية المطاف. فالعلم والسياسة لا يحتاجان إلى الأخلاق، وفي النظام التقني-السياسي المعاصر، لا توجد عادةً حاجة لاتخاذ قرارات أخلاقية، لأن اتخاذ القرارات يتطلب التوافق مع النظام الكوني.

حتى العقود الأخيرة، كانت قيم العالم الحديث تُعتبر مطلقة. ويُعتقد أنه مع دخول الناس تدريجياً في النظام العلمي والفكري الحديث، سيقبلون قيمه ويدركونها على نطاق عالمي. مع ذلك، وبينما يتبنى معظم شعوب العالم، بما في ذلك شعوب الدول النامية، الرأي نفسه، يبدو أن هذا المنظور العالمي قد خف تدريجياً. فمع عولمة الاقتصاد والتجارة والتقاليد المعيشية وأنماط الإنتاج والاستهلاك، يقل احتمال تحقيق هذه القيم العالمية، بل حتى صحتها موضع شك.

ويتجلى هذا التشكك أيضاً في الممارسة والسياسة. وقد يُعتبر هذا التجلي غير مرغوب فيه، لا سيما عندما يتناقض مع القيم الغربية. في بعض الحالات، قد يتبين أنها عنيفة، وغير لائقة، وغير سارة، ولا يمكن الدفاع عنها. لم تكن هذه المظاهر موجودة حتى قبل خمسين عاماً. أما الآن، ونحن ننظر إلى الماضي، فحتى حركات مناهضة الاستعمار تُعتبر جهوداً لتبني قيم العالم الحديث.

أما الآن، فالوضع مختلف بعض الشيء. فهناك مؤشرات على اليأس من المستقبل، ولم تحقق الجهود المبذولة في التغريب والتحديث أهدافها المعلنة. يسعى الغرب جاهداً لتحقيق قيمه بأي ثمن، ولا يتسامح مع أي مقاومة أو اعتراض. يُقر الغرب بأن اعتراضاته لم تعد موجهة ضد السياسات والقمع، بل ضد إنكار وتدمير أسس الحضارة والسياسات الغربية. في هذا النزاع، العلم التكنولوجي متعدد الاستخدامات، ولم تجد الأخلاق مكاناً لها بعد.

بمعنى ما، من المقبول القول إن الدفاع عن القيم الإنسانية هو أخلاق، ولكن من الجدير بالذكر أنه لا ينبغي الخلط بين المعتقدات الشائعة والعادات الأخلاقية والقواعد الأخلاقية الصحيحة. المعتقدات الشائعة والعادات الأخلاقية مهمة، ولكن ما إن تُدافع عن هذه القيم بوسائل غير أخلاقية، حتى تتلاشى قوتها الأخلاقية. لقد أسس الغرب أنظمة سياسية وتقنية بالقوة الأخلاقية. فإذا كان هناك الآن مطلب للدفاع عن هذه المبادئ والتقاليد الأخلاقية بالسياسات والتكنولوجيا، فلا بد من وجود نواقص في تلك المبادئ والتقاليد.

قوة الأخلاق

تتطلب الأخلاق الصبر والثقة. إن السمات الأخلاقية التي صاغها رواد المعرفة (الحكمة، والشجاعة، وضبط النفس، والعدالة) كانت أخلاقاً، وليست نتاجاً لها. لا يجوز خلق هذه السمات أو الحفاظ عليها بوسائل غير أخلاقية. فالأخلاق بمعناها الحقيقي تسبق العلم والتقنية وعلاقات الناس. أما الأخلاق التي صاغها "كانط" في فكره، فقد تأسست على أساس العلم والتكنولوجيا والسياسة الغربية.

إذا فقدت الأخلاق قوتها وتأثيرها، فلا يمكن إحياؤها بوسائل خارجية. من المؤكد أن السلام والحرية لا يتحققان بالحرب والعنف، ولا يُنتج الانتقام والعداوة اللطف والصداقة. فهل من الممكن التوفيق بين المنتقمين باللطف؟ لا، إنهم يكرهون الإجماع والرفقة. ومع ذلك، فهم لم يحرموا العالم من الإجماع، بل ينتمون إلى عالمٍ يُلزم الجميع فيه بالامتثال لما يُملى عليهم. لا يملكون لغةً للتواصل مع الآخرين، وليسوا مستعدين للاستماع لما يقولون.

الحرية قيمةٌ عظيمة؛ فهي لا تتطلب القدرة على الكلام فحسب، بل تتطلب أيضاً التسامح في الاستماع. الأخلاق تقتضي قبول وجود الآخر. كلمات "جان بول سارتر" كاتب مسرحية "الجحيم" وسمّى "الآخر" جحيماً، كانت ذات دلالاتٍ كافكاوية. أي أنه كان قلقاً أيضاً بشأن الحالات التي لا يتمتع فيها الإنسان بخصوصية. ربما يكون قد أنكر وجود "الآخر" تماماً بوعيه بمعرفته "للآخر"، ونتيجةً لذلك، تجاهل الأخلاق تماماً.

إن إثارة مشكلة "الأنا" دون "الآخر" أمرٌ غير منطقي. منذ البداية، صنع الغرب لنفسه "الآخر". هذا "الآخر" غير صالح للحوار والإجماع ما لم يُدرك حالته ويخرج من هويته المصطنعة ويبدأ الإجماع. الحرية تصبح ذات معنى إذا تحقق "الآخر"، وبقبول "الآخر" والتسامح معه، تستقر وتُحفظ. العنف، أينما كان، ومن أي جهة انبثق، ومهما كانت مبرراته، يُدمر الحرية والعدالة ويُهدم الأخلاق. لقد كان "الماركيز دي ساد" و"ديني ديدرو" الكاتبان الفرنسيان العظيمان، مُحقّين في قولهما إنه كلما انفصلت الحكمة والعلم عن الأخلاق والغايات الأخلاقية، فإنهما يعملان ضد نفسيهما ويلجآن إلى العنف والوحشية. يجب إنقاذ الحكمة والعلم والحقيقة. هذا هو المبدأ الأخلاقي الأصيل في عالمنا المعاصر.

تضامن الحركة الطلابية العالمية مع فلسطين

تصاعدت حرب إسرائيل الإبادة الجماعية على غزة في خريف عام 2023، وأشعلت شرارة انتفاضة طلابية جماهيرية في جميع أنحاء العالم. أعادت هذه الانتفاضة الطلابية تركيز الجامعات كساحات معارك حاسمة ومواقع تعبئة من أجل التحرير الفلسطيني. واستناداً إلى المناطق المحررة التي شهدتها الحركات الطلابية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بنى الطلاب "جامعاتهم الشعبية" من خلال بناء معسكرات في حرم جامعاتهم. والتي أثارت جدلاً واسعاً في الأشهر الأخيرة. وشكلت الانتفاضة الطلابية الحالية تحدياً للأفكار الراسخة حول "أزمة" الجامعة، وتُزعزع استقرار الهياكل الإدارية العنيفة التي شكّلتها الجامعة أثناء إعادة تشكيل نفسها استجابةً لمطالب الاحتجاجات الطلابية السابقة.

لطالما كان تدمير التعليم العالي الفلسطيني هدفاً رئيسياً لحرب إسرائيل على غزة منذ البداية. في 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قصفت طائرات مقاتلة إسرائيلية الجامعة الإسلامية في غزة، وهي مؤسسة تعليمية فلسطينية رائدة تخدم ما يقرب من ثمانية عشر ألف طالب. وعلى مدار هذا الهجوم المُبيد، دمّرت إسرائيل جميع الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة. ويُعدّ هذا التدمير المتعمد لجامعات غزة تصعيداً لحرب المئة عام على التعليم الفلسطيني. مُنع الفلسطينيون، في ظلّ نظام الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي غير المتكافئ، من تطوير مؤسساتهم التعليمية الخاصة على مدى ثلاثين عاماً، وواجهوا جهوداً ممنهجة لمحو التاريخ الفلسطيني، وتدمير المدارس الفلسطينية، وقتل الطلاب والمعلمين الفلسطينيين منذ عام 1948.

قُوبلت الإبادة الجماعية في غزة وتدمير جامعاتها ومدارسها بانتفاضة طلابية حاشدة في الجامعات حول العالم. أعادت هذه الانتفاضة الطلابية تركيز الجامعات كساحات معارك ومواقع حيوية للتعبئة من أجل التحرير الفلسطيني. واستناداً إلى المناطق المحررة التي شهدتها الحركات الطلابية في الستينيات والسبعينيات، استعاد الطلاب البنية التحتية لمؤسساتهم وحوّلوها لبناء "جامعاتهم الشعبية" من خلال بناء معسكرات. وقد بدأ طلاب جامعة "ستانفورد" Stanford University أول معسكر في 20 تشرين أول/أكتوبر2023 واستمر لأكثر من مئة يوم. لكن المخيمات بدأت بالانتشار في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية في منتصف أبريل 2024، بعد فضّها بعنف في "جامعة كولومبيا" Columbia University. نصب آلاف الطلاب خيامهم داخل المباني وعبر الساحات والمساحات الخضراء في أكثر من 180 جامعة حول العالم. وعلى مدار أسابيع وأشهر، بنى الطلاب البنية التحتية اللازمة لاستمرارهم بينما كانوا يحشدون تضامناً مع حركة التحرير الفلسطينية. وانضم أعضاء هيئة التدريس والموظفون وأفراد المجتمع إلى التعبئة التي قادها الطلاب، مقوّضين بذلك التسلسلات الهرمية الجامعية التقليدية والحدود بين الحرم الجامعي والأحياء التي يندمجون فيها.

أصبحت المخيمات داخلياً تجارب في إعادة صياغة العالم. أو كما كُتب على لافتة رُفعت في اليوم الأول من مخيم "جامعة تورنتو" University of Toronto مقتبسة من المناضل والكاتب والسياسي الفرنسي من مارتينيك "إيمي سيزير"  Aimé Césaire"الشيء الوحيد في العالم الذي يستحق البدء به... نهاية العالم بالطبع!".

شيّد الطلاب ملاجئ وتشكيلات مكانية وتنظيمية جديدة، مُعيدين إنتاج بعضهم البعض ومُغذّين بعضهم البعض، مُبتكرين طرقاً مُختلفة لسكن الحرم الجامعي. استعانوا بنظريات مُناهضة الاستعمار، والماركسية، والفوضوية، والنسوية لتصميم حوكمة وصنع قرار أفقيين وخاضعين للمساءلة. بنوا مكتبات من كتب مُستبعدة من مجموعاتهم المؤسسية، وصمموا مناهج وبرامج تعليمية سياسية لتشمل النقد الفلسطيني المُحذوف من مناهجهم والذي غالباً ما يُعتبر خارج نطاق الخطاب الجامعي المُتعارف عليه.

وُجّهت حركات التعبئة الخارجية للمخيمات في المقام الأول نحو إدارات جامعاتهم، وتمحورت في أغلب الأحيان حول مطلبين أساسيين. الأول: أن تسحب مؤسساتهم استثماراتها من مُصنّعي الأسلحة وجميع الكيانات المُستفيدة من نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. والثاني: أن تقطع علاقاتها الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية المُتواطئة. استجابةً للدعوة الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها. واستجابةً للدعوة الفلسطينية عام 2005 لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، وبناءً عليها، حشدت انتفاضة الطلاب ضد الإبادة الجماعية في غزة من خلال تعطيل تواطؤ جامعاتهم في حرمان الفلسطينيين من الحرية. لا سيما في جامعات أوروبا وأمريكا الشمالية، التي أشار إليها الفلسطينيون كممكّنات رئيسية للفصل العنصري الإسرائيلي من خلال تعاونها المؤسسي والمالي العميق مع نظام التعليم العالي الإسرائيلي.

علماء يهود أعلنوا تضامنهم مع القضية الفلسطينية

"نعوم تشوموسكي" Noam Chomsky أستاذ جامعي أمريكي يهودي ومفكر وعالم، اشتهر بأعماله في اللغويات والنشاط السياسي والنقد الاجتماعي. يُلقب أحيانًا بـ "أبو اللغويات الحديثة". يعتبر تشومسكي، المناهض للصهيونية، أن معاملة إسرائيل للفلسطينيين أسوأ من نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، وينتقد الدعم الأمريكي لإسرائيل.

"لاري هوشمان" Larry Hochman أستاذ الفيزياء اليهودي في جامعة ميشيغان، والمعروف بكتابه "الصهيونية والدولة الإسرائيلية" Zionism and the Israeli State عام 1967، والذي قال: "لقد أُقيمت دولة يهودية في قلب العالم العربي دون دعوة أو موافقة السكان الأصليين. ولا يمكن للهجرة اليهودية التي حدثت أن تتم إلا في ظل السيطرة الاستعمارية الغربية".

"جيف هالبر" Jeff Halper عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي الإسرائيلي، الذي عاش في إسرائيل حتى عام 1973. عرّف نفسه بأنه يهودي إسرائيلي، واعتبر إسرائيل دولة "فصل عنصري". وقف هالبر بقوة ضد احتلال الأراضي الفلسطينية وهدم منازل الفلسطينيين. وكان أيضاً مديراً للجنة الإسرائيلية لمناهضة هدم المنازل (ICAHD). وأشار إلى غزة بأنها "أكبر سجن في العالم". وقال: "لقد طورت إسرائيل ما نسميه مصفوفة السيطرة، ويمكن تتبع تطور هذه السياسات بوضوح". وذكر في بيان "لا يمكنكم تصوير أنفسكم كضحايا، بل أن تكونوا رابع أكبر قوة نووية في العالم"، وأضاف لاحقًا: "كيف يُمكنكم استيعاب حقيقة أننا أقوياء للغاية، لكننا ضحايا، ومع ذلك يجب عليكم دعمنا؟ إن هذه الرسالة المُختلطة هي ما يُمثل إشكالية لإسرائيل".

"إيلان بابيه" Ilan Pappé مؤرخ وأكاديمي إسرائيلي يعيش في المملكة المتحدة، يُعرف بأبحاثه حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وخاصة كتابه "التطهير العرقي لفلسطين" The Ethnic Cleansing of Palestine.

"نورمان فينكلشتاين" Norman Finkelstein أكاديمي وعالم سياسية يهودي أمريكي ومؤلف، كتب بغزارة عن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، متحدياً في كثير من الأحيان الروايات السائدة ومنتقداً السياسات الإسرائيلية.

"جوديث بتلر" Judith Butler فيلسوفة وعالمة اجتماع يهودية أمريكية بارزة ومُنظّرة في مجال الجندر، انخرطت في القضية الفلسطينية من خلال الكتابة الأكاديمية والنشاط، مُركّزة بشكل خاص على مفهوم "الهشاشة" وأهميته في حياة الفلسطينيين.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

الوجه الخفي للتسلط في الحقل الثقافي

كنت قد قرأتُ في صحيفة المثقف الغراء ... موضوعًا حواريًا رائعًا بعنوان "جمال الهنداوي يحاور الروائي المغترب د. قصي الشيخ عسكر"، المنشور بتاريخ 03 تموز/يوليو 2025، مع ما تبعه من مداخلات تفاعلية بين الناقد صالح الرزوق والروائي قصي الشيخ عسكر، محورها ما واجههما من تهميش ومواقف سلبية من قبل بعض النقاد والمؤسسات، وقد أثّر بي هذا الحوار التفاعلي على نحوٍ لا يمكن تجاوزه. لم يكن مجرد حوار بين أديب وناقد، بل كان مرآةً لجدلية عميقة تلامس قضايا أكثر جوهرية تتعلق بطبيعة العلاقة بين الإبداع والنقد، وسلطة النقد وحريته، والذات والآخر. هذا الأثر هو ما دفعني لإثارة ظاهرة ثقافية خطيرة ومسكوت عنها كثيرًا، وهي: نرجسية الأديب والناقد، لا كحكم مسبق، بل كدعوة للتفكير، وربما أيضًا، باعثًا للبحث والتفاعل.

ففي المشهد الثقافي العربي، حيث تتشابك الهويات الإبداعية مع الهالات الرمزية، تطفو على السطح ظاهرة مقلقة لا تقل خطورة عن التهميش المؤسساتي أو الرقابة الفكرية، إنها ظاهرة نرجسية الأديب والناقد. قد لا تكون جديدة في أصلها، لكنها في السنوات الأخيرة أصبحت أكثر وضوحًا، بل أكثر تغوّلًا، في ظل فضاءات افتراضية تمنح الشهرة لمن يرفع الصوت أكثر لا لمن يعمّق الرؤية.

ان العودة الى الجذور النرجسية؛ من خلال تلمس أسبابها المتعددة والتي قد تفسر نشوء هذه النرجسية في شخصية الأديب أو الناقد تعتبر من الضرورات البديهية. فلو اخذناها من الجانب النفسي فقد تعود إلى شعور داخلي بالنقص، أو إلى رغبة دفينة في التعويض عن هشاشة سابقة. أما ثقافيًا، فإن بيئة لا تقوم على مؤسسات عادلة للنقد والتقييم، بل على الولاءات والمحاباة، ستخلق تلقائيًا حالة من الانغلاق حول "الأنا" الإبداعية، وتحويلها إلى سلطة فوق المساءلة.

ويشير بعض الدارسين، من أمثال بيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي، إلى أن "الحقل الأدبي نفسه يحتوي على "لعبة قوى" (Champ de force) يتصارع فيها الفاعلون الثقافيون على الرأسمال الرمزي، مما يدفع بالبعض إلى حماية هذا الرأسمال عبر نرجسية مقنعة".

اما السمات النرجسية في الفعل الثقافي، فيمكن ان نجدها بكل وضوح إذا تأملنا السلوك الثقافي لبعض الأدباء والنقاد، والتي من خلالها يمكن ان نرصد عددًا من الصفات التي تكشف عن هذه النرجسية:

* الفوقية الفكرية: حيث يتم تقديم الذات كمرجعية مطلقة للحكم والتقييم.

* الأنانية الإبداعية: حيث لا يُذكر اسم إلا إذا كان ممهورًا بإطراء للذات أو ربط بها.

* الغرور: الذي يتجلى في رفض أي نقد، أو في تقديم كل نقد كتحامل.

* الغيرة والخوف من المنافسة: فيتم تجاهل المبدعين الجدد، أو تحجيمهم وأقصائهم.

* الأنا العدائية: التي تتصرف مع الساحة الأدبية كأنها ميدان صراع لا حوار.

الا ان المهم هنا التأكيد على انه مهما حاول البعض التستر على هذه النرجسية بإظهار التواضع أو الانفتاح، فإن نصوصهم تفضحهم، فتراهم يتحدثون عن أنفسهم بمبالغة ملحوظة، أكثر مما يناقشون الآخرين، أو يختارون فقط النصوص التي تصب في تكريس أسطورتهم. وتنعكس هذه النزعة حتى في انتقائهم للأعمال التي يريدون من الاخرين الكتابة عنها، أو في "الحاشية" التي يدورون بها من كُتّاب وصحفيين وإعلاميين.

لا شك أن النرجسية يمكن قراءتها نفسيًا كاضطراب في صورة الذات، لكن الأخطر من ذلك هو تشكلها كسلوك ثقافي مَرَضي، تدعمه بيئة تغيب فيها آليات المحاسبة والتمحيص، وتُمنح فيها الأسماء سلطة دون مساءلة، لمجرد شهرتها أو قربها من مراكز نفوذ الوسط الثقافي.

ولعل أخطر تجليات هذا السلوك هو تأثيره على المتلقين، إذ يتحول اسم الأديب أو الناقد إلى ما يشبه "ماركة ثقافية"، يتم التعامل معها بمزيج من الخضوع والانبهار، دون أن يُقرأ فعليًا ما ينتجه.

ان البعض ممن أصابتهم هذه النرجسية لا يكتفي بتكريس ذاته، بل يسعى إلى تجنيد الأقلام من حوله. فتراهم يكتبون عنه، يروّجون لأفكاره، بل أحيانًا يهاجمون خصومه نيابة عنه، بينما هو لا يرد التفاعل والتحية بمثلها، بل يكتفي بأن يدور الجميع في فلكه، وكأنه مركز الكون، دون حوار متكافئ أو علاقة ندّية.

في الواقع أن أكثر من يدفع ثمن هذه النرجسية هم الكتّاب الجدد، إذ يُقابل طموحهم إلى الكتابة والنشر والتعبير عن آرائهم بإقصاء، أو سخرية، أو نقد جاف خالٍ من أية نية بنّاءة. بعضهم لم يحتمل تلك الضغوط، فيتراجع أو ينكفأ، بل وربما يعتزل الكتابة. إننا بحاجة ماسة إلى بيئة ثقافية تعرف الفرق بين النقد والبتر، بين التوجيه والتحطيم.

كما أن غياب أدوات المجابهة لدى هؤلاء الكتّاب، من شبكة دعم، أو خبرة، أو صوت مسموع، يجعلهم هدفًا سهلاً لنقد نرجسي لا يبتغي إصلاحًا بل إلغاءً.

لذا يجب القول نعم للنقد، لا لتجريد الإنسان من إنسانيته؛ فالنقد الحقيقي لا يهادن، لكنه أيضًا لا يُقصي ولا يحتقر. فالنقد بلا إنسانية يتحول إلى سلطة، والإبداع بلا تعاطف يتحول إلى استعلاء. الكاتب أو الناقد الذي ينسى أنه إنسان أولًا، وأن المتلقي أو المبدع الآخر هو إنسان أيضًا، يفقد روح الأدب، بل رسالته كلها.

في مقابل هذه العينات المتعجرفة، يبرز اسم الناقد جمعة عبد الله كنموذج حي ومضيء وفعال وضروري في الساحة النقدية. فهو ناقد عُرف بأسلوبه الإنساني والبنّاء، يتبنى الأصوات الجديدة، ويقرأها بعمق وصدق، لا بانحياز أو ترفّع. نقده لا يتوسل سلطة بل يستند إلى معرفة، ولا يُقصي بل يفتح أفقًا جديدة. إنه من القلائل الذين فهموا أن النقد فعل حب قبل أن يكون فعل حكم (وانا بصدد الكتابة عن تجربة الناقد جمعة عبد الله الاستثنائية).

ولإرساء بيئة ثقافية قائمة على التعددية والنقد الإنساني، لا بد من التأكيد على أن نرجسية الأديب أو الناقد ليست مجرد نزعة شخصية معزولة، بل تمثل تجليًا لبنية ثقافية مختلّة تعاني من قصور عميق في فهم الذات والآخر.

المطلوب اليوم ليس إسقاط رموز أو تحجيم أسماء، بل خلق مناخ يُكرّس القيمة لا الشهرة، ويدعم التعدد لا التمركز. فالإبداع الحق لا يزدهر إلا في ظل الحرية، والحوار، والاحترام المتبادل، حيث يكون الناقد داعمًا لا خصمًا، والكاتب منفتحًا لا متعاليًا، والإنسانية هي المعيار الأول، والأخير في كل ما نكتب.

**

سعاد الراعي

اول ماتقتضيه المروية المغيبة الجاري طمسها باسم الانقلابيه الاليه الارضوية المرتهنه للقصورية العقلية، اعادة قراءة الحدث الكبير الانتقالي بنقله من القول بالانقلابيه الالية الى الانقلابيه العقلية، مع اعتماد مايقضيه التفارق الكلي في التسميتين من معنى ودلالة، بحيث تتمكن الثانيه منهما من الغاء هيمنة الاولى، بان تضعها في محلها الذي تستحقة ضمن مسار اشمل هي فيه مجرد عتبة ومحطة ابتداء، تسنى لها ان توجد ابتداء خارج القصد المضمر في العملية التاريخيه التحولية الاشمل، خارج اللاارضوية السماوية المتعدية للارضوية الجسدية الانيه الحاجاتيه، واشتراطات تحققها المتاخر العقلي، المتحرر من وطاة الجسدية والذاهب ب "الانسان" الى الكون الاخر غير المرئي.

ولايجب ان نستغرب اذا اكتشفنا بان المروية الشائعه عن الانقلاب الالي كما صدرت عن اوربا موضع الانبجاس الالي وعممت، هي بالاحرى الاكذوبة الايهامية الاكبر التي مرت على البشرية، او عرفتها خلال تاريخها برمته، الامر المتوقع والخارج عن ارادة الكائن البشري الخاضع ادراكا لاشتراطات وظروف اليدوية الارضوية المديده، وموروثاتها الراسخه وهي تتفاعل مع حدث وعنصر انقلابي من غير نوعها، مباين لطبيعتها، فالالة وجدت في الغرب الاوربي الازدواجي الطبقي الاكثر ديناميات ضمن صنفه الارضوي، في حين انها بالاحرى وسيله وعنصرا مستجدا نوعا، من طبيعة مافوق ارضوية، كينونتها موافقة للمجتمعية اللاارضوية وتفاعليتها التحولية المتعدية لليدوية وللجسدية.

***

الانقلاب الالي هو حصرا انقلاب عقلي لاارضوي، يبدا ارضويا بصيغته الدنيا الابتداء المصنعية، باعتبارها محطة افتتاحية متبدله، مع ظهورها وفي غمرته تنقلب الديناميات المجتمعية وعناصرها الفاعله، فلا تعود المجتمعية الاولى اليدوية الارضوية قائمة، في حين يصير الاتجاه للتحول الى المجتمعية المتناظرة مع اشتراطات الانقلابيه الاليه التكنولوجية هو الغالب، وصولا الى انتهاء متبقيات المجتمعية اليدوية، ووصول الالة قمة تشكلها التكنولوجي الاعلى العقلي، وهو مايظل خافيا ومبعدا من الادراكيه بحكم قوة حضور متبقيات الطور اللاارضوي، وممكنات الاداركية العقلية المتصلة به، بحيث تعيش البشرية تا ريخها الراهن المعروف بالحداثي العصري كحالة افتراق خطر، بين الوعي، والواقع وسيرورته المتناميه، الامر الذي لاحل له ابتداء، مادامت اللاارضوية ماتزال غير قادرة بعد على النطق.

والحاصل هو الامر الطبيعي الموافق لسياقات التحولية التاريخيه المجتمعية كما هي مصممه ابتداء، فالمجتمعات تتبلور ابتداءحامله ملامح وممكنات الانقلاب التحولي المجتمعي جوهرا تكوينيا، مع نقص اساسي يمنع في البداية وعند المنطلق، المجتمعية اللاارضوية من ان تتحقق، بالذات بسبب غلبة وطغيان العامل الانتاجي اليدوي مادون التحققي اللاارضوي المرتهن تحققا لوسيلة انتاجية مختلفة، لاارضوية عقلية، ماكانت متوفرة وقتها، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان الادراكية وممكنات الوعي بالانقلابيه التحولية، وبالمجتمعية المزدوجه ومقتضياتها،والاليات الناظمة لوجودها، ولمسارات تحققها، تحتل هنا وفي مثل هذا الغرض النهائي المجتمعي، موضعا فاصلا ليس اقل فعالية وضرورة من الالة، او وسيلة الانتاج الغائبة، وعليه فان الانقلابيه التحولية حين تنشا ابتداء مع بدء تبلور الظاهرة المجتمعية، فانها تكون بحاجه لاجل التحقق الى سد النقص في مجالين هما، الوسيلة المادية، وزوال القصورية العقلية الادراكية، وذلك هو الغرض الاعلى للوجود المجتمعي، وليس منتهيات"الصراع الطبقي" كما قرر ماركس، ملزما الكرة الارضية باشتراطات التحقق الازدواجي "الطبقي" الجزئي، غير الساري كبنيه على معظم الكرة الارضية ماعدا اوربا.

تحضر اللاارضوية كونيا ضمن اشتراطات ماقبل التحقق وحكم النقص في الوسائل، بصيغة تعبيرية شاملة ضمن اشتراطات التفاعلية المجتمعية والانصبابية الشرقية الغربية في الموضع اللاارضوي الشرق متوسطي والرد عليها، متخذه صيغة التعبيرية النبوية الالهامية الحدسية الابراهيمة، مكرسة الاختراقية المضادة الازدواجية المجتمعية بصيغتها الممكنه المتناسبه مع اشتراطات الغلبة الارضوية اليدوية، محكومة لقانون الاصطراعية المجتمعية الازدواجية ودوراتها الانقطاعية، الاولى السومرية البابلية الابراهمية، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، والثالثة الراهنه النطقية التحققية مابعد اليدوية، مع منجزاتها الكبرى الذاهبة الى الانقلاب الالي، اللازم لاجل سد النقص المادي الحائل دون التحققية النهائية مابعد اليدوية الجسدية، في الدورة الاولى بالتعبيرية والمنظور السماوي الحدسي الغامر الدائم شرقا وغربا، وفي الثالنيه بتهيئة الاسباب التجارية الضرورية ماديا للانقلاب الالي على الطرف الاخر من المتوسط ببنيته المتلائمه مع اشتراطات الانقلاب الالي الابتدائي.

من اهم مايحدث كانقلاب تواجهه اللاارضوية اصطراعيا مع بداية الانقلاب الالي وصعود الغرب الاوربي، تبدل صيغة الاصطراع من الذاتي واليدوي التاريخي الى الالي الابتدائي المعمم المتغلب على مستوى المعمورة بقوة مفعول الالة وتسريعها للاليات المجتمعية في الموضع الذي انبثقت فيه، لنصبح من يومها تحت طائلة المسار التشكلي التحولي المجتمعي الالي من صيغته الاولى المصنعية ومايرافقها من نموذجية كيانيه ونوع دولة، هي الدولة/ الامة قمة صيغة ( الوطنية / القومية)، الى تجاوز الاله تطورا، الصيغة الابتداء والموقع، من اوربا ونموذجيتها التاريخيه الازدواجية الطبقية وتصادمها كينونه مع العامل المستجد وطبيعته المتجاوزه للصيغة والنموذج الموروث المعدل، بحلول العتبه التكنولوجية الانتاجية، وتصدر المجتمعية الامريكيه اللاطبقية المتشكله خارج الرحم التاريخي كصيغة اكثر ملائمه لاشتراطات التحول الالي المجتمعي بطوره الثاني، وصولا الى مؤشرات عبور الاله للصيغة التكنولوجية الانتاجية، وتهاوي كل صيغ واشكال المجتمعية والكيانات والدول المعدلة الموروثة من الطور اليدوي، الامر الحاصل اليوم ومن هنا فصاعدا، مع مايقابل المراحل الثلاث الانفة الذكر، والمنتظر الاخير منها، على المنقلب العراقي اللاارضوي، تحت طائلة الجنوح المتصل للافنائية النمطية النموذجية المسلطة من الغرب على ارض الازدواج التاريخيه النوعي الاول، ابتداء بالنموذجية الكيانيه ابان الطور الاوربي، وسحقا وازالة من الوجود بالقوة التدميرية ككيانيه راهنه، اتفاقا مع اشتراطات نفي الكيانيه الجاري تغلبه ضمن حال من التازم الشامل غير المحدد الاسباب والافاق.

يتبع ـ الثورات اللاارضوية العراقية الثلاث واللانطقة الكونيه.

***

عبد الأمير الركابي

 

تُعتبر قصيدة "رثاء طاغية" Epitaph on a Tyrant إحدى أشهر قصائد الشاعر الإنجليزي/الأمريكي "ويستان هيو أودن" Wystan Hugh Auden السياسية. تظهر في ديوان "زمن آخر" Another Time الذي نشر عام 1940. كُتبت القصيدة قبل أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتُقيّم مسيرة ونفسية ديكتاتور بأسلوب ساخر جاف. تُصوّر الديكتاتور كمناور ماهر، ومُحرّض حرب لا يرحم، ونرجسي قاتل يُعاقب بلاده عندما يكون في مزاج سيء. مع أن القصيدة لا تُسمّي قائداً أو بيئةً مُحدّدة، إلا أنها غالباً ما تُقرأ كتعليق على ديكتاتوريي عصر أودن، بمن فيهم هتلر وموسوليني. في الوقت نفسه، يبدو أنها تُلخّص طبيعة الطغاة في جميع الأزمنة والأماكن.

تصف القصيدة دكتاتوراً مجهول الهوية كفنان مختل عقلياً ونرجسياً، مصمماً على فرض رؤيته القاسية والبسيطة "للكمال" على المجتمع بأسره. من خلال تصويرها لهذا "الطاغية" تحديداً، تُحدد القصيدة سمات مشتركة بين العديد من الطغاة: براعة التلاعب بالآخرين، والهوس بالحرب، وجنون العظمة الذي يُجبر شعوبهم على مُشاركة - ومعاناة - مزاجهم الخاص. في بضعة أسطر نابضة بالحياة، تُوضح القصيدة خطر وقسوة السلطة الاستبدادية. وتُصوّر الطغاة كماليين طموحين بلا هوادة، عازمين على تشكيل المجتمع بأسره وفقاً لإرادتهم واحتياجاته.

مسيرة الطغيان

على مر التاريخ، استخدم الطغاة نفس الأساليب الملتوية لقمع الحريات مراراً وتكراراً. يتقدم مسار الطغيان على طريق ممهد بالأكاذيب والخداع. الحقيقة والشفافية عدوان للطغاة. ولكي ينجحوا، يجب على الطغاة إخماد التوق الفطري للحرية واستبداله بصراع من أجل البقاء يدفعه الخوف. ينظر الطغاة إلى الحرية والتحرر كتهديد لسلطتهم. إنهم لا يكشفون أبداً عن خططهم لإخضاع الشعب. لو كانوا كذلك، لثارت انتفاضة معارضة. بدلاً من ذلك، يستخدم الطغاة الأكاذيب والخداع ليظهروا بمظهر الخيرين، والرحماء، والمهتمين بالشعب. في الوقت نفسه، يعملون بجد وراء الكواليس لتحقيق عكس ما يعدون به تمام.

يُخفي الطغاة دائماً نواياهم الحقيقية في الاستعباد والسيطرة. يدركون أن لا أحد يرغب فيما يُفرض عليهم. ولا يُبالي الطغاة بحرية التعبير، ولا يتسامحون معها. بل يُكتمون أي معارضة بشكل منهجي. يعتمدون على قبضة حديدية لتنفيذ أجندتهم الخبيثة. الخصوصية مُستهدفة بالقضاء عليها. يريدون مراقبة سلوك الجميع واتصالاتهم.

ويستخدمون الخوف لاكتساب السلطة والحفاظ عليها. يريدون السيطرة على كل جانب من جوانب حياة الناس. الخوف أداة تُستخدم لإبقاء الناس في حالة تأهب. يُسيء الطغاة استخدام سلطتهم لمعاقبة من يتحداهم. يُخصّون المعارضين ليجعلوا منهم عبرة لغيرهم. يُريدون أن يخاف الناس من التحدث أو التصرف بمعارضة.

يُفرّق الطغاة الشعوب من أجل السيطرة. يُحرضون مختلف شرائح المجتمع على بعضها البعض بناءً على الوضع الاقتصادي، أو لون البشرة، أو الجنس، أو العمر، أو الدين، أو القيم، أو العرق. ويُدركون أن السيطرة على الناس أسهل عندما يتقاتلون فيما بينهم بدلاً من الاتحاد ضد الظلم.

يُثري الطغاة أنفسهم وأنصارهم مالياً. يحافظون على أنماط حياة مترفة بإنفاق أموال الآخرين. مصادرة تعب الآخرين هي مصدر ثروتهم. ويأخذون أيضاً من بعض الفئات ويعطون للبعض الآخر. ومن الاستراتيجيات الشائعة الاستيلاء على الراغبين في العمل لإعطائهم غير الراغبين. وهذا يُولّد عداءً متزايداً بين مختلف شرائح المجتمع، ويُبني اعتماداً كلياً على الطاغية في تلبية الاحتياجات الأساسية.

لا يعتقد الطغاة أنهم مُقيدون بالقوانين القائمة. بل يعتبرون أنفسهم فوق القانون، ويحق لهم التصرف بشكل منفرد دون الحاجة إلى طلب أي موافقة. وعندما تُترك أفعالهم الديكتاتورية دون أي اعتراض، يتشجعون على تجاوز حدود سلوكهم الخارج عن القانون. وفي النهاية، يغتصبون ما يكفي من السلطة لقمع أي معارضة بالقوة. ويحتاجون إلى اللامبالاة والرضا عن النفس للتقدم. ومن خلال الخداع الماكر، ينجحون في الواقع في حشد ضحاياهم لدعم جهودهم. ثم يُصدم ضحاياهم عندما يكتشفون أنهم هم أيضاً يعانون تحت وطأة قوة الطاغية الساحقة. لا يهتمون إلا بأنفسهم ويروجون لأجندتهم التدميرية. أي ادعاء بخلاف ذلك هو أكاذيب ماكرة.

يدمر الطغاة عمداً كل ما هو جيد وقيم في طريقهم. ويتركون خلفهم أرضاً قاحلة ممزقة من المعاناة والبؤس الذي لا ينتهي. ويصرّون حتى يوقفهم الشعب قائلين: "كفى!". يقرر المجتمع، بفعله أو تقاعسه، ما إذا كان سيختار الحرية أم الاستبداد.

المشهد العربي

تمكنت الأنظمة العربية عبر العقود التي أمضتها جاثمة فوق تطلعات الشعوب العربية، من ترويض هذه الشعوب وتخليصها من العنفوان الذي كان يميزها، ثم تدجينها وتحويلها إلى مجموعات من القطعان والطوائف والملل والمذاهب والأعراق، أقوام ضعيفة وخاضعة وصاغرة، مذعنة ومستسلمة لمصيرها، وعاجزة غير قادرة لا على تغيير واقعها ولا حتى على تحريكه.

سياسة التهجين التي اعتمدتها النظم العربية تواصلت عبر عقود متتالية، وأدت إلى محصلة مرعبة في الواقع العربي، حيث تجلت في المستويات المفزعة لمعدلات الفقر والأمية والتخلف الحضاري، وانتشار الجهل وشيوع القهر والاستبداد، وتفتت النسيج الاجتماعي، وظهور النزعات المذهبية والعرقية.

من الإنجازات العظيمة للأنظمة العربية، نجاحها في تحديد آليات واضحة لدى المواطن العربي، للربط الجدلي بين العقاب الصارم الذي لا يرحم أحداً ولا مهرب منه، وبين أية مظاهر تشير إلى الانحراف عن رؤية السلطة، أو أي سلوكيات تمرد أو رد فعل أو أقوال مخالفة من قبل البشر. ونجحت الأنظمة وأدواتها الأمنية في ترسيخ هذا المفهوم في عقول المواطنين، والذي يعني أن أي موقف مخالف سوف يعني الردع وإنزال العقاب، إذن لا بد من الخنوع والانقياد للإفلات من العقاب.

جميع الشعوب العربية تدرك أن بعض الأنظمة العربية قد اتقنت بجدارة فنون الترهيب والتفزيع والوعيد، إذ أصبح الخوف والرهبة هما الصفتان المشتركتان -تقريباً- لجميع هذه الشعوب. الخوف والرعب من الاعتقال التعسفي، الخوف من التعذيب والأذية، الرعب من جدران السجن، الخشية من الفقر والحرمان، الخوف من تالي الأيام. خوف ورعب وصل إلى حدود الشلل والانكفاء، مما أحدث حالة من الاغتراب الداخلي لدى المواطن العربي، فهو لا يشعر بهويته وانتمائه، ولا يشعر بحريته على قول ما يريد، تراه يكن البغض للنظام السياسي لكنه لا يجرؤ على الإفصاح، فإن فزعه من العقاب تجعل من إنكاره لنفسه ومواقفه وأقواله تصل إلى الدرجة العليا.

تستخدم الأنظمة العربية سياسات متعددة لإخضاع وترويض شعوبها، من ضمنها ما يعرف بسياسة العصا والجزرة. والجزرة هنا هي الانقياد والتحكم الناعم من خلال استغفال الشعوب بشعارات الحرية والديمقراطية، لكن أداة النظام للحكم تظل دون تغيير، ويظل الاستبداد جوهره. لذلك تعمد النظم العربية على إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية وتفاخر بذلك لتغطية ما لا يغطّى من السياسات الأمنية التي تحكم الناس بواسطتها. حرص هذه الأنظمة على المظاهر الخادعة للديمقراطية شبيه بحرص السجّان على طلاء جدران السجن الخارجية بألوان زاهية.

نظرية التعلم الشرطي

قام العالم الفسيولوجي الروسي "إيفان بافلوف" صاحب أهم النظريات الترابطية، وهي نظرية "التعلم الشرطي" في إجراء تجربة على أحد الكلاب، ولاحظ أن لعاب الكلب يسيل عند تقديم الطعام له، ثم ربط تقديم الطعام بقرع الجرس، ومع التكرار أصبح لعاب الكلب يسيل حين قرع الجرس حتى من غير وجود الطعام. هذه التجربة أوصلته لصياغة نظريته الشهيرة في علم النفس وفلسفة السلوك، حيث أظهرت التجربة تكون ارتباط مثير شرطي واستجابة طبيعية، من خلال تكرار الاقتران بين المثير الشرطي والمثير الطبيعي – وهو هنا الطعام- الذي يحقق الاستجابة الطبيعية أصلاً، بحيث يصبح المثير الشرطي- وهو هنا صوت الجرس- قادراً على إثارة الاستجابة وحده. ويفسر بافلوف حدوث هذا النوع من الارتباط إلى أسس فيسيولوجية بحتة مرتبطة بوظائف الدماغ.

على الصعيد البشري يتم توليد الكثير من المخاوف بذات الأسلوب الذي اعتمده بافلوف، خاصة لدى الأطفال والشباب، من خلال ربط المخاوف المشترط بمثير معين مع التكرار. فإن تم وضع سجين في غرفة مقفلة وتم تعذيبه بصدمات كهربائية على فترات متتالية مسبوقة بصوت ما، أياً كان هذا الصوت، فلنقل إنه صوت الحاكم أو الرئيس، فما يحصل أنه بعد عدد من المرات سوف يستجيب السجين لصوت الحاكم بنفس الطريقة من الخوف والفزع التي كان يستجيب بها للصدمة الكهربائية، حتى لو لم يتعرض لها بالفعل. بعبارة ثانية، إن السجين قد أشرط للاستجابة لمثير محايد.

إن الكثير من المخاوف البشرية يتم توليدها بذات الطريقة السابقة، وهذا ما يفعله -بعض- الحكام والأنظمة العربية لتدجين الشعوب وإخضاعها، وربط سلوكها وموقفها من السلطة باشتراطات تجعل الشعوب ترتعد خوفاً كلما رأت صورة القائد أو سمعت صوته، وترسيخ ارتباط الزعيم بالوطن، ارتباط قيام الأنظمة بالتضييق على الحريات والمصلحة العليا للوطن والمجتمع، وهكذا دواليك يتم دفع المواطن العربي نحو دوّامة من الخوف، والهواجس، والقلق، والاضطراب. كل هذا يجري التخطيط له بعناية في غرف سوداء مغلقة، من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للحاكم، حيث يتم توظيف علم النفس السلوكي لترويض البشر من قبل متخصصين نفسانيين واجتماعيين وأمنيين.

أساليب الترويض

تقوم الأنظمة باعتماد سياسات لترويض الناس عير طرق وأساليب منها القيام بتنظيم الكثير من المهرجانات والفعاليات والنشاطات الرياضية والفنية، وإقامة دوريات كرة القدم وتغطيتها إعلامياً، وجعلها حدثاً مهماً في حياة الناس للخروج قليلاً من واقعهم المعيشي وضنك الحياة. ثم المبالغة في الاحتفال بالأعياد الوطنية وابتداع مناسبات وطنية في محاولة تعميق الشعور الوطني لدى المواطن، وترسيخ انتمائه وهويته. وعرض صور الحاكم أو الرئيس في المؤسسات الحكومية والخاصة، في الجامعات والمؤسسات التعليمية، في الفنادق والمنتجعات السياحية، في المصانع والمزارع، في البيوت والشوارع والأزقة. وأهمية عزف النشيد الوطني حيث يرفع العلم الوطني بموازاة رفع صورة الحاكم. ولا تنسى ربط أي إنجاز يتحقق -هذا لو وجدته- باسم الحاكم والرئيس، أي إنجاز وأي نجاح وأي فوز في مباراة رياضية ما كان له أن يتحقق لولا حكمة وبصيرة الحاكم. وبعد ذلك يصبح الوطن بما يتضمنه من شجر وحجر وبشر مختزل في شخص الحاكم، بل ملك للحاكم وعائلته.

ومنذ انتشار وسائل الإعلام السمعية بداية عبر البث الإذاعي وأجهزة الراديو التي كانت منتشرة بكثرة في الأوساط العربية، ثم البصرية ودخول التلفاز إلى البيوت، أدركت الأنظمة أهمية هذا الجهاز الساحر، في التأثير على عقول المواطنين والتلاعب بها وترويضها، لأن ما يبث من خلالها من معلومات وبيانات ومواقف ورؤى وأية مضامين أخرى، يؤثر بشكل مباشر في وعي وإدراك الناس. لذلك تستخدم الأنظمة السياسية الوسائل الإعلامية لتلميع صورة الحاكم وتجميل نظامه، وتوجيه الرأي العام المحلي نحو تمجيد وتوقير هذا الرئيس ونظامه حرصاً على الوطن، ويصبح كل صوت معارض، وكل من يوجه انتقاد للزعيم أو لنظامه هو خائن للوطن. ثم يتم توظيف وسائل الإعلام لتمرير رؤية الحاكم وأفكار نظامه حول مختلف القضايا بدءًا من طريقة الحاكم في طهي الكوسا حتى فطنته في اكتشاف طبقة الأوزون.

ناهيك عن الملصقات الكبيرة واللافتات الضوئية التي تنتشر في الطرقات والميادين والجسور، ملصقات لصور القائد والزعيم والرئيس والحاكم بأمر الله، صور بملابس مدنية وأوضاع مختلفة، وصور بالزي العسكري مدججة بالنياشين والأوسمة، حتى لو كان الرئيس لا يميز بين الرقيب والعريف. ولافتات تمجد الحاكم الحكيم، العالم العليم، الحصيف المتبصر، الرزين النجيب، الألمعي الرشيد. يتم وضع اللافتات وصور الرئيس في أماكن مرتفعة مختارة بعناية،

لتظهر طبيعة العلاقة الفوقية-الدونية التي تربط المواطن بالحاكم، وتذكره دوماً أن هناك من يحكم ويتحكم بجميع حركاته وأفعاله وأقواله، فتترسخ لدى المواطن المسكين الصورة الفوقية للسلطة، بحيث يصبح خاضعاً بشكل لا إرادي لها.

أما حين يرصد الحاكم ونظامه أية بوادر تذمر من المواطنين، أو حين يريد تمرير قانون لا يقبله الناس، فيلجأ إلى إغراق الشعب في قضايا هامشية جانبية، يقوم النظام في افتعالها لإشغال الناس عن مطالبهم الأساسية. إذ يتعمد النظام الحاكم افتعال خلافات بين مكونات المجتمع، وينشر العداوة والفرقة فيما بينهم، عبر إثارة المشاحنات والتناحر المذهبي والفقهي والطائفي والعرقي والطبقي والمناطقي. ويتعمد الحاكم ونظامه بخلق نوع من الفوضى ليثير ردود فعل معينة عن بعض الأطراف أو المذاهب في المجتمع من جهة، وحتى يتمكن من تبرير القمع والملاحقات الأمنية لاحقاً للمعارضين من جهة أخرى.

الحاكم مبدع في إشعال الحرائق وافتعال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في المجتمع لإحكام سيطرته على البشر. حيث يقوم نظام الحاكم باختلاق أزمة معينة ويتولى إعلامه ضخ الشائعات المفبركة والمضللة حولها، ثم يتقدم الحاكم الحاذق الرصين حاملاً الحلول للمواطنين، يتم بموجبها تنازل الناس عن بعض حرياتهم وحقوقهم لتبديد غضب الجميع ولينتصر الوطن بانتصار الحاكم.

كيف يتم التخطيط

بداية يعمد النظام إلى استكشاف وتحديد مكامن القوة والضعف لدى الشعب، من خلال أجهزته الأمنية وعيونه المنتشرة في كل ركن. ويتم التعرف وحصر أسماء المثقفين والمفكرين والعلماء الذين يتبنون مشروعاً ديمقراطياً تنويريا، وتحديد القوى والشخصيات التي تسعى أو تفكر في التغيير، وكذلك تحديد أي شخص يحمل فكراً مخالفاً أو ناقداً. ثم يقوم النظام بالقضاء على مصادر قوة الشعب، أو إضعافها إن تعذر القضاء عليها لسبب أو لآخر. يعمل على شل فاعلية الأحزاب والحركات والأفراد، ويلاحق المعارضين، وفتح السجون بتهم أو بدون تهم، تشويه الخطاب النقدي لبعض المفكرين والعلماء، حتى تشويه سمعتهم الشخصية، يعمل على الإقصاء التام لكافة الأصوات المخالفة. يعمد على فرض رقابة صارمة على حركات الناس وأفعالها واقوالها، حتى وأنفاسها، يعمل ما يستطيع لفرض رقابته ووصايته على مصادر العلم والمعرفة والمعلومات، ويحجب مواقع في الشبكة العنكبوتية يعتبرها خطرة على نظامه.

ثم يسعى الحاكم ونظامه إلى إغراق الشعب بكل ما يلهيه عن مطالبه الرئيسية، وكل ما يشتت تركيز الناس ويمنعهم من التفكير بواقعهم، ليصبح تأمين القوت اليومي الشاغل الأساسي للناس. فيتحول الوطن إلى مناسبات لا تنتهي، ومهرجانات فنية وأدبية، وأيام وطنية، وكرنفالات رياضية، ومسابقات يشارك بها البشر تنظمها وسائل الإعلام بجوائز مالية مغرية. ويقوم الحاكم بمنح الامتيازات للجهلة والسفهاء الذين يتصدرون المشهد الإعلامي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وعلى الأصعدة الأخرى المتعددة، بينما صوت المثقفين والعلماء يتم طمسه أو اعتقاله.

تعمد الأنظمة إلى ضرب منظومة القيم والمثل لدى المواطن، من خلال جعل الحياة ضنكة وغير ميسرة، مما يجعل معها الإنسان لا يعود يهتم بالقيم، وتصاب روحه المعنوية بمقتل، إذ يصبح عاجزاً وانهزامياً وتبريرياً يؤمن أن مصابه هو مصاب الجميع، وهذا تماماً ما تبتغي الأنظمة تحقيقه.

لا يكتفي الحاكم مما سبق، بل يعمل على تشكيل معارضة مفبركة، حتى يظهر الجانب الديمقراطي من نظامه الاستبدادي. يعتمد سياسة شراء الذمم بالأموال أو المناصب، لتتشكل بطانة للنظام تسبح بحمده، وتملأ الفراغ الذي أحدثه الغياب القسري للمثقفين والمفكرين الحقيقيين، فيلتف حول السلطان بعض رجال الدين المدعيين، والمثقفين السطحيين، والجهلة، والمنافقين.

وعند رصد اية حركة لفعل شيء ما من قبل الشعب، يعمد النظام إلى قوة الردع القاسية، ثم يعقبها بإطلاق الوعود المعسولة والتطمينات المختلقة، الهدف منها حقن الشعب بالشعارات المخدرة. هكذا يقوم -بعض- الحكام العرب وأنظمتهم باستغفال الشعوب وتليين طبائعها لتطويعها ثم إخضاعها.

مآلات مرعبة

لقد وصل إخضاع -بعض- الأنظمة العربية لشعوبها مرحلة اعتادت عليها تلك الشعوب ولم تعد ترى فيها شيئاً شاذاً، بل أن بعض العرب يعتبر ذلك أمراً طبيعياً، بحيث تحولت كثير من الشعوب العربية إلى أن تمارس رقابة ذاتية صارمة على أفكارها وأقوالها وأفعالها، وأصبحت الناس توجه اللوم لبعضها البعض، بدلاً من توجيه اللوم والنقد للجاني، وتستعين بمبدأ أن على المواطن عدم توريط نفسه بالسياسة مادام يعلم مقدار القسوة التي سيبديها النظام. والمفزع أن هذا الوضع السلوكي لبعض الشعوب العربية يتم توريثه للأجيال اللاحقة، بحيث يتحول الشعب كله نسخة واحدة من الأصل.

في مرحلة متطورة تتغول الأنظمة السياسية والحكام، ويصبح الترويض والردع يطال ليس فقط أقوال وافعال المواطنين، بل يطال النوايا. ومن ثم تتسع دائرة الحظر من الحاكم إلى البطانة إلى كافة رموز النظام والحاكم المستبد، فلم يعد العقاب مستحق على أي نقد للحاكم، بل يتم إنزال القصاص بكل من يجرؤ على المساس برموز النظام.

من الفاجعة القول إن بعض من رجال الدين يكمل دور النظام في ترويض البشر وإخضاعهم، عبر الخطب في المساجد، أو من خلال الندوات والدروس الدينية التي تبث عبر شاشة التلفاز، حيث يتم تحذير الناس من الضلالة والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، وحرمة عدم إطاعة الحاكم والوالي، والخروج من الجماعة التي ترعب عامة الناس.

والمؤلم حقاً في هذا السياق هو ما تقوم به السلطتين السياسية والدينية في تعميق الشعور بالذنب لدى المواطن العربي، فيصبح الإحساس بالخطيئة والإثم يرافقان الإنسان، بحيث لا يجرؤ على مجرد التفكير بما يفعله الحاكم، أو بالشك بنزاهة النظام، فيقوم المواطن على معاقبة نفسه، حتى على أشياء لم يفعلها، بل لمجرد الشك بها.

اغتصاب الشعوب

هذا ما يجيد فعله الحاكم بمعاونة حاشيته، مدفوعاً بالأطماع والمصالح التي تبتغي أن يظل الناس في قاع الجهل والتخدير العقلي وتغييب الوعي وفقدان الأمل بالأفضل والأرقى. هذا ما تفعله السلطة ماضياً وحاضراً، حين تنكس رأسها صوب الأرض، كي لا ترى ما يحصل من تقدم

وتطور وتحضر وتنوير في هذا العالم. هكذا سيبقى الحاكم والسلطة ما دامت الشعوب تتصارع فيما بينها قبائلاً وطوائفاً ومذاهباً وأعراقاً، وتحتكم لقوانين الجاهلية، تائهة في بداوة بدائية، تقتات على شوك صحراوي في وقت يشكو فيه الأبناء والشباب من جوع حضاري لا ينفع معه سوى تغيير بنيوي شامل كامل لكافة مفاصل أطراف هذه الأمة.

وما لم تنهض الشعوب العربية وتقوم بتحطيم نظرية الارتباط الشرطي لهدم جدار الفزع، والانطلاق تجاه بناء دولة القانون والمؤسسات، فإن الحكام سيظلون يقرعون الجرس لنا دون تقديم الطعام.

***

الدكتور حسن العاصي

أكاديمي وباحث في الأنثروبولوجيا

المجتمع العربي بحاجة إلى التخلص من «عقدة الضحية»، أي الاعتقاد أنه يقع دائماً في الجانب الضعيف والمظلوم من أي معادلة سياسية أو اقتصادية تنشأ على الساحة الدولية. هذه العقدة هي السبب وراء كثرةِ حديثنا عن مؤامرات الأعداء، وتضخيمِنا قوتهم، وتقبّلنا المفرط الحلول السحرية والغيبية واللامادية بشكل عام.

المصابون بهذه العقدة لا يبحثون عن أسباب المشكلة، ولا يستمعون لمن ينفي هواجسهم أو يقترح حلولاً لِعلّتهم، بل يركزون على «النيات» والإرادات الخفية التي يقطعون بوجودها في نفوس أعدائهم. ولو سألتَ الذين يبشرون بتلك المؤامرات الخفية، لأجابوك من دون انتظار: «وهل تتوقع أن يعلن العدو نياته على رؤوس الأشهاد؟»... أي إن إقرارهم بالجهل بحقيقة ما يكتمه العدو، يتحول خلال لحظات إلى ادعاء العلم بالمكتوم... وهذا من أعجب العجب.

وأذكر أننا مررنا بحقبة كانت فيها كل خيباتنا التي تحققت، أو التي يُنتظر أن تتحقق في المستقبل، تُعلَّق على مشجب «الماسونية». ويؤكد أصحاب هذه الرؤية الكسيحة دائماً على الإمكانات الضخمة للماسونية، وقدرتها على النفوذ إلى أصعب المواقع، حتى إنها لم تترك شخصاً مؤثراً، ولا شخصاً تتوسم فيه قوة التأثير في المستقبل، في شرق العالم وغربه، إلا وجنّدته ووجّهته لهدم الإسلام وتدمير بلاد المسلمين.

وصدرت عشرات من الكتب التي لو صدقت الأقاصيص المروية فيها، لكانت الماسونية اليوم أقوى من الولايات المتحدة وحلف «الناتو» والصين واليابان مجتمعة. وتضم قوائم الأعضاء في الخطة الماسونية التي ذكرتها تلك الكتب أسماء لرؤساء دول ومنظمات دولية وقادة جيوش ووزراء وعلماء واقتصاديين وأكاديميين، وحتى قادة للمؤسسة الدينية في مختلف الأديان.

والعجيب أن عقدة الضحية تلك تتوازى، في كثير من الحالات، مع تفخيم الذات وتعظيمها والتفاخر على الغير. وقد حضرتُ نقاشات ظهرت فيها هذه الازدواجية بشكل كاريكاتوري. وأذكر مثلاً ندوة في الكويت تحدث فيها أستاذ جامعي عن مفاخر المسلمين وسبقِهم في العلم، فسأله أحد الحاضرين عن سبب انقطاع الحركة العلمية القديمة وانفصال العرب المعاصرين عنها، فقال المتحدث إن السبب هو مؤامرات الغرب، الذي لا يسمح للعرب بركوب قطار الحضارة، خشية أن يستقلوا بأنفسهم فيكونوا أقوى منه. وسرد عدداً من الشواهد وأسماء العلماء، الذين قال إن الغرب اغتالهم، بعدما رفضوا الانضمام إليه.

لعل القراء الأعزاء قد سمعوا كلاماً كهذا أو قرأوه. ولعل بعضهم قد أدرك التناقض بين جزأي الحديث: الجزء الذي يدعي السبق إلى العلم، والجزء الذي يدعي أن الغرب يمنعنا من مواصلة البحث العلمي أو التقدم في مجال العلم.

أقول إنه متناقض؛ لأن العلم ليس الكتب التي يُدعى أن التتار قد أغرقوها في دجلة، أو العلماء الذين يقال إنهم قتلوا على أيدي هؤلاء أو على أيدي غيرهم. إن أردتم الدليل فانظروا إلى اليابان وألمانيا اللتين دمرت مدنهما ومصانعهما ومدارسهما في الحرب العالمية الثانية، لكنهما عادتا أقوى وأعلى تقدماً مما كانتا، في مدة تقل عن 30 عاماً. لقد انتهت الحرب في 1945، وفي بداية السبعينات، كان الإنتاج العلمي والصناعي في كل منهما، منافساً للدول الغالبة، أي الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا.

العلم لا يندثر بحرق الكتب أو موت العلماء، إلا إذا كان محصوراً في نخب محدودة، ونعلم أن هذا لا يقيم حضارة. العلم الذي نتحدث عنه هو الذي يخلق مجتمع المعرفة، أي المجتمع الذي تسوده روحية المعرفة ومعايير العلم في تفكيره وأعماله.

وخلاصة القول؛ إن إلقاء المسؤولية في تخلفنا على مشاجب الآخرين، أعداء أو غيرهم، ليس سوى تمظهر لعقدة الضحية التي تجعل الإنسان راضياً عن نفسه، باحثاً عن السلوى في قصص الظلم أو في ممارسة الظلم على من يظنه أضعف منه، وأظننا جميعاً قد شهدنا حوادث تجسد هذه الحالة قليلاً أو كثيراً.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

أولا"- مدخل تمهيدي: من بديهيات القول ان لكل مجتمع من المجتمعات البشرية - السابقة واللاحقة - (خصائص معيارية) هي له بمثابة (الهوية) الحضارية التي تعكس طبيعته النوعية وتجسّد خصوصيته الفريدة، بحيث يتعذر علينا المماثلة بين مجتمعين أو أكثر حتى ولو كانت عناصر (الجغرافيا) وأصول (التاريخ) ومصادر (الثقافة) ومنابع (الدين) تشكل قواسم مشتركة بينهما، كما في حالة المجتمعات العربية، على سبيل المثال لا الحصر، التي وإن كانت تجمعها وتوحدها نفس القواسم المشتركة (المفترضة)، إلاّ أنها لا تلبث أن تتفرق وتتنوع على صعيد كينونة تلك الخصائص المعيارية التي يتميّز بها كل مجتمع من تلك المجتمعات. هذا ناهيك بالطبع عن استحالة العثور على مجتمعين مختلفين في ذات العناصر والأصول والمصادر والمنابع، يمكن اعتبارهما متشابهان ومتماثلان على صعيد نفس الخصائص المذكورة.

ولعل من أهم أسباب هذه الاختلافات والتباينات في (الخصائص المعيارية) ناجم عن انتهاج كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية مسار حضاري (خاص) به ومقتصر عليه، ليس لأنه أختار هذا المسار ورغب الانخراط في أتونه بمحض إرادته كما قد يعتقد البعض، وإنما لأن البيئات الايكولوجية والسياقات التاريخية والأوضاع الاجتماعية والظروف الاقتصادية التي وجد في إطارها وضمن شروطها، هي التي حتمت عليه ضرورات (التكيف) السيكولوجي و(التلائم) السوسيولوجي بما ينسجم مع تلك الشروط وهذه المعطيات. والحال ان درجة تأثير هذه الأخيرة (الشروط والمعطيات) على طبيعة تكوين الخصائص المعيار للشخصية الاجتماعية، تتناسب طرديا"مع فترات (التقادم التاريخي) وحصائل (التراكم الحضاري) للمجتمع المعني. بمعنى أنه كلما كان وجود المجتمع (أسبق) في التاريخ و(أعمق) في الحضارة، كلما ترسخت تلك الخصائص وتكرست في البنى التحتية لتلك الشخصية، بحيث تستحيل الى ما يشبه النوابض المحركة والمجسات الموجهة لتلك الشخصية. وهو ما يشهد عليه نمط (الشخصية العراقية) التي تتمتع بخصائص معيارية وصفات نوعية يتعذر إيجاد ما يماثلها لدى الشخصيات الأخرى، قد تتشارك في بعضها مع سواها من الشخصيات الاجتماعية، إلاّ أنه لا يمكن العثور عليها مجتمعة في شخصية أخرى عدا الشخصية العراقية !.

ولغرض الوقوف على ماهية تلك الخصائص المعيارية التي توفرت عليها الشخصية العراقية مقارنة بغيرها من الشخصيات الاجتماعية الأخرى، سواء تلك التي تشترك معها في (القواسم) التي سبق ذكرها (العربية)، أو تلك التي تختلف معها في نفس القواسم (الأجنبية)، فقد ارتأينا القيام باستعراض موجز ومقتضب لتلك الخصائص، مع تعمد الإعراض عن أي نوع من أنواع (المفاضلة) بين طبيعتها لجهة (الأولوية) في الحضور و(الأقدمية) في التأثير. أي بمعنى عدم التزامنا بوضع تسلسل تدرجي (تفضيلي) يعكس حجم حضورها في السلوك ومدى تأثيرها في الوعي، وإنما تركنا مسألة ورودها بصيغتها الحالية على نحو تلقائي لم يكن مقصودا"أو مخطط له مسبقا". وذلك من منطلق حقيقة أن الشخصية العراقية حين تمارس نشاطها الاجتماعي، وتظهر وعيها التاريخي، وتعكس مخزونها الثقافي، وتجسّد سلوكها الحضاري. لا تشرع بهذه الأنشطة والممارسات بدافع خاصية معنية دون سواها أو تستجيب لوازع محدد دون غيره، وإنما يحصل إدراكها للواقع ويأتي انخراطها في المجتمع كحاصل تأثير تلك الخصائص المتخادمة مجتمعه.

ولعل هناك من يظن أن هذه الخاصية من (التضرع) و(التشفع) التي يبديها الإنسان العراقي حيال كل من يمتلك سلطة سياسية، أو سلطان ديني، أو جاه اجتماعي، أو تفوق اقتصادي، أو امتياز ثقافي، هي من المؤشرات التي تحسب له ولا تحسب عليه، اعتقادا"منه أنها تظهر مدى تمسكه بالقيم لدينية، ومراعاته للأعراف الأخلاقية، وتحليه بالتواضعات العرفية، لاسيما وأنه لا يختلف عن أقرانه من شعوب العالم التي تشاطره ممارسة هذا الضرب من السلوك الإنساني. ولكن في الحقيقة ان هذه الظاهرة / الحالة لا تنطوي – من حيث القيمة الاعتبارية والكرامة الإنسانية - على أية مزايا يمكن إسباغها على من ينخرط بهذه العلاقة الاستزلامية بين من يأمر - يطاع، وبين من ينفذ - يطيع، والتي غالبا"ما تكون عوامل (القمع) السياسي، و(التجويع) الاقتصادي، و(الردع) النفسي، و(الانخلاع) الوجودي، هي ما يضطره الى الانخراط بمثل هذا الأتون المدمر. والحال، بدلا"من أن تكون هذه الأنماط السلوكية الشاذة مرهونة بظروفها الزمانية وشروطها المكانية، بحيث تنتفي الحاجة باللجوء إليها حالما تختفي تلك الظروف المؤقتة والشروط الاستثنائية، استحالت – بالتقادم والتراكم - الى صفات بنيوية ثابتة في السلوك وخصائص معيارية قارة في الوعي.

وإذا كنا قد توصلنا الى إحصاء / حصر خمسة (خصائص معيارية) أساسية تميّزت بها الشخصية العراقية وتفوقت فيها على سواها من الشخصيات الأخرى، فهذا لا يعني بتاتا"إننا توصلنا الى (القول الفصل) الذي لا يمكن معه رصد وتشخيص خصائص أخرى يمكن نسبتها الى هذه الشخصية. ولكننا آثرنا إبراز أكثرها حضورا"في السلوك وأشدها تأثيرا"في الوعي كما أسلفنا، مع الإشارة الى إننا خصصنا لكل خاصية من هذه الخصائص المعيارية حلقة خاصة بها ومقتصرة عليها، نستعرض من خلالها مصادر التكوين وأسباب الصيرورة ودواعي الاستمرار على النحو التالي :

ثانيا"- الخاصية الاستعراضية (الهنبلة) : التفاخر بالأنساب والتنابز بالألقاب

يعد أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة ذي قار الدكتور (سلمان محمد رشيد الهلالي) أول من أستخدم عبارة (الهنبلة) لوصف طبيعة الشخصية العراقية، وذلك خلال بحثه في ماهية (النسق) السوسيو- ثقافي الذي حشرت داخله هذه الشخصية دون أن تفلح في التغلب عليه والخروج منه، بحيث كلما حاولت الإفلات من أساره والتخلص من قيوده، كلما عاودت الانزلاق فيه والانجذاب إليه سواء بوعي أو بدونه، وكأنما هي (منوّمة) مغناطيسيا". وعبارة (الهنبلة) الازدرائية التي يتداولها العراقيين فيما بينهم لانتقاد شخص ما، هي كناية وصفية لكل من ينسب لنفسه (خصال) و(شمائل) لا يملكها في الأصل، وإنما يحاول أن يوهم الآخرين بأنها جزء من كيانه وصلب شخصيته، والغاية من ذلك – كما نعلم - انه يسعى لإخفاء هشاشته ومدارات عجزه، والظهور من ثم بمظهر (الوحيد) في عصره و(الفريد) في زمانه.

والحقيقة ان لهذه الخاصية (الاستعراضية) تاريخ طويل يمتد الى مئات السنين يوم كانت حياة (البداوة) تسود هذه الربوع المتصحرة، باستثناء رقع متناثرة من (المدن) و(البلدات) التي هي أقرب عمرانيا"وسكانيا"الى (القرى) و(الأرياف) منها الى المدن الحقيقية، هذا بالإضافة الى طغيان القيم والأعراف (القبلية) و(العشائرية) التي كانت تضبط إيقاع العلاقات المضطربة بين شعث جماعات امتهنت نشاط الغزو والنهب والتخريب. ولما كانت حياة الإنسان تقوم على هذا الضرب من العيش والعلاقات في بيئة عدائية باستمرار، كان لابد ألاّ يكون فقط خشن الطباع وصلب العريكة فحسب، وإنما أن يواظب على الاندماج بجماعته والتماهي مع قيمها والدفاع عن حياضها؛ أولا"لضمان سلامته الشخصية والأسرية، وثانيا" لتأمين حاجاته المادية والمعنوية، وثالثا"للحفاظ على سمعته وهيبته.

وفي إطار مثل هذه الظروف والأوضاع والمعطيات ما كان للجماعات المتنافسة على شحة الموارد الاقتصادية والمتصارعة على فرض الهيمنة الجغرافية، إلاّ أن تفاخر في أصلابها وأنسابها وتباهي باستعراض قوتها وقدراتها، ليس فقط لإثبات ذاتها أمام منافسيها وخصومها من الساعين الى ذات الأهداف فحسب، وإنما لردع إرادتهم وبثّ الخوف في نفوسهم ومن ثم حملهم على التفكير ألف مرة قبل يجرؤا لانتهاك مجالها الجغرافي أو التطاول على سلطانها السياسي. من هنا نشأت ونمت النزعة (الاستعراضية) التي اشتهر بها الإنسان (البدوي) المحاط ببيئة عدائية لا ترحم الضعيف أو المتردد، بحيث أضحت له هذه النزعة بمثابة مقوم أساسي من مقومات كيانه الشخصي والقبلي على حدّ سواء. ولهذا فليس من المستغرب أن يبدو الإنسان العراقي – باختلاف مستوياته الثقافية والحضارية - شديد التعلق بأصوله (القبلية – العشائرية)، حتى ولو أظهر العكس في بعض الحالات الخاصة مراعاة منه للظرف أو الحالة التي تستوجب منه الظهور بمظهر الإنسان (المتحضر) المتسامي فوق عصبياته الانثروبولوجية.

والجدير بالملاحظة ان سيرورات وديناميات (المجايلة) الاجتماعية والثقافية لعبت - ولا تزال تلعب - دورا"أساسيا"في ثبات وديمومة هذه النزعة لدى معظم الجماعات العراقية، سواء منها التي تعيش في الريف أو تلك التي تسكن في المدن، لاسيما وان الغالبية العظمى من سكنة هذه الأخيرة هم من أصول ريفية أو قروية، لم تبرح قيم وأعراف (البداوة) تؤطر الكثير من تصوراتهم وعلاقاتهم وسيكولوجياتهم. ولعل ما زاد الطين بلّة، ان كل الذين حكموا (الدولة) وتحكموا ب(المجتمع) على مدى قرن (1921 – 2025 )، ليس فقط أنهم لم يهتموا بمعالجة هذه الظاهرة والحدّ من آثارها المدمرة على آفاق التطور الاجتماعي والحضاري كما كان يزعم في الخطابات والشعارات فحسب، وإنما تعمدوا تكريسها – لا بل وتغذيتها - في الوعي والسيكولوجيا الجمعيين، لغرض استغلال واستثمار دورها في ترسيخ الانقسام والتشرذم بين الجماعات ومن ثم إبقائها في حالة من الضعف وعدم القدرة على تحدي السلطة الحاكمة من جهة، وتثبيت سلطتهم وتعزيز سيطرتهم وتقوية قبضتهم وفرض إيديولوجيتهم من جهة أخرى.

وحيثما تسود الكيانات (القبلية) و(العشائرية) و(الطائفية) و(الاثنية) وتشرأب قيمها وأعرافها وسردياتها ورموزها، على خلفية انحسار سلطة الدولة واستشراء الفساد في مؤسساتها من جهة، وتراخي قبضة القانون وانعدام هيبته وتلاشي ردعه – كما هو حاصل في العراق – فلن يكون أمام الإنسان العراقي سوى مخرج واحد لا بديل له، وهو اللجوء الى (قبيلته) أو (عشيرته) أو (طائفته) أو (إثنيته) أو كلها مجتمعة، وذلك للاحتماء بحياضها والاستنجاد بقوتها والتباهي بصيتها والتفاخر بأصالتها، كما كان يفعل آبائه وأجداه من قبل. وهكذا، بالتقادم والتراكم، استحالة (الظاهرة) السيكولوجية التي استوجبتها ظروف خاصة وسياقات محددة، الى (واقعة) سوسيولوجية متواترة لم تلبث أن تطورت الى (خاصية) بنيوية ضمن معمار الشخصية العراقية، بحيث بات من الصعب العثور على عراقي – بصرف النظر عن تحصيله العلمي ورصيده الثقافي ومستواه الوظيفي - يقدم نفسه للآخرين بصفة هويته (الوطنية / العراقية) الجامعة، دون أن سبقها بانتمائه (القبلي) وولائه (الطائفي) وأصله (الإثني) وانحداره (المناطقي).

ثالثا"- الخاصية الاتكالية (اللاأبالية) : الحاجة الدائمة الى منقذ أو مخلّص

على مدى قرون متطاولة من الزمن كان الإنسان العراقي ولا يزال يعاني ويكابد الأمرين ؛ ليس فقط من جور السلطات السياسية (المحلية) و(الأجنبية) التي سامته شنى صنوف القمع والردع والتجويع، بغية كسر إرادته واخصاء شخصيته ومسخ هويته ونسخ ذاكرته فحسب، بل وكذلك من طغيان الطبيعة الايكولوجية ونزق قوانينها وقساوة مناخها وشحة مواردها. وهو ما انعكس سلبا"على تشكيله النفسي وتكوينه السلوكي واعتقاده الديني، بعد أن لمس ان كل المحاولات والمبادرات التي خاض غمارها للخلاص من هذه المآزق والإفلات من تلك المخانق، بائت بالفشل ولم تجدي نفعا"إن لم تكن عمقت جراحه وزادت معاناته وضاعفت مكابداته. بحيث أفضت به هذه الحصائل المريرة الى الشعور بالإحباط النفسي الدائم واليأس الوجودي المستمر، للحدّ الذي أفقده القدرة الذاتية على إبداء المقاومة إزاء كل عارض، وساقه للارتماء في أحضان الاستسلام وتاركا"مصيره للمجهول.

وحين لا يجد المرء في نفسه ما يساعد على النهوض من الكبوات، ولا ما يقاوم به الصدمات، ولا ما يدرأ عنه التحديات. سرعان ما تتراخى عزيمته وتتداعى مقاومته، ويفقد بالتالي زمام أمره ويفوض مآل مصيره الى جهة أو مصدر خارجي قد يكون ؛ ديني (الملك / الإله)، أو اجتماعي (السيد / الشيخ)، أو سياسي (الزعيم / القائد). وهو ما حصل بالنسبة للإنسان العراقي الذي لم تقتصر خاصية (الاتكال) لديه على مصدر واحد من تلك المصادر المذكورة، وإنما شذّ عن مخلوقات الله الأخرى التي تستشعر الضعف في ذاتها وقلة الحيلة لديها إزاء ما يواجهها من مصاعب وما يعترضها من تحديات. حيث طالما لجأ الى رموز تلك المصادر وفقا"لدوافع براغماتية (مطلبية) متدرجة، بدأ بالأقل شأنا"وأدنى مكانة الى الأرفع شأنا"والأعلى مكانة، وذلك وفقا"لطبيعة الحاجة أو الغاية التي تستدعي منه اللجوء الى هذا المصدر أو ذاك. هذا دون أن يفرط - في بعض الأحيان – بطريقة مخاطبتها (مجتمعه) كل بحسب مقامه وقدرته، حيث يشرع يتوسلها ويستعطفها ويستنجد بها لكي تبادر الى (إنقاذه) و(تخليصه) مما هو فيه من هوان الحال وعواقب المآل، مظهرا"أمامها وبين يديها أدنى مستويات الضعف وأقصى درجات التذلل، معتقدا"بذلك أنه كلما كان أكثر توسلا"وأشد تضرعا"، كلما كانت استجابة تلك الرموز أسرع وأنفع.

وإذا ما تابعنا تطور هذه الخاصية لدى الشخصية العراقية ومن ثم تحولها من الحالة (الاضطرارية) الى الحالة (المعيارية)، وفقا"لسيرورات التحقيب التاريخي (القديم، والوسيط، والمعاصر)، فإنه بالإمكان موضعة كل مصدر من تلك المصادر (الخلاصية) التي كانت ولا تزال تستهدفها تلك الشخصية في طاب العون وتقديم المساعدة. فعلى صعيد الحقبة التاريخية (القديمة) كان المصدر الأثير والمؤثر بالنسبة للإنسان العراقي في طلب الحماية ونشدان السلامة، هو (الملك / الإله) الذي كان مواظبا"على استعطافه واسترضائه بصرف النظر عن طبيعة الظروف التي كان يمر بها حربا" أم سلما". حتى أنه من النادر خلو بيت أو قرية أو مدينة من وجود (مقام خاص) لرمز الملك / الإله حيث تقدم له النذور وتقام من أجله الصلوات، للحدّ الذي ان الأعداء الذين كانوا يغزون بعضهم البعض الآخر خلال عصر دويلات – المدن، كانوا يدركون أن وقع الأذى بالشخص المستهدف سيكون أشدّ إيلاما"، وأن حجم الضرر بالمدينة المعنية سيكون أشد وطأة، حين تستهدف تلك الرموز الدالة على كونها موجودة معهم وحاضرة بينهم من منطلق ان تحطيم مقامها أو إزالة رمزيتها هي بمثابة إعلان هزيمة المدينة واستسلام سكانها.

وأما على صعيد المرحلة التاريخية (الوسيطة) حيث سادت العلاقات (العبودية) و(البطريركية) و(الإقطاعية) ربوع الجغرافيا العراقية، فقد حصل انزياح نوعي في اهتمامات وتوجهات الإنسان العراقي المسحوق باتجاه مصدر (خلاصي) آخر، وهو المعني بمزدوج (السيد / الشيخ) بعد أن لمس أن مصيره ومصير أفراد أسرته بات مرهونا"برضى ورعاية هذا الرمز السلطوي الجديد. ورغم كل المعاناة التي كان يكتوي بلظاها والمكابدات التي يتجرع مرارتها جراء الممارسات التعسفية اللاانسانية التي كان يتعرض لها من قبل (أسياده) الطغاة، إلاّ أنه لم يفعل شيئا"إزاء تلك الظروف المزرية والأوضاع الشاذة، سوى أنه استسلم خانعا"لجبروت أولئك الأسياد معتبرا"ذلك أنه من الأمور الطبيعية التي تتسق ونمط العلاقات الاجتما – الاقتصادية السائدة بين (السيد والعبد)، بين (الشيخ - الإقطاعي والفلاح). وهكذا فقد ترك لهذه الرموز (الخلاصية) المهيمنة كل ما يرتبط بشؤون حياته الشخصية ومصير وجوده الاجتماعي، لتقرر له ما ينبغي عليه فعله أو الامتناع عنه، للحدّ الذي تحول معه الى ما يشبه (السلعة) حيث يباع ويشترى مع الموجودات المادية والحيوانية التي زمامها تلك الرموز. وهو الأمر الذي استتبع أن تكرّس لديه النزعة (اللاأباالية) حيال كل ما يقع عليه من مظالم ويجري حوله من انتهاكات، طالما كان يظن / يعتقد ان هناك كائن / كيان يمكن (الاتكال) على قدرته و(الاحتماء) بسطوته، لإنصافه من المظالم الكثيرة وحمايته من الانتهاك المستمرة، لاسيما وأنه لم يفتأ يقتات على خلفيات ومرجعيات أورثته تلك الحاجة المستديمة الى انتظار (منقذ) أرضي أو (مخلص) سماوي !.

رابعا"- الخاصية النكوصية (الارتدادية) : الماضي يأسر الحاضر ويؤطر المستقبل

ليس في تاريخ العراق الحديث والمعاصر ما يلفت انتباه الإنسان العراقي ويستحوذ على اهتمامه ؛ لا على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الحضاري أو الإنساني، بحيث يشده الى الواقع المعاش ويغريه للانخراط في حراك المجتمع الملموس، اللهم سوى النكبات المتكررة والويلات المتوالية التي باتت جزء من حياته منذ لحظة ولادته في أحضان البؤس والخوف والحرمان، وحتى لحظة مماته في شتات الغربة النفسية ومنافي الضياع الوجودي. ولهذا نجده لا يعير اهتماما"كافيا" بما يجري في الزمن الحاضر، بقدر ما يولي اهتمامه ما جرى في الزمن الماضي، لذلك فهو دائم التطلع الى الوراء ومشدودا"الى ما وقع في التاريخ ببعديه (الواقعي) و(المتخيل)، حاملا"في نفسه الملتاعة حنينا"جارفا"الى كل ما له صلة بالماضي الآفل.

ولعله من المناسب الإشارة الى أن ليس كل حالة (ارتداد) صوب (الماضي) تعدّ رجوعا"بالمعنى (النكوصي) السلبي، إذ ان الكثير من شعوب العالم – حديثها وقديمها – مارست هذا الضرب من الاستعادة (للماضي) وتحيين أحداثه واستحضار وقائعه، ليس بدافع (الحنين) المرضيي للأمجاد السالفة والاكتفاء بتأمل رموزها والتفاخر بانجازاتها، وإنما بوازع من الاتعاض بدروسها والاستفادة من عبرها بقصد تجنب أخطائها وتلافي عيوبها. أما في حالة الإنسان العراقي فالماضي بالنسبة إليه ليس مجرد أحداث مضت ووقائع انقضت يستطيع استدعائها في اللحظات الحرجة والمنعطفات الحادة من حياته، لتبين المسار الذي سلكته الظاهرة أو الواقعة المعنية ما بين لحظة التكوين ولحظة التمظهر، ومن ثم الكشف عن الخلفيات والمرجعيات التي ساهمت منحها هذه الخاصية دون تلك، وإماطة اللثام عن السيرورات والديناميات التي ساعدت على بروزها بهذا الظرف دون ذاك، بما يجنبه الشطط في صياغة الأحكام المنطقية ويمنعه من الانحراف عن بلورة التقييمات الواقعية. وإنما هو يدرك الماضي لا بالمعنى (النسبي) الذي يعبر عن سيرورة من المحطات الزمنية المتعاقبة التي يفضي بعضها الى بعض عبر مسار تطوري متدرج قابل الى (التراجع) و(النكوص)، بل هو يعيش الماضي بالمعنى (المطلق) والمفارق للواقع الذي يلمسه ويمارسه بشكل يومي، بحيث يحيله الى مجرد (فكرة) مهيمنة على سيرورة (التاريخ) بكل انقطاعاته وملابساته فحسب، و(رؤية) متحكمة بديناميات (المجتمع) بكل تناقضاته وصراعاته.

وفي الوقت الذي حولت فيه الأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق (سلطانية – ثيوقراطية)، و(ملكية – ارستقراطية)، و(جمهورية - شمولية)، حاضر الإنسان العراقية الى جحيم حقيقي يفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة، لم تفتأ أجهزتها البيداغوجية والإيديولوجية المتفننة في شتى ضروب الخداع والتضليل، من تزويق وتزوير (ماضيه) بمختلف أنواع (الاختلاقات) و(التلفيقات)، بحيث يبقى مشدودا"الى تلك الحقب الأسطورية والخرافية (الطوباوية) ومتعلقا"بها من جهة، وزاهدا"بما يجري في (حاضره) الفائض بالمآسي والطافح بالفواجع من جهة ثانية، مثلما يجهل أو يتجاهل ما سيكون عليه شكل (مستقبله) في القادم من الأيام من نذر ومخاطر من جهة ثالثة. هذا بالطبع دون تفرط تلك الأنظمة باستثمار الأرصدة الاعتبارية الضخمة التي تتوفر عليها وتحتكم إليها الثقافات (الفولكلورية) الملئية بقصص الأبطال الخارقين وحكايات السلف العظام، والتي غالبا"ما كانت (مؤسطرة) و(مؤمثلة) في العقل الجمعي العراقي الذي يمتاز بالطابع العاطفي والانفعالي. ولعل هذا يفسر لنا سرّ تهيب البعض من المؤرخين والباحثين ممن يتحلون بالواقعية في التحليل والموضوعية في التأويل، من الخوض في غمار هذه (التابوات) المعطلة للعقل والمكبلة للإرادة على خلفية إحاطتها بالممنوعات الاجتماعية والمحرمات الدينية منذ قرون.

والمفارقة أنه كلما عظم شأن الخطب الذي يحيق بحياة الإنسان العراقي وهو يجابه التحديات اليومية على مختلف الصعد والمستويات، كلما كان ميله لاستحضار (الماضي) بكل مناقبه ومثالبه، فضائله ورذائله أقوى وأشدّ، لا لكي يستقرأ الأحداث ويحلل المعطيات ويستخلص الدروس ويتعظ بالعبر، وإنما لكي يحتكم إليه في جدالاته البيزنطية ويستنجد به في صراعاته الدونكيشوتية، دون أن يراع الفوارق الزمنية والأبعاد المكانية التي تفصل ما بين العصور والحقب والمراحل، وما تنطوي عليه من اختلافات جوهرية في ميادين السياسة وحقول الاجتماع ومضامير الاقتصاد وأنماط الثقافة وتضاريس الجغرافيا. وهو الأمر الذي كلفه الكثير من الكوارث والمآسي ليس أقلها اجترار أوهامه وتكرار أخطائه وتواتر معاناته، للحدّ الذي أفقده حسّ الانتماء للواقع الذي يعيش والولاء للمجتمع الذي ينتمي، وبالتالي حصاد المزيد من حالات (الاغتراب) و(الاستلاب) و(الضياع) و(الانخلاع).

خامسا"- الخاصية المزاجية (اللامبدئية): سهولة التحول الإيديولوجي من النقيض الى النقيض

كنا قد ألمحنا ضمن فقرة الخاصية (النكوصية)، اتصاف العقل العراقي بصفات الانفعال والمزاجية، والمقصود بذاك ان صاحب هذا العقل حين يتعاطى مع معطيات الواقع وينخرط في حراك المجتمع، لا يشرع من حقيقة (الترابط) البنيوي بين الظواهر الطبيعية، و(التفاعل) الجدلي بين المكونات الاجتماعية، و(التكامل) الوظيفي بين معطيات الأولى وسلوكيات الثانية. وإنما يحدد مواقفه، ويبني تصوراته، ويقنن تصرفاته، انطلاقا"مما تمليه عليه الحالة (المزاجية) التي يمر بها ويشعر فيها خلال ظرف زماني أو مكاني معين. إذ أن بندول طبيعته السيكولوجية لا يتأثر بالقضايا التي لها علاقة بالقيم (الوطنية)، أو المثل (الأخلاقية)، أو المبادئ (الإنسانية)، أو المعايير (الحضارية). بقدر ما يميل هذا البندول باتجاه المنافع الشخصية والدوافع الفئوية التي تشكل - في حالة الإنسان العراقي - النوابض الخفية للشخصية العراقية الملتبسة.

والحقيقة ان لهذه الخاصية (المزاجية) أسباب تاريخية غائرة لا ترتبط فقط بكوارث (الحاضر) وما تسببت له من هوان فحسب، وإنما هي تنتمي الى مآس (الماضي) وما أورثته له من أحزان، حيث صعب على الإنسان العراقي إدامة الشعور بالطمأنينة والركون الى الاستقرار، في بيئة جغرافية - إيكولوجية طالما كانت قاسية عليه وعنيفة ضده، الأمر الذي طبعت شخصيته بطابع سيكولوجي يتسم بالخوف من الواقع المعيش والقلق من المصير المجهول. فبقدر ما كان هذا الإنسان يكافح لضمان وجوده من الاندثار والحفاظ على نوعه من الانقراض، بقدر ما كانت عوامل الطبيعة وعناصر الجغرافية تشعره بعجزه وقلة حيلته إزاء تطويعها لإرادته وتدجينها لحاجاته. وعلى ما تذكر كتب التاريخ والحضارة، فان معاناته وقلقه لا يقتصران فقط على ما تمخض عن تواتر الغزوات واستمرار الصراعات من دمار عمراني وخراب حضاري، بحيث كلما تقدم خطوة الى الأمام اضطرته تلك الغزوات والصراعات الى التراجع خطوات عدة الى الوراء فحسب، وإنما فداحة ما أصابه من جور الطبيعة القاسية وما لحق به من أضرار جراء ضراوة نوباتها الدورية كذلك. لاسيما تلك المتمثلة بتغيير مسارات نهري دجلة والفرات بشكل دائم، الأمر الذي يضطره الى هجره أماكن سكنه وترك أراض زراعته باستمرار، هذا بالإضافة الى ما كان ينوبه من خسائر مادية وبشرية خلال مواسم الفيضانات المدمرة وما ينجم عنها من مجاعات رهيبة وأوبئة فتاكة، ناهيك بالطبع عما تسببت به ظواهر أخرى لا تقل ضررا"مثل ؛ الجفاف والاطماء والملوحة.

وفي إطار هذه الظاهرة، فقد قدمت لنا تجربة الأحزاب السياسية العاملة في العراق (الشيوعية والقومية والإسلامية) منذ العقود الأولى للقرن الماضي وحتى كتابة هذه السطور، الكثير من الحالات التي تشي بأن قسم كبير من الأعضاء المنخرطين في تنظيمات تلك الأحزاب، انسلخوا في مرحلة من المراحل أو محطة من محطات نشاطهم السياسي عن أحزابهم السابقة، بحيث تحولوا من أقصى (اليسار) الى أقصى (اليمين) وبالعكس، دون أن ينتابهم أدنى شعور بالحرج جراء هذا الانقلاب المفاجئ والمحيّر. وربما هناك من يعزو هذه الظاهرة الى حصول نضوج (فكري) وارتقاء (ثقافي) بالنسبة للشخص المتحوّل من إيديولوجيا (اليمين) الى إيديولوجيا (اليسار)، هذا في حين ينظر الى الشخص الذي فضّل الخيار المعاكس – كأن يتخلى عن انتماؤه الشيوعي أو القومي السابق لصالح انتماؤه الإسلامي اللاحق – بمثابة نكوص معرفي وارتداد فكري وتقهقر حضاري. إلاّ أن كلا وجهتي النظر هاتين تخفقان في تشخيص الأسباب الحقيقية وتحديد الدوافع الفعلية التي تكمن خلف هذا التصرف، من حيث كونها تؤسس هذه الرؤية أو هذا التصور بناء على أحكام مسبقة لا صلة لها بالواقع.

ومن الجدير بالملاحظة ان الإشارة الى هذه الخاصة المعيارية لدى الشخصية العراقية، لا يراد منها (الانتقاص) من شأن هذه الشخصية أو الإحياء بأنها غير جديرة بالثقة، باعتبار كونها جبلت على الافتقار الى فضائل (المبدئية) الفكرية والأخلاقية، بقدر ما يراد منها التأكيد على أنها حصيلة (الاضطرار) الوجودي لمواجهة فرشة التحديات المتمثلة؛ بقسوة الجغرافيا، وعنف التاريخ، وتعسف السياسة، وتخلف الاقتصاد، وتطرف الاجتماع، وتعصب الثقافة، وتطيف الدين كذلك. بمعنى أن صيرورة هذه الخاصية هي نتاج ظروف قاهرة وشروط قاسية حتمت على الإنسان العراقي أن يراع ضرورة (التكيف) السيكولوجي مع ما تستدعيه هذه وتلك من مواقف طارئة وسلوكيات استثنائية، إذا ما أراد أن يتجنب الخسائر المادية والمعنوية والوجودية المتوقعة. وبتقادم هذه الحالة على مدى قرون وتراكم عواقبها النفسية، أضحى ما كان عابرا"ومؤقتا"في حياة هذا الإنسان شيء أشبه بالخاصية البنيوية القارة في اللاوعي، بحيث طبعت شخصيته الملتبسة بطابع (الشك) و(الحذر) من كل ما تضطره الحاجات اليومية - الآنية للتعاطي معه، سواء على صعيد العلاقات الشخصية، أو الارتباطات السياسية، أو الولاءات الإيديولوجية. بحيث يترك لنفسه مسافة آمنة يستطيع من خلالها الإسراع ب(التراجع)، ومن ثم تغيير المسار السابق في اللحظات الحرجة والانعطافات الحادة التي يستشعر أنها باتت تنذر بالخطر.

ولكي لا نبدو مجحفين وغير منصفين إزاء هذا السلوك المتردد والمتقلب الذي يبديه الإنسان العراقي خلال تعامله مع معطيات الواقع الاجتماعي، للحدّ الذي يكون فيه مدعاة للإدانة والاتهام ب(المزاجية) و(اللامبدئية)، فإن من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن مواقف وسلوك الحركات السياسية التي كان ينتمي إليها وينخرط في أنشطتها، كانت من العوامل المساهمة والمؤثرة في تكريس هذه الخاصية في سلوكه، ومن ثم وتغذيتها بكل ما يمنحها الديمومة والبقاء في وعيه. فمنذ أن أبصرت هذه الحركات السياسية النور على أرض الممارسة وهي تعاني ليس فقط (الانقسامات) و(الانشطارات) بين قياداتها المهووسة بزعامة أحزابها والاستئثار بنفوذها والاستحواذ على امتيازاتها فحسب، وإنما تخلل تاريخها المضطرب سلسلة من (المساومات) و(التحالفات) التي أضرت بمبادئها وأهدافها وبرامجها، بحيث لم تعد تحضى بتلك (الهالة) وتنال ذاك (البريق) الذي كان لها في السابق، وهو الأمر الذي وسم أغلب انتماءاته السياسية ب(الظرفية) وولاءاته الإيديولوجية ب(السطحية).

سادسا"- الخاصية الانشطارية (اللامعيارية): تعدد الانتماءات وتنوع الولاءات

إذا ما جمعنا ما سبق من الخصائص المعيارية السالفة بعضها الى بعض، فإن حصيلتها ستفضي الى خاصية أخرى مهمة توفرت عليها الشخصية العرقية، ألا وهي الخاصية الانشطارية أو (اللامعيارية). بمعنى أن اهتمامات الإنسان العراقي لا تنحصر في موقف واحد أو توجّه معين أو تصور محدد، بحيث يمكنك الاستدلال على ما يعتقد فيه أو يعتمد عليه أو ينتمي إليه، وإنما هو خليط من كل هذا وذاك بما يفضي الى التشويش والبلبلة. وربما هناك من يرى أن هذه الخاصية هي من الأمور الجيدة والايجابية التي ينبغي الدعوة لها والتشجيع عليها والانخراط فيها، بدلا"من أن ينظر إليها بمنظار النقد والتجريح، من منطلق ان ظاهرة (التعدد) و(التنوع) هي من المؤشرات الأساسية التي أضحت تدل على النضوج الفكري والتوازن النفسي والرقي الحضاري.

والحقيقة أنه لا تثريب على من يرى في ظاهرة (التعدد) و(التنوع) دليل عافية اجتماعية ونفسية وحضارية، ولكن بشرط ألاّ تكون هذه الظاهرة على حساب القضايا (المعيارية) التي هي بمثابة الأسس والركائز التي يقوم عليها مدماك المجتمع وتحدد مآل مصيره، وإلاّ فأنها ستتحول – عاجلا"أم آجلا"- الى عامل نشط من عوامل الاحتراب الاجتماعي والخراب الاقتصادي واليباب الحضاري. فهل أدلكم على نموذج أو تجربة تثبت لكم ذلك ؟! أنظروا الى حال المجتمع العراقي كيف تحولت ظواهر (التعدد) و(التنوع) في الأرومات القومية – الاثنية، والانتماءات القبلية – العشائرية، والمرجعيات الحضارية – الثقافية، والانحدارات الجهوية – المناطقية. الى صواعق شديدة الانفجار أحالت كيان المجتمع العراقي الذي كان يظن يوما"أنه كالبنيان المرصوص، الى شظايا متناثرة من الأقوام والملل والطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر، لا يجمعها جامع سوى الضغائن والأحقاد والكراهيات.

ولعل ما يجعل من الخاصية الانشطارية (اللامعيارية) التي تتميز بها الشخصية العراقية مصدرا"لتعميق الخلافات والانقسامات القائمة، ومنبعا"لتزايد الكراهيات والصراعات، هي أن هذه الشخصية تفتقر لحد الآن – رغم باع تاريخها الطويل – الى ما يلم شعثها ويرمم صدوعها ويجمع شملها، على أساس سرديات تاريخية مشتركة، ورمزيات وطنية موحدة، وهويات حضارية واحدة. بحيث لا تمنحها فقط (المناعة) الفكرية والنفسية حيال شتى النعرات والعصبيات التي تعصف بها من كل صوب فحسب، بل وكذلك تمنحها (الصلابة) الوطنية والحضارية إزاء مختلف المحاولات الرامية الى تكسير إرادتها وشق صفوفها وبعثرة وحدتها، وهو الأمر الذي يفسر لنا سرّ استمرار معاناة ومكابدات هذه الشخصية من مظاهر (الهشاشة) البنيوية إزاء الصدمات، و(الرثاثة) الحضارية إزاء التحديات.

ومما فاقم من مساوئ هذه الخاصية وعمق تداعياتها على صعيد الوعي والسلوك الجمعيين، هو أن هذا (التفتت) في الانتماء و(التشتت) في الولاء، اتسما – إن جاز لنا القول – بالطابع العابر للتاريخ (اللاتاريخي). بمعنى أنهما لا يخضعان لسيرورات التحقيب الزمني التي من شأنها تأطير الظاهرة أو الموقف بناء على مقتضيات الحالة القائمة، واستنادا"الى معطيات السياق السائد، بحيث يجاريان ما يتعرض له الواقع من تغييرات وتحولات، ويحايثان ما يطرأ عليه من تطورات انزياحات. وإنما يتخطيان حدود الملموس والمعيش في ذلك الواقع، ويتجاوزان على شروطه الموضوعية ويتساميان فوق خصوصياته الذاتية. ولذلك فليس من المستغرب بقاء هذه الخاصية (اللامعيارية) لصيقة في كينونة الشخصية العراقية كما الظل، رغم كل ما شهده المجتمع العراقي من تقلبات سياسية، وتغيرات اجتماعية، وتوجهات إيديولوجية، وتحولات تاريخية.

وعلى الرغم من مزاعم (الإصلاح) و(التحديث) التي روجت لها أنظمة الحكم السابقة في العراق، سواء منها (السلطانية) أو(الملكية) أو (الجمهورية)، فإن تحولا"نوعيا"في بنى الوعي وأنساق الثقافة وتمثلات الذاكرة، لم يطرأ على ما كان سائدا"فيها ومهيمنا"عليها منذ عشرات السنين إن لم تكن المئات أي تغيير أو تطور يذكر، الأمر الذي دأبت خلالها أجيال العراقيين المتعاقبة على مراعاة ما كانت تحمله من مضامين، والالتزام بما كانت تحضّ عليه من قيم، والخضوع لما كانت تمثله من رموز. ولهذا فقد حافظ أغلب العراقيين بشكل لافت على عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم المتوارثة أبا"عن جد، حيث كانوا حريصين على استمرارها وديمومتها لا في علاقاتهم الاجتماعية وتواضعاتهم العرفية فحسب، وإنما اجتافوها في وعيهم وتمثلوها في سلوكهم أيضا"، كما لو أنها واجب أخلاقي لا يجوز التفريط فيه أو فرض ديني لا ينبغي التهاون بشأنه.

وكما هو متوقع في مثل هذه الوضعية المأزقية، فقد لبثت الشخصية العراقية تعاني ليس فقط حالة (الازدواج) في مهاد وعيها وأنماط سلوكها، كما سبق للعلامة الراحل (علي الوردي) أن شخصها في وقت مبكر، وإنما الابتلاء ب(التشظي) في الانتماء و(التشتت) في الولاء، بقدر ما تجسّد من ثقافات فرعية، وتحمل من هويات تحتية. ولذلك نجد ان الإنسان العراقي يعيش في حالة من (السيولة) و(الهلامية) الدائمة، بحيث يدهشك – في بعض الأحيان – حجم التناقض في مواقفه وعمق التعارض في تصرفاته، حتى لتظن أنه يعيش في عدة أزمنة (ماضي وحاضر ومستقبل)، ويقيم في عدة أمكنة (أرياف وقرى ومدن)، وينتمي لعدة جماعات (طبقية وقبلية وعشائرية)، ويحمل عدة هويات (دينية وطائفية ومذهبية)، ويجتاف عدة إيديولوجيات (شيوعية وقومية وإسلامية)، ويتبنى عدة ثقافات (فولكلورية وحداثية وما بعد حداثية) (الخ. والمفارقة أنه في كل هذا الكم الهائل من التناقضات والتعارضات والتقاطعات، لا يجد هذا (الإنسان – اللغز) ما يبعث على الحرج في نفسه، أو يثير الدهشة لدى الآخرين، ذلك لأنه مقتنع تماما"ان ما يعتقده به من آراء وما يفعله سلوكيات، لا يتعارض البتة مع ما هو سائد في مجتمع تآلف مع / وتواضع على ذات القيم والأعراف والتقاليد، حيث (اللامعيارية) فضيلة عظمى، و(اللامبدئية) امتياز كبير !.

***

ثامر عباس – باحث عراقي

 

أعطى العِلم لتقنيات الحرب أكثر مما أعطى لتقنيات الرَّفاهية؛ فالشّرّ والخير لا يتساويان في النتائج. أباد اختراع الدِّيناميت، عندما دخل الحروب، مِن الحياة أكثر مِن الطُّرق التي شقها، ولم تكفِ جائزة «نوبل» تخفيفاً للأضرار التي أسفر عنها؛ لأنَّ الأمر لم يكن بيد العلماء، ولا الحكماء الفلاسفة، الذين أرادهم أفلاطون(قبل الميلاد)، في جمهوريته حكاماً، وبعده أبو نصر الفارابي(تـ: 339هج) في مدينته الفاضلة.

عودة على بدء، تنقرض مع أسلحة الدَّمار الشَّامل الحياة؛ أدواتها تجاوزت السُّيوف والرِّماح، والأحجار التي ترمى بالمنجنيقات، أسلاف المنصات العملاقة، المزودة بالمتفجرات الهائلة، التي تمحو النَّهار بإطفاء الشّمس. اختلفت أسلحة الدَّمار الشَّامل، حسب الأزمنة، ومعناها باختصار تحرق الأخضر واليابس. بل عند الحروب الصَّغيرة، بين معارضة وسُلطة مثلاً، أفتى فقهاؤها بجواز رمي السّموم في الأنهار والآبار، فيموت الجنود والفلاحون والأسماك، وصاحبها يبررها، ما زال فيها انتصار «المؤمنين» حسب عبارته، وجواز تفجير القطارات بما تحمله مِن أطفال ونساء؛ وعند الاضطرار جواز أكل لحوم المخالفين(احتفظ بكتب هؤلاء).

لكنَّ وجدتُ فناً قديماً في أسلحة الدَّمار الشّامل، تجاوز فتاوى هؤلاء، أنَّ أحدهم اقترح على قائده لاقتحام مدينة «نصيبين» العصية، بتوجيه مفارزَ تجمع العقارب مِن «شهزور»(كركوك اليوم)، فكانت مشهورة بها، وتُملأ بها جرار مع التراب، توضع في المنجنيقات، وترمى في وسط المدينة، فتقتل سمومها مَن تقتل، ويفرّ منها مَن يفر، وينشغل مَن ينشغل بتعقبها لقتلها، فيتم الاقتحام؛ وبالفعل حسب الرواية تم ذلك بنجاح(ابن أعثم، فتوح البلدان)؛ لكن للانتصار السَّريع ثمنه، فالعقارب لا تترك المنتصرين يهنؤون.

كتب الأديب السُّعوديّ ميرزا الخويلدي، في «الشّرق الأوسط»(الأربعاء 2025/6/25): «الحرب بين جاسم الصَّحيِّح وبريخت»، عن أماني الشّعراء في السّلم، وملامستهم لشرور الحرب على الحياة؛ والشّاعران عربيّ وأوروبيّ، ولكلّ منهما زمنه. وجدتُ مَن اعترض، في مكالمة معي، على الخويلدي، بعد إرسال المقال إليه لإعجابي به، ترك المعترض قضية السّلم والحرب، مهتماً كيف يضع الخويلديّ شاعره المشرقي الجزيري مع شاعر أوروبا الألماني بريخت؟! غير أنَّ الشّاعر المطبوع، إنّ كان شمالياً أو جنوبياً، واحداً في جوهر نصه عن الواقع، مع اختلاف لغته وقوام قصيدته، فـ «فضاعات» الحروب لا تختلف. فما قاله جاسم الصّحيّح تعبيراً عن ألم دفين على العمران؛ وأماني شعبه في المستقبل، و«الحرب حين تجيء/ تمحو الفرق ما بين السّنابل والقنابل/ والحرب حين تضيء/ تطفي شعلة الأحلام في دمنا/ وأحلام المشاعل...». قابل ذلك الكاتب بنص بريخت(1938) الذي كان قلقاً على ألمانيا وفلسفتها مِن تهور زعيمها: «يا جنرال دبابتك آلة جبارة/ تسحق الغابات...»؛ فالتعبير هو هو بحكم الأمنيات، والمعاناة واحدة. كانت وما تزال دواوين الشّعراء ملأى بقصائد السَّلام؛ والتحذير مِن الحروب؛ لكن إنَّ شرقوا وغربوا، وأجادوا القريض أو الحر أو المنثور، لم يتقدم أحدهم على «ميمية» زُهير بن أبي سُلمى(قبل الهجرة)، في محاولة درئه للحرب، وكانت بالأيدي، قبل اختراع المنجنيق، وظهور أفكار الموت الشّامل، تقليداً للطواعين وعظائم الأوبئة، وقبل استخدام الدّين فيها لتبرير فضاعاتها، وقد ورث في المكان جيل جاسم الصَّحيّح زهيراً؛ وهذا كان ردي على مَن انتقد الخويلدي، كونه قرن جاسماً ببريخت. مما قاله ابن أبي سُلمى في الحرب، التي لم تتعد أسلحتها السّيوف والرّماح، غير أنْه ذمها كأنها جرت بسموم العقارب وأسلحة اليوم: «فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرَّحى بثِفالها/ وَتَلْقَحْ كِشافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ/ فَتُنْتِج لَكُمْ غلْمانَ أشأمَ كلّهمْ/ كَأَحْمَرِ عادٍ ثُمّ تُرضِع فَتَفْطِمِ»(الزَّوزنيّ، شرح المعلقات السَّبع)؛ وتعرفون كيف تعمل الرّحى الطَّحين، وكم مِن ميليشيا وجماعة مسلحة، أشأم مِن «أحمر عاد» (عاقر ناقة صالح)، فرضتها الحروب علينا. هذا، وحصل استخدام العقارب في الحرب قبل سبعة وعشرين وأربعمئة وألف مِن السِّنين، ولكم حِساب تطور أدوات الموت بعد ألف عام ويزيد.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

كتب: كوري روبن

ترجمة: علي حمدان

***

الرأسمالية في طورها المتأخر مصطلحٌ غامض. قد يعني التأخر الموت أو النهاية، كما هو الحال عندما نتحدث عن جدي الراحل أو وقت متأخر من بعد الظهر. عندما استخدم المنظر الاجتماعي الألماني فيرنر سومبارت المصطلح لأول مرة في أوائل القرن العشرين، كانت الرأسمالية المتأخرة تعني نهاية الرأسمالية. ومع ذلك، فإن كلمة "متأخر" في صيغة التفضيل تشير أيضًا إلى التحديث أو أحدث التقنيات، مشيرةً ليس إلى زوال شيء ما، بل إلى صقله وتقدمه. في دراسةٍ للتطورات نفسها التي ذكرها سومبارت، ادعى الماركسي النمساوي رودولف هيلفردينغ أن الاقتصاد الناشئ في القرن العشرين كان ببساطة "المرحلة الأخيرة من التطور الرأسمالي"، وهي عبارةٌ رددها لينين، الذي بذل جهدًا كبيرًا لتذكير أتباعه بأنه "لا يوجد شيء اسمه وضع ميؤوس منه تمامًا" بالنسبة للبرجوازية.

على الرغم من شعبيتها في السنوات الأخيرة، وخاصة منذ الأزمة المالية عام 2008 وما تلاها من تمردات يسارية شعبوية، فإن الرأسمالية المتأخرة ليست فكرةً تُهيئ للثورة أو رؤيةً للتقدم. قد تُعبّر عن رغبةٍ في التخلص من الرأسمالية، لكنها في الغالب تُمثّل نظريةً للتحولٍ الذي لا يحقق التحول - أو ما هو أسوأ.

تقليديًا، اعتقد اليسار الاشتراكي أن الرأسمالية عرضة للأزمات - ليس فقط تقلبات الدورة الاقتصادية، بل أيضًا اضطرابات متزايدة الوطأة لا يمكن حلها ضمن النظام. مع مرور الوقت، لا بد أن تنتهي هذه الأزمات، "إما بإعادة بناء ثورية للمجتمع ككل"، كما تُعرّفها الصيغة التقليدية، "أو بالهلاك المشترك للطبقات المتصارعة". ورغم أنها ليست رؤية حتمية للمستقبل - فـ"الهلاك المشترك للطبقات المتصارعة" احتمال وارد - إلا أن نظرية الثورة هذه تعتمد على نظرية الأزمة.

وفقًا لسومبارت، قضت الرأسمالية المتأخرة على هذا الميل إلى الأزمة. فالتنظيم الحكومي للسوق والشركات؛ ونمو بيروقراطيات الإدارة؛ وصعود النقابات العمالية والتأمين الاجتماعي وتشريعات العمل؛ وتركيز الشركات وتنسيقها - كل هذه التطورات تُخفف من "التقلبات الدورية للنظام الاقتصادي". ودون أدنى شك في حدوث ثورة أو دمار، تُحوّل الرأسمالية في طورها الأخير إلى "نظام اقتصادي يتلاشى أو يتراجع". بمعنى آخر، ستنتهي الرأسمالية، ولكن ليس بنهاية مدوية.

لم يتخذ أدورنو هذه الخطوة الأخيرة قط - نحو نهاية الرأسمالية - ولكنه استعاد تقريبًا جميع خطوات سومبارت. في خطاب مؤثر ألقاه عام 1968، أشار إلى أن الرأسمالية المتأخرة "اكتشفت موارد في داخلها" لم يتخيل الجيل الأول من الماركسيين وجودها في الرأسمالية: تحسينات في مستويات معيشة الجماهير، واندماج الطبقة العاملة في الطبقة الوسطى، والنمو المُدار للاقتصادات الصناعية، ونهاية تلك الأزمات التي كانت تُسبب صدمة للعمال وأصحاب الأعمال على حد سواء. من خلال هذه الإجراءات، تُؤجل الرأسمالية المتأخرة نهاية الرأسمالية "إلى الأبد". لن تنتهي الرأسمالية أبدًا.

يُعد كتاب إرنست ماندل "الرأسمالية المتأخرة" (1972) أكثر التأملات جدية واستدامة في هذا الموضوع. ينطلق الكتاب من فرضية أن النمو وإعادة التوزيع اللذين أدارتهما الدولة في حقبة ما بعد الحرب - "العصر الذهبي" أو "الثلاثينيات المجيدة" - اللذين اعتبرهما سومبارت وأدورنو أمرًا مسلمًا به، على وشك الانتهاء. رأسمالية ماندل المتأخرة هي ما يأتي بعد رأسمالية سومبارت وأدورنو المتأخرة. بعيدًا عن قلب مبدأ عمل الرأسمالية - السعي التنافسي لتحقيق معدلات ربح أعلى باستمرار من خلال إنتاج السلع واستغلال العمالة - فإن الرأسمالية المتأخرة هي "أكثر تعبيراتها تطرفًا". فبدلاً من إثارة العداء وتهدئة العمال، فإن الرأسمالية المتأخرة هي اللحظة التي "يتخذ فيها الصراع شكلًا متفجرًا" ويؤدي إلى "أزمة واسعة الانتشار". إنها السبعينيات، و"الحركة الثورية الجماهيرية للطبقة العاملة العالمية" "تقترب". كيف عرف ماندل ذلك؟

يقول ماندل إن النمو الاقتصادي وزيادة معدلات الربح لا يكونان بطيئين أو ثابتين أو مضمونين. لكنهما ليسا عشوائيين أيضًا. فهما يأتيان في "موجات طويلة" تمتد لأربعة أو خمسة عقود: من عام 1793 إلى عام 1847، ومن عام 1848 إلى عام 1893، ومن عام 1894 إلى عام 1939. قبل بداية الموجة، كانت كمية هائلة من رأس المال عاطلة عن العمل، تنتظر فتح قنوات الربح والاستثمار. ثم، فجأة، ولأسباب مختلفة - انخفاض أسعار العمالة بسبب الحرب أو البطالة أو الهجرة؛ اكتشاف المواد الخام والاستيلاء عليها من خلال الغزو الإمبراطوري؛ إنشاء أسواق جديدة في قارات غير مستغلة أو في مجالات الحياة الاجتماعية مثل الأسرة - يصبح الربح ممكنًا. وتنطلق الموجة.

مع تنامي الموجة، يزداد الربح والنمو بوتيرة أسرع فأسرع؛ فتطول فترات الازدهار، وتقصر فترات الركود. يستثمر رأس المال في الابتكارات التكنولوجية التحويلية ويقودها، ليس فقط في الآلات التي تقلل الحاجة إلى العمل البشري، بل والأهم من ذلك، في الآلات التي تبني "الآلات المحفزة" (المحرك البخاري، محرك الاحتراق، الحاسوب) التي تدفع وتوجه الإنتاج على نطاق واسع. كلما وفرت هذه الآلات المزيد من العمل، زاد الربح المُمكن تحقيقه.

ثم، مع بلوغ الموجة ذروتها، يتباطأ الربح والنمو؛ والآن تكون فترات الازدهار قصيرة، والكساد طويلًا. بعض أسباب التباطؤ طارئة - انخفاض التجارة الدولية أو ظهور منافسين جدد يقدمون أسعارًا أرخص - لكن السبب الأكثر إلحاحًا هو نفس الشيء الذي جعل الاستثمار مربحًا في السابق: إنتاج الآلات للآلات المحفزة. الإنتاجية التي يمكن استخلاصها من العمال غير متوقعة. إنها وظيفة قوة الرأسمالي، وموافقة العمال، ووجود أو غياب عمال آخرين أكثر يأسًا منهم ("جيش الاحتياطي الصناعي"). على النقيض من ذلك، فإن ما يمكن للآلات فعله ثابت بتصميم الآلة نفسها. كلما زاد اعتماد الرأسمالي على الآلة، قل تقلب ربحه. عندما يمتلك عدد كافٍ من المنافسين هذه الآلات، يكون هناك ربح إضافي أقل يمكن استخلاصه منهم. عندما تتجمد الأرباح، يفر المستثمرون. تنهار الموجة وتتراجع.

وفقًا لماندل، بدأت الموجة الرابعة من الرأسمالية عام 1944، وبلغت ذروتها عام 1966، وهي الآن تنهار في جميع أنحاء العالم. خلال النصف الأول من الموجة، وجد رأس المال فرصه في إعادة تسليح الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة؛ وانتشار الأساليب الصناعية في جميع مجالات الاقتصاد وفي جميع أنحاء العالم؛ وتزايد الأتمتة نتيجة الثورة الرقمية؛ والعمالة الرخيصة الناتجة عن قمع الأجور في ظل الفاشية والحرب العالمية الثانية.

بحلول ستينيات القرن الماضي، أدى الجمع بين النقابات العمالية والاشتراكية القائمة فعليًا إلى رفع أسعار العمالة في العالم الرأسمالي وإغلاق بقية العالم أمام الاستثمار الرأسمالي. أدى التصنيع العالمي لإنتاج السلع الرأسمالية والاستهلاكية (وليس مجرد استخراج المواد الخام كما في القرن التاسع عشر) إلى تقارب مستويات الإنتاجية ومعدلات الربح عبر المناطق والدول والصناعات. كان المكان الرئيسي للعثور على هذا القدر الإضافي من الربح هو "الإيجارات التكنولوجية" المضمنة في الاحتكار القانوني للشركة لابتكاراتها التكنولوجية أو وقت بدء التشغيل الطويل (والموارد) الذي سيستغرقه المنافسون لتطوير تلك الابتكارات. كانت هذه هي الرأسمالية المتأخرة: شركات كبيرة متعددة الجنسيات تعمل في اقتصاد عالمي تنافسي حقيقي، وتسعى وراء الريع التكنولوجي في جميع أنحاء العالم.

كان ماندل يأمل بوضوح أن تكون الرأسمالية قد وصلت إلى نهايتها. ففي خضم موجة الإضرابات العالمية وتزايد التضخم في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، بدا أن رأس المال المتأخر، على عكس سلفه في القرن التاسع عشر، لم يعد لديه ملجأ. لم تعد جميع الحلول المعتادة - تدخل الدولة، والسيطرة على الاحتكار، وسهولة الائتمان - مجدية. كان انخفاض معدل الربح أمرًا لا مفر منه. كانت الأزمة المنتظرة، والثورة الناتجة عنها، على وشك الحدوث.

ومع ذلك، كان هناك احتمال آخر. لماذا، إذا لم يكن هناك المزيد من الربح الذي يمكن العثور عليه في الآلة، لا يمكن لأصحاب العمل الحصول على المزيد من العمل من عمالهم دون دفع المزيد لهم؟ ربما اعتاد العمال على الأجور المتزايدة باطراد ومستويات المعيشة المرتفعة في حقبة ما بعد الحرب، ولكن هذا ليس قانونًا طبيعيًا. ماذا لو استطاع رأس المال إقناع العمال أو إجبارهم على قبول أجور ومستويات معيشة أقل؟ ما لم يكن قادرًا على "كسر مقاومة الأجراء" ورفع معدل ربحه، فلن ينجو رأس المال أبدًا من الركود الطويل القادم. طمأن ماندل نفسه بفكرة أن إعلان الحرب على العمال أمر "لا يمكن تصوره" دون تفكك هائل وعكس لتسوية ما بعد الحرب. وحدهم الفاشيون كانوا قادرين على كسر الحركة العمالية بهذه الطريقة. ولدت ونشأت الطبقة العاملة في راحة كينز، ولن تقبل بذلك أبدًا.

وبالفعل، فقد فعلوا ذلك، وما حصلوا عليه هو التقشف: لم تكن ثورة عمالية، بل ثورة مضادة قادها بول فولكر ورونالد ريغان، إلى جانب إدخال جيش احتياطي صناعي ضخم من العمال الفقراء في آسيا وأماكن أخرى. كان الركود طويلًا، بينما استمر انخفاض الأجور الحقيقية لفترة أطول. تلك كانت الرأسمالية المتأخرة التي يلمحها ماندل في مقاطع متفرقة من أعماله، والتي أصبحنا جميعًا نعيشها.

كتب فالتر بنيامين: "الرأسمالية لن تموت موتًا طبيعيًا". في لحظات التباطؤ أو الهزيمة، كان كثيرون من اليسار يأملون خلاف ذلك، متصورين انهيار الرأسمالية كنتيجة حتمية لعملها. في نهاية القرن التاسع عشر، أعلن كارل كاوتسكي، أحد أبرز منظري الاشتراكية الألمانية، أن "القوى الاقتصادية التي لا تُقاوم تؤدي، بيقينٍ من الهلاك، إلى حطام سفينة الإنتاج الرأسمالي". في العقود الأولى من القرن الحادي والعشرين، لا يزال خليفة كاوتسكي الأكثر تشاؤمًا، فولفغانغ ستريك، يدّعي أن "الرأسمالية تواجه انهيارها" بسبب ميلها إلى التدمير الذاتي. لم تكن الطوباوية قط العيب القاتل لليسار. إن ما يُقوّض حقًا قدرته على الواقعية السياسية هو هذا الإيمان بقوة الكارثة المُنقذة.

بالنسبة لليسار المعاصر، ثمة أمل في أن يُخضع تغير المناخ الرأسمالية أخيرًا. وهذا أيضًا وهم قديم. في نهاية كتاب "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية" (1905)، يتساءل ماكس فيبر بحزن عن المدة التي سيصمد فيها القفص الحديدي للرأسمالية. يكمن الأمل الوحيد في التحرر في محدودية الوقود الأحفوري: ستهيمن الرأسمالية على سكانها "حتى يُحرق آخر طن من الفحم الأحفوري". هذا، وفقًا لسومبارت، كان سطرًا كان فيبر يُحب تكراره في حواراته الخاصة. لم يُعجب ذلك سومبارت. لم تكن هناك طاقة هيدروليكية وطاقة مد وجزر فحسب؛ بل كانت هناك أيضًا طاقة شمسية، والتي استُخدمت، منذ وقت مبكر يعود إلى عام 1902، في مزرعة نعام بالقرب من لوس أنجلوس. كان السؤال الوحيد للرأسمالية هو ما إذا كان يمكن تحويل هذا إلى ربح. تشير الأدلة من مصر وبيرو وتشيلي وجنوب إفريقيا إلى إمكانية ذلك. لا توجد أوضاع ميؤوس منها للبرجوازية.

لكن في منهج ماركس للأزمة والانهيار درسٌ لليسار. كتب ماركس أن معدل الربح لا يُحسم إلا بالصراع المستمر بين رأس المال والعمل، حيث يسعى الرأسمالي باستمرار إلى خفض الأجور إلى أدنى حدٍّ لها ماديًا، وتمديد يوم العمل إلى أقصى حدٍّ مادي، بينما يضغط العامل باستمرار في الاتجاه المعاكس. ويتحول الأمر إلى مسألة صلاحيات كلٍّ من المتصارعين.

الربح، أكثر من كونه مسألة اقتصادية، هو مسألة قوة. فعلى عكس الآلة، لا يمكن تحديد قوة العمال، إذا ما تضافرت، مسبقًا. يبقى مدى القوة التي يمكن للعمال ممارستها - ومقدار الربح الذي يمكن للرأسمالي استخلاصه - سؤالًا مفتوحًا، سيتم تحديده في سياق الصراع نفسه. في الأيام الأولى للرأسمالية المتأخرة، تعلم رأس المال هذا الدرس. وستحدد الأيام ما إذا كنا في الأيام الأخيرة للراسمالية أم في طورها المتأخر، ما إذا كان العمال تعلموا الدرس أيضا.

نيولفت ريفيو 20 يونيو 2025

ـ افق نهاية البشرية الارضوية: تتعاظم فعالية الافتراق بين الادراكية الغالبة السائدة، والواقع كما هو متحقق وسائر بحسب الديناميات الناظمه للظاهرة المجتمعية،  ومايمنحها خاصياتها ويعين منطوياتها وسر وجودها والى اين هي ذاهبه، الامر المتعلق بالدرجة الاولى وابتداء بالعراق وبنيته وكينونته التاريخيه، فالمجتمعات البشرية لم تصل درجة التبلور الضروري، ولم تكتمل اسباب الانتقال من طور "الصيد واللقاط" الى مابعده، الا بعد توفر اشتراطات اللاارضوية ومقابلها الارضوية في الشرق المتوسطي تحديدا، وفي موضعين نهريين ضمن هذا الجزء من المعمورة احدهما احادي بنهر واحد والاخر بنهرين، الاول متوافق مع العملية الانتاجية والعاملين في الارض، يفيض مع الدورة الزراعية، والمكان يتمتع  بالانسجام وبالحماية  الطبيعية من شرقه وغربة، فالوادي  النهري محمي  شرقا وغربا بالصحراء، ومن شماله بالبحر، بخلاف الموضع الاخر السومري المابين نهريني، حيث  الاحتراب الانتاجي وعملية الفيضان المخالف للدورة الزراعية، والميل التدميري النهري الاقصى، مع كل الاشتراطات المناخية والبيئية الطاردة صيفا وشتاء  وتربة،  اضافة لانفتاح جهات المكان الشمالية والشرقية والغربيه، وانصبابها السلالي من الصحارى والجبال الجرداء، حيث السيول البشرية بلا انقطاع، تظل نازله نحو ارض الخصب لتعزز حالة وظاهرة مايمكن ان يطلق عليه "العيش على حافة الفناء".

المهم والاخطر بصورة جازمه، ماينطوي عليه هذا الوضع من ديناميات وقوانين تشكل تاريخي تخص العملية المجتمعية ومستهدفاتها التي تتاسس معها، وتنبيء عنها من نوعها،  اولا من ناحية الطبيعة والديناميات المتصلة بها، في  موضع النهر الواحد التوافقي الانتاجي حيث  مجتمع الكيانية والدولة الاحادي المتجسد في الفرعون الاله، والاخر حيث الاصطراعية الانتاجية  وانتزاع اللقمه من فم الوحش الكاسر، لاتبقي من تآلف بين الارض  وبين من هم عليها، هؤلاء الذين يكونون ماخوذين بالبحث عن مسرب، وعن قوة مقابله تتجلى بصيغة السماوية، ونزوع المغادرة في اجواء تسقط فيها كل مظاهر اليدوية الارضوية الحاجاتيه، التملكية، والتمايزية السلطوية، وفي مقدمها الكيانوية، بمقابل التشاركية والتعاون  المحكوم للفزعة والنخوة،  يضاف لها نفي  وانتفاء اسباب التشكلية الكيانيه، لصالح كينونه منطوية ذاتيا على تعدي  الكيانيه المحلية نحو الكونيه، وكل هذه بالاحرى سمات وخصال كافية لان تجعل من المجتمع المشار اليه خصوصية و"نوعا" اخر غير ذلك المعاش، والذي يظل غالبا كنمطية ونموذج اشتراطات انتقالية، ومن ثم مفاهيم، مادامت اليدوية الانتاجية هي الغالبه،  مع مايرافقها وهو وليدها من  قصورية عقلية، تظل مستمرة بصيغة  العجزعن كشف النقاب عن، فضلا عن ادراك طبيعة المجتمعية اللاارضوية، ناهيك عن دلالاتها ومايترتب عليها، وما هي منطوية عليه كحقيقة شاملة مستقبلية ملازمه للظاهرة المجتمعية، ولدت بها ولازمتها  بغض النظر عن تعذر كشف النقاب عنها.

وليست الكينونه اللاارضوية لوحدها ما يظل مبعدا عن الارداك، فالظاهرة المشار لها تترافق مع نوع بنية اصطراعية تاريخيه تظل حاكمه لتاريخ المكان الذي تولد فيه، وبعدما يكتمل التشكل اللاارضوي بالاصطراع مع الطبيعة خلال قرون تكتمل معه مقومات الصنف المجتمعي اللاارضوي المرهون للتحولية اللاارضوية، ياتي دور الانصبابات البشرية النازله اليه من الجهات العليا ومن الجوانب، وهي مجاميع بنيتها ارضوية يدوية تغلبيه، مفعمه بالرغبة بالسيطرة،  تبدا بمجرد وصولها الى الحواف العليا لارض  السواد، بفرض منطقها الاحتلالي، غير مقدرة لطبيعة المكان، وخصوصا للمجتمعية ونوعها المباين، المختلف كليا، مايؤدي من يومها الى حصول حالة احتراب لاحل له، قبل ان تتمكن السلالات الهابطة من ادراك استحالة اخضاع المجتمعية السفلى عن طريق فرض منطق وملازمات البنية الارضوية عليها، الامر المستحيل والذي دونه فناء النوع الاسفل، ماينتهي الى ولادة خيارالمجتمعية العليا المتناسب مع الظرف، اذ تقام "دول امبراطورية مدينيه" محصنه اعلى واشد تحصين، معزولة بذاتها، تمارس الغزو الداخلي بهدف حلب الريع، المكلف للغاية،  وتعود الى داخل قلاعها واسوارها، مما يدفعها مع الوقت  للانكفاء الى وراء، بحثا عن تعويض عما هو غير متاح، وفي افضل الحالات مكلف بالحدود القصوى،  مع ان اسباب وموجبات الاصطراعية الازدواجية المجتمعية لاتنتهي، املا بالوصول  الى الافنائية التي تظل من اهم انشغالات ومهمات الدول المدن  الامبراطوريات، الا في احوال نادرة، عندما تكون الافاق العليا الى الشرق والغرب مفتوحه كليا، كما كان حال بغداد في طورها الاول، في حين كانت بابل اكثر انشغالا وتركيزا على مهمه دحر العالم الاسفل، وهذا مايجعل الوضع العراقي كخاصية، حال اصطراعية ازدواجية مجتمعية تاريخيه محكومة لمفعول وحدة الوسائل الاحترابيه مع تباين النمطية.

الامر الهام هنا وفي قلب الاصطراعية التاريخيه، اتسام هذه العملية باللاديمومه  وللااستمرارية بعكس الحال المصري الاحادي الدورة، التكراري الاجتراري، فالكيانيه الاصطراعية الازدواجية مابين النهرينيه، هي دورات وانقطاعات فنائية ذاتيه، الاصطراع الحاكم لها يفضي عند نقطه معينة من الاحتدام،  بالاضافه لفعل العوامل المحيطة المجافية الضاغطة، الى تاكل البنيه الازدواجية واضطرابها، وصولا الى الانهيار الدراماتيكي كما حل ببابل على عظمتها، ومن ثم بغداد عام 1258 وصولا الى القرن السادس عشر، عندما عادت اللاارضوية وانبعثت انبعاثها الثالث الراهن في ارض سومر التاريخية  ذاتها، مع ظهور"اتحاد قبائل المنتفك" عام 1530 جنوبا في ذي قار.

ومشهد كهذامن شانه ان يثير تساؤلات حول ظواهر ظلت مطوية وخارج الانتباه على مر التاريخ، من نوع الفارق الممكن  بين الطور اليدوي، والطور الاخر الالي بما يخص المجتمعية اللاارضوية، ومامتوقع من  متغيرات تطرا عليها، مالايمكن منطقيا التعامل معه بذات منظور الارضوية وممكنات تصور مفعول الالة عليها، بالاخص ابتداء، ابان الطور المصنعي، ومع ثقل ووطاة مفاهيم ومنظورات الارضوية اليدوية الطويلة الباقية اثارها وترسباتها، على الاقل مع بدايات الانتقال الالي، وهنا ينتظر العقل البشري ماقد يكون اهم تحد ظل قابعا  بين طيات العملية المجتمعية، واستمرمتمثلا في القصور الادراكي للظاهرة المجتمعية، بحصرها  بداهة ضمن وداخل اطار الارضوية لاغير، باعتبارها النموذج والحالة الاوحد، لابل الغاية الوجودية، مع مايترتب على كل ذلك من حصيلة ونتائج اعتقادية وتصورية دنيا احادية تابيدية، لظاهرة  كل مايتصل بها وبخصوصيتها  يقول بانها ليست خارج الفعاليه  والديناميات التحولية التاريخيه، المنطوية في  الازدواج المجتمعي المطرود خارج الوعي.

من هنا تذهب بنا اللحظة واشتراطاتها اليوم ومع الدورة الثاثة  اللاارضوية العراقية، وماقد  صادفها في حقبتها الثالثة الايديلوجيه الاخيرة، بعد القبلية الاولى، والانتظارية النجفية، من التقاء  مباشر بالانتقالية الانتاجية الالية مع بدايات القرن العشرين، وماينشأ من حينه من تفاعلية  افنائية، مظهرها الابرز سعي الغرب الدائب الى فرض نموذجيته ونوع تصوراته على موضع مخالف له كليا، ومايترتب على ذلك  ويتولد عنه من اصطراعيه( هي تكرار لمالوف وخاصية تاريخيه لاتتبدل ) تستمر على مدى قرن، هو الزمن اللازم من التفاعلية الضروري لتوقع بدء النطقية اللاارضوية، وحضور الذاتية الازدواجية اللاارضوية الباقية من دون الافصاح الذاتي المطلوب على مر التاريخ اليدوي، يوم كان يتعذر النطق الا بما يتوافق والاشتراطات الغالبة انتاجيا، ماقد جعل التعبيرية اللاارضوية تتخذ شكل النبوية الحدسية  الابراهيميه  وقتها، مكرسة الازدواج المجتمعي ضمن الشروط اليدوية ازدواجا كونيا، في حين تبدا اسباب النطقية العظمى العليّة السببية بالتشكل اخيرا، ضمن اشتراطات الانقلابية الاليه، مع انها تستهل في غير ارض الازدواج المجتمعي، في اوربا على الطرف الاخر من المتوسط حيث الازدواج الارضوي الطبقي، ليبقى الانقلاب الالي غير مكتمل، مفعم بالتوهمية الارضوية، بانتظار الوصول الى اللاارضوية والسعي لافنائها، فاذا هي نطقت فان الاله وقتها تصبح في موضعها ومكانها الذي وجدت لكي تحتله في المشهد المجتمعي التحولي الاكبر.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

تتخذ الاصطراعية اللاارضوية الارضوية بصيغتها الالية الحديثة كمحور رئيسي  على مستوى المشاريع، صيغة  مايمكن اعتباره "تباينا كيانيا وطنيا" فالغرب يقرن الانقلاب الالي بالبرجوازية وانتصارها ونموذجيتها الكيانيه الديمقراطية، على اعتبار المشار اليه قمة ومنتهى الممكن المجتمعي، يكرس لغاية عليا وهدف اسمى، على اساسه تقام الدول او حتى تفبرك في المجتمعات غير المنصهرة، خارج موضع الانقلاب الالي الاوربي، وهي حالة وطور من تاريخ الهيمنه الغربيه الحديثة، اتسمت بالميل الى صناعة الامم والدول، وهو ماكان العراق بمثابة حالة نموذجيه ضمنه كممارسه ضرورية لاسباب عملية، منها واقعيا كون هذا الموضع من المعمورة كان يمر بطور انقطاعي بين دورتين، وانه يخضع بناء عليه ومنذ 1258 مع سقوط بغداد، الى حالة من البرانيه مقرها بغداد عاصمة الدورة الثانيه المنهارة، ظل مستمرا منذ احتلال هولاكو لبغداد، تتعاقب عليه السلالات والدول، واشباه الامبراطوريات ضمن اشتراطات يدوية عامه كانت ماتزال هي الغالبه.

هذا يعني بان العراق الحالي لم يكون قد تبلور وقتها، مع انه كان قد عرف مع القرن السادس عشر بدايات الانبعاثية التشكلية الراهنه جنوبا، كما هو الحال الموافق لبنيته وطبيعته الازدواجية المجتمعية واليات تشكله، وكالمعتاد ترد هنا مصر كمثال معاكس، وجدت  في حينه كما هي، كيانيه مكتملة محلوية، بينما العراق في طور تشكل  هو الثالث الكوني بحسب الخاصيات التاريخيه، يصعد متشكلا ضمن ظروف انغلاق الافق  الاعلى، والسيطره  البرانيه على  المدينه/ العاصمه رمز الدورة المنقضية المنهاره، واذ تنتهي فترة البرانيه اليدوية ويحضر  الانكليز، محل العثمانيين، يتغير نوع البرانيه من يدوية الى آليه مختلفة من حيث الوسائل والاغراض، وفي المقدمه على مستوى مشروع الكيانية والدولة،  وبعدما كانت البرانيه منذ هولاكو والخروف الاسود والخروف الابيض بلا مشروع من هذا النوع، جاء الانكليز يحملون معهم، وفي مقدمة عدتهم مفهوم "الدولة الحديثة" وماتقتضيه من كيانيه، جرت صياغتها ارتكازا على مقومات البرانيه المعاشه، وانطلاقا من مركزها المعتمد الباقي من الدورة المنهارة انطلاقا كالمعتاد من العاصمة المنهارة وماتحتها المستقل بلا اعلان، فاجملت الولايات التركية الثلاث، الموصل، وبغداد، والبصرة ضمن افتراضية كيانيه، اعتبرت واحده وموحده، وضعت لها مروية، وجرى ربط تشكلها المتوهم المفترض بالنظام الراسمالي العالمي،  من دون اي دليل، او محاولة تدقيق تاريخي في موضع لم يسبق له ان عرف الكيانيه "الوطنيه"،  مع عراقته البدئية التاريخيه،  ومع كل مايمكن ان يدل على كون الياته ظلت تعمل تاريخيا وفق مسارات مختلفة، ليس فيها او من بين مايميزها على اي صعيد كان، التوافق مع المشروع الجاهز الراهن الحديث المنقول بالقوة والاحتلال، مع مترتباته، الامر الذي كان يتطلب على الاقل شيئا ما من الاشاره او التنوية في اقل الاحوال.

وسواء على هذا الصعيد او اجمالي الوضع الناشيء وقتها فان مانصبح بصدده وفي غمرته من يومها، هو مايمكن ان نطلق عليه "اصطراعية الاليه المتناقضه" وهو مالاتعرفه بقية ارجاء المعمورة لانتفاء الاسباب والخاصيات التكوينيه، والقصد يذهب الى ماسبق تكرارا التنويه به من التباين النوعي المجتمعي بين لاارضوية وارضوية وعلاقة كل منهما  ونوع تفاعليته بحسب بنيته والياته معها، وهنا يفترض التوقف مليا  على وجه التعيين امام مايصل حد البداهة من مفاهيم ومنظور مكرس بخصوص الاله، او ماقبله، وعلاقة المجتمعية بها بما لايترك  اي مجال  للتفكير باحتمالية الاختلاف التفاعلي النمطي مع وسيلة الانتاج، وبما يضعها بموقع الاحادية غير القابله لاي احتمالية اخرى، هذا مع العلم ان ظاهرة انبثاق الاله في موضع من الكرة الارضية بعينه لم يكن صدفه ولا من باب البداهة.

وقد تخطر على البال  هنا  على سبيل المثال الاحتمالية الانتقالية مابعد اليدوية العراقية، ابان الطور العباسي، وفي قمه ماكانت بلغته بغداد من صعود في المجالات المختلفة اقتصاديا وعلى صعيد بدايات التهيئة للمصنعية، مع الغلبة  الفاصلة للعملية التجارية الريعية الكبرى العالمية، الممتده من الصين الى غرب اوربا، الامر الذي لم يولد تفاعليه مجتمعية احتدامية من شانها نقل الوضع برمته الى طور اخر، بالذات بظهور عنصر ثالث من خارج الاصطراعية الثنائية المجتمعية كما حصل في اوربا التي وصل اليها  عنصر التفاعلية من خارجها، ليولد ديناميات اصطراعية طبقية، انتهت الى انبثاق العنصر الثالث الضروري واللازم، كما قد حصل وتحول بعدها لظاهرة عالميه، ليعود متشكلا الى الاصطدام مع مصدر التفاعليه  ومنطلق التراكميه الراسمالية،  الذي ذهب بعد ان ادخل الراسمال الحيوي الضروري لاوربا لينهار منقطعا، صدوعا لوطاة تكوينه وبنيته التاريخيه الماخوذه لديناميات الاصطراعية المجتمعية لاالطبقية.

من البديهي بالطبع ان لايرد التساؤل المعروض في اعلاه جملة وتفصيلا، مادامت المجتمعية واحده بناء على القصورية العقلية الغالبه السائده، ومن ثم وبناء عليه، تماثل عمل الديناميات والاصطراعية والتفاعلية المجتمعية تاريخيا، الامر الذي يعني اليوم والان، انقلابا وثورة فاصلة كبرى، تقلب كل منظور واسس نظرة الكائن البشري للتاريخ وللظاهرة المجتمعية ومساراتها وماهي ذاهبة اليه. هذا مع العلم ان مانشير اليه ليس من القضايا الجاهزة، او الممكن بلوغها بيسر، او حتى بالمقارنه مع اصعب القضايا والموضوعات المتعارف عليها ارضويا حتى الان، ومع ان ماننوه به  قد بدا بالوقوع كممارسة حية في العراق تحديدا قبل قرن واكثر، الاان انتقال العقل في هذا الموضع من المعمورة الى حيث النطقية الكبرى، والتعرف الواجب على قوانين واليات العملية اللاارضوية بمواجهة الاله، ظل خارج البحث، وممنوعا على العقل العراقي الى اليوم، بينما المنظور الاخر الجاهز والمنقول من خارج المكان، غالب وفاصل بلا منافس.

ولنتخيل تاريخ هذه الانتقاله الكبرى الكونية المستجده وتعرجاتها  التي قد تصل الى مالا يوصف بحسب المتاح من وسائل حتى الان، الامر البديهي لان مانحن بصدده ليس من قبيل الاضافه او الاكتشاف ضمن عالم بذاته، ولا من ضمن لغته ومجمل بنيته ومرويته، بقدر ماهو عالم اخر، ولغه مختلفه نوعا، وطريقة في الادراكيه والمقاربة غير ماهو قائم، انه انتقال الى "عالم منتظر"، فكاننا اليوم ابان بدايات تبلور الظاهرة المجتمعية، قبل اجتراح الخطوة الاولى باتجاه الحياة والوجود الابتداء بصيغته اليدوية.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

هذه كتابة لا ترضي – على الأرجح - كارهي إيران ولا محبيها، لكن ربما ترضي بعض الإيرانيين الذين تساءلوا تكراراً، ولا سيما في هذه الأيام: هل كان الذي جرى محصلةً لأخطاء متراكمة، أم كان قدراً لا مفر منه؟

أنا أصدق الإيرانيين إذ ينكرون سعيهم للتسلح النووي. كما أصدق زعم أعدائهم بأنهم كانوا يسعون له، رغم إصرارهم على النفي.

أزعم أنني أفهم خط تفكير أهل القرار: مخاوفهم، تطلعاتهم وتقديراتهم لقدراتهم. وأستطيع الادعاء أنهم لم يسعوا لإنتاج سلاح نووي، بل إلى التمكن منه، وهو ما سموه «إكمال الحلقة التقنية». ونعلم أن إغلاق هذه الحلقة يتم بتفجير نووي تجريبي أو قبله بقليل. عند هذه النقطة كان الإيرانيون ينوون التوقف. وإذا بلغوها، سيكون تصنيع السلاح النووي أو شبيهه (مثل قذائف اليورانيوم المنضب) مجرد قرار سياسي أو عسكري.

- هل لهم الحق في هذا... وهل لدول العالم، ولا سيما المحيط الإقليمي، الحق في الخوف من ذلك؟...

لا أظن الأمر مهماً جداً. فكلا الموقفين قابل للنقاش. لكنه سيكون مجرد إعلان سياسي، ما لم تسنده قوة مادية تهابها بقية الأطراف. هذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة. فهي لم تستند إلى تبرير قانوني في هجومها على إيران، بل استندت إلى صواريخ «توماهوك» وطائرات «بي-2» وقنابل تزن 3.5 طن من المتفجرات.

سواء رضينا أم غضبنا، فالمجتمع الدولي يتحدث كثيراً عن القانون والحقوق المتبادلة. لكنه يقدّر حقيقة أن حديث القوي عن تطبيق القانون، له جرس مختلف عن حديث الضعيف. هذا يشبه تماماً الفارق بين فقير يتحدث عن المليون ريال ومليونير يتحدث عن المليون.

زبدة القول أن النقاش في المبدأ لا جدوى وراءه، ولن يوصلنا إلى أي مكان. المفيد اليوم هو ما يسميه الاجتماعيون «العقلانية الأداتية»، أي وضع خطة عمل تستثمر الإمكانات والفرص التي يتيحها الظرف القائم، من أجل تحقيق أغراض مطلوبة على المديين القصير والمتوسط. وهذه للمناسبة أكثر شيء يفعله السياسيون البارعون.

في رأيي، أن الجانب السياسي للبرنامج النووي الإيراني قد انتهى بالضربة الأميركية. أنا لا أعتقد أنه انتهى مادياً. لكنه انتهى سياسياً، بمعنى أنه ما عاد مفيداً ورقةَ ضغطٍ على الأعداء، ولا برهاناً على الإنجاز يقنع الأصدقاء. أظهرت الحرب الأخيرة أنه كان مكلفاً جداً للمجتمع الإيراني، حتى لو كان محل فخر. ونعلم أن أول واجبات الحكومة الصالحة، هو تيسير حياة شعبها وليس الافتخار بالقوة المادية.

الجانب السياسي يكمن في إمكانية استعماله لتهديد العدو. وقد انتهى هذا العامل، بعدما اتضح أنه قابل للتعطيل بعمليات جوية، كالتي فعلها الأميركيون. لكن هذا ليس نهاية المطاف. فقد كشفت الحرب عن قدرات عظيمة لدى الإيرانيين، يمكن إعادة توجيهها لتطوير الاقتصاد والصناعة، مثلما فعلت كوريا، وتايلاند، وسنغافورة، وماليزيا والصين. لقد امتلكت هذه الدول قاعدة تقنية متطورة، فاستثمرتها في تطوير قدراتها العسكرية. إن جيشاً عظيم الحجم يستهلك طاقة البلد، لكنه عاجز عن مواجهة الأكثر تقدماً على المستوى التقني.

إنني أدعو إيران لتحديد 4 في المائة أعلى مستوى لتخصيب اليورانيوم. كما أدعوها لتكوين نادٍ دولي يراقب منشآتها، يضم الصين، وروسيا وجنوب أفريقيا، بديلاً عن مراقبة وكالة الطاقة الذرية التي تتأثر بتوجهات حلف «الناتو». أظن هذا عسيراً، لكن عليهم السعي إليه. الاقتصار على مستوى تخصيب 4 في المائة سيغنيهم عن منشآت عدّة، ويوفر عليهم أموالاً طائلة.

أخيراً، فقد أدهشتني سعة الخرق الأمني وسهولة تجنيد العملاء، رغم الضخ الآيديولوجي المكثف على مدار الساعة. هذا الخرق سيتفاقم إذا بقيت أسبابه، وهي التشدد الاقتصادي، أي ضيق الآفاق وطرق المعيشة، والتشدد السياسي، أي إقصاء من يعارضون ولاية الفقيه، والتشدد الآيديولوجي، أي مراقبة السلوك الشخصي للناس، والتشدد الأمني، أي المراقبة الشديدة والارتياب في كل مختلف، هذا التشدد خلق تربة خصبة سهلت على أعداء إيران تجنيد العملاء والمقاتلين.

ما لم تغير الحكومة الإيرانية نهجها المتشدد اقتصادياً وسياسياً وآيديولوجياً وأمنياً، فسوف يواصل أعداؤها تجنيد العملاء والمقاتلين.

الحوادث الأخيرة أضافت شيئاً إلى رصيد الحكومة الإيرانية. لكنها هدمت شيئاً آخر، هو الخطاب الآيديولوجي الذي يقوم عليه جانب من المشروعية السياسية.

ما لم يجر تفكيك التشدد الذي أشرت إليه، فإن الشقوق التي أصابت الخطاب، سوف تتحول خط انكسار متفاقماً، كان المفكرون الإيرانيون قد تحدثوا عنه كثيراً في السنوات الأخيرة.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

ما من موضوع تتعدد وتتنوع اسبابه كموضوع الحروب التي تنشب بين الشعوب. وما من سؤال لم تكن له اجابة متفق عليها كسؤال: لماذا يصعب على البشر ان يعيشوا سلام؟!

ولأن هذا الموضوع يعدّ اهم موضوع يخص الأنسان، فانه شغل الفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الأجتماع بشكل خاص، وخرجوا بعدة نظريات لم يتم الاتفاق فيها على واحدة، وما يهمنا.. ان نسهلها على القاريء العراقي ونضيف لها ما يعدّ تنظيرا جديدا.

النظرية الماركسية

نرى هذه النظرية الكلاسيكية أن الحروب تنشأ نتيجة للصراع الطبقي والصراع على الموارد، خاصة في ظل النظام الرأسمالي. وترى أن الصراع الطبقي بين البرجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) (والبروليتاريا - الطبقة العاملة) يؤدي إلى توترات اجتماعية واقتصادية، وقد تتصاعد هذه التوترات لتشمل صراعات مسلحة. بالإضافة إلى ذلك، يسعى الرأسماليون إلى توسيع أسواقهم ومواردهم، مما قد يؤدي إلى صراعات بين الدول الرأسمالية للسيطرة على مناطق معينة ومواردها.

نظريات علم النفس التطوري

تعدّ نظريات علم النفس التطوري هي الأحدث، وتنظر في أسباب الحروب من خلال عدسة التطور، وتسعى لتفسير السلوكيات العدوانية والقتالية لدى البشر عبر آليات التكيف والبقاء والتكاثر. وترى أن بعض سمات السلوك البشري التي تظهر في الحروب يمكن ان تكون قد تطورت عبر الزمن لمساعدة الأفراد والجماعات على البقاء والتنافس على الموارد والتزاوج.

وتفترض هذه النظريات أن الحروب متأصلة في طبيعة الإنسان، وأنها نتيجة للتنافس على البقاء من خلال استنساخ الجينات. وتستعير من علم النفس التقليدي توكيده على دور الغرائز العدوانية، والصراعات الداخلية، والتحيزات، والأيديولوجيات، والصور النمطية الخاطئة بالبشر. وتنظر الى العدوان بوصفه آلية تكيف يتم تشكيلها عبر مئات السنين خلال المشاكل التي واجهها في الحروب، او تلك التي تشفرّت في جيناته.

النظرية البيولوجية

ترى هذه النظرية أن العنف البشري، بما في ذلك الحروب، جزء من طبيعتنا البيولوجية، مثلها مثل سلوكيات الحيوانات الأخرى... بمعنى ان غريزة الشر موجودة فطريا في الأنسان.. أي ان هناك دوافع فطرية تدفع الأنسان.. شاء أم أبى للقتال. وان من يرى أن الحروب تنشب بقرارات سياسية او بضغوط اجتماعية.. يغفل انها تأتي استجابة لتلك الدوافع الفطرية.

نظرية الحرب العادلة

تتناول نظرية الحرب العادلة (تبرير كيفية وأسباب خوض الحروب). ويمكن أن يكون التبرير نظريًا أو تاريخيًا. ويهتم الجانب النظري بالتبرير الأخلاقي للحرب والأشكال التي قد تتخذها أو لا تتخذها. أما الجانب التاريخي، أو "تقليد الحرب العادلة"، فيتناول مجموعة القواعد أو الاتفاقيات التاريخية التي طُبقت في حروب مختلفة عبر العصور. على سبيل المثال، تُعدّ الاتفاقيات الدولية، مثل اتفاقيتي جنيف ولاهاي، قواعد تاريخية تهدف إلى الحد من أنواع معينة من الحروب، والتي قد يلجأ إليها المحامون في مقاضاة المخالفين، ولكن دور الأخلاقيات هو فحص هذه الاتفاقيات المؤسسية للتحقق من تماسكها الفلسفي، وكذلك البحث في مدى ضرورة تغيير جوانب الاتفاقيات. قد يأخذ تقليد الحرب العادلة أيضًا في الاعتبار أفكار مختلف الفلاسفة والقانونيين عبر العصور، ويدرس رؤاهم الفلسفية للحدود الأخلاقية للحرب (أو غيابها)، وما إذا كانت أفكارهم قد ساهمت في مجموعة الاتفاقيات التي تطورت لتوجيه الحرب والحرب. (منقول بالنص)

وهناك نظريات اخرى، اهمها:

نظرية العولمة.. التي تركز على دور العولمة في خلق توترات وصراعات جديدة.،

ونظرية التغير المناخي.. التي ترى أن التغير المناخي قد يؤدي إلى صراعات على الموارد وشح المياه.

ونظريات الأمن الإنساني.. التي تركز على أهمية حماية حقوق الإنسان وتلبية الاحتياجات الأساسية للأفراد.

الحضارة.. سبب نشوب الحروب (نظرية عراقية)

مع ان الحضارة تعني التحّضر، والتحّضر يعني السلوك المهذب، فان عصر الحضارة كان عصر حروب، لأن تطور الحضارة يفرض او يخلق صراعات تؤدي الى حروب من اجل السيطرة على مصادر الطاقة والمواقع الاستراتيجية والمواد الخام القابلة للتحويل. والأخطر انها انتجت اسلحة فناء مرعب وسريع للبشرية باستخدام التكنولوجيا المتطورة بما فيها الفرط الصوتي والحرب السبرانية والذكاء الاصطناعي.

والحضارة.. هي السبب الرئيس الذي ادى الى انقسام الناس الى (يسار ويمين) بين المنتمين للدين المسيحي، والتطرف بين المنتمين للدين الأسلامي، لدرجة انها اوصلت الأنسان الى قتل اخيه لسبب في منتهى السخافة.. ما اذا كان اسمه حيدر او عمر او رزكار.

والحضارة.. خلقت عاملين للحروب:

الأول: التنافس على صدارة التحّضر

والثاني: تعدد وتنوع (متع) الحياة.. الجسمية والجنسية و.. الرفاهية.

وبسببها ايضا حصلت ثلاث مفارقات:

الأولى: تهروء الضمير الأخلاقي وضعف الوازع الديني،

والثانية:دخول الدين في السياسة، واستغلال قادة سياسيين متدينيين لشعوبهم،

والثالثة: انتهاك قدسية الحياة.. باستسهال قتل الآخر.

ما يعني انها ناقضت مضمون جوهرها الذي يعني احترام قدسية الحياة، والتمتع بضمير اخلاقي ينعكس في سلوك مهذب.

والمفارقة.. ان الدراسات الأجتماعية اثبتت ان الشعوب البدائية تقل فيها الحروب.. ما يجعلنا نستنتج ما يشبه النظرية:

أن الحروب ستزداد بازدياد التطور الحضاري.. وأن مستقبل البشرية سيحدده من سيمتلكون آخر مبتكرات التكنولوجيا، بما فيها قتل الملايين.. ليس بالسيف ولا بالبندقية ولا بقنبلة نووية، بل.. بالأرقام!

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

هل العالم بحاجة الى تعديل المروية المجتمعية الاليه؟  وكيف يمكن الذهاب الى تصرف من هذا القبيل بالضد من وطاة الهيمنه التاريخيه التغلبية للمروية الارضوية، راهنا  مضخما مع الانقلاب الالي الاوربي، وعلى اجمالي التاريخ اليدوي السابق؟ ليس من سبيل لهذه الجهه يمكن اتباعه غير المجازفة الخطرة، لابل الكبرى، تلك التي تذهب الى الغاء الاحادية الاوربية من دون ان يكون للالة اي مكان اخر عرفته، او  كان له اي شكل من حضور يمكن تلمسه والتدليل عليه، والقصد كما سبق التنوية احيانا خلال مقاربات سابقة، القول بان الانقلاب الالي حكمته من قبل ومن بعد تاريخيتان تستحقان مرويتين، اولى مرهونة للالة وفعلها المادي المباشر، انبثقت في  الموضع الازدواجي الاصطراعي الطبقي الاعلى ديناميات ضمن نوعه، اساسها  ومنطلقها فعل من خارج المكان، واخرى هي الحاصلة في الموضع الازدواجي  المجتمعي الاعلى ديناميات على وجه العموم كحالة انبعاثية ثالثة، هي مروية مسار ادراكي عقلي  مؤجل ومنتظر، تبدا كدورة انبعاث قبل إنبجاس الالة بعقود، عند القرن السادس عشر، في نفس موضع التبلور الاول المجتمعي اللاارضوي، في ارض سومر في مابين النهرين.

 يعني هذا اننا بصدد تاريخين ومجتمعيتين نوعا، كما هو حاصل واقعا لاسباب انتقالية تخص الظاهرة المجتمعية ووجودها، ومآلها كما هي منطوية في المجتمعية اللاارضوية بالذات، فالظاهرة المجتمعية هي ظاهرة لاارضوية كينونة، حين تتبلور  عند الابتداء تكون غير قابله للتحقق لاسباب قصورية عقلية مظهرها النقص في  الادراكية،  ومادية ناشئة عن تدني وسيله الانتاج المتاحة والممكنه في حينه بحسب صيغتها اليدوية الجسدية، ومترتباتها الحاجاتية،  وهو مالا يمنعها  من ان تكون محكومة لاليات  و ديناميات تحول تاريخي، ذاهبه الى اكتمال اسباب التحققية التحولية، الموهونه لقانون من التفاعلية الذاهبة بالمجتمعات الى  هدفها ساعة  توفر اسباب تحققه مع انقضاء زمن اليدوية.

 وهنا ننتقل من مجتمعية الى اخرى مختلفة نوعا على الصعد كافة، فالمجتمعية اليدوية نوع  آخر بنية وكينونة، مقارنة بالالية التكنولوجية، الاولى ارضوية جسدية، والثانيه لاارضوية هي تلك الابتداء المؤجل غير القادر على التحقق عند البداية، والباقي كظاهرة ازدواج مجتمعي  ماثلة في كيانيه لها دينامياتها الناظمة لحركة تاريخها دورات وانقطاعات، محكومة لاصطراعية ازدواجيه بين مجتمعيتين متحدتين لاتتوحدان، تمارسان حضورهما الكوني مع تبلورهما عبر الدورات التاريخيه التي تفصل بينها الانقطاعات والغياب،  من الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، الى الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وصولا للثالثة الحالية الاخيرة النطقية، المجال الاوحد المهيأ والمنطوي على اكمال اسباب وضرورات الانتقال الالي المجتمعي، بعدما تكون المجتمعية الازدواجية الطبقية  الارضوية اليدوية التي تعرف الانبجاس الالي قبل سواها، قد تفاعلت بكينونتها اليدوية مع الانقلاب المختلف عنها، والمباين لطبيعتها وبنيتها نوعا، لتنتج فترة من الانتقالية الاليه اليدوية رؤى ونموذج مجتمعي كياني.

  يعني ماتقدم وبغض النظر عن المتعارف عليه والشائع المكرس من قبل الغرب "الحديث"، ان الانتقال  من اليدوية الى الاليه ياتي محكوما لعملية انتقالية تبدا توهمية خاضعه لمتبقيات وقوة حضور اليدوية، بالذات بسبب ارضوية الموضع الذي تنبثق فيه لاسباب لاعلاقة لها بالخصوصية الموافقه للانقلاب النوعي التاريخي المجتمعي الحاصل، هذا مع الاخذ بالاعتبار  كون الحاصل حدث استثنائي انقلابي نوعي من مستوى التبلور المجتمعي الاول اليدوي، ان لم يكن اخطر منه بما انه منطو على انتقاليه نحو عالم اخر، فالمجتمعية الارضوية اليدوية هي استمرار للتاريخ الحيواني البشري ، وان يكن حالة انتقال  ومحطة اخيرة مابين الطور الحيواني والعقلي من تاريخ هذاالكائن، وافتراض انتقالية انقلابيه نوعية من هذا القبيل من الصعب تخيل تحققها في ساعتها على الفور، بالاخص اذا اخذنا بالاعتبار مادة الحدث مدار البحث، وتاريخها، ونوع اليات تشكلها وارتقائها  الطبيعي وشروطه.

  ولايمكن من ناحية ثانيه اساسيه، اهمال حقيقة الازدواج المجتمعي المغفلة وغير المكشوف عنها النقاب، مما لاينفي فعاليتها وحضورها بالاشكال الممكنه بحسب الفترات والمراحل، فاذا حل وقت الانتقال الالي، تغير دور ودرجه فعالية هذا الصنف المجتمعي حتما  لنصبح امام انتقال آلي ارضوي، واخر لاارضوي من شانه ان يقلب كليا مجمل الحالة الناشئة والنظر اليها والمتوقع منها، ونوع مترتباتها، وصولا حتى الى طبيعتها، فاذا نظر الغرب الارضوي الى الالة "مصنعيا" وبنى توهميته بخصوصها على اساسها، فان الموقف اللاارضوي لايقبل مثل هذه الاستعجالية الانوية الساذجه بحكم كينونته،  فالاله ليست المصنعية التي هي عتبه اولى وانفتاح لمسار في الوسيلة الانتاجية بعد المصنعية، تكنولوجيا بمحطات ومراحل، اولى تكنولوجية انتاجيه هي المعاشة اليوم، واخرى عقلية منفصله عن الجسدية، بما ينهي وقتها  على وجه التحديد صلاحية وامكان استمرار المجتمعية اليدوية الجسدية، وعندها تكون المجتمعية اللاارضوية قد بلغت الاشتراطات التحققية ماديا،  وهو ماكانت تنتظره منذ نشاتها الاولى في ارض سومر عند بداية تبلور المجتمعية، ليبقى الاهم او الركن الفاصل الثاني الانقلابي الادراكي التصوري، حين تنتقل التعبيرية في خطورة انقلابه عظمى، مابعد ابراهيمة، من "الحدسية النبوية الالهامية"، الى العلّية السببية،  وليصبح الانتقال الكوني اللاارضوي  من ساعتها شاملا المعمورة، بينما تكون المتبقيات الغربيه الارضوية قد فقدت زخمها، واقتربت من الانهيار النموذجي والتفكري.

 يحدث هذا  في مجرى العملية الانتقالية الكبرى الراهنه، ضمن اشتراطات الاصطراعية الافنائية، مع تكرار ظاهرة الانصبابات الغربيه الشرقية الى الشرق المتوسطي،  كبداية تفاعلية  شامله بعد التفاعلية الاولى الذاتيه البابلية السومرية، وظروف الاصطراعية  التغلبية التي مكنت بابل من امتلاك القدرات المقاربة لامكان افناء اللاارضوية السفلى، بسرقة منجزها اللاارضوي التالهي والسلوكي، وبالقوة، ماقد حفز اسباب اكتمال الرؤية المجتمعية اللاارضوية مجسده بالامبراطورية المضادة الابراهيمه المتحققه خارج ارضها، في حين لعب  الانصباب الفارسي الروماني مايلزم من تحفيز للاليات التعبيرية اللاارضوية  الضرورية، اليهودية النظرية، قبل  المسيحية والمحمدية العملية، كحالة اختراق كوني مضاد، عمت العالم حتى الصين والهند، وهاهي الانصبابية الغربيه الافنائية تتكرر اليوم كما متوقع، عند لحظة فاصلة على المستوى الوجودي، وبقدرات وامكانات نوعية هائلة غير مسبوقة، لتؤجج اسباب الاختراقية المضادة الثانيه، السببية العليّة.

 ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

في أوقات الوحشة، ليس لديك مناص سوى أن تعبر بحر الذكرى، وتقطع فجاج السنين، فهناك معاني وأحداث تشع عند الاجترار، ولذة ومتاع يحلو عند الاعادة، ليذهب عنك هذه الرتابة التي أمست ثاوية مقيمة، وليست مجرد طور خاطف لا يلبث أن يزول، ستظهر اغتباطك إذن، وأنت تمضي في هذا السفر الطويل اللذيذ، سفر لا خطر فيه، أو لا يكاد يوجد فيه شيء من الخطر، إنها رحلة طويلة بلا شك، ستعرف معناها، وتستبين غايتها، و تصل بها إلى نهايتها، وستدرك حينها وأنت تمعن في ظرفها، وكياستها، وبساطتها، أن قدرتك على الثبات، ومقاومة الأحداث، واهية ضعيفة، وانك وأنت غارقاً في لججها و زخمها، لا تسمع مطلقاً اصطخاب موجها، ولا هدير بحرها، ولا عصف ريحها،  كلا لن تسمع شيئاً من كل هذا، فعقلك وحواسك كلها، قد استرعى اهتمامها سائر تفاصيلها المثيرة، التي تملك عليك سمعك ونفسك، وتجعلك لا تبتغي شيئاً غير أن تقف عندها، وتحكم عليها.

ونفسك التي هي حتماً لم تكن الوحيدة التي تستقي من يم الذكريات، ولكننا نظن ونغالي في الظن، بأنها في طليعة المهج التي تأنس منها الميل إلى سجية الماضي، والاعجاب به، فهي تخضع له، ولا تجد عنه غنى ولا منصرف، هي إذن تصغي لتفاصيل أيامها الخوالي، وترتمي في أحضانها الدافئة، لأن أيامها التليدة تلك، ليست مثل حاضرها القاحل، حاضرها في الحق قاتم، موحش كئيب، تهيم فيه هذه النفس مجهولة وحيدة، حتى وهي وسط أهلها وعترتها، ويضنيها خمول اسمها، وبطلان مساعيها، ففي أيامها المنصرمة ما يحملها على الاعجاب بها، والتفكير فيها، أنس النفوس، وتعاطف القلوب، وائتلاف الأرواح، في تلك الحقب التي قضت واندثرت، الاشتمال والرعاية، والصون والعناية، كان قاصراً على اللهو الساذج، والعبث البريء، وآمالها التي لم يكن هاجسها قط تمكين يد، أو ترسيخ قدم، أو نصرة راية، أو تنضيد لفظ، أو إعلاء كلمة، مبلغ خواطرها، ومنتهى تجاربها، أن تلط بالمال، وتخيس بالعهد، وتذهب قليلاً عن الرشاد، ويضرب بينه وبينها الأسداد،  لأجل ذلك كانت تعود أدراجها إلى غابر عهدها، وتلتفت كثيراً إلى عقودها التي مٌحقت وتلاشت.

كانت نفسك حقاً تكبر سابق أيامها، وتذعن لها، وتمتثل لأوامرها ونواهيها، لأنها خلت من تلك الأحزان التي تحر الصدور، وتنكى القلوب، وتبكي العيون، وتصدع الأكباد، كان ماضياً  واضحاً جلياً، لا تستتر وراءه لوعة أدهشت الناس بأحاديثها، ومقالاتها، وصورها، ماضي لم تقبع فيه روحك حزينة كاسفة، يجثم بجانبها الأمل الذي أصابته جروحاً غائرة، يشكو شكاتها، ويتألم بآلامها، روحك التي تنتظر أن تتحفها الأقدار بمنن وعطايا، تبعث فيها ضروب الاحساس والشعور، احتشدت فيها، أوجاع راهنة، خلفت لها هذه القروح جوى واصب، وأسى مستقر، ما زالت هي غارقة في موسيقاه الشاجنة، وأناته الشجية.

حاضرنا إذن موسيقاه شاحبة، وأنغامها حزينة، موسيقاه نشاز لا يحتمل، ولا ينتظر أن يستجيب لها الناس، ويهرولوا إليها، لأنها ليست عامرة ولا مزدهرة، أو حتى آخذة في استكمال ازدهارها باتخاذ الوسائل التي تقيلنا من هذا العذاب الخالد، والعناء المقيم، ايقاع حاضرنا -أيها السادة- الذي لا يذوب رقة، أو يفيض حناناً، هو شدة  تسحق أرواحنا، وصخب تصطك منه أسماعنا، ودوي يضعضع ببهرجه، وضجيجه، صلات الحب، والعطف، والمودة بين البشر، نحن باختصار، في حاجة لأن نقرر لجاناً كثيرة، في مواضع مختلفة، فئات تتقن هذه الموسيقى، وتلم بأصولها، تصحح هذه اللجان، الفوضى التي تملأ أرجاء حياتنا، تصحيحاً علمياً دقيقا، هذه الطوائف المستنيرة، بعد أن تصحح نصوصها، وتقوم ما فيها من اضطراب، وتحريف، وخطل، عليها ألا تتباطأ في تمزيق أوصال هذه الموسيقى البغيضة التي راجت واتسعت، موسيقى  الصراع والحروب، والملاطم، وتستعيض عنها بموسيقى قديمة، عذبة، سائغة، تشعرنا بما كان لنا من إلفة، وبما حباه الزمان لنا من انسجام.

***

د. الطيب النقر

 

لطالما تغنى الغرب بحضارته، وادعى أنها قائمة على قيم الحرية والعدالة والإنسانية، لكن الواقع يكشف زيف هذه الدعاوى كل يوم. فها هي أربع عشرة طائرة شحن قادمة من أمريكا وألمانيا تصل إلى أرض المحتل، محملة بالعتاد الحربي، لتزيد من نار الصراع اشتعالاً، وتؤكد أن الحضارة الغربية ما زالت تعيش في عقلية الحروب الصليبية، تمد يدها بالسلاح والدمار حيثما أرادت، وتنثر خطابات السلام حيثما انتهت مصالحها. 

حضارة أم غزو؟ 

يقولون إنهم يحملون مشعل الحضارة، ولكن أي حضارة هذه التي تقوم على احتلال الأرض وسرقة الحقوق؟ أي حضارة تزعم أنها تنشر الديمقراطية وهي تدعم الاستبداد؟ إنها حضارة تناقض نفسها، فهي ترفع شعارات الحقوق الإنسانية بينما تبيع الأسلحة لمن ينتهك هذه الحقوق. إنها حضارة تلبس ثوب الفكر والتنوير، لكن عقلها لا يزال يعيش في القرون الوسطى، حيث القوة هي القانون، وحيث الغزو والاستعمار وسيلة للسيطرة. 

صدع الغرب رؤوسنا بحديثه عن حقوق الإنسان، لكنه لم يتورع عن دعم كل محتل، ولم يتردد في إشعال الحروب حينما تتعارض مصالحه مع مبادئه. فهل يمكن أن نثق بحضارة تضع سكيناً في يد القاتل، ثم تأتي لتمسح دم الضحية؟! 

عقلية الصليبي الجديد

ما الفرق بين الغزوات الصليبية التي اجتاحت المشرق منذ قرون، وهذه الطائرات التي تحمل السلاح اليوم؟ الفرق في الشكل فقط، أما الجوهر فهو واحد: عقلية الغازي الذي يرى نفسه سيد العالم، والذي يعتقد أن له الحق في تقرير مصير الشعوب. إنها العقلية نفسها التي أحرقت مكتبات الأندلس، ودمرت حضارات بأكملها في أمريكا اللاتينية، واستعبدت إفريقيا لعقود. 

ولكن التاريخ يعلمنا أن كل ظالم إلى زوال، وأن الشعوب التي تقهر لا تموت، بل تتحول قهرها إلى قوة تقاوم. فكما انتفضت الشعوب ضد الاستعمار القديم، ستنتفض الأجيال القادمة ضد هذا الاستعمار الجديد، الذي يتخفى تحت عباءة الاقتصاد والسياسة، لكنه في حقيقته لا يختلف عن سابقه. 

لا ينبغي للغرب أن يندهش حينما تتحول الشعوب التي عانت من قهره إلى قنابل موقوتة. فكل فعل يولد رد فعل، وكل ظلم يزرع بذور الثورة. لقد حوّل الغرب دولنا إلى ساحات حرب، فلماذا يعترض إذا ما انتقلت هذه الحروب إلى عواصمه؟ لماذا يتعجب إذا ما رأى أبناء المستعمرات السابقة يردون الصاع صاعين؟ 

إن القانون الطبيعي يقول إن الظلم لا يدوم، وإن الحضارات التي تقوم على القهر تسقط تحت ثقل جرائمها. والغرب، إذا استمر في سياسته هذه، سيجد نفسه يواجه عاصفة لن يستطيع صدها، لأن الشعوب التي تتعلم من التاريخ لا تنسى، ولا تغفر.

فالحضارة الحقيقية ليست في تراكم السلاح، ولا في فرض الهيمنة، بل في احترام الإنسان، في كل مكان. والغرب اليوم، بدعمه للمحتل وتزويده بآلات الدمار، يثبت أنه لم يتعلم من دروس التاريخ. فليتذكر أن الحضارات العظيمة لم تسقط إلا عندما تحولت إلى آلة للقتل، وعندما فضلت القوة على الحق. 

فهل يفيق الغرب قبل فوات الأوان؟ أم سيظل غارقاً في أوهام تفوقه، حتى تأتي رياح التغيير فتدمر كل شيء في طريقها؟ السؤال معلق، والإجابة تكتبها الأيام القادمة.

  تناقض القيم ووحشية الممارسة 

لا يكفي أن نقف عند حد تشخيص الداء، بل لا بد من تعرية جذوره، وتتبع مساراته الخفية التي تتخفى وراء خطاب براق، لكنه أجوف من الداخل. فالغرب الذي يتشدق بالحرية والديمقراطية هو نفسه الذي يدعم أنظمة استبدادية حينما تخدم مصالحه، وهو نفسه الذي يبيع السلاح لكل من يدفع، بغض النظر عن دماء الأبرياء التي ستسيل به. فأين هي المبادئ التي يرفعها الغرب شعاراً، إذا كانت المصالح هي التي تقود سياسته؟  

أتقن الغرب لعبة ازدواجية المعايير، فهو يدين العنف في مكان ويغذيه في مكان آخر. فها هو يحاكم مجرمي الحرب في محكمة الجنايات الدولية، لكنه في الوقت نفسه يمد إسرائيل بكل ما تحتاجه لمواصلة جرائمها في فلسطين. وها هو يرفع لواء حقوق المرأة في العالم العربي، لكنه يتجاهل معاناة النساء والأطفال تحت القصف الغربي في العراق وسوريا وأفغانستان. 

فكيف يمكن للعقل أن يتقبل هذا التناقض الصارخ؟ الجواب بسيط: لأن الغرب لا ينظر إلى هذه المبادئ إلا من خلال عدسة المصلحة. فإذا تعارضت المبادئ مع المصالح، طويت المبادئ جانباً، وإذا تطابقتا، رفعت رايات الفضيلة. وهذا هو جوهر النفاق السياسي الذي تمارسه النخب الغربية، والتي تريد أن تصدر للعالم صورة المنقذ، بينما هي في الحقيقة جزء من المشكلة. 

الاستعمار الجديد

لم يعد الاستعمار الغربي يحتج إلى جيوش غازية كما في الماضي، فقد اكتشف أدوات أكثر فاعلية وأقل كلفة: الاقتصاد، والإعلام، والثقافة. فالشركات العابرة للقارات تمتص خيرات الشعوب تحت شعار "الاستثمار والتنمية"، والإعلام يغزو العقول عبر صناعة الرأي العام، والثقافة تصدر على أنها "قيم عالمية"، بينما هي في حقيقتها إمبريالية فكرية تهدف إلى طمس الهويات المحلية. 

ولكن هل يمكن لهذا النموذج أن يستمر إلى الأبد؟ التاريخ يقول لا. فكما انهارت الإمبراطوريات القديمة تحت ثقل تناقضاتها، سينهار هذا النظام الجديد عندما تدرك الشعوب أنه لا يختلف عن سابقه إلا في الشكل. فالعنف الاقتصادي قد يكون أبطأ من العنف العسكري في إثارة الغضب، لكنه أعمق أثراً، وأشدّ تدميراً على المدى البعيد. 

بين اليأس والأمل 

قد يتساءل البعض: ما جدوى المقاومة في عالم يسيطر عليه الأقوياء؟ والجواب هو أن المقاومة ليست خياراً، بل هي ضرورة وجودية. فالشعوب التي لا تقاوم تُدفن حية، وتُسلب إرادتها، وتُحوَّل إلى مجرد أدوات في آلة الاستهلاك الغربية. لكن التاريخ يعلمنا أن كل محاولات القهر فشلت في النهاية، لأن إرادة الحياة أقوى من كل آلات الموت. 

لقد رأينا كيف انتفضت الشعوب في فيتنام ضد أعتى قوة عسكرية في العالم، وكيف خرجت الجزائر من تحت نير الاستعمار الفرنسي، وكيف تقاوم فلسطين منذ عقود رغم كل الدعم الغربي للمحتل. هذه الأمثلة تثبت أن الظلم لا يدوم، وأن الأمل لا يموت ما دام هناك بشر يؤمنون بعدالة قضيتهم. 

 هل من سبيل للخلاص؟ 

إن خلاص العالم من هذا النموذج الغربي المتوحش لن يأتي إلا بصحوة إنسانية حقيقية، تعيد الاعتبار للعدل والمساواة، وتنزع عن الغرب هالة الزيف التي صنعها لنفسه. فإما أن يعيد الغرب النظر في سياسته، ويعترف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وإما أن يستعد لمواجهة عواصف الغضب التي ستجتاح عواصمه يوماً ما. 

أما نحن، فلا خيار لنا إلا أن نواصل الكفاح، بالكلمة والسلاح، بالفكر والمقاومة، حتى نسترد كرامتنا، ونحفظ لأجيالنا القادمة حقها في عالم أكثر عدلاً وإنسانية. فكما قال الشاعر: 

وإذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياةَ

فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ

فهل نستطيع أن نكون نحن ذلك الشعب؟ الجواب بين أيدينا.

***

د. عبد السلام فاروق

الآن يا قلمي نستأنف الحديث الذي انقطع لأجيبك عما تساءلت بالحجة والبرهان، وبالدليل كامل الأركان حتى أضئ ليلك وأزيل الغمامة، مؤكدًا أن للحديث أصول يقودها الصدق ووضوح الخطاب لا يحتاج إلى إحالة أو إشارة أو علامة.

أمّا عن علل اللغط الكلامي وفوضى المعاني والاشارات السياقية، والدلالات الانفعالية سوف نجد كل ذلك قد عقدت من أجله الحلقات والدورات التدريبية، لتأليف الشعارات وحبك الأكاذيب والحكايات الوهمية - من قبل المخابرات الصهيوأمريكية، والمحافل الماسونية، والوقائع والأخبار والشائعات انطلاقًا من نظرية (التداولية) (pragmatics)؛ وهي بالطبع إحدى آليات الحوار اللسانية والمعارك الإعلامية في الحرب العصرية.

وأصولُ تلك النظرية ترد إلى عشرات الفلاسفة المعاصرين الذين يطلق عليهم العابثين أولئك الذين زعموا أن ثقافة هذا العصر تقتضي الترويج لبهرج الكلام، بمعزل عن الحلال والحرام وانتقاء الألفاظ في التخاطب ومراعاة المقام أو المزاح دون احترام والتهكم على المقدس والتفكه بالمدنس وتركيب الصور، والشك في صلاحية الموروث من العبر، واستحضار الغائب وإخفاء الذي حضر.

وتولّد عن تلك النقمة ألفاظ مثل السراب شأن غيبة المعاني المطلقة والهويّة الجنسية والعرقية فجميعها عبارات منمقة، أما باطنها فمحشو بدلالات يلفظها الواقع لأنها غير محققة، وذلك لأن اللغة في رأيهم لغوٌ في سياقات مرتاب فيها؛ لكونها نسبية وغير مطلقة ولا مدققة.

وتشهد بذلك الكتابات (الوجودية والفينومونولوجية، والتفكيكية والبنيوية) والفخفخينة بالتقلية. تلك التي يصعب على الكلاسيكيين هضمها في مطاعم الأشتات، وفي مجامع خذ وهات.

والخلاصة: أن جميعهم اتفق على أن المعاني والدلالات بلا ثبات. وأن الالفاظ لا عاصم من انتهاكها على يد المؤولين رغم احتمائها بنصوص الإلياذة وجلجامش أو أسفار العهدين أو وحي الديانات.

وها هو قلمي يستوقفني مجددًا، غير عابئ بالنظام الذي يقضي بأن للسؤال آداب ووقت محددة.

- القلم: حسنًا لقد وضحت وكشفت يا صديقي العزيز عما غاب عن معارفي فأجزت وبينت طبيعة العلاقة بين المعنى والدلالة وما نعيشه من مكائد وتطاول الأراذل والحثالة، وسؤالي هذه المرة عن أمراء منابرنا المفوهين وقادة الرأي في ثقافتنا المحترمين وأصحاب المناصب وتجار الكلمة من الإعلاميين والساسة المشهورين المبجلين؟

- الكاتب: يجيبك السياسي الأمريكي صمويل هنتجتون (2008-1927) في كتابه ثقافة التقدم الذي اعتلى كرسي المعلم فحديثه مألوف، فهو عند الما بعد حداثيين في الشرق والغرب معروف ذلك الذي ذهب إلى أن العرب المسلمين مازالوا يفكرون، ويتحاورون بلغة الماضي والمنصرم من القرون. وغاب عنهم لغة العصر ومناهجه الفكريّة ونهوجه اللغوية وسياقاتها الدلاليّة المنطوقة والمكتوبة والمصورة، تلك التي إذا ما أرادوا قراءتها تغريهم ظواهرها المحكية دون أسرارها الخفية المشفرة.

ونظريات كتابها الفلسفية والروائية؛ وذلك بأذواقهم ومعارفهم السلفية ناهيك عن استخدامهم للغة الحجريّة، رغم جحود مثقفيهم للأصول والمرجعية، التي يتشدقون بنقضها في عصر العلم وهم عرايا بلا هوية، يلبسون قبعة المجددين وتحتها عمامة الرجعيّة. عاجزين عن التحاور مع مجتمع رغب عن العزلة وآمن بالتعدد والغيرية وأن القوة والمصلحة وحرية الإرادة هي أفضل السبل للعيش في عصر المدنية وفهم المسائل الاقتصادية وحل الملغز من القضايا السياسية. وإن كره الجامدون الساجدون الطالبون العون من أربابهم كشف الغمة والعيشة الهنية، ورغم ذلك تألف متفلسفي العرب مقلدين غير مبدعين في الثقافة الشرقية وفي عيون الغرب مسوخًا يعانون من قصر النظر والاضطرابات الذهنية.

أمّا الفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري (2002-1922) في كتابه (الهمجية)؛ نجده يوضح ما غمض من علة المحنة التي تعيشها الإنسانية من جراء انتصار قادتها وساستها - في هذا العصر- للعلم والفلسفات الوضعية النفعية مفضلين الثورات التكنولوجية وابتكار الأسلحة التدميرية وتضليل الاذهان بالأوهام الخيالية وخداع المدارك بالحيل السمعية والبصرية، على معالجة ما آلت إليه النفس البشرية وما أصاب المجتمعات من خلل وتفكك وتدني في الاذواق وانحدار في الاخلاق وغيبة الأصول التربوية حتى حاكت ثقافتهم الطبائع الحيوانية؛ الأمر الذي ينبأ بمصير حالك الظلمة، وصراع لا يسلم من تبيعاته الراكد في القاع والراكض صوب القمة، وكل ذلك وأكثر من توابع فوضى المعاني وسيولة السياقات، وكثرة وتباين الدلالات لألفاظ الكلام والإيماءات والإشارات التي أباحت للمفاهيم انتهاك عفة العقل بحجة تحريره من سجن الأيدلوجيات، وحرمته من التحري للوقوف على صدق المقاصد التي تلاشت من جراء عبثية التفكيكية.

أما كتاب (الإسلام متعب) للمفكر الصهيوني جاكوب دون (1924-1855) فيعد متممًاً لهذه القضية حيث حديثنا عن الاسلوبية والحروب العصريّة في هذه الألفية، لأنه يهدف إلى هدم العقيدة الإسلامية الراسخة في الأنفس وليس في المصاحف وما تحويه من أوراق، لكونها مكمن وحدة العالم الإسلامي، وإن تباينت المذاهب والفرق والقوميات والأعراق؛ وذلك بالتجديف في المحفوظ من الآيات وادعاء اضطراب الأحاديث وضعف الروايات، والتشكيك في الوقائع والتزوير في الأحداث والواقعات؛ وتطبيق ألعاب اللغة ونظرياتها الأسلوبية المعاصرة في الشروح والتأويلات.

ناهيك عن الخلط والدّس والتلفيق؛ فالعجن والبث في السير والاقوال والأحكام الفقهية والمسائل الاعتقادية وذلك بأبحاث وبراهين وهمية وأكاذيب مصنوعة بتقنية وحرافية، والترويج للأضاليل على ألسنة من استمالوه من الاتباع عُربًا كانوا أو مسلمين أو دونهم من تجار الكلمة الذين تجري على ألسنتهم الألفاظ والدلالات والمعاني التي تشترى وتباع.

على أن يبدأ التطبيق لإفساد أخلاقيات وعادات المجتمعات المحافظة؛ وذلك عن طريق الصور والأفلام والبهرج في الكلام وإفشاء أسرار الأسرة، والجماع في المنام بين النساء، وتعويدهم على السحاق، وترغيبهم في زنا المحارم، واستحلال نكاح المتعة وإهمال شئون البيت وتربية الأطفال، وترغيبهم في التقليد في اللباس والسلوك والتندر بالحكايات وقيل وقال.

وترغيب الأبناء في المدارس الأجنبية في التربية والتعليم، وذلك عوضًاً عن الكتاتيب وحفظ القرآن الكريم، وغواية الرجال بضرورة التعدد في الزوجات، واحتساء المقويات، وتعاطي المخدرات وارتياد المراقص، والاقبال على الحفلات والمهرجانات.

وأشار المؤلف إلى ضرورة البدء في تطبيق ذلك على ثقافة سكان جزيرة العرب والإمارات؛ ثم باقي الأقطار الاسلامية عن طريق الأغاني وتقليد الأغيار من المنكرين أو أصحاب الديانات، باسم الوحدة الوطنية ومحاربة الطائفية، وتحريض الشباب على التحرر من سلطة الآباء، وتفضيل الإباحية والعري على لباس الورع ورداء الاتقياء باسم الحرية واستقلال الشخصية.

وما خفي كان أعظم من مظاهر الأسلوبية، وكل ما أوردناه من مصنفات محفوظ في مكتبة الكونجرس الأمريكية والحوار لم ينتهي بعد؛ فللمقامة بقيّة عن الضلالات العقليّة والأكاذيب المعرفيّة.

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

الشرق الأوسط اليوم مسرح معقد تجرى عليه فصول من المأساة الإنسانية التي تتداخل فيها الأطماع بالعقائد، والذاكرة التاريخية بالحروب الحديثة، والهوية الثقافية بالانهيار الأخلاقي.

إنه عالم يبدو كما لو كان يحمل في أحشائه تناقضًا وجوديًا بين ما يريد أن يكون وما أجبر عليه. فهل ما نراه اليوم إلا نتيجة حتمية لصراع قديم بين التقاليد والحداثة، بين الانتماء إلى الماضي والانفتاح على المستقبل؟ أم أن هذه النار التي تحرق الأرض والعقل معًا هي ثمرة فشل حضاري في إعادة صياغة الإنسان قبل الحجر؟ 

لطالما كان الشرق الأوسط مهد الحضارات والديانات، ولكنه أيضًا كان ساحة للصراعات الدموية التي لا تنتهي. فها هو اليوم يعود ليقدم للعالم صورة مكبرة عن أزمة الإنسان حين يفقد بوصلة القيم. فالحروب التي تشتعل في إيران وفلسطين وإسرائيل واليمن والسودان وليبيا ليست مجرد نزاعات سياسية أو اقتصادية، بل هي أعراض لمرض أعمق: مرض الهوية المفقودة. 

الشرق الأوسط يعيش أزمة انتماء وجودية. فهو من ناحية يتشبث بتراث ديني وتاريخي عريق، ومن ناحية أخرى يصارع رياح العولمة والحداثة التي تجتاح العالم. وهذا الصراع يولد إما انغلاقًا متطرفًا يقدس الماضي ويحارب الحاضر، أو انسلاخًا كاملاً عن الجذور يجعل الإنسان ضائعًا بين ثقافات لا يعرف كيف يختار منها أو يرفض. 

الدين والسياسة 

لا يمكن فهم الصراعات في الشرق الأوسط دون الغوص في العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة. فالدين، الذي كان ينبغي أن يكون منارة للسلام والروحانية، تحول في كثير من الأحيان إلى سلاح يستخدم لتبرير العنف وإقصاء الآخر. والمأساة أن هذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي نتيجة لقرون من توظيف المقدس لخدمة المصالح الدنيوية. 

فها هي الجماعات المتطرفة ترفع شعارات الدين لتحارب باسمه، بينما تفرغه من كل معنى أخلاقي. وها هي الأنظمة السياسية – في إسرائيل وإيران- تستخدم الخطاب الديني لتبرير القمع أو التوسع. وفي خضم هذا التشويه للدين، ضاع الإنسان العادي، الذي لم يعد يعرف كيف يفرق بين الإيمان الحقيقي والأيديولوجيا السياسية المقنعة بثوب الدين. 

في هذا السياق بالطبع لا نستطيع أن ننكر أن للغرب دورًا كبيرًا في تعقيد الأوضاع في الشرق الأوسط، سواء عبر الاستعمار القديم أو الهيمنة الحديثة. ولكن اللوم على الغرب وحده هو هروب من المسئولية. فدول الشرق الأوسط تدفع ثمن عجزها عن إنتاج نموذج حضاري خاص بها، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الانتماء والانفتاح. 

فلقد أصبح الشرق الأوسط ساحة لصراع القوى الكبرى، ليس لأنها قوية فحسب، بل لأن الضعف الداخلي جعل المنطقة عرضة للتدخل. فبدلاً من أن يكون الشرق الأوسط فاعلاً في التاريخ، أصبح رديفًا للتبعية والصراعات المستوردة. 

إن الحل لا يكمن في المزيد من السلاح أو في انتصار طرف على آخر، بل في إعادة بناء العقل الجمعي على أسس جديدة. نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية تعيد تعريف الهوية بعيدًا عن الانغلاق أو الذوبان، إلى تعليم يحرر العقل من الخرافة والاستبداد، إلى إعلام يبني ولا يهدم، إلى سياسة تضع الإنسان فوق كل اعتبار. 

بالطبع فإن الشرق الأوسط لن ينهض إلا إذا انتصر العقل على التعصب، والتسامح على الكراهية، والعدل على الظلم. وإلا فإن مصيره سيكون مزيدًا من الدمار والانحدار. فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟ 

فخ التاريخ وعبثية الحاضر

إذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإن الشرق الأوسط يعيد مأساته بطريقة أكثر عبثية من ذي قبل. فالحروب التي تشتعل اليوم ليست مجرد صراع على الأرض أو السلطة، بل هي تعبير عن أزمة وجودية تمس جوهر الإنسان في هذه المنطقة. فلماذا يعجز الشرق الأوسط، بعد كل هذه القرون من الحضارة، عن الخروج من دائرة العنف والتبعية؟ وهل يمكن لفلسفة التنوير أن تجد لها موطئ قدم في أرض تقتل فيها الكلمة قبل الإنسان؟ 

ضحايا الأصولية 

في الغرب، كانت الفلسفة والتنوير هما الجسر الذي عبرت عليه أوروبا من ظلام القرون الوسطى إلى عصر الحداثة. أما في الشرق الأوسط، فما زال العقل يحارب باسم الدين أو القومية أو الأيديولوجيا. فالفكر النقدي يوصم بالخيانة، والتنوير يتهم بالتبعية للغرب، والعقلانية تقابل بالتشكيك في النوايا. 

لقد تحولت الفلسفة في الشرق الأوسط إلى ترف أكاديمي يدرس في الجامعات بينما يحارب في الشارع. فالإنسان العربي، على سبيل المثال، ما زال يعيش في صراع بين ماض يقدس وحاضر يرفض. والنتيجة؟ ثقافة تناقض نفسها: تطالب بالحرية ولكنها ترفض التسامح، تنادي بالوحدة ولكنها تقسم نفسها على أساس الطائفة والقبيلة، تبحث عن الهوية ولكنها ترفض أن تسأل: من نحن؟ وما الذي نريد؟ 

الدولة الحديثة وسؤال الشرعية 

منذ سقوط الدولة العثمانية، حاول الشرق الأوسط أن يقلد نموذج الدولة القومية الحديثة، لكن التجربة كانت في معظمها فاشلة. فالدولة التي يفترض أن تكون تجسيدًا للإرادة العامة أصبحت في كثير من الأحيان أداة للقمع أو المحاصصة الطائفية. 

لماذا؟ لأن فكرة المواطنة لم تبن على أساس العقد الاجتماعي، بل على الولاء للطائفة أو العائلة أو الزعيم. وهكذا، تحول السياسي إلى شخصنة للسلطة، وتحول الوطن إلى ساحة للصراع بين الهويات الفرعية. فكيف يمكن لدولة أن تقوم إذا كان المواطن يشعر بأنه غريب في وطنه؟ وكيف يمكن للديمقراطية أن تنجح إذا كان معنى "الشعب" مقتصرًا على فئة دون أخرى؟ 

لا يمكن إنكار أن الغرب لعب دورًا في تعقيد أوضاع الشرق الأوسط، سواء عبر الاستعمار القديم أو السياسات الحديثة. لكن المشكلة ليست في الغرب نفسه، بل في عقلية التبعية التي جعلت بعض النخب تنظر إلى نفسها بعيون الآخر. 

فبعض المثقفين العرب، بدلاً من أن ينقدوا الغرب نقدًا موضوعيًا، انقسموا إلى فريقين: فريق يقدس الغرب ويعتبره النموذج الوحيد للتحضر، وفريق يرفضه كليًا ويحمله كل أسباب التخلف. وكلا الموقفين يغفل سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن للشرق الأوسط أن يجد طريقه الخاص نحو الحداثة دون ذوبان أو انغلاق؟ 

نحو ثقافة جديدة تقبل التناقض وتتجاوزه 

الشرق الأوسط ليس محكومًا عليه بالفشل، لكن خلاصه لن يكون إلا عبر ثورة ثقافية حقيقية. ثورة تعيد تعريف الهوية بعيدًا عن العصبيات الضيقة، وتحرر العقل من الأوهام الأيديولوجية، وتجعل من السياسة أداة لخدمة الإنسان لا العكس. 

نحن بحاجة إلى فلسفة جديدة ترفض الثنائيات الجاهزة (القديم/الحديث، الديني/العلماني، الشرقي/الغربي)، وتعيد طرح السؤال الجوهري: كيف نعيش معًا رغم اختلافاتنا؟ وكيف نصبح جزءًا من العالم دون أن نفقد أنفسنا؟ 

هذا لأن الحضارات لا تنهض بالشعارات، بل بالإرادة الحرة والعقل النقدي. 

فهل نستطيع أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، أم أن قدر هذه المنطقة أن تظل تدور في حلقة المأساة ذاتها؟ السؤال مفتوح، والإجابة ليست كتابًا يقرأ، بل تاريخًا يصنع. 

***

د. عبد السلام فاروق

في العراق على وجه التعيين، ينطوي مفهوم ونموذج "الوطنيه" المتداول على مخالفة كلية افنائية المقصد، لطبيعة المكان، الموضع العراقي الذي لم يعرف مطلقا في تاريخه البدئي الفاعل والمميز، مثل هذا النوع من التشكلية، او صنف التعبيرية، باعتباره نموذجا كيانويا اخر مخالف للمتعارف عليه، والغالب تاريخيا، بينما تجسد في ارض مابين النهرين نمط ازدواجية، امبراطوري/ لاارضوي،  بدءا ببابل، وقبلها اول امبراطور في التاريخ سرجون الاكدي "حاكم زوايا الدنيا الاربع"، ومقابله الامبراطورية اللاارضوية الدائمه الابراهيمه، وصولا الى العباسيين ومقوله الرشيد للغيوم "امطري حيثما تشائين فانت في ارضي"،ومقابله القرمطية والاسماعيلية والتشيع، وصولا للانتظارية "المهدوية" واخوان الصفا والمعتزله، وجملة التعبيرية، من الزنج الى الحلاجية، الى الخوارجيه والفاطمية  سليلة الاسماعيله.

وهنا تتداخل جمله من الظواهر المتناقضة والمتضاربه، ليس ممكنا على رغم كثرتها وقوة حضورها ان لاتعرض للمعالجة كشرط للتعرف على جسامة، ومدى التوهمية متعددة المناحي التي حلت على العقل البشري ابان الانتقال الالي عند بداياته الاولى، ماقد رافقه من تصور هو بالاحرى الممكن المتاح، ووليد المتوفر من القدرة الاحاطية العقلية في الموضع الاوربي الذي عرف قبل غيره الانتقال الالي، فما كان بالمقدور حينه الخروج عن نطاق الانيه والمكانيه المحدده كمنطلق للتعريف الانتقالي الواقع، بلا ايه احتمالية خارجها، او من الممكن ان تكون موصوله بها  وضرورية لاكتمالها كمستقبل، بحيث  ينظر للحاصل في حينه على انه عتبه بداية، وهذا جانب ليس بالعارض اطلاقا اثرا وحصيلة، يضاف له الاهم ربما، ذلك المتعلق بالمجتمعية وماهي بصدده، وصارت مع الاله مقبلة عليه كانقلابية، وهو مالم تقترب منه التوهمية الغربيه المشار اليها، فلم يخطر لها الاعتقاد بان المجتمعية يمكن ان تكون مجتمعيتان متعاقبتان، وان الاليه المنبثقة، تقابلها وسوف تنتج عنها مجتمعية اخرى، غير تلك القائمة والمتبقية ماتزال  من الطور اليدوي.

وهنا عند هذه الناحية الاساسيه تتجلى مسالة موروثة غاية في الاهميه والحضور،  اصلها حاضر في الطور الاول اليدوي، حيث انتفاء القدرة العقلية على ادراك الحقيقة المجتمعية، وهو ماقد ورد في اجمالي المفاهيم المواكبه للانقلاب الالي، وعلى راسها اخر العلوم "علم الاجتماع" بصيغته الابتدائية غير الموهلة لاجتياز معضله القصور التاريخي، وبالذات منها الوقوع على الازدواجية المجتمعية، وعلى وجه الخصوص، اكتشاف النوع الثاني المجتمعي غير ذلك السائد والمعاش، والباقي خارج التعيين، فضلا عن الادراك، مع مايمكن ان يثيره من ايحاءات ناظمه وحاكمه للتفاعلية المجتمعية تاريخيا، كما مستقبليا، ماكان من شانه الربط بين، ومزج تفاعلية الانقلابيه المجتمعية الاليه،بالاصل المجتمعي"الاخر"، اللاارضوي غير المماط عنه النقاب في ارضه تاريخيا، مع انه كان ومايزال حاضرا بصيغة اولى كونية  مخترقه لغالبية المجتمعات،  وان بصيغتها الابتداء الحدسية  النبوية المطرودة من عالم " المجتمعية" الى منفى " الدين"، ماقد ساعد على تكريسه  كونها لم تبلغ مرحلة التعبيرية "العليّة" السببيه.

يوجد الغرب قاصرا موضوعيا ازاء الانقلابيه الحاصلة بين ظهرانيه، بما يجعل من تلك منها محطتين، احداهما "مادية" في حال تشكل، والثانيه "ادراكيه" غائبه، ما يجعل من الانقلاب الالي مسارا تشكليا، وليس  لحظة انتقال اني مكتمل، تبدا معه الالة مصنعية قبل ان تتحول الى التكنولوجيه، ومن ثم الى التكنولوجيا العليا، وهي موجوده كي تنهي المجتمعية اليدوية، الارضوية الجسدية الحاجاتيه، لا لكي تمنحها ماتدعية من " تقدم" تكراري للصيغة الموروثة من المجتمعية اليدوية المنتهية الصلاحية، وبكلمه فان الاله تظهر في اوربا المجتمعية الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نوعها بفعل ازدواجها الطبقي،  لكي تنهيها نوعا ماعاد صالحا مع تبدل وسيلة الانتاج، من اليدوية الجسدية، الى "العقلية" مافوق الارضوية.

يترتب على جملة التداخلات القصورية الفائته حلول حالة من "الطور اليدوي من الانتقال الالي"، مع كل ماينتج عنه ويترتب عليه خلال المسار الالي الابتدائي من متغيرات ومنجز غير عادي سهل حالة التغلب المفهومي والنموذجي الغربي، اسهم في ذلك تماثل عموم النمطية المجتمعية على مستوى المعمورة  بدرجات مع النمطية والصنف الاوربي الغربي من حيث الجوهر، ماكان من المستحيل ان لايكون انعكاسه متناغما معها، ومع اجمالي الظاهرة الحداثية الغامرة المرافقه لها، بظل انكسارية وانقطاعية الظاهرة الازدواجية المجتمعية العراقية، بالاخص ابان الفترة او المرحله الاولى من اللقاء بين الغرب وحضوره المباشر، والمكان الذي  المختلف الذي وصله، بغض النظر عن نوعية الاستقبال غير العادي الذي عرفه الانكليز وحملتهم في غمرة الانتفاض الكبير الذي كاد ياخذهم الى الانسحاب، مع ان الحاصل كان " ثورة بلا نطقية" وقعت في حزيران عام 1920.

ومن ساعتها والعراق يعيش طور الاصطراع  الانقلابي الالي المكمل للعملية التاريخيه الانتقالية التحولية من اليدوية،  وعلى وجه التحديد الطور اليدوي منها، بكل مامثله من متغيرات استثنائية شامله، ومن قدرات مستجده، لم تمنع حقيقة كون الحاصل في هذا الموضع من المعمورة، هو بالاحرى الطور الحاسم من التاريخ الانتقالي الالي، وان ماسبقة وترتب عليه هو  الطور المادي الممهد للانقلابيه المجتمعية  المستجده، من المجتمعية اليدوية الارضوية الجسدية الحاجاتية الى المجتمعية العقلية، الامر الذي ظل ينتظر  خروج العقل البشري من شرنقة الارضوية والعجز القصوري الفادح بازاء المجتمعية، وبالذات نوعها الاصل البدئي، الممهد والاصل اللاارضوي.

ولم يكن متوقعا  بناء على ما تقدم ان لا تكتسح المروية الاوربية الانتقالية ماقبل الالية، والخاضعه لاشتراطات الموروث اليدوي اجمالي التعبيرية الظاهرة والمتداولة  عراقيا بحكم الغالب  الظروف الخاصة تاريخيا برغم الانبعاثية الاولية، بغض النظر عن المحركات الفعليه التي ظلت تلعب الدور الاساس في تعيين وجهه ومظاهر الاصطراعية الحاصلة بين اللاارضوية بحالتها الانقطاعية، والنمطية الانتقالية الغربيه بصيغتها الابتدائية، فكان ان سادت هنا لغة الطبقات والقومية والليبرالية كترجمة لواقع مجتمعي  اخر انبعاثي، كان هو المتحكم بتلك الظواهر المسماة "وطنيه"، فالشيوعية هنا هي شيوعية حمدان قرمط وكوراجينا المتعدية لشيوعيه ماركس الارضوية، والقومية تحركها اسباب الاصطراعية الذاتيه، ومفاعيل الانقطاع بين مستويين من المجتمعية، المنبعثة  اليوم في الاسفل لاارضويا، والبرانيه  وليدة التعاقبية على عاصمة الامبراطورية المنهارة من هولاكو، وكذا الليبرالية الشعبوية التي ذابت تلقائيا، في وقت كان بفترض ان تكون الاكثر فعالية وحضورا بعد ثورة 14 تموز 1958( المفترض انها برجوازيه)، هي اللاارضوية الثانيه غير الناطقة، التي اجهزت على،  ومسحت من الوجود، الكيانيه المركبة برانيا لاسباب احتلالية باسم "الدولة"، ومعها " الوطنيه الزائفة" الايديلوجيه الناطقة بغير لسانها، وخارج محركاتها وماهي ذاهبة اليه.

ـ يتبع ـ

***

عبد الامير الركابي

في المثقف اليوم