آراء

آراء

شهد المغرب، قبل أسابيع قليلة من موعد افتتاح الدورة الأولى للسنة التشريعية الخامسة من الولاية الحادية عشرة يوم 10 أكتوبر 2025، حدثًا سياسيًا بارزًا حمل دلالات وتأويلات متعددة. فقد تصاعدت وتيرة الاحتجاجات، وتنوّعت الاعتقالات وإخلاءات السبيل، وترافقت المشاهد بلوحات تصالحية تجسّد روح المحبة والوُدّ بين رجال الأمن والمحتجّين، حيث تبادل الطرفان التحايا والورود ورفعوا شعار: "سلمية، سلمية".

لقد أجمعت مختلف أجيال المغرب على نضج شباب جيل Z، الذي طرح لأول مرة إشكالية «الأنا السياسية» السائدة وتقاليدها الراسخة، موجّهًا رسالة واضحة مفادها أن وجودها مرتبط بمدى ترجمة كفاءتها إلى خدمات فعلية لصالح الأمة، أفرادًا وجماعات. وهكذا وجد هذا «الأنا» نفسه أمام مستجد لم يكن في الحسبان : فخطاباته التقليدية وممارساته التي مكنته لسنوات من فرض وجوده عبر استمالة الناخبين بمنطقٍ يفصل القول عن الفعل، لم تعد اليوم ذات مصداقية. لقد عصفت التطوّرات بمصادر الشرعية السياسية المعتادة، وانهار معها الوهم القديم بأن هذا «الأنا» يمثل بداية لا نهاية لها.

إن الجميع اليوم يتحدث عن أن استمرار «الأنا السياسية» التقليدية واستنباتها لن يكون ممكنًا ما دامت تتجاهل أو تنكر كونها مدينة بوجودها للآخر، أي للمواطن الناخب.

برز اليوم مفهوم «الغير السياسي» بمنطق جديد؛ فقد أحدث وقفة حقيقية تحوّلت على أرض الواقع إلى معضلة وجودية للأنا السياسية، ومصدرًا لتقييمات موضوعية تهدد بفقدانها ما ميّزها من تفردٍ وهيمنة. فالشعارات المرفوعة اليوم تعبّر بوضوح تام عن نهاية زمن اللامبالاة واللاتمييز الذي فرضه الماضي السياسي.

أصبحت النخبة السياسية تشعر بأن وجود «الغير المجتمعي» ـ أي الجمهور والشباب ـ بات محددًا لمصيرها تارة، ومهدّدًا له تارة أخرى. سرت بين صفوفها قناعة بأن هوامش الأريحية التي كانت تتمتع بها منذ الاستقلال قد ضاقت، بل هناك من يتكهّن بأن هذا الغير، أي الشباب، قد يسلب «الأنا السياسية» التقليدية هيمنتها ويجردها من خصوصيتها، وينهي احتكارها للسلطة ومصادر التأثير والتدبير الرسمي.

أمام هذا التحول البنيوي، يجد المتتبع نفسه أمام جملة من الإشكاليات الفكرية والسياسية العميقة، يمكن إجمال بعضها في ما يلي:

- هل ما يعيشه المغرب سياسيًا يُعاكس ما نستشفه من مفارقة مارتن هايدغر؟

هل بات مفهوم «الغير السياسي» مغربيًا (جيل Z) قويًا إلى درجة قد تمكنه من امتلاك سلطة إذابة النخبة السياسية المهيمنة، وحرمانها من تفردها وتميّزها؟

وهل يمكن أن تفضي هذه التفاعلات إلى ميلاد «أنا سياسية» جديدة، متصالحة مع الغير، لا تعتبره أداة أو بضاعة انتخابية موسمية؟

- هل يعيش المغرب منعطفًا جديدًا يمكن إسقاطه على فلسفة جون بول سارتر؟

أي هل يتحول هذا المخاض السياسي إلى نقطة انعطاف تجعل من «الغير» ـ خصوصًا الشباب ـ فاعلًا رئيسيًا في تحديد «الأنا السياسية» على أساس شرعية جديدة تمنح لمفهوم الوساطة مدلوله الحقيقي، وتُرسّخ الحرية كجوهر دائم للإنسان المغربي، ومصدرًا متجدّدًا لوعيه بذاته؟

- هل يمكن أن يصبح الغير في المغرب ليس «أنا آخر» مغايرًا لأناي كما عند دولوز، بل عالمًا ممكنًا منفتحًا أمامي لاكتشافه وتجريبه؟

وإسقاطًا على المجال السياسي المغربي، هل يمكن أن يرتقي دور جيل Z إلى جعل «الأنا السياسية» و«الغير» مكوّنين متلازمين لا غنى لأحدهما عن الآخر؟

- هل تُدرك الدولة أن معرفة الغير انشغال دائم؟

وأن تراكم التجربة في فهمه وتمكينه من الوعي بذاته هو السبيل لتجاوز مرحلة التشييء، والعبور نحو مرحلة المشاركة الواعية والإنتاج المشترك للقيم السياسية؟

انطلاقًا من هذه التساؤلات، يمكن القول إن تمثّلات شباب جيل Z بالمغرب تتّسم بقدر كبير من النبل والطهرانية الفكرية. فحناجرهم ترتفع منذ سنوات مطالبة بإصلاح التعليم والصحة ومحاربة الفساد، وبناء مقومات سياسية مشتركة تُشعر كل الأجيال بالفخر بانتمائها إلى مغرب الألفية الثالثة، مغرب جلالة الملك محمد السادس وولي عهده الأمير مولاي الحسن.

إنهم يطمحون إلى أن تتوحّد سواعد المغاربة في بناء وطنٍ حرٍّ ديمقراطي متوازن.

إن نضال الشباب المغربي اليوم يستتحضر أرقى المفارقات الفلسفية التي أثارها كبار المفكرين أمثال أرسطو وأوغست كونت وهيغل وغيرهم، مؤمنين بأن علاقة «الأنا» بـ«الغير» يجب أن يحكمها ميزان القيم الإنسانية.

فأرسطو يرى أن علاقة الأنا بالغير داخل الوطن لا يمكن أن تُبنى إلا على اقتسام المنفعة والحق في المتعة المشروعة، وذلك بتوطيد قيم الصداقة والمودة والفضيلة.

أما أوغست كونت فيعتبر أن تنمية هذا النمط من الصداقة يجعل من الحياة المشتركة فضاءً تسوده الثقة وردّ الجميل والاعتزاز بالتبادل الإنساني، فيغدو الغير شريكًا في الارتقاء بالفنون والإبداعات وضمان الاستحقاق في اقتسام ثمارها.

وترى الفيلسوفة جوليا كريستيفا أن تقبّل الغير والعمل إلى جانبه أمر طبيعي، وأن رفضه أو معاداته حالة مرضية. فالأنا، في جوهرها، تحتوي الغريب بداخلها، ولا يمكنها أن تعادي الغرابة لأنها مصدر الفضول والطموح نحو اكتشاف عمق العلاقة الإنسانية المشتركة.

وفي الختام، يمكن القول إن ما يصبو إليه شباب جيل Z بالمغرب هو تغليب الفضيلة بين المغاربة بمختلف مراتبهم وانتماءاتهم الثقافية والاجتماعية.

إن استغلال «الأنا» السياسية أو الاقتصادية للجماهير بمنطق التوحش الليبرالي، تحت ذريعة الجهل والفقر أو السعي لتكريسهما، لا يؤدي إلا إلى تعميق العداوة بين أبناء الوطن الواحد.

نعم لتحويل الحياة في المغرب إلى منافسة شريفة قائمة على التضامن والتآزر، ولا للصراع المولّد للكراهية والاستبداد.

فالمغرب لا يحتاج إلى منتصر متباهٍ ولا إلى مهزوم مكلوم، بل إلى مجتمعٍ يُعلي من شأن السلم والاستقرار، ويطمح إلى توسيع هوامش الحرية، وضمان الحق في اكتساب المهارة والقدرة على التنافس في إنتاج المنافع والخيرات.

***

الحسين بوخرطة

يتغير مبدأ "محو الذاتيه التارخيه" من الباس الموضع المعروف بالعراق، بما يعرف " الدولة البرانيه الحديثة"، يوم كانت الكيانيه و(الامه / الدولة) الاوربية هي السائدة، الى سحق الدولة مع مفهوم "الوطنيه الزائفة" التي كانت قد قامت بعد العشرينات كقوة تحررية بالمفهوم السائر عن التحرر، ليدخل العراق من بداية الثمانينات الى اليوم مسلسل افنائية لايتوقف، يبدا بالحرب الاطول بين دولتين بعد الحرب العالمية الثانيه مع ايران 1980/ 1988 لينفتح باب الحروب بلا توقف وصولا لانهاء ركائز مايعرف ب "الدولة"، في حين تكرس سلطات موزعه على متبقيات حثالية فرعية، تجري رعاية حضورها واستمرار غلبتها بالضد من ايه احتمالية "وطنيه"، هي بالاصل لاوجود لها، مثلتها تيارات مستعارة ايديلوجية لاعلاقة لها بالكينونة او البنية المجتمعية التاريخيه، هذا في حين صار العراق على مشارف التحول من عراق مابين النهرين، الى عراق مابعد النهرين بسبب سياسة تركيا المائية، لتتحول البلاد الى الى الريعية النفطية بلا دولة، بعد الطور الريعي الاول مابين 1968/ 2002.

 ولاياتي انتهاج الصيغة الافنائية بالقوة الواقعه الان، خارج التغير الحاصل على مستوى النظام الغالب راسماليا وتوهميا غربيا، بعد الانتقال الى العولمه، ومابعد الدولة والسيادة الوطنيه، لصالح الشركات متعددة الجنسية، وفعالية الكيانيه الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ، وبلا تاريخ مجتمعي او طبقات راسخه متشكله تحت طائلة الطور اليدوي صانع المجتمعات الارضوية.

 وهنا تنشأ ايهاميه غامرة، وفقدان للرؤية تظل تتردد بموجبها المحفوظات الاوربية الاولى بتوهمياتها عن الراسمالية والبرجوازية، بينما العالم ينتقل الى قيادة تشكل بلا تاريخ، العنصر الاساس في كينونته الاله وتفاعله معها، بحكم كينونته، بما افضى لنتقلها من الطور "المصنعي" الى التكنولوجي الانتاجي، واشتراطاته التي اودت بالمعسكر الروسي، ليصبح القائم والمتحكم اليوم مجتمعا بلا تاريخ مجتمعي، ووسيلة انتاج اخرى غير المصنعية، انتاجية اخرى مختلفة لكيانيه تقوم على "التوهميه الرسالية" النافية لماقبلها من انماط مجتمعية، وهو ماقد واكب عملية صعودها بعدما قامت بافناء مجتمع من اكثر من ستين مليون كائن بشري، ونمطية دولة "لادولة"، انتاجيتها تلغي الكيانوية والدولة ومفهومها كمجتمع وكيانيه " فكرة" لاتقبل الكيانيه، صارت تجد اليوم في اصل التعبيرية النبوية الابراهيمه، ومجال شرق متوسطي قاعدته دول الابار بدل دول الانهار التي انتجت الابتداء المجتمعي والتعبيرية الابراهيمه لمجتمعية اللاارضوية، وهنا تنحط الرؤية العالمية اليوم، بينما المركز اللامجتمعي يقترب من الذهاب خطوة خارجه عن ارادته، نحو طور تكنولوجي ورؤيوي آخر.

 فالاسباب التي تفصل بين وسيلة الانتاج وسبل التنظيم المجتمعي الموروثة من الطور اليدوي، ومنها الكيانات والدول، لم تعد بعيده عن مامن شانه ايقاع اجمالي المجتمعية البشرية تحت طائلة الفوضى وفقدان وسائل السيطرة وتسيير الشؤون الحياتيه العامه، بما يجعل من الانقلابية التحولية اللاارضوية وتعبيريتها الثانيه مابعد الابراهيمه النبوية الحدسية، ضرورة غامرة دونها احتمالية الفناء، وكما العالم كله يعيش منذ فترة ليست بالقصيرة، تحت طائلة القصورية العقلية الادراكية بازاء مسارات الاله وماينتج عنها، فان بلدا مثل العراق عاد منذ عام 1980 ليعيش نوعا اخر مستجدا من حالة "العيش على حافة الفناء"، بلا رؤية ولاقدرة على تبين ماهو فيه، ومايمكن ان يحصل بين جنباته، حتى وان بليت وانهارات الايديلوجيات المستعارة، ومايعرف بالحركة الوطنيه الويرلندية الليبرالية والقومية والماركسية على زيفها، ولم يعد لها اي حضور او فعالية تذكر، هذا عدا متبقيات التعبيرية اللاارضوية الاولى الابراهيمه التي اعلنت هي بذاتها "ختامها" الذي يظل يفسر كاجترار لازم.

 هذا علما بان الاشارات لم تتوقف، وبعد الثورتين اللاارضويتين ثورة 1920 وثورة تموز 1958 ،تفجرت عام 2019 في الاول من تشرين، الثورة الثالثة اللاارضوية ضد اشتراطات سحق الكيانيه والدولة، فجاءت هي الاخرى بلا نطقية، وعلى مشارف النطقية العظمى المنتظرة من هنا فصاعدا، استجابه لدينامياتها التاريخيه غير المماط عنها اللثام، ولا المدركه باعتبارها وثبة كونية انقلابيه شاملة للمعمورة، وانتقالا من الكوكب الارضي والكون المرئي، خارج الجسدية ومتبقاتها، وهو ماقد صار من الان فصاعدا قيد التحقق اشتراطات وتراكمات، ومستلزمات مادية متمثله في "التكنولوجيا العليا" العقلية، الموشكه على ختم تاريخ التحورية الالية.

***

عبد الأمير الركابي

......................

(1) فبعد سقوط روما "راح الوثنيون وكانوا مايزالون هم الاغلبية يعزون اسباب انهيار روما والانحلال العام الذي اصاب الامبراطورية الرومانيه الى انتشار الديانة المسيحية. لهذا انتدب اوغسطين للدفاع عن المسيحية ضد هذا الاتهام، فانشأ يكتب كتابه الاساسي المشهور "مدينة الله" ابتداء من سنة 415 او بداية سنة 416 م وفرغ من كتابة المقالات العشر الاولى منه في ذلك الوقت، لكنه احس بان كتابه هذا بحاجة الى تكمله تتولى بيان ماوقع في تاريخ العالم قبل ذلك الوقت من مصائب وكوارث لاشان للمسيحية بها. لانها سبقت ظهورها، فعهد اوغسطين بهذه المهمة الى اوروسيوس"/ تاريخ العالم، اوريسيوس / الترجمه العربيه القديمه حققها وقدم لها د عبدالرحمن بدوي/ ص 6/هذا وكتاب اوريسيوس اصلا معنون ب " التواريخ ضد الوثنيين"/ المؤسسة العربيه للدراسات والنشر.

(2) ياخذنا / غوساف لوبون/ الى تفصيلات الثورات المذهله نفسيا وايمانيا في كتابه /روح الثورات والثورة الفرنسية/ المطبعه العصرية.

(3) يمكن ان تترجم الهوسة المذكورة والصادرة عفوا وبعمق من باب المفاضلة بين الوسيلة الالية المستحدثة، والوسيله القتالية اليدوية بحسب نوع المجتمعية التي تستعملهما.

 (4) عن الاسباب التي دفعت لبناء بغداد وهرب العباسيين من الكوفه وترددهم بين الرمادي، والهاشميات، والانتفاضات التي ظلت تلاحقهم واخرها انتفاضة الراونديه قبل استقرار رايهم على بغداد/ تراجع مادة " بغداد"/بقلم أشترك، السيد عبدالرزاق الحسني، عبدالعزيز الدوري/ كتب دائرة المعارف الاسلاميه/ دار الكتاب اللبناني/ مكتبة المدرسه/ صص 2

 

من الفضاء الرقمي إلى الشارع

يشهد المغرب الان - خريف 2025 - موجة احتجاجية شبابية - جماهيرية واسعة أعادت إلى الساحة السياسية أسئلة جوهرية حول العدالة الاجتماعية، الحقوق الأساسية، تردي الخدمات، والشرعية السياسية للنظام. هذه الحركة التي حملت اسم "جيل Z 212"*، نسبةً إلى رمز الاتصال الدولي للمغرب، لم تولد من فراغ؛ بل جاءت نتيجة تراكم طويل من التهميش، والفقر، وغياب الخدمات الأساسية في الصحة والتعليم، وانتشار البطالة والفساد. انفجرت الحركة بشكل عفوي بعد حادث مأساوي في مستشفى حسن الثاني بمدينة أغادير، حيث توفيت نساء أثناء الولادة بسبب انعدام الرعاية. تحولت هذه الشرارة إلى انتفاضة اجتماعية امتدت بسرعة إلى مدن كبرى مثل الرباط، والدار البيضاء، وفاس، ومراكش، وتارودانت، وسلا، ووجدة، وسرعان ما أصبحت تعبيرًا عن أزمة شاملة يعيشها جيل كامل من الشباب المغربي، وبالأخص من الطبقات الكادحة.

إن ما ميّز هذا الحراك لم يكن فقط اتساعه وانتشاره الجغرافي، بل أيضًا اعتماده على آليات جديدة في التنظيم والتعبئة انطلقت من الفضاء الرقمي لتنعكس على الواقع الميداني. وهنا تتجلى العلاقة بين التجربة المغربية ومفهوم "اليسار والنضال الإلكتروني"، حيث يلتقي البعد الاجتماعي الملموس مع البعد التكنولوجي والتنظيمي في إنتاج شكل جديد من الفعل السياسي. القوة الجوهرية لهذا النموذج أنه يستعيد مفهوم السياسة من أيدي النخب القديمة ويعيده إلى الشارع وإلى الشباب. ويؤكد دائمًا أن التكنولوجيا ليست محايدة؛ بل هي أداة هيمنة في يد الرأسمالية والأنظمة الاستبدادية، لكنها في الوقت ذاته يمكن أن تتحول إلى أداة تحرر إذا ما وظفت بشكل يساري تقدمي ومنظم. ما حدث في المغرب يعكس هذه الإمكانية، فقد استطاع الشباب عبر وسائل بسيطة أن يبنوا فضاءً رقميا عامًا بديلًا وحرًا يعبّرون فيه عن رفضهم للاستبداد، والفساد، والظلم، وتهميش حياتهم اليومية. لقد تحولت الفيديوهات القصيرة، والميمات، والنقاشات الرقمية إلى أدوات حقيقية للتعبئة السياسية والتنظيم ولإنتاج وعي جماهيري نقدي، بعيدًا عن الإعلام الرسمي الذي سعى إلى تشويه الحراك وحصره في أعمال عنف وتخريب.

1.  التنظيم الشبكي الرقمي للشباب يتجاوز آليات التنظيم التقليدية ويخلق فضاءً نضاليا يساريًا جديدًا

ما يميز هذه الحركة ليس فقط مطالبها العادلة التي تركزت حول تحسين الصحة والتعليم وتوفير فرص العمل ومحاسبة الفساد والعدالة الاجتماعية، بل الأهم هو شكلها التنظيمي الإلكتروني-الرقمي وأدواتها التي تجسد بدقة أفكار اليسار الإلكتروني**. فقد جرى تنظيمها إلى حد كبير خارج الأطر التقليدية للأحزاب والنقابات التي ضعف تواصلها مع الأجيال الجديدة لأسباب عديدة، وتحولت في نظر الكثير من الشباب والشابات إلى هياكل بيروقراطية جامدة لم تعد قادرة على التعبير عن هموم الناس. في المقابل، فتح الفضاء الرقمي آفاقًا جديدة لتنظيم مختلف كليًا، قائم على المرونة والسرعة والانفتاح. تحولت المنصات مثل تيك توك وإنستغرام وفيسبوك إلى أدوات للتعبئة والتحشيد، كما تحولت خوادم ديسكورد إلى ما يشبه "مراكز شعبية رقمية" للنقاش، والتخطيط، واتخاذ القرار بشكل جماعي وأفقي.

هذا النمط التنظيمي الجديد يعبّر عن تجاوز جوهري لمفهوم القيادة الفردية أو الهرمية والمركزية الصارمة. لم يعد هناك زعيم أو لجان قيادية هرمية تتحكم في مجرى الأحداث، بل مجموعات شبكية أفقية، كل منها يتخذ قراراته الميدانية بشكل مستقل ضمن أهداف عامة مشتركة. هذه اللامركزية لم تكن علامة ضعف، وانما مصدر قوة، لأنها جعلت من الصعب على السلطة والاجهزة الامنية اختراق الحركة أو استهدافها بقيادة واحدة. فحتى مع إغلاق حسابات أو اعتقال ناشطين وناشطات، ظلت الحركة قادرة على إعادة إنتاج نفسها وتوسيع مساحتها التنظيمية. هذه القدرة على البقاء والتجدد تعكس الروح الحقيقية للتنظيم والحراك الالكتروني-الرقمي، حيث التنظيم ليس مجرد جهاز جامد بل شبكة حية قابلة للتوسع والتحول وفق الظروف.

البنية الشبكية سمحت للحركة بالانتشار السريع والسهل على مستوى جغرافي واسع، من المدن الكبرى إلى المناطق الطرفية، كما مكّنتها من تجاوز القمع الميداني والرقابة الرقمية. فقد حاولت السلطة مرارًا إغلاق الحسابات أو حجب المحتوى أو استهداف المنسقين، لكن الطبيعة اللامركزية جعلت تلك المحاولات محدودة الأثر. ففي اللحظة التي يُغلق فيها حساب، يظهر حساب جديد، وفي اللحظة التي يُكسر فيها رابط تنظيمي، تُفتح قنوات بديلة. هذه الديناميكية تضع السلطة أمام معضلة حقيقية، لأنها تواجه "سيرورة تنظيمية جماهيرية"  بشكل جديد يصعب التحكم بها، وليس تنظيمًا تقليديًا يمكن تفكيكه باعتقال قياداته.

التنظيم الشبكي الرقمي هو شكل جديد من الثقافة السياسية والتنظيم السائد بين الشباب والشابات اليوم. فالنقاشات التي دارت على خوادم ديسكورد لم تقتصر على الشعارات أو الخطط الميدانية، وانما تحولت إلى فضاء تعليمي متبادل، حيث يشارك الشباب تجاربهم، يناقشون الاستراتيجيات، وينسجون لغة مشتركة للنضال. بهذا المعنى، الفضاء الرقمي كان وسيلة للتواصل، وتحول إلى "مدرسة يسارية جماعية متعددة المنابر"  تنتج وعيًا سياسيًا جديدًا يتجاوز وصاية الأحزاب التقليدية وخطاب النخب المثقفة. إن ما نشهده هنا هو ولادة فعلية لفضاء يساري جديد، ينهض من الأسفل، من المبادرات الذاتية، من العمل الجماعي، ويستند إلى التكنولوجيا كأداة تحررية بدل أن تبقى أداة للهيمنة في ظل سيطرة الشركات الرأسمالية الرقمية والدول الاستبدادية.

يمكن القول إن التنظيم الشبكي الرقمي الذي أبدعه الشباب المغربي هو التعبير العملي عن مقولة اليسار الإلكتروني بأن الفضاء الرقمي قد أصبح اليوم ساحة مهمة للصراع الطبقي. وكما أن المصانع والمزارع والمكاتب هي ساحة المواجهة الأساسية بين رأس المال والعمل، أصبح الإنترنت اليوم المصنع الجديد المكمّل لإنتاج الوعي ولتنظيم المقاومة. الفرق أن هذا المصنع الجديد ليس ماديًا محصورًا في جدران، بل فضاء مفتوح متحرك، تتسع فيه دوائر النقاش، وتولد فيه المبادرات بسهولة كبيرة. ويمنحها طابعًا عالميًا وأمميًا، لأنه يكسر الحدود الوطنية ويخلق إمكانيات للتواصل والتنسيق بين حركات متباعدة جغرافيًا لكنها متشابهة في الجوهر.

إذا ما قارنا الحراك المغربي بتجارب أخرى في المنطقة، نجد أن له طابعًا مميزًا. ففي تونس مثلًا استُخدمت المنصات الرقمية منذ 2011 في التعبئة، لكن بشكل أولي. وفي لبنان 2019 تحولت واتساب وتلغرام إلى أدوات محورية في تنظيم المظاهرات. بينما في المغرب 2025، شهدنا دخول جيل كامل لا يعرف السياسة إلا عبر الرقمنة ويعتبر الفضاء الرقمي امتدادًا طبيعيًا لحياته. هذا ما يجعل حراك "جيل زد 212" أول انتفاضة رقمية بالكامل تقريبًا في دول العالم العربي، ويؤكد أن مستقبل النضال اليساري لن يكون ممكنًا دون استيعاب هذه التحولات وتوظيفها بشكل فاعل، من خلال بناء أمميات يسارية رقمية وبدائل تكنولوجية تقدمية تتجاوز الحدود الوطنية وتنسق وتربط بين التجارب في كافة أنحاء العالم.

2. المطالب المرفوعة تعكس جوهر اليسار الحي القائم على العدالة الاجتماعية وحاجات الجماهير

ما يثير الانتباه في تجربة الشباب المغربي أن المطالب التي رفعوها في الشارع والفضاء الرقمي، رغم بساطتها المباشرة، تحمل مضمونًا يساريًا عميقًا رغم عدم انتماء معظمهم الى أي تنظيمات سياسية، وقد أدرك هؤلاء الشباب، بوعي أو بحدس سياسي جماعي، أن قوة أي حركة تحررية تكمن في بناء أرضيات مشتركة. لم ينشغلوا بالجدالات والصراعات الفكرية والنخبوية. فرغم اهمية هذه الجدلاات في تطوير اليسار فكريا، فأنها استنزفت وشتت قوى اليسار لعقود، بين مدارس فكرية وأيديولوجيات متناحرة وتفاصيل نظرية، بل تجاوزوا هذا التعب الفكري وأعادوا البوصلة إلى ما يهم الجماهير الكادحة فعلًا، والانطلاق من الواقع على الارض نحو النظريات وليس العكس، اليسار هنا لا يُقاس بمن يرفع الشعارات الماركسية أو يكتب حول أو يكرر السياسات الاشتراكية نظريًا فقط، بل بمن يساهم عمليًا ونظريا وفي ارض الواقع في تغيير حياة الجماهير الكادحة نحو الأفضل، في الصحة والتعليم والعمل والكرامة والحقوق والعدالة..... الخ، ويؤثر في مسار نضالهم اليومي وان كان بخطوات محدودة وبشكل تدريجي.

فالمطالب التي صاغوها تدور حول تحسين التعليم العمومي، ضمان الرعاية الصحية المجانية والفعالة، توفير فرص عمل تضمن الكرامة الإنسانية، محاربة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد. هذه المطالب تمثل جوهر الفكر اليساري الحي، لأنها تضع الظلم والصراع الطبقي واحتياجات الناس اليومية في المركز والانطلاق منها.

3. القمع الميداني والرقمي يكشف آليات السيطرة الحديثة ولكنه يعزز وعي المقاومة الرقمية

لم تكن الحركة الشبابية في المغرب مجرد موجة احتجاجية سلمية تُواجه بخطاب سياسي أو وعود إصلاحية، بل جرى التعامل معها من أول لحظة كتهديد وجودي للنظام، وهو ما انعكس في القمع الميداني القاسي الذي واجهه الشباب. قوات الأمن استخدمت الرصاص الحي في بعض المناطق، خصوصًا في القليعة قرب أغادير حيث سقط شهداء برصاص الدرك، إضافة إلى الغاز المسيل للدموع، والضرب بالهراوات، والملاحقات الليلية، واعتقال المئات بينهم نسبة عالية من القاصرين. هذا القمع لم يكن رد فعل منفلتًا بل سياسة مدروسة تهدف إلى ترهيب جيل بأكمله، وكسر إرادته قبل أن يترسخ وعيه التنظيمي. ترافق القمع الميداني مع أسلوب ممنهج لعزل المناطق المشتعلة، عبر حواجز أمنية وتطويق للأحياء الشعبية، وقطع طرقات لمنع انتقال المتظاهرين بين المدن. تم استخدام الاعتقال الجماعي كأداة لتفريغ الشوارع. لكن الأهم أن السلطة ركزت على استهداف الشباب والقاصرين، لأنهم كانوا العمود الفقري للحركة، وهو ما يكشف إدراكها أن الخطر الحقيقي يأتي من هذا الجيل الجديد الذي لا يهاب الشارع ويملك أدوات تنظيم رقمية عصية على الاحتواء.

هذا الوجه الخشن من القمع الميداني تزامن مع الوجه الناعم الرقمي. الاعتقال الرقمي، والاغتيال الرقمي كلها آليات موازية استهدفت الفضاء الإلكتروني للحركة. تم حذف حسابات وحجب محتوى وتقييد الوصول إلى النقاشات الجماعية في محاولة لعزل الشارع عن الفضاء الرقمي الذي يغذيه. وهكذا رأينا كيف أصبحت السلطة تمارس "القمع المزدوج"، في الشارع عبر الهراوة والرصاص، وفي الشبكة عبر الخوارزميات وحجب المنصات.

لكن ما لم تتوقعه السلطة أن هذا القمع، بدلًا من أن يوقف الحراك، عزز وعي المقاومة الرقمية والميدانية معًا. ففي الشارع، ابتكر الشباب أشكالًا جديدة للتجمع مثل المظاهرات الليلية المتنقلة، والاعتماد على مجموعات صغيرة بدل المسيرات الكبرى، واستخدام الأحياء كفضاءات للاحتجاج المحلي. هذا التكتيك جعل من الصعب على الشرطة القضاء على الحركة دفعة واحدة، وفتح إمكانيات للتنظيم القاعدي المحلي. وفي الفضاء الرقمي، انتقل النقاش بسرعة من الحسابات المحجوبة إلى حسابات بديلة ومنصات أكثر أمانًا، مع انتشار استخدام VPN والتشفير.

القمع الميداني كشف حدود النظام الاستبدادي، لأنه لم يعد يواجه فقط كتلة غاضبة بل جيلًا رقميًا قادرًا على التكيف. ومع كل محاولة قمع، كان الشباب يعيدون إنتاج تنظيمهم بشكل أكثر مرونة، ويطورون وعيًا بأن الصراع مع الدولة ليس جزئيًا بل شامل، يطال الجسد في الشارع والوعي في الشبكة. وهنا يظهر جوهر ما يسميه اليسار الإلكتروني بـ"المعركة الطبقية الرقمية"، حيث أدوات القمع الحديثة تلتقي مع الأدوات الكلاسيكية.

لقد أصبح واضحًا أن السيطرة على الشارع لا يمكن فصلها عن السيطرة على الفضاء الرقمي، وأن الدولة حين تسقط الرصاص على الأجساد فإنها في الوقت نفسه تسقط الحجب على الحسابات. لكن المقاومة أيضًا تتطور في الاتجاهين: في الشارع بتوسيع التكتيكات الميدانية الشعبية، وفي الشبكة بابتكار أدوات حماية وتنظيم بديلة. هذا التفاعل بين الميدان والرقمي هو الذي يفتح أفقًا حقيقيًا لليسار الإلكتروني كي يطوّر مشروعًا أمميًا لتحرير الإنسان والتكنولوجيا في آن واحد. هذه القدرة على تجاوز القمع الرقمي تعكس وعيًا سياسيًا متزايدًا بضرورة السيطرة على الأدوات وبناء أدوات تكنولوجية يسارية تقدمية بديلة، وعدم تركها بالكامل بيد الشركات الرأسمالية الاحتكارية والدول الاستبدادية.

4. تحويل الطاقة الشبابية العفوية إلى مشروع تحرري جذري منظم

رغم قوة هذا النموذج، تظل التحديات كبيرة. غياب التنسيق المركزي قد يتحول إلى نقطة ضعف إذا لم تتبلور رؤية استراتيجية طويلة الأمد. والأهم أن المطالب الجزئية تحتاج إلى ربط بأفق تحرري شامل حتى لا تبقى الحركة في دائرة الإصلاحات. هنا تبرز ضرورة وجود اليسار الأرضي - الإلكتروني منظمًا كتيار فكري وتنظيمي يعمل على تحويل الطاقة العفوية إلى مشروع سياسي تحرري يجمع بين النضال الرقمي والميداني على الأرض، ويربط بين المطالب المباشرة والرؤية الاشتراكية الجذرية، ويستند إلى أرضيات مشتركة تتسع للجميع وتبني تحالفات واسعة من أجل التغيير الجذري.

هذا الحراك الشبابي والجماهيري يعكس بوضوح روح اليسار المتفتح الذي يرفض الانعزال داخل النخب الفكرية ويعمل على فتح منابر متعددة للنقاش والعمل المشترك. في فضاءات النقاش الرقمي لم يكن هناك وصي أيديولوجي ولا بناء هرمي مفرط، بل كانت هناك نقاشات حرة، وأصوات متعددة، وحرية في طرح الأفكار. غير أن ما كان يثبت ويستمر ويترجم إلى فعل سياسي هو تلك النقاط التي تلامس حياة الناس. هنا يتجسد المعنى الحقيقي للديمقراطية القاعدية التشاركية، حيث يصبح التنظيم الجماعي أداة لتوحيد الجهود حول ما يخدم الجماهير، لا حول ما يُرضي النخب المثقفة. إن هذا التوجه يفتح أمام اليسار فرصة تاريخية لتجديد نفسه، شرط أن يتخلى عن نزعة الاحتكار الفكري وعن ثقافة الانقسام التي شلته طويلًا.

فالشباب والشابات أرسلوا رسالة واضحة: لن ننتظر حلولًا من فوق، ولن ننشغل بخلافات عقيمة، بل سنبني عملنا على القضايا التي تهم حياة الناس اليومية. هذا الوعي العملي الجدلي هو ما يمنح الحركة قوتها ويجعلها قادرة على الانتشار والتمدد. فشغيلات وشغلية اليد والفكر لا يعنيها كثيرًا ما إذا كان النص المرجعي هو ماركس أو لينين أو تروتسكي أو ماو أو غيرهم من المفكرين رغم دورهم و مكانتهم التأريخية العظيمة في الفكر الانساني، بقدر ما يعنيها أن تجد مستشفى مجهزًا، مدرسة محترمة، فرصة عمل، مساواة، وكرامة في حياتها اليومية بعيدا عن الفساد و الاستبداد... الخ. هذه هي النقاط المشتركة التي شكلت أرضية الالتقاء، وهي التي يمكن أن تتحول إلى قاعدة لليسار كي يبني مشروعًا تحرريًا جذريًا يتجاوز الوضع الحالي ويستعيد دوره كأداة للتغيير نحو التحرر الاشتراكي.

5. من الشبكة إلى الشارع... آفاق يسار متجدد

من المهم التأكيد أن اليسار الإلكتروني لا يطرح نفسه كبديل عن قوى اليسار التاريخية أو عن التجارب التنظيمية التي راكمت نضالات هائلة في كافة المجالات عبر عقود. بل هو استمرار وتطوير لها ومكمل لها، ويضيف بعدًا جديدًا إلى الأدوات السياسية والتنظيمية والفكرية التي يستخدمها اليسار في معركته الطويلة والمعقدة ضد الرأسمالية والاستبداد. ما يميزه أنه يستجيب لواقع جديد تشكّل بفعل الثورة الرقمية، حيث توسعت أدوات الصراع لتشمل الفضاء الرقمي، والمنصات، والشبكات التي باتت تتحكم بالوعي الجماهيري وتحدد مسار النقاشات العمومية.

إذن هو لا يلغي دور الأحزاب اليسارية والنقابات والحركات الاجتماعية القائمة، بل يدعوها إلى التطوير والتجديد، إلى إدخال البعد الرقمي في استراتيجياتها التنظيمية والسياسية، وإلى تجاوز الجمود البيروقراطي والانغلاق الأيديولوجي. إن التحدي الذي يواجه قوى اليسار اليوم ليس فقط في مواجهة الرأسمالية التقليدية وانظمة الاستبداد، بل في مواجهة الرأسمالية الرقمية التي أعادت إنتاج السيطرة الطبقية بأشكال أكثر نعومة وخفاء، عبر البيانات والخوارزميات والرقابة الرقمية الشاملة.

إن ما أبدعه الشباب في المغرب يمثل دعوة صريحة ومُلحة لكافة قوى اليسار. لم يعد التنظيم السياسي خيارًا أحاديً الاتجاه؛ بل يجب أن يكون متعدد المنابر، مفتوحًا، مرنًا، وشفافًا يستفيد ويتعامل بذكاء مع أدوات العصر الرقمي. هذه الرؤية المكمّلة لا تعني التخلي عن الهياكل الكلاسيكية التي راكمت تاريخًا من النضال الطبقي، بل تتطلب إعادة بنائها بشكل أفقي ومرن لتكون أقرب إلى الجماهير وقادرة على التفاعل السريع، خاصة مع الأجيال الجديدة. تجربة الشباب المغربي مثال حي من خلال ابتكار تنظيمات رقمية شبكية فعالة، لكن هذا لا يلغي الحاجة المُلحة إلى أطر سياسية وتنظيمية ونقابية قادرة على حماية هذه الطاقات، وتوجيه الاحتجاجات، وتحويلها إلى مكتسبات دائمة.

هذا يقتضي تحقيق التكامل الجدلي بين القديم والجديد: بين النضال الميداني والزخم الرقمي، وبين الخبرة التاريخية لليسار والجرأة والمرونة التي يجلبها الجيل الرقمي. هذه الجدلية بين الاستمرار والتجديد هي ما قد يمنح الحركة اليسارية اليوم إمكانية النهوض من جديد، محليًا في دول الجنوب وعالميًا بشكل عام. لذا، فإن اليسار الإلكتروني هو دعوة إلى تجديد المشروع اليساري بأكمله؛ عبر تطوير وتحديث أدواته التنظيمية، والسياسية، والفكرية، والرقمية، والتقنية، وغيرها، والعمل المشترك والتحالفات وفق نقاط الالتقاء الجوهرية. كما يشدد على ضرورة تعزيز الدور القيادي للشباب داخل تنظيمات اليسار، بما يضمن تجديد الدماء الفكرية والتنظيمية وفتح المجال أمام طاقاتهم الإبداعية والمتجددة لتكون في صلب القرار والعمل النضالي. وتعزيز علاقة اليسار بحياة الجماهير الكادحة والأجيال الشابة في زمن الهيمنة الرأسمالية والاستبداد. فالمستقبل ينتمي إلى اليسار الذي يستوعب أن ساحة الصراع الطبقي اليوم تمتد من أعماق الشارع إلى أبعد نقطة في الفضاء الرقمي. لقد أثبت حراك جيل زد 212 أن العلاقة بين القوى اليسارية والأجيال الشابة لا يمكن أن تتطور وتترسخ إلا بدمج النضال الميداني على الارض مع أدوات التنظيم الرقمي واشكال جديدة من التنظيم والخطاب السياسي. وهو درس ليس للرفاق والرفيقات الاعزة في القوى اليسارية والتقدمية في المغرب فقط، بل لليسار العالمي كله.

كل التضامن مع الشابات والشباب والجماهير الكادحة في المغرب، الذين يواجهون القمع والتهميش بوعي وشجاعة، ويناضلون من أجل حياة كريمة وعدالة اجتماعية حقيقية. وكل التضامن مع القوى اليسارية والتقدمية والنقابية والحقوقية المغربية، التي تقف في صف الجماهير، وتدافع عن حقوقهم وعن حرية التنظيم والتعبير، وعن قيم العدالة والمساواة.

***

رزكار عقراوي

.......................

الهوامش:

* جيل Z  زد: هو الجيل المولود منذ منتصف التسعينيات حتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، نشأ في بيئة رقمية، يستخدم التكنولوجيا ووسائل التواصل كجزء أساسي من حياته اليومية، ويمتزج عنده العالم الواقعي بالافتراضي، ما يجعله أكثر قدرة على التعبئة والتنظيم عبر الفضاء الرقمي.

** اليسار الالكتروني هو تيار يساري حديث يسعى إلى تطوير أدوات وخطاب واليات تنظيم اليسار التقليدي عبر توظيف التكنولوجيا الرقمية والفضاء الشبكي في التنظيم والنقاش والتعبئة. لا يطرح نفسه بديلا عن قوى اليسار التاريخية، بل مكملًا ومطورا لها، ويدعو إلى إدماج المنابر الرقمية والديمقراطية التشاركية مع النضال الميداني من أجل ربط القضايا النظرية بحاجات الجماهير الكادحة اليومية.

المصادر:

1.  Le Monde Afrique – Moroccan protesters call for prime minister’s resignation (2 أكتوبر 2025)

https://www.lemonde.fr/en/le-monde-africa/article/2025/10/02/moroccan-protesters-call-for-prime-minister-s-resignation_6746020_124.html

2.  AP News – Moroccan youth protests erupt after deaths in Agadir hospital (1 أكتوبر 2025)

https://apnews.com/article/912ca1a9dbc42e6d3d2f8a1067eb12f9

3.  Reuters – Morocco’s youth, police clash for fifth night of protests demanding education, health care (1 أكتوبر 2025)

https://www.reuters.com/world/africa/moroccos-youth-police-clash-fifth-night-protests-demanding-education-health-care-2025-10-01

4.  The Guardian – First deaths in Morocco’s youth-led anti-government protests as police open fire (2 أكتوبر 2025)

https://www.theguardian.com/world/2025/oct/02/first-deaths-in-moroccos-youth-led-anti-government-protests-as-police-open-fire

5.  Al Jazeera – 7 أسئلة تشرح ما يجري في احتجاجات جيل زد بالمغرب (2 أكتوبر 2025)

https://www.aljazeera.net/news/2025/10/2/7-%D8%A3%D8%B3%D8%A6%D9%84%D8%A9-%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%AD-%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%AC%D8%B1%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D8%AC%D8%A7%D8%AC%D8%A7%D8%AA-%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%B2%D8%AF

6.  First killings in Morocco since Gen Z protests erupted

https://www.bbc.com/news/articles/cgrqpekyxpvo

7.  The most prominent intellectual and organizational foundations of the electronic left

https://libcom.org/article/most-prominent-intellectual-and-organizational-foundations-electronic-left-e-left

مفكرون يهود ضد الصهيونية (4)

إن مقاربة الموقف النقدي للعالم النفساني الشهير سيغموند فرويد إتجاه الحركة الصهيونية ليست بالمهمة اليسيرة، ولاسيما في ظل المواقف المختلفة التي تبدو للمتتبع إبّان البحث عن إجابات واضحة بخصوص جذور الشعور بالإنتماء لليهودية لدى فرويد، وإلتزامه الديني، وحلول المسألة اليهودية، ففي  بعض النصوص والمواقف يبدو فرويد بعيداً كل البعد عن الدين، وعن مقولاته وتجلياته، ليظهر أمام العيان شخصية ملحدة، تنظر الى الدين ومقولاته على أنها تعبيراً مرضياً عُصابياً، وأن اليهودية لم تكن لتشكل عنده سوى بيئة ثقافية-إجتماعية تنسجم مع سياق جذوره الاجتماعية وتكوينه الثقافي، وفي نصوصٍ ومواقف أخرى يبدو للناظر أن فرويد تلك الشخصية اليهودية المتمسكة بهويتها الدينية، والمتشبثة بالبحث عن حلول للمسألة اليهودية على طريقة الصهاينة الذائبين في تعنصرهم اليهودي، وطالما أن ما نكتبه هنا لا يهدف البحث والتمحيص في القضايا الخارجة عن المسار المحدد في بيان المفكرين اليهود الناقدين للحركة الصهيونية، فسنعمل على تحديد الدوائر التي ستتم مقاربتها بما يسهم في تحقيق هذه الغاية المركزية دونما الحاجة الى البحث والتنقيب عن القضايا الخارجة عن هذا للمشروع، والتي تحتاج الى وقفات أخرى ليس المقام مقام التعرض لها، وعلى هذا الأساس يمكن تأكيد أن الدوائر التي تتعلق بموقف فرويد من الصهيونية تتمثل في الآتي:

الأولى: موقف سيغموند فرويد من اليهودية، وبشكل محدد في الكيفية التي نظر فيها الى نشأة الديانة اليهودية، وإلى الإشكالية المثيرة للجدل التي طرحها في كتابه الأخير (موسى والتوحيد)، إذ طالما ان الحركة الصهيونية تعبر عن إرتكاز جوهري على المقولات الدينية اليهودية، فمن الأهمية بمكان تأشير موقف فرويد من نشأة هذه الديانة، وسياقها التأريخي الذي تبناه، والذي يقف على الضد من السردية اليهودية الرسمية كما سيتبين.

الثانية: موقف فرويد من المسألة اليهودية، ونظرته الى موضوعة البحث عن وطن قومي يجمع شتات اليهود في العالم داخله، وفي هذا الموقف يبدو أن فرويد كان مؤيداً ومدافعاً في هذا السبيل، ولا سيما وأنه أكتوى بنار الهروب من ألمانيا النازية عندما إجتاحت النمسا قبيل الحرب العالمية الثانية.

الثالثة: إذا كان فرويد يؤمن بحل المسألة اليهودية وفق آلية إيجاد وطن قومي يجمع الشتات اليهودي في العالم، فهل كان يؤمن بأن هذا الوطن المنشود يقع في فلسطين؟ وفي هذا الأمر يظهر فرويد كمعارض، وبقوة، لجعل فلسطين الخيار المناسب لإقامة وطنهم المنشود لأسباب سيأتي ذكرها لاحقاً، وسنتعرض للدوائر الثلاث بعد مرور مختزل على سيرته وحياته.

ولد سيغموند شلومو فرويد في عام 1856م في بلدة بريبور في مدينة مورافيا التابعة الى الإمبراطورية النمساوية وقتها، وحالياً تقع ضمن جغرافية جمهورية تشيك، لأسرة يهودية تعمل في تجارة الصوف، وبعد خسارة تجارية تعرض لها والده إنتقلت العائلة الى مدينة لايبزنغ في شرق ألمانيا، لتستقر لاحقاً في مدينة فيينا عاصمة النمسا، إلتحق فرويد بمدرسة "كومونال ريل جيمنازيم" في أحد الأحياء اليهودية ليتخرج منها حاصلاً على الشهادة الثانوية عام 1873م، وعلى الرغم من أن رغبته كانت إكمال الدراسة في القانون، إلا إنه إلتحق بدراسة الطب في جامعة فيينا، فأكمل الدراسة فيها حاصلاً على الدكتوراه عام 1881م.

تنقل في الوظائف الطبية بين أستاذ محاضر ومعالج نفسي في المستشفى إلى تأسيسه لعيادة خاصة يمارس فيها علاجه النفسي للمرضى وفقاً للنظريات التي أسسها، إذ إنتقل من ممارسة العلاج عبر التنويم المغناطيسي الى آلية التداعي الحر، وتعبر مدرسة التحليل النفسي عن النظريات والاليات والمنهجيات التي أسسها فرويد في مدرسته النفسانية المعروفة، بعد أن نظّر وكتب الكثير في هذا المجال طارحاً العديد من المفاهيم والنظريات، كمفهوم اللاشعور أو للاوعي الذي يعد مفهوماً مركزياً في تحليل التفكير والسلوك الانساني، ومفاهيم الليبدو وعقد أوديب وعقدة ألكترا والهو والأنا والأنا العليا وغيرها.

وعندما أقدمت ألمانيا النازية على إحتلال النمسا لجأ فرويد إلى لندن ليبقى هناك معانياً من تفاقم مرض السرطان الذي أصابه جرّاء التدخين المفرط، والذي أدى إلى وفاته في عام 1939م، تاركاً مجموعة من المؤلفات منها (تفسير الأحلام) و(مستقبل وهم) و(الطوطم والتابو) و(موسى والتوحيد) وغيرها.

ولنبدأ الان في تحري نقد فرويد للحركة الصهيونية عبر الدائرة الأولى المتعلقة بكتابه الذي نشره في أواخر حياته (موسى والتوحيد)، إذ ينطلق في هذا الكتاب من تأكيد حقيقة أساسية أنه سيعمد على قلب المعادلة التأريخية القائمة فيما يتعلق بشخصية النبي موسى (ع)، وتأسيس الديانة اليهودية التوحيدية، فموسى ليس يهودياً من الأساس، وإنما كان مصرياً بإمتياز، ولأن هذا الأمر ليس بالأمر اليسير يعترف فرويد أن (تجريد شعب من الشعوب من الرجل الذي يحتفي به على انه أعظم أبنائه ليس بمهمة بهيجة ينجزها المرء بخفة قلب، ولكن ليس ثمة من اعتبار، مهما جلّ، بقادر على إغوائي بتجاهل الحقيقة بإسم مصلحة قومية مزعومة)(1) ، وأول مدخل تشكيكي يتبناه فرويد في نفي الأصل اليهودي للنبي موسى يتمثل في الإسم، فموسى في العبرية هو (موشي)، وعلى الرغم من أن سفر الخروج في التوراة يؤكد أن أميرة مصرية دعت الطفل موسى بعد أن انتشلته من النيل، أي أن موشي يعني (انتشل من الماء)، إذ ورد في الآية العاشرة من الاصحاح الثاني في سفر الخروج ما نصه (ودعت أسمه موسى، وقالت اني انتشلته من الماء)(2) ، بيد أن فرويد لا يقبل بهذا الاشتقاق مُسجلاً إشكالين(3):

1-  من غير المعقول الافتراض بأميرة مصرية المعرفة بأصول الاشتقاق في العبرية.

2-  من المؤكد تقريباً أن الماء الذي انتشل منه الصبي لم يكن ماء النيل.

وعلى هذا الأساس يبدأ فرود عبر الاستعانة بما توصل اليه جيمس هنري بريستد (1865-1935م)، المؤرخ والآثاري الامريكي المتخصص في الآثار المصرية، ولاسيما في كتابه (فجر الوجدان The Down of Conscience) من أن كلمة موسى في المصرية تعني طفل، وهي إختصار لتركيب إسمي كان معمول به سابقاً مثل (آمون –موس=الطفل آمون)، أي آمون أنجب طفلاً، و(بتاح موس=الطفل بتاح) أي بتاح أنجب طفلاً وهكذا..، ثم حلت كلمة (موس) وحدها بعد حذف التركيب منها، أما حرف (s) الثاني في كلمة (Moses) فقد أضيف في الترجمة اليونانية للعهد القديم(4) ، ويذهب فرويد على ان العلماء الذين سبقوه اكتفوا فقط بتأكيد أن اسم موسى مصري، وليس يهودياً، دونما الانتقال الى القول بان موسى نفسه لم يكن يهودياً بالاساس، وهو ما قام به فرويد، لكن، وحتى نختصر فرضية فرويد في كتابه، يرد هنا سؤالان: كيف يمكن أن تكون الديانة اليهودية توحيدية بينما المعروف أن الديانة المصرية شركية، فمن أين أتى موسى بالمعتقد التوحيدي ليزرعه داخل المجتمع اليهودي؟ وكيف يمكن أن يأتي شخص مصري ليقود الشعب اليهودي من خارجه؟

بالنسبة لسؤال التنافر بين الشركية المصرية والتوحيدية اليهودية، يذهب فرويد الى ان في عهد السلالة الثامنة عشر الماجدة، وفي الحقبة التي غدت فيها مصر امبراطورية عالمية، في حوالي 1375ق.م, تسنم العرش فرعون شاب تسمى في البداية بإسم أبيه أمنوحتب (أمنحوتب الرابع)، ثم غير بعد ذلك اسمه [إلى أخناتون] مع اشياء اخرى كثيرة، وقد شرع هذا الملك بفرض على رعاياه ديانة جديدة تتعارض وتقاليدهم السحيقة وأعرافهم العائلية معاً(5) ، يعني المعتقد التوحيدي، وحارب الالهة الاخرى، وبعد ذلك تحصل تحولات، فيأتي للسلطة حورمحب، وتتجزأ الامبراطورية، ولسرد طويل يقدمه فرويد، تعود مصر الى ديانتها الشركية وتتخلى عن ديانة أخناتون التوحيدية، هنا يأتي دور موسى، وفقاً لتحليل فرويد، المدفوع بقوة الشكيمة، مخططاً لتأسيس امبراطورية يعطيها الديانة التي ازدرتها مصر، وموسى في الفرضية الفرويدية قد يكون صاحب منصب رفيع في الدولة، مما يهيئ له فرصة أكبر لأن يكون زعيماً لليهود، أو كاهناً فيسهل عليه الظهور بمظهر المؤسس للدين، ومن الممكن أن يجمع بين الحاكم والكاهن(6) ، فيقرر موسى الخروج باليهود من مصر صوب كنعان، وبعد ذلك تحصل التوترات فيقرر اليهود قتل موسى، فيقتلوه، ثم يعمد فرويد الى تطبيق نظرياته النفسية على اليهود في أنهم خضعوا لحالة (الكبت)، كحالة عُصابية، فينسون عبر الاجيال والسنوات، أنهم من قتل موسى(7) ، ليعودوا الى منحه قدسيته ومركزيته داخل العقيدة اليهودية، فاليهود مارسوا ما يعبر عنه فرويد بالرضات Traumatismes  أي الانطباعات التي يكتسبها المرء منذ نعومة أظفاره ثم لا يلبث أن ينساها فيما بعد(8) ، ثم ستظهر التوراة في نسختها الاخيرة التي خضعت لإضافات وتحريفات وتحويلات من الحاخامات، بعد قرون عديدة من قتلهم لموسى، ليظهر الاخر بصورة البطل المخلص للمجتمع اليهودي، ويتم إضفاء كل صفات القداسة عليه، بعد تناسي جريمة القتل التي أقدم عليها اليهود بحقه.

إن مقاربة فرويد هذه تعرضت للعديد من الإشكالات والردود، منها ما هو تأريخي/آثاري، ومنها ما هو عقدي/ديني، ومنها ما هو نفسي/اجتماعي، إلا أننا لسنا بصدد البحث عن الردود على ما توصل إليه فرويد في هذا السياق، فغاية ما يهمنا هنا تأكيد أن مقاربة فرويد هذه تمثل إشكالية كبيرة بالنسبة لليهود، لأنه ينسف الاساس التأريخي والعّقدي لليهودية عندهم، ومن هنا كان هذا الكتاب أحد أبرز نقاط الاختلاف بين اليهود الصهاينة وفرويد، إذ يظهر موسى مصرياً، واليهودية مأخذوة من ديانة الفرعون أخناتون، وأن اليهود هم قتلة النبي موسى!

أما الدائرتان الأخريان، أعني دائرة موقف فرويد من المٍسألة اليهودية، والبحث عن وطن قومي يجمع الشتات اليهودي، ودائرة السعي إلى أن يكون هذا الوطن في فلسطين، فبالإمكان تلمّس موقفه من خلال نموذجين من رسائله المتعلقتين بهذا الشأن، الأولى بعثها إلى الفيزيائي ألبرت آينشتاين (1879-1955م) بتأريخ 26 شباط 1930م كتب فيها (لستُ أعتقد أن فلسطين ستصير ذات يوم دولة يهودية، وأن العالم المسيحي أو المسلم سيقبل ذات يوم بأن يدع الأماكن المقدسة في أيدي اليهود، ولقد كنتُ سأحسن الفهم أكثر لو جرى تأسيس وطن يهودي فوق أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التاريخ، ولست بمستطيع أن أجد في نفسي ظلاً من التعاطف مع مثل ذلك التديّن الذي ضلّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قومية على حائط هيرودس، والذي لا يتوجس، حباً منه بتلك القطع من الحجارة، من أن يصدم مشاعر السكان الأصليين)(9).

أما الرسالة الثانية فقد أرسلها إلى حاييم كوفلر(10) الذي أرسل إلى فرويد رسالةً عام 1929م يطلب فيها دعمه للصهيونية في فلسطين، وفي حق اليهود في الدخول إلى حائط المبكى من أجل العبادة، والأحداث الصدامية التي حصلت في ذلك العام، فردّ عليه فرويد برسالة بتأريخ 26 حزيران عام 1930م كتب فيها:

(لا أستطيع فعل ما ترغبون فيه، فتحفظي على جعل الناس يهتمون بشخصي أمر لا يمكنني التحرر منه، كما أن الظروف الصعبة الحالية لا تشجع، في نظري، على ذلك، فالذي يريد التأثير على الجمهور ينبغي أن يكون لديه شيء باهر وحماسي يخاطبه به، إلا أن موقفي المتحفظ من الصهيونية لا يسمح بذلك، إن لي بكل تأكيد أسمى مشاعر التعاطف مع الجهود المتفق عليها بحرية، فأنا فخور بجامعتنا في القدس(11) ، ومبتهج بازدهار مؤسسات مستوطنينا، ولكن، من ناحية أخرى، لا أعتقد أن فلسطين ستكون يوماً ما دولة يهودية، ولا أعتقد أن العالم المسيحي والعالم الإسلامي سيقبلان بإسناد أماكنهما المقدسة لليهود ليحافظوا عليها، قد يبدو لي أكثر حكمة إقامة وطن يهودي على أرض غير مشحونة بالدلالات التاريخية، إنني أعي، بكل تأكيد، أن مشروعاً عقلانياً، مثل هذا، لن يمَكن من استثارة حماس الجماهير وتعاون الأغنياء، وأعترف أيضا، بكل أسف، أن تعصب مواطنينا، الذي يتسم بضعف واقعيته، له مسؤوليته في إيقاظ حذر وارتياب العرب، لا أستطيع الشعور بأدنى تعاطف مع تقوى فُهمت بشكل خاطئ تجعل من قطعة حائطِ هيرودوس (Hérode) (12)أثرا وطنياً، ويتم بسبب تلك القطعة من الجدار تحدي مشاعر سكان البلد).

في هاتين الرسالتين يبدو فرويد فيهما واضحاً في دعمه للمشروع الصهيوني، وتعاطفه معه، أعني في إيجاد وطن قومي للشتات اليهودي، إلا أنه كان ينظر بواقعية إلى أن فلسطين كخيار تطبيقي للمشروع الصهيوني لن تكون خياراً مناسباً، إذ أن الاستيطان داخل أراضي مأهولة بالشعب الفلسطيني مع توجه ديني راكز بقوة لدى المسلمين والمسيحيين فيما يتعلق بقدسية الأرض الفلسطينية، ورمزيتها الدينية العالية بالنسبة اليهم لن تجعل المشروع الصهيوني مشروعاً ناجعاً كما يخطط الصهاينة، لذلك يرى أن من الحكمة البحث عن أرض غير مشحونة بالدلالات التاريخية لتكون أرضاً لليهود، أي البحث عن أرض عذراء لا ترزح تحت وطأة التأريخ على حد تعبيره، وربما لو ربطنا ما طرحه فرويد في موسى والتوحيد من وجهة نظره، لتأكد لدينا أن الهوّس التأريخي في العودة إلى أرض الميعاد وفق السردية الرسمية اليهودية لا تحظى بكبير إهتمام لدى فرويد، لأن الكثير من التراتبيات التي تأسست على هذه السردية هي محط شك وتمحيص داخل مرجل عقل فرويد المغتلي بتساؤلاته التأريخية والنفسية.

***

د. محمد هاشم البطاط

....................

المصادر:

(1) سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة: جورج طرابيشي، ط4 1986م، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ص7.

(2) العهد القديم، سفر الخروج، الاصحاح الثاني، الاية العاشرة.

(3) سيغموند فرويد، مصدر سبق ذكره، ص8.

(4) سيغموند فرويد، مصدر سبق ذكره، ص9.

(5) سيغموند فرويد، مصدر سبق ذكره، ص27.

(6) المصدر السابق، ص38 المتن والهامش.

(7) في كتابه (الطوكم والتابو) بتكلم فرويد عن جريمة قتل الابناء للأب ثورة على سلطته المطلقة في الحياة البدائية، وإستئثاره بالجنس ومشبعات الغرائز، ثم بعد ذلك يعمد الاخوة الى ايجاد بدائل رمزية عن الاب وقدسيته، ينظر: موسى والتوحيد، 180 وما بعدها.

(8) المصدر السابق، ص102.

(9) يُنظر: نصوص رسائل سيغموند فرويد المتعلقة بالصهيونية ضمن فرويد والمسألة اليهودية، على الانترنت: www.atheer.com

(10) أحد أعضاء الصندوق التأسيسي اليهودي الذي كان معنياً بجمع الدعم والتبرعات للمشروع الصهيوني في فلسطين.

(11) جامعة القدس العبرية

(12) هيرودس الأول أو الكبير (73ـ 4 ق.م) الذي نصّبه الرومان على عرش القدس، فجرّد الكهنة اليهود من سلطانهم وقتل زوجته وعدداً من أولاده لسدّ الطريق على كل منافسة سياسية من شأنها أن تهدد سلطته. وطبقاً لإنجيل متى أمر بقتل جميع الأطفال الذكور في بيت لحم بعد أن أُنبئ أن (ملك اليهود) (الطفل يسوع) قد ولد. وهي قصة تكرر بصورة شبه حرفية القصة التوراتية عن الأمر الذي أصدره فرعون مصر بقتل جميع المواليد الذكور من الأرقاء اليهود. ولكن هيرودس اشتهر أيضاً بكونه واحداً من كبار البناة في التاريخ، وفي جملة ما بناه هيكل القدس وأسوارها.

يُنظر: نصوص رسائل سيغموند فرويد المتعلقة بالصهيونية ضمن فرويد والمسألة اليهودية، على الانترنت: www.atheer.com

اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فاغتاله الصهاينة.

ربما أكثر الاستعارات السياسية استهلاكاً للمعاني دون طائل هي استعارة (الدولة اليهودية Jewish state ). استعارة مبنيةٌ على رصيد ضخم من حطام التاريخ والأحداث التي قد تشتعل في أي وقت. ثمة حروب واتفاقيات ومعابر وترتيبات على الأرض ومعاهدات ومؤامرات واغتيالات ودسائس وسياسات استيطانية..  كل هذه الأشياء وغيرها تجري باسم الدولة اليهودية. وسيكون لديها أيضاً كامل الاستعداد لمزيد من الإبادة والتدمير وحرق المراحل وصولاً لأهدافها البعيدة. لتصبح فكرة الدولة عود ثقاب يُضرم النيران في المنطقة العربية بكل تراثها السياسي والوجودي كما هو حادث مع حروب إسرائيل.

إذْ لا تفعل اسرائيل تاريخياً سوى استدعاء مخزون الاستعارات اللاهوتية أمام الأغيار. إنها تعيد تشغيل تراثها اليهودي كي تحتطب الرؤوس إشارةً إلى إله الدولة القوى. وتلك خطورة الاستعارات المسيّسة عندما تُلهب مشاعر وأحاسيس أتباعها المترقبين. كل استعارة يهودية تخص الدولة تتسلح بصراعها الوجودي الطويل، لأنّها بمثابة المجاز الرمزي الأم Mother allegory لتاريخ اليهود ولوعد بلفور ولأحلام الوطن القومي وتمثلات الشعب العبراني. ويعلم أصحابها أنَّه لابد أنْ تتحقق على انقاض أشياء أخرى بالضرورة. فلا تتحقق الاستعارة هكذا ضمن مناطق شاغرة، هي توجد لكي تمارس إقصاء واستبعاداً للشعب الفلسطيني.

إن لُحمة الدولة اليهودية مكونة من أيديولوجيا تحدد بالأساس المواقف الصهيونية تجاه الآخرين. مواقف حدية من أول وهلة، ومنصرفة إلى نوع من الإزاحة التي تواصل دورانها كالرحى المدمرة لحقوق الشعوب والدول. اسرائيل هي رحى الغرب الكولونيالي الذي يديرها بمكر ودهاء وفقاً لمصالحه، حيث يكّسر بها صلابة الأفكار ومشاريع النهوض الوطني في منطقة الشرق الأوسط. عندما يريد الغرب الأمريكي غرس خنجر في خاصرة العالم العربي، يحرك رحى الصهيونية. هذا الوكيل الحصري لمآربه الاستعمارية. حيث تمارس الأخيرة طحن أحلام العرب والفلسطينيين بكل برود واستنزاف متواصلين. والمدهش أن العرب- إلى حد البلاهة- يقدمون لرحى الصهيونية كل (أحلام الحياة) كي تطحنها وتعطيها لهم بلا قيمة. ولا يكتفون بذلك، بل يدخل الأمر في التصاقهم بالكيان الصهيوني كالتصاق التابع لسياسات الغرب الأمريكي في المنطقة جيئةً وذهاباً.

وفوق ذلك تشكل استعارة الدولة (عباءة جامعة مانعة) لشتات الجماعات اليهودية في أصقاع الأرض. لا تُعنى بالشعوب الأصليين أيا كانوا، فهي تولد– كما يقال عن أرض فلسطين- في أرض منتظرة رغم أنف الآخرين. أي أن الدولة اليهودية هي استعارة عنف بالدرجة الأولى، كاسحة ألغام وسط حقول مفخخة بالموت... فماذا نتوقع بعد ذلك؟! لابد أن تتحول الدولة إلى عربة حربية منطلقة منذ الخروج القديم لليهود من مصر حتى الآن.

من وقت إلى آخر، يطلق كل حاكم لإسرائيل بعناوينه المتباينة سؤالاً مهماً: كيف نغطي جغرافية الكيان الصهيوني وتاريخه؟ تأتيه الإجابة دوماً عن طريق خلع صفة اليهودية على الدولة والمجتمع. ويتمثل في هذا رمزية شمشون الجبار الذي اشتهر بقوته المعطاة من الإله كجزء من العهد كنذير له ولشعبه. وفي التراث اليهودي استمد شمشون قوته من شعر رأسه غير المقصوص، وكان يستخدم القوة لتحرير بني إسرائيل من سيطرة الفلسطينيين. ويرمز شمشون (שִׁמְשׁוֹן) Shimshon أيضاً إلى الجانب الأسطوري المحارب طالما يحتاط من الناس ويتخذ من الوعود الالهية وسيلة لتحقيق الآمال. ومعنى الاسم كما ورد في التوراة هو رجل الشمس الذي يقهر الظلام متمسكاً بكلمة الرب.

كأن سمة اليهودية مقولة بلاغية واسعة الدلالة دون حدود، ولكنها قابلة للتفصيل على الواقع. سمة تركت آثارها على الأشكال والوجوه والملابس وطرائق الكلام وحتى على علامات المجتمع الاسرائيلي. لقد اعتاد أي رئيس أمريكي من أجل التقرب لليهود القيام بزيارة (حائط المبكى) أو بالعبرية الكوتيل Kotel كأقدس بقعة تتلقى دموع اليهود حداداً على خراب الهيكل. وكذلك يقوم بارتداء الكيباه أو اليارمولكا Kippa (Yarmulke) ذات الصبغة الدينية، أي غطاء الرأس الصغير الذي يوضع على الرأس رمزاً للتقوى والتواضع أمام الإله، فلا يجوز في عرف اليهود التقليديين ذكر اسم الله لمن يعري رأسه دون هذا الرمز.

استعارة الدولة اليهودية تحط رحالها بعد مسيرة مضنية عبر التاريخ. لأول وهلةٍ ينقل العبرانيون يهودية الدولة بصيغة الماضي الدائم مختزلاً الحاضر والمستقبل. فلايهم ما إذا كان هناك زمان أصلاً أم لا، المهم هو عودة مُلك بني اسرائيل الغابر. وإذا كانت الاستعارة السياسية ماضيةً، فقد كانت متحققة لا محالة. يقول ثيودور هيرتزل في مفتتح كتابه (دولة اليهود): إن الفكرة التي طورتها في هذا الكتيب هو فكرة قديمة جداً، إنها استعادة دولة اليهود إزاء كل الأغيار.

بعبارة صريحة، يُلبِس هرتزل الشعب العبراني ثوب الدولة اليهودية الراقدة من أزمنة. كان يحفر في تاريخ اليهود حتى يقول ما يجب قوله كصهيوني عتيد. ويرى أن الوقود الدافع للشعب المختار هو الحياة البائسة ليهود العالم، بل إن وجود البؤس انجاز ما بعده إنجاز. لأنَّ الاعمال العظيمة تولد من رحم المعاناة والقهر. وليست اليهودية بهذا المعنى ديناً، لكنها أنطولوجيا وهمية خارج الواقع. إن الاستعارات تتبدل علي الدولة كأنَّها هيكل مفقود في تفاصيل التاريخ.

من وجهة نظر اليهود، كان البحث عن وقود لإشعال فتيل الهوس بدولتهم الدينية أهم من أي شيء آخر. ونتيجة لمحزون العنف والحدود الفاصلة (الكراهية) تجاه الآخرين، كان يجب إيجاد دلالة على الصعيد ذاته. الدولة اليهودية هي الجدار العازل لشعب باحث عن منطقة فارغة سياسياً وانسانياً. وتلك وظيفة معرفية للاستعارة: كونها تدفع أصحابها للاستمرار فيما يعتقدون. بل تأخذ في إخلاء فضاء لدلالتها حتى الانغلاق التام على ما تصف. لدرجة أن العالم يبدو بالنسبة إلى جماعات اليهود خالياً إلاّ من ظلالها. كما أنها استعارة تُحفز أبواق الكلام والمثيرات العصبية لحركة الناس المؤمنين بذلك. وبخاصة أنَّ البؤس الذي ذكره هرتزل كان ذا مكانة أساسية في بيولوجيا وانثروبولوجيا اليهود. لعلَّ اليهود من جهة تكوينهم التشريحي والبشري أبرز كائنات تنطوي على طباق من البؤس.

المفارقة أن البؤس اليهودي Jewish misery لم يخضع للتساؤل: لماذا البؤس دون سواه في المجتمعات التي عاش فيها يهود؟ هل اليهود يحملون ميراث البؤس تاريخياً أم لكونهم يهوداً فهم بؤساء؟ الحقيقة أن هناك أسباباً مزدوجة، فإذا حصل اليهود على موطئ قدم، سرعان ما أرادوا توسعته إلى نفوذ غالب. وهذا أحد مظاهر القوة الغاشمة التي يمارسونها عبر الهامش، ليقلبوا الوضع من النقيض إلى النقيض. مما جر عليهم اضطهاداً مفترضاً على الدوام، وكلما اشتدت الأوضاع التي هي طبيعية بالنسبة لمجتمعات الشتات، تحضر استعارة الدولة اليهودية كأنها دعوة للخلاص. والجانب الآخر من الازدواج أن يبادر أصحاب المجتمعات بملاحقة اليهود قدماً بقدم كما حدث في ألمانيا وفرنساً وأسبانيا وأغلب الدول الغربية. والانعزال الاجتماعي القائم على الفوقية كنمط حياة، لن يجني اليهود من ورائه غير التهميش.

أولاً: تُحيي استعارة الدولة اليهودية أملاً بوجود دولة ليهود الشتات. وتصبح لوناً من التخدير الموضعي للآلام والأحقاد التي يعانيها شعب الرب. كما أنها تجعل هناك مأوى من التيه الذي لف بني إسرائيل في  بعض حقب التاريخ. ليس التيه أربعين سنة فقط في شبه جزيرة سيناء، لكنه تيه مازال موصولاً في كل العصور. نتيجة الجري وراء هذه الدولة التي لا تجد لها موضعاً في جغرافيا العالم ولا في عقول الشعوب إلاَّ على أطلال الحقوق وتغلغل الاستيطان الكولونيالي.

ثانياً: تجمع استعارة الدولة اليهودية بين وجهي الدين والسياسة في رأس صهيوني واحد. وهذا يعود إلى عصر الحفريات التي جمعت بين مفهوم الجماعة (القبيلة) وأنظمة الحكم. ومازالت اسرائيل تحافظ على هذه الآبار العتيقة التي لا تنضب. ولكن قادة اسرائيل يعلمون جيداً أن انتفاء اليهودية معناه هلاك الحلم الصهيوني. ولابد من ترديد مقولة الدولة اليهودية في أرجاء المعمورة ولكن الأهم هو الحفاظ على ترديد المقولة في أدمغة الشعب اليهودي والشعوب المحيطة.

وبذلك قرر أقطاب الصهيونية والمركزية الكولونيالية الغربية تغليف جميع متعلقات اسرائيل بهذا المسمى إنْ لم يكن صراحة فضمنياً. تكلم مثقفو الغرب (جان بول سارتر وكارل ماركس) عن المسألة اليهودية كأنها موجودة منذ بدء الخليقة. فرغم الانتقادات التي فككت المسألة وعرضتها للنقد التاريخي في ظل أوضاع أوروبا إلا أن اليهود نجحوا في تعليق مسألتهم كقضية وجودية. ليس إدعاء دولة يهودية آتيا من فراغ، ولكنه عمل دؤوب. كأنه طقس ديني يقام يومياً في حركة الحياة اليهودية.

ثالثاً: هناك سؤال مهم: ما وضع دولة دينية لليهود بين دول العالم؟، إنها استعارة ضد حداثية anti- modernism. المفارقة التي لا تخلو من سخرية واضحة. فليس الكيان الصهيوني سوى نبتة حداثية بامتياز، غير أن الدولة اليهودية المنتظرة ليست حداثية. وفي الحالتين، كان الغرب هو المؤسس والفاعل والراعي لإسرائيل على السواء. وهذا يطرح أسئلة بعيدة: هل الحداثة فعلاً ذات طابع انساني؟ هل قيم التنوير (كأساس للحداثة) قيم واحدة أم متناقضة؟ هل الحداثة نزعة كونية تهتم بالبشر في المقام الأول أم أنها نزعة برجماتية كولونيالية؟!

وحدها اسرائيل بمثابة الدليل السياسي الدامغ على تناقضات الحداثة الغربية. ومازال الدليل فاعلاً في الواقع حتى اللحظة. لم تنتج الحداثة الغربية خارج ذاتها سوى اسرائيل كوليد شرعي لها وسوى عمليات الاحتلال المباشر وغير المباشر، فلم تكن غير حداثة مسيّسة تم استعمالها كأداة استعمارية قاتلة. وحقاً هذا أمر مريب أن تكون الحداثة داخل أوربا نوعاً من العقلانية والحرية وبناء الارادة العامة والفضاء العمومي للدول والاستقلال، ثم لا تلبث أنْ تكون خارج أوروبا كيانات وهمية وأشباحاً كولونيالية!! تاريخ الغرب هو تاريخ المفارقات التي لا تأخذ هامشاً محدوداً، ولكنها تصر على احتلال المتن.

رابعاً: تشعل استعارة الدولة اليهودية (حروب الاستعارات  wars of metaphors) في المنطقة العربية. فهناك بالمقابل استعارة الدولة الإسلامية واستعارة الدولة القومية واستعارة الدولة القبلية (العائلية) وهناك استعارة الدولة العشائرية. استعارات عتيدة وعريقة في السياسة والاقتصاد الريعي الذي مازال قائما تحت غطاء الحداثة.

الأعجب أن تتعايش هذه الحروب مع مفاهيم الحداثة الغربية كمشروع حضاري. وتلك الفكرة أحد أسباب العنف في منطقة العرب، لأن العرب وشعب اسرائيل جنباً إلى جنب أخذوا الحداثة كقشرة برانية لمجموعة من الاستعارات الحفرية، وليس هذا فقط بل أراد كلاهما احياء الاستعارات ساهرين على رعايتها داخل المجتمع والدولة. الحاكم، الكاهن، الحاخام، الملك، الأمير، الجماعة، الحاكم المستبد، التنظيم اللاهوتي السياسي.. كل هذه شخصيات مفهومية مجازية metaphorical conceptual characters تضرب بجذورها في تربة الثقافات قبل الحداثية لدى العرب وإسرائيل على السواء. وتظل شخصيات رمزية مستعادة للعب أضخم الأدوار في الواقع المعاصر.

خامساً: الدولة اليهودية هي حمالة الحطب على أنقاض خريطة الدول العربية الحديثة. لأنها الدولة التوراتية التي عيّن حدودها ابناء بني اسرائيل، حين وُعدوا في التوراة بامتلاك كل أرض تطؤها قدامهم. أي دولة الشعب العبراني من النيل إلى الفرات بصرف النظر عن سيادة المجتمعات العربية. ذلك أن استعارة الدولة العبرانية قد توقف عندها التاريخ، ولم يتقدم إلى العصر الراهن قيد أنملة. ومن ثم كان الإملاء على العرب أن يعيشوا في القرون الغابرة حتى يسايروا الاستعارة. وهذا جانب من تأثير حركة الاستعارات كالسحب السوداء فوق خريطة الوطن العربي.

اسرائيل تستحضر اشباحها البديلة في ليل كولونيالي بهيم. وما الحروب الصهيونية بالمنطقة إلا الطقوس الدموية التي يستهدفون منها تحضير روح الاستعارة. إن إحلال وجودها لا يتم بعمليات السلام المزعوم، ولكنه يحل مع الصراع والنزاعات المسلحة... هذا الاعتقاد القار في قاع كل استعارة كولونيالية مسلحة بموروثات لاهوتية.

وهذه هي القوة الصهيونية الخفية التي تحارب على كافة الجبهات. لأن التجاوز الحربي إلى حد الإبادة الجماعية لا يأتي نتيجة الأفكار العادية، بل بفضل الدرجة الصفر للوجود حيث تتمكن الاستعارات من رؤوس أتباعها حتى الثمالة. لا يحمل الرجل الصهيوني سلاحاً بشكل واع، ولكنه يقتل ويدمر تحت تخدير الأيديولوجيا. إن الاستعارات تفتح الوجود في شكل أطياف وأحلام يمارس فيها القاتل المخدّر كل شيء دون حدود.

في المقابل لا يعي العرب – حتى اللحظة- حجم المأساة الوجودية لاستعارات إسرائيل اليهودية. ولم يفهموا الإشكال الكولونيالي بأبعاده الحضارية المتمرسة على الصراع. فلكي نعرف اسرائيل، لابد أن نعرف الغرب جزءاً بجزءٍ دون أن نترك شيئاً للمصادفة. والمعرفة لون من ألوان التفكيك والفهم العميق لمشاكلنا الحضارية قبل أي شيء آخر. الأزمة ليست سحابة صيف، ولكنها وعي لمقاومة المعرفة المشوّهة التي تستغرقنا في اتفاقيات وترتيبات أمنية وكفى. إنَّ وجود اسرائيل هو من جنس غيابنا عن التاريخ الحضاري للعالم. الوجهان نمطان أساسيان من الحضور في العالم، لا فرق بينهما البتة (إسرائيل وفشلنا الحضاري). ومجرد اساءة فهم المسألة الحضارية ستكون النتيجة توالي الكوارث التي تلف دماغنا بدومات الفوضى والتعثر من مرحلة إلى أخرى.

إذا كان الوعي سياسياً أحد وجوه المقاومة، ولئن كانت المعرفة لوناً من القوة، فأحرى بنا أن نطور وعي الأجيال بالفهم الصحيح لوجود إسرائيل. وحالة الفهم السائد الآن- والتي يريد الغرب تكريسها- هي امتداد للوضع الكولونيالي القديم. بكلمات واضحة، لقد عمد الغرب إلى استعمال وعي العرب المشوه بوجود إسرائيل، لكي يعيد إنتاج استعاراتها وفقاً لما نفهمه نحن هذه المرة. أي أنك ستعترف بوجود إسرائيل و استيطانها تلقائياً بنفسك، ولن تحتاج إلى من يلح عليك لهذا الغرض!!

إن الإتفاقيات الابراهيمية خطوة جريئة من الفهم الكولونيالي الذي اشتغل عميقاً على كيفية تكوين وعي موازي له. بحث تكون الثقافة والسرديات والخطابات (حلبة رمزية) تقبل منازلة الطرف اليهودي، دون غضاضة في أن يقف على قدم المساواة معك، وأنْ تكون له حقوق الدفاع عن نفسه أمامك (أنت العدو والضحية والسمسار وحطب المعارك). ذلك مع صرف النظر عن كون الطرف الصهيوني ساكناً كالفيروس في معدة ثقافية لا قدم له فيها ابتداء، وأنه ليس إلاَّ مندوباً كولونيالياً يطمع في خرق كل الجدران.

حيث يغدو التدرج هو قانون الثقافة الغالبة. يوماً ما كانت اسرائيل هي العدو المجهول، ثم أصبحت الطرف المحارب، ثم غدت الطرف المفاوض، ثم أمست الطرف المشارك، ثم جلست بيننا كالطرف المجاور، ثم جاءت طرفاً إبراهيمياً أصيلاً، ثم بعد ذلك ستكون طرفاً يقتسم وجودنا المشترك، ثم ستأخذ صفة الطرف الذي يتقدمنا جميعاً، ثم يكتسب صفة الطرف المالك لتراث وأرض الأجداد. الاستعارات اللاهوتية التي تدمج المتناقضات في معادلة كولونيالية جديدة.

هكذا يتحول أصحاب الحقوق الأصيلة إلى كومةٍ من البلهاء في سوق ضخم يديره الوكلاء الاقليميون مرة أخرى. بالضبط مثل خطط الغرب الكولونيالي بعد كل صراع وعقب كل الحروب. يعطيك الأرض ويأخذ الثروات والمقدرات. يعطيك الحراسة وينهب الحقوق. يعطيك المفتي ويأخذ الفتاوى. يعطيك الدولة ويأخذ السيادة. يعطيك طرف الحبل ويلف الباقي حول عنقك. يعطيك الرأي ويأخذ الغنائم. يعطيك الملابس لستر عوراتك يسرق عقلك ووعيك.. رغم أنك صاحب كل هذه الأشياء دون منازع.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) تشكلت عصبة الأمم المتحدة وهي منظمة الهدف الرئيسي منها منع قيام الحرب عبر ضمان الأمن المشترك بين الدول، والحد من انتشار الأسلحة، وتسوية المنازعات الدولية عبر إجراء المفاوضات والتحكيم الدولي، وتسعى لإحلال فكرة السلام مكان فكرة الحرب.

كان من أبرز دعاة تشكيل العصبة الرئيس الأميركي وودرو ولسن الذي تقدم بمقترحه إنشاء منظمة دولية إلى الكونغرس الأميركي في الثامن من شباط سنة 1918 ثم إلى مجلس الحلفاء الأعلى، وضمن المقترح نقاطه الأربعة حول تقرير المصير، وإعطاء ضمانات للاستقلال السياسي للدول، كبيرة كانت أم صغيرة. وقد أعد مشروع ميثاق للعصبة في 28 نيسان 1919 وعقد أول اجتماع لمجلس العصبة، وتكونت العصبة من أعضاء أصليين وهم الدول التي وقعت على الميثاق، ومن أعضاء غير أصليين يرومون دخول العصبة على أن تقبل اية دولة في العصبة اذا وافق على قبولها ثلثا اعضاء الجمعية العامة للعصبة بشرط أن تقدم ما يفيد على التزاماتها الدولية وخاصة في عدم اللجوء للحرب واحترام قواعد القانون الدولي والتعهدات الواردة في المعاهدات .وكان للعصبة جمعية عامة ومجلس وأمانة عامة (سكرتارية) ومؤسسات سياسية وقانونية مرتبطة بها من قبيل محكمة العدل الدولية واللجنة التحضيرية لمؤتمر نزع السلاح ولجنة الأقليات ولجنة الانتدابات، ومنظمة العمل الدولية، ولجنة التعاون الفكري، ولجنة الرق والعبودية، ولجنة اللاجئين ومنظمة الصحة العالمية .وقد تعاقب على أمانتها0 العامة كل من السير اريك دروموند (1920-1933) وجوزيف أفينول (1933-1940) وشون ليستر (1940-1946) .

كان العراق في فترة الحكم العثماني الذي ابتدأ في النصف الثاني من القرن السادس عشر يتكون من ثلاث ولايات بغداد والموصل والبصرة وبعد احتلال العراق من قبل القوات البريطانية سنة 1917وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني المباشر، وبعد احداث ثورة 1920 تخلي البريطانيون عن أسلوبهم في حكم العراق المباشر، وإفساح المجال لتشكيل حكومة عراقية، وتتويج الأمير فيصل بن الحسين ملكا على العراق في 21 آب سنة 1921،وبذلك فقد وقع العراق تحت الانتداب البريطاني، فكان لكل وزير في الحكومة العراقية مستشار بريطاني يصادق على قرارات الوزير، ويرتبط المستشارون بالمندوب السامي البريطاني مباشرة .

وفيصل بن الحسين (1883 – 1933) الابن الثالث للشريف الحسين بن علي الهاشمي الذي قاد ثورة ضد الدولة العثمانية في حزيران عام 1916التي سميت (الثورة العربية الكبرى) فتم طرد العثمانيين من مدن الحجاز، فكان الأمير فيصل أحد قادتها الذي اتجه بقواته شمالاً نحو دمشق وطرد العثمانيون من مدن سوريا، توج ملكاً على سوريا في 8 آذار 1920، وعند احتلال الفرنسيين لسوريا بعد معركة ميسلون خرج منها الى لندن تاركاً عرشه.

اختير فيصل ملكاً على العراق وتوج يوم 23 آب 1921، وجاء في خطاب التتويج الذي القاه أن غايته المنشودة، هي استقلال المملكة العراقية، لذلك تم التفاهم مع السلطة البريطانية المنتدبة على أن العراق سيبني نظامه السياسي الدستوري ويقر القانون الأساسي أي الدستور، ويجري الانتخابات لإنشاء برلمان (مجلس تأسيسي)، ويتفاهم مع بريطانيا من خلال التصديق على المعاهدات والاتفاقيات الملحقة بها وإبرام الصلح مع تركيا بعد انتهاء مشكلة مطالبتها بولاية الموصل، وتحديد حدود العراق، وتقوية الجيش للحفاظ على أمن العراق وشعبه.

لقد بذل الملك فيصل الأول رحمه الله (1921-1933) جهودا كبيرة لتقرير شؤون الدولة، وتحديد الأطر الدستورية والإدارية، والتنظيمية للدولة الجديدة وخاصة على صعيد بناء الجيش، ونشر التعليم، وتطوير الصحة، ووضع الإدارة على المنهج الصحيح، وتنظيم العلاقة مع الدولة المنتدبة بما لا يضر بمصالح العراقيين وطموحاتهم في بناء دولتهم الحديثة الموحدة القوية، وحل المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يساعد على أن يكون للعراق دورا مؤثرا في محيطه العربي والإقليمي والدولي. وكانت المعاهدات بين العراق وبريطانيا واحدة من الأساليب التي نظمت العلاقة تلك ولعل أبرزها معاهدة 1922 ومعاهدة 1927 ومعاهدة 1930 التي مهدت لدخول العراق عصبة الأمم كدولة مستقلة، وانتهاء عهد الانتداب البريطاني .

ان دخول العراق عصبة الأمم يعد خطوة كبيرة نحو الاستقلال التام، لذلك بُذلت جهوداً كبيرة في هذا المضمار وتعهدت الوزارات العراقية المتعاقبة التي تشكلت إبان عهد الانتداب البريطاني (1920-1932) أن يكون من ابرز مهامها استكمال دخول العراق عضوا في عصبة الأمم . ومن جهتها عملت السلطات البريطانية المنتدبة على الإيفاء بتعهداتها في مجال إدخال العراق العصبة ولكن بعد أن وضعت شروطا وقيودا كان على العراق أن يعمل من اجل تحقيقها.

لقد اتخذت الكثير من الخطوات التي أوصلت العراق إلى عضوية العصبة ومنها التوقيع على معاهدة 1922 مع بريطانيا والبروتوكول الملحق بها ومما تضمنته المعاهدة أن ملك بريطانيا يتعهد بأن "يبذل مساعيه لتأمين إدخال العراق في عضوية عصبة الأمم في أقرب وقت ممكن ". وعلى هذا الأساس قامت مفاوضات بين حكومة نوري السعيد الأولى 23 آذار 1930 من اجل عقد معاهدة جديدة تؤكد فيها بريطانيا تأييد ترشيح العراق عضوا مستقلا في عصبة الأمم سنة 1932، وكانت معاهدة 1930 والتي أتاحت لحكومة نوري السعيد الفرصة، لتثبيت حدود العراق مع الأردن وإيران وسوريا والسعودية والكويت. كما سافر نوري السعيد إلى جنيف بسويسرا حيث مقر العصبة مرتين. كما سافر للمرة الثالثة للتمهيد لدخول العصبة وحل بعض الإشكالات المتعلقة بالتعامل التجاري، وبموضوع ضمان حقوق الأقليات العرقية والدينية، وأكد أن القوانين العراقية تحتوي من النصوص ما يضمن تلك الحقوق رافضاً مقترحاً بتحديد أماكن معينة للأقليات الدينية .

وعندما زالت جميع العقبات أمام دخول العراق العصبة صدر قرار مجلس عصبة الأمم قبول العراق عضوا مستقلاً، وتم الاحتفال برفع العلم العراقي فوق سارية مقر العصبة مع أعلام الدول الأخرى في اليوم الثالث من تشرين الأول سنة 1932باحتفال حضره نوري السعيد و11 نائباً في البرلمان العراقي رشحهم الملك فيصل الأول، وبذلك يكون العراق اول بلد عربي يصبح عضواً في عصبة الأمم المتحدة.

***

صباح شاكر العكام

.....................

المصادر:

1-  امين الريحاني – فيصل الأول ذكرى وتاريخ – مؤسسة هنداوي، 2017م .

2-  علي علاوي – فيصل الاول ملك العراق – مركز الرافدين للحوار، 2021م .

3-  محمد مظفر الادهمي الملك فيصل الأول حياته السياسية وظروف مماته الغامضة - دار الذاكرة للنشر والتوزيع، 2021م .

من (التسعينات حتى العقد الثاني من الألفية).. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (3)

في الجزء الثاني، توقفنا عند التحولات الإقليمية من السبعينات إلى التسعينات: اغتيال السادات، مجزرة حماة، انقلاب السودان. واليوم نتابع صعود القاعدة وعلاقة الإخوان بها، لنرى كيف تحوّل الإرهاب إلى شبكة عابرة للحدود.

مع نهاية التسعينات، كان الإسلام السياسي قد غيّر جلده أكثر من مرة، لكنه لم يتغيّر في جوهره. من تنظيمات دعوية إلى أجهزة سرية، من محاولات اغتيال محلية إلى شبكات عابرة للحدود، ومن السيطرة على الجامعات إلى الاستيلاء على السلطة. غير أن ما سيأتي بعد ذلك سيكشف أن المشروع لم يكن يقف عند حدود الدول القُطرية، بل كان يتطلع إلى بناء سردية أممية، تُستعاد فيها صورة “الخلافة” كحلم مؤجل.

في هذا السياق، ولدت القاعدة. لم تكن القاعدة طفرة معزولة، بل كانت النتيجة المنطقية لمسار طويل بدأ مع سيد قطب، وتحوّل إلى جهاد أفغاني برعاية أمريكية وسعودية في الثمانينات، ثم انفجر في التسعينات ليصبح تهديدًا عالميًا. أسامة بن لادن، الذي خرج من رحم الثروة السعودية والتربية السلفية المتأثرة بكتابات الإخوان، وجد في أفغانستان تربة خصبة لتجسيد فكرة “الجهاد العالمي”. عبد الله عزام، الإخواني الفلسطيني، كان هو المُلهم والعرّاب. ومن هنا، بدأت العلاقة المعقدة: الإخوان من جهة يعلنون براءتهم من العنف المباشر حفاظًا على صورتهم السياسية، لكنهم من جهة أخرى يوفرون الغطاء الفكري والتنظيمي لشبكات جهادية مثل القاعدة.

في السودان، لعبت الخرطوم دورًا خطيرًا بين ١٩٩١ و١٩٩٦ حين تحولت إلى ملاذ آمن لبن لادن وقادة القاعدة. كان نظام البشير والترابي يرى في استضافة هؤلاء “المجاهدين” جزءًا من مشروعه لتصدير الثورة الإسلامية.

في تلك السنوات، عاش بن لادن في الخرطوم، أسس شركات، وحصل على حماية من جهاز الأمن الشعبي. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن السودان كان ساحة للتدريب والتخطيط، من بينها عمليات استهدفت الأمريكيين في نيروبي ودار السلام عام ١٩٩٨.

لم يكن السودان مجرد بلد عبور؛ كان مركزًا، مختبرًا، وحاضنة. وهذا ما جعل الولايات المتحدة تضعه في قلب قائمة الدول الراعية للإرهاب.

في مصر، ومع بداية التسعينات، عادت موجة الاغتيالات. أبرزها اغتيال المفكر فرج فودة في يونيو ١٩٩٢، رجل أعلن بوضوح أن الإسلام السياسي مشروع استبدادي متنكر بعمامة الدين. كان اغتياله بمثابة رسالة أن السيف لا يزال فوق رقاب المثقفين. وفي ١٩٩٤، نجا الأديب نجيب محفوظ من محاولة اغتيال بطعنة في رقبته، نفذها شاب تأثر بفتاوى تكفيرية. هذه الأحداث لم تكن معزولة؛ كانت جزءًا من مناخ أنتجته الحركة الإسلامية وأشباهها، حيث صار القتل وسيلة لإسكات الفكر.

في الجزائر، تحولت التسعينات إلى جحيم. فبعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالانتخابات ١٩٩١ وإلغائها من قبل الجيش، اندلعت حرب أهلية دامية. الجماعات المسلحة، التي حملت فكرًا قريبًا من الإخوان وقطب، ارتكبت مجازر مروعة في القرى والمدن. أكثر من ١٥٠ ألف قتيل خلال عقد واحد. الجزائر كانت المثال الأوضح على أن مشروع الإسلام السياسي، حين يُسقط بالقوة أو يُمنع من السلطة، لا يعود إلى الدعوة أو الحوار، بل ينقلب إلى حمام دم.

أما في فلسطين، فقد ولدت حركة حماس عام ١٩٨٧ كفرع مباشر للإخوان. في التسعينات، صعدت قوتها عبر العمليات الاستشهادية ضد إسرائيل. لكن هذه العمليات لم تكن مجرد مقاومة، بل تعبير عن التحام خطاب الإخوان مع العنف المسلح كخيار إستراتيجي.

العالم بدأ ينظر إلى الإخوان عبر عدسة حماس: حركة دعوية/سياسية تحمل السلاح وتتبنى التفجيرات.

وفي القارة الإفريقية، برزت حركات مسلحة دعت إلى نفس الأيديولوجيا المتطرفة. ففي الصومال، أسس مقاتلون صوماليون عائدون من القتال في أفغانستان تنظيم “حركة الشباب” (شباب المجاهدين)، الذي أصبح لاحقًا ذراعًا قويًا لتنظيم القاعدة في شرق إفريقيا . خرجت هذه الحركة لتفرض الشريعة في مناطق واسعة من جنوب الصومال وشنّت هجمات إرهابية عبر الحدود. ففي يوليو ٢٠١٠ شنت الحركة هجمات انتحارية في العاصمة الأوغندية كمبالا، أسفرت عن مقتل نحو ٧٦ شخصًا . كذلك ظهرت في نيجيريا حركة “بوكو حرام” التي أسسها محمد يوسف أواخر التسعينات، وكانت تطلق على نفسها اسم “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد”، وهدفت إلى إقامة دولة إسلامية في شمال نيجيريا وتطبيق الشريعة وتعليق التعليم الغربي . تطورت بوكو حرام إلى تنظيم مسلح عنيف، حيث أعلن خلف يوسف، أبو بكر شيكاو، الولاء لداعش عام ٢٠١٥ ، وارتكبت موجة من الهجمات المروعة، من أبرزها اختطاف ٢٧٦ فتاة مدرسية في ولاية بورنو عام ٢٠١٤ . إن هذه الأمثلة في إفريقيا توضح أن خطاب الجهاد والإرهاب امتد ليشمل حركات عابرة للحدود، ومنطلقاتها لم تقتصر على صراعات محلية بل انخرطت في مشهد عالمي للتطرف.

وفي آسيا أيضاً ترسخت مراكز للجهاد. ففي جنوب شرق آسيا ظهرت جماعة “أبو سياف” في الفلبين عندما انفصل مقاتلون إسلاميون عن الجبهة الإسلامية لتحرير مورو على يد عبد الرزاق أبي بكر جنجلاني -المكنى بأبي سياف- مطلع التسعينيات، وأعلنوا إقامة دولة إسلامية مستقلة في جنوب الفلبين. استخدمت أبو سياف أساليب عنيفة تمثلت في الخطف والاغتيالات والتفجيرات لكسب التمويل والخضوع، ولديها علاقات تنظيمية مع جماعات مثل “الجماعة الإسلامية” في إندونيسيا وشبكات إقليمية أخرى . وعلى غرارها نشأت في آسيا جماعات أصغر وأسهمت في ضخ أيدولوجيا الجهاد إلى هذه المناطق، مما يشير إلى أن بؤر الإرهاب الإسلامي لم تقتصر على الشرق الأوسط فحسب، بل امتدت إلى مناطق جديدة في آسيا أيضًا.

هذه المرحلة كشفت عن تضخم النزعة “الأبوكاليبتية” لدى الجماعات الإسلامية، وهي الاعتقاد بأن العالم مقبل على نهاية وشيكة أو معركة كونية فاصلة بين الحق والباطل، وهي نزعة تزرع شعورًا بانتظار حدث خارق يغيّر مجرى التاريخ. “العدو البعيد” أصبح المفهوم المركزي: ليس فقط الأنظمة المحلية، بل أمريكا نفسها، بوصفها الرمز الأكبر لـ “الجاهلية العالمية”. هذا الخطاب غذّى عمليات كبرى مثل هجمات نيروبي ودار السلام ١٩٩٨، ثم تفجير المدمرة كول ٢٠٠٠، وصولًا إلى أحداث ١١/٩/٢٠٠١. صحيح أن الإخوان حاولوا رسميًا التمايز عن القاعدة، لكن جذور الفكر كانت واحدة: الحاكمية، الجهاد، المفاصلة.

في السودان، انتهى “شهر العسل” بين الترابي والبشير في نهاية التسعينات، فانقسم الإسلاميون إلى جناحين. لكن هذا الانقسام لم يُغير من جوهر المشروع: الدولة بقيت إخوانية في بنيتها، جهاز الأمن الشعبي ظل يمارس الاغتيالات والاختطافات، ومحاولة اغتيال حسني مبارك ١٩٩٥ بقيت وصمة على جبينهم.

في هذه المرحلة، يتضح أن الإسلام السياسي لم يعد مجرد حركة أيديولوجية، بل صار شبكة معقدة: تنظيمات محلية، تنظيم عالمي، ذراع جهادية (القاعدة)، وامتداد فلسطيني (حماس). العلاقة مع الغرب أيضًا كانت مزدوجة: تعاون وتواطؤ في أفغانستان، وعداء معلن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.

المفكرون النقديون في التسعينات كانوا أكثر جرأة. صادق جلال العظم كتب عن “نقد الفكر الديني”، مؤكدًا أن الإسلام السياسي يعيش على إعادة إنتاج الماضي وتجميد الحاضر. الطيب تيزيني رأى أن هذه الحركات “تسجن العقل العربي في دوامة النصوص المغلقة”. أما فرج فودة، فقد دفع حياته ثمنًا لقوله إن “الدولة الدينية لا تعرف إلا الاستبداد”. هذه الأصوات تشكّل الضمير المضاد، الذي حاول أن يكشف زيف الخطاب الإخواني ويُسائل دمويته.

التحليل النفسي لجماعة الإخوان في التسعينات يُظهر بوضوح ما يسميه علماء النفس “الاستلاب الجمعي”: حيث يفقد الفرد هويته الخاصة ليذوب في الجماعة. هذا الذوبان يمنحه شعورًا باليقين، لكنه في الحقيقة يسلبه القدرة على التفكير النقدي. هنا يصبح العنف فعلًا طبيعيًا؛ لأنه صادر عن “الأمة” لا عن الفرد.

ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن هذه المرحلة كشفت أيضًا عن ازدواجية في الخطاب الإخواني. ففي حين كانوا في الغرب يقدّمون أنفسهم كحركات إصلاحية تسعى للديمقراطية، كانوا في الشرق الأوسط يرسّخون خطاب العداء والتكفير. هذه الازدواجية صنعت التباسًا في صورة الإسلام السياسي عالميًا، حيث تعاملت بعض الحكومات الغربية معهم كقوة معتدلة يمكن استيعابها، بينما الواقع كان يكشف عن تورطهم المباشر أو غير المباشر في دوائر العنف.

إلى جانب ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن التحولات التكنولوجية في التسعينات ساعدت على توسيع نفوذ الإسلام السياسي. أشرطة الكاسيت، الفضائيات، وشبكات الإنترنت الناشئة صارت منصات لترويج خطاب الجهاد والكراهية. لم يعد الأمر مقتصرًا على المساجد السرية أو الاجتماعات المغلقة، بل صار متاحًا على نطاق واسع. وهكذا، تعولمت لغة الجهاد بوسائل حديثة، لتجد لها صدى عند شباب يعيشون في هوامش المدن الكبرى من القاهرة إلى لندن.

في العراق أيضًا، ساهم الحصار الطويل بعد حرب الخليج الثانية ١٩٩١ في خلق بيئة خصبة لخطاب المظلومية الذي استثمرت فيه الجماعات الإسلامية. صحيح أن القاعدة لم تكن بعد قد توغلت في العراق، لكن أرضيته النفسية والسياسية كانت تُمهّد لمرحلة لاحقة ستتفجر بعد ٢٠٠٣ مع الاحتلال الأمريكي. هذه النقطة تظهر كيف أن التسعينات كانت بمثابة زمن التحضير الكبير لموجة الإرهاب العالمي التي ستنفجر في العقدين التاليين.

لقد كانت هذه المرحلة بمثابة مختبر ضخم لفهم طبيعة الإسلام السياسي حين يخرج من طور المعارضة إلى طور التمكين. التجربة السودانية مثلًا، لم تكن مجرد واقعة محلية؛ بل كانت علامة على أن الإسلاميين حين يمسكون بالدولة، يعيدون إنتاج أدوات القمع نفسها التي كانوا ينددون بها. وفي الجزائر، حين حُرموا من السلطة عبر الانقلاب العسكري، لم يتجهوا إلى خطاب مدني أو إصلاحي، بل تبنوا منطق السلاح والدم. وفي مصر، حين وجدوا أنفسهم في مواجهة المجتمع المدني والمفكرين الأحرار، لم يناقشوا الأفكار بالفكر، بل واجهوها بالرصاص والسكاكين. إنها نماذج متكررة تكشف أن الأزمة ليست فقط في الوسيلة بل في البنية الفكرية ذاتها، التي تؤسس لعلاقة ملتبسة مع مفهوم “الشرعية” و”العنف”.

ومع مطلع الألفية الثالثة، بدا واضحًا أن هذه الحركات قد ربحت لحظة من التاريخ لكنها خسرت المستقبل. فبينما تحولت القاعدة إلى شبح عالمي يطارد الجميع، كانت المجتمعات العربية تدفع ثمنًا باهظًا: خسارة للأمن، انغلاق سياسي، تصاعد للطائفية، وتراجع للتعليم والاقتصاد.

هذا الإرث سيفتح الباب أمام موجة الربيع العربي بعد ٢٠١١، حيث خرجت الشعوب لا ضد الإخوان وحدهم، بل ضد كل البنى السلطوية التي تحالفت معهم أو وظّفتهم. ويمكن القول إن هذه الوقفة الثالثة على أطلال الإسلام السياسي ليست سوى مقدمة لفهم “الانكسار الكبير” الذي سيأتي لاحقًا، حين يسقط القناع نهائيًا، وتنكشف الحركة في هشاشتها وفشلها في بناء دولة أو مجتمع حديث.

مع نهاية التسعينات، كان العالم يقف على حافة تحوّل جديد. القاعدة باتت تهديدًا عالميًا، السودان متهمًا بإيواء الإرهابيين، مصر وسوريا والجزائر غارقة في دماء، وحماس تفرض نفسها لاعبًا أساسيًا. كل ذلك كان تمهيدًا لعقد جديد سيعرف صعودًا غير مسبوق لفكرة “الخلافة” مع ظهور داعش بعد ٢٠١٣. وكأن ما بدأ بدعوة في الإسماعيلية ١٩٢٨، مرّ بكل هذه المحطات ليصل إلى أكثر صوره فجاجة: دولة إرهابية تعلن نفسها خلافة على أنقاض المدن.

يتبع في الجزء الرابع الأسبوع المقبل: ما بعد الربيع العربي – من التمكين إلى الانكسار (٢٠١١–الآن).

***

إبراهيم برسي

ليس المطلوب مع الانقلابيه المجتمعية الاليه مامن شان الارضوية ضمن اشتراطات التحولية الانقلابيه ان تفصح عنه، ومع ان الافصاحية المشار اليها يمكن ان تحتل موقعا استثنائيا، وتتمتع بالغلبه الكوكيبيه الكاسحه نموذجا وتفكرا، الا انها بالاحرى لن تتجاوز نطاق الارضوية التي نحن اليوم بصدد انتهائها مع انتهاء اليدوية الانتاجية حاضنتها ومولدتها، في حين يظل المطلوب المفترض والمقارب للحظة التاريخيه غرضا، غير متحقق، ومن دون ان يقارب ادراكيا، دلاله على عدم اكتمال اسباب واشتراطات الانقلابيه الالية اللاارضوية قطعا، ماخوذة تحت وطاة موجبات الانقلابيه التحولية العظمى، مابعد النبوية الحدسية، تلك التي كانت متطابقة مع اشتراطات الحضور والفعالية اللاارضوية، ابان طور غلبة الارضوية اليدوية.

 ويمكننا اليوم ان نتخيل عظم وفداحة الاشتراطات الحالة على اللاارضوية مع تراكم الاسباب المهوله المانعه للعقل من ان يضطلع بالمهمه الانقلابيه التحولية الاعظم على مستوى التاريخ، هذا علما بان منطقة اللاارضوية وقتها مغمورة، لابل مسحوقه عقليا تحت وطاة الانحطاطية الانقطاعية التي عمت المنطقة بعد انتهاء الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية مع القرن الثالث عشر، ماقد وضعها تحت طائلة ماقد سلف بلا ايه دالات من اي نوع على نيه اختراق فردي او غيره للحال العقلي السكوني الاجتراري، الذي انتهى اخيرا بالانقلاب الالي على الطرف الاخر الانصبابي التقليدي الاوربي، وما رافق الحدث الحاصل هناك من انقلابيه في الممكنات، والتوهمية التفكرية الكاسحه، لتصبح المنطقة تحت طائلة الانحطاطية والموات العقلي، مضافا لها غلبة النموذجية المتالقه، ماكان من شانه وضع هذا الجزء من العالم امام انحطاطية مضاعفه، بلغت عتبه الخروج على الذات، لابل غيابها الكلي، باسم توهمات مستعارة لم تكن تتردد في اعتبار ماهي تحت وطاتها "نهضة"، هي بلا شك نوع من الزيف الاعلى ترديا وانحطاطا بالقياس للتوهمية الغربية المقابلة بما لايقاس.

 وفي موضع هو المعني المباشر بالحدث التاريخي النوعي الحاصل، ظلت الشروط اليدوية الانهيارية الانقطاعية هي السائده حتى في الحالة الانبعاثية، وفي ارض سومر التاريخيه حين انبثقت اولى الدالات على الانبعاثية الثالثة، مع القرن السادس عشر، اتخذت ابتداء صيغة قبلية من "اتحاد قبائل المنتفك"، لتنتقل بعدها مع القرن الثامن عشر بعد الثورة الثلاثية عام 1787 الى حقبة لاارضوية يدوية من متبقيات الحدسيه النبوية بصيغة "الانتظارية" النجفية التي استمرت الى بدايه القرن العشرين، ونزول الحمله البريطانيه جنوبا في الفاو وصعودها المتعثر الى بغداد عاصمة الدورة الثانيه المنهاره، مع فداحة المرور في ارض السواد، موضع اللاارضوية، وما قداثاره من الشعور غير المسبوق بالخطر الوجودي في منطقة لم تعرف مطلقا وعلى مر تاريخها، غزوا من الجنوب الذي هو "منطقة الامان المجتمعي التاريخي"، بالاضافة الى النوع العسكري المحتل غير المعروف من قبل بصيغته الاليه الراهنه، مما استدعى تفجر الثورة اللاارضوية الحديثة الاولى غير الناطقة في حزيران عام 1920 تحت شعار"هوسة" الطوب احسن لومكواري"(3)، تعبيرا عن الفارق بين المدفع الحديث مقابل الفاله والمكوار اللذان حققا الانتصار الوشيك(4) لولا التحايل المفهومي النموذجي الذي لجأ اليه الانكليز بديلا للانسحاب الذي هيئت كل اسبابه عسكريا.

 ومن هنا ندخل تاريخا غير مؤرخ ولا وجود له، يحتكم تعسفا لمنظور بعينه براني، ومنطق ووسائل تفسير ونظر احاديه الطرف، الاخر فيها، او جهه الاصطراع الاخرى غائب تعبيرا وحضورا، فمن يرسم سردية تشكل العراق الحديث هو فليب ويرلند الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه، مقررا وجود عراق حديث يبدا تشكلا من 1831 تاريخ الاحتلال التركي الثالث، من الولايات التركية، بغداد والموصل والبصره، ارتهانا للتطور الراسمالي العالمي وهي فرضية قسرية اعتباطية لاوجود لها في التاريخ اطلاقا، فالعراق ككيان لم يوجد يوما، وهو كيانيه كونية تعبيرا وواقعا، ازدواجي مجتمعيا، من حيزين لاارضوي / ارضوي يتشكل امبراطوريا ضمن ديناميات دوراته الصعودية/ الانحدارية، حين يختفي منهارا ساعة تبلغ الاصطراعية الازدواجيه مداها على طريق التحقق اللاارضوي، منتظما كينونة تحت طائلة قانون هو "الدورات والانقطاعات" تتابعت في انهيارات العواصم الامبراطورية الكبرى بابل وبغداد، من ضمن مسار تاريخي ذاهب الى اللاارضوية كونيا، وعلى مستوى الظاهرة المجتمعية ككل، علما بان الموضع مدار البحث هو موقع البدئية المجتمعية، وهو الاعلى ديناميات على مستوى المعمورة، ياتي بعده وادنى منه على هذا الصعيد، مجال الازدواج الارضوي الطبقي الاوربي.

 وهنا واليوم تتشكل عناصر اصطراعيه مختلفة، هي في الجوهر من طبيعة الانقلاب الحاصل آليا ومجتمعيا حيث يقع الموضع المطلق عليه اسم العراق تحت طائلة اشتراطات خاصة، لاعلاقه لها بالحيثيات الاممية المولدة لمفوم "التحرر الكياني"، فالعراق بالذات يحكمه منذ وصول الحملة البريطانيه قانون "محو الذاتيه التاريخيه" وهو جانب اساس في تامين الحد الادنى من اسباب استمرا ر النفوذ في هذا الموضع، يضطلع بناء عليه، وبفعل ضرورته، المحتل بوضع سردية كيانيه للموضع الجاري وضعه تحت سطوه الاحتلال، مستندا لاشتراطات ذاتيه مؤاتيه، والى مرتكز حاضر، فلا الموصل (الامبراطورية الاشورية لها دينامياتها الخاصة المختلفة خارج الكينونه الازدواجية اللاارضوية/ الارضوية العراقية، وهي كيانيه ارضوية صرفه لها اشتراطاتها الفرعية الخاصة)ولا بغداد( بغداد هي نتيجة ومنجز آليات الدورة الثانيه، وجدت نتيجه الاصطراع من الكوفة وهرب بني العباس منها ومن انتفاضاتها) (5) كانا في يوم من الايام عناصر لها وجود، او فعالية تذكر في التاريخ العراقي الازدواجي السومري البابلي الابراهيمي الاول، او العباسي القرمطي الانتظاري الثاني، وماقد ارتكز اليه المحتل باعتبار العراق هو الموصل وبغداد والبصرة، كان استغلالا لاشتراطات الانهيارية التاريخيه، ولظهور المدى البراني انطلاقا من العاصمة الامبراطورية المنهارة بغداد التي صارت موضعا لتعاقب الدول واشباه الامبراطوريات، ابتداء من 1258 يوم دخول هولاكو الى بغداد الى حين وصول الانكليز اليها عام 1917، وهو مجال سيطرة براني لاعلاقة له بالكينونه العراقية، الماخوذه من حينه باليات الانقطاع الانحطاطي، وبديناميات الانهيار والفوضى بداية، ثم العودو للتشكل ابتداء من القرن السادس عشر في ارض سومر التاريخيه، بظهور "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض ذي قار.

 وترتكز سياسة ومنهجية "محو الذاتيه التاريخيه"، عدا عن الارث البراني الانحطاطي القابل للاستعمال برانيا، الى مايتميز به الحضور الغربي مع طبعته او صيغته الانصبابة الراهنه المقترنه بالانقلابيه الاليه نموذجا وتفكرا، مع غلبتها الكاسحة على مستوى المعمورة، فصارت البرانيه وقتها وبناء عليه، صيغة اخرى مختلفة " حديثة" نموذجا ورؤية، لتبتدع من حينه كيانيه متلائمه مع المبدأ المعمم على هذا الصعيد كوكبيا، ولتجعل في الوقت نفسه من الرد على هذا الحضور الافنائي، مسارا اصطراعيا مصيريا، هو المنطوي على اكبر المجابهات اللاارضوية في التاريخ البشري، يوم يبدا الوعي اللاارضوي لارض مابين النهرين ينتقل من صيغة التفكير داخل الصندوق الغربي الغازي، الى الذاتيه الممحوة والمؤجله، ووقتها يعرف الموضع المعروف بالعراق مايماثل الظاهرة المعروفه والمسماة ب "الوطنيه"، او بالاحرى " الوطن كونيه" التي تبدا علائمها تلوح في الافق ومن هنا يبدأ مسار الثورة اللاارضوية العظمى.

 ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

لاتحتاج اللاارضوية الى التمايز الطبقي والفوارق في الملكية والموقع لكي تمتلك اسبا ب الفعالية والديناميه الضرورية، فتحقق الاختراقية المجتمعية كما حصل اوربيا وشرقيا انطلاقا من الشرق المتوسطي وتعبيريته الاولى الحدسية النبوية الابراهيميه، ذلك لانها كينونة وجودية بشرية ومجتمعية ركيزة فعاليتها، لا التمايزات الاجتماعية بذاتها، ولا المواضع والبدان المختلفة، بل الكائن البشري نفسه باعتباره (عقل / جسد) وهو كينونه اصطراعية مضاده للاشتراطات اليدوية الجسدية الحاجاتيه، لها اشكال فعلها وقوانينها غير المنظورة على مدى الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي:

ولعله من اللازم عند هذه النقطة من التحري، التعرض لماقد ميز الانجاز العقلي الاهم اوربيا بعد ماقد ولده الانقلاب الالي من تسريع غير عادي للاليات المجتمعية، وفي مقدمها العقلية لينتج ثلاث موضوعات انقلابيه كبرى ابتدائية،  وجدت على خطورتها ناقصة نقصا مصدره الارضوية الاحاديه وحدودها،  برغم الازدواج الطبقي، العامل الدينامي الخاص والمتقدم على غيره ضمن صنفه.

الاول: هو المنظور المتعلق باخر العلوم، "علم الاجتماع"، وهو من دون شك قفزة حصلت في حينه  على مستوى محاولة نفي القصورية الادراكية  البشرية بعلاقتها بالظاهرة المجتمعية على مدى الطور اليدوي  السابق، الاان هذا الانقلاب العقلي لم يكن ليتعدى من حيث نطاق الاحاطة، حدود المجتمعية "الارضوية"، من دون مقاربة هي الاهم والمطلوب، كان المفترض ان تتناول طبيعة المجتمعية، ونوعها، او انواعها، وهل هي  واحد ام غير ذلك، ماقد ابقى المسالة الاخطر والاهم خارج التناول والبحث، فظل "الازدواج المجتمعي" خارج الانشغال، بما يخرج مايسمى "علم الاجتماع" كما وجد في حينه والى الان، عن دائرة ماكان من المفترض  انه قد وجد لازالة النقاب الاخطر عنه، فظلت القصورية لهذه الجهه تمارس فعلها كما كانت خلال الطور الاسبق اليدوي.

الثاني :هو نظرية الاصطراع الطبقي وماقد ترتب عليها، وارسي بناء على ركائزها من مفهوم "مادي" للتاريخ البشري، وعدا عن الافتراضية المبالغة الخاطئة عن كون المجتمعات او الظاهرة المجتمعية محكومة كينونه بالطبقية، وهو فرض للخاصية الذاتية الاوربيه على المعمورة لااساس له، فان ماركس تصرف في حينه كمواطن يدوي، وهو يصر على انه معبر عن شروط لايدوية  آليه، فلم يحاول النظر الى المجتمع بناء على تبدل اشتراطات التفاعلية المجتمعية، وماينتج عن وجود الالة من تغير في الكينونة المجتمعية من المرحلة  الاولى اليدوية (البيئية/ البشرية)، الى (البشرية + متبقايت البيئية + الاله)،  والعنصر الاخير من غير طبيعة ونوع العنصرين الاولين، وفعله مختلف،  لاتعود معه المجتمعات اليدوية ومنها بالطبع " الطبقية"، قائمه، او من الممكن ان تستمر كما هي، او بما هي عليه كينونة بحسب مااكتسبته، وكان لها من تميز نوع نمطي ابان الطور اليدوي، بناء على فعل البيئة وحضور  العقل. بهذا يكون ماركس قد اراد ان يفرض علينا قانونا اعتبره "ماديا" ومحتما، جوهره "الطبقة"، في اللحظة التي  ماعادت الطبقة فيها قابله للبقاء كفعل، او الاستمرار.

والثالث: نظرية دارون عن "النشوء والارتقاء"، وهو الاخر وان يكن قد غير، لابل قلب مفهوم الوجودو "الخلق"، قافزا بالادراكيه العقلية بما خص  مسار التحول الوجودي  التشكلي الارتقائي، الاانه يظل كما العادة والمتوقع،  ابن الاشتراطات الموضوعيه التي هو منها، وان هو قد تهيأت له اسباب الاختراقية الادراكية، فظل هنا وبهذه المناسبة محكوما لوطاة الجسدوية والاحادية، فالحق التطور البشري وقبله الحيواني  بالجسد،  الى ان يصل لنقطة التحول الكبرى العقلية، ويقرر ساعتها بان العضو البشري الجسدي قد توقف عن النمو وصار من ساعتها مكتملا، من دون ان يلاحظ، ولا اشار بالمقابل الى العقل ومكانه من العملية الارتقائيه بعد ظهوره مع الانتصاب واستعمال اليدين، ولا خطر له اذا كان العقل سوف يستمر بالتطور كما كان قبل هذا التاريخ، فالعملية النشوئية الارتقائية هي بالاحرى عملية "عقلية" عكس ماظن هو، والعنصر المحور الذي تعمل الارتقائية لاجله، هو العقل،  بدليل انه ظل لملايين السنين  من التشكل الحيواني خافيا وغير موجود، قبل ان تنتهي الحيوانية لانبجاس العقل، بانتظار تطوره اللاحق، مع افتراض استمرار العملية النشوئية باشتراطات اخرى.

فالعقل الحالي الذي ظهر مع الانتصاب، هو محطة ابتداء اولى ذاهبه الى مابعدها، بعدما غدت الجسدية غير لازمه، وانتهت ضرورتها السابقة كحامل للعقل، وقد غدت اليوم بسياق الانخراط ضمن عملية جديده متناسبه مع الكائن الحاصل بعد ظهور العقل وحضوره، تلك هي التفاعلية المجتمعية المتناسبة مع الانقلابيه  العضوية الذاتيه نحو الكائن البشري، بقصد استكمال العملية العقلية، والتخلص النهائي من متبقيات الجسدية الحيوانيه الباقية عالقة بالكائن البشري، عبر طور انتقالي مابين الحيوان  الجسد، والانسان العقل، عبر طور بشري هو "الانسايوان" الذي نحن اليوم منه وفي غمرته.

والنقاط الرئيسية الثلاث اعلاه تحكي لنا موقع العقل التحولي عند لحظة غير عادية، بدا معها الانتقال من الانتاجية اليدوية الى الاليه، بدفعها وماتنطوي عليه من اهداف متناسبه مع طبيعتها مجتمعيا، وهو مالم يكن للمجتمعية الارضية ان تقاربه بحكم طبيعتها ونوع بنيتها، فالانتقال الالي هو انتقال "لاارضوي"، مساره ونتائجه متعدية للارضوية اليدوية ومتبقياتها، التي تنشا الالة بين ظهرانيها، لتنتج تحت اثرها غير العادي طورا ابتدائيا اوليا من  المنظورات والرؤى والاعتقادات الالية باطار يدوي، هو لازمه وضرورة لاجل الانتقال الاكبر الالي، ومنتهياته الكبرى اللاارضوية، مالابد من انتظار الاصطراعية الناشئة في غمرته، قبل الانتقال الضروري من التوهميه الاوربيه، والنقص الادراكي الابتدائي الذي يعم المعمورة،  ويغلب مفهوما ونموذجا على مدى بضعة قرون.

تتوافق ضمن اشتراطات الاصطراعية الافنائية التي يمارسها الغرب التوهمي ضد اللاارضوية التي تكون قد وجدت  منبعثة منذ القرن السادس عشر في ارض سومر في مابين النهرين مجددا، بلانطقية، حالة انتهاء صلاحية النموذج التوهمي الغربي الالي، مع تحورات الاله غير المنظور لها بما تستحق كسيروره موضوعيه، من الالة المصنعية الارقرب لليدوية، الى التكنولوجيا الالية الحالية، الى التكنولوجيا العليا  العقلية المنتظره من هنا فصاعدا، مايجعل من الرؤية اللاارضوية لزوما وحاجة غير عادية وجودا، وقد اكتسبت كل مقتضيات العقلانيه الابعد من الملموساتية الارضوية، مغادرة التعبيرية الاولى النبوية الابراهيمه الحدسية، نحو طبعة ( عليّة سببيه) بينما متبقيات الارضوية، وكل مايتصل بها كنهج حياتي،  تشارف على انتهاء الصلاحية، وتقع ضمن دائرة احتمالات  الفناء.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

فرانز فانون: "الاستعمار لا يكتفي بسرقة الأرض، بل يسرق اللغة والخيال، ليجعل المستعمَر يشك في إنسانيته." إدوارد سعيد: "المقاومة فعل معنى قبل أن تكون فعل قوة."

في المشهد العالمي الراهن، تتبدّى الكرامة بوصفها المعيار الأكثر انكشافًا في لعبة الهيمنة. فحين تُستنزَف كرامة الشعوب تحت مسمّى “النظام الدولي” أو “العولمة الديمقراطية”، ينفضح القناع الذي طالما ارتدته القوى الاستعمارية الجديدة لتجميل سرديّتها عن الحرية والحقوق. لقد تحوّلت الديمقراطية الغربية، التي تغنّت بالعدالة والمساواة، إلى واجهة برّاقة تخفي خلفها اقتصاد القوة العارية. منطق يُعيد توزيع الخرائط، ويُدير المستقبل كسلعة، ويحوّل الضعف إلى بنية ثابتة في جسد الدول التابعة.

لكن الوجه الآخر لهذه المفارقة يكمن في وعي الضحايا أنفسهم. فالدول الضعيفة، التي تعي هشاشتها، تنخرط غالبًا في لاوعي جماعي يضخّ قلقًا وجوديًا. هل المقاومة مجدية أمام منظومة تمتلك كل أدوات الفعل والتأثير؟.

 هنا تتشكل مفارقة عميقة. إذ إن الشعوب تدرك استلابها، لكنها تخشى أن يصبح الرفض نفسه مجرّد طقس احتجاجي بلا أثر، فيتحول السؤال عن الكرامة إلى سؤال عن معنى التاريخ.

الفلسفة تكشف أن هذه الأزمة ليست صراع قوى فحسب، بل معركة على المعنى. فالقوة العظمى لا تكتفي بإعادة رسم الحدود السياسية، بل تعيد تشكيل المخيّلة. كيف يُتصوَّر المستقبل، كيف يُعاد تدوير العالم بحيث يبدو استتباع الضعفاء قدرًا لا مهرب منه. وهنا يصبح الصمت شكلًا من أشكال القبول، كما يصبح التمرّد اختبارًا للحرية في أعمق معانيها.

إن استعادة الكرامة، إذن، ليست شعارًا أخلاقيًا، بل مشروعًا وجوديًا. بناء وعي قادر على اختراق لعبة القوة، وابتكار سرديات بديلة تعيد للإنسان مكانته كغاية لا كوسيلة. إنها دعوة لإحياء السؤال الفلسفي القديم. أيّ عالم نريد، وأيّ إنسان؟ فالمستقبل لا يُصنع فقط في مصانع القوى العظمى، بل في إرادة الشعوب التي ترفض أن تُختزل إلى هامش في نصّ كُتب بيد غيرها.

إنه لا حياة حقيقية بلا كرامة، فهي الأساس الذي تنبني عليه الذات الإنسانية وهويتها الأخلاقية. الكرامة ليست مجرد شعور ذاتي، بل ممارسة قيمية وروحية تحمي الإنسان من الانحطاط، وتمنحه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، والعدل والظلم.

حين تُهدَر كرامتنا، يتشوه عالمنا الداخلي والخارجي، وتصبح الرؤية غائمة، ويعمّ الضعف والاستلاب، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. هذه الأزمة لا ترتبط بعِرق أو جنس أو وطن بعينه، بل هي حالة إنسانية عامة، تتجلى عندما تُهمل القيم الأخلاقية ويتسلط الفساد السياسي والاجتماعي على حياة الناس، كما لاحظها كانط في فلسفة الأخلاق: "الإنسان كغاية في ذاته لا يجوز أن يُعامل مجرد وسيلة"، وهو ما يخرق أساس الكرامة حين تُستباح الحقوق، أو يُفرض الصمت على الضمير.

تاريخيًا، شهدت الإنسانية فظائع ومآسي ارتكبت ضد الكرامة، من المجازر إلى الاستلاب السياسي والاجتماعي، وقد حاول فلاسفة مثل هيغل وتولستوي وباكون التعبير عن ضرورة صون الكرامة كشرط للحياة الحرة والمستقلة. هيغل ربط الحرية بالوعي الأخلاقي الجماعي، مؤكدًا أن المجتمع الذي يهان فيه الفرد يفقد القدرة على التطور الروحي والسياسي؛ وبالمثل، يشير تولستوي إلى أن انهيار القيم يؤدي إلى استلاب الذات، وفقدان معنى الحياة.

إن مواجهة هذه الأزمة تتطلب استنهاض الكرامة كقيمة مركزية في السلوك الفردي والجماعي، وإعادة بناء نظم عادلة تكرّس الاحترام للإنسان، وتمنح الحياة معناها الحقيقي، بعيدًا عن التسلط والغبن. فالحياة بلا كرامة، كما يرى سارتر، تصبح عبثًا، لا مكان فيها للحرية الحقيقية أو للوعي الأخلاقي، وهي إذًا مجرد بقاء مادي، دون أي معنى أسمى أو إحساس بالعدالة الإنسانية.

***

د. مصـطـفــى غَـــلمـان

من السبعينات حتى التسعينات.. خمس وقفات على أطلال الإسلام السياسي (2)

في الجزء الأول من هذه السلسلة، تناولنا جذور الإخوان من الخمسينات حتى السبعينات، وكيف تحوّلوا من دعوة إصلاحية إلى تنظيم يشرعن العنف. ونواصل اليوم الرحلة من السبعينات حتى التسعينات، حيث تتسع رقعة العنف لتشمل الإقليم والعالم.

في السبعينات، كان العالم العربي يقف عند مفترق طرق: صعود النفط وما جلبه من ثروات غير مسبوقة، تراجع المشروع القومي بعد هزيمة ٥/٦/١٩٦٧، وظهور الإسلام السياسي كبديل يوظف خيبة الجماهير. لم يكن الإخوان في هذه الحقبة مجرد جماعة محلية؛ كانوا قد بدأوا يتشكلون كتنظيم عالمي يمتد من القاهرة إلى الخرطوم، ومن عمّان إلى كراتشي، ومن لندن إلى ميونخ. كانت الهجرة القسرية لقياداتهم – نتيجة قمع ناصر – فرصة لتوسيع شبكاتهم في الخليج وأوروبا، حيث تحالفوا مع دوائر المال والبترودولار، ووجدوا دعمًا ضمنيًّا من الغرب الذي رأى فيهم حائط صد ضد المدّ الشيوعي.

وفي ظل هذا التحول، لم تكن الموارد مجرد تدفقات نقدية، بل صياغة لما يمكن تسميته “اقتصاد الدعوة”: مدارس وجمعيات وعيادات ووسائط إعلام محلية تُعيد إنتاج الولاء يوميًا؛ من منبر المسجد إلى ملصق النقابة، ومن الكتيّب الرخيص إلى الشريط الصوتي. تَخلَّق بذلك سوق لغوي جديد يمزج الوعظ ببلاغة الإدارة والنجاعة، فيمنح المشروع جاذبية عملية تتجاوز الشعار.

في مصر، شهدت حقبة السبعينات إعادة إحياء للجماعة بفضل سياسة السادات الذي سمح لهم بالعودة لمواجهة الناصريين واليسار. لكن هذه الصفقة حملت في طياتها بذور نهايته. فالإخوان، ومعهم التيارات المتشددة التي خرجت من رحم فكر سيد قطب، أسسوا مناخًا تكفيريًا متناميًا انتهى في ٦/١٠/١٩٨١ برصاص خالد الإسلامبولي ورفاقه، الذين اغتالوا الرئيس في عرض عسكري أمام العالم. لم يكن هذا الحادث مجرد انتقام سياسي؛ كان إعلانًا عن أن الإسلام السياسي بات يمتلك ذراعًا مسلحة قادرة على إسقاط رأس الدولة.

وتكمن خطورة تلك اللحظة في كونها كرّست “العنف الرمزي” قبل الفعلي: إعادة توصيف الخصم الوطني على أنه خصم ديني، وتحويل الخلاف السياسي إلى انحراف عقدي. بعد ذلك، يغدو انتقال بعض الهوامش إلى السلاح أمرًا متوقعًا؛ فاللغة ممهّدة، والجمهور مُهيَّأ لقبول الاستئصال بوصفه خلاصًا. هكذا يتجاور المنبر والرصاص تحت سردية واحدة تتحدث باسم “النقاء”.

في السودان، بدأت الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي تصوغ مشروعها الخاص. منذ المصالحة الوطنية مع نميري عام ١٩٧٧، تسلل الإخوان إلى بنية الدولة، وتعلموا من تجارب مصر وسوريا أن القوة وحدها لا تكفي، بل يجب اختراق المؤسسات. فسيطروا على الجامعات، أقاموا جهازًا سرّيًا، وبنوا شبكة مالية عبر البنوك الإسلامية. ومع سقوط نميري ٦/٤/١٩٨٥، بدوا وكأنهم في تراجع، لكنهم كانوا يحضّرون لانقلاب سيأتي بعد أربع سنوات.

وقدّم هذا الاختراق المؤسسي نموذجًا مبكرًا لما سيُعرف لاحقًا بـ”التمكين”: إحلال الولاء محل الكفاءة، وتوزيع مفاصل الإدارة على شبكات تنشئة أيديولوجية. تتكون بيروقراطية موازية غير مرئية، تتغذى على المصالح المتبادلة بين رأس المال الإسلامي الناشئ والأمن، وتبرر سيطرتها بخطاب طهراني يرى الإدارة تكليفًا شرعيًا لا خيارًا سياسيًا.

في العالم، كانت السبعينات والثمانينات حقبة الحرب الباردة. ولأن السياسة لا تعرف البراءة، فقد تحالف الإخوان – بشكل مباشر أو عبر وكلاء – مع الولايات المتحدة في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي. هناك، وُلد “الجهاد الأفغاني” الذي احتضن آلاف الشباب من العالم الإسلامي، كثير منهم من الإخوان أو المتأثرين بفكرهم. ومن تلك التربة خرجت القاعدة لاحقًا، بقيادة أسامة بن لادن، الذي تأثر بخطاب سيد قطب وبتنظيرات عبد الله عزام – الإخواني الفلسطيني الذي يُعتبر الأب الروحي للجهاد الأفغاني.

بدت أفغانستان ساحة بعيدة، لكنها عملت مختبرًا لامتزاج “الخطاب القطبي” بخبرة القتال العابرة للحدود. انتقلت “العدة الفكرية” عبر مجلات وأشرطة وشبكات طلابية، وتقوّى مفهوم “الأممية الجهادية”. لم تكن الحدود بين “الإخوان السياسيين” و”السلفية الجهادية” صلبة؛ كان هناك تداول للمفاهيم والكوادر والتمويل، مع تنافسٍ على شرعية القيادة وتفسير “الواجب”.

الاغتيالات ومحاولات الاغتيال في هذه المرحلة كثرت وتنوعت:

* في مصر، استُهدف مفكرون وسياسيون، أبرزهم فرج فودة الذي اغتيل لاحقًا في ٨/٦/١٩٩٢ على يد جماعة إسلامية تحمل نفس فكر الإخوان في تكفير المخالف.

* في سوريا، خاض الإخوان مواجهات دامية مع نظام الأسد، بلغت ذروتها في مجزرة حماة ٢/٢/١٩٨٢. كان العنف لغة مشتركة: النظام يقتل بالجملة، والإخوان يردون بالاغتيالات.

* في السودان، جرى التخطيط لمحاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا ٢٦/٦/١٩٩٥، وهي العملية التي اتُّهمت بها قيادات عليا في النظام السوداني، ومن بينهم علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع، باعتبارها جزءًا من الجهاز السري للجبهة الإسلامية. هذه الحادثة رسّخت صورة السودان كملاذ للحركات الإسلامية العنيفة.

وتتجاور هذه الوقائع كي ترسم بنية لا مجرد حوادث معزولة. فالعنف هنا أداء عام يصنع معنى ويقترح هوية، وردّ الدولة عليه – عبر “أمننة” المجال العام – يُعيد إنتاج الشروط التي غذّت العنف أصلًا. تتغذى الدائرة على صور الشهداء، وخطب المنابر، وبلاغات السلطة؛ كل ضربة تُنجب خطابًا أشد، وكل خطاب يمهّد لضربة أوسع.

من زاوية التحليل النفسي، تبدو هذه المرحلة مثالًا على ما يسميه علم النفس التنظيمي “التماهي العدواني”: الجماعة تعيد تشكيل وعي الفرد بحيث يرى في القتل تضحية، وفي العنف خلاصًا. يُغذَّى هذا الوعي بشعارات عن “الشهادة” و”الفريضة الغائبة”، حتى يغدو الاغتيال ليس جريمة بل فعلًا تطهيريًا. الشخص المتطرف هنا ليس مجرد فرد معزول، بل عضو في جماعة توفر له هوية، معنى، وغفرانًا مسبقًا لكل عنف يرتكبه.

ومن منظور علم النفس الاجتماعي، تُقرأ الظاهرة أيضًا عبر مفهومي “الهوية المندمجة” و”تقديس القيم”: حين تُرفع غاية فوق الحسابات، تصبح غير قابلة للمقايضة. يتراجع العقل الأداتي، وتتقدم اللغة الأخلاقية الحدّية كأداة تعبئة. لا يعود السؤال: ما الجدوى؟ بل: ما الواجب؟ ومع الواجب ينحسر تمثّل الضحية لصالح صورة المثال الطاهر الذي “يستحق” كل تضحية.

في هذا السياق، يمكن فهم التحليل العميق لصادق جلال العظم، المفكر السوري الاشتراكي، الذي رأى أن الإسلام السياسي في جوهره “أيديولوجيا تعويضية”: تَعِد الجماهير بالجنة حين تفشل في تقديم حلول دنيوية. وبالمثل، كتب الطيب تيزيني أن هذه الحركات “لا تنتج معرفة، بل تنتج شعورًا بالخلاص عبر إلغاء الآخر”. هذه الرؤية تُسائل بعمق: كيف تتحول العقيدة إلى أداة لتبرير الدم؟ وكيف يصبح النص الديني واجهة لإرادة سلطة دنيوية؟

ما بين السبعينات والتسعينات، كانت السردية الإخوانية تتجذر عالميًا. في تونس، ظهر راشد الغنوشي كوجه للحركة الإسلامية المحلية، مستلهمًا من الإخوان المصريين. في الجزائر، دخل الإسلاميون في صدام دموي مع الجيش بداية التسعينات بعد إلغاء الانتخابات، ليتحول البلد إلى ساحة حرب أهلية. في فلسطين، تأسست حركة حماس ١٠/١٢/١٩٨٧ كفرع مباشر للإخوان، متبنية العمل العسكري ضد إسرائيل، ومثبتة أن العنف أصبح خيارًا إستراتيجيًا.

أما في السودان، فقد بلغ المشروع ذروته بانقلاب ٣٠/٦/١٩٨٩ الذي قاده عمر البشير بدعم كامل من الجبهة الإسلامية. هنا اكتملت الحلقة: من التنظيم الدعوي في الخمسينات، إلى الجهاز السري في السبعينات، إلى السيطرة الكاملة على الدولة في التسعينات. ومنذ تلك اللحظة، أصبح السودان مختبرًا لتجربة الإسلام السياسي في الحكم: دولة بوليسية، مليشيات سرية، اغتيالات، ومحاولة لتصدير “الثورة الإسلامية” إلى الإقليم.

ومع قيام السلطة على هذا النحو، برزت أدوات حكم تُزاوج بين الخطاب والعنف: تأميم المجال الديني وتسييس القضاء، وخنق المجتمع المدني عبر “مجتمع موازٍ” من نقابات واتحادات ومنظمات تُعيد توزيع الولاء. تتقدم المليشيا كذراع سيادية لمراقبة المجتمع، فيما يتكفّل الاقتصاد الريعي ببناء الاعتمادية. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز تنشئة أيديولوجي شامل.

هذه المرحلة تكشف بوضوح أن الإسلام السياسي لم يعد حركة احتجاجية فقط، بل صار مشروع سلطة. اغتيال السادات كان إعلانًا بأن الجماعة قادرة على الوصول إلى أعلى قمة في الدولة. مجزرة حماة كانت دليلاً على أن الإسلام السياسي يمكن أن يدخل في حرب إبادة متبادلة. انقلاب السودان كان إثباتًا أن الجماعة تستطيع السيطرة الكاملة على دولة. أما أفغانستان، فكانت دليلًا على أنهم قادرون على لعب دور عالمي ضمن صراعات القوى الكبرى.

وعلى المستوى المقارن، يمكن تسجيل ثلاث خلاصات: أولًا، سقوط “خرافة الحياد الدعوي”؛ فحين تدخل الحركة معترك السلطة، يغدو خطابها صفرِيًّا بطبيعته. ثانيًا، قابلية النموذج للانتقال عبر شبكات المساجد والجامعات والشتات، بما يجعل التجارب تتشابه رغم اختلاف السياقات. ثالثًا، قابلية العنف للتدويل، إذ يُعاد تأويل الجغرافيا بوصفها خرائط عقائدية تتجاوز حدود الدولة الوطنية.

وهكذا، حين نطل على نهايات التسعينات، نجد أن كل عناصر المأساة كانت قد نضجت: تنظيم عالمي، ذراع عسكرية، شبكة مالية، خطاب تكفيري، وارتباطات بجماعات جهادية أخرى. وكأن المشهد كان يمهّد لمرحلة جديدة أكثر دموية: مرحلة القاعدة، داعش، وحروب ما بعد ٢٠٠١.

“الأسبوع المقبل نصل إلى الجزء الثالث: من الخرطوم إلى نيروبي… حين صار الإرهاب عابرًا للحدود (١٩٩٠–٢٠٠١) “.

***

إبراهيم برسي

 

لنتخيل لو ان قوات الامبراطورية الفارسيه في العراق قد تمكنت من قوة الفتح الجزيرية واستطاعت ان تهزمها، مع مايترتب على حدث كهذا من انقلابيه تاريخيه كيانيه ووجودية لاتخص المنطقة الشرق متوسطية فقط، بل فارس ذاتها ومايمكن ان  يتمخض عنه حضورهاالذاتي والامبراطوري ذاتيا داخليا وعلى مستوى امتداداتها، لنقف امام جانب غاية في الحساسية والخطورة يتعلق بدعوة النبي الجزيري العربي عربيا شرق متوسطيا من ناحية، وفارسيا وشرقيا، مع مايقف خلفها من توقع مذهل وتقدير للحظة الانقلابيه  الشامله، لها طابع الكونية المجتمعية، ففارس الامبراطورية المنصبه على منطقة الازدواج ببنيتها الاحادية، كانت وقتها على مشارف الانقلاب الى "الازدواج" كجزء من نضج صيرورتها الطبيعية المضمرة في الكينونه المجتمعية ككل، مايعني توفر الاشتراطات حينه للانقلاب اللاارضوي الازدواجي بصيغته التعبيرية الابراهيمه الختامية وتوقيته الدقيق في اللحظة المناسبه.

  فهل كان النبي الامي لحظتها على علم وادراك من هذا القبيل، وهل كان على معرفه بان ساعة الانطلاق اللاارضوي الختامي قد حلت اليوم بالذات، وانها سوف تتحقق باسرع مايمكن تصوره، بحيث لايتعدى مسار الذهاب الى الصين والهند، العشرين عاما بلا معوقات جدية، ولا عقبات يمكن الوقوف عندها، فلقد كانت الساعه ساعة  انتهاء صلاحية الارضوية بصيغتها الاولى الفارسية، ومتبقيات الرومانيه، التي ظلت  تشغل منطقة ساحل الشام من الاناضول،  وقد غدت منطقة مواجهه استدعت تجمعا للمقاتلين الجزيريين لدرجة اتاحت في وقت لاحق لمعاوية ان يقيم "امبراطوريته" العابره، باعثا سلطة القبيله  والملك العضوض الوراثي، بالضد من العقيدة  التي ظلت غالبه ابان عهد النبي والخلفاء الراشدين،  وفي ارض ليست لها من المقومات البنيويه مايتيح تحويلها الى مركز امبراطوري، لولا  دفع عملية الفتح الكبرى، والتركز آنف الذكرلمقاتلي الجزيرة في المكان، علما بان متبقيات الامبراطورية الرومانيه لم تكن لتمنع عمليه الفتح غربا من ان تستمر.

  كان  النبي محمد بالاحرى يطلق تحققا مجتمعيا نضجت اسبابه التاريخيه، هو مرحله في التاريخ المجتمعي بدا بالاصل مع السيد المسيح  الذي قلب كينونه المجال المجتمعي الاوربي الارضوي الطبقي الازدواج، من ضمن تفاعليه كونية محكومة بقانون الانصبابات والاختراق المضاد، فالمجتمعات الشرقية والغربيه تنشا وتتشكل في المراحل الاولى من كينونتها، احادية ارضوية، متخذه شكل الامبراطوريات الارضوية التسلطيه على الاخر، فتنصب في موضع اللاارضوية والازدواج المجتمعي، لتدخل من حينه عمليه استكمال التشكل المجتمعي بالانتقال من الاحادية الارضوية الى "الازدواج"، بعكس ماظلت تعتقد المنظورات القصورية الارضوية للتاريخ  ب " حضارويتها" الاحادية" وعجزها عن رؤية الديناميات المتعدية للاحادية اليدوية الارضوية ومترتباتها، وماتتمخض عنه، وهذا مايميز الاعزل المصلوب، مخترق الموت كقاعده، عن جيوش  روما وبنيتها، بناء للاصطراعيه بين نمطيتين ونوعين من المجتمعية، تلك التي تظل تعبيرية نبوية في ارضها، تضم العشرات من الانبياء تعبيرا عن رؤية نابعه من حقيقة مجتمعية، العقل الارضوي الاحادي قاصر عن تبينها ومعرفه فعلها، وحين تكون الابراهيميه الاولى حالة نضج  وتبلور للبدئية التشكلية اللاارضوية، في الموضع الانسب لتفاعليتها، فان مايقابلها من فلسفة الاغريق وارسطو، وان ظل يعتبر تعبيرا اسمى ووحيد في بابه، هو في الحقيقة مجرد تعبيرية ارضوية فئوية معزولة داخل صنفها، لاتتعدى حضورا النطاق  الذهني المحدود كلازمه ضرورية لاكتمال بنيه الارضوية.

  وعليه فان النظر الى الجيش الفارسي مقابل مجموعه المقاتلين الجزيرين على انهما جهتان من نفس الصنف والنوع، هو امر دال على القصور الاحادي، وغلبة الارضوية ومنظورها اليدوي الجسدي، فمجموعة الفتح هي كينونه اخرى، وهي  ممثلة حقيقة اللحظة، "الفارسية"نفسها، والتي هي اليوم بامس الحاجه الى حضور"عدوها"، ومايحمله بين تضاعيفه من نوع مفقود ولازم، والا فان استمرارها لم يعد ممكنا ولامبررا وقد فقد صلاحيته، ووصل نهاية قدرته على الاستمرار، مايعني كون الاسلام قوة انقلاب نوعي مجتمعي حتمي، وشرط لاستمرار العملية المجتمعية على مدى مكمل للحالة الاوربية الغربيه، شرقا باتجاه الصين والهند، حيث تكتسب المجتمعات ماهي بحاجة اليه  وصار لازما، كينونه وبنية، معها تؤرخ البدئية الثانيه للمجتمعات المشار اليها، بعد بدئيتها الاولى الارضوية.

  تنشا الظاهرة المجتمعية وتتبلور في ارض سومر جنوب مابين النهرين "لاارضوية"، لتدخل عملية اصطراع مع "الارضوية" الهابطة نحوها من جهاتها الثلاث العليا، لتتحول الى كيانيه اصطراعية بؤرة، محكومه لقانون الدورات والانقطاعات، في حين تغلب الصيغة الارضوية الاحادية  من المجتمعية على مستوى المعمورة، بفعل وسيلة الانتاج الغالبه اليدوية واشتراطاتها، رغم ان كينونتها، وطبيعه خليتها البشرية هي ازدواج، والديناميات التي تحكم سيرورتها لاارضوية عقلية، تظل قائمه وفقا لنوعها وطبيعتها المتعدية لاشتراطات الكيانيه والمكان، والمنظور الارضي المرتكز، ذاهبة الى الافق الاخر السماوي، الموافق للحقيقة وللمنتهى المقرر للمجتمعات الذهاب اليه.

  وقد يكون من باب تاكيد القانون المجتمعي التحولي الناظم للعملية التاريخيه تذكر ظاهرة حديثة حصلت مع الاله ومارافقها ونتج عنها في العصر الحديث من اعتقادات توهمية، ومنها الماركسية التي ترهن التاريخ البشري ل "الاصطراع الطبقي"، مخضعة العملية المجتمعية لقانون وحتمية تاريخيه" مادية"  متوهمه، ذاهبه الى اللاطبقية، والى الشيوعيه، وكانها عملية  تمرين اوليه لاتخلو من الايحائية بما خص الاكتشاف المتاخر مع القرن التاسع عشرللعنصر الرئيسي "الصراع الطبقي"، ومايتصل به من قانون مفترض، ماكان ليقارب ادراكا من قبل، مايضع العقل البشري مجتمعيا، امام حال قصورية ممتدة على طول فترة الانتاجية اليدوية، علما بان ماقد ظل غائبا عن الادراك مع الماركسية والمادية التاريخيه، والذي اليه تعود الخاصيات والقانون الناظم للتاريخ المجتمعي،  هي "الاصطراعية المجتمعية" لا الناحية الجزئية " الطبقية" من التكوين المجتمعي، والتي هي من نتاج الطور اليدوي  وتفاعليته، ماان تظهر الاله وتدخل التفاعلية المجتمعية مغيرة كينونتها البنيوية، حتى تبدا بالزوال لصالح تعزيز عمل الاصطراعية المجتمعية، وتزايد احتمالات حضور اللااارضوية.

   وهنا كان العقل البشري ينتظر الانقلاب الاعظم، وعملية الانتقال من العقل "الانسايواني" الباقي مهيمنا سواء بدون، اومع اكتشاف الصراع الطبقيي، الى عقل "الانسان" وحكم الاصطراعية المجتمعية التاريخيه ومسارها، ومآلها النهائي.

  ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

"الاستعارة الكولونيالية: نقل صفة من طرفٍ إلى طرفٍ آخر بضمانات القوة العنيفة ..."

"وعد بلفور: أعطىَ منْ لا يملك أرضاً مستعارةً إلى منْ لا يستحق ..."

وفقاً لتكوينها الدلالي، لا تخلو الاستعارةُ من وعدٍ ما، طالما أنَّ هناك صفةً ستُعار إلى كيانٍ ليست منه. وعدٌ يُطلق بالتزامن المرجو بين طرفي الصياغة: المستعار له (المشبّه) والمستعار منه (المشبّه به). فلو أوردنا- كما وَعَدَ بلفور- أنّ أرض فلسطين وطن قومي لليهود، فالمعنى يستعير أرض الشعب الأصلي في شكل وطن لطرفٍ مغاير. وكأنَّ الاستعارة تضرب موعداً زمنياً قابلاً للانتظار في مكانٍ آخر. ومن ثمَّ تبدو حالة الاحتلال قريبة الشبه للصورة المقبولة، نظراً لاشتراك الطرفين في سمةٍ ما. هذا التماثل الذي تضمنه النزعة الكولونيالية بصدد اسرائيل عندما تمارس أفعالاً بموجب قدرتها العنيفة على التأثير.

ولكن.. هل ذلك حقيقي بالفعل؟! هل الصفة المشتركة تثبت وضعاً مغايراً لما نعرف داخل فلسطين؟! طبعاً يظل الأمرُ منطوياً على المجازفة بأنْ تحل دلالة الصورة (الصفة المستعارة) على قدر المعاني الكامنة فيها. فالأوطان لا تُستعار كما أنها لا تُشترى. إذن الاستعارةُ هي المُعادل شبه الموضوعي لوعدٍ قيد الاتيان أو الغياب. فالصفة المنقُولة قد تصادف معنى موازياً لها، وقد لا تجد بُداً من عدم الايفاء بالمطلوب.

وهذا هو ما يجعل بعض الاستعارات السياسية صوراً جاهزة لأن تصبح نموذجاً كولونيالياً. بل هي نموذج مؤهل ليجسد نوايا الازاحة التي قد تحدث. فلئن كان الاستعمار اغتصاباً لأرضٍ حرةٍ مع إزاحة الشعب الأصلي، فهذا عمل استعاري بمآرب مقصودةٍ. ونسبة المجاز السياسي خلاله: أنّه يؤكد كيانه المختلق باحثاً عن اتمام الصفقة بأية طريقةٍ كانت. حتى لو اقتضى الشأن إعمال آلة " الابادة الجماعية " كما هو حاصل في فلسطين أو في حالات الاستعمار السابقة. كل استعمار لابد أنْ يكون دموياً عاجلاً أم آجلاً، لا يعقل أن يتشكل الاستعمار من غير بنية قاتلة بالضرورة.

إنَّ الحداثة الغربية منطويةُ على التصميم السياسي المنتهك لسيادة الدول والمجتمعات. فكرة الدولة الغربية امبراطورية أفلتت من قيودها السيادية لتلتهم سيادة الشعوب الأخرى. تتضمن استعاراتها عنفاً لا نهاية له، فهي تنتزع دلالة ما بالقوة المسلحة لتضعها في مكان آخر. وهذا ما يصنع من أية استعارة كولونيالية رسالة سرية بموت الطرف المستعار منه. إذ أنها تأخذ جوهر وجوده تطلعاً لتبديل كيانه الحر.

عندما اعطي آرثر بلفور وعداً لإسرائيل بانشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فقد منح صفة (مستعارة) لطرفٍ يتطلع لتوطن اليهود. صفة الحضور المستعار في المكان الموعود بصرف النظر عن الواقع. وعمل اليهود على اقتناص الفرصة جرياً وراء المشروع الصهيوني بكافة السبل. فالوطن لا يمتلكه (بلفور) ولا ذاك (اسرائيل)، ولا يحق لكليهما جعل الاستعارة واقعاً. ولكن الضمان هو مرجعية التشابه بين (الغرب واسرائيل) بموجب المركزية الكولونيالية وعلاقتها بالشعب اليهودي.

وهو ما تمت ترجمته في أجيال من الحروب الاسرائيلية حتى اللحظة. ولنلاحظ النبرة الاستعارية الناعمة في نص وعد بلفور. من جانب كون الوطن القومي لليهود مستحضراً كهبة لشعب بلا أرض، ثم الزعم ضمنياً بأنّ هناك أرضاً دون شعب. حتى وإن اعترف الوعد بحقوق السكان الأصليين. فكما أن الوعد بالوطن المنتظر كان صورةً مستعارة من وراء بلدان الأبيض المتوسط، فالحقوق تحولت بدورها إلى استعارات تُمنح أو تمنع. ولعل هذا ما فهمه اليهود خلال الهجرات الأولى تنفيذا لوعد آرثر بلفوز.

الأوطان الحرة لا تُلقى على الطاولة انتظاراً لصفقات الوعود. الأوطان لا تقايض مجاناً تحت شعار (أنتم مساحة وهم مساحة أخرى) عبر الحيز نفسه. ما المقابل الاجمالي بالنسبة لوعد بلفور؟ إنها النزعة الكولونيالية التي تسرق دولاً لتحيلها إلى عدم وتمنحها كهبات إلى عصابات اجرامية تحت مبررات دينية أو سياسية أو انسانية. لقد شكلت الجماعات اليهودية عصب التاريخ المعاصر، ربما لو دارت الأحداث العالمية دورتها الزمنية، فلن يكون هناك حدث واضح مثلما كانت أحداث الاحتلال الصهيوني. حتى لو لم تكن أحداثاً طافية على السطح، فإسرائيل تصنع الكوارث على الصعيد الدولي، سواء أكانت تخالف قانوناً أم تُوقع القوى الكبرى في صدامات مع الشعوب الحرة أم تتلاعب بالهيئات الدولية ضاربة بقراراتها عرض الحائط.

يقول آرثر بلفور في وعدة الاستعاري/ الكولونيالي 2 نوفمبر 1917: " عزيزي اللورد روتشيلد....

يسرني أنْ أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها في سبيل تحقيق هذا الهدف. على أن يفهم جدياً أنه لن يسبب شيئاً من شأنه الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الجماعات غير اليهودية المقيمة حالياً في فلسطين. ولا ينتقض من الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وسأكون ممتناً وشاكراً إذا ما احطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح ... المخلص آرثر بلفور".

وعد المركزية

وعد بلفور مليئ بالمجازات التي تزيف الواقع وتنهب أصولاً ما كانت مكشوفة هكذا إلاّ لحالة كولونيالية تنتهك الحقوق. يتكلم كل من هب ودب (آرثر بلفور) رغم مكانته السياسية المعروفة كوزير لخارجية بريطانيا العظمى. ولكن طالما أنك في مكانةٍ غير مكانتك، فأنت من هب ودب إزاء أصالة الشعوب. بمجرد أن يكتب بلفور كلاماً كهذا ويحدد المخاطّب وباسم جلالة المركزية الأوربية آنذاك، فقد أطلق وعداً قاتلاً. وأدرج نفسه في خانة العداء للإنسانية لا لفلسطين فقط.

كلمات الوعد شن حرب على الشرق الأوسط المتمثل في فلسطين التاريخية. وباسم حكومة جلالته، كان الاستعمار يغطي امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. بلفور يعلم أن للأرض شعباً وليست فارغة السكان كما روّج. المركزية الأوروبية قائمة على تفريغ العالم من كل سكانه إلاّ وجودها الخاص فقط. كل مركزية متضخمة لا ترى شيئاً غير إمتداد قوتها المنفلتة. وهذا الأمر بالتكوين التاريخي للحداثة الغربية إنما فتح مجالاً لغزو الدول قبل بلفور وبعده. الفكرة ذاتها مدمرة لا تنتظر وعوداً من هذا الكلام الذي يعد مرسوماً ملكياً بالتهام الآخر.

يهودية الحلم

جاء الوعد كأنه حلم من جانب اليهود المتطلعين لوطن قومي. وذلك على أساس الديانة والحالة التي كانوا يعيشونها في أوروبا. وبالوقت نفسه غدا الوعد قراراً من قبل الامبراطورية البريطانية. بجانب الاستعمار فإن ما يعتبره اليهود حلماً كان واقعاً ينتهك كل الحقائق الأخرى. وهذا يلخص حالة أوروباً في فترات الاستعمار المباشر للشعوب. وقد زفّ بلفور الوعد بلغة المسرة والسعادة كاشفاً عن تعاسة كبيرة عند اليهود. وهي نبرة التعاطف التي تستحضر نغمة الاستمالة والتماشي مع الحلم. متناسياً أن الخبر السعيد ذاته سيأكل وطناً لصالح شعب يهودي بلا هوية سياسية.

يتحدث بلفور بمنطق استعارة القوة ملتمساً إياها من قداسة الامبراطورية. ما الذي يجعل وزير خارجية يطلق وعداً خارج نطاق دولته؟ لقد تحين الفرصة لتبشير اليهود بالوطن الفلسطيني المغتصب. أخذ يبشر بجريمة كاملة الأركان. وأتى بالأرض مجاناً دون أي ثمن لا من وطنه الأم (بريطانيا) ولا من أوطان الشعوب الحية. الثمن كل الثمن هو ضياع الوطن المنكوب بسبب الاستعمار. وكأن بلفور يقول إن حلم اليهود هو مواصلة الاغتصاب الكولونيالي باسم بريطانيا العظمى. أي لابد أن يتحقق الحلم على جثة الفلسطينيين. من أول عبارة في الوعد، تفوح رائحة الدم والاحتلال القميء. حيث عرض الأمنية اليهودية على الوزارة البريطانية واقرته، لدرجة أن الاقرار هو قرار حرب حتى النهاية دون إذن أية قوى أخرى. ماذا لو لم تكن هناك مقاومة لهذا الاستعمار؟ ببساطة سيكون الحلم اليهودي كابوساً صهيونياً لأصحاب الأرض. لم يحلم اليهود مثل كافة الكائنات البشرية، لكنهم يستغرقون في تهويد الأحلام. استيطان الأحلام على غرار استيطان الأراضي الفلسطينية.

ليس الحلم السابق آتياً في منامات أحدهم، بل كان مغموساً في بئر التآمر الذي لا ينضب. اليهود تاريخياً كانوا يحلمون على خاصرة القوى العظمى. أجادوا إلى درجة الاتقان ترويض هذه القوى وخدمتها من أجل مصالحهم. يذرفون الاحلام بين أيديها في شكل أمنيات ثم سرعان مما تصبح حروباً وجرائم ضد الإنسانية لاحقاً.

وطن مسروق

يقرر وعد بلفور سرقة وطن لليهود لا شيء آخر. والمفترض أنه جاء بصيغة الوعد promise.. أي قد يصدق أو لا يصدق. ولكنه منذ البداية يقطع باغتصاب الأرض الفلسطينية ولا يترك مساحة لتجنب تطبيقه. الوعد جاء فرماناً ملكياً كولونيالياً لا أقل. وعندما يصرح الوعد بأن حقوق السكان الأصليين مصونة، فإنه يجزم بضياعها. ومن حيث يؤكد الحفاظ على الحقوق يأمر ضمنياً بانتهاكها، نظراً لأنه ازاحة استعارية مدمرة، فكيف يدعو من أخذ حقاً ليس حقه أن يحافظ على حقوق الغير؟!

يعلم بلفور تمام العلم أن السياسة الاستعمارية ستسبب مشكلة لا حل لها. لأن منطق الاستعارات الموجودة في وعده تخرج عن بلاغة الخطاب. تعلن التعبير عن مضمونها بالقوة الحربية وتصمم على تحقيق الهدف. ولذلك أراد تعميد كلماته لدى الصهيونية العالمية بإبلاغها ما تريده الامبراطورية البريطانية. بحيث يصل الوعد إلى حبكة صراعية لا تحل. لأن الرصاصة قد خرجت بالفعل واستقرت في قلب فلسطين. واليهود– في أي مكان- يتربصون بالفرص حتى تصبح صفقات واقعية.

إن الامنية لا تأتي جزافاً، وبخاصة أمام امبراطورية تحقق هذه الامنيات. إنها ثقافة الأب الكولونيالي القادر على عمل أي شيء من أجل تابعيه. لقد كانت ثمة جهود صهيونية لإطلاق الوعد من أكبر قوة آنذاك.

تجمع الشتات

ورد بالوعد تعبير سابق لأوانه ولا حق عن أصله هو تعبير (الشعب اليهودي Jewish people). جاء بصدد أن فلسطين ستكون مكاناً لهذا الشعب. وليست كلمة الشعب إلاَّ كلمة عبرانية تنسب إلى بني اسرائيل الأوائل. شعب الرب كانت جذر التعبير عن الجماعات اليهودية التي تتدين بالمعتقدات المسيّسة. وهي جماعات مشتتة هنا أو هناك في أرجاء العالم، ولم تكن شعباً بمعناه التوراتي ولا بمدلوله الحديث. آرثر بلفور قطع المسافة بين الجذور التوراتية لفكرة الشعب وبين فكرة المواطنين لدى الحداثة الغربية. لم يكن يعرف أن الحداثة لا تقبل شعباً بمعناه الديني حتى يستدعي رصيد التعبير من التاريخ التوراتي. ولم يستطع زحزحة الفكرة الاستعمارية حتى تدخل اسرائيل فضاء القانون والمشروعية.

إن اطلاق تعبير الشعب اليهودي على الجماعات الصهيونية هو العمل الذي اغتنم الفرصة. فلا الصهيونية سياسة ولا الشعب اليهودي مواطنين كما يزعم الوعد. وفوق ذلك يضفي عليهم بلفور صفات قومية خالصة. وكأن اليهود ينتمون إلى جنسية ذات معالم واضحة ومميزة. إن انثربولوجيا اليهود تثبت كونهم من أجناس مختلفة وأعراق متباينة.

إضافة إلى ذلك، يمرر بلفور تعبير الشعب اليهودي كأنه مصطلح مستقر. وهذا دليل على كون الوعد أكبر من مجرد نص لغوي، هو خريطة يعرف صاحبها كيف يعطي المتابع ما يريد. أي يدرك بلفور كيف يصوغ لليهود ما يريدون فعله في فلسطين، مشاركة اليهود من كافة أنحاء العالم في سرقة هذه الدولة. لقد استمرت فلسطين موطناً موعوداً بهذا المعنى لكل يهودي يرى في ديانته القومية المطلوبة. وما زالت الهجرات اليهودية إلى أرض الميعاد مستمرة بهذا الجذر الذي فك شفرته وعد بلفور.

مصطلح (الشعب اليهودي) إعلان فصل عنصري وتمييز عرقي بالتبعية. فليست هناك مساحة لأي استقلال للشعب الفلسطيني. بل استعمل بلفور مصطلح الجماعات غير اليهودية non–Jewish communities عندما وصف أصحاب الأرض. لقد نزع الشرعية عن أصحاب الأرض وشتت الفلسطينيين مقابل توحيد الشعب اليهودي.

***

د. سامي عبد العال

ظلت الظاهرة المجتمعية معلقة ادراكا، برغم ماقد اقدم عليه الغرب من اعلان عن ولادة "علم الاجتماع" الذي وجد في حينه ليتحول الى تحد معرفي، يتعدى النطاق المباشر المعاين للظاهرة المقصوده، هذا مع العلم انه كان من المفترض في حينه ان يكتسب "العلم الاخير" صيغة "العلمية" بان يعتبر مايقوم به محاولة ابتدائية اولية على طريق طويل وشاق يتعدى مبدا (التجمع + انتاج الغذاء) بعيدا، بما يوجب ثورة عقلية كبرى، ماكانت اسبابها متاحه ولا قابله للتحقق في حينه.

على سبيل المثال، ومن باب توخي النموذجيه، وبحكم اللحظة ومارافقها من متغيرات انقلابيه غامرة، انعدم النظر في واحده من الظواهر غير العادية، وفوق الاستثنائية، دلاله على الانحيازية المسبقه للحاضر، على العكس كانت الظاهرة المذكورة توضع خارج العملية المجتمعية والتاريخيه الفعاله، فلم يحاول احد ان يفسر كيف يمكن لشخص مثل النبي محمد الامي، الذي لايجد قوت يومه، يعتاش على امراه كانت متزوجه قبله لعدة مرات، تزوجها وهي تكبره ب خمسة عشر عاما، في موضع صحراوي، في زاوية بعيده معزوله، ان ينتج مفهوما وكتابا ينتهي بالوصول الى الصين والهند شرقا، واسبانيا فيحتلها غربا، وليظل ماثلا في التضاعيف الحياتيه للشعوب والامم التي وصلها حتى اللحظة، بعد ان تغيرت تلك الامم حتى في التعبير عن ذواتها فغدت من يومها ابراهيميه، ومنها وابرزها، موضع الامبراطورية الفارسية الاسلامي الشيعي اليوم.

طبعا يعتبر ماقد حدث وقتها وكانه احتلال امبراطوري، واكراه للامم بالقوة علما بان الحفاة الجزيريين وقتها، لم يشكلوا سوى قشه قصمت ظهر البعير، من مائتي الف مقاتل هزموا اعظم الامبراطوريات، الروماينه والفارسية واعرقها، لا عسكريا، بل كينونة، فتكرست الابراهيمة الاولى المسيحيه في اوربا وماتزال، وانتهت فارس "الفارسية" من حينه، بما لايمكن اعتباره الا من قبيل التطور الطبيعي المتوقع والمنتظر من نمطية مجتمعية امبراطورية بعينها، الى نمطية اخرى مختلفة مزدوجة بوضوح.

قبل هذا الحديث كان لشخص اعزل ماخوذ لكي يعدم من امبراطورية محتله عاتية، بلا سلاح ولا اي نصير، هو السيد المسيح، تحول الى مجتمعية اختراقية مضادة كاسحه في قلب المجتمعية الحاكمه المحتله، مخترقا الموت، ومتعاليا على احكام الملموس والارضوي، بما جعل الوثنين في الغرب يعتبرون سقوط روما عائد الى المسيحية وفعلها (1)، وهذا الحدث مقارنة على سبيل المثال بالثورة الفرنسية اليوم (2)، لابد ان يثير التعجب الاستثنائي اذا نظر الى مايعرف بالثورة التي يقتل فيها ثمانمائة الف مواطن، في بلد تعداده في حينه 26 مليونا خلال 10 سنوات من الاحتدام الجنوني، ينتهي بما يعرف بالنظام الديمقراطي الذي يعزز ويبرر الاستعمار والهيمنه على الشعوب، والاستغلال والنهب الساري الى اليوم. هذا غير الثورة " الاشتراكية" التي قتلت الملايين على يد جزار مثل ستالين، لتنتهي منهارة اخيرا خلال اقل من قرن من الزمن، متهاوية وممسوحه من السجل الوقائعي التاريخي، وهاتان هما الثورتان اللتان تعتبران دالتين كبريين على مايعرف ب " العصر".

شيء حري هنا بالاهتمام، هو "نفي الازدواج" قصورا وعجزا، فالمجتمعية هي الملموسات باعتبارها "المادية"، مع ان الظاهرة الطبيعية والمجتمعية ليست مادية بالمعنى الملموسي، ولو كانت كذلك لانتفت وغابت عن الوجود، لانها لاتعيش ولاتكتمل حيويا الا بالمادية الشامله المتعدية للملموس والمرئي، بما يجعل من تعريف المادية نفسه قاصرا ومتدنيا، ويختلف النظر هنا من منطقة الاحادية الجسدية التي ترى الكائن البشري كجسد فقط لاغير، ملحقة به العقل باعتباره عضوا من اعضائة مثل اليد والانف، لا ككينونه جوهر واصل في كيان مزدوج (عقل/ جسد) يبدا خلال مساره عبر ملايين السنين جسديا من دون حضور للعقل، فيخضع لمسار ذاهب الى تحقق وبروز الجوهر بعدان يتحول الكائن الحيواني الى الانتصاب واستعمال اليدين، فاذا بالعنصر الاصل والاساس المحور الذي به تتمثل العملية الحياتيه، قد ظهر بصيغته الاولى، ليبدا من يومها عصر "الانسايوان" الانتقالي هو الاخر، مابين متبقيات الحيوان و"الانسان العقل" المتحرر من الجسد، والمستقل عنه.

ان الفاعل الرئيسي في الحياة البشرية وفي المجتمعية هو العقل المستقل عن الجسد والذاهب الى مابعده، والى التخلص منه ومن اشتراطاته، وهو في حال تشكل ونمو خلل التفاعليه المجتمعية، بعدما تخلص من الهيمنه الجسدية الحيوانيه المطلقه، وصار حاضرا، وهو ما تتمثل فيه الظاهرة المجتمعية، باعتبارها العتبه التفاعليه العقلية الاخيرة الذاهبة بالكائن البشري الى " الانسان"، بما يقلب ويبدل كليا اجمالي مايعرفه الكائن البشري، بالاخص في الاطوار الاخيرة الانقلابيه الاليه، بخصوص المسالة الاجتماعية، وجوهر هذه الظاهرة المحكوم عليها حتى الان بالجسدية وهيمنتها المطلقة.

لايوجد الكائن البشري متفقا ولا متوافقا مع الاشتراطات الانتاجية اليدوية الاولى الناظمه للعملية المجتمعية ابتداء، ومع ان العقل يكون وقتها مضطرا للرضوخ الى حد بعيد لاشتراطات الحاجياتيه، ونمطية الانتاجية المتاحة، الا ان ذلك لايعني الاستسلام الكلي للمفروض اشتراطا يدويا، خصوصا وان الطبيعة والبيئة العنصر الاساس في تشكل المجتمعية بالتفاعل البدئي، لا تترك المجتمعات محكومه لمجرد الصيغة الجسدية الحاجاتيه من المجتمعات، ويوم تتبلور الظاهرة المجتمعية في بداياتها في منطقة الشرق المتوسطي نهريا، فانها تظهر ابتداء بصيغتين مجتمعيتن، واحدة جسدية ارضوية صرفة، متوافقة مع اشتراطات الرضوخ لحكم اليدوية تكون ارض النيل هي بؤرتها، يقابلها تكوين اخر مختلف كليا ينبثق في ارض الرافدين والنهرين، حيث الاشتراطات البيئية الطاردة والذاهبه بالمنتج الى الانتاجية الاصطراعية لدرجة العبش على حافة الفناء، سواء بالعلاقة بالنهرين المدمرين العاتيين وانفتاح الجهات الثلاث الشرق والغرب والشمال على السيول البشرية الارضوية النازله نحو ارض الخصب من الجبال الجرداء والصحاري، او جمله الحال المناخي، بما يجعل من البديهي ذهاب العقل الى البحث عن مسرب، وعن معوض يصل حد طلب الملجأ المضاد للمعاش، وهو مايتجلى سماويا بحكم النمطية التي تنشأ هنا، خارجه عن النموذجية الارضوية الجسدية الاولى، سالفة الذكر، بصفتها "لاارضوية"، هي حكما مشروع صدام اصطراعي لايتوقف، مع ماتحمله نمطيا ونوعا سيول السلالات البشرية الهابطة الى مابين النهرين، بمايعني قانونا وكينونه بنيوية تاريخيه، ونوع مجتمعية، هي نموذج وبؤرة الازدواج (اللاارضوي/ الارضوي)على مستوى المعمورة.

***

عبد الأمير الركابي

 

هل هي تعبير عن (حنين) وطني، أم (اغتراب) اجتماعي؟!

كثيرة هي قصص العراقيين (المغتربين) الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها – طوعا"أو كرها"- يعيشون في بيئات اجتماعية وحضارية مغايرة تماما"لبيئاتهم المحلية السابقة، والتي نشأوا في ربوعها وترعرعوا بين أحضانها، وتغذوا على قيمها وأعرافها، وتشربوا من عاداتها وتقاليدها. بحيث أضحى عليهم مقاومة العديد من الأحاسيس المختلطة والمشاعر المضطربة التي غالبا" ما يستشعرها المترحلون في فيافي الغربة.

وفي حديثنا عن هذه الظاهرة (النعرة) العراقية، التي ربما تكون ظاهرة (عامة) بين مختلف شعوب العالم التي تجوب جماعاتها (المهاجرة) بلدان وأوطان لم تكن لتفكر يوما"في زيارتها، ناهيك عن استيطانها والاستقرار فيها. ينبغي علينا أن نراع القضايا والمسائل المتعلقة بسيرورات وديناميات (المجايلات) الاجتماعية والثقافية، التي من شأنها خلق الكثير من التباينات السيكولوجية والاختلافات القيمية بين جيل (الآباء) وجيل (الأبناء) وجيل (الأحفاد). حيث ان تأثيرات (النعرة) المذكورة تبدو واضحة وجلية لدى أبناء الجيل الأول بحكم ترسبات تربيتهم السابقة، هذا في حين يبهت بريقها وتخمد جذوتها – بدرجات ومستويات - لدى أفراد الجيل الثاني، وذلك جراء اختلاط قيم آبائهم الموروثة بقيم مجتمعاتهم الجديدة المكتسبة. أما بالنسبة لأبناء الجيل الثالث فلا يكاد يكون لتلك النعرة (العراقية) أثر لا على صعيد الوعي ولا على صعيد الذاكرة، وذلك على خلفية انخراط واندماج هؤلاء في أتون عمليات بيداغوجية وإيديولوجية مكثفة، استهدف إعادة ترتيب أولويات (انتماؤهم) للمجتمع المضيف وأسبقيات (ولاؤهم) للدولة المستقبلة.

وفي إطار ما هو وارد في عنوان المقال، فإن الفئة الأولى من (المغتربين) هي المقصودة في المناقشة الحالية للموضوع، وذلك بناء على افتراض ما يزعم إن عناصرها ما برحوا يحملون بين جوانحهم فائض من (الحنين) لمرابض الصبا التي غادروها مكرهين منذ عقود، وهو الأمر الذي غالبا"ما يشعرهم بوطأة المعاناة النفسية والمكابدات الوجدانية. والحقيقة أنه في ضوء الكثير من المؤشرات والعديد من المعطيات التي تمخضت عن تجارب إعادة الارتباط ما بين الشخص (المغترب) من جهة، وما بين الواقع (الوطني) من جهة أخرى، إن مشاعر تلك النعرة (العراقية) التي تظهر لدى المغترب لا تتأتى بدافع (الحنين) لأرض الوطن كما يزعم، وإنما تتمظهر جراء طغيان الإحساس بحالة (الاغتراب) الاجتماعي التي يكابدها ذلك المغترب، بعد أن يكون قد (جرد) تماما"من كل تلك الصلات الأسرة والأواصر القرابية والعلاقات الاجتماعية التي كانت تغمره بحميميتها (العراقية) المعهودة. 

نعم، قد يشعر الإنسان العراقي (المغترب) بلواعج (الحنين) للوطن – هل قلت وطن؟! - في بعض الأحيان، لاسيما حين تقع عيناه على لافتة كتب فيها ما يشير الى اسم (العراق) أو (بغداد) سواء على واجهة مطعم أو مقهى أو أسواق، أو يلتقي بشخص ما يتكلم اللغة (العربية) أو يرطن باللهجة (العراقية) عن طريق الصدفة، أو يستقبل مكالمة هاتفية عابرة من بعض أقاربه أو أصدقائه المقيمين في العراق. ولكن، ما أن تختفي تلك المنبهات الحسية والمثيرات النفسية والدلالات السيميائية والإيحاءات الرمزية التي استدعت تلك الإستثارات السيكولوجية الجيّاشة، سرعان ما يضمحل ذلك الشعور المفاجئ ويختفي ذلك الإحساس الخاطف في غياهب النسيان وكأن شيئا"لم يكن، على أمل أن تتم استعادته والانغمار فيه مرة أخرى في ظروف زمانية مختلفة وأحوال مكانية مغايرة.

والمفارقة التي يتميّز بها الإنسان العراقي (المغترب) عن سائر من يعيش نفس ظروفه ويكابد ذات معاناته، هي أنه ما يقرر (العودة) الى العراق - بعد أن لم يعد قادرا"على تحمل قساوة (الوحدة) الناجمة عن التفكك الأسري، وفشل تكيفه مع انقطاع سبل التواصل الاجتماعي مع أصدقائه ومعارفه - في الأيام الأولى التي تطأ قدماه أرض (الوطن)، ويلتقي بمن فارقهم طيلة مكوثه في بلاد (الغربة) من بقايا أفراد أسرته أو أقربائه أو أصدقائه، لا يلبث أن يخضع لسلسلة من التحولات الاجتماعية والنفسية والثقافية والرمزية، التي من شأنها إعادة جدولة بنى وعيه وأنماط سلوكه السابقة بما يتناسب وطبيعة أوضاعه وظروفه الجديدة. بحيث لم تعد الهواجس والمكابدات السابقة التي كانت تجتاح كيانه بين الحين والآخر تعبيرا"عن (الحنين) للوطن و(الاشتياق) للوطنية كما كان يزعم، وإنما حلت مكانها هواجس ومكابدات أخرى مختلفة في طبيعتها ومغايرة في مضامينها، ليجسّد من خلالها ما كان يعتقد أنه تغلب عليه وتجاوزه من أصوليات وعصبيات ونزعات.

واللافت ان هذا (المغترب أو المهاجر) العائد الى حضن (الوطن)، قد يتفوّق على أقرانه من العراقيين المقيمين في مجال تبرير سلوكياته وتسويغ تصوراته، استنادا"الى ما أتيح له من فرص وإمكانيات الانخراط في مضمار الدراسات الاجتماعية والإنسانية الحديثة، التي تمكن من تحصيلها خلال مكوثه في بلاد الغربة – لاسيما وان بعضهم يحملون شهادات جامعية متقدمة – بحيث تكونت لديه ترسانة من الحجج التي يدافع من خلالها عن آرائه ومعتقداته، والتي ربما تبدو مستهجنة وغير منطقية لمن لا يشاطره مواقفه السياسية وقناعاته الإيديولوجية. ولعل تبعات وتداعيات هذه الحالة تبدو واضحة أكثر على أولئك الذين ينحدرون من أصول ما يسمى ب(الأقليات) القومية والدينية والثقافية، التي عانت على مدى عقود من سياسات الإقصاء والاستبعاد والتهميش؛ إما لأسباب عنصرية / شوفينية، أو لدوافع طائفية / مذهبية، أو لدواعي حزبية / إيديولوجية.

وإذا ما نظرنا الى هذه الظاهرة / الحالة السوسيوسياسية، عبر منظار الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي المزري الذي أنتجته تجربة الإسلام السياسي في العراق المعاصر، عقب زلزال سقوط النظام السابق وتصدع كيان الدولة المركزية، فإننا سنلاحظ ان هناك علاقة طردية ما بين الموقف (الوطني) للعناصر العائدة من ديار (الغربة) من جهة، وبين مدى انخراطها في العمل السياسي ضمن قوائم الأحزاب والتكتلات المهيمنة على المشهد السياسي العراقي من جهة أخرى. أي بمعنى انه كلما توغلت هذه العناصر في مضمار العمل الحزبي / السياسي المتطيّف، كلما تضاءلت حماستها (الوطنية) وتراجعت حميتها (العراقية)، وكلما أمعنت في استثمار سلطة موقعها الحزبية ونفوذ صلاحياتها الحكومية، لتعويض ما تعتبره تراكم (مظالمها) التاريخية مع الأنظمة السياسية السابقة بنوعيها الملكي والجمهوري.

ولعله من الضرورة بمكان الإشارة الى أن هناك قلة من هؤلاء (المغتربين) ممن قرروا العودة الى العراق، تعرضوا لوابل من الصدمات الكبيرة حين وجدوا ان (الوطن) الذي كانوا يتباكون على فراقه في بلدان (الغربة) ويحنون للعيش في ربوعه مجددا"، استحال خلال عقدين ونيّف من الزمن الى غابة موحشة لا تسكنها سوى الضواري المفترسة، وهو الأمر الذي دفع بهم الى إعادة التفكير في خياراتهم (الوطنية) المتهورة، ومن ثم استئناف حمل حقائبهم مجددا"لمغادرة أطلال ما كان (وطنهم) والعودة من حيث أتوا، ولكن هذه المرة بلا أوجاع فراق ولا حنين غربة !!         

***

ثامر عباس

 

فلسطين في عيون ديفيد هيرست

رحيل الإعلامي والكاتب البريطاني الحر ديفيد هيرست في اليوم ذاته الذي اعترفت فيه الحكومة البريطانية بدولة فلسطين (أي ال22 من شتنبر 2025) ليس مجرد مصادفة زمنية، بل لحظة مشبعة بالدلالات التاريخية. فهنا تتقاطع ذاكرة الاستعمار البريطاني (من وعد بلفور إلى سياسات ما بعد الانتداب) مع تحولات الرأي العام الأوروبي في القرن الحادي والعشرين. ومن منظور سوسيولوجي، يمكن قراءة الحدث كجزء من مسارٍ أوسع يشهد انكسار السرديات الإمبريالية أمام ضغط الحركات الحقوقية الأوروبية وفقدان الخطاب الصهيوني لهيمنته المطلقة داخل الإعلام الغربي.

يمثل هيرست نموذجًا نادرًا للمثقف الأوروبي الذي تجاوز منطق “التعاطف الإنساني” إلى التضامن النقدي. فقد تشكّل وعيه في مدارس النخبة البريطانية، لكنه انجذب إلى الشرق الأوسط عبر تجربة بيروت الستينيات، حيث التقى بفلسطين كقضية تحرر كونية لا كملف “نزاع حدود”.

هذا التحول يجعله، في المخيال العربي، شبيهًا بأسماء كبرى مثل إدوارد سعيد أو جون بيرغر، جسرًا حضاريًا يربط الغرب النقدي بالشرق المقاوم، ويعيد طرح سؤال: لماذا تحتاج القضايا العربية دائمًا إلى “شهود غربيين” لتنال شرعية أخلاقية في المحافل الدولية؟

اعتمد هيرست على أرشفة دقيقة ووثائق أصلية، ما يمنح أعماله طابع المؤرخ لا الصحافي فحسب. في كتاب "البندقية وغصن الزيتون"، لا يكتفي بالسرد بل يفكك البنية الاستعمارية للصهيونية، رابطًا بين الاقتصاد السياسي للعنف وتاريخ الهجرة الاستيطانية. هذا النهج يتيح قراءة نصوصه في إطار مدرسة الحوليات الفرنسية (Annales) التي تمزج الاقتصاد والاجتماع والسياسة لفهم الظواهر التاريخية.

لم يكن هيرست يكتب في فراغ. فقد دخل في جدالات علنية مع مفكرين وصحافيين صهاينة وليبراليين غربيين كانوا يرون في المشروع الصهيوني ضرورة تاريخية أو “تعويضًا أخلاقيًا” عن الهولوكوست.

ففي مقالاته عن حرب العراق 2003، ناقش محللين من تيار “المحافظين الجدد” الأميركيين، كاشفًا عن التحالف بين اللوبي الصهيوني والمجمع الصناعي العسكري.

وفي حواراته أيضا مع بعض الأصوات العربية الناقدة لاتفاق أوسلو، أبدى تحفظًا على “إدارة الفشل الفلسطيني” من الداخل، مبرزًا أنه ينقد إسرائيل بلا مواربة، لكنه لا يعفي القيادات العربية من مسؤولياتها.

يمكن تناول هيرست في ضوء فلسفة العدالة العالمية كما بلورها جون رولز أو منظّرو “العدالة الكونية”، إذ تجسّد كتاباته قناعة بأن الحق الفلسطيني ليس مسألة تفاوض سياسي بل قيمة أخلاقية مطلقة. كما يحضر في أعماله أثر الفلسفة الوجودية في تشديده على المسؤولية الفردية للكاتب: أن يكتب الحقيقة حتى لو خالف قومه ودولته.

رغم الإجماع العربي على مناصرته، برزت أصوات اعتبرت أن هيرست، كابن للمؤسسة البريطانية، ظلّ أسيرًا لرؤية ليبرالية إصلاحية لا تصل إلى تبني القطيعة الكاملة مع النظام الدولي الذي ينتج الاستعمار. آخرون رأوا أن رهانه على “يقظة الضمير الأوروبي” يتجاهل حقائق القوة الصلبة. هذه القراءات النقدية تفتح الباب لدراسة كيف يتحوّل المثقف الغربي الداعم لفلسطين إلى موضوع مساءلة عربية أيضًا.

إن الجمع بين المنهج التاريخي والتحليل السوسيوثقافي والفلسفي يجعل من سيرة هيرست مختبرًا لفهم علاقة الغرب بفلسطين:

ـ كيف تطورت مواقف الرأي العام الأوروبي من 1967 إلى 2025؟

ـ ما أثر حركات المقاطعة الأكاديمية والثقافية (BDS) على إعادة تشكيل هذه المواقف؟

ـ وكيف يمكن توظيف إرث هيرست في بلورة خطاب فلسطيني-عالمي جديد يتجاوز ثنائية “المستعمِر/المستعمَر” نحو شراكة إنسانية على قاعدة العدالة؟

***

د مصـطـفــى غَـــلمـان*

وبين التحديات الوجودية والأزمات التنموية، مقاربة وحدوية

مقدمة: يواجه الوطن العربي تحديات معقدة تهدد استقراره وتطوره، حيث تتداخل التعددية الإثنية والدينية مع الخلافات السياسية، إلى جانب تحديات وجودية مثل تغير المناخ والصراعات الإقليمية، وأزمات تنموية تتعلق بالفقر، البطالة، ونقص الموارد. تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مستقبل الوطن العربي من خلال مقاربة وحدوية تسعى إلى استشراف الفرص التي يمكن أن تحول التنوع إلى قوة دافعة للتنمية والاستقرار، مع التركيز على الحلول التعاونية التي تعزز الوحدة العربية دون إنكار التعددية.

المقاربة الوحدوية

المقاربة الوحدوية تستند إلى فكرة أن الوحدة العربية لا تعني القضاء على التعددية، بل تسخيرها كأداة لتعزيز التكامل الإقليمي. تستلهم هذه المقاربة من تجارب تاريخية مثل جامعة الدول العربية (1945) والمبادرات الوحدوية في القرن العشرين، مع التركيز على إطار عملي يعالج التحديات المعاصرة. وفقاً لنظرية الوظيفية الجديدة، يمكن تحقيق الوحدة من خلال التعاون في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، مما يؤدي تدريجياً إلى تكامل سياسي.

التعدد الإثني والديني: قوة أم تحدي؟

الواقع الإثني والديني

يضم الوطن العربي تنوعاً إثنياً ودينياً غنياً، يشمل العرب، الأكراد، الأمازيغ، والأقليات مثل الأرمن والآشوريين، إلى جانب التنوع الديني بين المسلمين (سنة وشيعة)، المسيحيين، والدروز. هذا التنوع، رغم كونه مصدراً للثراء الثقافي، يُستغل أحياناً لتأجيج الصراعات، كما في سوريا والعراق.

التحديات المرتبطة

الطائفية والصراعات الإثنية: أدت الخلافات السياسية، كما في لبنان واليمن، إلى تعميق الانقسامات الطائفية، مما يهدد التماسك الاجتماعي.

التدخلات الخارجية: تستغل قوى إقليمية ودولية (مثل إيران وتركيا) التعددية لتعزيز نفوذها، مما يعقد التكامل العربي.

غياب الحوار البنّاء: قلة المبادرات لتعزيز الحوار بين الأقليات والأغلبية تعيق بناء هوية عربية جامعة.

فرص التعددية

التكامل الثقافي: يمكن للتعددية أن تعزز الابتكار الثقافي والاقتصادي، كما في تجربة الإمارات التي استفادت من التنوع لتعزيز السياحة والتجارة.

نموذج الحوار: تجارب تُظهر إمكانية بناء أنظمة ديمقراطية تحترم التعددية.

الخلافات السياسية: العوائق والحلول

طبيعة الخلافات

تشهد المنطقة العربية انقسامات سياسية حادة، سواء بين الأنظمة الملكية والجمهورية، أو بين التيارات الإسلامية والعلمانية. أزمات مثل الحرب في سوريا، الانقسام الليبي، والتوترات بين قطر ودول الخليج تبرز هذه الخلافات

تأثير الخلافات

تفتيت الجهود الإقليمية: ضعف جامعة الدول العربية كمنصة لحل النزاعات.

تعطيل التكامل الاقتصادي: فشل مبادرات مثل السوق العربية المشتركة بسبب الخلافات.

زيادة النفوذ الأجنبي: الخلافات تفتح المجال لدول مثل الولايات المتحدة وروسيا للتدخل.

الحلول المقترحة

تعزيز دور جامعة الدول العربية: إصلاح الهيكلية لجعلها منصة فعالة للحوار.

مبادرات إقليمية مشتركة: إنشاء منتديات سياسية لتسوية الخلافات، مثل مؤتمر الحوار العربي.

دعم الديمقراطية التشاركية: تشجيع الأنظمة على إشراك الأقليات والمعارضة في صنع القرار.

التحديات الوجودية

تغير المناخ

يواجه الوطن العربي تحديات بيئية كبرى، حيث تُعد المنطقة من الأكثر تأثراً بارتفاع درجات الحرارة وشح المياه. تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن 14 دولة عربية من بين الأكثر معاناة من الإجهاد المائي.

الصراعات المسلحة

تستمر الحروب في تهديد الاستقرار، مع نزوح أكثر من 20 مليون شخص داخلياً وخارجياً.

الهجرة واللجوء

تُعد المنطقة مصدراً ووجهة للاجئين، مما يضع ضغوطاً على الاقتصادات المحلية ويزيد التوترات الاجتماعية.

الحلول المقترحة

التعاون البيئي: إنشاء صندوق عربي مشترك لتمويل مشاريع الطاقة المتجددة وإدارة الموارد المائية.

تسوية الصراعات: دعم مبادرات السلام بقيادة عربية، مثل مبادرة السلام العربية لفلسطين.

إدارة الهجرة: إنشاء برامج إقليمية لإعادة توطين اللاجئين ودمجهم اقتصادياً.

الأزمات التنموية

الواقع التنموي

يعاني الوطن العربي من تفاوتات تنموية حادة. وفقاً لتقرير التنمية البشرية 2022، تصنف 7 دول عربية ضمن فئة "التنمية البشرية المنخفضة"، مع معدلات بطالة تصل إلى 25% بين الشباب في بعض الدول.

التحديات

الاعتماد على النفط: تعتمد دول الخليج بشكل كبير على النفط، مما يجعلها عرضة لتقلبات الأسواق.

التعليم والابتكار: ضعف الأنظمة التعليمية يحد من القدرة على بناء اقتصادات قائمة على المعرفة.

الفساد: يُعد الفساد عائقاً رئيسياً أمام التنمية، حيث تحتل العديد من الدول العربية مراكز متدنية في مؤشر مدركات الفساد.

الحلول المقترحة

التنويع الاقتصادي: تعزيز الاستثمار في التكنولوجيا والصناعات الخضراء.

إصلاح التعليم: تطوير مناهج تركز على المهارات الرقمية والابتكار.

مكافحة الفساد: تعزيز الشفافية من خلال مؤسسات إقليمية مستقلة.

المقاربة الوحدوية: رؤية للمستقبل

إطار العمل

التكامل الاقتصادي: إنشاء منطقة تجارة حرة عربية بحلول 2035، مع تقليل الحواجز الجمركية.

التعاون الأمني: إنشاء قوة عربية مشتركة لمكافحة الإرهاب وحماية الحدود.

الحوار الثقافي: إطلاق منصات إقليمية لتعزيز الهوية العربية المشتركة مع احترام التعددية.

التحديات

غياب الإرادة السياسية: مقاومة بعض الأنظمة للتكامل العربي خوفاً من فقدان السيادة.

التفاوتات الاقتصادية: صعوبة تحقيق تكامل بين دول غنية مثل قطر وفقيرة مثل الصومال.

التوصيات

تعزيز دور الشباب والمجتمع المدني في صياغة السياسات العربية.

إنشاء صندوق استثماري عربي لدعم المشاريع التنموية.

تطوير برامج إقليمية لتبادل الخبرات في مجالات التكنولوجيا والبيئة والتعليم والصحة.

خاتمة

يواجه الوطن العربي مفترق طرق حاسم، حيث يمكن للتعددية الإثنية والخلافات السياسية أن تكون مصدر قوة إذا تم إدارتها بحكمة. المقاربة الوحدوية توفر إطاراً لتحويل التحديات الوجودية والتنموية إلى فرص للتكامل والنمو. من خلال تعزيز الحوار، التكامل الاقتصادي، والتعاون في مواجهة التحديات البيئية والأمنية، يمكن للدول العربية بناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً. النجاح يتطلب إرادة سياسية قوية ومشاركة شاملة لجميع مكونات المجتمع العربي. فمتى نرى الوطن العربي موحدا متكاملا وسيد نفسه؟

***

زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

بين بريق الأرقام وقتامة الواقع.. عندما تصبح العضوية المضمونة امتحاناً للضمير

مقدمة: مرآة مزدوجة الوجوه

في قاعات الأمم المتحدة المهيبة بجنيف، حيث تتردد أصداء خطابات عن العدالة والكرامة الإنسانية، يستعد العراق لشغل مقعد جديد في مجلس حقوق الإنسان لعام 2025. أربعة مرشحين لأربعة مقاعد في المجموعة الآسيوية-المحيط الهادئ، معادلة رياضية بسيطة تخفي خلفها تعقيدات سياسية وأخلاقية عميقة.

العراق، الذي يتصدر قائمة المرشحين بـ16.6 نقطة، يقف أمام مرآة مزدوجة الوجوه: في إحداها صورة مشرقة من التقارير والإحصائيات والمعاهدات الموقعة، وفي الأخرى واقع قاتم من الانتهاكات والتعذيب والإفلات من العقاب. فأي من هذين الوجهين يمثل العراق الحقيقي؟ وهل يمكن للأرقام أن تغطي جراح الواقع؟

الفصل الأول: عندما تتألق الأرقام في سماء جنيف

التفوق الورقي المثير للإعجاب

على صعيد المؤشرات الشكلية، يبدو العراق كـ"الطالب المتفوق" في أروقة الأمم المتحدة. بنقاطه الـ16.6، يتفوق بوضوح على منافسيه: فيتنام (10.6)، باكستان (7.4)، والهند (5.4). هذا التقدم ليس وليد الصدفة، بل نتيجة التزام ظاهري دقيق بالمعايير الدولية.

ثمانية معاهدات أساسية صادق عليها العراق، رقم يضعه في المقدمة بين المرشحين. من اتفاقية مناهضة التعذيب إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، تشكل هذه المعاهدات خارطة طريق نظرية لحماية حقوق الإنسان. لكن المسافة بين النص والتطبيق تبقى شاسعة كالمسافة بين جنيف وبغداد.

التقارير في موعدها، والعراق هنا يظهر انضباطاً لافتاً. فبينما تتأخر دول كثيرة في تقديم تقاريرها إلى هيئات المعاهدات، يحرص العراق على إنجاز "واجباته المدرسية" في الموعد المحدد، كأنه طالب يخشى عقاب المعلم.

الدعوة الدائمة للمقررين الخاصين تمثل نقطة إضافية في سجل العراق. 53% من الزيارات المطلوبة تمت بالفعل، رقم يبدو متواضعاً لكنه يتفوق على باكستان (17%) والهند (32%). هذه الدعوة تعكس، على الأقل نظرياً، استعداداً للشفافية والمساءلة.

الحضور الوزاري في جلسات الاستعراض الدوري الشامل يضيف بعداً سياسياً مهماً. عندما يرسل العراق وزراءه إلى جنيف، فهو يرسل رسالة واضحة: نحن نأخذ هذه العملية على محمل الجد. لكن السؤال يبقى: هل هذا اهتمام حقيقي أم مجرد دبلوماسية شكلية؟

الدبلوماسية الحذرة في العمل

سجل العراق التصويتي في المجلس في فترة عضويته السابقة يكشف عن استراتيجية محسوبة بدقة. لم يكن عضواً صامتاً، لكنه لم يكن جريئاً أيضاً. صوّت ضد قرارات تخص سوريا وإيران، في انحياز واضح للاعتبارات الإقليمية على حساب المبادئ الحقوقية. امتنع عن التصويت في ملفات جورجيا وأوكرانيا، متجنباً الوقوع في فخ الاستقطاب الدولي.

لكنه في المقابل، التزم بالتوافق العام في القضايا "الآمنة": حقوق المرأة، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بناء القدرات. هذا السلوك يرسم صورة عراق يحاول السير على حبل مشدود، يوازن بين ضغوط إقليمية ومسؤوليات دولية، بين مصالح سياسية ومبادئ أخلاقية.

الفصل الثاني: عندما يتكسر البريق على صخور الواقع

الثغرات الصارخة في السجل

لكن هذا البريق الدبلوماسي سرعان ما يخفت عندما ننتقل من قاعات جنيف إلى شوارع بغداد والبصرة والموصل. فالعراق الذي يلمع في التقارير يتعثر مؤلماً على أرض الواقع.

غياب المساهمات الطوعية للمفوضية السامية لحقوق الإنسان يكشف عن محدودية الالتزام العملي. الشراكة الحقيقية لا تقتصر على الكلام والتوقيع على الوثائق، بل تتطلب دعماً مالياً وعملياً للمنظومة الأممية. هنا يظهر العراق وكأن التزامه يتوقف عند حدود المجاملات الدبلوماسية.

عدم التصديق على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب يمثل تناقضاً صارخاً. كيف لبلد يدّعي الالتزام بحقوق الإنسان أن يرفض آلية دولية لمنع التعذيب؟ خاصة وأن تقارير التعذيب في السجون العراقية تتكرر كالكابوس المتجدد.

الإدراج في تقارير الأمين العام حول الأعمال الانتقامية ضد المدافعين عن حقوق الإنسان يضع العراق في موقف محرج. والأمر الأكثر إحراجاً هو الصمت الرسمي تجاه هذه التقارير، صمت يبدو وكأنه اعتراف ضمني بالتهم الموجهة.

واقع الانتهاكات المرير

خلف أرقام التقارير الوردية، يختبئ واقع مرير من الانتهاكات اليومية. التعذيب الممنهج في السجون، قمع الاحتجاجات السلمية، اغتيال الناشطين، ضعف القضاء واستمرار الإفلات من العقاب. هذه ليست مجرد إحصائيات، بل قصص إنسانية مؤلمة تتكرر يومياً في زوايا مظلمة من البلاد.

المدافعون عن حقوق الإنسان يواجهون تهديدات مستمرة، والصحفيون يعملون تحت سيف الخوف، والمحتجون السلميون يُقابلون بالرصاص أحياناً. هذا التناقض بين الخطاب الرسمي والممارسة العملية يجعل من العضوية المرتقبة في المجلس سؤالاً أخلاقياً معقداً.

الفصل الثالث: المعضلة الجيوسياسية - عندما تغلب السياسة على المبدأ

انتخابات بلا منافسة حقيقية

المفارقة في انتخابات 2025 أنها محسومة سلفاً: أربعة مرشحين لأربعة مقاعد. هذا الواقع يكشف عن طبيعة مجلس حقوق الإنسان كمنتدى للتوازنات الجيوسياسية أكثر من كونه محكمة أخلاقية صارمة. التوزيع الجغرافي للمقاعد يعطي الأولوية للتمثيل الإقليمي على الجودة الحقوقية، ما يفتح الباب أمام دول ذات سجلات مشكوك فيها للحصول على مقاعد مؤثرة.

هذا النظام يُظهر التناقض الأساسي في بنية المنظومة الدولية: كيف يمكن لآلية تهدف إلى حماية حقوق الإنسان أن تقبل بعضوية دول تنتهك هذه الحقوق؟ العراق ليس استثناءً هنا، بل مثال على معضلة أوسع تواجه المجتمع الدولي.

التوازنات الإقليمية والحسابات السياسية

العراق، في موقعه الجيوسياسي الحساس، يجد نفسه في قلب تجاذبات إقليمية ودولية معقدة. علاقاته المتشابكة مع إيران وتركيا والسعودية والولايات المتحدة تجعل من مواقفه الحقوقية رهينة لحسابات سياسية أكبر. هذا الواقع يفسر التردد والحذر في سجله التصويتي، لكنه لا يبرره أخلاقياً.

المنطقة العربية والآسيوية تحتاج إلى أصوات شجاعة في مجلس حقوق الإنسان، أصوات تقف مع الحق حتى لو تعارض مع المصالح السياسية قصيرة المدى. هل يمكن للعراق أن يكون هذا الصوت؟

الفصل الرابع: الفرصة التاريخية - تحويل المقعد إلى منصة إصلاح

الإصلاحات الداخلية المطلوبة

العضوية في مجلس حقوق الإنسان يجب أن تكون بداية، لا نهاية. فرصة للإصلاح الداخلي، لا مجرد لقب دبلوماسي. العراق أمامه خيارات واضحة لتحويل هذا المقعد إلى رافعة إصلاح حقيقية.

التصديق على البروتوكول الاختياري لمناهضة التعذيب وإنشاء آلية وقائية وطنية مستقلة خطوة أساسية لا يمكن تأجيلها. هذه الآلية يجب أن تتمتع بصلاحيات واسعة لزيارة أماكن الاحتجاز دون إذن مسبق، ومراقبة أوضاع المحتجزين، وتقديم توصيات ملزمة لتحسين الأوضاع.

وقف الانتقام من المدافعين عن حقوق الإنسان يتطلب إجراءات عملية واضحة: إقرار قانون لحماية المدافعين، إنشاء وحدة حماية متخصصة، محاسبة المسؤولين عن التهديدات والاعتداءات. الكلام وحده لا يكفي، المطلوب أفعال ملموسة تعيد الثقة.

تقوية القضاء واستقلاليته مهمة معقدة تتطلب إرادة سياسية قوية. القضاء المستقل هو حجر الزاوية في أي نظام يحترم حقوق الإنسان. هذا يعني تعيينات قضائية تعتمد على الكفاءة لا على المحاصصة، ميزانيات كافية للمحاكم، حماية فعلية للقضاة من الضغوط السياسية.

تعزيز المؤسسات الوطنية

المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق تحتاج إلى تقوية جذرية. هذه المؤسسة، التي يُفترض أن تكون الضمير الوطني في مجال حقوق الإنسان، تعاني من ضعف في الموارد والصلاحيات. تقويتها مالياً وبشرياً، وضمان استقلاليتها التامة عن الحكومة، خطوة لا غنى عنها.

إنشاء وحدات حكومية متخصصة في متابعة تنفيذ التوصيات الأممية ضرورة عملية. هذه الوحدات يجب أن تعمل بشفافية، وتقدم تقارير دورية للجمهور حول مدى التقدم في تنفيذ الالتزامات الدولية.

برامج التدريب على حقوق الإنسان لأجهزة الأمن والقضاء يجب أن تصبح إلزامية ومستمرة. تغيير الثقافة المؤسسية عملية طويلة المدى، لكنها أساسية لضمان عدم تكرار الانتهاكات.

الفصل الخامس: دور المجتمع المدني - الشريك الضروري

المراقبة والمساءلة من الداخل

المجتمع المدني العراقي، رغم التحديات والمخاطر التي يواجهها، يبقى الشريك الأساسي في أي عملية إصلاح حقيقية. منظمات المجتمع المدني تمتلك القدرة على تحويل العضوية في المجلس من مجرد لقب فخري إلى أداة ضغط فعالة للإصلاح.

إعداد التقارير الظل التي تكشف الفجوة بين الالتزامات الرسمية والواقع على الأرض مهمة حيوية. هذه التقارير تضع الحكومة أمام المرآة، وتجبرها على مواجهة تناقضاتها أمام المجتمع الدولي.

الحملات الإعلامية والتوعوية لربط العضوية في المجلس بالحقوق اليومية للمواطنين ضرورية. المطلوب تحويل النقاش حول حقوق الإنسان من موضوع "نخبوي" إلى قضية شعبية تهم كل مواطن.

بناء الشراكات الدولية مع منظمات حقوقية عالمية يوفر الدعم والحماية للناشطين المحليين، ويضمن استمرار الضغط الدولي على الحكومة العراقية.

التحديات والمخاطر

لكن المجتمع المدني العراقي يواجه تحديات جمة: التهديدات الأمنية، القيود القانونية، نقص التمويل، الاستقطاب السياسي. هذه التحديات تتطلب دعماً دولياً أقوى، وحماية أفضل من الحكومة، وتضامناً أكبر بين المنظمات المحلية.

الفصل السادس: التوصيات العملية - خارطة طريق للإصلاح

للحكومة العراقية: التزامات لا يمكن تأجيلها

1.  التصديق الفوري على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب وإنشاء آلية وقائية وطنية مستقلة بصلاحيات كاملة.

2.  إعلان خطة وطنية شاملة لتنفيذ توصيات الاستعراض الدوري الشامل وهيئات المعاهدات، مع جدول زمني واضح ومؤشرات قابلة للقياس.

3.  تخصيص ميزانية كافية ومنتظمة للمفوضية العليا لحقوق الإنسان، وضمان استقلاليتها الكاملة في التعيينات والقرارات.

4.  إقرار قانون حماية المدافعين عن حقوق الإنسان وإنشاء وحدة حماية متخصصة تعمل على مدار الساعة.

5.  الرد العلني والشفاف على جميع تقارير الأمم المتحدة، خاصة تلك المتعلقة بالأعمال الانتقامية ضد المدافعين.

6.  إصدار تعهدات طوعية محددة أمام المجلس الدولي حول الإصلاحات المزمع تنفيذها خلال فترة العضوية.

للمجتمع المدني: دور لا غنى عنه

1.  تأسيس ائتلاف وطني لمراقبة أداء العراق في مجلس حقوق الإنسان، يضم جميع المنظمات الحقوقية الفاعلة.

2.  إعداد تقارير ظل دورية وإرسالها إلى المقررين الخاصين وهيئات المعاهدات، مع توثيق دقيق للانتهاكات.

3.  إطلاق حملة إعلامية شاملة تربط بين العضوية في المجلس وحقوق المواطن اليومية، باستخدام وسائل الإعلام التقليدية والرقمية.

4.  بناء شبكة علاقات دولية مع منظمات حقوقية عالمية لضمان الدعم والحماية المستمرة.

5.  التدريب والتأهيل المستمر للناشطين الحقوقيين على آليات الأمم المتحدة وكيفية الاستفادة منها.

للمجتمع الدولي: دعم الإصلاح ومحاسبة التقصير

1.  الضغط المستمر على الحكومة العراقية لتنفيذ التوصيات الأممية من خلال الدبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف.

2.  دعم المجتمع المدني العراقي مالياً وتقنياً، مع ضمان وصول هذا الدعم إلى المنظمات الحقيقية الفاعلة.

3.  استخدام آليات المساءلة المتاحة في الأمم المتحدة لمتابعة أداء العراق كعضو في المجلس.

4.  ربط العلاقات الاقتصادية والسياسية مع العراق بالتقدم في ملف حقوق الإنسان.

الفصل السابع: رؤية للمستقبل - العراق الذي نريد

من الدولة الأمنية إلى دولة القانون

التحول الحقيقي المطلوب في العراق ليس مجرد إصلاحات تقنية أو قانونية، بل تغيير جذري في فلسفة الحكم. من دولة تعتمد على القوة والقمع إلى دولة تؤمن بالقانون والحوار. من نظام يخاف من شعبه إلى نظام يستمد شرعيته من رضا المواطنين.

هذا التحول يتطلب وقتاً وجهداً مستمراً، لكنه ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية والدعم الشعبي والضغط الدولي. العضوية في مجلس حقوق الإنسان يمكن أن تكون محفزاً لهذا التحول، لا مجرد شهادة تقدير لما هو قائم.

العراق كنموذج إقليمي

العراق، بتجربته المريرة مع الحرب والدكتاتورية والطائفية، يمتلك فهماً عميقاً لأهمية حقوق الإنسان. هذا الفهم، إذا ترجم إلى سياسات وممارسات، يمكن أن يجعل من العراق نموذجاً إقليمياً للانتقال من النزاع إلى السلام، ومن القمع إلى الديمقراطية.

المنطقة العربية تحتاج إلى مثل هذا النموذج. بلد يثبت أن الاحترام الحقيقي لحقوق الإنسان ليس "ترفاً غربياً" بل ضرورة إنسانية عالمية. العراق لديه الفرصة ليكون هذا المثال، لكن الأمر يتطلب شجاعة سياسية ورؤية استراتيجية طويلة المدى.

خاتمة: السؤال الذي لا مفر منه

العراق اليوم يقف على مفترق طرق تاريخي. مقعده المضمون في مجلس حقوق الإنسان ليس مجرد إنجاز دبلوماسي، بل اختبار وجودي لهوية البلد ومستقبله. السؤال ليس ما إذا كان العراق سيحصل على المقعد - فهذا محسوم - بل ماذا سيفعل به.

هل سيكتفي بإضافة لقب جديد إلى سجله الدولي، أم سيستخدمه كرافعة للإصلاح الداخلي؟ هل ستبقى العضوية مجرد "ديكور دبلوماسي" أم ستتحول إلى "ثورة هادئة" في طريقة تعامل الدولة مع مواطنيها؟

المعادلة واضحة: إما أن يترجم العراق نقاطه الرقمية إلى إصلاحات ملموسة تلمسها الأرملة في البصرة والمعتقل في أبو غريب والناشط في النجف، أو يبقى مجرد "بطل في الجداول" وعاجزاً في الميدان.

التاريخ سيحكم، والشعب العراقي ينتظر. والعالم يراقب. في هذه اللحظة بالذات، عندما تتقاطع الفرصة مع المسؤولية، يمكن للعراق أن يختار: إما أن يكون جزءاً من المشكلة، أو أن يصبح جزءاً من الحل.

المرآة مزدوجة الوجوه ما زالت تنتظر أن يقرر العراق أي وجه يريد أن يُظهر للعالم، وأي مستقبل يريد أن يصنعه لأجياله القادمة. الخيار صعب، لكنه ضروري. والوقت لا ينتظر أحداً.

"في النهاية، ليست المسألة في أن نحصل على مقعد في مجلس حقوق الإنسان، بل في أن نستحقه."

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الإنسان

سيشغل المستعرض معرض «المماليك الإرث والأثر»، المقام في مُتحف لوفر أبوظبي، بمشاركة المكتبة الفرنسيَّة، ذهنه بالسُّؤال: هل هذا كلُّ ما تبقّى مِن القرون الثَّلاثة التي حكمها المماليك (1250-1517م)، بمصر وسورية وفلسطين والحِجاز، نفائس جُمعت مِن متاحف متفرقة، ومقتنيات مراكز وخزائن شخصيَّة؟ والجواب عند الجاحظ (ت: 255هج).

قال بعنوان «طمس آثار الأمم السَّالفة»: «والكتب بذلك أولى مِن بنيان الحجارة، وحيطان المدَر، لأنَّ من شأن الملوك أنْ يطمسوا على آثار مِن قَبلِهم، وأن يُميتوا ذكر أعدائهم، فقد هدموا بذلك السّبب أكثر المدن، وأكثر الحصون...» (الحيوان). غير أنَّ الجاحظ لم يعش عصر المكتبات، ليرى ما دمره المنتصرون مِن خزائن المهزومين، وتلك قصة طويلة.

طغى الاهتمام بالتّاريخ السّياسي، مِن تعاقب الممالك والحروب، على تاريخ الفنون، وما دُون في كتب المتأخرين، مَن فنون الأولين، ما هو إلا نتفٌ ومحاشٍ حُشيت بها كتب التّاريخ العام، ويبقى الأثر هو الشَّاهد الأقوى، وهذا ما ذهب إليه معروف الرُّصافيّ (ت: 1945) عندما قال: «فإن ذكروا النُّعمانَ يوماً فلا تثق/ بأكثرِ مما قال عنه الخوَرنقُ» (الدِّيوان، ضِلال التَّاريخ)، وقصرا النُّعمان: الخورق والسَّدير، أشهر مِن أنْ يُعرفا. هذا ما يوحي به عنوان ومضمون كتاب أبي الرّيحان البيرونيّ (ت: 440ه) «الآثار الباقية عن القرون الخالية»، وكم هو الباقي مِن تلك القرون، قد لا يُعادل «عشر معشار» الواقع.

أليست عجيبةً أن يعلو الزَّمن بأسرى الحروب، والمباعين بأسواق النّخاسة، كعبيد خاصين، ويتربوا بلا أسماء آباء، تتدرّج بهم المراتب، ليكونوا سلاطين، يصدون أعتى الجيوش (المغول) في معركة «عين جالوت» (1260)، ويتسيّدون، حتى هزيمتهم في «مرج دابق» (1516) على يد قوى جديدة (العثمانيون)، هذا ما يُقرأ في معرض آثارهم؟

تروي الآثار المعروضة جانباً آخر مِن سلاطين المماليك، طسوتاً مزركشة مذهبة، ومباخرَ، وأباريقَ أنيقة، وسيوفاً، ودروعاً، تتعجب كيف كان المقاتلون بالسّيوف يتحملون وزن الحديد أو النّحاس وهم يلبسونه ثياباً، والخوذ الحديدة، يوم كانت الحروب تروي شجاعة الشّجعان، قبل الصَّواريخ والمسيرات، التي يطلقها المحارب وهو مُسترخٍ على أريكة، وسجاد تظن أنّ نقشه مطبوعٌ بالطابعات، لكنها فنون الأيدي المتناهية الدِّقة، حياكة السجاجيد والأقمشة، والحفر على الذَّهب والفضة والنُّخاس.

تكشف لك الآثار المعروضة الصِّلات بين الشّرق والغرب، تبادل الهدايا، ولوحات تُظهر لقاءات السياسة والتّجارة والمعرفة، بين البندقيّة والقاهرة ودِمشق، وحيث يمتد السُّلطان المملوكي.

نرى مخطوطة «النُّجوم الزّاهرة»، خُطت بعد وفاة مؤلفه بسنتين، ابن تغري بردي (ت: 874ه) أحد أبناء المماليك، لم يشغل منصباً كأبيه، فنشأ نشأة علميّة وصَنّف تاريخه الفاخر، ليصدر مطبوعاً بـ (16) مجلداً. كانت مخطوطة تاريخ ابن خلدون (ت: 808ه) إحدى المعروضات، الذي ضمنه مقدمته و«التعريف» (سيرته المثيرة). حوى المعرض مخطوطات تُعدّ مِن الطَّرائف ككتاب ابن حَجلة (ت: 776ه) «سُكر ذات السُّلطان» (وعاء شراب السُّلطان).

كان المماليك مِن العبيد الخاصين بالأيوبيين (569- 648هج)، ولما ترقّوا إلى قيادات عليا، انقلبوا عليهم، وأبقوا التقليد الأيوبي بوجود خليفة عباسي بلا صلاحيات، حتَّى جاء العثمانيون وقضوا عليهم وعلى الخلافة الشّكليَّة، لكن لم يتمكن الأيوبيون والمماليك والعثمانيون مِن إعلان الخلافة، لأنَّها قرشيَّة.

ظلت آثار المماليك تتداول في المزادات، قبل أن تضمها المَتاحف العالميّة، وأصبحت الآن خارج التّثمين. هذا ما سلم منها، وكم تُلف وسُرق. نستعين بأحمد شوقيّ (ت: 1932)، متحدثاً عن سرقة الآثار، ومَن أسسوا ثروات بها، قال ضمن نونيته العظيمة: «أَمَن سَرَقَ الخَليفَةَ وَهوَ حَيٌّ/ يَعِفُّ عَنِ المُلوكِ مُكَفَّنينا» (الهاشميُّ، جواهر الأدب).

ما نراه أن تُشجع مثل هذه المعارض، من تواريخ السَّلطنات كافة، أسلوباً آخر في قراءة التّاريخ، لا يؤخذ إرثها الفني والثّقافي بجريرة تاريخها السياسيّ، فما شاهدناه في لوفر أبوظبيّ لم يكن صُناعه السّاسة، إنما الحرفيون والمثقفون، لا يخص عقيدةً ولا ديناً ومذهباً، وكم منهم ظُلم وافترسه ساسة تلك العهود؟ إنه تاريخ آخر.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

حين ننظر إلى صفحات التاريخ؛ من ملوك وأباطرة، إلى رؤساء، حكّام عسكريين وزعماء حركة سياسية، غالباً ما نجد صورة مدهشة: شعوب مخلصة لزعماء فشلوا اقتصادياً، سياسياً، إنسانياً، لكنهم ظلّوا في السلطة، وحافظوا على ولاء كبير من الناس. لماذا يحدث هذا؟ ما هي القوى العميقة التي تجبر المجتمعات على الإبقاء على ولاء يبدو عند الكثيرين غير عقلي أو حتى مدمر؟ وكيف يُمكن، مع الزمن، أن تتخلص الشعوب من هؤلاء الزعماء ويصبح الوضع أفضل؟

العناصر النفسية والاجتماعية للولاء غير العقلاني

1. الهوية والانتماء

إنّ البشر كائنات اجتماعية أولاً؛ يبحثون عن الانتماء، عن جماعة يشعرون أنها “نحن”، لها قيم مشتركة، لغة مشتركة، تاريخ مشترك. الزعيم، حتى لو كان فاشلاً، غالباً ما يُصاغ في الوعي الشعبي باعتباره رمزاً لهذا الانتماء؛ هو الذي يدافع عن الكرامة، عن الهوية، أو من يُجسد مقاومة ضد قوى أخرى — سواء كانت أجنبية أو داخلية.

عندما تتماهى هوية الفرد مع هوية الجماعة أو القومية التي يقودها الزعيم، يصبح النقد للزعيم نقداً للذات، للهوية. الهجوم على الزعيم يُحسّ به كإهانة للكيان الجماعي. هذا يضع حاجزاً كبيراً أمام العقل والنقد الموضوعي.

2. الأمل المعقود – الخوف من فقدان كل شيء

حتى الزعماء الفاشلون يوهمون الناس بالأمل — وعد بتحسين، بتحول، بتحقيق إصلاح. ولعلّ هذا الأمل هو ما يبقيهم: الناس تميل إلى الانتظار، إلى الإيمان بأن الكوارث ستكون مؤقتة، وأنّ الزمان سيأتي الذي يترجم الوعود إلى أفعال.

في المقابل، الخوف أيضاً قوي جداً: من الفوضى، من الفراغ، من بدائل مجهولة أو ربما أسوأ. من استبدال زعيم فاشل بزعيم لا نعرفه يمكن أن يكون مصير الشعب معه أكثر ضبابية وخطورة. غالباً ما يستخدم الزعيم الفاشل سلطاته أو شبكاته ليزرع الخوف: من الانقسام، من العنف، من العقاب، من الاستهداف، ومن “الأعداء”.

3. الشرعية الرمزية والمؤسساتية

حتى عندما يفشل الزعيم في إدارة الدّولة بفعالية، قد يحتفظ بشرعية ما — شرعية تستند إلى التاريخ، إلى المؤسسات، إلى التقاليد، أو إلى القوانين الموضوعية.

أحياناً يكون الفشل في الأداء اليومي لا يُوازنه افتقار الزعيم للقدرة على أن يُظهِر نفسه كممثل شرعي للمجموعة. كما أن المؤسسات (الجيش، المخابرات، البيروقراطية، الجهاز القضائي، وسائل الإعلام) كثيراً ما تستمر في إعطاء الزعيم مواقع قوة، حتى عندما تضعف فعاليته، مما يُبعد بدائل محتملة أو يُقوّض القدرة على التغيير.

4. تحوّل القيادة الفاشلة إلى “العدو الخارجي”

عندما يتراكم الفشل، كثير من الزعماء يميلون إلى تصوير النقد والتحفظات على أنهم مؤامرة، خيانة، تدخل خارجي، أو أعداء داخليين. هذه الاستراتيجية تحوّل النقد الموضوعي إلى عمل شيطنة لدى كثير من الناس، فتُلهب المشاعر وتحشد الدعم بواسطة إحساس بأن الزعيم هو المظلومة أو الضحية، وأن من يعارضونه ليسوا مجرد معارضين بل خصوماً للهوية أو للأمن.

التاريخ مليء بصور الولاء غير العقلاني… وأيضاً بصور التحرّر والتخلص

أمثلة على الولاء رغم الفشل

- الرومان في مراحِل انهيار الإمبراطورية: غالباً كان الإمبراطور يُعتبر رمز الاستمرارية، الاستقرار، حتى عندما كانت الدولة تنهار من الداخل، والاقتصاد يتداعى، الحدود تُنتهك، الفساد يتفشى. الناس، من الطبقات المختلفة، كانوا يتشبّثون بالولاء كنوع من الانتماء للحضارة، أو خوف من المصير الغامض البديل.

- أنظمة استبدادية حديثة: كثير منها فشلت في توفير الصحة، التعليم، العيش الكريم، أو حتى الأمان، لكن شعبها بقي يدعمها، إما بخوف، إما بإيمان بأن البديل سيكون أسوأ، أو لأنهم تربّوا على فكرة أن الزعيم هو الضامن للبقاء، وأحياناً لأن المعارضة محجوبة، يُلاحق منتقدوها، ولا توجد مساحة حرّة للمنافسة الحقيقية.

أمثلة على التحرّر والتخلص

لكن التاريخ أيضاً مليء بصور الانهيار، والتغيير، ووضوع الوفاء الجمعي للزعيم الفاشل الذي ينكسر. أمثلة:

- سقوط الأنظمة الاستبدادية في الانتفاضات الشعبية، الثورات، أو بعد حروب أهلية، حدثت حين بلغ القمع والفشل ذروته، وتراكب كل من الأمل في التغيير مع انتفاح الفرصة (مثلاً: ضعف الأجهزة الأمنية، انشقاقات عند القمة، تأثير الإعلام أو الشبكات الاجتماعية…).

- الإصلاحات الداخلية: قد يتم استبدال الزعيم أو تقييده عبر الضغوط الداخلية ، النخب، الجيش، السلطات القضائية، أو عن طريق التغيير الديموقراطي حين يصبح الولاء مكلفاً بصورة لا تُطاق: انهيار اقتصادي، أزمات حياة يومية، فقدان الحياة، موت جماعي، جوع.

كيف يصبح الوضع أفضل بعد التخلص من الزعيم الفاشل؟

عندما يُنجز التغيير (وطبعاً ليس كل التغيير ينجح)، فإن بعض النتائج التي تُحققها الشعوب تحسّن الحياة:

- تحسين الأداء الحكومي: عندما يتغيّر القائد أو يُحاسب، تُصبح المؤسسات أكثر مسؤولية، تُصبح المواجهة السياسية أكثر شفافية، وقد تنفتح مساحة للنقد البناء والتجديد.

- حرية أكبر في التعبير والمشاركة: غالباً ما يكون القمع وحرمان الحريات من سمات الزعماء الفاشلين الذين يُخاف من سقوطهم؛ بعدهم، تنتعش المعارضة، وسائل الإعلام، المجتمع المدني.

- إعادة توزيع السلطة والموارد: الزعماء الذين احتكروا السلطة في أيديهم غالباً يُخلّون جزءاً منها بعد التغيير ، سواء بمؤسسات قيّمة مثل القضاء المستقل أو الانتخابات النزيهة أو مؤسسات رقابة.

- إحياء الأمل والثقة: أحياناً يكفي أن تُعطي الشعوب لنفسها الفرصة لأن تُعبر عن رأيها، أن تُغيّر، حتى عندما لا يتغيّر كل شيء ، الشعور بالوكالة، بكون الفرد جزءاً من صنع القرار، يحرّر ويُنعش المجتمعات.

الخوف والأمل كمحركين أساسيّين لسلوك غير عقلاني

إنّ الاثنين: الخوف والأمل، والتقلب بينهما، يشكلان طوق نجاة، أو حلقات دامية، في ولاء الجماهير:

- الأمل يدفع الناس إلى التماسك، إلى الانتظار، إلى التسامح مع الأخطاء، إلى البحث عن تفسير يُرضي النفس بأن الفشل ظرفي، مؤقت، أن الزمان كفيل بتصحيح الأخطاء إن ظلّ الزعيم موجوداً.

- الخوف يجعلهم يخافون من البديل، من الفتنة، من الانفلات، من الاستهداف السياسي، من الجوع، من الحروب، من الفقر. إذا سقط الزعيم الفاشل، قد يسقط معه الاستقرار أو ما تبقى منه، قد تظهر الفوضى أو تُستغل من قوى أخرى أضعف.

-غالباً ما تُستخدم رمزية الخوف: الإشاعة أن من يعارض الزعيم هم “أعداؤه”، أن المعارضين خونة، أو أنهم ينتمون لقوى أجنبية. فتُكبت الأصوات المطلوبة للنقد، أو تُخنق الحركات الإصلاحية، حتى قبل أن تبدأ.

- الأمل الخفي – أمل التغيير، أمل الإصلاح – موجود دائماً، يُحرّك مقاومة داخلية، سواء بالمعارضة الديمقراطية أو بالاحتجاجات أو بضغط الرأي العام أو الضغوط الدولية.

 الخاتمة

إن ولاء الشعوب لزعماء فاشلين ليس ببساطة “غباءً” أو “سذاجةً” من جهة الشعوب، ولا هو بالضرورة استسلامٌ مطلق. هو خليطٌ معقّد من النفسيات (هوية، انتماء، الأمل والخوف)، من الهيئات المؤسسية، من الظروف التاريخية، من القيم المجتمعية، ومن استراتيجيات الزعماء الذين يعرفون كيف يستثمرون في هذه العناصر.

والدروس التي يُعلّمنا إياها التاريخ – السقوط الذي لا مفر منه للأنظمة التي لا تُجدّد نفسها، والطموح المستمر للشعوب نحو القيادة التي تستحقها – تتيح لنا أن نرى: أنه لا بدّ من اللحظة التي يُصبح فيها الولاء عبئاً، فيُتخلص منه الناس، وتنكسر القيود الرمزية، وتبدأ حقبة جديدة يُبنى فيها على الشفافية، والعدالة، والمشاركة.

***

الكاتب: ذ يونس الديدي كاتب مغربي مختص في الشؤون الاجتماعية والسياسية

مفكرون يهود ضد الصهيونية (3)

يمثل يعقوب إسرائيل دي هان علامة فارقة في سياق النقد الموجّه إلى الحركة الصهيونية، إذ عبّرت تجربته عن إنعطافة مركزية تكشف عن طبيعة الحركة الصهيونية وتوحشها ضد اليهود المعارضين لها، فضلاً عن غيرهم، وقد ولد دي هان في قرية سميلده في هولندا عام 1881م لأسرة يهودية كبيرة وفقيرة أرادت له تعليماً يهودياً، فدرس على الطريقة اليهودية التقليدية، ثم إنضم في عمر الرابعة عشر الى المدرسة الوطنية للمعلمين، وبعد التخرج منها واجه مشاكل في إيجاد عمل له، ولاحقاً حصل الى وظيفة كمعلم، بالاضافة الى أنه سعى لإكمال الدراسة في القانون، فقُقبل في كلية الحقوق عام 1903م؛ وبسبب إهتماماته الأدبية كتب روايته الأولى (Pijpelijntjes) (أنابيب صغيرة) الصادرة عام 1904، والتي تتكلم عن علاقة بين شخصين في سياق مثلي شاذ داخل حي دي بايب الفقير في مدينة أمستردام الهولندية، الأمر الذي أثار ردة فعل كبيرة عليه وقتها، فطرد من عمله، وقاطعه المجتمع المحيط، ولاسيما نحن نتكلم عن مدة كانت فيها الثقافة الأوربية ما تزال متمسكة نسبياً بالقيم الإجتماعية الصحيحة بخصوص مسألة المثلية وإثاراتها السقيمة(1).

وقٌبيل هذه المدة، وخلالها، بدأت الميول اليسارية تتعاظم داخل عقلية دي هان، وكان كلما يقترب من النزعة اليسارية كلما كان يبتعد عن اليهودية وتعاليمها، وبعد عام 1905م عاد يعقوب دي هان إلى الإهتمام بهوديته، بدأ بتعلم اللغة العبرية، وإنضم الى الإتحاد الصهيوني الهولندي بوصفه فرعاً لمنظمة الصهيونية العالمية الساعية إلى البحث عن وطن يجمع اليهود، وفي عام 1914م وظّف قريحته الشعرية في مشروع اليهودية فنشر ديوانه الشعري بعنوان "الأنشودة اليهودية"(2).

أكمل دي هان دراسته في الدكتوراه في تخصص القانون من جامعة أمستردام عام 1916م، وسعى للحصول على وظيفة الاستاذ في الجامعة إلا انه أخفق في ذلك، ومع أحداث الحرب العالمية الأولى، بدأت تتزايد عنده القناعة في أن الحل الوحيد لمشكلة اليهود وشتاتهم في العالم يكمن في وطن واحد يجمعهم، فقرر الهجرة الى فلسطين التي كانت وقتها تخضع لسلطة الانتداب البريطاني، وفي عام 1917م ستمنح هذه السلطة المحتلة للأراضي الفلسطينية وعداً عُرف بوعد بلفور من أجل تحقيق غاية إقامة الوطن اليهودي في أرض ليست لهم!

قدّم دي هان طلباً من أجل السفر الى فلسطين، إلا أن رئيسها حاييم وايزمان (1874-1952م) لم يتحمس لطلبه، خاصة أن الأخير كان يبحث عن الشباب الرياضيين القادرين على القتال،  لكن يسرائيل زانغويل (1864-1926م) الكاتب الإنجليزي الصهيوني، الذي تنسب له مقولة “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” أقنع وايزمان بقبول طلبه، ويُنقل أن دي هان وصل إلى القدس بعد رحلة شاقة بين روما وباريس ولندن ثم القاهرة التي انطلق منها إلى فلسطين، وحين وصل كان الجو ممطرًا مضطربًا، ولم يستقبله اليهود في القدس بشكل جيد، وهو الذي جاء إليهم حالمًا بالأخوة الصهيونية التي كان يتمناها.

في البداية كان دي هان متعاطفاً مع الصهيونية، باعتبارها حركة قومية تقدم للشعب اليهودي فرصة وطنية. لكنه سرعان ما ابتعد عنها، خصوصاً بعد احتكاكه بالمجتمع اليهودي الأرثوذكسي في القدس، إذ تأثر بالحاخام يوسف حاييم سونينفيلد (1848-1932م) الذي أسس حزب أغوادات يسرائيل عام 1921م، كحزب يمثل أفكار الحريديم، يتفرع عن حركة أغوادات يسرائيل اليهودية في أوروبا، والرافضة للصهيونية، واختار أن يكون يعقوب دي هان مسؤولًا عن العلاقات الخارجية للحزب ومتحدثًا باسمه، وهكذا صار يعقوب دي هان عدوًا للصهيونية، بعد أن كان متحمساً لها(4) ، وهناك نص مهم ينقله ليوبولد فايس (1900-1992م) اليهودي الذي أسلم وسمى نفسه (محمد أسد)، في كتابه “الطريق إلى مكة”، والذي كان قريبًا ورفيقًا ليعقوب دي هان وقت وجوده في فلسطين، ينقل أسد قائلاً: (نظر إليّ الدكتور دي هان متسائلًا: أتظن أن التاريخ ليس إلا سلسلة من المصادفات؟ أنا لا أظن ذلك، لم يكن بلا غاية أن جعلنا الله نفقد أرضنا ويبعثرنا؛ لكن الصهاينة لا يريدون أن يعترفوا بهذا، إنهم يعانون من نفس العمى الروحي الذي أدى إلى سقوطنا، وإن ألفي عام من المنفى والتعاسة اليهودية لم تعلّمهم شيئًا. وبدلًا من أن يحاولوا فهم الأسباب العميقة لتعاستنا، تراهم الآن يحاولون تجاوزها، كما لو كان الأمر ممكنًا، ببناء “وطن قومي” على أسس وفرتها سياسات القوى الغربية؛ وفي عملية بناء هذا الوطن القومي يرتكبون جريمة حرمان شعب آخر من وطنه)(5).

إن وجهة نظره هذه أججت داخله قلقاً من الصدام ضد العرب، ورغبته في الحفاظ على الطابع الديني لليهودية بدلاً من تحويلها إلى مشروع قومي سياسي، وأصبح دي هان من أشد معارضي الصهيونية السياسية منتقداً مشروعها القومي باعتباره تهديداً لمستقبل اليهود في فلسطين ولعلاقاتهم مع العرب، وقد كان يكتب مقالات صحفية ناقدة، إذ عمل دي هان في فلسطين مراسلاً لجريدة هولندية تَصدُر في أمستردام، كما عمل أيضاً لجريدة ديلي إكسبريس اللندنية. وكان يلقي محاضرات في كلية القانون التابعة للحكومة في القدس، ويرسل رسائل إلى شخصيات سياسية ودينية، محذراً من الكوارث المقبلة إذا استمر المشروع الصهيوني، وقد سعى الى التنسيق مع الشريف الحسين بن علي (1853-1931م) وابنيه عبد الله (1882-1951م) وفيصل (1883-1933) من أجل إيجاد تسوية عربية- يهودية تتضمن هجرة يهودية غير مشروطة يعيش فيها اليهود ضمن دولة فلسطين مقابل معاداة الصهيونية والعمل على بذل الجهود الدبلوماسية مع الجانب البريطاني بُغية سحب وعد بلفور وإلغائه، وما يترتب على ذلك من سحب البساط من المشروع الصهيوني القائم على إقامة كيان صهيوني في الأراضي الفلسطينية، إذ كان المسارات العمل الرئيسة التي إعتمدها دي هان هو تحويل الممثلية الرسمية لليهود من الحركة الصهيونية ونقلها الى الجانب الحريدي المعبر عنه بحزب أغودات، الأمر الذي جعل منه خصماً خطيراً للحركة الصهيونية الناشئة، فعمدت إلى تشويه سمعته عبر تركيز ماكنتها الإعلامية على روايته ذات الميول المثلية، وتوظيف كل ما من شأنه أن يسهم في تقزيم الدور المحوري الذي ان دي هان يشتغل عليه في مناهضة الحركة الصهيونية ومشروعها.

وفي 30 يونيو 1924 اغتيل دي هان في القدس على يد عناصر من ميليشا الهاغاناه الصهيونية، في وقتٍ كان يسعى خلاله الى السفر الى بريطانيا من أجل تطبيق الاتفاق الذي عقده مع الجانب العربي، فقررت الصهيونية إغتياله بعد أن اعترض طريقه إثنان من رجال الهاغاناه وقتلاه في عملية عُدّت أول عملية اغتيال سياسي صهيوني موجه ضد يهودي معارض، وقد شكلت هذه الحادثة علامة فارقة في تاريخ الصراع الداخلي بين اليهود أنفسهم، وأبرزت هشاشة التعددية داخل المشروع الصهيوني، كما أنها كشفت عن توحش هذا المشروع داخل الفضاء اليهودي، فضلاً عمن هو خارج الفضاء، ولنا أن نربط الأمر بالجرائم غير الإنسانية التي أُرتكبت وتُرتكب في قطاع غزة،  وفي عموم الأراضي الفلسطينية، ضد الابرياء العُزل من شيوخ ونساء وأطفال.

وفي سياق التعرض الى الجانب الفكري في المواقف التي تباناها يعقوب دي هان إتجاه الحركة الصهيونية يمكن إيراد أبرز الانتقادات التي وجهها لها:

1-  ترفض الحريدية، وأبرز ممثليها السياسيين(6) حزب أغودات الجذر الفكري السياسي الذي تقوم عليه الحركة الصهيونية، والقائم على التدخل البشري في العودة الى أرض الميعاد في المعتقد اليهودي، إذ أن مبدأ العودة الى صهيون (أرض إسرائيل) يجب أن لا تتم عبر التدخل البشري السياسي، وإنما يتم ذلك من خلال الارادة الالهية والمشيئة الدينية التي تقرر ذلك بمجيء المسيح المنتظر في المعتقد اليهودي.

2-  نقد الحركة الصهيونية القائمة على تفعيل مشروع إستبدال الدين بقومية سياسية، أي في تحويل المعتقدات الدينية الى اجندة سياسية تفقد هذه العقيدة ركيزتها الروحية بدرجة أساس، إذ أن ما يقوم به الصهاينة هو إستغلال المقولات الدينية وتجييرها من أجل مشروع سياسي.

3-  رفض ونقد السياسة الصهيونية التي تمارسها في فلسطين، وأكاذيبها في المبالغة في أعداد المهاجرين اليهود الى فلسطين، وفي سياستها الصارمة القائمة على معالجة المشكلة اليهودية "المسألة اليهودية" عبر الصِدام مع الفلسطينيين مما ينتج نتائج عكسية لا تخدم الطرفين.

4-  السعي من أجل تحويل التمثيل الدبلوماسي الدولي والشرعية الإجتماعية-السياسية أمام الدول، ولاسيما بريطانيا دولة الإنتداب وقتها في الأراضي الفلسطينية، والمنظمات الدولية الى صالح تيار الحريدية، وإثبات أن الأخير هو الممثل الحقيقي لليهود وعقائدهم وتجمعاتهم.

5-  الدعوة الى أهمية قراءة التأريخ اليهودي عبر الاستفادة من إشكالية العقيدة اليهودية وقضية أرض الميعاد بطريقة أكثر قدرة على التعايش مع الاخرين، بخلاف النظرة الصهيونية الابتسارية القائمة على الفتك والإبادة والإقصاء، كما أنه اعتقد ان من الضروري العمل على الاستفادة من التأمل في التأريخ اليهودي عبر عدم تحويل المأساة الخاصة باليهود الى مأساة متعلقة بشعب آخر، أي الشعب الفلسطيني، من هنا كان دي هان يرى أن معالجة المشكلة/المسألة اليهودية يجب أن لا تتم بتسبيب مشكلة أخرى.

***

د. محمد هاشم البطاط

.....................

المصادر:

(1) The Multiple lives of Jacob Isreal de Haan, Karene Sanchez Summerer and others, 1st  Edition , University of Groningen Press, Netherlands, 2024, p15 and after.

(2)Ibid p22

(3) محمد حسين الشيخ، يعقوب اسرائيل دي هان، اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فإغتاله الصهاينة، على الانترنت: www.noonpost.com

(4) المصدر السابق.

(5)Muhammed Asad, The road to Makkah,Rreprinted Edition, Islamic Book Service, New Delhi 2004, p99.

(6) هناك أكثر من إتجاه داخل التيار الحريدي اليهودي، منها ما يرفض الانخراط بالمطلق في العمل السياسي داخل النظام السياسي للكيان الصهيوني، ومنها ما يقبل بالمشاركة السياسية المشروطة، أي في المجالات التي لا تتعارض مع المرتكزات العقائدية والتعليمات الدينية التي تتبناها الحريدية. اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فاغتاله الصهاينة

 

حدث ان وقعت الانقلابيه الالية افتتاحا في موضع بعينه من المعمورة، ميزته بين صنف المجتمعية الذي هو منه، انه الاعلى ديناميه بحكم "ازدواجيته" الطبقية غير المدركة في حينه، وقد صارت مدركة بفعل الانقلابية الاليه، مع ماكان سيرافقها من توهمات تعميمية من نوع افتراض "طبقية" المجتمعات كافة، الامر المجافي لابسط الحقائق مع اشتمال المجتمعات  تشكلاعلى " مجتمعات اللادولة" كما في امريكا قبل الغزوالاوربي، وامريكا اللاتينيه، وبعض من افريقيا واسيا، عدا الجزيرة العربيه واستراليا، هذا مع مجتمعات الدولة والتي منها الطبقية اعلاها ديناميات، مقابل الاعرق الاضعف ديناميات، النيليه، وصولا للاهم الاصل والبدء "الازدواجي المجتمعي" الرافديني، حيث الدورات والانقطاعات هي الناظم كقانون للعملة التاريخيه ومساراتها الذاهبه نحو "اللاارضوية"، غرض ومنطوى العملية المجتمعية "العقلي"، وليس الشيوعية كما قررت الطبقية في حينه، باعتبارها النموذج الازدواجي الاصطراعي التفاعلي الادنى، والتمهيدي الانتقالي.

 ليس الانقلاب الالي تحول من اليدوية الى الاليه، فالاله هي دالة انقلاب مجتمعي يحل على النوع المجتمعي من الصيغة والحالة التفاعلية اليدوية  الارضوية الجسدية الحاجاتيه، الى الصيغه الغرض والهدف الكامن في التفاعلية المجتمعية العقلية، وهنا تاخذ الالة موقعها كوسيلة تقتضيها ضرورة تاريخيه مصممة ضمن المسار المجتمعي، تلعب هي وشكل التفاعل الذي ينتج عنها ابتداء في الموضع الذي تنبثق ضمنه، دول العتبه الضرورية لتحفيز العملية التحولية الانقلابيه الكبرى، تدخل ضمنها كل التوهمات والاعتقادات الابتدائية المجتمعية والتصورية، مع النموذجية الكيانوية، السائرةعمليا وواقعا الى الانتفاء وانتهاء الصلاحية بناء لفعل الاله.

  وهنا يتمثل موقع القفزة العقلية الضرورية المواكبه والموافقه للحقيقة الانتقاليه، وفي حين تكون الرؤية الاولى الارضوية الطبقية معنية بمقاربة المسالة الاجتماعية من منظورها المحدود بحدود ارضويتها وجسديتها، فانها تعيش طورا من التفاعلية الناقصة الشامله للمعمورة  تتحور معها الوسيلة الانتاجية مبتعدة عن اليدوية تكنولوجيا،  وتتراكم المسببات  والعناصر المحفزة للنطقية العليا، الدالة على اللحظة التاريخيه،  فاذا بالمسالة الاجتماعية ليست تعرفا على  الطبقات وصراعها، وكونها معطى ماثلا للقراءة والبحث، بل كشفا للنقاب عن الحقيقة  الغائبة المضيعة على مر التاريخ المجتمعي بفعل القصورية العقلية النوعيه، لنغدو بازاء حقيقة الازدواج العليا الاساس بين " مجتمعية لاارضوية" مقابل " مجتمعية ارضوية" هي مجتمعية الانتاجية اليدوية، الموصوله بالمكونات الحيوانيه الحاجاتيه الجسدية.

  وليس مايشار له اعلاه بخال من الاحتمالات المتعدية لمجرد التوهم والضلاله العادية، او بلا مترتبات خطرة يمكن ان تكون كبرى، تقع على كاهل الوجود البشري وممكنات الاستمرار البشري الحي، بالاخص بسب التفارقية بين الممكنات العقلية البدائية بالاخص المجتمعية، مع الادعائية " العلمية" و "الاطلاقيه"، وعلى وجه التعيين بالذات اثر الاله في الكينونه المجتمعية،  ومايؤدي له حضورها من انقلابيه تفاعليه، من ( الكائن البشري/ البيئة) بالدرجة الاساس الى ( الكائن البشري / متبقيات عمل البيئة/ الاله) النافية لكل مكونات المجتمعية  السابقه، ومنها " الطبقية"، باعتبارها ظاهرة يدوية بيئية، مع بقاء العقل الارضوي الطبقي مصرا على اعتماد الثوابت اليدوية في النظر المجتمعي، ومايتولد عن السيرورة الاليه التكنولوجية من تفارق بين طبيعة وسيلة الانتاج "التكنولوجيا العليا العقلية" مابعد الانتاجية الحاجاتيه، ومايعتبر على انه مجتمعية هي من المتبقيات الخيالية النكوصية، عن مجتمعية ماعاد لها من وجود فعلي، وماعادت قابلة للاستمرار، ما يضع اجمالي المجتمعات، اما محال اضطرابيه  خارج الوصف بناء للمعتمد من مقاييس، ما يجعل من الانتفاضة العقلية العظمى المنتظرة، عملية مزدوجه الاثر ،مابين الانقاذ من الفناء، وضمان الاستمرار وفقا لمقتضيات الطبيعة والوجود الذاهبة الى "المجتمعية العقلية".

  وليست منطقة الشرق المتوسطي، موضع اللاارضوية التاريخي الاصل، ولن تكون خارج سياقات واحكام العملية التاريخيه الذاهبه الى مابعد ارضوية جسدية، فالمجتمعات الشرقية والغربيه  خارجها، تمارس رضوخا لاحكام الاليات المجتمعية ومبتغياتها، الانصبابية على الشرق الاوسط، كما فعلت روما ومقابلها فارس، ليتلقيا في الحصيله عملية اختراقية مضادة لااارضوية، تجلت في البداية في  "الابراهيمه" الباقية فعالة  الى اليوم، دالة صارخة على الازدواج المجتمعي، من التعبيرية المجتمعية اللاارضوية بصيغتها الاولى الحدسية النبوية بلا ارض ولا كيانيه، وهو مالا تتبينه اطلاقا الارضوية، وخصوصا اليوم مع الاله وفعلها وعودتها الثانيه للانصباب هذه المرة من ضمن عمله انتشار وغلبة عامه كوكبيه، لتوجد كما في الانصباب الاول الاسباب والدوافع الضرورية لانبثاق الرؤية الكونية العظمى المنتظرة، المؤجله بصيغة اللاارضوية "العلّية" كابراهيمة ثانيه،  فعلها الراهن انقلابي تحولي مجتمعي بالقياس الى الاول الاصطراعي في زمن الغلبة الكلية للارضوية، مع مكان من  الافتقار  الكلي للوسيله المادية التحوليه.

 تاتي الرؤية الكونية اللاارضوية لتلتقط الصيغه العليا من الاله "التكنولوجيا العقلية"، لنصبح امام انقلاب اعقالي ظل غير متحقق، ولا بالامكان الاقتراب منه، لنتعرف على "الانقلاب المجتمعي العقلي" مضمر واساس الوجود المجتمعي، وغايته، باعتبار الكائن البشري "الانسايوان" حالة انتقال بين الحيوان و "الانسان/ العقل"، المتخلص من متبقيات الحيوانيه، ليتراجع ساعتها حضور وفعل المحطة الاولى من الانتقالية المجتمعية، مع توهماتها الاليه ومايصدر عنها من ممكنات ابتدائية محدودة  بحدود  وسقف الارضوية، وبالاساس من اسباغ للدلالة والمعنى المترتب على ظهور الاله، مع رسوخه الشائع بغض النظر عن محدوديه ولاانطباقه على اللحظة ومنطوياتها.

 لاوجود لمايعرف ب "علم الاجتماع" بالصيغة والشكل المتعارف عليه حتى اليوم، فالمطلوب معرفيا وبحسب مقتضيات اللحظة التاريخيه  وضرورتها، هو البحث في النوع المجتمعي، وتعدي الاكتشاف الاولي" للطبقات" الذي كان هو الاخر خارج الادراك حتى القرن التاسع عشر، ذهابا الى "الازدواج المجتمعي" ومترتباته، والاليات التي تنتظمه، وغرضيته القريبه من التحقق، بعد طول الزمن المنقضي مع القصورية العقلية البشرية المستمرة اليوم، والتي ظلت عاجزة عن اكتشاف حقيقة الظاهرة المجتمعية، ومقاصدها، والقوانين التي تحكم سيرورتها التاريخيه، الامر الذي شوه عند اللزوم وفي اللحظة المقررة، طبيعة الحدث التحولي الانقلابي الحاصل وتسميته.

***

عبد الأمير الركابي

ما يحدث في غزة من قصف وتجويع وإبادة جماعية على غرار الشعوب الأخرى التي تعاني من الفقر والمجاعة والتي تعيس اللاإستقرار سياسي وعسكري ومذهبي، يعيد النقاش حول الأمن الغذائي إلى السطح من طرف الخبراء والباحثين في الأمن الغذائي، والبحث عن سبل وآليات لضمان حق  الشعوب في الأمن والاستقرار وتحقيق اكتفائها الذاتي وحمايتها من سوء التغذية والأمراض المعدية، وإعطائها القدرة على الصمود والبقاء، ولذلك نجد خبراء في الأمن الغذائي يعكفون على وضع صورة واقعية لما تعانيه الشعوب من ظاهرة المجاعة، وبخاصة ساكنة غزة وأطفالها الذين يموتون بالعشرات يومية بسبب الجوع وما يقوم به الكيان لمنع عنهم الحصول على المواد الغذائية، من خلال عقد الملتقيات والمؤتمرات لتحسيس القوى العظمى بخطورة الوضع على كل المستويات النفسية والاجتماعية والاقتصادية،  فقد بات السؤال مطروحا بأشكال مختلفة لمعرفة كيف تؤثر الحروب العسكرية على الأمن الغذائي؟  وماهي نتائجها؟ والحلول التي من شأنها إنقاذ البشرية من خطر المجاعة، فهناك عوامل كثيرة تؤثر على المحصول الزراعي، كالتغيرات المناخية التي تؤثر على الأمن الغذائي، عندما ترتفع درجات الحرارة وتتغير نسبة سقوط الأمطار، فتتعرض المحاصيل إلى التعفن ومن ثم التلف، وأحيانا يجد الفلاح صعوبة في مواجهة الجفاف، عندما تنخفض نسبة تساقط الأمطار، ناهيك عن الأمراض التي تصيب المحاصيل، في حالة انعدام العناية والمتابعة المستمرة في حمايتها، مع ضرورة ترقية السقي الفلاحي وتطويره.

  هي أسئلة طرحها خبراء اقتصاديون تتعلق بالأمن الغذائي في منظومة الأمن القومي وقضايا عديدة تتعلق بالزراعة التي تعتبر المورد الأول لضمان الأمن الغذائي، وتطوير القطاع في ظل التطور التكنولوجي  وظهور الذكاء الاصطناعي، والذي  من خلاله أصبحت  الزراعة الذكية خيارا استراتيجيا لتحقيق الأمن الغذائي، فالحروب العسكرية سبب رئيسي في تدهور القطاع الزراعي، ويتجلى ذلك في عدة عوامل، أهمها إجبار الفلاح على ترك أرضه، مما ينجم عنها إتلاف المحاصيل وتعديل الدورة الزراعية وتعرض الماشية للهلاك والموت لانعدام المصدر الغذائي لها، فالحروب العسكرية  وحتى الحروب الأهلية|، فالنزاعات الداخلية بين النظام والمعارضة المسلحة  تؤدي بالضرورة إلى تدمير القدرة على إنتاج الغذاء وتوزيعه، مما يعرض أعدادًا كبيرة من الناس لخطر  الموت بسبب المجاعة، فهذه الحروب تضع الحكومات والأنظمة على المحك لما تسجله من خسائر مادية وبشرية.

 يقول الأستاذ  سعيد بودينار باحث في الأمن الغذائي من عاصمة الغرب وهران الجزائر  أن الغرض من الحروب العسكرية تدمير قدرات الدول وإرغامها على الركوع، بداية من زعزعة الاستقرار بتواطؤ الجهلة والخونة، وهذه العمليات تنفذ  بخطوات بطيئة وبتحريض داخلي، وهذه الصورة  حسب المعطيات الحديثة انعكست في شقين، الأول هو أن الأمن الغذائي يلعب دورا محوريا في الغذاء القومية من خلال تحقيق الاستقرار للمجتمع، ومنع الاضطرابات التي تهدد الأمن الوطني، تحقيق الاستقلال الاقتصادي، فالدولة التي تعتمد على الاستيراد من الخارج،  مثلما نراه في الجزائر  تعرض نفسها إلى الذوبان\ن وتكون تابعة، كما قد تتخذ إجراءات سلبية لا تتماشى مع التوجه الفكري وثقافة المجتمع،، وأضاف الأستاذ سعيد بودينار بالقول أن الأمن الغذائي وسيلة أساسية لحفاظ الدولة علي سيادتها، وهذا يمكنها من عدم اللجوء إلى الآخر وفرض عليها سيطرته، ويتساءل هذا الباحث وهو ناشط في المجتمع المدني، كيف لدولة ذات سيادة تسمح لعدو أجنبي دخول بلدها ، وهذا لا ينبغي ان يكون لكي لا تقع في أخطاء قد تعود عليها بالسلب والخسارة، وإن كانت الوسطية تحل بعض المشكلات لضمان الاستقرار والسلم، فهي أحيانا تؤدي إلى الخيانة،  مقدما الجزائر نموذجا وما تواجهه من تحديات على كل المستويات، ولذا يقول : كل واحد مطالب أن يكون في موقعه وفي مجاله، الجيش في مكانه والطبيب في مجاله وكذلك لمهندس والفلاح، مع مراعاة الجو الجيواستراتيجي للبلاد والتهديدات التي تواجهها،  ما يجعلها عرضة للخطر، ومحل أطماع بعض الدول في فرض هيمنتها، وهذا بسبب ما تملكه من رصيد تاريخي وثوري تستخلص منه العبر لإرساء دول قوية .

من جانب آخر أصبح استخدام الزراعة الذكية مطلب ضروري، ذلك باستخدام التكنولوجية  الحديثة والذكاء الاصطناعي، لترقية المحصول الزراعي وزيادة  كفاءة المردود، وهو ما أشار إليه الدكتور قادة عبد المالك خبير فلاحي من مدينة مستغانم  (غرب البلاد) وباعتبارها رهان المستقبل  قال أنها خيار استراتيجي  في اقتصاد أي دولة لتحقيق الأمن الغذائي، هناك مقترحات يمكن أن تفعل في الميدان لضمان الأمن الغذائي للشعوب منها إنشاء بنك للجينات البقولية، إنشاء وحدات تحويل الوحدات الزراعية وتبادل الخبرات بين الوزارات والمنظمات العربية المختصة في المجال الغذائي، تعزيز، الاستغلال العقلاني للمكننة في الاستعمال الزراعي،  إعادة تأهيل النظم البيئية، إنشاء مشاتل رعوية وحقول لتحسين الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات،  مع تحسين كذلك السلالات  الحيوانية ( الماشية) لتحسين الأمن الغذائي والدخل القومي للبلدان، وضع رؤية واضحة لتفعيل المشاريع الموجودة أولها الترتيبات المؤسساتية  وفي مقدمتها التمويل والذي يشكل حاجزا مانعا لتجسيد المشاريع التنموية.

***

علجية عيش

يحتل منجز "علم الاجتماع/ اخر العلوم" موقعا إستثنائيا بين اجمالي المتحقق بفعل الانقلابيه الاليه الحاصله في الغرب الاوربي في المجال المعرفي والتصوري، وهنا يتمثل الانقلاب الاهم في الرؤية الوجودية المجتمعية، بتحول الظاهرة المجتمعية الى معطيات تفاعليه محدده، وصلت في واحده من اهم النظريات الاجتماعية لحد افتراض قانون  وحتميه ناظمة  للوجود المجتمعي، خاضعه لمقتضيات و " ديالكتيك" لها نهايات مقرره مسبقا، لدرجه اغرت بالقول بان المجتمعات غدت الان موضوعا للتغيير الواعي من قبل الكائن البشري، بعدما كان البشر يمارسون  الوصف ويقفون عنده.

ومثل اغلب المتحقق الحداثي الغربي المعاصر الالي، فلقد احتاز الجانب المشار اليه مايقارب الحقيقة النهائية، ان لم تكن المطلقة من منطلق توفره الاصل على التمثلية المجتمعية على مستوى المعمورة بحكم الاعتقادية الغالبة عن "الاحادية المجتمعية"، مع مترتباتها رؤية وحضورا وفعالية تاريخيه، ماقد حصر الانقلاب الالي وصيغته الاولى المصنعية، بالمكان الذي انبثق فيه باعتباره منجزا استثنائيا، ماكان بالامكان عدم اعتباره متحققا "ذاتيا" من دون  اثر براني محتمل، الامر الذي كان يستبعد كليا النظر فيه او محاولة تقصي احتمالاته.

والامر الاخطر في السردية الحداثية الغربيه المعاصرة، انها تفرض مايمكن اعتباره تتابعية تاريخيه "مراحلية" بمنظور آني نهائي ، بما يعني كون الحاصل عند ابتداء الانقلاب الالي  انما هو اجمالي وكلي، من دون اي افتراض لاحتمالية سيرورة لاحقة اكتماليه،  ربما تكون متعدية لاشتراطات الالة، الامر الذي يمكن ارجاعه الى وقوع العقل الغربي ساعتها تحت طائلة استمرارهيمنه  ومتبقيات المنظور والتجربة اليدوية، من دون اعتبار لاحتمالية الاختلاف النوعي المتوقع والمفترض، بما يمكن ان يجعل من الانتقال الالي المصنعي مجرد عتبه اولى سابقة على التحول التكنولوجي الانتاجي والعقلي اللاحق.

ومثل هذا التشوف ماكان ليرد في حينه تحت ثقل وتراكمات  العقل اليدوي  وبداهاته التبسيطية، وهو ماكان العقل الغربي محكوما به في حينه، بما ان معطيات النظر، والمكرس المعتاد كبداهة ماكانا يتيحان النظر الى ماهو غير حاصل، ولم تبد عليه دلائل في حينه، فكان ان تكرس الاعتقاد جزما بان العالم قد انتقل وقتها من "الطور اليدوي"، الى "الطور الالي" من دون تعيين ولا تحديد لدلالتهما المجتمعية، وترابط الاول اليدوي منهما بالجسدية الحاجاتيه، واحتمالية تمخض الثاني عن نوع مجتمعي آخر، عقلي لاجسدي كافتراض لم يكن مايبرره معدوما، الامر الذي يتطلب اصلا تعرفا غير وارد، ولا خطر على البال من قبل، بالازدواج المجتمعي، كما التكويني الذاتي البشري، وهو افتقاد لعنصر من شانه ان يقلب كليا المقاربة العقلية للحاصل.

وعند التدقيق يطالعنا جانب حيوي ظل هو الاخر غير معبر عن دلالته تمثل في الناحية العقلية من الانقلاب الالي المصنعي، والكل يعرف بان اهم جوانب الفعالية الغربية قد ارتبط بالقفزة " المعرفية"، وبالذات على صعيد الادراكية المجتمعية، فعلم الاجتماع الجاري الحديث عنه  كان ساعة ظهوره بمثابة اكتشاف نقص في الحضور العقلي الادراكي، والظاهرة الاهم والاكثر تجسيدا لهذا الجانب، ماخص المسالة "الطبقية" التي ظلت مطوية على مر التاريخ، والى القرن التاسع عشر، ليتولد مع اكتشافها والتعرف عليها ادراك غير مسبوق للفعالية والوجود المجتمعيين، وصل حد القانون واكتشاف الغاية الوجودية الاعلى الناظمه للعملية التاريخيه المجتمعية.

وبالبحث فاننا لن نجد في المقاربات الغربيه في حينه انتباها لناحية بعينها، جرى التعامل معها كمنجز كبير آني هو مايجب وضعه بباب اساس ضمن العملية التاريخيه، مفادها الموقع او الوزن الذي تحتله المسالة الادراكية العقلية ضمن العملية المجتمعية التاريخيه، وهو ماقد جرى هنا رهنه للمسالة المادية، الاليه والطبقية  وتحولاتهما على انها المصدر الذي اليه يعود الانتقال في مستوى الاعقال والادراكية، هذا مع العلم بان الانتقال الادراكي الحاصل قد وفر للبعض، والاهم من بينهم، القول ببدء طور الفعل الواعي التدخلي البشري في العملية المجتمعية، الامر الذي يحسم حقيقة كون الوعي وتحولاته، والادراكية العقلية هي عنصر" مادي" في العملية المجتمعية وسيرورتها.

هذا يعني في المبتدأكسرا لازما للقاعدة التاسيسيه المفترضة عن الظاهرة المجتمعية باعتبارها (التجمع + انتاج الغذاء)، لانها في الحقيقة (التجمع + انتاج الغذاء يدويا+ الفعل البيئي + الادراكية العقلية)، والعنصر الاخير ليس جانبا عرضيا ولا ثانويا، فلا انتقال الى المجتمعات، من دون توفر الحد اللازم من الادراكية الحياتيه، مع مايترتب عليها وينتج عنها من اعقال اجمالي للوجود، ليس واردا استمرار العملية المجتمعية من دونه، ومن دون تفاعليته الايجابيه الحيوية ضمن العملية الاجتماعية.

لماذا صمت الغرب بازاء ظاهرة هامه وكبرى من نوع  الانقلاب الادراكي المتولد والناتج عن الانتقال الالي وماتبعه وتمخض عنه،  وهو ماقد طبع الانتقال الغربي وقرر حضوره الاستثنائي باعتبارها ظاهرة منفصله عما سواها من جوانب نموذجية، واشكال ممارسة، ومختلف وجوه ماعرف بالتطور، ظاهرة استقلالها لايحتاج الى الكثير من البحث عنه وعن اثره غير العادي في المجمل من العملية الانتقالية الحاصلة افتراضا. الامر هنا ولاشك عائد الى ذات الاشكالية العقلية، ومتبقيات قصوريتها التاريخيه، وهي دالة على ان حدث الانقلاب الالي بالاجمال، وجد غير مكتمل  على المستوى العقلي الادراكي، وان الجانب الهام من الانتقالية الاليه مابعد اليدوية على الصعيد العقلي، بما يعنيه من خروج من العقل اليدوي ومترتباته، مازال لم يكتمل وقتها، هذا اذا اعتبرنا عملية الانتقال ليست طبقية صرفه، ولاهي تغيرات في  وسائل الانتاج او نماذج  الكيانيات والسلطه، واعتبرنا ان لليدوية ومجتمعياتها ادراكيتها، وللالية ادراكيتها المختلفة والتي تبدا بالظهور الابتدائي والفصل الريادي منها في الغرب الاوربي مع انبثاق الالة، بانتظار اكتمال العملية الانتقالية، وتوفر عناصرها او عنصرها الاهم الذي يمكن اعتباره هو الانقلابيه التاريخيه الجارية اليوم، والذي لاانتقال تحولي مكتمل الى الطور العقلي مكان اليدوي الجسدي من دونه.

***

عبد الأمير الركابي

قُتلت طالبة الثانوية العامة العدنيّة لينا مصطفى عبد الخالق، ابنة وزير العدل ورئيس المحكمة العليا بعدن، قبل الوحدة اليمنيّة (1990)، ومسؤول منظمة الحزب الاشتراكي اليمني بصنعاء بعد الوحدة. قُتلت، بعد ثلاث وثلاثين سنة، الطبيبة النفسية البصريّة بان زياد طارق بالبصرة. اضطربت عدن في فجر التاسع والعشرين مِن كانون الثاني/ يناير 1992. النساء العدنيات نزلن إلى الشوارع متظاهرات احتجاجاً على الجريمة، وفي الرابع من آب/ أغسطس 2025 اضطربت البَصرة، بنزول التظاهرات الجامحة التي همّت العراق وخارجه، احتجاجاً على الجريمة، والبصريات تقدّمنَ الاحتجاج، وبرامج الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي، واتهمن بأقذر الاتّهام. كان الجامع بين الجريمتين أنهما مِن كواذب الانتحار، وأقول كواذب لأنّ القتل كان مؤكداً؛ فالمحاكم في اليمن تديرها السياسة، وعضو هيئة الرئاسة والقيادي في الإخوان المسلمين، عبد المجيد الزنداني (2024)، كان متورّطاً، فلينا عبد الخالق قُتلت برصاصة مسدّس ابنته، هاربةً مِن داره، بعدما تركت أهلها بإغراء الجماعات الإسلاميّة، وتنقبت نقابها، ثم تراجعت، وهربت مِن زواج دُبّر لها بأحد مشايخهم، وأرادوا إتمام العقد عبر التلفون مع والدها دون الإفصاح عن اسم "الشيخ" الذي سيتزوّج لينا الجميلة. سمعتُ من والدها في مجلس ضمّنا في إدارة صحيفة "صوت العُمال"، التي أُحرقت عند اجتياح قوات علي عبد الله صالح ومشايخ الإخوان المسلمين لعدن (صيف 1994): - أعرف الأب حقّ المعرفة وكانت هي إحدى طالباتنا في ثانوية الجلاء بعدن - أن الرصاصة اخترقت جسدها مِن جهة الظهر، وخفاها متباعدان خلفها، ما يعطي تصوّراً أنها كانت هاربة وهناك من يطاردها. هكذا تكلم الأب. فكيف يطلق المنتحر الرصاص على نفسه مِن الخلف، وخفّاه (نعلاه) خلفه. كانت صحيفة "صوت العمال" في عدن تنشر أخبار الجريمة، وسمعتُ من والدها أن جماعة الزنداني طلبوا حلّ الموضوع بالمراضاة، لكنه رفض، وظلت ابنته شهوراً في ثلاجة الموتى رافضاً دفنها، حتّى يُقاد القاتل بها، لكنَّ العدل كان بيد القاتل نفسه. في المقابل ظهر للعيان أنَّ الطَّبيبة بان تشوّه جسدها، وشُقّ عضدها بسكين، وظهرت على وجهها الكدمات، وخُطّ على باب غرفتها، عبارة "أريد الله" بدمها، على أنها انتحرت وكتبت العبارة بريشتها. أقول: كيف لمن ينتحر تشويه جسده، وينهض، وهو ينزف، ويكتب عبارة "أريد الله" وبدمه؛ لكن الأصل، كان الانتحار المزعوم مرتبطاً بموقف الطبيبة من التقرير الطبّي الذي يخصّ أحد القتلة، وقد رفضت التوقيع على تشخيصه بالمختل عقلياً، وكان القاتل يخصّ حيتان السياسة الشوهاء. غير أنّ العدالة، مثلما كانت في اليمن فهي في العراق مسيّسة، أخذت بتقرير مزيّف، ولم تترك للتحقيق فترة كافية، فإن كانت لينا العدنيّة تأجّل إنزال الستارة على قتلها لإصرار والدها، ولم تُدفن إلا بعد شهور، فبان البصريّة عجّل القضاء بدفنها، والمبدأ: "دفن القتيل إكراماً للقاتل". أعلن اليمن عن الديموقراطية بأحط صورها، فعندما سُئل البصير عبد الله البردوني (تـ: 1999) عنها أجاب: "الغيبة حرام"؛ وراح دم لينا مهدوراً في ظلها، فالديموقراطية نفسها تعمّ العراق اليوم، وأعضاء في البرلمان حسموا أمر بان البصريّة على أنها انتحرت، بعد نصف ساعة مِن موتها، وسمعت المسؤولين المتحالفين مستبشرين بقرار القضاء: تسجيل الجريمة باسم القتيلة نفسها، ودُفنت بان، وسر التقرير الذي رفضت تمريره، والقاضي بجنون قاتل أكاديمية مِن زميلاته. قُتل كثيرون في سجون الدكتاتوريات، وأُعلن عن انتحارهم، لكنَّ أولئك لم يدّعوا الديموقراطية، ذلك المبدأ العظيم، وقد شوّهته دماء لينا في اليمن وبان في العراق، مع فارق زمني هو عُمر الطبيبة بان زياد (1991-2025). كان الادعاء بانتحار الشابة الطالبة الواعدة الوادعة، قبل التغرير بها مِن قِبل حزب وتنظيم الزنداني، فضيحة كبرى في السياسة، بعد قرار القضاء إقفال القضيّة، والبقاء على الزنداني يقود الجموع إلى حتفها، مبشراً بالخلافة الإسلاميّة. في المقابل كان ادعاء انتحار بان البصريّة مثلبة كبرى في السياسة والقضاء العراقيين، في زمن "الديموقراطية"، ففيه تُعقد الصفقات، وتُستر عظائم الفساد، الفساد حتى بمفردة "الله"، فالذي خط العبارة "أريد الله" بدم بان، أقحم الله في جريمته، حتّى جعله وسيلة في فساده، الشبيه بفساد الزنداني بالدين، وبدماء الشابتين زاد تلوّث العدالة في بلديهما.

***

د. رشيد الخيّون

الجزء الأول: الجذور والتأسيس: من الخمسينات حتى السبعينات

هذا المقال هو الجزء الأول من سلسلة من خمسة أجزاء حول الإسلام السياسي والإخوان المسلمين، ستُنشر تباعًا في هذا المنبر أسبوعيًا، وهي كتجليات تمهيدية لكتاب يحمل العنوان نفسه، فرغت من تأليفه، وهو الآن في مرحلة التصحيح الأخيرة، على أعتاب النشر.

منذ أن أطلق حسن البنّا مشروعه في مدينة الإسماعيلية سنة ١٩٢٨، كان واضحًا أن الحركة الوليدة ليست مجرد جمعية دعوية كما بدت في البداية، بل مشروع أيديولوجي يسعى لتفكيك العالم وإعادة تركيبه تحت راية شعارات تبدو بريئة في ظاهرها، خطيرة في باطنها. لم يكن البنّا رجل دين تقليديًا؛ كان سياسيًا مُقنّعًا بثوب الوعظ، عارفًا أن الدين حين يُسخَّر كأداة للسلطة يصبح أقوى من أي سلاح. ومع نهاية الأربعينات، اغتيل البنّا في القاهرة سنة ١٩٤٩، في حادث ظلّ حتى اليوم محاطًا بالالتباسات، لكنه كشف منذ وقت مبكر أن الجماعة تحيا بالعنف وتموت بالعنف.

لم يكن “النظام الخاص” عند الإخوان مجرد جهاز أمني موازٍ، بل كان البنية الحقيقية التي تدير الحركة من وراء الواجهة الدعوية: خلايا صغيرة، أقسام للتدريب والتمويل والتسليح، وأذرع خيرية تُعيد إنتاج الشرعية الاجتماعية عبر الإغاثة والتعليم. تلك الازدواجية بين الدعوة والتنظيم السرّي منحت الجماعة قدرة على المناورة والتخفي، وسمحت لها بأن تبدو كجماعة وعظٍ وهي تدير في الخفاء ماكينة تعبئة صارمة.

في الخمسينات، دخلت المنطقة العربية مرحلة التحولات الكبرى: انهيار الاستعمار المباشر، صعود القومية العربية بقيادة جمال عبد الناصر، وانطلاق حركات التحرر في أفريقيا وآسيا.

في هذا السياق، ظهر الإخوان كقوة معارضة شرسة لكل مشروع وطني علماني أو اشتراكي. وحين حاول ناصر أن يستوعبهم في ثورته سنة ١٩٥٢، أدرك سريعًا أنهم ليسوا حلفاء يمكن الوثوق بهم. فمحاولة اغتياله في ميدان المنشية بالإسكندرية سنة ١٩٥٤ لم تكن حادثًا عابرًا؛ كانت إعلانًا بأن الجماعة ترى العنف وسيلة شرعية لتصفية الخصوم.

من تلك اللحظة، انفتحت أبواب السجون والمشانق: قادة الإخوان وكتّابهم حوكموا، وزُجّ ببعضهم في السجون، وبعضهم أُعدم (مثل سيد قطب سنة ١٩٦٦)، وآخرون هاجروا إلى الخليج، حيث وجدوا بيئة مواتية لإعادة بناء خطابهم تحت مظلة المال النفطي والرعاية الغربية التي رأت فيهم سدًّا ضد المدّ القومي واليساري.

ومن ثم فإن الصدام مع دولة يوليو لم يكن حادثًا معزولًا، بل لحظة تكشف جدلية عميقة: الشمولية القومية تُنجب شمولية دينية مضادة، وكل منهما يستثمر الخوف العام لإعادة هندسة المجتمع.

السجون صارت معسكرات لتصلّب الهوية، والهجرة إلى الخليج وأوروبا تحوّلت إلى شبكة بعيدة عن الرقابة تُعيد تدوير الكوادر والخطاب والمال.

سيد قطب، الرجل الذي تحوّل في السجن من أديب إلى أيقونة تكفيرية، صاغ في كتاباته “معالم في الطريق” (١٩٦٤) مفردات جديدة للقتل باسم الدين: الجاهلية، الحاكمية، الفئة الناجية، وضرورة “المفاصلة” مع المجتمع. لم يكن قطب مجرد مُنظّر؛ بل كان صانعًا لوعي مأزوم، ولغة تشرعن الاغتيال باعتباره تطهيرًا. ومن هنا يمكن فهم كيف تحوّل الخطاب الإخواني من دعوة إصلاحية إلى مشروع راديكالي مسلّح.

إن التحليل النفسي لشخصية قطب يكشف أن الرجل حمل عقدة مركزية: رفض العالم كما هو، ورغبة في تدميره بالكامل ليُعاد خلقه وفق تصور أحادي.

إنها شخصية مهووسة بالمطلق، عاجزة عن التفاوض مع الواقع، ترى في الاختلاف تهديدًا وفي التنوع خطيئة.

لغة قطب لا تشتغل على البرهان السياسي بقدر ما تشتغل على الحسم الأخلاقي: تأثيم العالم وامتياز “الفئة الطاهرة”. لذلك اجتذبت نصوصه طلابًا متعلمين رأوا في الثنائيات الصارمة خلاصًا من تعقيد العصر. ومع غياب الوسطاء الدينيين التقليديين، صارت القراءة الفردية للكتب بمثابة “فتوى شخصية” تقود إلى فعل جمعي متشدد.

في هذه المرحلة، لم يقتصر العنف على مصر. ففي سوريا مثلًا، خاض الإخوان منذ الستينات مواجهة دامية مع نظام البعث، وشهدت مدينة حماة اضطرابات متكررة، انتهت في السبعينات بصدامات أكثر عنفًا. وفي الأردن، نجحوا في التغلغل عبر التعليم والنقابات، فيما اتجهت فروعهم في السودان نحو بناء تحالفات سرية مع الجيش. هناك تحديدًا، ستولد لاحقًا الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي، التي ستصبح نسخة أكثر وقاحة من المشروع الأم، حيث سيُدار الدين كغطاء لانقلاب عسكري وحكم دموي.

وما بين الجامعات والمساجد والنقابات، تشكّلت “بيداغوجيا الكادر”: محاضرات داخلية، معسكرات دعوية، حلقات قراءة، وميزانيات للطلبة الفقراء.

غاية هذه التربية ليست المعرفة بقدر ما هي صناعة الانضباط؛ أي تحويل الفرد إلى ترس مطيع يرى في التنظيم معنى وجوده وامتداده في العالم.

بين الخمسينات والسبعينات، أخذ التنظيم العالمي للإخوان يتشكل بصورة أوضح: مؤتمرات تُعقد في أوروبا (ميونخ، جنيف، لندن)، علاقات مع الجماعة الإسلامية في باكستان، واتصالات غير معلنة مع أجهزة غربية رأت في الإسلاميين أداة لوقف المد الشيوعي. ولعلّ المفارقة أن حركة رفعت شعار “الإسلام هو الحل” لم تتردّد في التحالف مع من سمّتهم “أعداء الأمة” إذا خدم ذلك مصالحها. هذا ما يعرف في علم النفس الاجتماعي “ازدواج المعايير الإدراكي” أو Cognitive Dissonance: أن يعيش الفرد أو الجماعة تناقضًا صارخًا بين ما يؤمن به وما يفعله، ثم يبرر ذلك بخطاب لاهوتي يُعيد إنتاج الطاعة العمياء.

في السودان، بدأت نواة الإخوان منذ الخمسينات مع الطلاب العائدين من مصر، لكن البيئة السودانية – بطبيعتها الصوفية والمتعددة – لم تكن أرضًا خصبة للفكر الإقصائي. لذلك لجأ الإخوان إلى استراتيجيات أكثر مكيافيلية: اختراق الجامعات، السيطرة على اتحادات الطلاب، استقطاب العسكريين، وبناء جهاز سرّي مسلّح. وقد برزت أسماء مثل الرشيد الطاهر، حسن الترابي. كانوا يتعلمون من تجربة مصر، ويحاولون نقل “النموذج القطبي” إلى الخرطوم، مع تكييفه للسياق المحلي. ومع نهاية السبعينات، سيصبح لهم اليد العليا، استعدادًا لانقلاب ١٩٨٩.

أما في السودان، فقد تعلّم الفرع المحلي أن يعيد صياغة قاموس الهوية بما يخدم التمكين: توظيف العروبة حينًا، والأسلمة حينًا آخر، وربطهما بتصوّر طبقي يعاقب الفقراء باسم “الأخلاق” ويكافئ الولاء بشبكات ريع وفرص. فتحوّلت المدارس والاتحادات الطلابية إلى معامل مفتوحة لإنتاج كوادر بيروقراطية وأمنية تتقدم لاحقًا إلى واجهة الدولة.

الاغتيالات خلال هذه المرحلة كانت جزءًا من البنية لا استثناءً. من النقراشي سنة ١٩٤٨، إلى محاولة اغتيال ناصر سنة ١٩٥٤، وصولًا إلى اغتيال المفكرين والخصوم في الخفاء، يظهر أن الجماعة عاشت على منطق الدم.

يقول المفكر السوري الطيب تيزيني إن “الإسلام السياسي لا يملك مشروعًا معرفيًا، بل يملك مشروعًا سلطويًا؛ وحين يعجز عن الإقناع يلجأ إلى الرصاص”. هذا القول يلخص المأساة: العنف ليس طارئًا عند الإخوان، بل جوهرٌ مكوّن لهويتهم السياسية.

من ثم يغدو العنف ليس مجرد أداة، بل لغة حكم: حين يُختزل الخصم في علامة وجودية “عدو الدين”، يصبح الجسد هدفًا مشروعًا. هكذا يتبدّل الخلاف الفكري إلى قضية أمنية، ويغدو المجال العام مسرحًا لاستعراض الطاعة والردع؛ حيث تُستخدم الأمثلة الدموية كدروس تربوية لتأديب المجتمع.

ويمكن النظر إلى الجماعة كتنظيم يقوم على ما يُعرف بـ “العقل الجمعي المغلق”: حيث يُعاد تشكيل الأفراد عبر التلقين، يُلغى التفكير النقدي، وتُزرع فيهم مشاعر الذنب والواجب المقدّس.

فالشخصية المتطرفة – كما تشير دراسات علم النفس السياسي – تميل إلى التفكير الثنائي: خير/شر، إيمان/كفر، نحن/هم. وهذا ما يجعلها قابلة دائمًا للعنف؛ لأنها ترى في الآخر تهديدًا وجوديًا لا يُحلّ إلا بالإزالة.

على المستوى النفسي، تتأسس الطاعة عبر آليتين متكاملتين: الذنب والتكليف. يُحمَّل العضو ذنب تقصيره تجاه “المشروع”، ثم يُمنح تكليفًا يطهّره بالعمل.

تتكرّر الطقوس: جلسة اعتراف، تجديد بيعة، مراجعة دفتر الواجبات الدعوية، فيجد الفرد نفسه داخل حلقة مغلقة تُعيد تعريف هويته كلما حاول الخروج.

في هذه الحقبة، لم تكن الجماعة معزولة؛ فقد بدأت خيوط علاقتها بجماعات أخرى بالظهور. في باكستان، تحالفت مع الجماعة الإسلامية بقيادة المودودي، الذي بدوره نظّر لمفهوم “الحاكمية” بشكل موازٍ لسيد قطب. في أفغانستان، ظهرت لاحقًا البذور الأولى للجهاد العالمي الذي ستحتضنه طالبان ثم القاعدة. كل ذلك يوضح أن الإخوان لم يكونوا حركة محلية، بل جزءًا من شبكة عابرة للحدود، تشترك في الخطاب والأهداف وإن اختلفت في الوسائل.

وهنا تطرح الأسئلة: هل كان يمكن للإخوان أن يسلكوا طريقًا آخر؟ أن يكونوا حزبًا سياسيًا محافظًا دون عنف؟ بعض المفكرين المسلمين المستنيرين، مثل فرج فودة في مصر، أجابوا بوضوح: لا. لأن بنية الجماعة قائمة على عقيدة شمولية، لا تقبل الفصل بين الدين والسياسة، ولا ترى الشرعية إلا في التمكين. لذلك فإن العنف ليس انحرافًا عن مسارها، بل نتيجة منطقية لأساسها الفكري.

إن النظر إلى الخمسينات حتى السبعينات يكشف لنا مرحلة التأسيس الحقيقية: بناء خطاب أيديولوجي قائم على التكفير، ممارسة العنف ضد الخصوم، إقامة شبكات تنظيمية عابرة للحدود، واستعداد دائم للتحالف مع القوى الدولية ضد الأعداء المحليين.

إنها مرحلة تكثيف كل عناصر ما سيأتي لاحقًا: من انقلاب البشير في السودان، إلى صعود حماس في فلسطين، إلى تمدد القاعدة وداعش في العالم. وكأن البذرة وُضعت هناك، ثم ظلّت تنبت أشكالًا مختلفة من نفس الشجرة السامّة.

“في الأسبوع المقبل، نواصل في الجزء الثاني: من الاغتيال إلى الانقلاب (١٩٧٠–١٩٩٠)، لنرى كيف تحوّل المشروع من تنظيم معارض إلى لاعب إقليمي يسعى إلى السلطة عبر الدم والانقلابات”.

***

إبراهيم برسي

على الطريق التوهمي الابتدائي الالي الغربي انتجت الانحطاطية الشرق متوسطية العربيه ماعرف ب"القومية العربية"، بدات اولا من دون منظور او مفهوم مقارب للنظري،  واكتسبت مع الوقت  موضوعات استدلال، اعتبرت مقبوله وتستحق ان تتحول الى مايشبه العقيدة، اهمها تلك التي رات في النهضة النبوية الختامية الكونية الاسلاميه المحمدية،  مرتكزا ايحائيا تشبهيا  بالحال الغربي الحالي، بحيث يتحول النبي محمد،  وبسفه تصوري صعب وصفه، الى غاريبالدي مع ضخامة الفارق الهائل بين الظاهرتين نوعا ومجال تحقق.

والاهم الدال على امية معتنقي مفهوم مثل "البعث"، انهم لم يحاولوا النظر في كون النبي محمد لم يوحد العرب اهل الجزيرة  بعد تفرق، وان المجال المعروف اليوم بالعربي، والذي يتحدث اللغة العربية وينتمي للتاريخ العربي، لم يكن عربيا. سوى ذلك فان الرسالة المحمدية قد تعدت المكان المشار اليه لتذهب الى الصين والهند، وعلى المنقلب  الغربي الى غرب اوربا، مع استمرارها وبقاء فعلها الى اليوم، وهنا يسقط ادعياء مايعرف بالقومية العربية نحو درك من الانحطاطية مادون الاميه، تعجز عن التمييز بين حركة كونية وتاخرية راهنه كيانوية  محدودة بحدود  بلدانها، ذلك مع الاخذ الواجب بالاعتبار ماضي الابراهيمه وفعلها في التاريخ، وفي اوربا نفسها قبل الاسلام، وهو ماقد ظل كذلك ومايزال حتى اليوم،  مخترقا الكينونه الاوربية والامريكية زعيمه الغرب  الحالية، حاضرا فيها  بغض النظر عن صعود مفاهيم "الوطنية" و"القومية" هناك، مقترنه وقتها بالانقلاب الالي.

مايثير التساؤل هو كيف يكون لبنيه تاريخيه بهذا الحجم والحضور التاريخي، ان تسقط تحت وطاة فكرة من غير جنسها، لم يسبق لها على مر الفترات والمراحل والقرون ان عرفتها الا كحال جزئي، من قبيل ذلك، الكياني المصري غير القابل للتعميم، والقاصر المشمول في نهاية المطاف بالمنظور المطابق للخاصيات الرئيسية للمنطقة، والمتعدي للاشكل الجزئية التي يتشكل منها المكان، مع هذا اعتبر مجيء شخص من خارج المكان بحركة دالة على القصور الكبير، ليصبح راس نموذجية وممثلا لما يسمونه "مرحله"، وهكذا اقترن "نهوض" العرب بظاهرة "محمد علي" الالباني، البرانيه والخالية من اية محركات ذاتيه غير دفع المثال الاوربي، علما بان الموضع الذي حدث فيه ماحدث وقتها  قد استمد  قوة حضوره من موقع الكيانيه المصرية الضخمه بغض النظر عن الفعالية، فمصر ايام الدورة الثانيه الاسلاميه وقعت مع الفتح العراقي الثاني تحت سلطة الفاطميين، الحركة العراقية التي ذهبت للمغرب العربي كفرع من  الاسماعيلية،قبل ان تاتي الى مصر، وهم من اقاموا الجامع الازهر الباقي مناظرا للاهرامات الى اللحظة الراهنه، وصلاح الدين الايوبي هو الاخر جاء من العراق في وقت متاخر.

بالمقابل عرفت حركة  الشريف حسين في الجزيرة العربيه من دون اي اساس سوى الاشتراطات الغربيه الطارئة، والتحفيزية  البريطانيه،  مع الاستناد الى متبقيات الايحائية الجزيرية وثورتها الكونية الكبرى المحمدية التي لاتمت لها باية صلة، وبالاجمال ومع مسارات ماقد عد من قبيل تبلورات المنطقة الشرق متوسطية الحديثة، فان جانبا حيويا مغفلا كان قد وجد وقتها بصيغة تشكلية معاصرة، ومن زاوية النظر الى تاريخ المنطقة وخضوعه لقانون الدورات والانقطاعات، وبالذات  في ارض مابين النهرين البؤرة الازدواجية الاصطراعية فان دورة ثالثة قد بدات هنا مع القرن السادس عشر، وانها هي  مؤشر الانقلابيه الحالة على المنطقة والمعمورة بعد انقضاء الطور اليدوي، مع انهيار الدورة الثانيه بصيغتها العباسية القرمطية الانتظارية، بعد ان انجزت المطلوب وحققت التحفيزية الضرورية للانقلاب الالي على المنقلب الاوربي "الطبقي"، بعد النهضة الاقتصادية العالمية التجارية الريعية وتغلغلها في المجال الاوربي، ماقد ولد منذ القرن الثاني عشر اسباب وآليات الانتقال الالي هناك.

وماتقدم يعني قلبا للمنظور "التاريخي"، وللاليات والقانون الذي يحكم الظاهرة المجتمعية، وبالذات على صعيد المركزية والانطواء على الغرضية، في حال كانت المجتمعات والكائن البشري محكوما وجودا لعملية  تشكل وسيرورة ذاهبة الى مقصد ونهاية، ماكان يفترض من الناحية الاقرب للعملية وقتها، التساؤل اذا كان الغرب بغض النظر عن كونه موضع افتتاح الانقلابيه الاليه، مهيأ كينونه وبنية للتطابق مع الغرضية النهائية المجتمعية ام لا، ذلك مع العلم ان الغرب ساعتها لم يتوقف دون مثل هذه الاشارة، فقرر كونه موضع وموئل الانقلاب الاعظم الطبقي الاشتراكي الشيوعي كنهاية وغاية مجتمعية مضمرة، محكومه لقانون الاصطراع الطبقي الذي اعتبر اعتباطا بمثابة خاصية مجتمعية شاملة للمعمورة.

وتبقى نظرية ماركس و" ماديته التاريخيه" النموذجية الغائية المجتمعية الاعلى ضمن المنظور المجتمعي "الارضوي" باعلى صيغه ودينامياته، مع قصوريته مقابل الحقيقة المجتمعية الكبرى والاساس غير المماط عنه اللثام، والذي يقول بان المجتمعات البشرية " لاارضوية"، وان الجانب الارضوي منها مؤقت وضرورة انتقالية لازمه فقط، على خطورتها الاستثنائية وماتنطوي عليه من دلالة انقلابيه عظمى، تظل الارضوية قاصرة عن التعرف على بعدها، فتقف دون حقيقتها المتعدية للماثل "العلمي" الملموساتي، البديهي ارضويا في حين تحال اللاارضوية بقوة القصورية الادراكية الى "الماوراء "، و "المتافيزيق" وهذا حظ الابراهيمة كمنظور كوني مجتمعي لاارضوي، وتعبيرية انقلابيه عظمى، بالاخص وتحديدا ابان تعاظم وغلبة التوهمية الارضوية "الحديثة"، بعد، وفي غمرة الانقلابيه الالية.

ذلك في الوقت الذي تكون فيه متبقيات التعبيرية اللاارضوية الكونية وقتها في حال انقطاع وترد على مستوى الاليات المحركة في ارضها، والعقل هنا في اسوأ مراحل تاريخه، بحيث من المستحيل تخيل توفره على الحد الادنى من الاعتقادية التعبيرية الثانيه، بعد تلك الحدسية النبوية الاولى وقد ان اوانها، وصارت حكما كونيا راهنا، هو الموافق للحقيقة الانقلابيه من اليدوية الى الالية، مايعنى ثورة العقل العظمى المؤجله الذاهبة بالكائن البشري وبالوجود المجتمعي، من الحيوان الى "الانسان" السماوي/ الكوني، مرورا ب "الانسايوان" الحالي الانتقالي، بعد انتهاء الامد اللازم للبقاء على الكوكب الارضي، وفعل متبقيات الجسدية الحيوانيه، مقابل حضور "العقل" المتعالي على متبقيات الحيوانية.

***

عبد الأمير الركابي

 

وقفة نقدية مع رسل الزغيبي

سلّطت الباحثة رسل الزغيبي الضوء على هذا الموضوع الثري في رسالتها للماجستير (1)، ولأني باحث في تاريخ العراق ومصر المعاصر، فقد أقبلت على الرسالة بلهفة كبيرة، خصوصاً وأن مشروع الكتابة عن عبد الناصر قد سيطر عليّ، أنتظر استكمال العدة المعرفية لأبدأ به.

قسّمت الباحثة رسالتها لمقدمة وأربع فصول وخاتمة مع خمس ملاحق:

الفصل الأول "التوجهات السياسية والفكرية لتنظيم الضباط الأحرار" بثلاث مباحث: نشأة تنظيم الضباط الأحرار ـ التوجهات السياسية لتنظيم الضباط الأحرار ـ التوجهات الفكرية لتنظيم الضباط الأحرار.

الفصل الثاني "تصفية تنظيم الضباط الأحرار" بأربع مباحث: تصفية ضباط سلاح المدفعية ـ تصفية ضباط سلاح المشاة ـ تصفية ضباط سلاح الفرسان ـ تصفية الضباط المنتمين لجماعة الاخوان المسلمين.

الفصل الثالث "تفكيك مجلس قيادة الثورة" بثلاث مباحث: إبعاد عبد المنعم أمين عن مجلس قيادة الثورة ـ التخلص من الأخوين صلاح وجمال سالم ـ حلّ مجلس قيادة الثورة.

الفصل الرابع "إقصاء أعضاء مجلس قيادة الثورة" بثلاث مباحث: التخلص من الثالوث المعارض كمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم ـ تقديم عبد الحكيم عامر قرباناً لبقاء عبد الناصر ـ القضاء على آخر قادة الثورة زكريا محيي الدين.

كانت مصادر الباحثة كثيرة ومتنوعة تراوحت بين المصادر الأساسية والثانوية: وثائق غير منشورة ـ وثائق منشورة ـ مذكرات شخصية ـ رسائل وأطاريح جامعية ـ كتب عربية ومعربة ـ جرائد ومجلات مصرية وعربية ـ موسوعات ـ مقابلات مع إبن المشير عبد الحكيم عامر وابن أحمد حمروش.

يُدركُ القارىء المتمرّس أن الزغيبي قد جعلت رسالتها "موجّهة" من أول سطر، فالعنوان واضح جداً! عبد الناصر يُقصي ويُصًفّي زملائه رفاق السلاح! وطبعاً فنحن لا نستكثر على الباحثة "حضور العامل الأيديولوجي" عندها، إذ لا يوجد باحثٌ خالٍ من المُسبقات الفكرية، أو بالأحرى لا يوجد باحث "محايد بالتمام"، وإن وُجد فهو بالتأكيد ليس منا نحن معشر البشر (2)، لكن ما نأخذه عليها هو عدم السيطرة على هذا العامل، فإن طغى الذاتي على الموضوعي فستقع الباحثة في إشكال معرفي كبير، خصوصاً وأن ما قدّمته رسالة جامعية وليست كتاباً عادياً، وهذا الذي حصل مع الأسف، فقد طغت الذات على الموضوع بدرجة كبيرة.

ترى الزغيبي بأن عبد الناصر من الشخصيات الكبرى في التاريخ (3)، لكنها تقول: أصبح ولاء عبد الناصر الأول والأوحد بعد نجاح الثورة لعبد الناصر نفسه (4). وهذا ما دفعنا الى الوقوف مع الباحثة هنا، وطبعاً فنحن لا نستبعد ولاء الشخص لنفسه، فعبد الناصر ليس بدعاً هنا، فهو بشر في النهاية، ولكن من حقنا أن نسأل: هل حقق عبد الناصر امتيازات مادية لنفسه ولعائلته نتيجة لهذا الولاء الذاتي اللامحدود؟ والذي جاء كمُسًلّمًة عند الزغيبي؟ نناقش ونرى.

أولاً: تُقر الزغيبي بأن الضباط قد اختاروا جمال عبد الناصر رئيساً للجنة الضباط الأحرار، وأنه قد قاد التنظيم بمهارة (5). بموجب هذا الإقرار سنرى أن عبد الناصر قد كان "قائداً ماهرا" للتنظيم، ومن حق هذا القائد الماهر أن يقود السفينة ويُصدر القرارات! لكننا نجد الزغيبي تقول:

فوّض جمال عبد الناصر نفسه في اتخاذ القرارات وسيطر على مجلس قيادة الثورة، إذ لم يكن في المكان المناسب يوم اعلان الثورة، ويرجع ذلك الى رتبته العسكرية بين الضباط المشاركين في تنفيذ الثورة، وليس له شهرة بين أوساط الشعب والجيش، وبالتالي صب تفكيره في كيفية التخلص أو إلغاء ذلك الأمر والظهور بمظهر المسيطر على جميع القرارات (6).

ألم تُقر الزغيبي بأن الضباط قد اختاروه رئيساً للجنة وأنه قد قاد التنظيم بمهارة!! فكيف لم يكن في المكان المناسب يوم اعلان الثورة!! أما الرتب العسكرية فلن تؤثر هنا، لأن الضباط قد اختاروه سابقاً!

انتقلت الى الحواشي لأتأكد من المصدر الذي نقلت منه هذه المعلومة التي نالت الرضا عند الباحثة، فوجدتها منقولة من كتاب "لعبة الأمم" لمايلز كوبلاند!! يقول محمد حسنين هيكل عن كوبلاند وكتابه، وسأنقل النص كاملاً لأهميته:

حاول مايلز كوبلاند كثيراً أن يبيع نفسه لثورة 23 يوليو، ولًديّ شخصياً ـ وفي ملفات الدولة المصرية أيضاً ـ مائة رسالة أو أكثر بخط كوبلاند يطلب تعيينه خبير علاقات عامة في الخارج للثورة أو لنظام عبد الناصر، وفي بعض هذه الرسائل يقترح اصدار صحيفة في لندن أو نشرة إعلامية ويطلب المال لتحقيق ذلك، وكل عروضه رُفضت، رفضت الثورة شرائه لأنه كان على علاقة بالاستخبارات الأمريكية، والكتاب الذي أصدره بتكليف على ما يبدو هدفه التشكيك بالثورة وبعبد الناصر، ومثل هذا الكلام يصدر عن شخص باع نفسه يبدو طبيعياً، خصوصاً أنه يتحدث عن ثورة رفضت أن تشتريه، والدليل على ذلك رسائله، ولكن من المؤسف ألا يعي بعض العرب مثل هذه الحقيقة (7).

كيف أجازت الباحثة لنفسها أن تعتمد على كوبلاند هنا؟ خصوصاً وأن الكتاب الذي نقلت منه نص هيكل موجود في قائمة مصادرها؟! يُفترض بالباحثة أن تُورد نص هيكل وتناقشه ثم تُسلّم بما ذكره كوبلاند، أما أن تطمئن له مع وجود هذه الإشارات على شخصيته فهو أمر بعيد عن الموضوعية.

ثانياً: عند حديثها عن يوسف صديق وتشخصيه لانحرافات مجلس قيادة الثورة وتذكيرهم بمنشوراتهم السابقة، تنقل رداً لأحد الضباط قال فيه: انسى المنشورات فقد تغيرت الظروف (8). نرى الباحثة تتحدث وكأن ضباط الثورة قد أعدوا برنامجاً محدداً لهم يسيرون عليه في المستقبل! مع ان الواقع لا يؤيد هذا الافتراض، فقد اتسمت حركة الجيش بالعجلة والسرعة، وتوقعوا النجاح بنسبة 10%، وكل مشكلة تُحل في وقتها، وكل أزمة تعالج في لحظتها، فضغط الوقت لم يسمح بالتفكير الهادىء كما ذكر حمروش (9).

وما دمنا نتحدث عن يوسف صديق، هذا الضابط الفذّ، تذكر الزغيبي بأن عبد الناصر قد كانت لديه نية التخلص من يوسف صديق عقب قيام الثورة، وعند اصدار عدد من مجلة المصور عام 1953 مع هدية عبارة عن صورة تجمع أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقبل توزيع العدد بيوم أمر عبد الناصر بمصادرتها وإلغاء فكرة توزيع الصورة شارحاً الأسباب لرئيس المجلة: فيهما اثنين من الذين يظهرون في هذه الصورة سوف يختفون بعد فترة وأنا لا أريد الناس ترانا اليوم وبعد فترة يجدونا وقد نقصنا اثنين. وعند سؤال جمال عن الاثنين ذكر يوسف صديق وعبد المنعم أمين (10).

لم أجد هذا النص الإقصائي في المصادر المعتبرة التي تناولت تاريخ الثورة، فانتقلت لحواشي الباحثة لأتأكد، فوجدت النص منقولاً من كتاب "رسائل المشاهير" لسامي كمال الدين، وعند الرجوع الى الكتاب المذكور وجدتُ النص المنقول، ولكنه لإبنة يوسف صديق، سهير، إذ عقّبت بعدها: من هنا ترى النية كانت مبيّتة للتخلص من والدي رغم ان الاتصال به كان مستمراً في أسوان في محاولة أو للتظاهر بأن هناك جهوداً تُبذل لتقارب وجهات النظر (11).

يُفترض بالزغيبي ـ وهي باحثة أكاديمية ـ أن تذكر بأن الناقلة لهذا الخبر هي ابنة يوسف صديق لكي تتضح الصورة أمام القارىء، لا أن تُورد النص وكأنه من المُسلّمات عندها.

ثالثاً: تتطرق الزغيبي لحادثة كفر الدوار، فقد أضرب العمال في آب 1952، فشكّل مجلس قيادة الثورة محكمة برئاسة عبد المنعم أمين، وقد أصدرت هذه المحكمة حكم الإعدام على العاملًين محمد خميس ومحمد عبد الرحمن البقري. تقول:

لكي يُنفذ حكم الإعدام لا بُد من موافقة الأغلبية في المجلس، وكان يوسف صديق على رأس المعارضين لحكم الإعدام، ولكن رغم ذلك فقد تم تنفيذ الحكم في العاملًين ليزداد الخلاف ويتسع الشرخ (12).

عند الرجوع الى المصادر سنرى أن يوسف صديق لم يكن وحيداً في موقفه هذا، بل كان معه جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين أيضاً! (13). فلماذا أحجمت الباحثة عن ذكر هذه المعلومة والمصادر بين يديها؟ أعتقد بأن هذه المعلومة ستُظهر عبد الناصر كارهاً للإقصاء والتصفية، وهذا ما يصطدم مع فكرة الباحثة الرئيسة في حضور سافر للذاتي على الموضوعي!!

رابعاً: تقول الزغيبي: ان هدف جمال عبد الناصر وزملائه في مجلس قيادة الثورة هو إشاعة الخوف والفزع في نفوس الجماهير من جهة، وضرب الأحزاب وقادتها عن طريق التشهير بسمعتهم باعتبارهم خونة للبلاد من جهة ثانية. مما لا شك فيه ان السلطة كانت مغرية لضباط شباب، ولا سيما انهم اصبحوا مصدرها، الأمر الذي جعلهم يتلهفون لممارستها بأنفسهم، وهكذا بدأ زحفهم نحو السلطة والتغلغل في صفوف الجماهير بعد ادراكهم ان الجماهير بدأت تتطلع اليهم وتتأمل فيهم خيراً (14).

كيف يمكن أن نربط بين:

أشاع عبد الناصر وزملائه الخوف والفزع في نفوس الجماهير، وبين أن الجماهير بدأت تتطلع اليهم وتتأمل فيهم خيراً؟؟ فمن يتطلّع اليك فهو مطمئن لك! يؤمن بقدراتك! فلماذا تزرع الخوف والفزع فيه بعد ان وثق بك؟ وبشأن الأحزاب، ألم تكن سمعتها في الحضيض عند الشعب آنذاك؟ خصوصاً بعد حريق القاهرة في يناير 1952، فقد تشكلت 4 وزارات متلاحقة الى 23 يوليو 1952 (15). وكان يُفترض بالباحثة أن تتطرق ل"معنى الديموقراطية" عند الضباط منعاً للالتباس، يقول السادات:

تُفسر الثورة "الديموقراطية" بأعمالها، بالقضاء على الحكام الأغراب وإقامة أسس صحيحة لنظام جمهوري سليم، وإعداد العدة لتصنيع البلاد (16). ويفترض بها الإشارة أيضاً الى أن القوى الليبرالية المتكونة من القوى البورجوازية القديمة والمثقفين الليبرالين وقوى اليسار قد ركزت على طرد الثورة من الحياة السياسية بلا رجعة (17).

خامساً: تذكر الزغيبي بأن عبد الناصر قد اختار عبد الحكيم عامر آمراً للجيش كونه الصديق الصدوق، فتمت ترقيته من صاغ الى لواء رغم معارضة محمد نجيب (18). فلماذا لم تُشر الى أن نجيب قد انصاع رغم معارضته ووقّع في النهاية على هذه الترقية كما ذكر نجيب نفسه؟! (19)، مع العلم بأنها قد ذكرت اسهام نجيب في الإجراءات غير الديموقراطية (20).

سادساً: ذكرت الباحثة سراً خطيراً كشفه عبد اللطيف البغدادي، وهو أن عبد الناصر قد ابلغ زملائه بأنه هو من قام بتدبير الانفجارات الستة في القاهرة في آذار 1954 (21). ومصدر الباحثة كتاب "محمد نجيب زعيم ثورة أم واجهة حركة" لرفعت يونان. السؤال: هل هذا "السر الخطير" موجود في مذكرات البغدادي الموجودة في مصادر الباحثة أم لا؟ فإن وُجد فعلى الباحثة الرجوع الى الأصل، وان لم يوجد فستتخذ المسألة منحىً آخر. وقد وقعت الباحثة في الاشكال نفسه في موضع آخر، فقد ذكرت بأن عبد الناصر قد اعترف لخالد محيي الدين عن مسؤوليته في تدبير الأحداث وتحديد اضراب النقل وما لحق به من إضرابات أخرى ومظاهرات عمالية كلفت البلاد أربعة آلاف جنيه (22). فوجدنا المصدر نفسه، أي رفعت يونان! مع العلم بأن مذكرات خالد محيي الدين متوفرة عند الباحثة؟!

سابعاً: في حديثها عن اقصاء عبد الناصر لعبد المنعم عبد الرؤوف واضطرار الأخير الى الهروب خارج مصر، تستغرب الزغيبي من عدم اضطهاد عبد الناصر لزوجة عبد المنعم عبد الرؤوف، بل اصدر عبد الناصر أمراً بصرف الراتب التقاعدي لها ولبناتها (23).

لا أعرف، هل من عادة عبد الناصر اضطهاد زوجات خصومه؟ فإن كان كذلك فلماذا لم تُرشدنا الباحثة للمصادر التي تعرضت لهذه العادة؟! ثم هل خفي عنها ما فعله عبد الناصر مع زوجة محمود عبد اللطيف؟ هذا الذي حاول اغتيال عبد الناصر؟ يقول أحمد أنور بأني قد فكّرت بإرسال عشرة جنيهات لزوجة محمود عبد اللطيف، فقال عبد الناصر: خليهم 15 جنيه كل شهر (24). فلمً الاستغراب من الباحثة؟!

ثامناً: تقول الزغيبي: اختلف عبد المنعم أمين عن باقي الضباط الأحرار في كونه أرستقراطياً كبيراً، إذ سكن بمنزل فخم على كورنيش النيل عند كوبري الجيزة، وذات يوم عندما زاره عبد الناصر في منزله لأول مرة، همس في أذن كمال الدين حسين قائلاً: هو عاوز ثورة ليه؟ ما هو عنده كل حاجة؟ (25). ثم تُعقّب:

يتبين لنا أن الأهداف المادية كانت أحد أهداف جمال عبد الناصر من وراء القيام بالثورة (26).

لتسمح لي الباحثة أن أقول:

لِمً التسرع يا أستاذه؟ فهذا الحكم المتعجل يبين سيطرة الأيديولوجيا بجلاء وفظاعة! هل قرأتِ سيرة عبد الناصر جيداً؟ يقول فاتيكيوتس:

كان عبد الناصر بعيداً كل البعد عن ترف الحياة ... كان عازفاً عن حياة الترف والبذخ، بل وكان في حقيقة الأمر يزدري هذا النمط من العيش ولم يكن يوماً من الحريصين على تحصيل ملذات الحياة ... كان طعامه بسيطاً ولم يعرف عنه إقامة الحفلات الباذخة في منزله ولم يسبق قط أن اتهمه أحد بشراء أراض أو غيرها من الممتلكات (27).

ويقول أجاريشيف:

كان عبد الناصر غاية في الأمانة ومحاسبة الذات، كانت ترد اليه ملايين الجنيهات من التبرعات التي يطلب أصحابها انفاقها وفق ما يرى، كان يودعها البنك بالحساب رقم واحد ليجري انفاقها على احتياجات مصر، وحين توفي الرئيس كان يوجد مبلغ مليونين ونصف مليون جنيه بهذا الحساب، أما الحساب الشخصي لعبد الناصر فلم يكن يحتوي سوى على مبلغ 610 جنيهات ... لأول مرة يتولى انسان شريف نظيف الذمة مقاليد الحكم ببلد شهد شتى ضروب الفساد (28).

ويقول عزيز السيد جاسم:

لقد كان جمال عدواً للتمايزات الطبقية ولاستغلال المنصب الرسمي وطبق العدالة على نفسه بصرامة، وحادثة عدم التحاق ابنته بجامعة القاهرة بسبب نقص معدلها، فيما تمكن ابن سائقه من دخول الجامعة، خير صورة معبرة عن شدة تمسك جمال عبد الناصر بمبادىء الحق والعدل (29).

فمن كان "الهدف المادي" هدفاً لقيامه بالثورة يعيش بهذه الطريقة!! لكن الاشكال أن مصدر الباحثة هو الدكتور أحمد شلبي! فتمسكت به وتركت غيره! فكان اعتمادها على شلبي في المسائل التي تطعن بعبد الناصر واضحاً (30).

سنقف عند هذا الحد في نقدنا، فقد اتضحت الصورة للقارىء برأينا. وختاماً توصلنا الى الآتي:

لم تكن الباحثة موفقة في رسالتها، فقد طغى العامل الذاتي على الموضوعي كثيراً في بحثها، لكن رغم كل هذا سنجد ما بين سطورها الرأي الآخر، فها هي تعترف ب"شعبية جمال عبد الناصر الخيالية"! (31)، السؤال: هل جاءت هذه الشعبية من فراغ؟ فمن كان الاقصاء والتصفية ديدنه كما أرادت الباحثة، كيف له أن يتمتع في الوقت نفسه بهذه الشعبية الخيالية؟؟

***

معاذ محمد رمضان "باحث تأريخي"

.......................

الهوامش:

1ـ رسل حامد صاحب الزغيبي: سياسة الرئيس جمال عبد الناصر في إقصاء وتصفية قادة ثورة يوليو 1952 ـ 1970، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية جامعة كربلاء، اشراف: د. حسين جبار شكر 2023

2ـ معاذ محمد رمضان: النظام الملكي العراقي وإشكالية البقاء، بغداد، دار البيارق للنشر والتوزيع 2024 ص6

3ـ الزغيبي ص1

4ـ نفس المعطيات

5ـ الزغيبي ص15 و 21

6ـ الزغيبي ص46

7ـ فؤاد مطر: بصراحة عن عبد الناصر ـ حوار مع محمد حسنين هيكل، ط4 بيروت، دار القضايا ص53

8ـ الزغيبي ص67

9ـ أحمد حمروش: مصر والعسكريون ـ قصة ثورة 23 يوليو ج1، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1974 ص197 و 225

10ـ الزغيبي ص68 و 69

11ـ سامي كمال الدين: رسائل المشاهير، ط2 القاهرة، شمس للنشر والتوزيع 2009 ص84

12ـ الزغيبي ص69 و 70

13ـ حمروش ج1 ص288، عبد العظيم رمضان: عبد الناصر وأزمة مارس، مطابع روز اليوسف ص81

14ـ الزغيبي ص76

15ـ ينظر كتاب موسى صبري: قصة ملك وأربع وزارات ـ كيف كانت تحكم مصر من 26 يناير 1952 الى 23 يوليو 1952، مصر، دار القلم 2009

16ـ أنور السادات: قصة الثورة كاملة، الدار القومية للطباعة والنشر 1965 ص38

17ـ عبد العظيم رمضان ص178

18ـ الزغيبي ص77 و 78

19ـ محمد نجيب: كلمتي للتاريخ، ط3 مصر، المكتب المصري الحديث 2011 ص77

20ـ الزغيبي ص80

21ـ الزغيبي ص96

22ـ الزغيبي ص99

23ـ الزغيبي ص125

24ـ أحمد حمروش: شهود ثورة يوليو ـ قصة ثورة 23 يوليو ج4، ط1 بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1977 ص33

25ـ الزغيبي ص129

26ـ نفس المعطيات

27ـ ب . ج . فاتيكيوتس: جمال عبد الناصر وجيله، ترجمة: أحمد اللهيب، ط1 مصر، مدارات للأبحاث والنشر 2025 ص371 و 424

28ـ أجاريشيف: جمال عبد الناصر، ترجمة: سامي عمارة، موسكو، دار التقدم 1983 ص151

29ـ عزيز السيد جاسم: مقتل جمال عبد الناصر، ط1 بغداد، دار آفاق عربية 1985 ص207

30ـ الزغيبي ص215 و 217 عن زكريا محيي الدين

31ـ الزغيبي ص202

ظهر ثلاثةُ ملوكٍ، ورئيس جمهوريّة قامت على أنقاض إمبراطوريّة كبرى، ورثت شساعة الإمبراطوريّة العباسيَّة، لكنها لم تتحصن مِن مجريات الزَّمن، فظلت سابحة في فلك القرون الخوالي، غير أنّ ضابطاً فهم الإشارة، فصنع منها دولة، علا بها وارتقى، ومهما حاول، مَن خَلفه، التّخلص مِن خياله لم يستطع، فصار الواقع أنَّ بلاد أتاتورك لا تعيش بالعثمانيَّة ولا الأتاتوركيَّة الخالصتين.

أما الملوكُ الثَّلاثة، فلم يبتعدوا عن آمال أتاتورك(1923- 1938)، حكموا بلا عقائد غير«الدولة الوطنيَّة»، فمِن العادة أنَّ الأنظمةَ غير القابلة للتقدم، تخلق بلاءها مِن داخلها، إذا كانت عقيدتها شموليَّة، تأسست على روايات إلى الخيال أقرب، ومِن العادة أيضاً أنَّ العقائد لا تُقدم طعاماً ولا شراباً، فيجترها أصحابها، ولا يجدون سامعاً إلا الغارقين في الجهل. ليس لدينا ما يُبثت أنَّ ملك العِراق فيصل الأول(1921-1933) تأثر بأتاتورك، لكنه ابن مجلس المبعوثان، وسقوط العثمانيَّة جعل والده وأبناءه الملوك يشرئبون إلى الدَّولة الوطنيَّة، سواء كان حلم الأب بدولة عربيّة شاملة، أو أحلام الأبناء بدول وطنيّة على أنقاض إمبراطوريّة. أحسبُ أنه تأثر، فأسس الدّولة العِراقية الحديثة بمنأى عن الماضي، وعمل على تغيير المجتمع سريعاً.

نادى بـ«الأمة العراقيَّة»، مِن أول خطوة خطاها ببغداد، زار الطوائف كافة ودعاهم إلى شعاره، وتقدمت المرأة وشُيدت المدن، وسُنت القوانين، وأخذ العراق ينطلق كالسّهم، لكنَّ وفاته قلبت الموازين. حاول رضا شاه، بعد تتويجه(1926-1941)، وكان تأثره واضحاً بأتاتورك، واستطاع توحيد ما أطلق عليه إيران (1936)، فكانت مقاطعات مفككة، وقطع شوطاً في تمدينها، وجمع لها مِن البلدان ما لم يكن لها، فصارت موردها الأكبر، لكنَّ السِّياسة شاءت غير ذلك في ظروف الحرب، وانتهى حلمه بإيران تناطح الغرب، مثلما أراد فيصل الأول للعراق، فلم يستطع الأبناء حفظ ما أراده الآباء، هزتهم الرّياح قبل العواصف. أما الملكُّ الأفغاني أمان الله خان(1919-1929)، فكان أكثر أصحاب الآمال المذكورين عجلةً وحماساً، وأقلهم واقعاً يقبل التَّقدم، وأنزرهم ثروةً. حاول بناء دولة أفغانيّة، تنقل الأفغان من واقع الكهوف والممرات إلى آفاق دولة حضارية، فكان مثل فيصل الأول يلحُ على الهوية الأفغانيّة، لأنَّها القاعدة لبُنية الدَّولة، فلا يُطيق سماع ألقاب عرقية وقبليَّة، وما أكثرها وأعمقها بين جبال ووديان أفغانستان.

قال في خطاب له بمدينة قندهار، التي لا يقف بها اليوم مدنيَّاً: «ليس لدينا ما يسمَّى بالهندوس، والهزارة، والشِّيعة، والسُّنة، وأحمدزاي، وبوبلزاي، بل نحن جميعنا أمة واحدة، وهي الأفغانية»(عن كتاب مركز المسبار الشَّهري). كانت بناتُ فيصل الأول، ورضا شاه، وأمان خان حاسرات الرُّؤوس، وهنَّ أول النّساء في ذلك، وقد تعامل الآباء بمنطق الصّدمة، فواقع المرأة كان مزريّاً، وتقاليد القبلية والأعراف الدّينيّة آنذاك لا تسمح بكشف الوجه، ناهيك عن التعلم. لذا كان لتعليم البنات خصوصيَّةٌ، صدامات وتضحيات، لأنَّ القوى المعترضة تحاذر من تعليمهنَّ، والمبرر الأشد «سَدًّا لِلذَّرَائِعِ»، وأراه لفظاً اخترعه المعاصرون ضمن ما اخترعوا، ليس في الكتاب ولا السُّنةِ. فكان عندهم ما شرعه المحتسبون: «إنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَتَعَلَّمُ الْخَطَّ كَمَثَلِ الْحَيَّةِ تُسْقَى سُمًّا»(ابن الأخوة، معالم القربة).

أحسب أنَّ الجمع بين الحيَّة والمرأة مجترٌ مِن الميثولوجيا. اعترض محمد مهديّ الجواهريّ (ت: 1997) مبكراً على عرقلة تعليم البنات بمدينته ذات الطّابع الدِّينيّ، وما حشده رجال الدّين ضد قرار فيصل الأول، في فتح مدرسة لهنَّ، قائلاً: «غداً يُمنع الفتيان أنْ يتعلموا/ كما اليوم ظُلماً تُمنع الفتياتُ»(الرّجعيون 1929). علت مشاريع الملوكِ واختفت، لتظهر مدونات فقهية ظالمةً للنّساء ومشوهةً للأوطان، لكنَّ بعد العاتيات تحققت على أنقاض المعسرات، مشاريعُ واعدةٌ، اخضرت بها آمال لصالح النّساء والمجتمعات، فدَّب التَّمدن في رِمال الصّحاري، وصخور الجبال الصّم، بما لم يتوقع حدوثه، يوم طرح الملوك المذكورين مشاريعهم، التي اختفت بفعل فاعل.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

ستتزايد الدلائل على وصول مايعر ب"الحضارة" بصيغتها المعروفة حتى الان واجمالي وحدود ممكناتها الارضوية المرتهنه لليدوية الجسدية، الى انتهاء صلاحية الطور المشار اليه من التاريخ البشري الارضوي وان من دون ادراك، ومع حكم القصورية العقلية المجتمعية الباقية حائلا دون توفر العقل بصيغته المتاحة الى الان، على مايتوجب من الاحاطة الادراكية للحقيقة المجتمعية ومنطوياتها الناظمة لسيرورتها.

مع العلم ان الاصرار على التمسك النهائي بالاحادية المجتمعية، وبالارضوية الجسدية ومايتصل بها من "مفاهيم"، ماتزال وهي مستمرة معتبرة على انها حقائق نهائية مطابقه ل" الطبيعة" واحكامها، دلاله على عمق متبقيات المنظور الارضوي اليدوي برغم وقوع الانقلابيه الالية، فالبشرية لاتنتقل فورا من اليدوية، من دون الاخذ بالاعتبار طبيعة الجانب الواقع و الحاصل من الانتقال التاريخي، بما هو الجانب المادي الابتدائي الضروري من العملية الانتقالية، وهوبحد ذاته ليس الانتقال التاريخي النوعي المفترض والمنتظر، فالجانب العقلي الريؤي من التحول الحاصل، وهو الاساس، من طبيعته انه لايحضر في ساعته وعند ذات اللحظة التي يكون فيها الانتقال الالي قد ابتدأ، اي ان مسالة التحول النوعي التاريخي، وان تكن محكومة للاشتراطات المادية ابتداء واولا، الاانها لاتكتمل قبل حصول الادراكية الضرورية التي لاانتقال بين الطورين والمرحلتين من دونها.

ويبقى المعضل الاكبر مرتهنا لقصورية تاريخيه واستحالة لازمت، كما سبقت الاشاره، علاقة العقل بالظاهرة المجتمعية، الامر الذي تذهب اعمال العقل المرافقه للابتداء الالي للاشاره اليه، وتركيز الاهتمام حوله، بلا انجاز فعلي يقارب الجوهر والحقيقة الفاصلة المنتظرة، والكامنه في كشف النقاب الحاسم عن الحقيقة المجتمعية الازدواجية، بتا\أكيد حضور اللاارضوية الاصل ودلالات ذلك على النظر للظاهرة المجتمعية والقانون الناظم لتفاعليتها التاريخيه، وماهي مهيأة لكي تصله كهدف مقرر.

ماحدث مع القرن السابع عشر هو نقطة تحول، وبداية انقلاب نوعي من المجتمعية اليدوية الارضية، الى التحولية اللاارضوية الكونية العقلية، وحلولها مكان الجسدية حيث تنتهي علاقة الكائن الحي البشري بالكوكب الارضي واشتراطاته، ليغدو كونيا وقد تامنت الاسباب المادية الضرورية لانتقاله خارج الجسدية، وخارج الكوكب الارضي، مع مايمكن تخيله من تبدل شمولي هائل عقليا تصورا وادراكا وواقعا، بما يخرج بالعقل من نطاق المقارنه او المقابله بين مامضى، وماقد صار قريب الحدوث من هنا فصاعدا، بعدما ظل خارج ممكنات العقل وقدرته المتاحة حتى الساعة على الاحاطة، بما في ذلك المقدمات ومؤشرات التحول الاعظم، وفي مقدمها تهافت وانحلال النمطية المجتمعية القائمه، وبالاخص منها متبقيات التوهمية الارضويه الحالة على العقل البشري، ابتداء من الانقلاب الالي المصنعي وماقد ساد وظل غالبا بناء على قوة مفاعيله من نظر الى الانقلاب الحاصل اللاارضوي، ومابعد الانسايواني والكوكبي، من رؤى متدنيه نوعا ومقاصدا، ارضوية تمثل حدود النظر المتاح في الموضع الذي حدث ان وقعت عملية الانتقال الالي الابتدائي فيه، بغض النظر عن علو دينامياته الازدواجية "الطبقية" مقارنه بغيره من صنفه ونمطيته .

هنا نصل الى الساعه المنتظرة، والابراهيمة الاولى كتعبيرية حدسية نبوية اولى ضمن الزمن اليدوي وغلبته، تعود للحضور كما هو مفترض ولازم اليوم بصيغه اخرى مختلفة "عليّا سببيا"، وقد صارت الوسيلة المادية الانتقالية التحولية العقلية اقرب للحضور، بالتكنولوجيا العليا، مابعد التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، فاذا بالمنقوص والمنتظر ادراكا، كما على مستوى الوسيله، وقد صارحاضرا، تدعمه اليات الانبعاثية الثالثة المستمرة من القرن السادس عشر،بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، ـ قبل انبثاق الاله المصنعية الاوربية ـ من ارض سومر الجديده، مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك"، وماتلاها من حقب تتسابق مع النطقية التاريخيه المؤجلة، بانتظار اللحظة والاوان. بينما صار كل مايحيط اليوم ببؤرة اللاارضوية التاريخيه، قوة تاجيج وتمخض نطقي مع انتهاء صلاحية الطور اليدوي وتوهميته العارضة، لنغدو على مشارف الانتقالية التحولية العظمى، سر الوجود المجتمعي ومقصده المؤجل.

***

عبد الأمير الركابي

......................

ملحق بالهوامش:

(1) اهم من قرأ وسعى لتجسيد الموضع الخاص للمؤسسة العسكرية في نظام الدولة الاحادية الضعيف الديناميات، الكاتب المصري / انور عبد الملك في كتابه/ مصر مجتمع جديد يبنيه العسكريون/ دار الطليعه ـ بيروت/ ط 1 ـ شباط 1964.

(2) يراجع/ الهامي الميرغني/ الاستثمارات الاماراتيه في مصر/ الحوار المتمدن/ العدد 2838 بتاريخ 23/6/2025.

(3) المقصود عبدالله العروي في كتابه الشهير / الايديلوجية العربيه المعاصرة/ دار الحقيقة ـ بيروت.

(4) ياجع كتاب طارق متري/ مدينه على جبل للوقوف على الاصول الفكروية للكيانيه الامريكيهم دار النهار م بيروت.

(5) المصدر نفسه مع كتاب مبشال بوغنون المذكر ادناه.

(6) ميشال بوغنون ـ موردان/ اميركا التوتاليتارية: الولايات المتحدة والعالم الى اين ؟م دار الساقي/ بيروت/ ص 24

(7) في حصيلة مشروعها التاريخي الخاص انتهت ايران الى موضع ابراهيمي يعبر عن ذاته ابراهيما ومن ثم اسلاميا شيعيا / عراقيا، وهو حال من التفاعلية التاريخيه تستحق الرصد على المستويات المختلفة، لمعرفه الجانب الاكثر فعالية وحضورا خارج التوصيفات الانيه، وهو امر يخص المنطقة المتوسطية ككل باعتبارها موضعا له تعبيريتة التي تنم عن سماته الغالبه بطابعها الكوني اللاارضوي.

 

قراءة في مسار العراق ما بعد 2003 على ضوء فكر روتي تايتل

مقدمة: في حضرة الغسق الدائم

- يُقال إن التاريخ يُكتب عند منعطفاته الكبرى، في تلك اللحظات الفاصلة التي يُطوى فيها ليلٌ ليبزغ فجر جديد. لكن ماذا لو أن الفجر لم يكن سوى وهمٍ، وأن ما عشناه ليس إلا غسقاً دائماً، حالةً بين بين، لا هي ظلام الاستبداد الكامل ولا هي نور الدولة القائمة على الحق والشرعية؟ هذا هو حال العراق منذ عام 2003. انطلقت آنذاك منظومة ضخمة من الإجراءات والمؤسسات تحت اللافتة البراقة لـ "العدالة الانتقالية"، حاملةً وعوداً بالقطيعة مع إرث الانتهاكات الجسيمة، وتأسيس عقد اجتماعي جديد. كانت الوعود تتحدث عن الحقيقة، والمُساءلة، وجبر الضرر، وإصلاح المؤسسات كجسرٍ نعبر به من ضفة الديكتاتورية إلى ضفة الديمقراطية.

- لكن بعد مرور أكثر من عقدين، تكشّفت الحصيلة عن مفارقة مريرة: الجسر الذي كان يُفترض به أن يكون مؤقتاً تحوّل إلى وجهة دائمة. الأدوات التي صُممت للانتقال أصبحت هي ذاتها أدوات الحكم. لقد شهدنا تطبيعاً مُمنهجاً للاستثناء؛ فالمؤسسات التي وُلدت "مؤقتة" بطبيعتها أصبحت بنى راسخة، والهياكل التي أُنشئت لإدارة مرحلة انتقالية تحولت إلى أدوات لإدارة أزمة مستدامة. إنها تُدار بمنطق أمني-سياسي هجين، لا همّ له سوى تكريس مصالح طبقة أوليغارشية جديدة، مُفرّغاً مفهوم العدالة من أي معنى حقيقي، ومُحوّلاً إياه إلى مجرد شعار لتبرير استمرار حالة الطوارئ.

- هذا المسار المعقد والمُخيّب للآمال يجد صداه العميق في أعمال المنظّرة الحقوقية روتي ج. تايتل، التي تُعد بحق من أهم من شرّح مفهوم العدالة الانتقالية. لقد أرست تايتل في البداية تعريفها الكلاسيكي للعدالة الانتقالية بوصفها "نمطاً وقتياً" (a temporal mode) لمعالجة إرث الماضي. لكنها، في مرحلة لاحقة، وبصيرة نافذة، لاحقت تحوّل هذا المفهوم في عالم ما بعد 11 سبتمبر، وكشفت كيف تمدد منطق الطوارئ ليصبح جزءاً لا يتجزأ من الحكم اليومي، خالطاً بين فروع القانون في إطار أطلقت عليه "قانون الإنسانية" (Humanity's Law)، حيث يغدو الاستثناء هو القاعدة.

- من هذا المنظور النقدي، سنقوم في هذه الدراسة بتشريح التجربة العراقية، لا كحالة "فاشلة" من العدالة الانتقالية، بل كنموذج فائق "النجاح" في تجسيد ما أسمته تايتل "الاستثناء المُطبَّع" (the normalized exception). العراق هو المختبر الذي تحولت فيه العدالة من أفقٍ للنهاية إلى أداةٍ لإدامة اللحظة العابرة.

أولاً: الإطار النظري عند تايتل: من الوعد إلى الانزلاق

- لفهم المأزق العراقي، لا بد من العودة إلى الأسس النظرية التي وضعتها روتي تايتل، والتي تطورت عبر مسارين متمايزين.

‌أ. العدالة الانتقالية كـ"لحظة" تاريخية واعدة:

في كتابها التأسيسي "العدالة الانتقالية" (2000)، قدمت تايتل المفهوم باعتباره عدالة خاصة، لا تُمارس في الظروف الطبيعية المستقرة، بل في لحظات التحول السياسي الجذرية. إنها ليست مجرد تطبيق للقانون الجنائي، بل هي "منظومة متعددة الأدوات" (a multi-faceted set of measures) تشمل:

1. الحقيقة (Truth): إنشاء لجان الحقيقة والكشف عن مصير المفقودين لنسج رواية وطنية جامعة تكسر صمت الماضي.

2. المساءلة (Accountability): محاكمة كبار المسؤولين عن الانتهاكات، ليس فقط للعقاب، بل لترسيخ سيادة القانون.

3. جبر الضرر (Reparations): تعويض الضحايا مادياً ومعنوياً، كاعتراف من الدولة بمعاناتهم وإعادة الاعتبار لهم.

4. الإصلاح المؤسسي (Institutional Reform): تفكيك وإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والقضائية التي كانت أداة للقمع.

- جوهر هذه العدالة، في تعريف تايتل الأول، هو أنها "مؤقتة" بطبيعتها. إنها مرتبطة بلحظة تاريخية فارقة، وتفترض وجود "أفقٍ للنهاية" (a prospective endpoint). هدفها هو إغلاق صفحة الماضي الأليم، وتأسيس شرعية لنظام سياسي جديد أكثر احتراماً للحقوق، ومن ثم تنتهي مهمتها لتعود السيادة للقانون في حالته الطبيعية.

‌ب. قانون الإنسانية" وتحوّل الاستثناء إلى قاعدة:

بعد عقد من الزمان، وفي عالم أعادت تشكيله أحداث 11 سبتمبر و"الحرب على الإرهاب"، عادت تايتل في كتابها "قانون الإنسانية" (2011) لترصد تحولاً جوهرياً في طبيعة القانون والحكم. لقد رأت كيف أن "منطق الطوارئ"، الذي كان يُفترض أن يكون استثناءً مؤقتاً ومحدوداً، قد تمدد وتسلل ليصبح جزءاً من الحكم اليومي. لقد ذابت الحدود الفاصلة بين حالة الحرب وحالة السلم، وبين القانون الجنائي الدولي، وقانون حقوق الإنسان، والقانون الإنساني.

- في هذا الإطار الجديد، لم تعد العدالة الانتقالية مجرد "لحظة عابرة"، بل تحولت إلى "نمط مقيم" (a permanent modality). لقد تم استيعاب أدواتها الاستثنائية (مثل المحاكم الخاصة، وقوانين التطهير، وآليات المراقبة) داخل بنية الدولة الدائمة. أصبح الاستثناء هو القاعدة، وأصبحت إدارة الأزمات هي جوهر الحكم. هذا هو "الاستثناء المُطبَّع": حالة طوارئ دائمة تُدار باسم القانون والإنسانية، لكنها في جوهرها تُكرّس السلطة وتُقصي الخصوم.

ثانياً: العراق كتجسيد حيّ لـ "الاستثناء المُطبَّع"

- إذا نظرنا إلى العراق بعد 2003 من خلال عدسة تايتل النقدية، فإننا لا نرى مجرد محاولة متعثرة لتطبيق العدالة الانتقالية، بل نرى تجسيداً مثالياً لنموذج "الاستثناء المطبع". لقد تحولت كل أداة من أدوات العدالة الانتقالية إلى نقيضها، لتُشكّل معاً بنية متكاملة لإدامة الأزمة لا لحلها.

‌أ) هندسة مؤسسية تُؤبّد المؤقت: قانون المساءلة والعدالة

كانت عملية "اجتثاث البعث" أول وأبرز إجراءات العدالة الانتقالية. بدأت بقرار من سلطة الائتلاف المؤقتة، ثم تم تأطيرها لاحقاً في "قانون المساءلة والعدالة" رقم 10 لسنة 2008. من الناحية النظرية، كان الهدف هو تفكيك بنى حزب البعث ومنع رموزه من العودة إلى مفاصل الدولة، كإجراء مرحلي ضروري. لكن ما حدث على أرض الواقع كان شيئاً آخر تماماً.

لم يكن القانون مجرد أداة انتقالية محدودة المدة، بل تحول إلى مؤسسة دائمة (الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة) بصلاحيات واسعة ومفتوحة. بدلاً من أن يكون أداة جراحية دقيقة لإزالة العناصر المتورطة في جرائم جسيمة، أصبح شبكة واسعة وفضفاضة، وسيفاً مسلطاً يُستخدم لتصفية الخصوم السياسيين ومنع المنافسين من المشاركة في الانتخابات. لقد تحول من أداة للعدالة إلى آلية للهندسة السياسية والاجتماعية، تُعيد إنتاج منطق الإقصاء والاشتباه، وتُبقي المجتمع في حالة استقطاب دائم. إنه المثال الصارخ على تحويل إجراء مرحلي إلى بنية مستدامة، وهو جوهر "الاستثناء المطبع".

‌ب) التعويض وجبر الضرر: عدالة ورقية في مواجهة المعاناة

صدر "قانون تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية" (قانون رقم 20 لسنة 2009) وتعديلاته كخطوة هامة للاعتراف بمعاناة ملايين العراقيين الذين تضرروا بعد 2003. على الورق، كان القانون إنجازاً تشريعياً يعد بإنصاف الضحايا. لكن في التطبيق، تحولت رحلة البحث عن التعويض إلى مسار طويل من العذاب البيروقراطي.

واجه القانون تحديات بنيوية حادة:

1. البيروقراطية والفساد: تعقيد الإجراءات الإدارية وطلبات الإثبات، وفتح الباب أمام شبكات الفساد والابتزاز، مما جعل الوصول إلى الحق أمراً شبه مستحيل للكثيرين.

2. القيود المالية: عجز الدولة، خاصة بعد الأزمات المالية المتلاحقة وحرب داعش، عن توفير التمويل اللازم، مما جعل الكثير من القرارات القضائية بالتعويض حبراً على ورق.

3. تسييس الضحية: خلق القانون، عن قصد أو بغير قصد، تراتبية بين الضحايا. فضحايا النظام السابق الذين تُعنى بهم "مؤسسة الشهداء" يحظون بامتيازات أكبر من ضحايا العنف ما بعد 2003، مما أوجد "سوقاً للمظلومية" وأضعف فكرة المواطنة المتساوية أمام الألم.

4. وهكذا، تحول جبر الضرر من أداة للمصالحة إلى مصدر جديد للإحباط والشعور بالغبن، ومن آلية للشفاء إلى شاهد على عجز الدولة وتسييسها للمعاناة.

‌ج) مؤسسات الذاكرة: بين تقديس الشهادة والزبائنية السياسية

تُعد "مؤسسة الشهداء"، التي أُسست لتخليد ذكرى ضحايا نظام البعث ورعاية ذويهم، مثالاً آخر على التناقض الذي يحكم بنية "الاستثناء المطبع". من جهة، تُمثل المؤسسة اعترافاً رسمياً وحقوقياً بتضحيات فئة من المجتمع، وهو دور هام في أي عملية عدالة انتقالية. لكن من جهة أخرى، تحولت المؤسسة تدريجياً إلى إقطاعية سياسية بامتياز.

أصبحت الامتيازات التي تُمنح لذوي الشهداء (رواتب، قطع أراضٍ، مقاعد دراسية) جزءاً من شبكة الزبائنية السياسية (political clientelism). يتم توزيع هذه الموارد لضمان الولاء السياسي، مما يُفرّغ الشهادة من معناها الوطني الجامع ويحولها إلى ورقة في الصراع على النفوذ. بدلاً من بناء ذاكرة وطنية موحدة تحترم كل الضحايا، كرّست هذه المؤسسات ذاكرات متنافسة ومُسيّسة، حيث تصبح معاناة كل طائفة أو حزب وقوداً لاستمرار الصراع، لا جسراً نحو المصالحة.

خلاصة تشخيصية:

- ما نراه في العراق ليس فشلاً في تطبيق العدالة الانتقالية، بل هو بناء منظومة متكاملة وناجحة لتطبيع الاستثناء. منظومة تتكون من قوانين ومؤسسات وكيانات تحكم بمنطق الأزمة المستمرة. لقد تحولت العدالة من مشروع للعبور نحو المستقبل، إلى إدارة متواصلة لجراحات الماضي، واستثمارها لضمان بقاء الحاضر على ما هو عليه.

ثالثاً: فرادة الحالة العراقية في مرآة التجارب الأخرى

- تبرز الطبيعة الاستثنائية للمسار العراقي بشكل أوضح عند مقارنته بتجارب دولية أخرى، حيث نرى أن لكل تجربة منطقها الخاص، لكنها جميعاً تُضيء على تفرد المأزق العراقي.

‌أ) لبنان: صمت العفو العام: في لبنان، اختار المشرّع بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990) إصدار قانون عفو عام وشامل عام 1991. كان هذا الخيار يمثل "عدالة الصمت"، حيث تم طي صفحة الماضي بالقوة التشريعية، دون مساءلة أو لجان حقيقة. النتيجة كانت إنتاج "ذاكرة مجروحة" وسلام هش قائم على التناسي لا المصالحة. ذهب العراق إلى الاتجاه المعاكس تماماً: "إفراط تشريعي" في قوانين العدالة والذاكرة. لكن المفارقة أن النتيجتين تكادان تكونان واحدة: غياب انتقال مؤسسي حقيقي، واستمرار الانقسامات تحت رماد الصمت أو ضجيج القوانين.

‌ب) تونس: توثيق الحقيقة وسط التجاذبات: تمثل تجربة "هيئة الحقيقة والكرامة" في تونس (2014-2019) نموذجاً مغايراً. رغم كل التجاذبات السياسية التي أحاطت بعملها، نجحت الهيئة في إنجاز مهمتها الأساسية: توثيق انتهاكات الماضي وإنتاج تقرير ختامي شامل باللغة العربية. هذا التقرير أصبح إرثاً معرفياً ووثيقة تاريخية لا يمكن تجاوزها، حتى لو تم تجاهل توصياتها. لقد قدمت تونس نموذجاً في "أرشفة الألم" كخطوة أولى نحو الاعتراف. العراق، بكل مؤسساته وقوانينه، لم يتمكن من إنتاج مثل هذا التوثيق الشامل والمُجمع عليه، بل أنتج روايات متصارعة.

‌ج) كولومبيا: عدالة هجينة في ظل نزاع مستمر: تُظهر تجربة كولومبيا، مع "المحكمة الخاصة من أجل السلام" (JEP) التي أُنشئت بعد اتفاق 2016، مساراً معقداً لعدالة ترميمية تعمل بالتوازي مع استمرار بعض جيوب النزاع. تواجه المحكمة تحديات ضخمة في بطء تنفيذ قراراتها. القاسم المشترك مع العراق هنا هو تعثر الانتقال بسبب استمرار الأزمات الأمنية. لكن الفارق الجوهري يكمن في التصميم: النظام الكولومبي مصمم كآلية للخروج من النزاع عبر عدالة تفاوضية تركز على الحقيقة مقابل العقوبات المخففة، بينما النظام العراقي، كما أسلفنا، مصمم لإدامة منطق الاستثناء والصراع.

رابعاً: هل نبني على ما أُنجز محلياً بدل الهدم وإعادة الصفر؟

- على الرغم من قتامة هذا التشخيص، فإن القول بأن التجربة العراقية كانت فشلاً مطلقاً هو تبسيط مخل. لقد تراكم خلال العقدين الماضيين إرث وطني هائل ومعقد: قوانين، مؤسسات، خبرات قضائية، ملايين الوثائق، وشهادات الضحايا. هذا الإرث، على كل علاته، لا يمكن تجاهله أو البدء من الصفر. السؤال ليس كيف نهدم، بل كيف "نعيد هندسة" ما هو قائم لتحقيق غايات مختلفة. إن الانتقال من "الاستثناء المطبع" إلى "عدالة انتقالية ثانية" يتطلب إعادة توجيه البنية القائمة، لا تدميرها. وهذا يمكن أن يتم عبر مسارات متوازية:

‌أ) ترسيم خط نهاية قانوني لمنطق الاستثناء: الخطوة الأولى والأكثر أهمية هي اتخاذ قرار سياسي شجاع بإنهاء "الحالة الاستثنائية". هذا يعني تحديد سقف زمني واضح لعمل قانون المساءلة والعدالة، وتحويل الهيئة القائمة عليه إلى مديرية لحفظ الأرشيف ضمن مؤسسة وطنية للذاكرة، وإنهاء استخدامه كأداة للإقصاء السياسي.

‌ب) تحويل خبرة القضاء الخاص إلى القضاء العادي: اكتسب القضاة العراقيون خبرة فريدة في التعامل مع الجرائم الجسيمة من خلال المحكمة الجنائية العراقية العليا ومحاكم الإرهاب. يجب نقل هذه الخبرة المتراكمة وتعميمها داخل منظومة القضاء العادي، كجزء من إصلاح أوسع لقطاع العدالة يهدف إلى بناء قضاء قوي ومستقل قادر على التعامل مع هذه الجرائم ضمن القانون الطبيعي، لا الاستثنائي.

‌ج) ترقية مسار جبر الضرر إلى برنامج جبر شامل: بدلاً من القوانين المتعددة والمنفذة بشكل سيء، يجب توحيد التشريعات في "برنامج وطني شامل لجبر الضرر". هذا البرنامج يجب أن يُموّل بشكل جيد، وأن يدار بآليات شفافة بعيداً عن التسييس، وأن يشمل ليس فقط التعويض المادي، بل أيضاً التأهيل النفسي، والاعتذار الرسمي، ومشاريع الذاكرة التي تعترف بكل الضحايا دون تمييز.

‌د) تأهيل مؤسسة الشهداء بمنطق الحقوق لا الزبائنية: يجب إعادة هيكلة مؤسسات الذاكرة، وعلى رأسها مؤسسة الشهداء، لتنتقل من منطق "الزبائنية" وتوزيع الامتيازات إلى منطق "الحقوق والمواطنة". يجب أن تُعنى بخدمة كل ضحايا الانتهاكات الجسيمة، وأن يكون دورها الأساسي هو التوثيق والتخليد وبناء ذاكرة وطنية جامعة، لا خلق طبقة من المستفيدين سياسياً.

‌ه) مواءمة إصلاح العدالة مع إصلاح أوسع لحكم القانون: لا يمكن لأي عدالة انتقالية أن تنجح بمعزل عن إصلاح أوسع يشمل قطاع الأمن، ومكافحة الفساد، وترسيخ مبدأ سيادة القانون. يجب أن تكون العدالة الانتقالية جزءاً لا يتجزأ من مشروع أكبر لإعادة بناء شرعية الدولة ومؤسساتها.

خاتمة: إنهاء المؤقت لإعادة بناء الشرعية

- بالعودة إلى منطق روتي تايتل، يمكن القول إن تعثّر "انتقالية" العراق لم يكن مجرد صدفة أو نتيجة سوء تطبيق، بل كان نتيجة حتمية لتحوّل الاستثناء إلى نمط حكم. لقد تم تطبيع الطوارئ، وتسييس العدالة، وتحويلها إلى أداة في يد حكم أوليغارشي لإدامة نفسه عبر إدارة الأزمات.

- لكن الإرث الوطني الذي تراكم، بكل تناقضاته، يظل مادة خام يمكن البناء عليها. إن الخروج من هذا النفق المظلم لا يتطلب استيراد نماذج جديدة، بل يتطلب شجاعة سياسية لإعلان نهاية "المرحلة المؤقتة" التي طالت أكثر من اللازم. إن إطلاق "عدالة انتقالية ثانية" في العراق اليوم يعني، ببساطة، إنهاء منطق الاستثناء وإعادة بناء الشرعية على أساس القانون والمواطنة المتساوية. عندها فقط، يمكن للغسق الدائم أن ينجلي، ولبذرة الدولة أن تنمو على أرض لم تعرف سوى الحرائق.

***

خليل إبراهيم كاظم الحمداني

باحث في مجال حقوق الانسان

..........................

- مراجع مختارة

- Teitel, Ruti G. Transitional Justice. Oxford University Press, 2000.

- Teitel, Ruti G. Humanity's Law. Oxford University Press, 2011.

- قانون المساءلة والعدالة، رقم 10 لسنة 2008. جمهورية العراق.

- قانون تعويض المتضررين جراء العمليات الحربية والأخطاء العسكرية والعمليات الإرهابية، رقم 20 لسنة 2009 وتعديلاته. جمهورية العراق.

- Human Rights Watch (HRW). "تعويض ضحايا داعش: قليل ومتأخر." 2023.

- هيئة الحقيقة والكرامة – تونس. التقرير الختامي الشامل. 2019.

- International Center for Transitional Justice (ICTJ). Colombia's Special Jurisdiction for Peace: Achievements and Challenges. تقارير دورية.

- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في العراق. تقارير حول إصلاح قطاع العدالة والأمن.

بين إرث القرن العشرين وثورة القرن الحادي والعشرين

منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينيات، كان المشهد الإعلامي العربي يقوم على منظومتين رئيسيتين: المصرية واللبنانية، واللتين مثّلتا مدرستين مؤثرتين في صياغة الوعي العربي وصناعة الخبر والتحليل، غير أن التحولات السياسية والتقنية، وتبدل مصادر التمويل، مهدت الطريق لظهور منظومة ثالثة، تبلورت في دول الخليج العربي، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، حتى غدت الأكثر تأثيرًا عربياً وعالمياً.

في مصر، كانت الصحافة - مثل الأهرام، أخبار اليوم، والجمهورية - قلاعًا للإعلام العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، خرّجت أجيالاً من الكتّاب والمحررين، واستقطبت كبار المفكرين. وإذاعة القاهرة كانت الصوت العربي الجامع، خصوصًا في حقبة عبد الناصر، حيث لعبت دورًا محوريًا في نشر خطاب القومية العربية، لكن، بعد 1952، ومع سيطرة الدولة على الإعلام، أصبح الخطاب أكثر شعاراتية وتعبئة سياسية، على حساب التنوع والحياد، ومع مرور الزمن، فقدت الصحافة المصرية جزءًا من بريقها أمام منصات أجنبية ناطقة بالعربية، مثل القسم العربي في BBC وصوت أمريكا وإذاعة مونت كارلو، ومع دخول الألفية الجديدة، لم تستطع كثير من الصحف التقليدية مجاراة التحول الرقمي بنفس الزخم، رغم استمرار حضور الأهرام والمصري اليوم في المشهد.

أما لبنان الستينيات والسبعينيات، فكان عاصمة للإعلام الحر، بصحفه البارزة مثل النهار والسفير، التي كانت منابر فكرية وسياسية لكبار الصحفيين والكتاب العرب، فضلًا عن مجلات مثل الحوادث والمستقبل، وإذاعات وقنوات خاصة جمعت أطيافًا متنوعة، هذا التنوع جعل بيروت ملاذًا لقوى المعارضة من مختلف الدول العربية، لكن الحرية الإعلامية لم تكن مطلقة؛ فقد أثّر التمويل الخارجي ونفوذ النظام السوري في مرحلة لاحقة على استقلالية الخطاب، ومع الأزمات السياسية والاقتصادية في العقدين الأخيرين، انحسر دور الصحافة الورقية اللبنانية، وتراجعت قدرتها على التأثير إقليميًا، رغم محاولات النهار والأخبار التكيّف مع الإعلام الإلكتروني.

مع نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، بدأت ملامح منظومة إعلامية جديدة تظهر في الخليج، مستفيدة من إمكانات مالية هائلة واستقرار سياسي نسبي، ومنفتحة على تجارب الإعلام الغربي، في المملكة العربية السعودية، شكّلت صحف مثل الشرق الأوسط، والحياة (التي توقفت ورقيًا وتحوّلت إلكترونيًا قبل أن تغلق نهائيًا)، وعكاظ، نماذج لصحافة تجمع بين المهنية والبُعد الإقليمي، هذه الصحف، التي كانت تُطبع وتوزع على نطاق عربي واسع، أصبحت لاحقًا رائدة في الانتقال إلى المنصات الإلكترونية، مستفيدة من النجاح الكبير الذي حققته ايلاف الالكترونية باستخدام التكنولوجيا الحديثة وقواعد البيانات الواسعة.

وفي الإعلام المرئي، كانت ولادة مجموعة MBC عام 1991 منعطفًا مفصليًا، إذ جمعت بين الترفيه الموجه والمحتوى الإخباري المتطور، قبل أن تطلق قناة العربية التي أصبحت إحدى أهم القنوات الإخبارية في العالم العربي، بمنافسة مباشرة مع الجزيرة القطرية، وفي الإمارات، جاءت سكاي نيوز عربية لتضيف بعدًا جديدًا من الاحترافية والحياد التقني، هذه المؤسسات لم تكتفِ بالمحتوى التقليدي، بل أسست مواقع إلكترونية وتطبيقات متقدمة تقدم المحتوى المرئي والمكتوب والوسائط المتعددة في آن واحد.

في العقدين الأخيرين، برزت السعودية كمركز ثقل للصحافة الإلكترونية العربية، مع منصات مثل سبق وعاجل وصحيفة المواطن، التي استطاعت الجمع بين سرعة الخبر ودقته، واستقطاب جمهور واسع داخل وخارج المملكة، هذه المنصات تفوقت في قدرتها على مواكبة الأحداث لحظة بلحظة، مستفيدة من الحضور القوي على وسائل التواصل الاجتماعي، وفي المقابل، لم تستطع كثير من الصحف المصرية واللبنانية التقليدية تحقيق التحول الرقمي بنفس الكفاءة أو الاستدامة.

تكشف التجربة أن الصحافة العربية، التي كانت في القرن العشرين تتباهى بأسماء لامعة في الورقي مثل الأهرام المصرية والنهار اللبنانية، قد وجدت نفسها في الألفية الجديدة أمام واقع مختلف، حيث فرضت المنصات الإلكترونية الإخبارية - مثل سبق والعربية نت وسكاي نيوز عربية والجزيرة نت - حضورها الطاغي من حيث الانتشار وسرعة التفاعل، هذه المنصات لم تكتفِ بنقل الخبر، بل تبنّت أساليب عرض متطورة تعتمد الصور والفيديو والبث المباشر والتفاعل اللحظي مع الجمهور.

ورغم ذلك، فإن "نكهة الورقي" لا تزال تحتفظ بمكانتها لدى شرائح معينة من النخب الثقافية والسياسية، التي ترى في الجريدة المطبوعة وثيقة تحفظ الخبر خارج ضجيج العالم الرقمي وسرعة تقلباته، هذه الفئة لا تزال تقتني الشرق الأوسط والأهرام أو النهار أو عكاظ كجزء من طقسها اليومي، حتى وإن كانت تتابع المستجدات عبر الهاتف.

إن انتقال الريادة من الورقي إلى الرقمي لم يكن مجرد تحول تقني، بل كان إعادة صياغة كاملة لآليات التأثير في الرأي العام العربي، لتصبح الصدارة اليوم لمن يستطيع الجمع بين سرعة العصر الرقمي وعمق المدرسة الورقية، وهو التحدي الحقيقي لمنظومات الإعلام العربي في القرن الحادي والعشرين.

***

كفاح محمود

"استعارة شعب الله المختار اعلان لاهوتي مُسيَّس لعمل أي شيء ..."

لا تعدُّ الاستعارات الخاصة بالكيان الكولونيالي زائدةً لغويةً، فهي ترتبط بنسق أعمق من المفاهيم والأفكار المؤسسة له. بحيث تحرك الاستعارةُ مجموعةً من التصورات والأخيلة والخطابات التي ترسم خريطة الواقع. إنها تُلخص ترسانةً من المبررات المُقَنّعة التي تتخفى لخدمة الوضع القائم. حتى إذا توجهنا لنزع النقاب عنه، سنجد كماً من الأقنعة الحائلة دون رؤية هذا الكيان داخل الاستعارات طوال الوقت. وأخطر شيء هو التصديق بما تقوله الاستعارت كأنَّه الحقيقة الراسخة، لأنَّها مجازات ضاغطة للعالم ومختزلة لجوانبه وعلاقاته المركبة. وستعود- قريباً أو بعيداً- في شكل صورٍ مشوهة وعنيفة. كما أن السياسة لا تتنظر العقول حتى تستجلي المواقف، إنما تستولى على المشهد بلا استئذان.

ولكن بحكم الحفر خلف الاستعارات، سندرك أن نسق المفاهيم يتحرك فوق مساحةٍ تاريخية تتجاوز الوضع الراهن وتتشابك ثقافياً ومعرفياً لرسم صورته. توضيحاً لذلك ولكي نعرف كيف اكتملت " استعارة البَوّ الكولونيالي" المنطبقة على اسرائيل بجوار أمريكا، علينا ممارسة أقصى درجات التدقيق إزاء الكيان المُسمى بدولة الاحتلال. لأنَّ نقطة تمركزها الجيوسياسي غارقة في تربة التاريخ والسرديات والآثار والانثروبولوجيا. أي دخلت محيطاً ثقافياً تتنازعه صراعات القوى الناعمة والخشنة على السواء. وبات اللعب الصهيوني في الأصول السياسية وعبر صور الأحداث أمراً مثيراً للاهتمام. فالحروب بالاستعارات متماثلة، إلى حد أنّ ما يجري في ميدان المعارك المادية معروف بدرجةٍ لا تبتعد كثيراً عن مجالات الثقافة وتشكيل الذهنيات العامة.

لقد تمَّ الاختلاق الاستعاري لاسرائيل في الخطابات العامة بواسطة المقولات التوراتية مرةً، وتم تبريره من خلال المقولات المعرفية الحفرية مرةً أخرى. وكم من مرة جرى تداوله عبر المقولات السياسية. وها هو الآن اختلاق يرتدي درعاً واقياً من الحرب الالكترونية والعسكرية المدمرة. لدرجة أنها مقولات باتت متضافرة في خطابات الدعاية والوعود والأحداث الاسرائيلية. وعد بلفور- مثلما سأطرح- كان بمثابة اطلاق (حزمة استعارات) لأخذ الأرض وبناء الدولة والالتصاق بقوى الغرب الفاعلة وتقريب المستقبل البعيد. ليست اسرائيل غيمة عابرة فوق أجواء فلسطين التاريخية دون اشتباك. هي حيوان سياسي شرس يضرب مخالبة في شقوق الأرض المستلبة عن قصد وتربص. ويجب أن نتذكر أن خاصية أية استعارة سياسية بهذا الوضع هي محاولة زحزحة الأصل بصورة مُبررة والاحلال مكانه.

طوال الوقت مع وجود اسرائيل، يطرح كيانها الكولونيالي الاستعارات بصيغة التأصيل (البحث عن أصل ما). استعارات تخرج من نقطة (الصفر الانطولوجي) لوجود الدولة كله في أرض فلسطين التاريخية. جميع استعاراتها تحمل هذه النبرة الحدية. بحيث تقطع الاستعارة بمعناها البات مع الواقع والزمن. هي استعارات ترمي إلى وجود معانٍ خارج التاريخ، إذ تحمل واقعها الخاص لتفرضه فرضاً إزاء الآخرين. وكأنَّ التراث اليهودي لهذا الكيان الكولونيالي يسُوق كل التفاصيل انطلاقاً من المعتقدات الدينية حتى المعتقدات السياسية.

وذلك مؤدّاه أنَّ اسرائيل تعاني من هواجس وجودية مزعجة حول مشروعية ذاتها. ترى باستمرار أنها دولة غير مشروعة وتترقب من وقت لآخر نوعاً من التهديد الوجودي. فلو أنها تتمتع بحقوق مشروعة ما كانت لتساير النزوع نحو التأصيل والعود على بدءٍ طوال الوقت. فالمستوطنات هي عودٌ على بدء من جهة كونها امتداداً للزحف السكاني المسيّس (تهويد المدن الفلسطينية)، وكذلك ترجع إلى نقطة البداية تاريخاً وايديولوجياً. مستوطنات تشطب وجود العمران الآخر وتخرب ما هو قائم بحثاً عن خرائط مغايرة وقد تجاهلت حقوق السكان الأصليين. إنها القطيعة الانثروبولوجية بشكل ارتدادي واصلاً لتراث بني اسرائيل مع الزمان والمكان. سياسة الترقيع الكولونيالي للأرض والاستيلاء عليها.

تكشف الاستعارات الحديّة أكثر مما تغطي ولا تعطي مستعيراً فرصة التواجد الحر دون اسئلة. إن كياناً كولونيالياً لا بد أن يطلق الاستعارت حتى يَعمي من ينظر إلى استجلاء المشهد. والنظر كأنه النظر الأخير بعد فوات الآوان مثلما أن الاستعارة تحدد موضوعها بصيغة ميتافيزيقية تامة الدلالة. إنها تنطلق من (ميتا استعارة meta – metaphor). بحيث لا يوجد قبلها ولا بعدها غير الدلالة الخالقة لموضوعها دوماً. ولذلك كانت اسرائيل في جميع ممارساتها حاملة للافتة ميتافيزيقية بحتمية العنف والحرب.

أكاد أُجزم أن اسرائيل لا تستطيع حل أية مشكلة من مشكلاتها إلاَّ بالحروب، لكونها دولة استيطانية غير مشروعة. الحرب قدر تاريخي في تراث اليهود، حيث تصبح الحروب جزءاً لا يتجزأ من لحمة الحياة. في الصراع يتجلى وجود الرب ويتجلى الزمن وتظهر الحقائق ويُستعاد الملك الغابر وتخضع كافة الشعوب للشعب المختار. ولا تكتفي اسرائيل بهذا، ولكنها تأخذ مواقف المراوغة والتسويف إزاء حقوق الناس الأصليين.

هذه المشاهد العنيفة ليست وليدة الصدفة، لكنها ناجمة عن كون اسرائيل مشبعة تاريخياً بكم مرعب من الاستعارات. وعندما تكون ثمة دولة تتقمص دور الاستعارة، فهي كالأسطورة تحلق فوق كل الحدود والضوابط الانسانية. إنها تنتظر مواقع التقديس والتبجيل من المحيط الذي تتواجد فيه. اسرائيل ظاهرة استعارية مقدسة على هذا النحو أو ذاك. ولكن ما الذي يجعل دولة تتعامى عن الواقع لدرجة اغتيال الشعب الأصلي بدم بارد؟ كيف لأُناس– أيا كانت مكانتهم السياسية- يعيشون داخل الأوهام؟ لماذا يفقد الكيان الاسرئيلي كل مؤشرات البصيرة تجاه جيرانه؟!!

فكرة " شعب الله المختار"chosen people أبرز الوسائط التي يعيش فيه هذا الكيان الكولونيالي. استعارة لاهوتية سياسية تتبلور في شكل ايديولوجيا صهيونية بكل اجنحتها على الأرض. هناك جناح انثروبولوجي ممتد و جناح آخر لاهوتي وغيرهما هناك جناح ميتافيزيقي وفوق ذلك يوجد جناح سردي – ثقافي يغلف العقول حتى لا تقوى على النقد والفهم. تتأصل الاستعارة الانثروبولوجية بهذا الامتداد الوجودي أمام شعب الرب. جاء في التوراة مخاطبةً بني اسرائيل: " لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ، وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ.". (سفر التثنية/ الاصحاح 14: 2).

الجوهر في المسألة أن الرب اختار شعب بني اسرائيل لتنفيذ وصاياه ومن أجل الطاعة المنتظرة منه والإمانة التي يجب التمتع بها. وتبدو الوصية واضحة بحمل وحي السماء إلى جميع أرض الرب. في المقابل نتيجة ذلك أن يحمي الرب شعبه المختار ويجعله في مكانة سامية بين الأمم." استمعوا لصوتي، فأكون لكم إلهًا، وأنتم تكونون لي شعبًا، وامشوا في كل الطريق الذي أوصيكم به، ليكون لكم خير" (سفر إرميا/ الاصحاح 7: 23). إن كونهم شعب الله المختار حمل في طياته مسؤولياتٍ روحيةً أعظم، وتضمن معاييرَ أكثرَ إلحاحًا، وضرورةً لتنميةِ قوةٍ روحيةٍ عالمية خارج نطاق اسرائيل المحدود.

ولكن تسيّست استعارة " شعب الله المختار" باعتبار أن اسرائيل متصلة انطولوجياً بالإله. الفكرة التي وُظفت في اليهودية لشق العالم إلى نصفين: نصفه الأعلى يتكون من شعب الرب: والنصف الأسفل يشغله كل البشر قاطبة. تلك الاستعارة القائمة على الاختيار الالهي دون مقدمات ولا حيثيات. حكم ميتافيزيقي لا رجعة فيه. وكأن التحديد المستعار أن الرب بعد أن خلق العالم والشعوب قرر أن يقرب شعباً من ذاته فقط بخلاف جميع الآخرين. والاستعارة بهذا المنطق هي اعلان حرب واجلاء للشعوب الأخرى من ملكوت الرب. وهذا ما تمارسه اسرائيل اليوم على صعيدي السياسة والعلاقات الدولية وتمارسه بشكل دموي إزاء الفلسطينيين.

أعاد الكيان الكولونيالي عقيدة الشعب المختار إلى تراثها الطويل الذي انحرف عن فكرتها الأولى. حيث استولى الشعب اليهودي على فكر الإله من الإنسانية بوصفه راعياً لكيانهم السياسي. حيث كشف التحليل النقدي للعهد القديم عن تطور معقد لهذه العقيدة في تاريخ إسرائيل القديمة. ومن الواضح أن الفكرة نشأت بصدد المفهوم الأساسي حول (الإله الوطني) الوحيد لإسرائيل، وأن إسرائيل بدورها تمثل شعب الله وهي شعبه وحده ليس أكثر. وطبعاً جرت الفكرة على كامل الجوانب التصورية التي تخدم دولة الرب، وجيش الرب، ومستوطنات الرب، وممتلكات شعب الرب. إذ ذاك تختلط العقيدة الميتافيزيقية بالجوانب السياسية.

ثم واصلت استعارة شعب الله المختار سريانها الميتافيزيقي في جسد الكيان اليهودي، لأن الاعتراف بذلك هو اعتراف باعادة إسرائيل إلى الاستقلال الوطني في النهاية، وأن جميع الأمم الأخرى محكوم عليها بالهلاك لعدم الاعتراف بيهوه كإله لبني اسرائيل.

تنطوى استعارة " شعب الله المختار" على نقاط تُعري نسق المفاهيم:

1- شَق السماء.

ارتبطت عقيدة شعب الله المختار بآلية سياسية تاريخية. إذ جرى الاعتقاد اليهودي بكون وجود الإله الراعي لاسرائيل هو الضمان لعودة الشعب من شتاته التاريخي وتأسيس الدولة كغطاءلأمة واحدة. جرت الاستعارة لتضيء السماء أمام اليهود دون سواهم. وليس ذلك أمراً اعتباطياً، لأن المعتقدات الاسطورية كامنة في تلك الاستعارة من جهة خلق إله على مقاس بني اسرائيل. استحواذ على معاني الإله بتوقيع ميتافيزيقي كامل الظلال على الأرض. ظلال لشعب الرب كأنه هيكل وثني متأخر عن زمانه.

إن الكيان الصهيوني يشق طريقاً إلى السماء رأسياً بحروبه، لأنه يذكّر شعوب الأرض بكونه يحارب من أجل الرب. حيث يعزل نفسه متحصناً في كتلة من الاعتقاد بكونه يمتلك حق الانتهاك. أي حق التجاوز تجاه الاغيار. بالفعل ينتهك الجيش الاسرائيلي كل القواعد الإنسانية، لا لشيء إلا لكونه قد رضع مفاهيم توراتية مسيَّسة. إن انقاذ الإله من انياب الشعوب الأخرى هو أحد تصورات وثنية ترسبت لدى المعتقدات اليهودية. وثنية سياسية باتت قد الضخ مع الحروب الكولونيالية في المنطقة، لأنها حروب تصب في مصلحة اسرائيل.

2-  ميتافيزيقا الفرز العنصري:

تزعم استعارة شعب الله المختار أنَّ هناك ضرورة للعيش بمنأى عن الآخرين. وليسوا هم أناساً آخرين وكفى، ولكنهم مجرد أغيار. والغير هو المختلف القابل للفرز العنصري بسهولة، أي يسهل تصنيفه ووضعه داخل خانات تمهيداً لاقصائه. نظراً لكونه لا يندرج تحت ظلال شعب الرب. كما أنه لن يكون مختاراً، من حيث كان الاختيار أمراً إلهياً أزلياً وله صفات القداسة.

من ثم سيصبح الإله نفسه أداة فرز للبشر من حيث كونه غير ذلك دينياً. لأن الاستئثار بالإله كمن يحاول امساك المطلق بمنطق النسبي ... وهذا مستحيل. ولأنَّ اسرائيل لا تقول ذلك صراحةً إلاَّ عبر ايديولوجيا كولونيالية، فالأمر يظل فرزاً مسلحاً. ليس ثمة مبرر لهذا الكم من التسليح في دولة الاحتلال إلا إذا كان ثمة فرز متواصل. أي ستظل اسرائيل تدافع بمنطق الاستعارة الحالية عن ممتلكات ميتافيزيقية دونها الموت والدمار.

3- ظلال الإله.

طالما تمسك الاستعارةُ الإله، فهذه دعوة لتتبع الآثار المقدسة. ولذلك فإن التاريخ هو ظلال الرب على الأرض، والذي تجسد في شكل انثربولوجيا الجماعة اليهودية عبر جغرافيا المنطقة. كل ما تريده اسرائيل هو الكشف عن حفريات الجماعات اليهودية الأولى التي تعطيها مبرر المجيء والاحتلال.

في فلسطين، تقلب اسرائيل كل حجر لكي ترى ظلالاً إلهية. لم تقدر أنها أراض ليست لها، إنما أطلقت المعتقدات بكون الأرض كانت في يوم من الأيام تحمل ظلالاً ليهوه. تجليات الرب اليهودي مطبوعة كما تتوهم في رمال فلسطين باحثة عن آثاره القديمة. ما يلفت الانتباه أثناء الربيع العربي أن سمسار الحروب وقتذاك" برنارد هنري ليفي" دخل إلى ليبيا أثناء الأحداث العاصفة 2011 من جهة شرق البلاد، وكلما قطع مسافة نحو العاصمة الليبية كان يطلع على مشهد الصحراء الشاسعة مرددا أنه يتفحص آثار أجداده اليهود الذين مروا عبر شمال أفريقيا!! واطلق على الصحراء الليبية (الرمال الغنية بالذاكرة) متفرساً بقايا المقابر والمنازل المهدمة في الأفق، ومستعيداً الأحداث العالمية التي غطت القرن العشرين.

إن الآثار القديمة بصمات على شعب الرب اقتفاء بقاياها. الكيان الصهيوني حالة سياسية في اقتفاء الأثر والتنقيب عن معالمه. وهو البرهان التاريخي لقيام الملك الغابر لبني اسرائيل. في الطرقات وتحت المقابر وفي أعماق المساجد وتحت ركام المدن، الأثر هو الخيط الذي تتطلع إليه الاستعارات بحثاً عن الحياة الأولى. استعادة الغابر من حياة اليهود بمثابة طقوس استعارية مازالت عاملة في ذهنية السياسيين الاسرائيليين حتى اللحظة. وأخذت ابعاداً حربية حتى أمست تشكل المشهد أمام أية خريطة لفلسطين، ليست استعارة اسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات إلاّ إحدى الاستعارات الجيوسياسية لآثار شعب الرب. الشتات خلال هذه المساحة شتات يتم تجميعه حالياً باعتباره سيادة يهودية أخرى مع دورات الزمن. الأساطير لم تمت، بل تبحث عن مشروعية سياسية كلما لاحت في الآفاق.

4- التطهير العرقي.

إذا حلت الاستعارة بحدها الميتافيزيقي، فلن تُبقي أغياراً في نطاق اشتغالها. لا تنقسم اسرائيل تاريخياً إلا على نفسها. ولنا أن نندهش من شعب آت من شتات الأرض ثم يستوطنا مساحة ليست له ويقاتل تحت مظلة الاستعارة إلى الرمق الأخير. وفوق ذلك لا يقبل بأي فلسطيني فوق أرضه المشروعة. شعب يجتث كل ما يمت إلى الآخر بصلة ويمزق أوصاله ويعيد رسم الخريطة وفقاً لعرقه المستعار والمقدس.

لقد حولت استعارة شعب الله المختار المعتقد الميتافيزيقي إلى أصل انثروبولوجي. وهذه ذروة الحبكة السياسية لعمل الاستعارات على الأرض. أن يصدق اصحاب الاستعارة السردية اللاهوتية مضمونها، فيتجسد التصديق كأنه امتداد انثروبولوجي قائم بذاته. ليس اليهود عرقاً واحداً، إنما مجموعات من جنسيات وأصول متباينة تجمعهم المعتقدات لا غير. التطهير العرقي نتيجة أدجلة الديانة في شكل تكتل بشري وقد حلَّ محل التاريخ. فالواضح أن المعتقد اليهودي (خارج التاريخ) قد تجسد بشراً (عبر التاريخ) وباتت له جذوره الإنسانية. مما يقتضي إزاحة كل العناصر البشرية المغايرة من طريقه، واستئصال ما يقابله من تجمعات إنسانية أخرى.

الوضع معبر عن استعارة مركبة متعددة المستويات. فاللاهوت يستعير آفاق الانثروبولوجيا متحولاً إلي راعٍ لجماعة من البشر (شعب اسرائيل). كأنَّ الأمر اعجاز أيديولوجي خالق لموضوعاته البشرية بالأصالة. ثم يجري توظيف اللاهوت الانثروبولوجي سياسياً في صورة نزعة عرقية متشددة تجتاح المجتمع الأصلي. وأخيراً تمارس الحروب الصهيونية الاستعارات اللاهوتية الانثروبولوجية لتطهير الأرض من الشعب العربي على قاعدة: أنَّ عرقاً يحارب عرقاً. وهذه قمة التزييف الساخر لأن اليهود في العالم ليسوا عرقاً، لكهنم ديانة تبحث عن تشكيل دولة بحسب الايديولوجيا الصهيونية، فكانت استعارة شعب الله أقرب الطرق وصولاً إلى الهدف المأمول.

5- الابادة الجماعية.

كل استعارة تخرج بهذه الظلال الكونية تحتم الفتك بمن يقف أمامها. ربما كانت ممارسات شعب الله المختار هي مخزون القتل الذي لا ينضب حتى الساعة. لا تميز اسرائيل بين فلسطيني وآخر ولا بين عربي وغيره، إنما تقتل دون رحمة. تقتل من الجذور إلى الجذور لا تهادن ولا تفرق. إن الكيان الصهيوني بات خطراً محدقاً بالإنسانية كلها لا مجرد أخذ أرض ليست أرضه. فهو يقدم نموذجاً غير مسبوق للابادة الجماعية.

إذا نظرناً إلى تاريخ الإبادات الجماعية، سنجده قائماً على خلاف بين عرقيتين أو نتيجة صراع بين قبائل بدائية أو نزاع على مناطق نفوذ أو بفضل حروب لاسباب سياسية، ولكن الابادة الجماعية في حالة اسرائيل تتوافر على أدوات الابادة القصوى: الايديولوجيا واللاهوت والسياسة الاستيطانية في قرار حربي ميتافيزيقي قاتل لا محالة. بجانب ذلك هناك رعاية كولونيالية وضعت كل قدراتها داخل فوهات الموت الصهيوني وقتما تريد اسرائيل. إن استعارة شعب الله المختار تصريح ميتافيزيقي بالابادة الجماعية التي لا تبقي ولا تذر.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

التمرد أو العصيان كتغيير للعالم الاجتماعي

يكرس بيير بورديو في جزء مهم من كتابه "ما معنى أن نتكلم: اقتصاد التبادلات اللغوية"، نظرية استعادة أخلاقية السياسية، مجسدا تفوق بنياتها الاجتماعية واستمرارية قدرتها على فرض ترسيمات تصنيفية منتجة، على قاعدة رؤيته الفلسفية التي تقوم على أن " القلب السياسي يفترض قلبا إدراكيا وتحولا في رؤية العالم".

وينطلق بورديو، وفق تصوراته المنطقية، من كون القطيعة المارقة مع الوضع القائم والاستعدادات والتمثلات التي تخلقها عند الفاعلين المشكلين طبق بنياتها، تقوم أساسا على وجود أنماط اختزالية للغة الخطاب (الخطابات النقدية والأزمات الموضوعية)، هي مرآة ناظمة لوضع لا يتحرك من الداخل، بقدر ما يؤثر على مساحة كبيرة من العقل الجمعي، مرتبط بمفارقات وتناقضات يصعب حصرها.

وبينما يرى بورديو أن "العصيان المارق"، يستغل إمكانية تغيير العالم الاجتماعي بتغيير تمثل هذا العالم، إذ يساهم في جعله أكثر واقعية. فإن معرفة الدرجة التي يصبح فيها بالإمكان تغيير الواقع الاجتماعي بتغيير التمثلات التي يكونها عنه الفاعلون، ينزاح إلى استثمار علاقات السيطرة داخل هذا المجتمع، وذلك لأجل تغليف حجابها بغطاء سحري قائم على الانكار المستمر للحسابات.

ذاك الفاعل السياسي، الذي يحوز بعضا من أشكال الرأسمال الرمزي، كالحظوة والكاريزما والجاذبية وعلاقات التبادل التي تمكن هذا الرأسمال من التراكم وتبادل الخدمات والهبات وكل أشكال العناية والرأفة، يتجرد من كل ما يتفرد بالأفضلية، ويفتح الأبواب الموصدة في وجه تحقق نظام اجتماعي أكثر شفافية وأدق استئثارا وأٌرق تجذرا بالواجهة المجتمعية المستقبلة للخطاب إياه.

من فعالية "الخطاب المارق" إلى نقده

من شروط تحقق "الخطاب المارق" عند بورديو، عدم الوقوف عند حدود المساهمة في تقويض عملية الانضمام إلى الحس المشترك، بالإعلان عن الملأ القطيعة مع النظام العادي، بل إنتاج حس عام جديد وإمداده بممارسات وتجارب، كانت مضمرة أو مكبوتة من طرف الجماعة بأسرها، تكون مدعومة بالشرعية التي تستمدها من المظاهر العامة والاعتراف الجماعي بالفعل(1). تماما مثلما تكون الحياة العامة للأفراد مطوقة بالتزامات قيمية ومعرفية، تشترك في ذاك الحس الجماعي مع المبادئ والأدبيات التي تدعو إليها المنظومة الديمقراطية، بأبعادها وتأثيثاتها المرجعية، وانحيازها للغة التأويل والتحول إلى النقيض ونقيض النقيض.

ولا تكمن فعالية "الخطاب المارق"، في قوة سحرية اللغة، ولا في شخصية قائل الخطاب (الخطيب)، أو في كاريزماه، ولكن في العملية الجدلية التي تجري بين اللغة المرخصة والمرخص لها، واستعدادات أفراد الجماعة التي ترخص لها وتستمد منها الترخيص. وهي الإشارة الحبلى، التي يعمد بورديو إلى استعارتها بوضوح وشفافية، في عملية إنتاج الخطاب المارق، حيث تنجلي العلاقات البينية الخطابية في بؤرة الاستعدادات ما قبل الكلامية وما قبل التأملية والتجارب التي يستحيل التعبير عنها وملاحظتها قابلة للشروع في عملية تموضع المفردات وقابليتها للمشترك والإيصال.

وما يجري من داخل هذه العملية المعقدة، ينسحب مباشرة إلى عمق الرهان على تشكيل الجماعات السياسية، التي تنساق بالبداهة إلى توسيع هدفية أو فعالية التمثلات، ومن بعدها إضمار أوجه توكيد المفردات والشعارات والنظريات التي تساهم في تشكيل النظام الجماعي، وفي الأعم، إبراز سلطة المسرح السياسي الرمزية التي تحقق وترسم رؤى العالم والتقسيمات السياسية.

إنكار الصراع السياسي واستراتيجية الحياد الأخلاقي

سرعان ما يتألب نظر بيير بورديو في أفق استعادة جوهر "الخطاب المارق"، الذي يصير عمله المحرك، منحازا ومتوثبا إلى صناعة عنصر القوة والضغط، في تبنيه لمنحى النقد (المارق) الذي يواجه بأسا شديدا وسيطرة تتفوق على التشكيل الجماعي، ما يجعله موضع تساؤل في إدراك مداه وجوهره وخضوعه للتنظيم الذي يفوقه في الاعتبارات (ازدياد انكماش القوة الانقلابية والكفاءة النقدية بلغة بورديو). ويستطيع هذا التموقع، أن يخلق خطابا سياسيا غير مرسوم، يتميز باللجوء إلى بلاغة الحياد المطبوعة بدورها بخضوعها لمفعول التناسق والتوازن والوسطية، واستنادها على روح اللياقة وحسن السلوك. ولا بأس من إقامة طفرة في شأن إنكار الصراع السياسي من حيث هو صراع مفتوح على كل واجهات النقد والاحتكاك والتدمير أيضا، على أن استراتيجية الحياد (الأخلاقي) هذه تصل إلى شكلها المكتمل الطبيعي باستعمالها لبلاغة علمية لا محيد عنها.

يلاحظ مفكرنا أن الخطاب السياسي غير المرسوم سياسيا، يتميز باللجوء إلى بلاغة الحياد المطبوعة بدورها بخضوعها لمفعول التناسق والتوازن والوسطية، كما استنادها على روح اللياقة وحسن السلوك. ونتساءل نحن، عن دائرة هذه البلاغة المقصودة عند بورديو، إذ لا حياد فوق سلطة البلاغة عامة، فهي مجردة عن الافتئات إلى مواربة حقيقة الصراع وأتونه المصطنعة المقبوضة بأدوات القبول والرفض. فالقواعد الكامنة في البلاغة كما هو معلوم تنهض على شواهد العبث بالفكرة، فكرة المتكلم والمخاطب معا، ولكنها لا تقاس بالحياد الإيجابي.

فكيف بالبلاغة أن تسترفد هذا النظام في أخلاقيته السياسية المنتقاة، إلى إنكار الصراغ، كما هو الحال عند تقديمنا لواجهة المنطق البلاغي دون إلغاء كل ما هو منحاز إلى لغة الخطاب السياسي، التي يعتبرها صاحب اقتصاد التبادلات اللغوية، مجرد خطابات لم تعد مسيسة، أو بالأحرى لا تتعدى كونها نتاجا لعمل تحييد أو إنكار، لأن هدفها يكون بالأساس استعادة المعتقد العام، الذي يميل دائما إلى تطبيع النظام العام، ويلجأ إلى لغة الطبيعة.

بلاغة القطيعة الزائفة

هل هناك فعلا لغة خاصة تتميز عن غيرها من الأنماط الخطابية، خصوصا منها العلمية التي لا تخفي تبعيتها للمناهج المتبعة. إذ الأولى تقترب لمظهر الاستقلالية، أو هي كذلك، لا تستطيع الصمود في مواجهة تيارات التغيير من غير خوض صراع البقاء، تحت مسمى القطيعة وإمكانات تدبير الاختلاف وتأثيرات حقول المعرفة. كما هو الحال بالنسبة، لتمثلات اللغة في علاقتها بالعلوم الدقيقة وتجاورها المستدير مع اللغة العادية، التي لا تأخذ معناها على نحو كامل دون عملية دمج مستديم في أنساقها المبنية. ولا أدل على ذلك، ما تم استنتاجه، بلغة بورديو على مستوى الربط مثلا، بين الجناس الاستهلاكي والتسجيع، والتي تخلق علاقات تشابه شكلية وصوتية شبه مادية بإمكانها أن تُنشِأ كذلك تآلفا ضروريا من الناحية الشكلية كفيلا بالكشف عن العلاقة الخفية التي تربط بين المدلولات.

وتنشغل بلاغة القطيعة تلك، بما أسماه صاحب كتاب "اللغة والسلطة الرمزية"، بما وصفه ب"الادماج في نسق اللغة الفلسفية"، والذي من شأنه تسهيل عملية الانكار للمدلول الأول، المدلول ذاته الذي تحمله المفردات المحظورة، طالما أحالت إلى نسق اللغة العادية، والذي يبقى رسميا خارج النسق الواضح ولم يعد له مكان للتصرف سوى الخفاء نفسه.

لكن، لماذا يميز بورديو بين مفهوم الإنكار وتأسيساته الخاضعة للنقد والمجازفة، عوض عملية التحويل التي يعتبرها ضرورية كشكل مبدئي لا تضيع بين طياته وضعية استعمال الخاصية الجوهرية للغة؟.

بورديو يعتبر الإنكار مبدأ مؤسسا للعب المزدوج، حيث لم يعد ممكنا تأويله، دون تحقق المعلومة المزدوجة الصادرة عن كل عنصر من عناصر الخطاب الذي يتم تحديده دائما وفي نفس الآن بانتمائه إلى نسقين، نسق اللهجة الفلسفية الخاصة (الظاهر)، ونسق اللغة العادية (الخفي). ومن تمة يتم إخضاع الصالح التعبيري لعملية التحويل إياها، دون إخفاء العناصر المكبوتة، مستعينا بإدماجها في شبطة من العلاقات الكفيلة بتغيير قيمتها دون المساس بجوهرها.

إن تمة ما يؤشر على أن الفرضية السوسيولوجية لدى بورديو، والتي سبق وأسس لها في مقاله الشهير "السوق اللغوية"، والتي قاربها على النحوالتالي:

 تطبع لغوي + سوق لغوية = عبارة لغوية أو خطاب

ينتج ما قاربه في تفكيكياته المنظورة، حول طريقة تطور المفاهيم وليس بواسطة المراقبة المنطقية الخالصة التي تحجرها. حيث يرى أن المفهوم الجيد، كمفهوم التطبع، يدمر كثيرا من المشاكل المزيفة (كالخيار بين النزعة الآلية والغائية مثلا)، كما ويستخرج منها مشاكل أخرى كثيرة، لكنها واقعية. فعندما يكون المفهوم مبنيا ومراقبا على نحو جيد، فإنه يميل إلى تحصين نفسه من عدوى الاختزالات.

هو عينه التنافر أو التعارض الموجود بين المتميز والسوقي، والذي يرى أنه يتخذ أشكالا تافهة لدى عقول متميزة على نحو فلسفي، وحس التميز الفلسفي هذا هو الذي جعل خصوم هيدغر يبحثون دون طائل في كتاباته، بما فيها السياسية، عم أطروحات تعبر دون التباس عن ميول نازية، كما أنه جعل أنصاره يبحثون هم كذلك دون التوصل إلأى نتيجة تذكر عن حجج للدفاع عن رغبة ما في الابتعاد عن الأشكال الأكثر وضوحا في تعبيرها عن احتقار للعامة.

***

د. مصطفى غَلمان - باحث وإعلامي مغربي

...............................

* بيير بورديو "ما معنى أن نتكلم: اقتصاد التبادلات اللغوية" ترجمة رشيد بازي، المركز الثقافي للكتاب الدار البيضاء، ط1 / 2023

يقال للـ"ذكي" انه يضع العربة امام الحصان، وهو الذي "يمتلك!!!!!!" موهبة وضع الأولويات وتوجيه الموارد البشرية والمالية وجهتها المناسبة. لست أجد اقرب من ذلك المثل لوصف حال من يسّخر معظم موارده باتجاهات شتّى ليست من ضمنها المتطلبات الأساسية للبنية التحتية الأولية، ومن تلك الموارد ما يتعلق منها بجهود وأموال أساتذة الجامعات والإدارات التنفيذية فيها. واحدة من تلك الاتجاهات او التوجهات هي "حتمية" النشر في مجلات ضمن مستوعبات سكوبس سيئة الصيت للحصول على تقييم او ترقية، والسوء هنا ليس بماهيتها ولا آلياتها، بل هو سوء يمكن ان يقال انه سوء فهم واستيعاب لامكاناته وسوء استخدام........!!!!

تعريف بسيط لذلك المستوعب، لمن قد لا يعرفه، انه منصة ربحية أنشأها مجموعة من الشخوص، كما حال أية شركة لها رأسمال وتضع آليات تضخيمه من أرباح خدمات للمستفيدين (سنرى من هم المستفيدين). تلك المنصة وضعت آليات (لا بأس بها عموما، وان كانت مطاطة وكيفية في كثير من ألاحيان) لادراج المجلات العلمية بكل مجالاتها بادّعاء انها مجلات رصينة. وقد وضعت تلك العقول الشاطرة آليات تقييم وتنقيط للمجلات لاضفاء نوع من التفخيم لعملها مما يـ"بقبق" عيون المسؤولين في جامعات افريقيا وبعض دول اسيا ومنها الصين (اذ لا أهمية تذكر لها في اميركا واوربا)، وكل منها لديه دوافعه الخاصة، فلننظر ما هي.

 جامعات الصين وماليزيا والهند، تحديدا، وبعد الطفرة الانفجارية لدول العالم ما تحت الثالث في "توريد" جيوش من الطلبة "غير المؤهلين غالبا" للدراسات الأولية والعليا نتيجة ظروف شتّى أهمها فساد الأنظمة الإدارية في تلك الدول ووضع العناوين والشهادات أولوية لتسلق مناصب السلطة، باتت تلك الجامعات محجا لكل ضعفاء التعليم ومؤسساتهم المحلية، وليس افضل من عبارات مثل تقييم سكوبس والارباع والتصنيف ووو بقية الجنجلوتية، لجذب مثل أولئك الزبائن الباحثين عن عناوين لا اكثر. اما بقية جامعات افريقيا واسيا ومنها العربية فهي "في الغالب" تبحث عن ال"كشخة" دون أهلية حقيقية تنبيء عنها بنيتها التحتية من مختبرات وقاعات وآليات عمل إدارية وفنية، على مبدأ " من بره هلله هلله ومن جوه يعلم الله". وحتى في دول مثل السعودية التي تمتلك ارقى الإمكانات البنيوية، فالشيوخ المسؤولون يستهدفون التباهي مع اقرانهم اكثر مما هي الناحية العلمية او الأدبية.

الأصل في البحث العلمي كما هو حاصل في جامعات اميركا واوربا الرصينة هو محاولة الإجابة على الأسئلة البحثية الواردة من: فجوات معرفية "انتباه على كلمة محاولة وليست إيجاد حلول قاطعة بالمطلق"، او تحديات مجتمعية، او احتياجات الصناعة، أو برامج تمويل كبرى (مثلاً NIH في أمريكا أو Horizon Europe في أوروبا). يتم العمل عليها بأسلوب علمي مدعم بالتجهيزات والموارد الضرورية والتي غالبا ما تتوفر عن طريق الجهات المستفيدة، كأن تكون حكومية مثل  (NIH, NSF, EU grants).، او صناعية (شركات تكنولوجيا، أدوية، طاقة…)، او منظمات غير ربحية مثل   Wellcome Trust، Gates Foundation . هنا لا يبدأ البحث إلا بميزانية كافية تغطي رواتب الفريق، الأجهزة، التجارب، تحليل البيانات، إلخ.، بعد جلسات وحوارات مطوّلة مع الفريق البحثي الذي يتوجب عليه تقديم ما يقنع الممول بجدوى التمويل. بعد التوصل لنتائج حقيقية يتم التفكير والتوافق على النشر واختيار المجلة المناسبة بل وحتى اختيار ما ينشر منها وما هو ليس قابلا للنشر بسبب قيمته المادية او المعنوية. اذن ليس النشر بحد ذاته دافعا معتبرا لدى الجامعات الرصينة ومسؤوليها. بينما العكس تماما في الجامعات المتأخرة حيث يكون اصل العملية مجرد“فكرة يمكن أن تنتج بحثا” بدلًا من سؤال بحثي حقيقي له أثر علمي أو مجتمعي، يرافقه غالبا ان لم يكن دوما ضعف او انعدام تام للدعم والتمويل والمتطلبات حتى البسيطة منها، اذ ان الجامعات ترى ان الترقية العلمية للباحث منّة يتوجب عليه بذل كل شيء من اجلها.

سؤال آخر قد يكمل الصورة أعلاه: ما الفائدة التي تجنيها المؤسسات الاكاديمية من ارتفاع عدد البحوث ضمن مستوعبات سكوبس/كلاريفيت او غيرها؟ بل وما الذي تجنيه المؤسسات الاكاديمية من ارتفاع التصنيف العالمي لها (البعض من بسطاء المعرفة يتوهم ان هذه مرتبطة بتلك أساسا)؟

الإجابة بسيطة: حين يكثر باعة البضاعة الممتازة وتكون لديهم القدرة على تجهيز الكميات المطلوبة، يكون الإعلان التجاري المشوّق خير وسيلة للتقدم. الجامعات الأميركية والاوربية تعمل على الارتقاء بتصنيفها العالمي من خلال تطوير الإمكانات البشرية والفنية واللوجستية واجتذاب الخبرات المتميزة والاستجابة السريعة للاحتياجات المتسارعة في منطقتها والعالم وبذلك ستجتذب زبائن اكثر او اعلى قدرة مالية. فما هو دافع الجامعات التي بالكاد تتوفر لديها قاعات دراسية ليست سوى أربعة جدران وسقف وأرضية وتفتقر لابسط المستلزمات "الحقيقية، وليس على الورق" لاستيعاب الاعداد الموجودة فيها أصلا. ما الذي ستجنيه تلك الجامعات ان قيل انها دخلت في التصنيف العالمي ورقيا، او قيل ان عدد بحوثها في سكوبس عشرات/مئات الالاف؟، بينما تتوجه للدكاكين المسماة مكاتب استشارية او هندسية او طبية لحل مشاكلها البسيطة، كون البحوث المنشورة لا تعدو كلمات مسطرّة على ورق لا يقرؤها سوى كاتبها "ان كان فعلا كاتبها"؟؟ هذا لا يلغي وجود الكثير من البحوث التي "قد" تتضمن بيانات او اكتشافات او تحليلات تستحق النظر والإشادة، لكنها في الغالب ستهمل حال إدخالها ضمن بيانات الباحث لأغراض الترقية.

لو أجرينا حسبة سريعة للاموال التي تذهب للمجلات الصينية/ماليزية/إيرانية/هندية... وبأخذ مبلغ 1000 دولار كمعدل لاجور النشر في مجلات ضمن مستوعبات سكوبس وكلاريفيت (المجلات التي تؤكد عليها الوزارة ضمن الربع الأول لا تقل أجور النشر فيها غالبا عن معدل 2500-3000 دولار)، ومع الزام غير مفهوم وغير عادل لطلبة الدكتوراه والماستر بالنشر في تلك المجلات (2-3 بحوث)، ومن بيانات الوزارة ان عدد البحوث المنشورة على تلك المستوعبات بين 2021-2025 يتجاوز 120 الف بحث، تكون النتيجة حوالي 120 مليون دولار " بالتأكيد هذا رقم تقريبي قد يقترب او لا يقترب من الرقم الحقيقي". اليس هذا رقما مهولا؟ علما انه يخرج من جيوب اضعف فئة في البلد " الضعف هنا ليس ماليا بالدرجة الأولى، رغم انهم ليسوا ضمن الطبقات الميسورة بالتأكيد...!!!". يضاف لذلك المبلغ ما لا يقل عن 3 اضعافه هي تكاليف ابسط بحث علمي رصين "هذه يفهمها العلماء والمتخصصون فقط، اذ ان احد المسؤولين، وكان رئيس جامعة يوما ما، يؤمن ان البحث العلمي مجرد صورة يسحبها الباحث من الانترنيت، حسب وصفه حرفيا". اذن نحن نتكلم عن ما يقارب نصف مليار دولار!!!. ما العائد الذي جنته الجامعات او البلد من ذلك؟ في بلد يئن يوما بعد يوم من العطش والجفاف والجدب بسبب تخلف منظوماته الاروائية والزراعية، والطاقة الكهربائية مشكلة تبدو سرمدية وفضاؤه مخترق على مصراعيه واتصالاته بيد شركات إماراتية/كويتية/قطرية، ويستورد معظم احتياجاته البسيطة من دول الجوار. المثير ان الكثير الكثير من البحوث المذكورة تتعلق بمواضيع الطاقة والطاقة المتجددة والذكاء الصناعي وانترنيت الأشياء....الخ.

الخلاصة، لا مانع ابدا ولا ضير من السعي نحو النشر في المجلات الأعلى رصانة، على ان تكون وسيلة لا غاية. الأصل ان تعمل الوزراة باعتبار السيطرة المركزية لها على المؤسسات الاكاديمية لتنمية البنى التحتية والموارد البشرية ودعمها للبحث والدراسة في مواضيع الاحتياجات والتحديات الوطنية دون ضغوط او قيود حول أسلوب النشر وجهة النشر. الأصل ان يتم التقييم على مدى الإفادة المتحصلة من البحث (بعد توفير الدعم الحقيقي)، وإزالة العقبات البيروقراطية امام التمويل الحكومي وغير الحكومي وتشجيع القطاع الخاص على الدخول على الخط. الإعلان والاعلام لا يبني مؤسسات رصينة بل العكس هو الصحيح، حيث ان البضاعة الممتازة تعلن عن نفسها وحينئذ سيأتيكم الاعلام والإعلان راكعا لا مرتزقا كما هو الحال اليوم "ادفع لتظهر على التلفاز او إعلانات الشوارع"......!!!

أقول قولي هذا ولي الله تعالى فيما قد اجد من جرّاءه..... والى الله المصير...

***

أ.د. سلام جمعه باش المالكي

 

"النضال سيستمر حتى تحرير فلسطين كاملة" ياسر عرفات.

مقدمة: تعتبر قضية فلسطين محورية في التاريخ العربي الحديث، حيث شكلت نقطة تلاقي للصراع بين الشعوب العربية والمشروع الصهيوني-الإمبريالي الذي استهدف إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين. منذ بدايات القرن العشرين، تبنى العالم العربي موقفًا مقاومًا ضد هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني، مستندًا إلى مبادئ العدالة، الحق التاريخي، والدفاع عن الأرض والمقدسات. ومع ذلك، شهدت العقود الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في هذا الموقف، حيث وصلت بعض الدول العربية إلى درجة التطبيع الكامل مع إسرائيل، مما يمثل، في نظر العديد من المراقبين، "درجة الصفر" من الرفض.

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل الأسباب المتعددة وراء هذا التقهقر، مع التركيز على العوامل السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، والثقافية، وتسليط الضوء على التحديات التي واجهت الحركات الكفاحية العربية. ستعتمد الدراسة على مقاربة كفاحية، تركز على المقاومة كإطار تحليلي، مع النظر إلى السياقات التاريخية والتحولات الإقليمية والدولية التي أثرت على الموقف العربي.

اعتماد المقاربة الكفاحية من أجل التغيير والتحرير

المقاربة الكفاحية في هذه الدراسة تستند إلى فهم المقاومة كعملية مركزية في مواجهة الاستعمار الاستيطاني. هذه المقاربة، المستوحاة من أعمال مفكرين مثل فرانز فانون وإدوارد سعيد، ترى أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل هي عملية شاملة تشمل السياسة، الثقافة، والوعي الجماعي. ومع ذلك، فإن نجاح المقاومة يعتمد على عوامل مثل الوحدة الوطنية، الدعم الإقليمي، والقدرة على مواجهة التحديات الخارجية والداخلية. ستُستخدم هذه المقاربة لتحليل كيفية تأثير العوامل المختلفة على تراجع الموقف العربي، مع التركيز على كيفية إضعاف هذه العوامل للروح الكفاحية.

السياق التاريخي للموقف العربي

نشأة الموقف العربي المقاوم

بدأ الموقف العربي المقاوم للاستعمار الصهيوني في فلسطين مع بدايات الهجرة اليهودية المنظمة إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، بدعم من القوى الاستعمارية الغربية، لا سيما بريطانيا. شهدت هذه الفترة صعود الحركة الصهيونية، التي قدمت نفسها كمشروع استيطاني يهدف إلى إقامة "وطن قومي" لليهود في فلسطين، مستندة إلى وعد بلفور (1917) والانتداب البريطاني.

الثورات الفلسطينية: شهدت فلسطين سلسلة من الانتفاضات والثورات، مثل ثورة البراق (1929) والثورة الكبرى (1936-1939)، التي عبرت عن رفض شعبي وعربي للمشروع الصهيوني. هذه الثورات لم تكن محلية فقط، بل حظيت بدعم عربي واسع، خاصة من دول الجوار مثل سوريا والعراق.

الجامعة العربية وموقف الرفض: بعد تأسيس الجامعة العربية عام 1945، تبنت الدول العربية موقفًا موحدًا ضد تقسيم فلسطين وقيام إسرائيل عام 1948، مما تجلى في الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى.

تحولات ما بعد النكبة

النكبة الفلسطينية عام 1948، التي أدت إلى تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين وإقامة دولة إسرائيل، شكلت صدمة كبرى للعالم العربي. ومع ذلك، استمر الموقف العربي في الرفض الرسمي للكيان الصهيوني، مع تبني شعارات مثل "تحرير فلسطين" و"وحدة الصف العربي". هذا الموقف تجسد في حروب 1956، 1967، و1973، وفي دعم منظمة التحرير الفلسطينية بعد تأسيسها عام 1964.

أسباب تقهقر الموقف العربي

العوامل السياسية

الانقسامات العربية الداخلية: منذ الخمسينيات، عانى العالم العربي من انقسامات سياسية حادة، سواء بين الأنظمة الملكية والجمهورية، أو بين الأيديولوجيات القومية والاشتراكية والإسلامية. هذه الانقسامات أضعفت الجبهة العربية الموحدة، كما ظهر في فشل التنسيق خلال حرب 1967.

اتفاقيات السلام الفردية: بدأت مصر، أكبر دولة عربية، في الخروج من دائرة الرفض باتفاقية كامب ديفيد (1978)، التي أدت إلى توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل عام 1979. تبعتها اتفاقيات أخرى، مثل اتفاقية أوسلو (1993) مع منظمة التحرير الفلسطينية، واتفاقية وادي عربة (1994) مع الأردن.

التطبيع الحديث: شهدت العقدين الأخيرين موجة من التطبيع، خاصة مع اتفاقيات أبراهام (2020) التي شملت دولًا مثل الإمارات، البحرين، والمغرب. هذه الاتفاقيات عكست تحولًا من الرفض الكامل إلى القبول الرسمي بالكيان الصهيوني.

العوامل الاقتصادية

التبعية الاقتصادية للغرب: العديد من الدول العربية تعتمد اقتصاديًا على الدعم الغربي، خاصة الولايات المتحدة، التي كانت داعمًا رئيسيًا لإسرائيل. هذه التبعية دفعت بعض الأنظمة إلى التخلي عن موقف الرفض مقابل ضمانات اقتصادية واستثمارات.

الضغوط الاقتصادية الداخلية: في ظل الأزمات الاقتصادية التي واجهتها دول عربية، مثل ارتفاع معدلات البطالة وتدهور البنية التحتية، أصبحت قضية فلسطين أقل أولوية بالنسبة لبعض الأنظمة التي ركزت على الاستقرار الداخلي.

العوامل الاجتماعية والثقافية

تراجع الوعي القومي العربي:

شهد العالم العربي تراجعًا في الخطاب القومي العربي الذي كان يربط قضية فلسطين بالهوية العربية. هذا التراجع تزامن مع صعود التيارات الطائفية والمحلية.

تأثير الإعلام: الإعلام الغربي، وبعض الإعلام العربي المدعوم خارجيًا، ساهم في تسويق صورة إسرائيل كدولة "ديمقراطية" و"متقدمة"، مما أثر على الرأي العام في بعض الدول العربية.

إضعاف الحركات الشعبية: القمع السياسي الذي مارسته بعض الأنظمة العربية ضد الحركات الشعبية المؤيدة لفلسطين، مثل الاحتجاجات والمظاهرات، أدى إلى تقليص دور المجتمع المدني في دعم القضية. العوامل الدولية

الهيمنة الأمريكية: الولايات المتحدة، كقوة إمبريالية رئيسية، لعبت دورًا كبيرًا في دعم إسرائيل وتسويقها كحليف استراتيجي في المنطقة. الضغوط الأمريكية على الدول العربية، سواء عبر المساعدات أو العقوبات، ساهمت في دفعها نحو التطبيع.

التغيرات الجيوسياسية: صعود إيران كقوة إقليمية وتهديدها لبعض الدول العربية دفع هذه الدول إلى التقارب مع إسرائيل كحليف محتمل ضد إيران، خاصة في ظل الصراعات الطائفية في المنطقة.

ضعف المقاومة الفلسطينية:

الانقسامات الداخلية بين الفصائل الفلسطينية، خاصة بين فتح وحماس، أضعفت الجبهة الفلسطينية، مما انعكس على الموقف العربي الداعم.

المقاربة الكفاحية وتحديات المقاومة

دور المقاومة في مواجهة التقهقر

على الرغم من تقهقر الموقف العربي الرسمي، استمرت الحركات الكفاحية الفلسطينية والعربية في مقاومة المشروع الصهيوني-الإمبريالي. تشمل هذه الحركات:

المقاومة المسلحة: مثل عمليات المقاومة التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات، ولاحقًا حركات مثل حماس والجهاد الإسلامي.

المقاومة الشعبية: مثل الانتفاضة الأولى (1987-1993) والثانية (2000-2005)، التي عكست رفضًا شعبيًا واسعًا للاحتلال.

حركة المقاطعة: التي أصبحت أداة كفاحية عالمية للضغط على إسرائيل اقتصاديًا وسياسيًا.

التحديات التي واجهت المقاومة

القمع العسكري الإسرائيلي: استخدام إسرائيل القوة العسكرية المفرطة ضد المقاومة، مثل الحروب على غزة (2008، 2012، 2014، 2021)، أدى إلى إنهاك المقاومة.

الانقسامات الداخلية: الانقسام الفلسطيني بين السلطة الفلسطينية وحركات المقاومة أضعف الجبهة الكفاحية.

تراجع الدعم العربي للقضية الفلسطينية: مع التطبيع، قل الدعم المادي والمعنوي للمقاومة من الدول العربية، مما جعلها تعتمد بشكل أكبر على الدعم الشعبي أو قوى إقليمية مثل إيران.

تحليل التقهقر في ضوء المقاربة الكفاحية

من خلال المقاربة الكفاحية، يمكن فهم تقهقر الموقف العربي كنتيجة لتآكل عوامل القوة التي دعمت المقاومة تاريخيًا. هذه العوامل تشمل:

فقدان الوحدة العربية: الوحدة كانت العمود الفقري للمقاومة، وتفككها أضعف القدرة على مواجهة المشروع الصهيوني.

تحول الأولويات: تحول تركيز الأنظمة العربية نحو قضايا داخلية أو إقليمية أخرى (مثل الصراع مع إيران أو الإرهاب) أدى إلى إهمال قضية فلسطين.

تغيير السردية الثقافية: تراجع الخطاب القومي والكفاحي لصالح خطابات الاستقرار والتعايش أثر على الوعي الجماعي.

ومع ذلك، فإن المقاربة الكفاحية تؤكد أن المقاومة لم تنته، بل تطورت إلى أشكال جديدة، مثل المقاومة الثقافية والاقتصادية، التي تحافظ على جذوة الرفض للاستعمار الاستيطاني.

خاتمة

"فلسطين عظمة عالقة في حلق العالم."  إلياس صنبر

إن تقهقر الموقف العربي من الاستعمار الاستيطاني في فلسطين إلى درجة الصفر من الرفض هو نتيجة تفاعل عوامل سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ودولية. هذا التقهقر لا يعكس بالضرورة نهاية المقاومة، بل يشير إلى تحول في ديناميكيات الكفاح العربي والفلسطيني. المقاربة الكفاحية تؤكد أن المقاومة، بأشكالها المختلفة، تبقى العامل الأساسي في الحفاظ على القضية الفلسطينية حية. في المجمل يمكن تقديم جملة من

التوصيات وهي: إعادة بناء الوحدة العربية: العمل على توحيد المواقف العربية من خلال مؤسسات مثل الجامعة العربية، مع التركيز على دعم المقاومة الفلسطينية.

تعزيز الوعي الشعبي: تفعيل دور الإعلام والتعليم في نشر الوعي بقضية فلسطين كجزء من الهوية العربية.

دعم المقاومة الشعبية: تقديم الدعم المادي والمعنوي لحركات المقاومة الشعبية للضغط على إسرائيل دوليًا.

مواجهة التطبيع: تشجيع الحركات الشعبية على مواجهة التطبيع من خلال الضغط على الأنظمة العربية للعودة إلى موقف الرفض. ألم يكتب الشهيد غسان كنفاني "على هذه الأرض ما يستحق أن نعيش من أجله." فمتى تعود الأرض الى أهلها ويسترجع الشعب الفلسطيني حقوقه المسلوبة؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

 

رؤية واقعية ومستقبلية

الملخص: يهدف هذا البحث إلى استكشاف تجربة "أطفال الحروب الجدد"، وهم الأطفال الذين ولِدوا أو نشأوا أثناء الحصار وانقطاع الخدمات. يتناول البحث الرؤية النفسية والاجتماعية لهؤلاء الأطفال، التحديات التي تواجههم، والتدخلات الممكنة. يعتمد البحث على مراجعة أدبية تحليلية للتقارير والمنشورات الموثوقة باللغة العربية، ويُقدّم آفاقاً استراتيجية للتعامل مع الظاهرة بطريقة متعددة الأبعاد.

الكلمات المفتاحية

أطفال الحروب، الصدمات النفسية، التعليم في الطوارئ، حيادية الحماية، تسرب الأطفال العرب، النزاعات، السياسات التنموية

المقدمة

تُمهّد الورقة لمفهوم "أطفال الحروب الجدد"، وتبيّن أهمية دراستهم من منظور تطوّري نفسي واجتماعي وسياقي. تُظهر الورقة حاجة المجتمع الأكاديمي والإغاثي إلى فهم أعمق لهؤلاء الأطفال الذين تطرح ولادتهم في ظروف عنف وصراع تساؤلات حول رؤيتهم للعالم ومستقبلهم.

تعريف المفهوم وسياقه

مصطلح "أطفال الحروب الجدد" لا يقتصر على الأطفال المشاركين في النزاعات أو المجندين فحسب، بل يشمل أوسع فئةٍ من الأطفال الذين تشرّدَت حياتهم بفعل: الحصار، التشريد، التمزّق الأسري، تعرضهم للأذى المباشر أو المعاناة المزمنة الناتجة عن انقطاع الخدمات الأساسية. هم أبناء حالاتٍ لا تقتصر على ساحة قتالٍ واضحة، بل تشملَ الأحياء المحاصرة، المخيّمات، ومناطق الصراع غير النظامي.

على المستوى النظري، يمكن وضع هذا المفهوم ضمن ثلاثة محاور مترابطة:

البُعد النفسي: صدمات مابعد الصدمة، اضطرابات القلق والاكتئاب، إعاقة التطوّر المعرفي والانفعالي.

البُعد الاجتماعي: تحوّل الشبكات الاجتماعية، تفتّت الأسرة الممتدة، تراجع الرقابة الاجتماعية التقليدية، وارتفاع احتمالات الاستغلال والجريمة.

البُعد البنيوي والسياسي: الحروب والاستعنار والحصار والتمييز في الوصول إلى الموارد، فشل الدولة/السلطة في حماية الطفل، استخدام الأطفال كسلاحٍ أو ورقةٍ سياسية.

كيف يرون الحياة والعالم؟ تشكيل الوعي تحت الحصار

رؤية الطفل للعالم تتشكّل من ذاكرةٍ حسّيةٍ مبكرة: صوت القصف، رائحة الدخان، لون السماء في ليلٍ مضيءٍ بالانفجارات. لكن الرؤية ليست صورةً مجزأة فحسب؛ هي نسيج من معانٍ يدمج الواقع والرمز، وتغذّيه سرديات الناجين والأهل ووسائط البقاء اليومي.

أولا: الزمن والاحتساب

أطفال الحروب يعيشون زمنًا مشوّهًا: لا تواتُرٌ طبيعي للأيام، ولا وضوحٌ للمستقبل. يتعلّمون احتسابَ اللحظات: هل ستنقضي ساعةٌ أخرى؟ هل سيبقى الماء؟ الزمن عندهم يصبح أداةً للبقاء، لا لالتقاط الأحلام.

ثانيا: الثقة والمراسلات الاجتماعية

الثقة، تلك العملة الرقيقة في العالم الآمن، تُستبدل بحذرٍ دائم. الطفل المحاصر يعلّم نفسه أن يعتمد على شبكاته الضيقة: الأم، الأخ، الجار القريب. أما الغريب فغالبًا ما يُفهم كخطر أو موردٍ محتمل للاستغلال. تتغيّر مفردات العلاقة: الحنان يصبح استراتيجية بقاء، والابتسامة قد تُقاس بأنها فَرْجٌ مؤقّت أو قناعٌ للحزن.

ثالثا: معنى العدالة والرمزية السياسية

نشأ جيل يرى العنفَ منظومةً إداريةً او يومية أكثر منها استثنائية. العدالة عنده لا تُمثّلها مؤسسات القانون، بل قد تُمثّلها قصصُ الأهل والرويات الشعبية عن الشجاعة والصبر. في بعض الحالات، يتحوّل الشعور بالظلم إلى مشروع هوية: مقاومةٌ رمزية، قصائد، رسوم على الجدران، ألعاب تُعيد تمثيل المشهد السياسي والاجتماعي او انحراف سلوكي اخلاقي ينقلب على كل هذه الممارسات...

رابعا: اللعب والتعلّم كزمنٍ بديل

اللعب يتبدّل. بدلًا من ألعابٍ تعليميةٍ تجريبية، يكون اللعب إعادةً لترتيب المشهد المرعب: دُمى تُعالج جراحًا وهمية، ألعابُ حربٍ تعيد تشكيل السيطرة. التعليم، في ظل الانقطاع، يصبح مقاومةً بحدّ ذاته: فصولٌ بديلة، دروسٌ على الأرض، أو تعلّمٌ من خلال الراديو والقصص المتداولة.

التحديات الرئيسة

أ. التحديات النفسية والتطورية

الصدمة المتكررة: التعرض المستمر للعنف يخلق شللاً تطوريًا؛ مشاكل الانتباه، ضعف الذاكرة العاملة، صعوبات في تنفيذ الوظائف التنفيذية.

اضطرابات السلوك: عدوانية أو انسحاب مفرط، صعوبات في ضبط الانفعالات، نزوع للمخاطرة أو لانسلاخ الهوية.

ضعف الرعاية الأولية: الأم التي تعاني هي نفسها نفسيًا لا تستطيع تقديم رعايةٍ مستقرة، مما يؤثر في تأسيس روابط الأمان الآمنة لدى الطفل.

ب. التحديات الصحية والتغذوية

سوء التغذية الحاد والمزمن يؤثران على نمو الدماغ والجسم، مع آثار تستمر طوال العمر (تراجع التحصيل الدراسي، ضعف المناعة).

نقص الخدمات الصحية يؤدي إلى زيادة الأمراض المُعدية، وفي بعض الحالات ولاداتٌ دون رعاية طبية، مما يزيد معدلات الإعاقة.

ج. التحديات التربوية والتعليمية

انقطاع مستمر للتعليم النظامي — فقدان سنوات دراسية يؤثر على فرص الترقّي الاجتماعي.

افتقار مناهج تراعي الصدمات — التعليم التقليدي لا يواكب حاجات الأطفال المتضررين نفسيًا أو معرفيًا.

د. التحديات الاجتماعية والاقتصادية

زواج القُصّر والاستغلال الاقتصادي كاستراتيجيات بقاء.

انحلال شبكات الحماية المجتمعية؛ تراجع دور المنظمات المحلية، أو سيطرة فاعلين مسلّحين على الموارد.

الآثار طويلة الأمد على المجتمع والدولة

أطفال اليوم هم مواطنو الغد. عندما يتخرج جيلٌ كامل من دروب الحصار متحمّلاً صدماتٍ نفسية ومهاراتٍ تعليمية ناقصة، تنتج آثارٌ بنيوية:

تراجع رأس المال البشري: انخفاض مستوى المهارات والقدرة الإنتاجية.

استمرار دوائر العنف: الأطفال الذين عاشوا العنف قد يُظهرون قابلية أكبر للعنف لاحقًا، أو الانخراط في صراعاتٍ جديدة.

هشاشة المجتمع المدني: تقلّ الكفاءات القيادية المدنية، ويزداد الاستقطاب والقطيعة.

تدخلات مُثلى — مبادئ واستراتيجيات

التدخل لا يكفي أن يعالج الإنقاذ الفوري؛ يجب أن يكون شاملاً ومستدامًا، متضمّنًا ثلاثة أبعاد مترابطة: الحماية، التعافي، والاستثمار في المستقبل.

أولا: الحماية الفورية

تأمين ممرّات إنسانية، نقاط تجمع آمنة للأطفال، خدمات رعاية الطوارئ النفسية والتغذية.

حماية قانونية للأطفال من الاستغلال والتجنيد والزواج القسري.

ثانيا: الرعاية النفسية-الاجتماعية المبرمجة

برامج قائمة على الأدلة تدمج العلاج المعرفي-السلوكي المخصّص للأطفال، مع أنشطة تعلّم اجتماعي انفعالي.

تدريب الأسر والمعلّمين على التعرف إلى علامات الصدمة والتعامل معها.

إنشاء بيئات تعليمية صديقة للطفل تراعي الفوارق النمائية وتحمّل الصدمات.

ثالثا: التعليم المستمر والمهارات

برامج تعليم بديلة تستعيد السنوات الضائعة وتقدم تعليماً تقنياً ومهاراتٍ للعيش.

مناهج مرنة تتضمن تعليمًا عن السلام، إدارة النزاعات، والحقوق الأساسية.

رابعا: دعم الأسرة والاقتصاد المحلي

منح نقدية مشروطة لدعم الأسر، مع برامج لتقوية سبل العيش.

مشاريع توظيف للشباب، وبرامج تدريب مهني تمكّن الفتيات والفتيان من بدائل عن زواج القُصّر أو الالتحاق بالمجموعات المسلحة.

خامسا: العدالة الانتقالية والتعافي المجتمعي

آليات للعدالة تُعيد الاعتبار للضحايا، وبرامج مصالحة مجتمعية تُساعد على إعادة بناء الثقة.

توثيق الانتهاكات كوسيلة لردع الاستغلال في المستقبل.

نماذج نجاح وتجارب قابلة للتعلّم (مفاهيميًا)

تجارب المنظمات الإنسانية تُظهر أن الدمج بين التدخل النفسي الطارئ وبرامج التعليم والتدريب المهني يعطي نتائج أفضل. كذلك، برامج الدعم الاقتصادي المباشر للأسر تُقلّل من معدلات استغلال الأطفال. المهم أن تكون المبادرات مُنسقة محليًا، وتعتمد على الجهات الفاعلة المحلية لدوام الأثر.

مقاربة نقدية: لماذا تفشل كثيرٌ من السياسات؟

التركيز المفرط على الطوارئ، دون خطة لإعادة البناء الطويلة الأجل.

العزل السياسي للمجتمعات المتأثرة، مما يحدّ من تمويل العناية المستدامة.

خطاب إنساني يهمّش صانعي القرار المحليين، ويخلق تبعيةً في آليات التعافي.

غياب مقاييس دقيقة للنتائج: برامجٌ كثيرة تُقاس بما تم إنفاقه لا بما تغير فعلاً في حياة الطفل.

الآفاق: نحو رؤيةٍ شمولية وانتقالية

إذا أردنا أن نؤسس لآفاقٍ عادلة لأطفال الحروب الجدد، فالمطلوب:

تحويل الرعاية من مشروع مؤقت إلى مسار تنموي: دمج برامج الرعاية والتعليم في سياسات وطنية ما بعد الصراع.

تمكين المجتمع المحلي: دعم منظمات المجتمع المدني، وتعزيز الملكية المجتمعية للمشاريع.

الاستثمار في رأس المال البشري: برامج طويلة الأمد للصحة النفسية، والتعليم المستمر، والتأهيل المهني.

العدالة والذاكرة: عمليات لتوثيق الانتهاكات وتقديم تعويضاتٍ مدروسة تضمن إعادة الدمج.

مناهج تعليمية متكيّفة مع الصدمات: مناهج متاحة بجودة عالية ترتكز على تطوير المرونة النفسية ومهارات التفكير النقدي.

خاتمة: رسالةٌ إلى المستقبل

أطفال الحروب الجدد ليسوا مجرد حزنٍ يُقاس بإحصاءات؛ هم كلماتٌ لم تُكتب بعد في سيرة الأمة، وهُم مِفاتيحُ الغد إذا ما استرجعنا إنسانيتهم. لا يكفي أن نُخرِجهم من الدمار؛ علينا أن نُعلِّمهم أن يحلموا، ونزودهم بتمكينٍ يجعل من حلمهم واقعًا لا يهابون فيه غدًا. المستقبل سياسةٌ وصناعة — فليكن صنعه رحمةً وبصيرةً وعدالة.

***

مجيدة محمدي ـ شاعرة وباحثة تونسية

10/9/2025

.......................

مراجع

اليونيسف — UNICEF (مكاتب المنطقة العربية): تقارير عن أثر النزاعات على الأطفال، الحماية، والتدخلات التربوية والطبّية. (متاحة بالعربية عبر موقع اليونيسف الإقليمي).

منظمة إنقاذ الطفولة — Save the Children (المنطقة العربية): تقارير ميدانية وبرامج دعم الطفل في حالات الطوارئ.

هيومن رايتس ووتش — تقرير بالعربية: تقارير توثق الانتهاكات ضد الأطفال في مناطق النزاع.

اللجنة الدولية للصليب الأحمر / الهلال الأحمر: مواد إرشادية وتقارير إنسانية بالعربية حول الحماية الصحية والإنسانية في النزاعات.

منشورات وبرامج وزارة الصحة ووزارة التربية (في البلدان المتأثرة) — تقارير وطنية عن التأثيرات الصحية والتعليمة.

مراكز أبحاث وتراجم عربية: مؤسسات عربية مُعنية بالعلوم الاجتماعية والإنسانية تصدر دراسات حول أثر الحرب على الطفولة (تحديدًا مراكز دراسات النزاع والطفل في الجامعات العربية).

أدلة ومراجع تربوية ونفسية مترجمة: العديد من الأدلة العملية في الصحة النفسية الاجتماعية للأطفال (PSS) متوفرة بالعربية عبر مواقع المنظمات الإنسانية.

 

تبقى الانصبابية الامبراطورية الشرقية لا بصيغتها الفارسية، بل المتحولة الى الابراهيمية الاسلامية الشيعية العراقية، عقبة ومصدر تصادم مع المشروع الابراهيمي الترامبو صهيوني يمنع مجال الابار من ان يصبح قاعدة شرق متوسطية صهيوترامبيه غالبة بلا اي اعتراض، الاهم فيه انه يتيح للعراق حتى بصيغته الممحوة كيانيا،الاندراج ضمن المشروع المراد تكريسه، استنادا الى نفس الاسباب والعوامل المستخدمة امريكيا لاخراج العراق من دائرة الفعالية الكيانيه، وبالذات كونه حالة اختلاف نوعي تقلب المفعول الريعي الاباري.

 وليس هذا الجانب من الاصطراعية الابارية النهرية ومتبقياتها بالامر العارض اذا اخذت بالاعتبار المعطيات الخاصة بالنموذجية مابين النهرينيه وتاريحها وبنيتها، ومامتوقع ان يترتب عليها ضمن الاشتراطات الحالية، وهو مايستوجب الاخذ بالاعتبار تاريخ هذا الموضع مع التوقف عند حداثته الراهنه، وتاريخ تشكله الاصطراعي من القرن السادس عشر، وهو ماظل ويظل مغفلا وخارج الاحتساب مثله مثل اجمالي الدور والمضمر في الكيانيه الازدواجيه مابين النهرينيه، هذا ولابد من الاخذ بالاعتبار واقعه كون الجانب الاخر الامريكي الصهيوني الاباري، معسكر فقير على مستوى الفكرة والمنظور، وهو بلا اي مفهوم يمكن الارتكاز اليه، وبالذات منه الابراهيمي الجاري التلويح به، المرتكز شكلا للجاهز المنتهي الفعاليه.

 ولاينبغي اطلاقا النظر الى العراق من زاوية التبعية او التماهي الظاهر من قبل البعض مع ايران ومشروعها، ولابد من الاخذ بالاعتبار الاسباب والعوامل المتراكمه في الكينونه العراقية تكوينا بنيويا ومتغيرات واليات تتجاوز ايران، وتضعها في نهاية المطاف تحت وقع التاثير العراقي (7)، اولا من زاوية القانون الناظم لتاريخ هذا الموضع والمرتكز للدورات والانقطاعات، والتي عرف بموجبها دورة اولى سومرية بابلية ابراهيمة، وثانيه عباسيه قرمطية انتظارية، وهو مايعود الى انطواء هذا الجزء من المعمورة على الحقيقة المجتمعية المتمثلة في المجتمعية اللاارضوية، نتاج المجافاة البيئة ومعاكستها العنيفه للجهد البشري في هذا الموضع من العالم، بما افضى الى تشكل مجتعمية غير مجتمعية، وغير متوافقه مع اشتراطاتها ذهابا الى المخرج السماوي، وهو مايضعنا اليوم وبمناسبة محاولة "احياء" الابراهيمة" الزائفة والمفبركة، الى تصادم مع موضع الابراهيمة الاول وقد تحول من العيش على حافة الفناء البيئية، الى العيش على حافة الفناء الاليه، وانعكاساتها ومترتباتها المتمثلة في سلسلة الحروب الاقليميه والكونية التي لم تتوقف على مدى نصف قرن، بما في ذلك منها الداخلية الاهلية/ من عام 1980/ حيث الحرب الايرانيه العراقية، اطول حرب بين دولتين بعد الحرب الثانيه 1980/1988، الى الساعة/ وقد تحولت الى حرب "عراق مابعد النهرين" بعدما صار النهران على حافة الفناء/ والريع يقتل الانتاجية محولا اياهاالى الرقم " صفر"والفئات المتحكمه وسلطاتها، متهالكة كمجاميع فرعيه على سرقة الريع، والمجتمع ينتقل خارج كل الاعتبارات المتبعه تصورا وسلوكا، وبالذات منها الغربية الحديثة "الوطينه الزائفة"، باساسها "الويرلندي"، العار الاكبر الملازم لمايعرف بالحداثة العراقية، ومدعيات "الوطنيه"الساحقة للوطنيه( الوطن كونية) المطابقة لخاصيات العراق وبنيته التاريخيه.

 ولعل ماتقدم بجملته كاف لان يضع العقل امام امتحان استثنائي غير مسبوق، لايخلو من احتمالية انقلابية كونيه مضادة للجارية كمحاولات تكريس توهمي، وفي هذا الموضع من المعمورة حيث الابتداء، يصح اليوم وفي نهاية المطاف البحث عن حضور البدئية الثانيه، بعدما فقدت الارضوية المجتمعية قدرتها على النطق، وعادت لتتمسك باذيال الرؤية اللاارضوية الاولى غير التحققية كما وجدت بصيغتها النبوية الحدسية الالهاميه، محاولة التعكز عليها ضمن اشتراطات مختلفة، عبرت فيها المجتمعات اليدوية ومفعولها الجسدوي وتعدتعه درجات، من الالة المصنعية الى التكنولوجيا الانتاجية المعولمه، بينما صار الاقرب الى الحضور، التكنولوجيا العليا العقلية، المنصبه والمتشكله بحسب اشتراطات وممكنات الفعل العقلي المتعدي لليدوية والجسدية، ماستكون له من هنا فصاعدا اثارا فاصلة على مستوى الانتاجية تنهي الحضور اليدوي كليا، سببها الفارق بين طبيعة وسيلة الانتاج، وموضوع الانتاج ومادته الجسدية المتلائمه مع الوسيلة الاولى اليدوية المنتهية الصلاحية.

 الان عدنا كما كان لازما لابل وحكما، الى التعبيرية الاولى، تلك اللاارضوية التي انطلقت بصيغتها الاولى ضمن اشتراطات غلبة ماسواها، ومايمنع تحققها في ساعتهاادراكا وعلى مستوى الوسيله المادية، الابراهيمه النبوية الالهامية، الرؤية التحولية اللاارضوية ضمن ظروف الانتاجية اليدوية الجسدية وغلبتها الكاسحة وقد تردت الان، وفقدت الاسباب والقدرة على الاستمرار بعد الانقلاب الالي وتمرحلاته، المصنعية شبه اليدوية وتوهميتها، والتكنولوجية الراهنه الانتاجية المترافقه مع مايعرف بالذكاء الاصطناعي، اخر ممكنات الجسدوية المضادة للعقل، مايوجب حكما وبناء للحقيقة التاريخيه التفاعلية الوجودية، اعادة الاعلان، بان المجتمعات والكائن البشري تبدا بالاصل متحولة من الجسدية الحيوانيه الى العقل الانساني، وان مايمر به الكائن البشري ابان الطور الانتاجي اليدوي، هو الطور الانتقالي بين الحيوان والانسان، بمايعني غلبة نمط "الانسايوان" المطلق عليه اعتباطا وقصورا عقليا "الانسان" كهدف وغاية.

 بالمقابل مالذي يتبقى من توهمات التصور حول المجتمعية ومسارها ومنتهياتها غير المنظور فيها كما ينبغي وكما يفترض، لعجز العقل بحالته الانسايوانيه اليدوية الجسدية عن ادراك الحقيقة المجتمعية البشرية، بينما تتراكم اسباب الفنائية التي لم يتبق في الافق غيرها، مادامت الابراهيمه الثانيه غير حاضرة بعد، وهو مايتعدى امكانات ومنطويات المجتمعية الارضوية وماتتوفر عليه من قدرة محدودة على الادراك، بالاخص من حيث تخيل المجتمعية العقلية وسياقاتها ومسارها، والافق الذي ينتظم تحققها، هذا مع العلم ان الادراكية الارضوية اليدوية لا يمكن لها، وهي ليست مجبوله باية حال من الاحوال على مواجهه ذاتها بما هي عليه من محدودية وقصور، للاستحالة التكوينيه بحيث تتخيل مجرد تخيل، ممكنات المجتمعية مابعد المجتمعية، مع اسقاط التسمية التي نحتتها الارضوية لذاتها وبذاتها، بما يجعل مفهوم المجتمعية السائد والغالب بناء عليه، من قبيل التعبير الصنفي الخاص بنمط بذاته من المجتمعية الثنائية النوع، ليحضر موضوع الساعه المغفل والمبعد من الاهتمام: النطقية الكونيه اللاارضوية العظمي المواكبه ضرورة للانقلاب الالي بعد ان كانت الثنائية التعبيرية حاكمه ابتداء ابان الطور اليدوي، يوم كانت الارضوية الطبقية اعلى اشكال الارضوية ديناميه: فلسفية تاسيسيه ، سقراطية ارطوسية افلاطونيه اثينيه، تقابلها رؤية الكونيه الابراهيمه الاولى النبوية الحدسية الالهامية اللاارضوية غير التحققية، وقد ان اوان تحققها بعدما توفرت اسبابه ماديا وادراكيا.

 يبدا العالم مع الاله بالمنظور الادنى الارضوي الطبقي الكيانوي نموذجا( الدولة / الامه)، وينتهي بالنطقية العظمى اللاارضوية الابراهيمه التحوليه، وهنا يكمن مجال بحث من نوع اخر.

يتبع : ملحق

***

عبد الأمير الركابي

" تحمل الاستعارة السياسية شحنةً متفجرةً كحزامٍ ناسف استحضاراً لأصلٍّ ما ليس لها ...."

" تتحصن اسرائيل منذ تأسيسها داخل استعارات لا تنتهي، ولم ترَ الواقع بعد ...."

" أحياناً تُوظف الاستعارات السياسية كتمائم في حاجةٍ إلى طقوس لا  إلى حقائق ...."

ثمة علاقة عضوية بين الاستعارة والسياسة، من حيث أنَّ السياسة ليست (فناً للممكن) إلاّ باعتبار الممكن حدثاً مجازياً قابلاً للتحقُق. إذْ لا يخلُو كلُّ ممكن- بحكم التعريف - من انجاز استعارةٍ ما، سواء أكانت في شكل صورةٍ أم فكرةٍ أم حقيقةٍ. حدُ الممكن Possible هو حد الجواز واتيان المستطاع من الأشياء. لعلَّ كل ما هو جائز يتشكّل على هيئة محتملة في طريقه إلينا. والسياسية لا تعمل في فراغ، لكنها تراثٌ من الأفعال الجائزة التي حدثت والتي لم تحدث. والجائز ينبني على المسار المتخيل لما قد يحدث. إنَّ الممكن هو (حدوث الحدث) لا أقل. وطالما أنَّ هناك شيئاً ما ممكناً، فإنه يستحث الفاعل السياسي لاتيانه بصيغة: ولِمَ لا. وهذا ما يجعل السياسة تتضمن لوناً من المجازفات غير محسومة العواقب. أنْ تكون سياسياً يعني أنْ تجازف بما يواكب الممكن الذي تريده وغير المتوقع في الآن نفسه.

على صعيد الممارسة، حين يغدو الممكن فعلاً جارياً، تمسي الاستعارات حاضرةً إنْ لم تكن هي (حالة الحدث) ذاته. لأنّها ستدخل بالتبعية إلى ساحة التفاعل بين أفراد المجتمع طالما أنَّ هناك آخر. فلو قلنا إنَّ (مكانة سياسية معينة) سيصل إليها (حاكمٌ ما)، فهذه استعارة لصورة يراها الحاكمُ لنفسه، استعارة وفقاً لنموذج أو مثال أو ايديولوجيا معينة. وقد يجسدها الخيال الجمعي كاستعارةٍ لنمط من الرمزية التي تُخلغ عليه. وما يجري على الحاكم سيجري بالمثل على جميع جوانب السياسة الأخرى.

في إطارٍ كهذا، تندرج السلطة كأنَّها مادة لزجة الهيمنة على موضوعاتها بحكم  خصائصها المادية والرمزية. إنَّ السلطة فضاءعام يتشكل قطباه من (الرغبات والمخاوف) استناداً إلى رصيد القوة من الأبنية المجازية واسعة التأثير. ومن ثمّ، فإنّ (السياسة والاستعارة) تشتركان في المغامرة غير محسوبة العواقب، بل يوجد فيهما تجاوز لحدود الواقع وانتهاك للمعايير والقيم والحدود الثابتة.

ذلك تحديداً هو ما تفعله اسرائيل على نطاق أكبر بوصفها استعارةً سياسية للقوى الكولونيالية. لقد انفلتت من عقالها الإنساني والاخلاقي، وباتت كنيزك يحترق ويتشظى فوق رؤوس البشر في أي مكان. إنَّ تاريخ الكيان الكولونيالي– كما سأوضح - هو تاريخ الاستعارت التي تنتهك القيم والمبادئ والعلاقات، بدءاً من استعارية الوعد بتأسيس وطن قومي لليهود ومروراً باستعارة أرض الميعاد وانتهاءً بمحرقة غزة والابادة الجماعية للشعب الفسطيني. الاستعارة السياسية هنا استحضار لنموذج ما واحلال شيء محله من أجل القيام بوظائفه النوعية واقتناص المعاني الكامنة فيه. بحيث يبدو الشيء الحال محل الشيء الآخر مشاراً إليه وكأنّه هو. واسرائيل تلعب اللعبة الاستعارية بطريقة متعددة الأبعاد:

1- تتقمص دور الأصل الغربي (الغرب الأوروبي– الأمريكي)  آخذة في الاحلال محلة.

2- تقتل الشعب الأصلي (الفلسطنيين) للاستيلاء على الأراضي واستيطانها بالقوة الحربية.

3- ترسم صورةً مرعبةً من الدمار الذي يرمي باطراف الخوف إلى اقاصي المعمورة.

4- تصدّر النهاية الفاجعة التي لا بعدها نهاية مادامت اسرائيل لم تمتلك موطئ قدم في الأراضي الفلسطينية.

5- تتسلح بالأسلحة والتقنيات الأكثر تطوراً لقطع الطريق على ملاحقتها تكنولوجيا.

6- تقدم نفسها في صور ما بعد حداثية براقة كدولة قائمة على التنوع والتعددية تمايزاً عن جيرانها.

7- تتسربل بالغموض والإلغاز لزيادة مساحة العمى كأحد الفخاخ أمام المتابعين.

8- التمويه الحاصل في دولة الكيان بين اللاهوت والسياسية في رأس صهيوني مشترك، الجندي في ملابس الحاخام والحاخام في بزة السياسي.

9- العلاقات المشبوهة سياسياً بين اسرائيل وبين الجماعات والكيانات المماثلة كولونيالياً أو سياسياً.

والاستعارة ضمن هذا تتجلي: إما في شكل (خريطة الدولة الصهيونية) التي لم تكن موجودة ثم كانت بالوعد التاريخي والقوة العسكرية. وكذلك قد ترسم الدولة (بنية استعارية) عبر أنماط القتل والحروب غير التقليدية، لأنها لم تكن أصلاً في يوم من الأيام. وإما أنْ تنتهج دولة الكيان الصهيوني (أسلوباً استعمارياً مختلفاً) إزاء سكان الأرض الاصليين، وتقول للعالم سأحتل هذه المنطقة بالعنف القاتل ولا أحد يستطيع الاقتراب. كلما زادت وتيرة الاحداث الفاجعة بدرجة ميتافيزيقية، كانت النتائج التفاتاً كلياً إلى الصور المرعبة لا إلى الحق الأصلي. وهذه الاستعارات ترمي (قضية الاحتلال) إلى الأمام، بحيث ينشغل العالم بالقتل والمساعدات وعدم التهجير والاحوال غير الآدمية، متناسياً أن دولة الكيان الكولونيالي لا مكان لها ابتداءً في فلسطين التاريخية وأنها (دولة مختلقة) من الأساس.

بصدد السياسة الكولونيالية (الغرب + اسرائيل)، تتاح أمام الاستعارات كل فرص الاستغلال الممكنة داخل حدود التوظيف والممارسة. لأنّ كل سياسية من هذا اللون تمتلئ بفائض القوي التي تضخ في عناصرها أنفاس الحياة. وتظهر الأشياء على خريطة فضفاضة بخلاف الواقع المحدود: هناك الوظائف السياسية المحتملة، الأوهام، الرموز، الأخيلة، التبديلات، الصور، الأكاذيب، الخطط المرسومة، المناورات، الوعود السياسية، المؤامرات، الدسائس، الخطابات البلاغية، الاستراتيجيات. كل ذلك يشكل واقعاً كولونيالياً من لحم ودم بصورة كانت مجازية. إن الاستعارات السياسية تهبط على الأحداث لتعيد تشكيل الحقائق والأفعال.

حتى أن الزعماء والقادة يسيرون أمام مواطنيهم، وقد ارتدوا الاستعارت التي تبدو واقعية ومصدقة تماماً. من ينظر إلى أعضاء الحكومة الاسرائيلية أثناء الاجتماعات يعتقد أنها حكومة تتمتع بكامل الحقوق التاريخية لدولة عتيدة. إذ تحرص الكاميرات الصهيونية على سرد المشاهد من أعلى أو من جانب يثير الخيال في هذا الاتجاه أو ذاك. ويبدو بنيامين نتنياهو أمام الكاميرا كأنه (قائد حربي) آت من بين ملوك وزعماء بني اسرائيل. وهذا يدخل في باب الاستعارات التي تلون واجهة الدولة الصهيونية أمام المشاهدة، وجزء لا يتجزأ من السرد المجازي لأساليب أعنف آتية لا محالة. إن الصورة الاستعارية كالرصاصة التي خرجت ولن تعود إلى فوهة البندقية مرة أخرى. تراهن اسرائيل على مشاهد الاحتلال كقطعٍ من الشطرنج الذي يجذب المشاهدين إلى اللعب السياسي. أحد اشكال الاستربتيز (التعري) الدموي الذي يراه العالم أجمع ليلاً ونهاراً دون أن يحرك ساكناً. دولة كولونيالية تتعرى دموياً فوق جثث واشلاء الضحايا الأبرياء وهم أصحاب الأرض.. يالها من كارثة حطت فوق رأس الانسانية في أي مكان وزمان!!

تشتغل الأطياف الاستعارية لاسرائيل عند الضرورة، وتتجلى معانيها كما لو كانت حقائق راسخة وجالبة للأهداف والمآرب. تبدو استعاراتها السياسية بوصفها عملية تسابق الفعل والحركة نتيجة التبديل القائم على مرجعية الأصل إذ يتوارى نسبياً. وعليه ستظهر حركة الأشياء كأنّها حرة وقابلة للتسارع، مع أنها تبقى مرهونة باحتمالات النموذج الكولونيالي وقدراته على إثارة الخيال أمام الاشتغال بالاستعارة.

أمام تجسد الاستعارة في السياسات الكولونيالية عدة نقاط:

1- الفجوة: هي مساحة بين الأصل والصورة. وهي التي توفر قدرة الصورة على التخييل واستعمال كافة الحيل والألاعيب توحُداً بالأصل وتقمص دلالته. وفي السياسة تحفر الاستعارات الفجوة بمعاول من حروب وصراعات ودماء دون توقف. الفجوة بمثابة طاقة كامنة تتخذها الصور المستعارة- كما تمارس اسرائيل-  في التدمير والرمي إلى ابعد نقطة ايغالاً في الوحشية والقتال. ليست بين اسرائيل وأمريكا فجوةٌ بمعناها الحضاري أو المكاني، لكنها (فجوة مصطنعة) من نوع آخر، حيث تحاول اسرائيل مطاولة التاريخ الدموي للأمبراطورية الامريكية. كأنَّ هناك سباقاً محموماً لانجاز الاحتلال الاسرائيلي لما انجزته دولة المركز الأمريكي خارج الشرق الأوسط.

2- المجازفة: لا تخلو الاستعارات السياسية من مجازفة مجنونة، نتيجة أنها انتقال بلا ضمان من النموذج (الغربي) إلى الصورة (الاسرائيلية) التي تتقمصه. وهذا عمل بلا ضمان وقد يكون قتلاً لكل من يعترض وقد يكون تزييفاً وقد يكون اختلاقاً. وهذا ما كان يتضمنه خيال اسرائيل بوصفها (دولة الرب) إلى شعبه المختار.

ولكنه في الأساس حدث مع اسرائيل كصورة من الغرب الكولونيالي، لم تكن مجازفتها إلا سرقة لأراض عربية ليست لها. وكل ما يقال عن وجود الشعب اليهودي في فلسطين إنما حقيقته أن بعض اليهود كانوا موجودين كأصحاب ديانه فقط. ولكنهم لم يكونوا قوميةً بمعناها السياسي المؤدلج مقارنة بحقوق الشعب الأصلي. ولم تكن هناك محاولات عسكرية لترانسفير أهل فلسطين إلى الخارج. ولم تؤدلج المنطقة في إطار الهيكل المسيّس لمُلك بني اسرائيل.

3- الخداع: كل استعارة سياسية تفترض ضمنياً أنها حيلة لأخذ مكانة لايستحقها من يستعير صورة الأصل. الخداع جزء لا يتجزأ مما يجري بالطبيعة البنيوية للممارسات الجارية. اسرائيل ككيان سياسي هي كيان مخادع في ذاتها. تسير الدولة (المؤسسات- الإدارة – الجيش- المظاهر العامة- العلاقات الدولية – مظاهر الحياة- الشخصيات) كما لو كانت حقيقةً. بينما هي الحياة عبر الخداع وراء الخداع طوال الأمر، أمر كان مآله إلى الافتضاح والانكشاف من وقتٍ لآخر. ولذلك لم تمُر حقبة تاريخية من عمر اسرائيل إلاَّ وتجري ممارسات صهيونية تفضح طبيعة استعاراتها السياسية. اسرائيل تراث من الحيل والألاعيب التي لم تكف عن خلق مشاكل للدول المجاورة أو غير المجاورة.

مرة تكون دولة اسرائيل هي استعارة (اسرائيل التوراتية) من الفرات إلى النيل، ومرة تكون دولة اسرائيل هي استعارة (الدولة الجيوسياسية) كما اعترفت بها الأمم المتحدة مع غياب حقيقتها، ومرة تكون اسرائيل هي استعارة (الحليف الاستراتيجي) الذي يريد عيشاً في سلام ووئام، ومرة تكون اسرائيل هي استعارة (دولة اليهود)، حيث ضاقت بهم الدنيا وليس لهم من ملجأ إلاَّ بقعة جغرافية مقذوفة على كوكب الارض بين أنياب الجيران الأشاوس!!   ولكن في كل هذه الاستعارات وغيرها لا أحد يعرف: ما حقيقة اسرائيل بالضبط؟!! وبجانب ذلك تفترض الحالة أن هذه الاستعارت في حاجة إلى طقوس وشعائر مسيَّسة أمام العالم وأمام جيرانها العرب بالأخص.

4- العنف: تنطوى الاستعارة السياسية على كم مخيف من العنف. لأن طبيعتها تتميز بالانحراف وعدم الاعتراف بالحدود وتجاوز كل الاعراف والتقاليد. كيف ستكون هناك حدود للكيان المستعار ابتداءَ وهي حدود جالبة لصورة لا تحق للطرف المستعير؟!! فاسرائيل ليست هي الغرب الأمريكي حقيقةً، ولكنها تتمثل قدراته على الانحراف والتجاوز.

وهذا هو الأخطر ولذلك ليست هناك دولة تولد من لاشيء ثم تمارس دورها الاقليمي والجيوسياسي كأنها واقفة على ميراث ثقافي وجيولوجي يطاول جاراتها من الدول منذ آلاف السنوات. ويحل شعبها المشتت من كل حدب وصوبٍ، محاولاً أن يطاول الشعب الفسطيني العريق. هذا هو ذروة العنف الاستعاري الذي لا حدود له. الاستعارة تغتصب واقعاً باسم الأصل الذي لن يأتي ولن يتمكن من الاتيان. الواقع المغتصب يستعار تحت العنف المتواصل.

5- الموت: تختلط كل استعارة بموت معين ظاهراً كان أم متوارياً. لأن العنف الذي يحدث باسم الأصل الكولونيالي لن يبلغ مآربه إلا بالاجهاز على موضوع العنف (الشعب الأصلي). ولأن الاستعارات الاسرائيلية تريد الانهاء على السكان الأصليين، فهي تستخدم فائض العنف القاتل باستمرار. إن الاستعارات ذاتها باسم جيش الدفاع الاسرائيلي أو باسم المستوطنات أو باسم الاعمار هي استعارات موت. لنلاحظ أنه لا توجد لدى اسرائيل تهدئة بالمعنى المعروف سياتسيا ولا توجد ردة فعل منايسيب لكونها لا تعترف بالمعايير ولكونها تغفقتقد إلى حق الوجود. وفي حالة فقدان الوجود تنتهك – إلى حد الابادة- أي وجود آخر بالتبعية.

باتت اسرائيل عنواناً ضالاً للموت من أي اتجاه. القتل الاسرائيلي كالكلب العقور الذي ينهش كل من يقابله. ولكنها توجه القتل بالتكنولوجيا الكولونيالية إلى صدور الفلسطينيين. فهي ترى أن حقل اشتغال استعارتها المميتة عبر هذه المنطقة المنكوبة من العالم. وطبعاً يجري الموت في حالة دعم ورعاية الغرب الأمريكي، حيث يرسم الأخير الخطط والاستراتيجيات ويزود حليفه الصهيوني بأعتى الاسلحة والمساعدات الحربية.

وهذه حبكة المفارقة الساخرة أنَّ أصل الاستعارة (امريكا) ينضم بنيوياً للصورة المنحرفة عنها (اسرائيل). في ايماءة أن السياسة الكولونيالية لا تعترف بأية حقوق صغيرة أو كبيرة. وأن ذلك برهان على كون اسرائيل حالة صارخة من الاحتلال الذي مازال سارياً، رغم ترسانة المؤسسات والقوانين والمنظمات الدولية التي ترفع شعارات الحرية والعدالة والمساواة بين الشعوب. وهذا معناه أن هناك (استعارات موت) تحاصر الضحايا وتُسمى بأعمال الابادة الجماعية. كل استعارة سياسية مما سبقت خليقةً برفع راية الموت إزاء أُناس أبرياء في فلسطين.

***

د. سامي عبد العال – أستاذ فلسفة

 

نبوءات ماركسية تتحقق في عصر التكنولوجيا

لو أمعن كارل ماركس النظر في المشهد الاقتصادي العالمي الراهن، لوجد أن تحليلاته الجوهرية التي صاغها قبل قرنين من الزمان لا تزال تخترق أعماق الواقع المعاصر بقوة تحليلية مذهلة. فها هي الرأسمالية المتوحشة تبلغ ذروة تناقضاتها الداخلية: سبع شركات تكنولوجية عملاقة تحتل عرش الاقتصاد العالمي بقيمة سوقية مجتمعة تصل إلى واحد وعشرين تريليون دولار، تقترب من الناتج القومي الأمريكي البالغ سبعة وعشرين تريليون دولار، وتتفوق بوضوح على الناتج القومي الصيني البالغ سبعة عشر تريليون دولار.

وفي المقابل، يشهد سوق العمل الأمريكي تراجعاً مثيراً للقلق، حيث لم يستطع خلق سوى اثنين وعشرين ألف وظيفة جديدة خلال الشهر الماضي، بدلاً من المليون وظيفة التي كانت متوقعة. وهذا ليس سوى تجسيد حي لظاهرة "التراكم المفرط لرأس المال" التي حذر منها ماركس، والتي تؤدي حتمياً إلى الاستقطاب الطبقي الحاد وتمهد الطريق للثورة الاجتماعية.

آلية التراكم الرأسمالي: من التحليل النظري إلى الواقع المرير

يصف كارل ماركس في عمله البارز "رأس المال" الآلية الجوهرية للتراكم الرأسمالي التي تؤدي إلى تركيز الثروة في أيدي قلة من الرأسماليين، بينما تغرق الأغلبية الساحقة في هوة البروليتاريا الفقيرة. واليوم، نشهد هذا التناقض بأبشع صوره: الشركات السبع الكبرى (بما فيها جوجل وأبل وتسلا) تكتسح القيمة السوقية العالمية، حيث تمثل وحدها ستة وثلاثين بالمائة من مؤشر إس وبي 500. وفي الجهة المقابلة، يعاني الاقتصاد الأمريكي من ركود وظيفي حاد، حيث انخفضت فرص العمل بشكل كبير، وتصاعدت الضغوط التضخمية على كاهل الطبقات العاملة.

تحولات الصراع الطبقي في العصر الرقمي

لم يعد الصراع الطبقي مقتصراً على المواجهة التقليدية بين العمال وأصحاب المصانع كما كان في القرن التاسع عشر، لقد تحول جذرياً إلى مواجهة بين الجماهير المستغَلة والشركات التكنولوجية العملاقة التي تسيطر على بيانات الأفراد وتقنيات الذكاء الاصطناعي. فالقرار الأخير الذي اتخذته المحكمة الأمريكية بعدم إجبار جوجل على بيع متصفح كروم، رغم خسارتها قضية مكافحة الاحتكار، يكرس هيمنة هذه الشركات ويبقيها فوق مستوى المحاسبة والمساءلة.

لقد انتقد الكثيرون كارل ماركس لتقسيمه المجتمع إلى طبقتين متعارضتين فقط (بروليتاريا وبرجوازية)، متهمين إياه بتجاهل دور الطبقة الوسطى. لكن الواقع المعاصر يثبت أن الطبقة الوسطى تتآكل بسرعة قياسية، وأن الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع بشكل غير مسبوق. فها هي الشركات التكنولوجية تتحول إلى إمبراطوريات اقتصادية تفوق دولاً كاملة في قوتها المالية ونطاق نفوذها.

العولمة وتجاوز الحدود القومية

لقد اتهم ماركس أيضاً بإغفاله دور الفكرة القومية في تشكيل المجتمعات. لكننا نرى اليوم أن العولمة الرأسمالية قد حولت العالم إلى سوق واحدة موحدة، تذوب فيها الخصوصيات القومية أمام قوة رأس المال العابر للحدود. فشركة مثل إنفيديا تبلغ قيمتها السوقية 4.16 تريليون دولار، متجاوزة اقتصادات دول بأكملها.

كما انتقد البعض تمسك ماركس بالثورة كطريق وحيد للتغيير الجذري، متهمين إياه بتجاهل إمكانية الإصلاح التدريجي. لكن الواقع يشهد أن الأنظمة الديمقراطية فشلت في كبح جماح الرأسمالية المتوحشة، بل ساهمت في تعزيزها عبر سياسات الخصخصة والتقشف والتخفيف الضريبي للشركات الكبرى.

النموذج الأمريكي: تجسيد لأزمة هيكلية

يقدم لنا الاقتصاد الأمريكي نموذجاً حياً لأزمة الرأسمالية الهيكلية. فمن ناحية، لا يزال التضخم مرتفعاً بشكل مقلق، ومن ناحية أخرى، يتباطأ النمو الاقتصادي بشكل خطير. وقد خفضت مؤسسات مالية كبرى مثل مورجان ستانلي وجولدمان ساكس توقعاتها للنمو إلى 1.55% و1.7% على التوالي لعام 2025. وهذا يؤكد أن الرأسمالية لم تعد قادرة على تحقيق الازدهار للجميع، بل أصبحت آلة لصنع الأزمات المتتالية.

سياسات ترامب: زاد الطين بله

إن السياسات التجارية التي يتبعها دونالد ترامب، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، تزيد الأزمة تعقيداً، حيث ترفع تكاليف الواردات وتضاعف من الضغوط التضخمية. كما أن تشديد سياسات الهجرة سيساهم في تقليص عرض العمالة، مما سيؤثر سلباً على القطاعات الاقتصادية التي تعتمد بشكل أساسي على اليد العاملة المهاجرة.

يقدم الذكاء الاصطناعي اليوم على أنه الحل السحري لمشاكل البشرية، لكنه في الواقع يكرس هيمنة الشركات العملاقة ويزيد من تركيز الثروة. فها هي جوجل وأبل تتجهان لعقد صفقات ذكاء اصطناعي بقيمة مليارات الدولارات، بينما تتآكل الوظائف التقليدية أمام تقدم الآلة. هذا هو الاستغلال الرأسمالي في أبهى صوره: التقدم التكنولوجي الهائل لا يترجم إلى رفاهية جماعية، بل إلى أرباح خيالية لفئة قليلة.

لم يعد الدين هو "أفيون الشعوب" كما قال ماركس، بل تحولت التكنولوجيا إلى أداة جديدة لتخدير الجماهير. فبدلاً من مواجهة استغلال الشركات، ينشغل الناس بالتطبيقات الذكية والمنصات الرقمية التي تلهيهم عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية.

الخلاصة: بين الثورة والانهيار

يؤكد ماركس أن التناقضات الداخلية للرأسمالية ستدفعها حتماً نحو الانهيار، وسيقود العمال الثورة لاستعادة وسائل الإنتاج. والواقع الحالي يعضد هذه الرؤية: الشركات العملاقة لم تعد قادرة على النمو دون تدمير البيئة واستنزاف الموارد. أما الطبقة العاملة العالمية فأصبحت أكثر وعياً باستغلالها، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تكشف الفروق الطبقية الصارخة.

بعض المحللين الاقتصاديين يتحدثون عن انتقال الاقتصاد الأمريكي من الاعتماد على الإنفاق الحكومي إلى القطاع الخاص. لكن هذا التحول لن يحل التناقضات الجوهرية، بل سيعمقها، لأن القطاع الخاص يسعى للربح لا لتحقيق العدالة الاجتماعية.

إذا استمرت الضغوط التضخمية والسياسات النقدية المتشددة، فقد يدخل الاقتصاد الأمريكي في ركود حاد بحلول عام 2026. عندها لن تكون الثورة مجرد خيار، بل ضرورة تاريخية حتمية.

ماركس كان محقاً

ها هي الرأسمالية تثبت مرة أخرى أن تناقضاتها الذاتية تقودها إلى حافة الهاوية. فالشيطان الذي كان يخشاه ماركس - تراكم رأس المال – أصبح الآن وحشاً يلتهم الاقتصاد العالمي. والصراع الطبقي لم يختفِ، بل تحول إلى حرب صامتة بين الشركات العملاقة والجماهير التي تستغلّها.

اليوم، نحن لا نحتاج إلى إحياء الماركسية كعقيدة ايدلوجية، بل كمنهج تحليلي نقدي لفهم العالم وتغييره. فكما قال ماركس: "لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا". والمعرفة في عصر الذكاء الاصطناعي أصبحت سلاحاً أساسياً للثورة المنشودة.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم