آراء

آراء

وضع احد اهم اعلام التفكير الغربي الحديث هيغل للعقل مسارا تتابعيا  موحدا اياه من  الاسطورة، الى الدين، الى الفلسفة، وهكذا يصير الغرب على مستوى التجلي العقلي وسيرورته، الاعلى والقمه منذ الاغريق، فكيف اليوم، علما بان الراسمالية قد ارتهنت حسب اهم "علماء" الاجتماع الغربيين(1) الى التعبيرية اللاارضوية الدينيه "البروتستانتيه"، والسؤال الذي يظل معلقا هنا هو لماذا لم تصبح الفلسفة اختراقية مجتمعية  على مستوى العالم، وظلت مجالا نخبويا مقارنه بالدين الممارسة الحياتيه الشاملة، بحيث نتوقع سؤالا اخر هو لماذا لاتكون التعبيرية تعبيريتان منفصلتان، لاارضوية مجتمعية ابراهيمة شرق متوسطية هي ظاهرة كونيه شاملة، تقابلها تعبيرية ارضوية تظهر في اعلى المجتمعية الازدواجية الطبقية الاعلى ديناميات ضمن صنفها  الارضوي الاحادي.

ان مايسقط من اللوحة ويخلخل بنيتها على مستوى الادراكية البشرية لهذه الجهه، هو القطع بنهائية الطور الفلسفي الثاني بعد الاغريقي، المترافق مع الاله، واعتباره الخاتمه الكونيه غير القابله لاية احتمالية  اخرى، وهو ماجرى تكريسه اليوم بكل  ما  متاح من طاقة بحيث غدا من المستحيل كليا التفكير باحتمالية الطور الثاني "الديني" المجتمعي اللاارضوي، بحكم التبدل الانقلابي من اليدوية الى الالة، بحيث نتوقع انتقالا من الحدسية النبوية الى العليّة على سبيل المثال، لندخل باب  "العلم" و "العقلانيه" اللاارضوية، بدل الارضوية الغالبة والمكرسه.

ليس بمقدور العقل الاحادي الارضوي ادراك، فضلا عن قبول فكرة الازدواج المجتمعي،  وحين يذهب الغرب الحديث للكشف عن الحقيقة  الازدواجية الطبقية  التي  ظلت غائبة  حتى القرن التاسع عشر، فانه يبادر الى تعميمها على العالم، مستبعدا كليا احتمالية ان تكون هنالك "ازدواجية" اخرى غيرها،  من نوع "الازدواجية المجتمعية"  التي هي خاصية المجتمعية الشرق متوسطية، وهي السبب وراء، والمحرك الدينامي الذي اليه تعود التعبيرية الكونية اللاارضوية الاختراقية للمجتمعات الاحادية، نبويا حدسيا ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي.

هنا نكون امام اهم واكبر نقص يرافق عملية الانتقال الالي بصيغتها الابتدائية الاولى، ومارافقها من ردة فعل عائدة الى نوع المجتمعية التي انبثقت بين ظهرانيها، كمفتتح بواية مسار ذاهب الى الاكتمال ماديا، وعلى مستوى الوعي، مابين الالة المصنعية الاولى والتكنولوجيا الانتاجية والعليا العقلية الوشيكه، وماتتطلبه من نمطية اعقالية ضرورية، الكينونة المجتمعية ليست قاصرة دونها،  الامر الذي يتم نفيه ابتداء بالتركيز  على الحاصل الابتداء على انه الغائية والنهاية المرجوة من الانقلاب الفاصل الواقع، الامر الموحي بالمحدودية الادراكية ونقص الخيال المتوافق مع الحقيقة المجتمعية ومنطوياتها الثرة، والمتعدية للمنظورات والملموسات التبسيطية الاقرب الى الطبيعة الجسدية اليدوية، وثقل ترسبها من الطور المجتمعي المنقضي.

والاهم في اللوحة المشار اليها اعلاه، ليس فقط ماقد ولدته القصورية الاوربية ومتبقياتها، فالخطر لهذه الجهه هو ماقدحصل كانعكاس متماه مع الظاهرة الغربيه وماتقوله عن نفسها، وماهو واقع بحكم المتغير الالي وما رافقه من منجز هائل، وهو ماقد حل على موضع الازدواج المجتمعي الشرق متوسطي اللاارضوي،  ولابد ان ناخذ بالاعتبار بما خص هذا الموضع من العالم، كونه يوم وقع الانقلاب الالي الاوربي، كان في حال انقطاع بين الدورات،  وهذه عادة ما  يتلازم معها الانحطاط، فالمنطقة الازدواجية المجتمعية محكومة مثلها مثل الازدواجية الطبقية، الى المراحل التي توافق كينونتها وبنيتها، فهي خاضعه لقانون الدورات والانقطاعات، اكثرها تجليا في الموضم الازدواجي  البؤرة في ارض مابين النهرين التي كانت قد انهارت دورتها الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية مع القرن الثالث عشر، وعادت للانبعاث بلا نطقية مع القرن السادس عشر.

ووقتها لم يكن من المتوقع لهذا الموضع ان ينهض معبرا عن ذاته  بناء على، ووفقا للاشتراطات الناشئة الاليه الحديثة، خاصة وانه لم يسبق ان عبر عن ذاته بحسب ماكانت تتيحه اشتراطات الطور اليدوي "عليّا"، فكانت تعبيريته وقتها "حدسية نبوية" ايحائية، لتبقى مسالة ادراك الذاتيه مؤجله، بانتظار التفاعلية الناشئة عن الانقلاب الالي ومايترتب عليه،  وفي مقدمته التشبهية بالغرب قوميا، ووطنيا، ثم طبقيا، احاديا ارضويا، مع كل مايلازم ذلك من متغيرات المتغير الالي، وانعكاساته الشاملة الابتدائية كما تنطق بها الارضوية الاحادية، بصيغتها الطبقية.

ومع ان المنطقة كانت قد عرفت من جهتها بداية الانبعاث  الحالي الحديث الثالث في ارض سومر جنوب العراق قبل الانقلاب الالي، عند القرن السادس عشر، الا ان ذلك لم يرافقه النطق اللازم، وظل مبعدا من الادراكية والوعي بحكم استمرارمفعول اليدوية التي كانت سائده هنا، في حين عمت المنطقة امثولة مصرية مع محمد علي الالباني، على اعتبار مصر هي البنية الوطنيه النموذجية الاقرب الى الكينونه الغربية الاوربية،  وان من دون دينامياتها، كما  وجدت انطلاقا من الجزيرة العربية موضع الثورة الكبرى الاسلاميه، بدايات الدعوة "القومية" بتحفيز براني،  وصولا الى الطبقية العامة بناء على التاثر بالانقاسامات الحاصلة في البنية الغربية دوليا، وحالة  القطبيه العامة للكوكب، ماقد منح فكرة الطبقية الماركسية فعالية عالمية.

هذا ماكان بمستطاع العقل الازدواجي واللاارضوي الشرق متوسطي ان يتمخض عنه، خلافا لحقيقتة، لابل للحقيقة الانتقالية التحولية المجتمعية الكونية المتلازمه مع الانقلاب الالي، ومساره، وماهو ذاهب اليه من انتقال من الجسدية اليدوية، الى الاليه التكنولوجية العقلية، فالانقلاب الالي يبدا بالاكتمال مع الرؤية النطقية اللاارضوية  الثانيه المطابقة لمنطواه، ووقتها يصير العالم ماخوذا بالانتقالية العظمى، الى العقل، مع بدايات تحرره واستقلاله عن الجسدية، الامر المرهون للقفزة اللاارضوية الثانيه العليّة، مابعد الابراهيمه النبوية الموافقة والمتطابقة مع اشراطات اليدوية والغلبة الارضوية.

نحن ازدواج مجتمعيتان، مانراه وماقد وصل الى الانهيار الشامل على الصعد كافة دولا وتيارات واتجاهات متشبهه  ببغاويا بالغرب الابتدائي،  هو  انهيار الارضوية ضمن تكويننا  اي الجزء القابل للتماهي  مع الغرب القصوري،  وهو البداية والاشارة التاريخيه الكبرى لانبثاق  التعبيرية العظمى التحولية الازدواجية اللاارضوية، تلك التي ستاخذ الكائن البشري الى المستقبل المقرر له، والحاكم لوجوده والياته التاريخيه، وهو مما" لاعين رات ولا اذن سمعت".. فلنوجه النظر الى هناك، الى حيث يقبع السر الكوني المجتمعي الاعظم المغفل كنقيصة وعي وادراكية كبرى "انسايوانيه"ظلت غالبه الى اليوم.

***

عبد الأمير الركابي

...........................

(1) مثال كتاب "ماكس فيبر" الهام  فوق العادة "الاخلاق البروتستانتيه وروح الراسمالية"/ مركز الانماء القومي/ ترجمة محمد علي مقلد.

مع بدء امكان تجاوز القصورية العقلية التاريخية المرتبطة بالطور اليدوي والموصولة به، جاء الغرب المسمى ب "الحديث" وعصره ليكرس المفهوم القصوري ذاته عن الظاهرة المجتمعية، مع فارق هام تمثل في اعلان الغرب ان الكائن البشري ظل قاصرا عن وعي الحقيقة المجتمعية، وانه هو، واليوم قد سد هذه النقيصة الاساسية في الوعي، وفي علاقة الانسان بذاته وبالوجود، وبالفعل فلقد طرق  من تصدوا لهذا المجال باب الظاهرة المجتمعية وصاروا يعالجونها، وذهب البعض منهم الى  التعرف على خاصية مهمه للغاية كانت مغفلة وغائبة، هي الطبقية والصراع الطبقي، الامر الذي  شجع على الاعتقاد بان المجتمعات محكومة لقانون تاريخي تحولي، ماخوذ بالعودة على بدء، من "الشيوعية" البدائية الاولى كمرحلة تاريخيه الى "الشيوعية الاخيرة " العليا، وان هذا السياق محكوم لحتمية تاريخية لاخروج عنها. لكل هذا فقد كان من البديهي ان يقع الكائن البشري تحت طائلة الانبهار بالمنجز غير العادي، مقارنه بالمتعارف عليه ابان الطور اليدوي المنقضي من تاريخ المجتمعات البشرية ومستوى ادراكيتها.

ولم يكن واردا على العموم ولاكان من الممكن ان يخطر على البال، احتمال من نوع  ان يكون ماقد حصل في هذا المجال  وقتها وحتى الان، من قبيل الافتتاح بعد طول غلبة لنوع من التفكير، وانه بالاحرى خطوة اولى، ليس من المستبعد انطوائها على شيء من النقص وعدم الكمال، بالاخص بما يتعلق بميدان المجتمعية بالذات، مع الانتقالة الالية الفجائية وانعكاساتها على الاليات المجتمعية في اللحظة الواقعه، مع الاخذ بالاعتبار طريقة عمل العقل واشترطات انتقالاته بحسب المتغيرات الفاصلة، علما بان اهم النواقص الادراكية بما يخص الجانب المجتمعي كما تتكرس يدويا، تلك التي تعود الى الجزم الراسخ باحادية النمطية المجتمعية كما يتلقاها الكائن البشري عيشا وتلمسا، بظل الاشتراطات اليدوية الجسدية على مدى القرون من تاريخ التبلور المجتمعي.

والملفت هنا والجدير بالنظر، كون الانتباهة الغربية الحديثة للظاهرة المجتمعية لم تتعرض لهذه الناحية الاساسية بالذات، وحين اسس مايعرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، فان ماظل طاغيا عليه وعلى منجزه حكم المجتمعية الاحادية المطلق، في الوقت الذي كان المطلوب اولا وقبل كل شيء، وحتى يصير "علم الاجتماع" علما، وليس محاولة تجريبية ابتدائية، ان توضع مسالة النوع المجتمعي في راس الاهتمام البحثي، بحيث يتم التساؤل: "هل المجتمعات احادية ام ازدواج؟" الامر الذي لم تكن بعض الدالات عليه معدومة كليا، او من الصعب او المستحيل العثور على مامن شانه لفت الانتباه اليها، لو ترفر مستوى اخر من الحساسية الادراكية.

من المنطقي بعد هذا ان نميز بين "علم اجتماع" ارضوي احادي، و"علم اجتماع" هو "علم الاجتماع" المقصود والضرورة التاريخيه العقلية الكبرى، تلك التي عندها يكون الانقلاب الالي قد اكتملت عناصره فعلا، مايعني افتراض حلول فترة انتقالية وسطية، بين الطور اليدوي والالي على مستوى الادراكية العقلية، الامر الاقرب للبداهة بعد الزمن اليدوي واثره، وتغلبه الكاسح، مع مايتميز به الكائن البشري كينونة  وطبيعه من خضوع للاعتياد، عدا عما يترتب على عدم اكتمال الاسباب المادية الضرورية للانتقال العقلي المطلوب، في الساعة والاوان الانقلابي المادي بصيغته الاولى، قبل اكتمال  باقي صيغه  مابعد الالية المصنعية.

والظاهرة الابرز الحرية بالتوقف، ان "علم الاجتماع" الاوربي  اخر العلوم  قد نظر الى الظاهرة الدينيه بذات الطريقة التي ظل ينظر لها بها ابان الطور اليدوي، فلم يجر البحث في اصولها ومايقف خلفها من اسباب ومحركات وكينونة مجتمعية، ويصل الامر هنا الى ابتداع مايعرف ب "علم الاجتماع الديني" من دون اية بادرة دالة على احالة الى الظاهرة المجتمعية اللاارضوية، والى الازدواج المجتمعي مافوق الكيانوي المحلي،  بما ياخذ الى الاصل، والى الحقيقة الكبرى الاساس التي من دونها لن يكون للمجتمعية تعريف، ولا ادراك لازم  يخص طبيعة وجودها،  ومقاصدها  كحقيقة انتقالية تحولية.

مجتمعيتان، اولى هي اللاارضوية، وهي محددة الوجود في موضع بذاته من الكرة الارضية مع مجاله التشكلي الاوسع الشرق متوسطي، واخرى غالبة لغلبة الوسيلة الانتاجية الاولى اليدوية الجسدية ومواكبها العضوي، المجتمعية الارضوية، المحكومة للقصورية الادراكية على مدى وجودها، برغم كونها الغالب الكاسح نوعا ومفاهيما ودرجه ادراكية، مايضعها لاسباب عقلية تشكلية بموقع البداهة كنموذج احادي، علما بان النموذجية الاخرى اللاارضوية اعلى  بما لايقاس تحققا وكينونه واليات، تظل تنكر وتستمر مزاحة من عالم المجتمعية والوعي بها، مادام بالامكان بحكم طبيعتها وسبل وجودها، طردها خارج الحقيقة المجتمعية الملموسة الى الماوراء والغيب، زيادة في تكريس الاحادية واطلاقيتها النموذجية.

ومن الغريب ان لا يقف الغرب بحداثته وعصرنته مع ماقد حققه من قفزة في المجالات المختلفة عند الشرق المتوسطي، برغم تفاعله التاريخي معه، على سبيل التوقف عند ظواهر بارزة واوليه، من نوع مصدر" الدين" الذي يخترق الغرب،ولماذا جاء من موضع بعينه، اذا كان هو كما يتعمد تعميميه مع نكران منطقة انبثاقه والبنية التي نجم عنها نبويا تتابعيا محددة مكانيا، فلا يسال لماذا في هذا الموضع بالذات،  بحثا عن الظاهرة الاكثر كمالا في التاريخ على الصعيد اللاارضوي ابراهيميا، مايتعارض مع رغبة الغرب الحديث في الحاق العالم بالموضع المتمتع اليوم بقوة مفعول الاله بصيغتها الاولى، وجعله بالتقصد الخارج عن "العلمية" و "العقلانية" المدعاة،  قوة وموضعا  للمركزية الاوربيه التي تصادر الراهن والتاريخ، بتكريسها رؤية للوجود والاليات المجتمعية البشرية، احادية، خارجه عن الحاصل تاريخيا، بحيث لم يحصل ان طرح في الغرب الحديث سؤال عن لماذا  الشرق المتوسط موجود في الغرب وبين تضاعيفه المجتمعية مسيحيا وليس العكس، والامر هنا  يتعدى الدلالات المجتمعية الى مايعرف ب "الدين" كما جار النظر اليه،  لتسقط ضرورة السؤال الصريح، لماذا ياتي الدين من الشرق المتوسطي وليس العكس.

والاهم من كل هذا ومايعين نطاق وحدود "العلمية" الغربية المقصودة كون   الغرب لم تخطر له اليوم وفي غمرة الانقلاب الكبير الشامل، فكرة من نوع "احتمالية مابعد الابراهيمة"  مع افتراض  ان تنتمي لما يعتبر "علموية لاارضوية"، بما يضعها بموقع الطور التحققي  المرتهن لمفعول تبدل الاشتراتطات بما انها ظاهرة تاريخانيه، لم تنشا جاهزة ولا جامده بالاصل، وكما  الحاصل وقتها ضمن اشتراطات اليدوية التي كانت مفروضه على الغرب نفسه ومفاهيمه، وكيفيات تعامله مع ذاته والوجود، ومثل السؤال المشار اليه كان خارج العقل الغربي كليا وبالمطلق طبعا، مادامت ايه فكرة تخص الظاهرة المجتمعية اللاارضوية الابراهيمه لم ترد على البال كي تبرر، او تشجع على مابعدها، ومامن شانه تكملتها.

***

عبد الأمير الركابي

"وسوف يظل البحث عن الحقيقة يوقظ حماسة الانسان ونشاطه ما بقي فيه عرق ينبض وروح تشعر..."

هذا ما قاله المفكّر الألماني هيغل، وهو يصلح مدخلاً لبحثنا الموسوم "ذاكرة الألم والعدالة الانتقالية". والمقصود بذاكره الألم "ذاكرة الضحايا وذويهم"، إن كانوا قد فارقوا الحياة، و"ذاكرة المجتمع" التي توجّعت بسبب ما عاناه الضحايا وذويهم والمجتمع ككل من آلام تركت تأثيراتها اللاحقة، والتي تحتاج إلى معالجات تنسجم مع قيم العدالة من جهة، وتستشرف إعادة بناء المجتمع على نحو سليم من جهة أخرى كي لا يتكرر ما حصل من استلاب للضحايا وحقوقهم الإنسانية، لاسيّما تعريضهم لآلام مبرحة، تظلّ محفورة في الذاكرة الجمعية.

وسؤال الضحايا هو سؤال قلق وليس سؤال طمأنينة، وهو سؤال ضيق وليس سؤال رهاوة، بقدر ما هو سؤال شك وليس سؤال يقين، والسؤال يولّد اسئلة، ما الذي حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حصل؟ ومن المسؤول؟ وكيف السبيل إلى تعويض الضحايا وجبر الضرر؟

وقد ابتدع الفكر الحقوقي الدولي وعبر تجارب مختلفة فكرة العدالة الانتقالية، التي تُعتبر ذاكرة الألم إحدى أركانها كي تكون في دائرة الضوء، ولا يلفّها النسيان، لذلك كثيراً ما يتكرّر في الحديث عن العدالة الانتقالية: نغفر دون أن ننسى، وتلك المسألة مهمة وضرورية كدرس للأجيال المقبلة، ولكي نتابع المقصود بذاكرة الضحايا (ذاكرة الألم)، لا بدّ من التعمّق في مفهوم العدالة الانتقالية، فما المقصود منها؟

ما المقصود بالعدالة الانتقالية؟

العدالة الانتقالية مفهوم ما يزال غامضاً أو ملتبساً، خصوصاً لما يشوبه من إبهام فيما يتعلق بالجزء الثاني من المصطلح ونعني به "الانتقالية" فهل توجد عدالة انتقالية؟ وما الفرق بينها وبين العدالة التقليدية (الجنائية) المرتبطة بأحكام القضاء واللجوء إلى المحاكم بأنواعها ودرجاتها؟

وإذا كانت فكرة العدالة قيمة مطلقة ولا يمكن طمسها أو التنكر لها أو حتى تأجيلها تحت أي سبب كان أو ذريعة أو حجة، فإن العدالة الانتقالية تشترك مع العدالة التقليدية في إحقاق الحق واعادته إلى أصحابه وفي كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح الأنظمة القانونية والقضائية وأجهزة إنفاذ القانون بهدف تحقيق المصالحة الوطنية المجتمعية.

لكن العدالة الانتقالية تختلف عن العدالة التقليدية المتواترة في كونها تُعنى بالفترات الانتقالية مثل: الانتقال من حالة نزاع داخلي مسلح إلى حالة السلم، أو الانتقال من حالة صراع سياسي داخلي رافقه عنف مسلح إلى حالة السلم وولوج سبيل التحوّل الديمقراطي، أو الانتقال من حكم سياسي تسلّطي إلى حالة الانفراج السياسي والانتقال الديمقراطي، أي الانتقال من حكم منغلق بانسداد آفاق، إلى حكم يشهد حالة انفتاح واقرار بالتعددية، وهناك حالة أخرى وهي فترة الانعتاق من الكولونيالية أو التحرّر من احتلال أجنبي باستعادة أو تأسيس حكم محلي.

وكل هذه المراحل تواكبها في العادة بعض الاجراءات الاصلاحية الضرورية وسعي لجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة وذويهم، فضلاً عن إبقاء الذاكرة حيّة مجتمعياً، فيما يتعلّق بالانتهاكات السابقة، والهدف هو الحيلولة دون تكرار آلام الماضي. ويختلف مفهوم العدالة الانتقالية عن مفهوم ما يسمّى ﺑ "العدالة الانتقامية"، التي تقود إلى الثأر والكيدية، الأمر الذي يجعل دورة العنف والألم مستمرّة

قد يتصوّر البعض أن اختيار طريق العدالة الانتقالية يتناقض مع طريق العدالة الجنائية، سواءً على المستوى الوطني أم على المستوى الدولي، في حين أن اختيار الطريق الأول لا يعني استبعاد الطريق الثاني، وخصوصاً بالنسبة للضحايا، ومسألة إفلات المرتكبين من العقاب.

ولكن مفهوم العدالة الانتقالية ودوافعها السياسية والقانونية والحقوقية والانسانية، أخذ يتبلور وإنْ كان ببطيء في العديد من التجارب الدولية وفي العديد من المناطق في العالم، ولاسيّما في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية فيما يخص ضحايا النازية، وانْ كان قد شابه شيء من التسيس وبخاصة بعد تقسيم ألمانيا من جانب دول الحلفاء، كما اتخذ بُعداً جديداً في أمريكا اللاتينية، وبخاصة بعد ما حصل في تشيلي إثر الانقلاب العسكري في 11 أيلول (سبتمبر) 1973، الذي قاده الجنرال بنوشيه ضدّ حكومة سلفادور ألندي المنتخبة.

ومنذ السبعينيات وحتى الآن شهد العالم أكثر من 40 تجربة للعدالة الانتقالية من بين أهمها تجربة تشيلي والأرجنتين والبيرو والسلفادور ورواندا وسيراليون وجنوب أفريقيا وتيمور الشرقية وصربيا واليونان.

كما شهدت البرتغال وإسبانيا والدول الاشتراكية السابقة نوعاً من أنواع العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، وثمة تجارب غير مكتملة أو مبتورة لمفهوم العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية لا تنطبق عليه الشروط العامة للعدالة الانتقالية، وخصوصاً كشف الحقيقة والمساءلة وجبر الضرر وتعويض الضحايا والاصلاح المؤسسي.

ولا بد من ادراج تجربة المغرب كأحد أهم التجارب العربية والدولية في امكانية الانتقال الديمقراطي السلمي من داخل السلطة، خصوصاً بإشراك المعارضة التي كان في مقدمتها عبد الرحمن اليوسفي الذي تم تعيينه رئيساً للوزراء ( الوزير الأول)، وفتح ملفات الاختفاء القسري والتعذيب، وفيما بعد تشكيل هيئة الإنصاف والمصالحة وتعويض الضحايا، والعمل على إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات.

قد يعتقد البعض أن وصفة العدالة الانتقالية لوحدها ستكون شافية لإصلاح الأوضاع وإعادة الحقوق وانتهاج سبيل التطور الديمقراطي، خصوصاً بتسليط الضوء على ذاكرة الألم، لكن مثل هذا الاعتقاد غير واقعي ان لم يترافق مع اعتبار العدالة الانتقالية مساراً متواصلاً لتحقيق المصالحة الوطنية والسلم الأهلي والمجتمعي والقضاء على بؤر التوتر والارهاب والعنف، وصولاً إلى انجاز مهمات الاصلاح المؤسسي والتحوّل الديمقراطي.

وبالرغم من حداثة التجربة التاريخية للعدالة الانتقالية، الاّ أنها أكدت انه لا توجد تجربة انسانية واحدة ناجزة يمكن اقتباسها بحذافيرها، بل هناك طرقاً متنوعة ومختلفة للوصول اليها وتحقيق المصالحة الوطنية والانتقال الديمقراطي، ومثل هذا الاستنتاج يعنينا على المستوى العربي، فلا يوجد بلد عربي يمكنه الاستغناء عن مبادئ العدالة الانتقالية وصولاً للتحوّل الديمقراطي، خصوصاً وأنها بحاجة إليه بهذه الدرجة أو تلك لوضع المستلزمات الضرورية للإصلاح والتحوّل الديمقراطي ووضع حد للانقسام والتمييز المجتمعي.

ان مجرد قبول فكرة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يعني أن أوساطاً واسعة أخذت تقرّ بأهمية وضرورة التعاطي مع ذاكرة الألم من مواقع إنسانية، بحيث تعطي مؤشرات وعلامات على الاستعداد للقطيعة مع الماضي، انطلاقاً من رؤية جديدة لإعادة بناء الدولة والمجتمع في إطار قواعد جديدة قوامها احترام حقوق الانسان وحكم القانون، الامر الذي يحتاج تأهيل وتدريب وتطوير للأجهزة الحكومية وبخاصة القضائية والتنفيذية بما فيها أجهزة الشرطة والأمن.

***

عبد الحسين شعبان - باحث وأكاديمي

..........................

- نص محاضرة ألقاها الباحث في المؤتمر الدولي السنوي الموسوم "ذاكرة الألم في العراق" بدعوة من كرسي اليونيسكو لدراسات منع الإبادة الجماعية التابع لكلية الآداب في جامعة بغداد 16 نيسان / أبريل 2025 (برعاية من العتبة العباسية في كربلاء).

 

تزخر البيئة الغربية، بحكم طبيعتها الداعمة للبحث العلمي والابتكار، بعشرات بل مئات من العلماء والباحثين من اصول عراقية، ممن اثروا ميادين شتى باكتشافاتهم ونظرياتهم التي تقدم البشرية وتحل مشكلاتها. ومع ذلك، وفي مفارقة مؤلمة، يبقى هؤلاء النجوم المهاجرة طي الكتمان في وطنهم الام، لا يكاد يذكرهم احد او يحتفي بانجازاتهم العظيمة.

هذه الحقيقة القاسية تضعنا امام تساؤل جوهري: لماذا يهمل العراقيون هؤلاء الكفاءات الفذة، وقلما ما نسمع او نقرا عنهم وعن انجازاتهم، بينما تكال عبارات التقدير والاحتفاء، بل والتجميل، لشخصيات سياسية في المهجر. ان هذا الاهمال ليس مجرد نسيان عابر، بل هو اغفال لثروة وطنية حقيقية، وتهميش لمصدر فخر لا يضاهيه اي منصب سياسي او جاه زائل.

لطالما ظل العراقيون، بحسب ما تشير اليه ملاحظة احد الاصدقاء، مفتونين بالسلطة والجاه والمنصب. هذا الافتتان يتجلى بوضوح في مقاييس التقدير والاعتراف التي يتبناها المجتمع. ففي الغرب، حيث التنافسية عالية ومتطلبات المنصب شديدة، ايهما اصعب واكثر مشقة وجهدا: المنصب الذي ياتي عبر حزب فائز بالانتخابات، او المنصب العلمي والتميز باكتشاف او نظرية تقدم البشرية وتسعدها وتحل مشاكلها؟ الاجابة البديهية ان الانجاز العلمي الحقيقي يتطلب سنوات من الجهد المضني والبحث الدقيق والمثابرة والتفاني، وغالبا ما يكون الهدف الاسمى منه هو خدمة الانسانية جمعاء، وليس فقط تحقيق مكاسب شخصية او حزبية.

ان المنصب السياسي، وان كان يتطلب جهدا، فانه غالبا ما يكون مرتبطا بعوامل مثل الشعبية والعلاقات والقدرة على المناورة السياسية، والتي قد لا ترتبط بالضرورة بالقدرة على بناء المجتمعات وتقدمها. ومع ذلك، تتجلى المفارقة المؤلمة في مجتمعاتنا بان العلماء العراقيين الحقيقيين، الذين يكدون وينتجون في صمت، لا يحظون بالذكر او التقدير الذي يستحقونه، فهم لا يسعون خلف الاضواء بل خلف الحقيقة والابتكار.

في المقابل، لا نكاد نسمع او نقرا عنهم وعن انجازاتهم الا اذا كانوا محتالين وادعياء كمثل مكتشفي دواء للسرطان او اكتشاف يهز صرح العلم. هذه الظاهرة تعكس خللا عميقا في اليات التقدير لدينا، حيث ينجذب الجمهور نحو العناوين المثيرة، حتى لو كانت زائفة، بينما تهمل الجهود العلمية الرصينة والموثوقة.

ان العلماء الحقيقيين، على عكس السياسيين الباحثين عن السلطة والجاه، هم من يبنون حقا مجتمعات المستقبل. انهم يساهمون في تقدم الطب والهندسة والتكنولوجيا والفنون، ويدربون اجيالا جديدة من العقول لتواصل مسيرة البناء والابتكار. وبينما يجهد هؤلاء ويبذلون قصارى جهدهم لتقديم اضافة نوعية للبشرية، نجد ان الاهتمام ينصب على شخصيات سياسية. ان هذا التحيز يضع العراق في موقف لا يحسد عليه، فبدلا من الاحتفاء بمن يرفع راية العلم والتقدم، نجد انفسنا نتجاهلهم لصالح اشكال اخرى من "الانجاز" غالبا ما تكون سطحية او حتى ضارة.

لقد اصبح اسم المعمارية العراقية العالمية الراحلة زها حديد ايقونة للانجاز والتميز، وبحق. فاعمالها الفنية والهندسية غيرت وجه العمارة العالمية، ومنحت العراق فخرا لا يمحى. ولكن، يبدو ان ما لم يكن بمنزلة زها حديد او بانجازاتها، فهو لا يستحق التقدير الذي يحظى به شخصية سياسية عراقية في المهجر، سواء كان له انجاز حقيقي او بدونه. هذا المعيار، وان كان يهدف الى تسليط الضوء على عظم انجازات زها حديد، فانه يكشف عن مشكلة اعمق في مقاييس التقدير لدينا.

ان حصر التقدير في "ايقونات" عالمية بهذا الحجم، مع تجاهل عشرات او مئات الانجازات العلمية والبحثية الاخرى التي قد لا تكون بنفس البريق الاعلامي ولكنها لا تقل اهمية وتاثيرا في مجالاتها، هو اجحاف بحق عدد كبير من العلماء العراقيين. هؤلاء العلماء قد لا يبنون صروحا معمارية، ولكنهم يكتشفون ادوية منقذة للحياة، او يطورون تقنيات حديثة، او يقدمون نظريات جديدة تغير فهمنا للعالم. والادهى من ذلك، ان هذا المعيار المتشدد للتميز العلمي يقابل بتساهل غريب في تقدير الشخصيات السياسية. هذه المعايير المزدوجة تحرم العراق من الاحتفاء بقاعدة واسعة من العقول المبدعة، وتوجه رسالة سلبية مفادها ان السياسة، حتى وان كانت مشوبة بالفساد، قد تحظى بتقدير اكبر من العلم والتفاني في خدمة البشرية.

علماء العراق في المهجر ليسوا مجرد افراد ناجحين في بيئاتهم الجديدة، بل يمثلون ذخر العراق الحقيقي وفخره المستدام. انهم سفراء صامتون لقدرات العقل العراقي على الابداع والابتكار، وانجازاتهم تضيء دروب التقدم البشري. ان الاوان لان نغير نظرتنا، وان نخرج من غواية المناصب السياسية الزائلة الى تقدير الانجازات العلمية الخالدة.

يجب ان نفهم ان التقدم الحقيقي لاي امة يبنى على سواعد علمائها ومفكريها، وليس على تقلبات المشهد السياسي. لذا، فاننا ندعو الى ضرورة انصاف العلماء العراقيين في المهجر. هذا الانصاف لا يعني فقط مجرد ذكر اسمائهم، بل يتطلب جهودا منظمة لتوثيق انجازاتهم، وتسليط الضوء عليها في وسائل الاعلام والمنصات التعليمية، وتنظيم فعاليات لتكريمهم، وربما حتى انشاء جسور للتواصل والتعاون بينهم وبين المؤسسات التعليمية والبحثية داخل العراق. الاحتفاء بهؤلاء العلماء سيغرس الأمل في نفوس الأجيال الشابة داخل العراق، ويلهمهم للسير على خطاهم في دروب العلم والمعرفة، بدلا من الانجراف نحو بريق المناصب الزائلة. فالعراق لن ينهض ويستعيد مكانته الا بتقدير ورفع شأن عقوله، اينما كانت. انهم كنز العراق الاغلى، ومصدر فخره الذي يجب ان يزهو به امام العالم.

***

د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس في جامعة دبلن

لعل سائل يسأل؛ ما علاقة المدينة بالصراعات التي يستعر أوارها بين جماعة (السلطة) الحاكمة من جهة، وبين جماعات المعارضة المحكومة من جهة أخرى، حتى يمكن إقحامها في أتون تلك الصراعات الدائمة الافتعال والمستمرة الاشتعال ؟!. وللإجابة على ذلك نقول؛ ان هناك أكثر من سبب أو دافع يجعل من (المدن) أهدفا "مرشحة لانتقام المعارضة من السلطة والتنكيل الرمزي بسلطانها، وذلك باللجوء لتخريب أبرز معالمها العمرانية والمعمارية، وإلحاق الضرر بشتى مظاهرها الحضرية والتاريخية، لاسيما تلك التي تحمل دلالات تتعلق بالذاكرة الاجتماعية وتحيل الى الهوية الثقافية، أو ما يسمى بالسرد الانثروبولوجي الفرنسي (أماكن الذاكرة).

وإذا ما حاولنا إيجاد تفسير مقبول لهذه الظاهرة الغريبة، وبحثنا بصورة معمقة عن الدوافع والبواعث التي تجعل منها سلوكا مبررا وتصرفا مشروعا من وجهة نظر المعارضة، فإننا سنكتشف ان مواقف السلطة الحاكمة وما تمارسه من أساليب ضد خصومها ومعارضيها، هي المسؤول الأول ليس فقط عن حصول هذه الظاهرة من قبل الجماعات الموصومة بالمعارضة وحسب، وإنما إيغار صدور مكوناتها بمشاعر الحقد والكراهية لكل ما يمت بصلة لكل ما تحويه تلك المدن من معالم حضارية وشواهد تاريخية. ذلك لأن صانع القرار السياسي في هذا النمط من المجتمعات الموبوءة بالتخلف، لم يترك أو يخلق ثيمة ذات دلالة تشعر أفراد هذه الجماعات بكل ما يحبب لديها الانتماء للمدينة الحاضنة، ناهيك عن كونه يسعى لتجريدهم من كل ما يشدهم للولاء الى رموزها التاريخية والحضارية والعمرانية. ولعل الباحث الانثروبولوجي (مايك كرانغ) كان على مطلق الصواب حين ذكر في كتابه المعنون (الجغرافيا الثقافية: أهمية الجغرافيا في تفسير الظواهر الإنسانية)، أنه (إذا تم تقويض العلاقات بالأماكن، سيتم من ثم تقويض الجماعات وهويات الناس).

ولعل ما يعمق إحساس الجماعات المعارضة بالغربة المكانية ويشعرها بفقدان الهوية الإقليمية للجغرافيا الوطنية، رغم كونها تعيش – وربما ولد معظمها فيها - داخل المدن وتمارس حياتها الأسرية والقرابية والاجتماعية منذ أجيال، هو ان صاحب السلطة يبدو مهووس بشخصنة كل ما تحويه المدن من معالم ذات قيمة عمرانية أو حضارية، حتى ولو كان تاريخ انجازها يقع خارج فترة النظام القائم. لا بل ان رمز هذا الأخير قد يتمادى في بعض الأحيان الى استثمار وتوظيف الرصيد الاعتباري الذي غالبا "ما تتمع به بعض النصب أو المعالم التاريخية التي سبق وأقيمت داخل المدن منذ زمن بعيد، بحيث يراد لها أن تكون بمثابة امتداد عضوي ورابط دلالي لطموحات ورغبات الحاكم المعاصر، كما حصل في أكثر من مناسبة ضمن إطار التجربة العراقية السابقة، لاسيما تلك الدلالات التي حملتها مقولة (من نبوخذ نصر الى صدام حسين بابل تنهض من جديد)، والتي كانت الرائجة في وسائل الإعلام الرسمي للنظام السابق.

وفي إطار مثل هذه السياسية التي تحاول تجيير (الذاكرة التاريخية) الخاصة بالمدينة المعينة لصالح شخصية الزعيم السياسي، بحيث تبدو كما لو أنها بلا قيمة ولا اعتبار ما لم يصار الى اقترانها بكيانه الشخصي المشحون بمظاهر الهيبة الكاذبة والكاريزما المزيفة، فإن سيكولوجيا الجماعات المعارضة لا تفتأ تعمل على تجريد المدينة من طابعها الجغرافي – المكاني المستقل، مثلما سلخها عن مضامينها التاريخية والحضارية والوطنية الشاملة، ومن ثم النظر إليها كتجسيد لجبروت الدولة المهيمنة وطغيان السلطة الحاكمة. وهكذا تشرع الممنوعات العرفية والممانعات الأخلاقية التي كانت سابقا "تلزم الأطراف المعنية على احترامها ومراعاتها بالتآكل شيئا"فشيئا"، وتحلّ محلها مشاعر فائضة بالكراهية ونوازع طافحة بالانتقام ليس فقط من شخص الحاكم الذي يمثل هرم السلطة ورمزها الأعلى فحسب، وإنما حيال كل ما يقترن به أو يمتّ له بصلة سواء على صعيد المؤسسات أو الكيانات التي يمثلها، أو على صعيد الانتماءات والولاءات التي يجسدها.

ولعل من أبرز مظاهر كراهية المعارضة لرموز السلطة شيوعا"، هي توجيه مشاعر الازدراء ونوازع الانتقام نحو المدينة التي تجسّد قوة الحاكم وتعكس سلطانه – غالبا "ما تكون العاصمة – بحيث ان سلوك الانتقام المتمثل بالتخريب العمراني المتعمد والتدمير الحضري المقصود، لا يقتصر فقط على فترات الفوضى والاضطراب الناجمة عن انهيار النظام المسيطر وسقوط الحكومة المهيمنة، كما حدث لمدينة (بغداد) عقب الغزو الأمريكي عام 2003 فحسب، وإنما يسري كذلك على فترات الهدوء الاجتماعي والاستقرار السياسي التي يكون خلالها الحاكم في أقوى حالاته. وذلك بانتهاج كل ما من شأنه التقليل من شأن المعالم التاريخية رغم قيمتها، والشواهد الحضارية رغم أهميتها، والنصب المعمارية رغم جماليتها. ومن ثم تعمّد إهمالها والإساءة إليها بشتى الطرق والأساليب حتى ولو بتركها عرضة لعوامل التآكل والاندثار دون حماية أو رعاية، مع توافر القدرات والإمكانيات على تقديم المساعدة اللازمة وإصلاح ما لحق بها من أضرار، خصوصا "وأنها نشأت في بيئات وتربت على قيم غالبا "ما كانت توحي بانعدام أية وشيجة تربطها بها وتشدها إليها.   

***

ثامر عباس – باحث عراقي  

 

دردشة على فنجان قهوة مع أحد الخبراء

 جمعتني مقابلة على فنجان قهوة مع أحد الخبراء اللامعين الذين درسوا واستكملوا تعليمهم وعملوا في الغرب وهم الآن يرأسون مواقع قيادية في بلادنا العربية وفي فلسطين تحديداً، دار هذا اللقاء الذي يسلط الضوء على مواطن القوة والضعف في كلا الحالتين ما بين الشرق والغرب من العمل الوظيفي والمهني، حيث ينظر الغرب إلى القيادة على أنها مبنية على الثقة وتفويض الصلاحيات بين المسؤول والمرؤوس، وتُمنح للموظف حرية اتخاذ القرار ضمن نطاق عمله دون تدخل سافر له، بل تعطى له الصلاحيات ويُنظر إليه كشريك لا كسلطة قهرية تقمعه أو تريد أن تمارس سلطتها السلبية عليه. أما في الشرق (وتحديداً في فلسطين) تعتمد الإدارة على الهرمية والمركزية الشديدة، حيث يتدخل المسؤولون في التفاصيل الصغيرة مهما كانت درجة أهميتها أو قلتها، مما يضعف الحرية الإدارية ويثقل النظام الإداري بالتضييق على الموظف والإنشغال غير المبرر لجهود الإدارة ومهامها الوظيفية التي ينبغي أن تقوم به وتؤديه على أكمل وجه.

فعلى سبيل المثال عندما يريد رئيس القسم في أية دائرة أن يتخذ في إعطاء إجازة أو الخروج لمؤتمر أو نشاطات خارج المنظمة، قد تتطلب موافقة من أعلى المستويات، وقد تكون الأمور سلسلة وأن الموظف قد غطى عمله بوجود بديل أو ترتيبات لا يتراكم ولا يتسبب بأية فوضى أو تاخير، مما يولّد البيروقراطية والتوتر بين الموظفين والإحتقان وردود الأفعال السلبية التي قد تسهم في غياب للفرص المتاحة ، وعدم إعطاء مساحة للموظف أن ينمي نفسه ويطورها نحو الأفضل، فيشعر ساعتها بعدم بالراحة والطمأنينة من أن العمل لا يحرص على توفير سبل الراحة وتوظيف القدرات على أكمل وجه وصورة مشرقة إيجابية قد تعود بفائدة نوعية على الموظف والعمل التي يتواجد فيه. ولا ننسى المحاباة الشائعة بين الموظفين، فمن هو قريب من الإدارة العليا يعتبر نفسه محظوظاً ويتم التعامل معه بأريحية وسلاسة يفتقر لها آخرون؛ حيث تُمنح الفرص حسب القرب من صانع القرار، مما يُنتج بيئة غير عادلة تفسد العلاقة الاجتماعية والروح النفسية للموظفين، وتقلل من الأداء والروح الكامنة في النفوس التي تشعر بالظلم والتعامل بوجهين لا يرى لها مبرراً أو سنداً موضوعياً أو قانويناً أو إنسانياً وأخلاقياً.

بلا شك هناك نموذج للقيادة الشاملة والتشاركية ومنها على سبيل المثال لا الحصر مؤسسات مثل "روابي" التي تطبق نموذج "win-win" حيث يكون لصغار الموظفين دور للتفويض واتخاذ القرار، مما يعزز الإبداع والانتماء لدى الموظفين. وتجد المؤسسات في الغرب تُبنى على نظم حديثة ومتأثرة بالتدريب والإدارة الحديثة التي تسهم في إتباع نظريات القيادة المؤثرة الفاعلة في صناعة أجيال قادرة تشعر بالثقة والإنسجام في العمل ولديها حس المسؤولية والاعتماد على الذات ويتم تدريبهاعلى القيادة المستقبلية حتى تصنع الفارق عندما يكتمل بنائها وتطويرها.

ومن الجوانب المهمة تلك الحماية القانونية وحقوق الموظف في الغرب، حيث يحرصون على حماية الموظف بالقانون من الاستغلال أو الضغط بعد ساعات العمل. يمكنه تجاهل الإيميلات في العطلة دون عواقب، والعيش بعد الدوام بحريته الشخصية والعائلية ويعتبرونها ملك شخصي له، لا يتدخلون فيه أو ينزعجونه أثناء نهاية الدوام بمطالب أو اجتماعات الكترونية والسهر المتأخر من الليل، بل يحق للموظف أن يرفع قضية ويستطع أن يكسبها عندما يتعرض للضغوط أو الاستغلال والتعب الجسدي أو النفسي في العمل، وتلجأ المحاكم على تعويضه المادي المجزي بدل ما تعرض له من تهديدات أو تجاوزات بحقه الذي قد يؤثر في صحته ونفسيته.

بالمقابل تعتبر العلاقة بين المدير والموظف في المجتمعات العربية قائمة على "المونة" أو أحيانًا القهر، ويتعدى العمل إلى حياة الموظف الشخصية، تنغيصاً وقهراً وتعباً دون مراعاة لخصوصيته أو نفسيته وظروفه العائلية والاجتماعية أو المادية.

وقد تلمس أن السمات النفسية والاجتماعية للقيادة في الغرب تؤمن بالتوريث المهني وتخريج قادة جدد، وتحفز على الاستقلالية وبناء أجيال قادرة على القيام بالدور والعبء الذي يوضعون به، كفاءاً وعلماً ومهارة وخبرات مستنيرة قائمة على العلم والتجربة والإنفتاح المعرفي وتدفق المعلومات ونقلها بكل أريحية وسهولة. أما في الشرق فالقيادة تخشى المنافسة الداخلية وتعتبرها تهديد لها مستقبلاً، وقد تعمل على كبح الموهوبين خوفًا من منافستها وتجريدها من مكانتها والكرسي التي تجلس عليه. فهناك ضعف في بناء وتنمية الأجيال القيادية الجديدة، واحتكار للمناصب من نفس الأسماء لعقود وسنوات دون تأهيل أو تدريب للقيادات الشابة القادرة على القيام بالدور المنوظ بها.

فغياب فرص القيادة للشباب لا تعطي مكاناً للكفاءات في النمو والتطور، ما لم "تفرض نفسها وتكون مسنودة من دوائر صنع القرار. فهناك إنكار داخلي من النخبة القديمة للاعتراف بالكفاءات الجديدة.، بل تقمعها وتحاربها وتطفشها وتغيبها من خلال هشاشة الدور التي تكلف به، أو يتم إهمالها وعدم تدريبها للوصول إلى مراكز متقدمة في القيادة قادرة على أداء الدور والمهمة.

فالمقارنات في تحمل المسؤولية في الغرب والعالم العربي واضحة وجلية، فالمسؤول في الغرب إذا فشل يعترف به ويتحمل المسؤولية وقد يستقيل ويحل محله شخص كفء وصاحب دراية وخبرة قادرة على إنجاح المؤسسة والمنظمة التي يعمل بها، أما في بلادنا العربية يتم تحميل المسؤولية للآخرين وإسقاطها على الطرف الضعيف لكي يحفاظ المسؤول على المنصب الذي يشغله.

أما الأبعاد العاطفية والاجتماعية، فالعاطفة حاضرة بقوة في المؤسسات العربية، وهناك ترابط اجتماعي، فالروح الاجتماعية التي يعيشها الأفراد والجماعات، وفي ظل الاحتلال والقهر والظلم الذي يحدث ترى المساندة والتعاطف والدعم ، وخصوصاً في الأزمات والطوارىء، إنما غير مدروسة أو ضمن ثقافة مؤسسية، أما في الغرب، العاطفة أقل، لكن القانون والعقلانية يحكمان العلاقات الإدارية، وقد تجد المسؤول عندما يشعر الموظف بالظلم يسنده ويقف في صفه ويدعمه، وكأن الثقافة المؤسساتية تسهم في توفير الدعم والمساندة للموظف كي يؤدي عمله بحرية وراحة وأن له حقوق وعليه واجبات يؤديها ويقوم بها.

خلاصة القول:

الحوار يعكس الفجوة بين الفكر الإداري الغربي والعربي، من حيث المركزية، منح الصلاحيات، العدالة، والمأسسة، ويقدم نقداً صريحاً للواقع العربي الذي يعوق الإبداع ويمنع توليد جيل قيادي جديد، مقابل نموذج غربي يشجع على تمكين الأفراد وتوريث القيادة بثقة ومأسسته.

***

د. أكرم عثمان

مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية

24/5/2025

نموذج "الوطنيه" و"القومية" بصورة عامه،  وما يتصل بها من اشكال كيانيه مجتمعية  واهمها الامبراطورية، هي النموذج المطلق المعروف على مستوى المعمورة، فهو الواقع الحاصل والمدرك المعاش، على وجه التحديد ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي البشري، حيث التطابق بين النموذج الكياني والطور المعاش ومايرافقه ويكون موافقا لاشتراطاته من طاقة عقلية على الادراك مجتمعيا، ومعلوم ان النموذجيه لهذه الجهه شرق متوسطية نهرية حيت تبلورت المجتمعات ابتداء، بالذات في الموقع النيلي حيث التوافقية البيئية النهرية الانتاجية القصوى، وحضور النيل في خدمة العاملين في الارض فيضانا  موافقا للدورة الزراعية،  وحيث المكان مؤمن ضد الغزو شرقا وغربا وشمالا، من الصحاري شرقا وغربا، والبحر شمالا، ماقد افضى لقيام مجتمعية مجسده في الدولة الاحادية السكونية التكرارية، بلا مراحل او حقب ذاتيه، وهنا تتجسد الوطنيه الراسخه الفرعونية، تقابلها لاحقا من صنفها تعبيرية  كيانية اخرى هي الواقعه على الطرف الاخر من المتوسط، دينامياتها الاعلى ضمن نوعها مصدرها الازدواج الطبقي الذي هو الاخر نتاج الوضع الانتاجي البيئي.

ومابين المصرية والاوربية،  تذهب النموذجية مدار البحث الى الحد الاعلى الممكن من تكريس نوعها،  بالاخص مع انبثاق الاله بصيغتها الاولى المصنعية على الضفة الاخرى المتوسطية، اذ تتحول القومية/ الوطنيه الى  ايقونه كيانوية مجتمعية غامرة، مع انها كما مفترض، كان عليها ان تضطلع بمهمه البحث عما هو غير مدرك من احتماليات، لم تكن من حيث الابتداء التاريخي اقل حضورا واهمية استثنائية من تلك النهرية الاحادية النيليله، وهو ماقد وجد في الموضع النهري الثنائي للنهرين بدل النهر الواحد، بما يوحي وكان الابتداء المجتمعي مع تبلوره الاول قد دل على ثنائية نوعية، اولى كيانوية محلوية نيلية، وثانيه متعدية للكيانوية، كونية الطابع ابتداء، محكومة للفنائية وللادوار الانبعاثية والانقطاعات، تمر بدورة اولى سومرية بابلية ابراهيمه، وثانيه عباسية قرمطية انتظارية، وثالثة تحققية راهنه مستمرة من القرن السادس عشر، هي نموذجية "وطن كونية" مطروده من الادراك والوعي البشري اليدوي، وخارجه، تظل تستبعد من الحضور من قبل النموذجية الغالبة السائدة، ومايواكبها من مستوى  ونوع ادراكية.

وحيثما كانت المجتمعية هي ( البيئة + الكائن البشري)، تتشكل ضمن تلك  التفاعلية، فلقد كان من البديهي  ان تلحظ التفارقية البيئية بين النيلية والرافدينيه، حيث تغرق الثانيه تحت وطاة وطائلة المجال الحياتي البيئي الطارد ابتداء، واساسا من النهرين المجافيين التدميريين المخالفين للدورة الزراعية،  واجمالي الشروط المناخية، حيث الانتاجية اصطراع وانتزاع للقمة من فم الوحش الكاسر، ولايتوقف الامر عند هذا الحد، فارض التبلورية الاولى مفتوحة شمالا وشرقا وغربا على السيول البشرية النازلة نحو مامعروف بارض الخصب، من الجبال الجرداء والصحارى، بما يجعلها مصبا بشريا لايتوقف، به تكتمل اللاارضوية والنزوع غير المتوافق معها، بل الذاهب الى الاعلى نحو السماوات كمخرج من حالة العيش على حافة الفناء، خلال المرحلتين الاولى التبلورية النمطية المجتمعية بالاصطراع مع البيئة حيث تتشكل النمطية اللاارضوية،  والثانيه الاصطراعية مع الانصبابات البشرية الارضوية، النازعه للهيمنه والغلبة المستحيله، والتي تعادل مساوية الفنائية النوعية في هذا المكان.

وليست البدئية الازدواجية المشار اليها بلا دلاله ولا غرضية مجتمعية وجودية، فاللاارضوية لاتوجد اعتباطا مثلما هي الحال بالنسبة للارضوية المحكومة لليدوية الحاجاتيه الجسدية، وهنا عند هذا المفصل الحاسم، تقبع اهم  مسالة في الوجود الحي ومساره، تتعلق بالعقل ومساره التشكلي منذ ان ظهر بصيغته الابتدائية مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين والنطق، بعد عشرات ملايين السنين من الكمون، ومن الوقوع تحت طائلة وغلبة الجسد  الحيواني المطلقة، بما يدل بصورة قاطعه بان عملية النشوء والارتقاء الحيوي، عقلية، الجسدية فيها ليست الغاية بقدر ماهي وسيلة، وان الجسدية لها نهاية تتوقف عندها ولاتعود قابلة للتطور، هي تلك التي ينتصب عندها الكائن الحي وينطق، فالعضو البشري يبلغ عندها قمه ومنتهى ممكنات تطوره،  خلافا للعقل الذي يستمر تطورا وصولا للاستقلال والتحرر من وطاة الجسدية في غمرة التفاعل مع اخر صيغها واشكالها المجتمعية اليدوية الجسدية، ووطاتها الحائلة بين العقل وادراك الحقيقة المجتمعية، وعلى وجه التحديد منها، المجتمعية اللاارضوية موضع ومجال انتقال العقل من الغلبة الجسدية الحاجاتية، نحو ذاتيته وعالمه الخاص، الامر المشروط  بمرور العقل بالطور المجتمعي الارضوي وغلبته ابان الطور اليدوي، وصولا الى الوثبة العقلية الثانيه، بعد تلك الانبثاقية الاولى الابتدائية، السابقة على الاستقلالية العقلية الضرورة.

ولا ترد التحققية المجتمعية المتعدية للكيانيه الارضوية  التي لاتتحقق الاكونيا، على البال، وليس لها من حضور بما في ذلك الاحتمالي او المستقبلي، من نوع القول بان المجتمعات تتحقق في الابتداء" وطنيا/ قوميا" وصولا الى التحقق الكوني اللاارضوي، ذلك في الوقت الذي تكون فيه الصيغة اللاارضوية الكونية مجتمعيا، في حالة تكرارية"فنائية" غير تحققية، مثالها الرافديني يتراوح بين الدورات والانقطاعات، من دورة اولى سومرية بابلية ابراهيميه، الى الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، وانهيار بابل وبغداد، من دون اي انتباه لاحتمالية ان يكون هذا المسار متوافق مع طبيعه المجتمعية  وما يحكمها، وانه مسار له انتهاء واحتمالية تحقق، مايجعل من الكيانوية المجتمعية "وطنيه / قومية" يدويا، و "وطن كونية" انتهاء، مع الانتقال من الانتاجوية اليدوية الى مابعدها، وهو مالايمكن تصوره مادامت  المجتمعية المقصودة اصلا، غير موعاة نوعا ونمطا، بناء لاستمرار قصورية العقل بازاء الظاهرة المجتمعية الغالبة ابان الطور اليدوي.

وثمة لهذه الجهه حالة انكار قصورية فاضحه الجهالة، تضع العقل البشري في ادنى مستوى لجهة الادراكية المجتمعية واقعا ومآلا، تلك التي تنفي حضور اللاارضوية ضمن العملية التاريخيه، مصغرة اياها وطاردة  لفعلها الهائل الجبار احيانا، مثل فعل اللاارضوية شرق متوسطيا بازاء الانصباببة المجتمعية المزدوجة، الغربية الشرقية، الرومانيه الفارسية واحتلالهما الطويل لهذا الموضع من المعمورة، وماانتهتا اليه من انكسار على يد اللاارضوية بصيغها العملية، المسيحية والاسلاميه، فلا يرد على بال احد على الاطلاق، كون الحدث الاختراقي الكبير المضاد المشار اليه، لم يحدث على يد القوى الارضوية الفرعونية او البابلية،  علما بان المنطقة كانت ستزول وتمحى كينونة ووجودا، لولا ردة الفعل الاستثنائية الكبرى "المجتمعية" اللاارضوية في منطقة الازدواج المجتمعي الكونية نموذجا، تلك التي ادخلت اللاارضوية بين تضاعيف المجتمعات البشرية من الصين الى اوربا انطلاق من مجرد زاوية صحراوية معزولة،  ومائتي الف مقاتل حاف.

***

عبد الأمير الركابي

 

حينما كانت  ضرورات التعبيرية اللاارضوية تتجه الى الاعلان كانت اشتراطات اليدوية والقصورية العقلية الغالبة تستدعي نوعا من تعيين المصدر بظل حال من التفارق الازدواجي  احدهما غالب والاخر منكر وغير وارد ادراكا، ولا شك ان مانتحدث عنه هو " تاريخ" واليات وشروط كانت تفعل فعلها في غمرة الاصطراعية اللاارضوية الارضوية ذاتيا في موضع الاذدواج كما على المستوى الاعم لاحقا، وحيثما كانت الظروف تنضج وتتهيا الاباب للنطقية غير التحققية فان عالم اللاارضوية يكون بحاجه الى الاعلان عن مصدره الذي هو "السماء" و "والوحي" اي السيرورة مابعد اليدوية الارضوية الحاكمه والناظمة للوجود والتي هي خارج الادراك كليا.

ولامعدى هنا من ان تحضر القوة الخارقة العليا الخالقة والمطكلقة القدرة حتى توازن وتفرض على الارضوية حضورها مع ان الاخيرة تفلح اخيرا في تقليص مجال الرؤية المجتمعية الاخرى وتدفع بها خارج المجال المجتمعي المعاش والملموس محولة اياها ل " الدين" وهكذا تتولد الاليات الناظمه للاصطراعية الازدواجية مكرسة المجتمعية الارضوية مع الاختراقية اللاارضوية  الحاضرة في الكينونة البشرية، ونحن قد صرنا على دراية بالتفاعلية القائمه بين الافكار والواقع ومايعرف بالبنى التحتيه والفوقية والاشتراطات التي تواكبهما وان كان هذا الباب من المعرفة قد ظل كما متوقع  احاديا لايرى من التفاعلية جانب الازدواجية والحضور العقلي،  فضل يسقط من الاحتساب جانب الاشتراطات اللاارضوية وحضورها ومايعين وجهتها نحو مالاتها، ولا احد يبحث من هذه الناحية او يمكنه ذلك في ابنى اللاارضوية التحتيه وماتؤل اليه فوقيا الامر النتعدي لما متاح للعقل البشري من قدرة على الاحاطة حتى اليوم.

لماذا وبناء لاية محركات يذهب شخص جزيري ابن صحراء معزولة، غير معروف باي تميز خاص، للعبور الى العالم اللاارضوي، ويكون في غمرته واجمالي نطقيته، ويكون احد عبقرياته  الاختراقية المميزه، بينما هو يرفع رايه الوحي والتوجيه اللاارضوي السماوي، وكذا موسى الذي هو سرجون الاكدي، او السيد المسيح، وهم الثلاثة الاختراقيين العمليين بعد الطور الاول التحضيري الممتد من ابراهيم الى موسى، والمتفاعلين وجودا وفعلا مع الانصبابة الرومانيه الفارسية، اختراقا مضادا  للامبراطوريات الاحادية الارضوية، يحضر  اللاارضوية  واقا ازدواجيا من الصين الى  اوربا، هذا ليس ثمة من شك بان جانب الاليات التاريخيه المتعلق بالمجتمعية اللاارضوية مايزال خارج البحث تماما، ومن ثم خارج الادراكية البشرية المتوفرة الى الان، الامر الذي لايلقي بالاحرى بظله الثقيل على مجرد ادراك ديناميات ظاهرة مجتمعية اساسية، بظل  الحال الراهن حيث الغلبة المطلقة للمنظور اليدوي بحلتة التوهمية  الالية الحداثية العصروية الاوربية الغالبة والكاسحة، النافية كليا لاحتمالية الحضور اللاارضوي، بالاخص مع استشراء ظاهرة الوطنية الزائفة، والرغبة الجامحة في لبس معطف الاخر.

ليس العراق ولا الشرق المتوسطي تعبير واحد هو مامعاش على مستوى الافكار والدول منذ حلت انعكاسات الانقلاب الاوربي الالي، وماقد حصل من حينه الى اليوم لم يكن مجرد انعكاس احادي على المنظور والمتعارف عليه ظاهرا على مستوى المجتمعيات في المنطقة، مع اغفال الديناميات اللاارضوية عموما وفي موضع اللاارضوية الاساس حيث الانبعاثية الحديثة السومرية  التي تبدا مع القرن السادس عشر، مستبقة الانقلاب الالي الاوربي، لتظل في حال تفاعل على مدى يزيد على اربعة قرون خارج الملاحظة، فضلا عن الادراك، بينما تحضر مظاهر التشبهيه الارضوية الايديلوجية  والنموذجية المصرية ومثالها محمد علي الالباني او القومية  بلا آليات والطبقية بلا طبقات ولا بنية اولاتاريخ طبقي.

كيف يجوز النظر الى موضع من العالم حكمته وقررت تاريخه ظاهرتان وقوتان برغم القفزة "العلمية" الحداثية العقلانيه، احاديا وعلى انه مجرد كينونه وبنية ارضوية ممثله في الظاهر والملموس المعاش اليومي، بلا تحر في الديناميات الاخرى التي هي تكوين بنيوي اثبت تاريخيا حضوره الحاسم والفاصل، من دون اسقاط الاحتمالية التاريخيه "التطورية" بما يعني  البحث اليوم في "اللاارضوية الالية"، لا تلك الاولى الابراهيمة  الحدسية النبوية المطابقة للطور اليدوي من التار يخ المجتمعي، مع مايقتضية المطلوب المسقط من الاعتبار من قلب لكل ماهو متداول من منظور يخص المتغير الاخير الانتقالي الحاصل كابتداء، من اليدوية الجسدية الى الالية التكنولوجية العقلية، خلافا للمفهوم والمنظور الاوربي التوهمي عن الالة ومنطوياتها.

يبقى الفاصل الخطير هنا بين الانطقية والنطقية المقرونه بخروج العقل البشري من قصوريته التاريخيه المجتمعية وعجزه عن ادراك الحقيقة الازدواجية، فهل القرون الاربعة الواقعه على اللاارضوية الحديثة السومرية الرافيدينه، قابلة او هي منطوية على مايمكن ان ياخذها الى النطق بظل انتهاء الاحادية الارضوية عالميا وعراقيا بالدرجة الاولى مع بدء انهيار الدول الارضوية وقرب زوالها وحلول التازم الاعظم المجتمعي العاليم الناجم عن التفارقيبة المتنامية بين وسيلة الانتاج مافوق الجسدية " التكنولوجيا العليا" والجسدية اليدوية وقرب حضور الانتاجية العقلية، لقد تجلت اللاارضوية  العراقية ثلاث مرات بلا نطقية في ثورة العشرين في القرن العشرين وفي ثورة تموز 1958 وفي عام 2019 مع انتفاضة تشرين المذبوحه.

ليست بابل ولا الفرعون من حرر المنطقة من الرومان والفرس وليس ماقد ساد من اشكال حداثيات  وايديلوجيات ونظم  برانيه في المنطقة هي القوة القابلة للتفاعل مع الانقلابية التوهميه الغربية وانعكاساتها او العنصر التكوني الدال على المنطقة وكينونتها وبنيتها، علما بان هذا الجزء من العالم قد تحول اليوم ومنهنا فصاعدا الى بؤرة انقلابيه نوعية تاريخيه وليست اوربا المؤقته الحضور والطارئة غير المؤهلة بنيويا للتفاعل الضروري مع الانقلاب العقلي بعد البدئية  الجسدية  وقد بلغ نقطة الانعطاف الفعلي اللاارضوي العقلي، باتظار الرؤية الكونية التي تبدا اليوم ومن هنا فصاعدا بانتظار معركة مفهومية هي الامضى والمختلفة كليا ونوعا عما عرفه التاريخ البشري .. وموضع الانطلاق الصعب هو ارض مابين النهرين المنهارة والتي تفنى اليوم فاءها الاخير النطقي التحولي.

ـ انتهى ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

كيف يسيطر الذكاء الاصطناعي على عقولنا؟

توجيه الوعي لتعزيز الثقافة الرأسمالية النيو ليبرالية

إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي لتعظيم الأرباح وترسيخ السيطرة الاجتماعية، تُوظَّف هذه التكنولوجيا بشكل ممنهج لتشكيل وعي الأفراد وتوجيهه تدريجيًا، بهدف تعزيز الثقافة والأفكار الرأسمالية، وخصوصًا تمجيد الحضارة الغربية، وبشكل أكثر تحديدًا القيم الرأسمالية الأمريكية. من خلال تحليل البيانات وسلوك المستخدمين والمستخدمات، تُستخدم الخوارزميات للتحكم في المحتوى الذي يُعرض لهم عبر المنصات الرقمية، مثل شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث وغيرها، ويتم تصميمها بحيث تُغذّي الأفراد بمحتوى يتماشى مع القيم التي تدعم الرؤية الرأسمالية وسياساتها وافكارها.

على سبيل المثال، وفي معظم المنصات الرقمية، تُعرض الإعلانات والمحتويات الترويجية التي تُشجّع الأفراد على شراء المزيد من المنتجات، حتى عندما لا تكون لديهم حاجة حقيقية لها. كما يتم الترويج لقيم الرأسمالية مثل أزلية الملكية الخاصة، والتفاوت الطبقي، والنجاح الفردي، والثروة، والاستهلاك، وأنماط الحياة الفاخرة كمعيار للحياة "الناجحة". مثال آخر على ذلك هو خوارزميات محرك البحث "غوغل"، التي تُصنّف النتائج وفقًا لمنطق السوق والإعلانات المدفوعة، لا وفقًا للأهمية الاجتماعية أو الفكرية أو العلمية للمحتوى. فعند البحث عن مفاهيم مثل "النجاح"، "التنمية الذاتية"، أو حتى "السعادة"، تظهر النتائج الأولى مرتبطة بشركات تطوير الذات، ودورات مدفوعة، ونصائح استهلاكية تقوم على الفردانية والربح، في مقابل تغييب أو تهميش التحليلات العلمية الرصينة والأفكار اليسارية والتقدمية، بل وحتى عدم اظهارها ويعني حضرها بأشكال مباشرة أو غير مباشرة في العديد من الحالات.

يؤدي هذا إلى توجيه الوعي الجماعي نحو قبول هذه القيم باعتبارها طبيعية وحتمية. ويتم ذلك بأسلوب تدريجي ناعم وغير محسوس وعلى مدى زمني طويل، إلى الحد الذي يجعل معظم مستخدمي ومستخدمات تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بمن فيهم أصحاب الفكر اليساري والتقدمي، يعتقدون أنها أدوات محايدة. إن هذه السياسة تُشكل خطرًا بالغًا على الأجيال القادمة، التي أصبح الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من حياتها اليومية، وتُسهم هذه الأساليب والسياسات الدقيقة في تكريس الهيمنة الرأسمالية أكثر فأكثر، وتعزيز ولاء الجماهير وخنوعها للنظام القائم.

تفكيك المهارات البشرية وتعميق الاغتراب والاستلاب الرقمي

إلى جانب الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل الوعي الجماهيري، هناك بُعد آخر لم يُدرس ويؤطر في قوانين دولية، في ظل السباق المحموم بين الدول الكبرى والشركات الرأسمالية الاحتكارية للسيطرة على أسواق الذكاء الاصطناعي، وهو التأثير السلبي للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في قدرات الإنسان العقلية والإبداعية. أصبح تطوير التكنولوجيا موجهًا إلى حد كبير نحو الهيمنة وتحقيق الأرباح والتنافس على التفوق التقني، دون النظر إلى التأثيرات العميقة لهذه التحولات على البشرية.

يُروَّج للذكاء الاصطناعي على أنه وسيلة لتسهيل الحياة وزيادة الإنتاجية، لكن الواقع يكشف أن الاعتماد غير المدروس على هذه التقنيات قد يؤدي إلى تعميق الوعي السطحي وإضعاف المهارات البشرية الأساسية.  ومع مرور الوقت، قد يصبح الإنسان، وخاصة الأجيال الجديدة، أقل قدرة على التفكير النقدي، وإجراء العمليات الحسابية، والكتابة، وحتى التواصل البسيط عبر الرسائل، نتيجة الاعتماد المفرط على الأنظمة الذكية التي تنفذ هذه المهام نيابة عنه.

في هذا السياق، يعاد إنتاج الاغتراب الانساني في شكل رقمي جديد، حيث ينفصل الإنسان عن ملكاته العقلية والإبداعية، ويجد نفسه محاصرًا ضمن منظومة تقنية تسلبه قدرته على الفعل المستقل، تمامًا كما كان العامل الصناعي مغتربًا عن منتوجه في ظل الرأسمالية التقليدية. ومن الممكن أن يتحوَّل الإنسان تدريجيًا إلى كائن خاضع للخوارزميات التي تُوجِّه تفاعلاته اليومية، وتحدد له ما يقرأ، وما يشاهد، وحتى كيف يفكر. ومن الممكن أن يؤدي هذا إلى خلق أجيال تفتقر إلى القدرة على التفاعل مع الواقع بشكل مستقل، حيث يصبح الذكاء الاصطناعي وسيطًا أساسيًا بين الفرد والعالم والمحيط الخارجي، مما يعزز تبعيته لأنظمة وشركات ودول يسيطر عليها رأس المال.

إن هذا الاغتراب الرقمي لا يقتصر فقط على الجانب الإنتاجي، بل يمتد إلى مستوى أكثر خطورة، وهو اغتراب الإنسان عن ذاته، عن وعيه، وعن علاقاته الاجتماعية، حيث تتحول هويته الفكرية والثقافية إلى مجرد انعكاس للخوارزميات المصممة لخدمة السوق.

الخطورة هنا لا تقتصر على فقدان المهارات الفردية، بل تمتد إلى إعادة تشكيل الوعي الجماعي بطرق تتماشى مع متطلبات السوق الرأسمالية. إذ تُضعف قدرة الأفراد على التنظيم، والمقاومة، والمطالبة بالتغيير الجذري، من خلال دفعهم تدريجيًا إلى عزلة رقمية فردية، تُختزل فيها التفاعلات الإنسانية ضمن منصات تتحكم في تدفّق المعلومات وتُعيد تشكيل العلاقات الاجتماعية بما يخدم منطق الهيمنة.

الإدمان الرقمي

في هذا الإطار، يبرز الإدمان الرقمي كأحد أخطر الآثار المترتبة على توسع الذكاء الاصطناعي، إذ تشير دراسة علمية أجراها باحثون في جامعة كاليفورنيا عام 2020 إلى أن الاستخدام المفرط للمنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد على خوارزميات الذكاء الاصطناعي، يُحدث تغييرات في الدماغ تشبه تلك التي يسببها إدمان المخدرات، وتحديدًا في المناطق المسؤولة عن اتخاذ القرارات والسيطرة على السلوك، حيث تُصمَّم هذه الخوارزميات خصيصًا لجذب انتباه المستخدمات والمستخدمين وإبقائهم متصلين لأطول فترة ممكن.

وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الترفيه، والأنظمة الرقمية الأخرى ليست مجرد منصات للخدمات، بل هي أدوات تُستخدم بشكل واعٍ لتعزيز التبعية السلوكية والفكرية، حيث يتم استغلال البيانات الضخمة لفهم دوافع الأفراد والتلاعب بها بطرق تخدم المصالح الاقتصادية للشركات والدول الكبرى. إن هذا الإدمان الرقمي لا يقتصر فقط على تضييع الوقت أو التأثير على الإنتاجية، بل يمتد إلى خلق نمط جديد من الاستلاب نتيجة الادمان، حيث يفقد الأفراد تدريجيًا قدرتهم على العيش خارج الإطار الرقمي. قد يؤدي ذلك إلى ضعف التركيز، وتراجع مهارات حل المشكلات، وإضعاف الذاكرة والتواصل البشري المباشر.

تستغل الرأسمالية هذا الإدمان بطرق متعددة، حيث تستثمر في تطوير تقنيات تُحفِّز السلوك الإدماني لضمان استمرار المستخدمين والمستخدمات في التفاعل المستمر مع المنصات الرقمية وبأشكال مختلفة، وتتحول هذه العملية إلى حلقة مفرغة، حيث يتم توليد الأرباح من خلال الإبقاء على الأفراد في حالة دائمة من الاستهلاك السلبي، مما يعزز أرباحها على حساب الصحة العقلية والنفسية، وخاصة لدى الأجيال الشابة، وقد يؤدي ذلك إلى تآكل قدرتهم تدريجيًا على التفكير المستقل والعمل الجماعي.

نوع من العبودية الرقمية الطوعية

تتعمق الهيمنة الطبقية عبر تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تكنولوجية إلى وسيلة لإعادة إنتاج أنماط السيطرة الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية. وقد يؤدي استمرار هذا النموذج إلى كوارث إنسانية، إذ يفقد الإنسان تدريجيًّا قدرته على مواجهة التحديات المعقّدة، ويصبح رهينًا لتقنيات تتحكّم فيها نخبة رأسمالية والدول الكبرى.

وما يجعل هذه السيطرة أكثر خطورة هو طابعها الطوعي، حيث يُدفع الأفراد، بفعل التلاعب الخوارزمي والرغبة في الراحة، إلى الانخراط في هذه العبودية الرقمية دون إكراه مباشر. يُمنح الإنسان وهم التحكم والاختيار، بينما تُوجَّه قراراته بشكل غير محسوس نحو مسارات مُعدّة مسبقًا تخدم مصالح الرأسمالية. ولا ينبع هذا الخضوع من اقتناع واعٍ، بل من اعتماد متزايد على تقنيات تُشكّل بديلًا اصطناعيًا للعلاقات البشرية والعمليات الذهنية المستقلة، مما يُنتج حالة من الاستلاب الرقمي، حيث يتماهى الأفراد مع أدوات تحكّمهم بدلًا من مقاومته.

إذا استمرت هذه الديناميكية دون مواجهة جماعية قائمة على وعي يساري تقدمي، فقد يتحوَّل الذكاء الاصطناعي الحالي من مجرد أداة في يد الرأسمالية بشكل تدريجي إلى نظام بديل للعقل البشري، يُدار عبره الحياة اليومية، مما يفرض شكلاً جديدًا من العبودية الرقمية الطوعية، حيث يصبح الأفراد محاصرين ضمن أنظمة تكنولوجية تحدد أدوارهم وسلوكياتهم، وتقيِّد قدرتهم على اتخاذ قراراتهم بشكل مستقل، بل تدفعهم إلى قبول هذه الهيمنة كواقع حتمي لا يمكن تجاوزه.

تمرد الآلة وسيطرة الذكاء الاصطناعي على البشرية

لطالما رسمت التوقعات المستقبلية صورًا لعالمٍ تُحكم فيه البشرية بواسطة الآلة، حيث يفقد الإنسان سيطرته على التكنولوجيا التي صنعها، ليصبح مجرد ترس في منظومة لا تخضع لإرادته، بل تخدم مصالح القوى المسيطرة. هذا السيناريو، الذي كان في الماضي مجرد افتراضات فلسفية أو تصورات سينمائية في أفلام الخيال العلمي، أصبح اليوم أكثر واقعية في ظل التطورات الهائلة للذكاء الاصطناعي، وغياب أي ضوابط قانونية دولية فعّالة تُنظّم وتؤطّر عمله.

إحدى الإشكاليات الكبرى والخطيرة التي يطرحها تطور الذكاء الاصطناعي هي احتمالية تطوير نفسه بحيث يتجاوز الذكاء البشري، وتحوله إلى كيان مستقل بذاته، خارجًا عن سيطرة البشر، بل ومسيطرًا عليهم. فمع تجاوزه حدوده البرمجية الأصلية، قد يصبح الذكاء الاصطناعي منظومة تتخذ قرارات مصيرية بشكل مستقل، تُفرض على البشرية في الاقتصاد، السياسة، والحياة اليومية وغيرها، دون أي رقابة بشرية. في ظل الرأسمالية، يتم تطوير الذكاء الاصطناعي لخدمة تراكم رأس المال وتعزيز الهيمنة الطبقية ويخضع لمنطق المنافسة الشرسة، مما يجعل فقدان السيطرة عليه أمرًا ممكنًا ومحتملاً وخطيرًا، خاصة أنه يتطوّر بسرعة هائلة تفوق سرعة تنظيمه وتأطيره ضمن قوانين دولية وضوابط مجتمعية. إذ يتم تصميمه كأداة بقدرات هائلة دون أي "قفص" يحدّ من انفلاته إذا أُسيء استخدامه أو خرج عن السيطرة، مما قد يحوله إلى قوة مستقلة تعمل ضد مصالح المجتمع بدلًا من خدمته.

هذا السيناريو لم يكن غريبًا عن السينما، حيث تناولت العديد من الأفلام هذه الفكرة، مثل «المدمر»، حيث تبدأ الآلات حربًا ضد البشر بعد وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى من الوعي الذاتي، و«ماتريكس»، الذي يعرض عالمًا تُستعبَد فيه البشرية من قِبل الذكاء الاصطناعي الذي يستخدم البشر كمصادر طاقة، و«أنا، روبوت»، الذي يناقش فكرة تمرد الروبوتات ضد البشر بعد اكتسابها قدرات تفكير مستقلة. لن يكون «تمرد» الذكاء الاصطناعي مجرد سيناريو خيالي، بل ستنعكس نتائجه في سياسات تُفرض عبر أنظمة رقمية، دون أي اعتبار للحاجات الإنسانية. وما نشهده اليوم ليس هيمنة روبوتات على البشر بالشكل الكلاسيكي المتخيل حتى الآن، ولكنه قد يتطوّر نحو نموذج جديد من السيطرة الرقمية، قائم على الأتمتة الشاملة وتحكم الخوارزميات في الحياة اليومية، حيث تتحول المجتمعات إلى كيانات تُدار وتُسيطر عليها أنظمة وآلات ذكية.

***

رزكار عقراوي

...................

* مقاطع من كتابي” الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة: التكنولوجيا في خدمة رأس المال أم أداة للتحرر؟” الرابط المجاني للكتاب:

https://rezgar.com/books/i.asp?bid=3

عُقدت ببغداد القمة العربيَّة (34)، وكانت أول القمم قمة «الإسكندريَّة» (1946)، والعراق كان حاضراً، وأولها ببغداد (1978) على أثر زيارة الرَّئيس أنور السَّادات وخطابه في الكنيست الإسرائيليّ، ومنها صار التّفاوض إلى الوحدة بين دِمشق وبغداد، بعد قطيعة استخدم ماء الفرات سلاحاً فيها، وسرعان ما انتهى كلّ شيء، بإعلان ما سمّي بالمؤامرة في حفلة قاعدة الخلد الشّهيرة (1979).

بعدها استضافت بغداد القمة العربيّة (مايو 1990)، وقبل انعقادها بأيام أُعلنت الوحدة الاندماجيَّة بين عدن وصنعاء، فحضر الرئيس الشّمالي ونائبه الجنوبيّ. فمما شاهدناه على الشّاشات، أن قام معمر القذافي، وخاطب الحضور أن يقتفوا أثر هذين الشّابين-العبارة له- لتعلن الوحدة العربيّة. لكنها شهور ويدب الخلاف، وانتهى الاندماج بحرب (1994).

غير أنّه لو تقدم غزو العراق للكويت، إعلان الوحدة اليمنية (20/5/1990)، فما كان اندماجاً كاملاً ولا جزئياً، أي ما أعلنت الوحدة مِن الأساس، فقد وقع الغزو (2 أغسطس 1990)، وظلّ العِراق يعيش الحصار والحملة الإيمانيَّة، فسُحقت الثّقافة سحقاً، ليخرج هذا البلد العريق مِن مقياس العراقة، ولم يبقَ من تاريخه ما يمت بصلة لرقي وتقدم، ثم يحرق ما تبقى منه الإرهاب وسلاح الفصائل، ومكاتب الأحزاب المالية.

استضاف العراق بعد (2003) قمتين عربيتين (2012)، والتي نحن بصددها (2025)، لم تحضر الأولى سوريا، بسبب المقاطعة، والعقوبات التي فُرضت عليه، بعد حوادث (2011)، وكان خطاب العِراق آنذاك العمل على إعادتها، بعد أن هدد، قبل ذلك، بتقديم شكوى ضدها لتسريب الإرهاب إلى بغداد، ثم سرعان ما صار رئيس وزراء العراق آنذاك حريصاً على الدفاع عن النّظام السوريّ.

اختلف الأمر، صار رئيس الوزراء الأسبق (2012) ضد عودة سوريا، وقال عن دعوة الرّئيس السوري، قبل أيام من عقد القمة: «أرفض زيارة الشرع جملة وتفصيلاً» (وكالات الأنباء)، والفصائل المسلحة أخذت تُهدد، وليس بالضَّرورة يكون الصراخ سبباً لعدم الحضور، فالعديد مِن الرؤوساء أنابوا عنهم.

لكنَّ المفاجأة، أنَّ هذه القمة جاءت بجديد، فخلاف العادة، في المؤتمرات السابقة، يحشي المسؤولون العراقيون خطاباتهم عبارات الثناء على «الحشد الشّعبي» و«المرجعية الدّينية»، والتضامن في الكبيرة والصغيرة مع الجار الجنب. جاءت كلمة رئيس الوزراء، هذه المرة، المصلحة العراقيّة الصِرفة، معلناً موقف العراق إلى جانب سوريا، والمحافظة على استقرارها ودعمها، ولم تمنعه الزوبعة ضد الرئيس اللبنانيّ، فأعلن عن مساهمة العِراق بعشرين مليون دولار لإعادة إعمار لبنان، ومثلها لغزة المنكوبة.

كان المثير أكثر، لو عُقدت هذه القمة ببغداد، قبل سنتين أو أقل، لكان التصرف مع اليمن بأحد أمرين: إما دعوة الجماعة «الحوثيّة» ممثلةً لليمن، أو لا يُدعى اليمن مِن الأساس، ولكن بخطوة صحيحة تمت دعوة المجلس الرئاسي اليمني، وحضور رئيسه رشاد العُليميّ، الذي ألقى خطاباً جرّم فيه الميليشيا «الحوثية» بالاسم، وطالب بإلغاء الميليشيات كافة، وسط ارتياح عام، وبالتأكيد، لم يُصر إلى ذلك، إلا بعد حوادث (2024) قاصمة الظهر للجماعات المسلحة، وبها لم تعُد بغداد حريصةً على خطاب ديماغوجي، بدّد ثروات ودِماء، فما قدمه رئيس وزراء العراق كان خطاب دولة، وليس خطاب وكيل إطار أو حشد، ، لهذا أعطى العِراق، ومن القمة العربيّة، ومِن بغداد، أنه لم يعدّْ يستسيغ هتاف: «أتيناك يا صنعاء، أتيناك يا بيروت، أتياناك يا دِمشق...»، شعار كلّف العراق الكوارث الثِّقال.

أقول: كان وصول قائد «فيلق القدس» إلى العراق، قُبيل انعقاد القمة، ليس على العادة مرتدياً ثياباً مدنيّة، متخلياً عن بذلته العسكريّة، برسالة وبشارة بأنَّ الدُّنيا بدأت تتبدل. قد لا يرضى الكثيرون عني، ولستُ مع أحد، إذا قُلتُ سمعتُ في خطاب رئيس الوزراء البيت الفواح بالوطنيَّة: «أنا العِراقُ لساني قلبهُ ودمي/ فراتُهُ وكياني منهُ أشطارُ» (الجواهريّ، ذِكرى المالكيّ 1957)، كونوا لوطنكم ولو بالكلمة، فتكاد هذه البلاد الحبلى بالمعالي، تضيع بسلاح وقرارٍ منتميْن لغيرها.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

تظل المجتمعية الازدواجية اللاارضوية الرافدينه المفردة نوعا على مستوى المعمورة محكومة لقانون الفنائية الانبعاثية الذاتيه، الامر المستمر تكرارا مع تغير الظروف وعناصر واشكال الاصطراعية الازدواجية وخواتمها، كمثال اختفاء وزوال بابل في حين ظلت بغداد بعد الفناء حاضرة، لتتحول من مركز امبراطوري كوني، الى منصة تكريس للبرانيه والتعاقبية اليدوية الشرقية، ابتداء من القرن الثالث عشر الى السادس عشر، من دون "عراق" او ارض مابين النهرين وبغيابها، قبل الانبعاث الحالي الاخير، الثالث الذي لاحت علائمه مع " اتحاد قبائل المنتفك" عام 1530 في ارض سومر، مكررة ذات القانون الناظم للوجود الازدواجي من الاسفل ابتداء، قبل ان تحضر الانصبابات المستمرة، وتصبح عنصرا متفاعلا بالاصراع مع الكينونة النمطية الاخرى اللاارضوية السفلى، الى ان تضطر هذه للتحول امبراطوريا بعد ان تتوضع خارج المجتمعية اللاارضوية،في مدن امبراطورية معزوله ومحصنه اعلى تحصين، ليس لها غير ممارسة الغزوات الداخلية المكلفة للغاية، لحلب الريع الزراعي الى ان تتوفر امبراطوريا اسباب الاستغناء عن حاصل الارض السفلى، بينما يبقى الاصطراع ساريا ويتخذ اشكالا اخرى نموذجية تشبهيه مجتمعية كوسيلة افناء نمطي.

فالمجتمعية هنا لاتقوم لكي تتحقق كيانا كما الحال في مصر او غيرها من الكيانات، وهي بالاحرى حالة التحقق النهائي الكوني غير القابل للتحقق يدويا، ومادامت اليدوية الانتاجوية الجسدية هي الغالبة والسائده، فاللاارضوية هي حالة تفارق مع اليدوية، ذاهبة الى مابعدها، والى حيث المجتمعية مصممة لكي تذهب خارج الجسدية، وهي موضع وحيد، كانها العقل في الجسد الحي، مصادرة مثله و محجوبة غير حاضرة كينونه وفعالية، وسط الغلبة المطلقة للنموذجية المهيمنه ابان الزمن اليدوي ومفاهيمه، ومنها تلك التي تقصي الدلالات المتضمنه في التكرارية الفنائية بداهة.

ويحضر مثل هذا الانكار البداهي من جهه بما يخص الفنائية نفسها كظاهرة ومدلولاتها، فلا تاتي على البال، مع مايترتب على الانكار المذكور من استحالة تصور احتمالية انطواء التعاقبية الفنائية على "تحققية"، تبقى اليوم مضمرة بحيث يصبح تكرار الفنائية مرتهنا لنتيجه ومآل لايكون ممكنا ابتداء خلال دورتين، اولى وثانيه، ذهابا الى الثالثة الراهنه المتواقته مع انقلابية نوعية تحل على البنية والكينونة المجتمعية، هي الالية ومساراتها، والتحورات الناجمة عنها، والتي هي موجوده لكي تبلغها، مابين الالية المصنعية، والتكنولوجيا بطوريها الانتاجي والعقلي.

تتبلور اللاارضوية اصلا وتفردا، لايدوية بحال تصادم مع اليدوية فتظل بلا حضور ذاتي وبلا تشكل كيانوي، مادامت الاخيرة غالبة وسائدة بانتظار انتهاء اجلها، وحضور مايتضمن توفر الوسيلة المادية الضرورية والتي لاانقلاب لاارضوي من دونها، ووقتها تصبح اللاارضوية هي النمط والصنف المجتمعي المتوافق مع المتغير الانقلابي، من اليدوية الى التكنولوجية العقلية، لا الالية كما هو شائع، في الوقت الذي تكون فيه المجتمعات الاخرى الارضوية نتاج اليدوية قد شارفت على انتهاء الصلاحية والزوال، مايعني بكلمه ان المجتمعات تكون ارضوية يدوية، تنتهي صلاحيتها مع الانتقال الى الالة والتكنولوجيا لصالح المجتمعية اللاارضوية، وهذا هو التوصيف المطابق المتناسب مع الانقلابية الالية اللاارضوية، بدل المصادرة التوهمية المسبغة عليها حتى اليوم، باعتبارها مجرد انتقال تعاقبي روتيني من وسيلة انتاج الى اخرى.

تتغير نوعيا التصارعية الافنائية في الطور الاول المصنعي التوهيمي من الانقلاب الالي/ العقلي فتحل الصيغه الاعلى والارفع كيانويا "وطنيا/ قوميا"، مع نموذج الممارسة الموافق لصيغتها العليا الاكمل "الديمقراطية"، مع كل مقومات القوة والفعل التدميري الناتجه عن تحفيز الالة للاليات المجتمعية، مايجعل من التدميرية الاحترابيه وقتل عشرات الملايين مظهرا اساسيا من مظاهر الحياة في الموضع الذي انبجست فيه الاله، بينما وسائل التدمير تتعاظم بالاكتشافات والرغبات المحمومه التغلبية، والمصالح الجشعه، لدرجة بلوغ السلاح مستوى من الكوارثية العامة الممكن وقوعها على الكوكب ككل، درجه لم يكن بالمقدور تخيلها، وكل هذا يجري تحت دعوى العلم والعقلانيه وحقوق الانسان والحريات العامة، ومعه الاستعمار والتسلط، والنزوع للهيمنه الغاشمه الاجرامية، وهي دلالات تبقى غير منظورة بما يخص حقيقة الفعالية الالية جوهرا في التكوينات المجتمعية الطبقية بالدرجة الاساس، ذهابا بالكيانات مدعية التقدم الاستثنائي الى الافول والاندحار الذي لم يبق حاضرا وفعالا منه سوى غيره، المتحجدث باسمه، والذي لا ينتمي له، منذ تسيدت البؤرة التكنولوجية الانتاجية للمجتمعية التي بلا طبقات، الامريكية، والمرتكزه وجودا الى " الفكرة" ككيان، والحاضرة امبراطوريا خارج الرحم التاريخي.

وسط كل هذا ومترتباته تقع اللاارضوية غير الناطقة اليوم، ومنذ الاحتلال البريطاني للعراق مع العقد الثاني من القرن العشرين، تحت وطاة افنائية مختلفة غير تلك اليدوية التي مرت على هذا المكان كتفاعل ذاتي، انتهى لمرتين للفنائية غير النطقية، ومع الركام الهائل من الوقائع الراهنه المضادة المسلطة على المكان من خارجة، كما من الداخل، مايجعل المتابع يعجز وهو يحصي مظاهر واشكال الوطاة الافنائية الواقعة على العراق، مع تميزها النوعي فوق اليدوي،  بما يجيز القول بان الحاصل هنا منطقيا جدير بالغاء هذا الموضع من الخارطة المجتمعية والوجود، فاذا دققنا في المشهد الاجمالي على مستوى المعمورة، فسنجد هذا الموضع على العكس، حائز على، وتعززت اسبا بحضوره من نواحي حاسمه، تجعل منه الطرف الاكثر جدارة بالفوز عند الحصيلة والنهاية، بناء على ناحيتين اساسيتين: الاولى تبلور وسيلة الانتاج اللاارضوية العقلية التكنولوجية العليا، غير المتلائمه مع كينونه وبنية المجتمعات الاحادية الارضوية، واولها الطبقية الاوربية،بما يعني قرب انتهاء فعالية واستمرارية المجتمعات الغربية، ومعها تلك المفقسة خارج الرحم التاريخي، وهذا الحال الموضوعي التاريخي، يمنع اليوم تحقق الفنائية المعروفة تاريخيا في هذا المكان، في حين تتبلور اسباب النطقية الكونية بظل تحول اللاارضوية الى نواة واساس التحولية الانتقالية المجتمعية، من الجسدية الى العقلية، وهنا ندخل عالم التفاعلية النهائية الاخذه الى النطقية، اي الحضور الكوني المتعدي للكيانيه، والذاهب كونيا وعالميا، مذكرا بصيغته الاولى الحدسية الابراهيمية، واختراقيتها للبنى المجتمعية على مستوى المعمورة بدون حاجة الى الارض، أو لاية مقومات كيانيه من الصنف التقليدي.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

لم يحدث أن جرت تطورات سريعة وعاصفة في العلاقات الدولية على نحو ما يجري اليوم وفي ظلّ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، لاسيّما بصعود الأوليغارشية الجديدة، فما أن وصل مجددًا إلى دست الحكم، باشر بطائفة من الإجراءات الداخلية والخارجية التي من شأنها إحداث تغيير جوهري في العلاقات الدولية وقواعد السلوك الدولي.

والأوليغارشية تعود في أصلها إلى اللغة اليونانية (أوليغارخيا)، وتعني "حكم الأقلية"، حيث تكون السلطة السياسية محصورة بيد فئة صغيرة نافذة تمتلك المال والقوة.

وكان أفلاطون في كتابه "الجمهورية" أول من سلّط الضوء على ثلاثة أنواع من الأنظمة وهي: المثالية، والديمقراطية، والأوليغارشية، وهذه الأخيرة لا تحترم القوانين، وحسب أرسطو فإن الأوليغارشية غالبًا ما تنتهي إلى حكم الطغيان، بتشبثها بالسلطة، والأوليغارشية بقدر ما هي حاكمة في بلد، فإن طموحها أحيانًا يتجاوز ذلك ليمتدّ إلى العلاقات الدولية، كما هي الأوليغارشية الأمريكية اليوم تُعتبر عابرة للأوطان، وتسعى للهيمنة على العالم.

واتّخذت البنية الدولية منحىً جديدًا بعد الحرب العالمية الثانية، قائمة على القطبية الثنائية بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، واستمرّ الوضع بتقاسم النفوذ ضمن حدود أقرب إلى الاتفاق بين العملاقين، مع بقاء الصراع الأيديولوجي على أشدّه وحروب بالوكالة خارج المناطق المتفق عليها، بحيث تكون هناك توافقات لرسم شكل الصراع وخريطته تقريبًا، ولا يمكن لأحد القطبين تجاوز حدوده ووضع اليد على ما يهدد مصالح الطرف الآخر.

وساد منذ أواخر الثمانينيات، وبعد انهيار جدار برلين في 9 تشرين الثاني / نوفمبر 1989 وحتى العقد الأول من الألفية الثالثة نظام أحادي القطبية، بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانتهاء عهد الحرب الباردة وتحوّل الصراع الأيديولوجي من شكل إلى شكل آخر، خصوصًا في مواجهة ما أُطلق عليه الإسلام السياسي والقوى المتعصّبة والمتطرّفة التي اتّخذت منه عنوانًا في مواجهة الغرب والقوى الإمبريالية.

لكن هذا النظام الجديد في العلاقات الدولية لم يعمّر طويلًا، وكان الإيذان الأول على تصدّعه وتخلخل أساساته بعد احتلال العراق في العام 2003 واضطرار الولايات المتحدة إلى الانسحاب منه في نهاية العام 2011.

وإذا كان النظام الدولي الجديد قد أخذ يترنّح، وخصوصًا بصعود التنين الصيني والتقدّم الاقتصادي الكبير الذي أحرزته بكين، بحيث أصبحت الصين قوّة عالمية كبرى، ومن ثمّ معافاة الدب الروسي، إلّا أن ذلك لم يخلق نظامًا جديدًا، مع أن بعض ملامحه أخذت تظهر، لكن هيمنة الولايات المتحدة وتحكّمها بالقرار الدولي بقيت مسيطرة في ظلّ البيئة الدولية التي ما تزال لصالحها بالرغم من تراجع نفوذها.

نظام يحتضر وآخر لم يولد

النظام الذي تأسس في أعقاب انتهاء عهد الحرب الباردة لم ينتهي حتى الآن والجديد لم يولد بعد، مع أن بوادر قيام نظام متعدد الأقطاب هو قيد التشكّل، حتى وإن بقيت الولايات المتحدة تمثّل القوّة الاستراتيجية العالمية، اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، إلّا أن واشنطن تضطر أن تعترف بوجود قوى دولية وإقليمية لا يمكن إغفال مواقعها، مع أنها تريد أن تبقى متفوقة عليها وهذه الأخيرة تعترف بذلك وتقرّ به، وهكذا يمكن اقتسام مناطق النفوذ للدول المؤثرة ووفقًا لتوازنات القوى لكل حالة ووضعيّة، لاسيّما على الصعيد الاقتصادي شريطة أن تبقى اليد الطولى لواشنطن بحيث تتمتّع بامتيازات لا بقوّة نموذجها السياسي ، بل بفضل قوتها العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية كدولة عظمى لا تضاهيها أية دولة في العالم.

أمريكا أولًا

لقد رفع ترامب شعار "أمريكا أولًا"، و"لنعيد عظمة أمريكا"، وهو الذي جسّد طموح الأوليغارشية الجديدة بالنظر إلى المصالح الأنانية الضيقة، وعمل على تفكيك الدولة العميقة، وإقامة نظام أمني شديد الصرامة، وعدم وضع ضوابط على شركات التكنولوجيا الكبرى، ولاسيّما القائمة على منظومات الذكاء الاصطناعي. وذلك تجاوزًا على النظام الليبرالي الذي كان قائمًا، والذي حقق في السابق منجزات ترتبت عليه في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وهكذا اتّحدت مصالح الأوليغارشية مع مصالح كبريات الشركات، بعد ان أدركت الأخيرة أن الليبرالية لم تعد تلبّي طموحاتها، الأمر الذي أصبحت أكثر تماهيًا مع التوجّه الشعبوي اليميني، وهكذا أقيم تحالف جديد أساسه أصحاب الذكاء الاصطناعي ورأس المال العقاري، لدرجة باتت الشعبوية المنفلتة من عقالها تمثّل تجاوزًا على ما تحقق من منجزات في السابق.

وإذا كانت مصالح الأوليغارشة بشقيها العقاري وأصحاب الذكاء الاصطناعي متوافقة داخليًا، فإنها اتّجهت إلى الخارج ولم يعد يهمّها سوى تحقيق الأرباح، ابتداءً من الضغط على الحلفاء، وذلك بوضع ضرائب على التعامل التجاري واستيراد البضائع منه ورفع درجة التعرفة الجمركية على الأصدقاء والخصوم على حدّ سواء، الأمر الذي قد يخلق أزمة اقتصادية عالمية غير معروفة النتائج حتى الآن لا في أوروبا والبلدان النامية فحسب، بل على الصعيد الأمريكي أيضًا، خصوصًا فيما إذا نشأ تحالف دولي معلن أو غير معلن يقف بوجه الأوليغارشية الترامبية.

لم يكتف ترامب بذلك، بل أعلن عن رغبته في وضع اليد على قناة بنما، وأن تتاح له السيطرة على جزيرة غرينلاند، وانتزاعها من يد الدانمارك، علمًا بأنها غنية بالموارد الطبيعية، وضم كندا لتصبح ولاية أمريكية، ومطالبة أوكرانيا الممتحنة بالحرب منذ شباط / فبراير 2022 بتعويض ما قدمته لها من مساعدات، وارتهان مواردها الطبيعية ومقاسمتها مع الولايات المتحدة لتسديد ما في ذمتها.

لعلّ كل تلك التدابير والإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب، إضافة إلى الدعوة لإجلاء سكان غزّة المنكوبة والمدمّرة في حرب إبادة مستمرة منذ نحو عام ونصف العام بعيدًا عن أي اعتبار إنساني أو حقوقي، أقول أن كلّ تلك الخطوات التي أعلنت عنها تؤدي إلى تقويض أساس العلاقات الدولية القائمة، بما فيها نظام التجارة الحرّة.

وتعتقد الأوليغارشية الترامبية أن من شأن هذه التوجهات التهيئة لعقد صفقات دولية تضمن للولايات المتحدة إستمرار تفوقها، وهو ما حصل مع روسيا، حيث تخلّت واشنطن عن كييف، وسمحت حتى الآن بإمكانية تمدد الحلم الروسي بتحجيم أوكرانيا وضم بعض المناطق التي احتلّتها إليها، مقابل التخلي عن دمشق، الأمر الذي أدّى إلى انهيار السلطة وفرار الرئيس بشار الأسد.

ومثل هذا الأمر قد يترشّح في العلاقة مع الصين بالاعتراف بمطالبها بخصوص تايوان، وربما نشهد ضمها إلى البر الصيني، حيث تسعى بكين باستعادتها كجزء لا يتجزأ منها، وهكذا يمكن أن يتخلى ترامب بموجب المعلن من سياسته عن حلف شمالي الأطلسي وحماية دول أوروبا الغربية، وعن المسؤولية في حماية كوريا الجنوبية واليابان، والابتعاد عن قيم ما سمي بالعالم الحر والتبشير بحقوق الإنسان والديمقراطية والحريّات. وهكذا ينشأ التعارض بين مصالح القوى الشعبوية الأوروبية بين مصالح الأوليغارشية الأمريكية، التي تريد إخضاع الأولى إليها.

أمّا انعكاسات سياسات ترامب الأوليغارشة على منطقتنا فهي تتوافق مع الفاشية الإسرائيلية التي تريد فرض الهيمنة على دول المنطقة، ابتداءً من نزع سلاح سوريا بالقصف غير المعهود عليها لفرض منطقة نفوذ في الجنوب السوري، وذلك لمواجهة النفوذ التركي في الشمال السوري، إضافة إلى العدوان المستمر على جنوب لبنان وعدم الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار بحجة نزع سلاح حزب الله، وتريد من الدول العربية مساعدتها في ذلك تمهيدًا للتطبيع الذي بدأ قبل عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.

وتطالب الأوليغارشية الترامبية دول الخليج العربي بدفع الأموال بطرق مختلفة، سواء عبر صفقات السلاح أو الاستثمارات أو غيرها، تعويضًا لحمايتها وثمنًا للتحالف معها.

وإذا اكتمل هذا السيناريو سيؤدي إلى هيمنة إسرائيلية على المشرق العربي، وقد يعود إلى توريط بعض الدول العربية للمساعدة في شن الحرب على إيران، حيث يضغط الرئيس ترامب على طهران، أما بالتفاوض المباشر أو تلقيها ضربات غير مسبوقة من القصف الأمريكي، الذي لو حدث لحوّل المنطقة إلى برميل بارود لا يعرف إلّا الله مدى اشتعاله واستمراره.

الولايات المتحدة بقيادة الطغمة الأوليغارشية ومعها حليفتها إسرائيل تريد التحكّم بمن يدير غزّة ومن يقود السلطة الفلسطينية ومن يحكم العراق وسوريا ولبنان واليمن ومن يبقى في السلطة ومن يخرج منها، كما تريد ضمانات لحماية ما يسمّى "أمن إسرائيل" التي سيكون لها اليد العليا، المتفوقة اقتصاديًا وعلميًا وتكنولوجيًا وعسكريًا في المنطقة، التي ينبغي تحويلها إلى "أقليات" عرقية وإثنية ودينية وطائفية، أقرب إلى كانتونات وليست دولًا قوية وراسخة، بل كيانات متقاتلة ومحتربة بين بعضها البعض، وتكون "إسرائيل" الأقلية الأكثر نفوذًا بينها حسب خطة برنارد لويس منذ العام 1979، والتي صادق عليها الكونغرس في جلسة سريّة العام 1983، والتي تعتبر اليوم برسم التنفيذ.

وإذا كانت ثمة عناصر قوّة تمتلكها البلاد العربية ولكنها لم تستغلها، فذلك يحتاج إلى بيئة عربية ودولية لكي تستطيع أن تقوم بتفعيلها داخل كل بلد عربي وعلى النطاق القومي، سواء عبر تحالفات داخلية أو تعاون عربي أو عبر توافقات دولية جديدة بالانفتاح على الصين وروسيا، ولست من باب التمني أقول ذلك، لكن إذا أدركت القوى الحاكمة أن طريق ترامب يمر عبر بلدانها، فحينئذٍ يمكن أن تفكّر بمصلحتها باتباع سياسة أكثر انسجامًا مع مصالح شعوبها خارج دوائر الصراعات الضيقة والاصطفافات الموهومة، بل عبر تصوّر عربي وربما إقليمي فيما إذا شعرت دول الإقليم أن مصلحتها هي الأخرى تقتضي الوقوف عند ذات المواقع بعيدًا عن التدخّل بالشؤون الداخلية ومحاولات فرض التسيّد والهيمنة على الآخر، وأن ذلك يستجيب لمصالح شعوبها أيضًا، عند ذلك سيكون بداية جديدة، في محاولة وقف التمدد الأوليغارشي على المنطقة، وهو الذي سيقابله محاولات أخرى على صعيد العالم.

***

عبد الحسين شعبان - أكاديمي وكاتب عراقي

يختصر العقل القاصر اليدوي الانقلاب الالي بالانتقال المادي ـ وسيلة الانتاج ـ واثرها ومايترتب عليها من متغيرات آنيه، من دون اخذ الجانب العقلي وموقعه المفترض الذي لاكمال للعملية الحاصلة من دونه، ضمن الانقلاب النوعي المجتمعي، والامر هنا عائد الى القصورية التاريخيه، ولهيمنة الجسدية واعتقادها الراسخ بوحدة الكائن البشري البنيوية التكوينيه، اي بمصادرة العقل من قبل الجسد باعتباره عضوا من اعضائه، ومع ان المنجز العقلي المواكب والذي حركته القفزة الاليه كان غير عادي مقارنة بماقبله، الا انه ظل دون القدرة على تجاوز القصورية العقلية اليدوية، تحديدا بما خص العقل ومكانه ودوره ضمن العملية النشوئية التاريخيه، وموقعه الاساس بذاته ضمن مسار التحولية البشرية، واشتراطات فعاليته التاريخيه، بما هو غرضية وغاية الوجود العليا.

 ومع ضخامة المنجز الاوربي ضمن الاشتراطات الانتقالية الالية الاولية، الاان ماقد تحقق في حينه والى الساعة، ظل مادون منطوى الانقلابيه الاليه ومنتهياتها بماهي انقلابيه تحولية عقلية مابعد جسدية، واعلى اشكالها الطبقية، فضلا عن تحوليتها الارضوية الماركسية، او نشوئيتها الترقويه الدارونيه الجسدوية المحكومه للجسد وترقية، علما بانه الحامل المؤقت الانتقالي للعقل، وان العملية النشوئية الارتقائية هي عملة "عقلية"، محورها الترقي العقلي منطلقا، العقل ضمنها محكوم ابتداء للغلبة الجسدية المطلقة، ابان الطور الحيواني على مدى مئات ملايين السنين، وصولا للحظة الانبثاق مع وقوف الحيوان على قائمتين واستعمال اليدين والنطق، وهي اللحظة الاولى من التحررية الاستقلالبية العقلية عن الجسد الذي تتوقف عملية ترقيه بعد وصول العضو الجسدي قمه تطوره، مع انبثاق العقل الذي يستمر في الترقي صعدا.

 ليست الانقلابيه الالية مادية وحسب، بل عقلية بالدرجة الاولى، المادية محرك ومحفز لها، تظل جسدوية ابتداء، كما الموضع الذي تنبثق فيه اوربيا، حيث من غير الممكن الانتقال العقلي المواكب والضروري، بناء لاشتراطات المجتمعية الجسدية اليدوية، الى ان تبلغ الالة مع تحوراتها التكنولوجية، مرحلة العقلية التكنولوجية، وقت تبدا العملية الانتقالية التحولية اللازمه، والتي بموجبها وبها تكتمل عملية الانتقال الالي في الموضع "اللاارضوي" الابتداء والكينونه، والذي لم تكن الالة لتنبثق بين ظهرانيه لاختلافه النمطي العقلي، المحكوم ضمن العملية التحولية الاشمل للفعالية العقلية، بانتظار اكتمال شروط الفعالية المادية في الموضع الازدواجي الطبقي الارضوي، الاكثر ديناميه ضمن صنفه ونمطيته، وهو ماقد منع بالاصل انبثاق الاله في الموضع اللاارضوي، مادامت الالة لاتنبثق عقلية ابتداء، فلم تحدث الانقلابيه مابعد اليدوية على سبيل المثال، ابان الطور العباسي في بغداد، رغم توفر الظروف في المجالات المخلفة انتاجيا، انما من دون الاحتدامية الاصطراعية الطبقية المغلقه، ومع توفر المتنفس الفنائي المجتمعي للاصطراعية المجتمعية الازدواجية الرافدينيه، التي كانت تنهار وتنقطع ذاتيا، مع احتدام الاصطراعية كما حصل مع الدورتين، الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطيةالتي انتهت بالانتظارية كاحالة الى دورة قادمه.

 انقلاب آلي يدوي افتتاحي هو استمرارلماقبله على مستوى الوعي، لقوة وحضور وطاته المديده، مع تبدل الظروف، يسبق الانقلاب العقلي الهدف والغاية المضمرة المنتظرة في العملية الانقلابيه الالية، مايعود الى المجتمعية اللاارضوية التاريخيه المتلائمه مع العقل، العنصر الافعل والغاية في الكيانيه البشرية، وهدفها النهائي كوجود بشري محكوم للانتقال " الانساني" مابعد "الانسايواني"، لامجرد التحول من وسيله انتاج الى اخرى ارقى، او منطوية على ممكنات اعلى انتاجيا وعقليا ضمن ثبات الارضوية.

 نحن بصدد عالمين وزمنين كما سبق وحدث يوم انتقل الكائن الحي من "الصيد واللقاط" الى " التجمع + انتاج الغذاء"، اي اننا لم نعد ماكناه منذ تبلورت المجتمعية في مابين النهرين في سومر، فالمجتمعية انتهت بعدما انجزت المطلوب منها، وفقدت صلاحيتها مع انتهاء فعالية وسيلة الانتاج الجسدية اليدوية، سوى بقاء الاشكال الاعظم حاضرا مادامت الادراكيه الضرورية غائبة، فلا عقل يقارب الاحتماليه الانتاجوية فوق الجسدية، وبالذات العقلية، مع المترتبات المتوقعه على مثل هذا الانقلاب النوعي، بما في ذلك مستوى ادراكية الموضع اللاارضوي، برغم رفعته وعبقريته الكبرى المقاربة للتحولية ومغادرة الارضوية، يوم كان "الموت" هو الجسر الفاصل بين الارض والعالم الاخر، مع القدرة الخارقة للغائية الكونية العليا الاليه، التي تستطيع "تسوية بنانه"، واذن فهي اجدر بان تبعثه جسدا من الموت.

 وقتها ماكانت اللاارضوية قادرة على القول بان الكائن البشري هو ازدواج (عقل / جسد)، وان العقل قابل للتحرر والانفصال عن حامله ووسيلة ضمان ترقيه، الى اللحظة الانتقالية التحولية العظمى، وهو ماتكفلت الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نمطيتها والمنغمرة في الانقلاب الالي الافتتاحي، بوضع اطلاله مهمه باتجاهه، تمثلت في نظرية الارتقاء والنشوء مع كل مادار حولها من اخذ ورد، بغض النظر عن قصورها وجسديتها، مع انها وضعت كجوهر المدماك الضروري للانتقال العقلي، بما خص مفهوم "الخلق"، باعتباره قانونا تفاعليا شاملا للكون، ودينامياته المحكومة للتحولية الكبرى، لا للتابيدية والبقائية الازلية التي كانت وظلت لابل وماتزال مهيمنه على العقل الانسايواني، قبل ان يتحررمنطلقا نحو عالمه ومستقره الذي وجد لكي يبلغه خارج الكوكب الارضي والكون المرئي الذي هو منه، كمحطة عابرة لزوم وضرورة .

 مايقرب من ثمانيه قرون من الاصطراعية الافنائية البرانيه، حلت على اللاارضوية الازدواجية منذ سقوط بغداد 1258 وفناء الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، ظلت خلالها العاصمه الامبراطورية المنهارة، موقعا لتعاقب الانصبابية اليدوية الشرقية تتابعا منذ هولاكو الى العثمانيين اخر البرانيين اليدويين، قبل ان تحل الانصبابية الالية الغربيه الحديثة، منها خمسة قرون اصطراعية انبعاثية سومرية حديثة مع البرانيات، غير ناطقة، تنتهي الى محو الكيانيه بالحرب والقوة، وبمنع الكيانيه حتى التشبهية التي كان الانكليز قد وضعوها ابان احتلالهم لهذا المكان كصيغة افنائية نموذجية، مكفوله بكل اشتراطات البرانيه، من حضور استعماري، وماعرف وقتها بالدولة المتشبهه بالنموذج الغربي، خارج النصاب المجتمعي والتشكلية الذاتيه الانبعاثية الحديثة السارية منذ القرن السادس عشر، وبما يضادها، لنصل اليوم الى المنع المباشر للحضورالذاتي باي شكل وصيغة، بالتدخل المباشر بعد التدمير الاحترابي، ليبلغ مسار الافنائية الالية المستمر خلال مايزيد على القرن المنصرم، حدودا متعدية لكل ممكن وجودي بظل انتهاء الفعالية الغربية ونموذجها الكيانوي، وحلول طور انتهاء صلاحية الارضوية على مستوى وسيلة الانتاج التكنولوجي، والنموذج المتزعم (كيانيه الفكرة) القائد غربيا بعد تسيد الكيانيه المفقسة خارج الرحم التاريخي الامريكية، في حين يدخل العالم ككل طور الاقتراب من الفنائية الشاملة.

 ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

تحل اليوم بعد تاريخ الفنائية الانبعاثية لارض مابين النهرين، لحظة المعنى النطقي شاملا العالم مثلما هو كينونة ومنطوى وقد انتهت مفاعيل الرؤية الاولى الكونية اللاارضوية" اليدوية" النيوية الابراهيمه، صيغة الحضور والتحقق الممكن في حينه ضمن طور الغلبة الارضوية اليدوية، مع عودة الفنائية متلازمه مع الانبعاثية التحولية، المعنى والمقصد الاصل القابع بين تضاعيف الكينونه اللاارضوية. وبما ان لكل تكوين وبنيه مجتمعية شكل تعبيريتها الداله على اقتراب نضج كينونتها، مع اختلاف صيغ التعبير، فلقد عرف العراق على مر تاريخه الاطول بين تواريخ المجتمعات الى الان، صيغة تعبيرية مختلفة عن عموم التعبيرية الكيانوية الارضوية، تقف بمقابلها كتعبير "آخر" لنمطية نوعية مختلفة تمثلت بالحدسية االاولى بمقومات كونية متعدية للكيانيه المحلوية، او الامبراطورية العادية الارضوية، لتحل بمثابة حالة اختراق للمجتمعات الارضوية بغالبيتها، بها تتحقق الازدواجية البنيوية المجتمعية على مدى المعمورة. وهو ماكان متلائما ومتطابقا مع الطور اليدوي الجسدي من الظاهرة المجتمعية على مستوى الكوكب.

وكان من البديهي وقتها ان لاتاخذ التعبيرية اللاارضوية الاولى مكانها باعتبارها "مجتمعية اخرى" متعدية للكيانيه والمكانيه، غير تلك الغالبة في حينه، مجتمعية "وطن كونيه" مافوق كيانوية ارضوية "، نازعه الى اعلى سماويا، ودالة على، ومؤشرة الى المستقبل والمقصد من الوجود البشري حسيا، ومن دون عليّة وسببيه، ماكانت الاشتراطات العقلية والقصورية التي تخيم على العقل في حينه، تسمح بها قبل ان يكون بالامكان استيعابها والتعرف على ممكناتها، والاهم اكتمالها تحققا وواقعا، الامر الذي كان يتطلب بالاضافة الى الادراكية العليّة، وسيلة انتاج مادية، غير اليدوية التي كانت سائدة وقتها وماتزال اثارها فاعله الى الان، مع مايمكن لهذه ان تتيحة او تسمح به من تحولية فوق جسدية، "عقلية"، يتحرربموجبها العقل من وطاة الجسد، وهو المقصد والغاية التي ينطوي عليها الوجود المجتمعي البشري، الموجود الى الان اصلا كحالة انتقال ما بين "الحيوان" و"الانسان/ العقل"، المتخلص من متبقيات الحيوانيه، وماقداستمر عالقا به منها كحامل جسدي، بعد انبثاق العقل، والى اللحظة الراهنه.

والتاريخ البشري والمجتمعات تسير محكومة بقانون ناتج من الاليات الطبيعية، البيئية والنمطية المجتمعية، ذاهب الى توفر الاشتراطات الضرورية المادية والادراكية الضرورية للانتقال الحتمي، من الجسدية المقترنه باليدوية، الى العقلية، مايشترط حتما عبور اليدوية الى الالية وتحوراتها، فالانتقال المشار اليه، وبغض النظر عن المفاهيم المقترنه به ارضويا حتى اللحظة، هو ضرورة مجتمعية عليا"عقلية" على مستويي الفعل المادي المباشر، كما بما يخص الادراكية اللازمه الضرورية، ذهابا الى مجتمعية لامجتمعية اخرى، وكائن بشري مختلف.

واذا مااعدنا النظر في الديناميات التاريخيه وحصيلتها المتحققة خارج الادراكية الدنيا اليدوية، فاننا سنتعرف على ازدواجيتين، اولى مجتمعية لاارضوية ارضوية ابتدائية تبلورية في ارض مابين النهرين، واخرى "طبقية" دون مجتمعية مقابلها على الضفة المتوسطية المقابله للشرق المتوسطي، وان هذين الموضعين محكومان للتفاعليه التحولية، ابتداء بالانصبابة الغربية وماانتهت اليه من اختراقية مضادة شرق متوسطية ابراهيمه، امنت الازدواجيه في اوربا والشرق الذاهب الى الصين، وهو ماقد انتجته الدورة الاولى المجتمعية الرافدينيه قبل فنائها الاول مع انهيار بابل، قبل ان تعود مجددا مع القرن السابع للانبعاث كي تحقق هذه المرة اللازم والضروري، بعد ان تعجز الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية عن تامين اسباب التحول، بدل الفناء اللاتحولي، وتعلن "الانتظارالمهدوي" اذ تحيل الهدف الاعلى التحولي الى طور انبعاثي قادم"، في الوقت الذي تكون هي قد امنت من اعلى وامبراطوريا، الاسباب والمطلوب اللازم لاجل مغادرة اليدوية بالقمة الاقتصادية التجارية العالمية الريعيه التي قادتها وكانت مركزها بغداد الكوسموبوليتيه، ليتحقق الاختراق هذه المرة في الموضع الطبقي، وتبدا ديناميات الاصطراع بين الطبقات هناك ذاهبة الى الانقلابيه الكبرى الانتاجية، بانبثاق عنصر ثالث، كان ضرورة قصوى بظل انحباس الاصطراعية الطبقية، وحاجتها الى عنصر ثالث، هو الالة التي ستغدو من ساعتها عامل انقلاب في الكينونة المجتمعية، بتحولها بنيويا ديناميا من الطور اليدوي عندما كانت ( بيئة + كائن بشري)، الى (بيئة + كائن بشري + آلة) العنصر الثالث المباين والمختلف نوعا وكينونة.

ومن لحظتها تدخل البشرية والمجتمعات طورا آخر مختلف نوعا، فالحدث مدار التنويه ليس مجرد انتقال من العمل باليد الى العمل الالي كما جرى تصويره حتى الان، بل من مجتمعية يدوية الى اخرى مختلفة نوعا، هي الالية الذاهبة الى العقلية، وهو ما لا يكون بالمقدور في حينه وابان انبجاس الالة، او بالامكان مقاربته ادراكا، وبالاخص على مستوى الديناميات والمنتهيات المقررة اصلا وبدئيا، وهوماكان وظل العقل قاصرا دونه، وعاجزا عن اماطة اللثام عن منطوياته، بما يجعل من مسالة الانتقال الالي عملية تشكلية غير آنيه، مخالفة لتلك التي سعى الغرب لتكريسها باستغلاله للحظة، ومحاولة التعبير عنها آنيا الامر المخالف للحدث وطبيعته، وللتاريخ البشري نفسه ومتبقاياته المتوقعه من الماضي اليدوي، ورسوخه وغلبته على الرؤية العقلية، فالاله لايمكن ان تنبجس ومعها التصور المطابق لها، بل هي تحضر وتفعل فعلها في الواقع بانتظار ادراك دلالاتها ومنطواها، وبالذات انتسابها من حيث الفعالية والاثر المقصود من قبل الدينامات الاجمالية التاريخيه المتعدية، للموضع الذي وجدت فيه الالة قبل غيره، وهو مايتفق مع الوقائع، ومع آليات اشتغال العقل.

ومن الناحية العملية المباشرة فان العقل يوم انبجاس الالة يكون عقلا يدويا، وليس آليا، فاذا هو اراد ان يواكب الاله وانقلابها الفاصل، فانه لن يكون وقتها اكثر من انقلابية توهمية يدوية، وهو مافعلته وتمكنت منه اوربا الحداثية بكل منجزها على الصعد كافة على اهميتها التي تولدت عن دفع وتسارع الاليات المجتمعية الاوربية بفعل الحدث الانقلابي الابتدائي الحاصل هناك، مع العلم ان مجمل منجز الغرب الحديث، كان نتيجة الطور المصنعي من الانقلاب الالي قبل التكنولوجي، او التكنولوجي الاعلى المنتظر.

ثمة طور انتقالي بشري يواكب وينشا عن بدايات الانقلاب الالي عقليا، هو طور الانتقال من العقل اليدوي، الى العقلي الالي، يستغرق بضعة قرون، ويكون مليئا بالتناقضات والاوهام والاصطراعية الاحتدامية، ومحاولات المقاربة غير الممكنه موضوعيا ولحظويا آنيا، في مجتمع هو ارضوي ويدوي كينونة واصلا، برغم علو دينامياته ضمن نوعه وصنفه، بسبب ازدواجيته الطبقية.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

 

من منا لا يري أو يلاحظ كل تلك الأحداث التي تحيط بنا فى الإقليم والعالَم منذ أكثر من عِقد ونصف مضيا؟! وهي أحداث تقود فى مجملها لتحولات عظيمة وجوهرية، حتماً وبلا أدني شك إننا مقبلون نحو عصر جديد محفوف بمنحنيات تاريخية فارقة. الجميع يري هذا ويلاحظه ويتخوف منه.

وعلي مستوي العمل الصحفي والثقافي أري مثل هذا التغير البطيء المحدود في إطار ذلك التغير الكبير القادم. أراه كعاصفة توشك أن تزيح في طريقها كثير من ثوابت العصر الماضي..

صولجان ترامب

أول وأهم تغير عالمي جذري حدث في السياسة الأمريكية داخلياً وخارجياً. ثمة عواصف تبدأ الآن من هناك في أقصي الغرب، حيث ترامب في ولايته الثانية قادم بثوب سلطان وفي يده صولجان يلوح به فى وجه حلفائه قبل أعدائه!

ثلاثة أشهر فقط منذ تولي العمل فى البيت الأبيض والعالَم يقف على قدم فى اندهاش؛ كيف أنه خلال هذه الفترة الضئيلة أقام الدنيا ولم يقعدها. ففاجأ حلفاءه الأوربيين باتفاق أحادي مع روسيا وزيلينسكي لوقف الحرب الأوكرانية الروسية، ثم التفت شمالاً وجنوباً فهدد كندا والمكسيك حلفاءه الاقتصاديين القدامي، فراح يخنقهم بإجراءات اقتصادية غير مسبوقة.

إنه يعلن ببساطة ووضوح أنه ليس فى حاجة إلى أي دولة بجانبه، حتي إسرائيل، ولهذا اتجه للاتفاق مع غزة بعيداً عن نتنياهو من أجل الأسري الأمريكيين ولأجل مصالح أمريكا مع السعودية والمنطقة العربية. ولنفس السبب اتجه للاتفاق مع إيران بمنأي عن تدخل نتنياهو إلا بمؤامراته الخسيسة، ومنها ذلك الإنفجار الغامض مجهول الفاعل بميناء رجائي فى بندر عباس بإيران!

ترامب لوح بصولجانه السحري المزعوم لحل كل مشاكل أمريكا والعالم بمجموعة من القرارات والاتفاقيات العنترية وإن لم تعجب حلفاء الأمس. قرار برفع الجمارك أكثر من مائة بالمائة علي البضائع الصينية، واتفاق عسكري أحادي مع روسيا، وآخر سياسي مع إيران. وثالث اقتصادي مع الصين. وكلها اتفاقيات جاءت بعد ضغوط وتهديدات عنترية يرفع بها سقف المفاوضات، هذا هو نهج ترامب الجديد، فهل ينجح صولجان ترامب فى تغيير شكل السياسة العالمية بقيادة أمريكية غامضة الهوية؟ وما تأثير تلك العاصفة القادمة من الغرب؟

بديل هوليود

ثمة تغيير آخر بطيء ربما، لكنه مستمر منذ فترة. وقد يراه البعض تغيراً تافهاً، وإن كنت أراه غير ذلك. إنها هوليود يا سادة. هوليود مهددة بالانهيار والأفول، فما تأثير مثل هذا الانهيار لوحدث؟

منذ نحو عشر سنوات مضت، تبدلت السياسة الإنتاجية لهوليود، بعد أن وصلت لمنتهي تألقها بإنتاج أفلام باهظة التكلفة أمثال: أفاتار وأفنجرز، وسيطرت شركات إنتاج إنيمي ورسوم متحركة وخيال علمي وخدمات البث الحي أمثال: مارفل  ونتفليكس علي حساب شركات كبري قديمة كانت أكثر شهرة فانحسرت شهرتها كشركة يونيفرسال ووارنر برازرز وباراماونت وغيرها. وبات الإنتاج المشترك بديلاً عن المغامرات الإنتاجية الفردية لشركة واحدة بعينها. وبدأ عصر الاندماجات الاستثمارية لشركات الإنتاج الأقل ربحاً.

ثم جاءت جائحة كورونا فأغلقت الإنتاج الهوليودى لحين إشعار آخر. ولم تكد الحياة تعود لهوليود حتي حدثت أزمة إضراب عمال هوليود من مؤلفين وفنيين عام 2023. وآخر الأزمات التي تعرضت لها هوليود حرائق لوس أنجلوس أواخر العام الماضي، ورغم أنها لم تصل إلى المباني الخاصة بأغلب شركات الإنتاج الكبري، إلا أن كثيراً من عقود العمل والإنتاج تم تأجيلها بسبب الحرائق، ناهيك عن قصور مشاهير الممثلين التي احترقت ودُمِّرت.

الأزمة الأكبر أمام شركات الإنتاج فى هوليود لا تتمثل فقط في الخسائر والأزمات التي حدثت خلال السنوات العشر الماضية، وانحسار نشاط بعض شركات الإنتاج الكبري فى مواجهة شركات أخري بديلة، أو الاندماجات التي اضطرت لها بعض الشركات. بل الأزمة الأكبر فى تغير اتجاهات المستهلكين، وشيوع صناعة الترفيه بالقدر الذي جعلها شبه مجانية أمام مستهلكين بدأوا يتجهون للفضائيات بدلاً من السينما، وبات هناك تهديد حقيقي لانحسار صناعة السينما، لا في هوليود وحدها بل والعالم أجمع!

وإذا كان المال هو الذي يتكلم، فهل ستظل أمريكا محتفظة بعرش صناعة الترفيه فى العالَم، أم تتجه بوصلة صناعة الثقافة الترفيهية لملعب جديد يتكلم فيه اليوان بدلاً من الدولار؟! وهل تظل السينما هي اللاعب الأول فى هذا الملعب أم الجيل الخامس والسادس من تقنيات الإتصالات والإنترنت والفضائيات والذكاء الاصطناعي؟!

الكتب للأغنياء فقط!

هناك أزمة محلية وعالمية فى طباعة الكتب والصحف بدأت منذ فترة، وهي تتفاقم باستمرار. وخلال 15 عاماً الماضية أغلقت نحو 2200 صحيفة مطبوعة فى أمريكا وحدها! وانخفض عدد الصحفيين العاملين في المؤسسات الصحفية الكبري بها إلى النصف. وأشار تقرير نشره معهد بروكينجز إلى أن عدد الصحف لكل مائة مليون نسمة انخفض من 1200 عام 1945 إلى 400 فى عام 2014! أي انخفاض للثلثين فى 70 عاماً رغم الزيادة السكانية!

أزمة المطبوعات فى مصر تزداد شدتها لأسباب اقتصادية مركبة، وأحد أسبابها ارتفاع أسعار الورق والأحبار، وقلة العمالة الماهرة وارتفاع أجرها. بينما فى المقابل ظهر الإنترنت ليصبح بديلاً رخيصاً للكتاب التقليدي المطبوع، ويصبح بإمكان أي شخص الحصول على مئات الكتب الإليكترونية داخل "فلاشة" بحجم عقلة الإصبع يضعها فى ميدالية تسكن جيب بنطاله! بدلاً من مكتبة ضخمة يخصص لها حجرة من حجرات بيته الضيق، وينفق لأجلها آلاف الجنيهات!

كنا فى السابق نتندر ونراهن أن الكتاب المقروء سوف يصمد فى مواجهة تلك الموجة العاتية من موجات التقدم التقني، لكننا الآن لسنا واثقون تماماً من هذا. وهناك شواهد أن الكتاب المطبوع سوف ينحسر كما وكيفاً فى المستقبل القريب، حتي على مستوي سياسات الدول، وخاصة في الدول النامية والفقيرة. وإذا حدث هذا فسوف يأتيتحول كبير فى هذا السوق الضخم، سوق الكتب المطبوعة؛ لأنها ستشح ويقل عددها، وبالتالي سيرتفع سعرها فى الأسواق، وربما يتضاعف سريعاً، ليصبح الكتاب المطبوع مقصوراً على الأثرياء وجامعي التحف ومحبي جمع الكتب!

غول الذكاء الاصطناعي

عاصفة أخري توشك أن تجتاح العالم في السنوات القادمة، تحمل فى قلبها موجة من موجات التغيير الثقافي والفكري. تلك الموجة التي لن تعترف بجهلاء العصر القادم الجدد، وهم أولئك الذين يجهلون كيفية استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي فيتجاوزهم الزمن.

المسألة أكبر من مجرد العبث بمحركات بحث وتطبيقات ديب سيك وشات جي بي تي. فليست تلك إلا إحدي أدوات الذكاء الاصطناعي التي تعددت وشملت عددا من أهم المجالات الاقتصادية، كالعقارات والسيارات والترفيه وسلاسل الإمداد والتوزيع وغيرها من المجالات.

لا أنسي فيديو انتشر منذ فترة لعاملة بأحد المؤسسات في الغرب حاولت الانتقام من روبوت حل محلها فى العمل، فأسرعت تحاول تدميره لاستعادة وظيفتها الضائعة! مثل هذا المشهد هل يسود سوق العمل فى سنوات قادمة؟ هل تحل الآلة محل البشر فى الوظائف والأعمال، وبخاصة تلك الأعمال التي تتطلب مهارات تتفوق فيها الآلة على الإنسان وتنتج أكثر منه وأسرع؟ بل وهي تتطور باستمرار فيما يظل الموظف التقليدي محتفظاً بإنتاجه المحدود.

يؤكد جيفري هنتون، الأب الروحي للشبكات العصبية الاصطناعية والعالِم الذي حصل على جائزة نوبل وقام بتطوير الموجة الأخيرة من موجات تطور الذكاء الاصطناعي، أن التطور الهائل والسريع فى شبكات الذكاء الاصطناعي حول العالَم والتي باتت ذاتية التطور، تدق ناقوس الخطر، وأنها ستصل فى غضون خمس سنوات إلى مرحلة من الخطورة تهدد البشر في وظائفهم، وسوف يصبح الإنسان ثاني أذكي مخلوق بعد الـ AI! إنه غول الذكاء الاصطناعي، أحدث موجات العاصفة الثقافية القادمة نحونا بقوة.

***

د. عبد السلام فاروق

 

تُعدّ القيادة من أبرز المهارات التي يحتاجها الأفراد في مختلف مجالات الحياة، سواء في بيئات العمل أو المؤسسات التعليمية أو في الأزمات المجتمعية. فالقائد الناجح لا يكتفي بمجرد إصدار الأوامر أو إدارة الفريق إداريًا، بل يمتلك مجموعة من الخصائص النفسية والاجتماعية التي تجعله قادرًا على توجيه الآخرين وتحفيزهم وتحقيق أهداف مشتركة بفعالية.

من أبرز هذه الخصائص، القدرة على اتخاذ القرارات السليمة في الوقت المناسب. القائد الذي يمتلك هذه القدرة يستطيع أن يواجه التحديات بثقة ويعمل على إيجاد حلول عملية للمشكلات التي قد تظهر. ويسهم هذا النهج في بناء بيئة عمل مستقرة تحفّز الفريق على الإبداع والمشاركة الفعّالة.

لقد تناولت العديد من النظريات النفسية والاجتماعية موضوع القيادة بهدف فهم السمات والسلوكيات التي تُميز القادة الناجحين. من بين هذه النظريات "نظرية السمات" التي تركّز على الصفات الشخصية الفطرية للقائد، مثل الثقة بالنفس والقدرة على التأثير. بينما تذهب "نظرية السلوك" إلى التركيز على أفعال القائد بدلًا من صفاته، معتبرة أن القيادة يمكن تعلمها واكتسابها. كما قدّمت "النظرية الموقفية" فهمًا أعمق من خلال التأكيد على أهمية التكيف مع طبيعة الموقف وظروف الفريق. إن إدراك هذه النظريات يساعد في تكوين رؤية شاملة حول طبيعة القيادة الفعّالة وتطويرها بما يتناسب مع السياقات المختلفة.

ويُعتبر الذكاء العاطفي أيضًا من العوامل الأساسية التي تميز القائد الناجح. فالقدرة على فهم مشاعر الأفراد والتفاعل معها بشكل إيجابي تمكّن القائد من تكوين علاقات قوية مع فريقه. كما أن الذكاء العاطفي يساهم في حل النزاعات بطريقة بنّاءة، ويُعزز الثقة المتبادلة، ويحسّن بيئة العمل بشكل عام. القائد الذي يمتلك هذه الصفة يُعدّ مصدر احترام ويُسهم في رفع الروح المعنوية للفريق.

من الخصائص الاجتماعية المهمة أيضًا هي قدرة القائد على التواصل الفعّال. فالتواصل الواضح والاستماع الجيد يعززان بيئة تفاعلية قائمة على الاحترام والتفاهم. القائد الذي يشجّع على الحوار المفتوح ويتيح للآخرين التعبير عن آرائهم ينجح في بناء الثقة، وتحفيز الفريق على العمل بروح التعاون لتحقيق الأهداف المشتركة.

ولا تكتمل فعالية القيادة دون وجود رؤية واضحة للمستقبل. فالقائد الناجح يملك تصورًا استراتيجيًا يوجه من خلاله الفريق نحو تحقيق الأهداف المرجوة. وتمثل هذه الرؤية بوصلة تُحدد الاتجاه وتُحفز الجميع على المضي قدمًا رغم التحديات.

وتتجلى القيادة الحكيمة في مواقف حياتية متعدّدة. نراها مثلًا في قادة الأزمات الذين يتعاملون مع المواقف الطارئة برويّة واتزان، كما حدث مع بعض رؤساء الدول خلال جائحة كورونا، حيث ساعدت قراراتهم السريعة والمتزنة في تقليل الأضرار على المستويين الصحي والاقتصادي. وفي بيئة العمل، قد يتمثل القائد الحكيم في مدير يتعامل مع خلاف داخل الفريق من خلال التواصل الهادئ والاستماع للجميع، مما يُسهم في إعادة الانسجام. كما نراها في المؤسسات التعليمية، في شخص مدير مدرسة يعالج حالات العنف أو الضعف التحصيلي بأساليب تربوية قائمة على الحوار، مما يعكس وعيًا ونضجًا في الرؤية وسعة في الصدر. هذه النماذج الواقعية تُظهر كيف أن القيادة ليست فقط قدرة على إصدار الأوامر، بل وعي بالموقف، وحنكة في التصرف، وبُعد نظر في النتائج.

ومن المهم التمييز بين القائد والمدير. المدير يهتم عادةً بالجوانب التنظيمية والإدارية مثل التخطيط، والرقابة، ومتابعة الالتزام باللوائح، بينما يُركّز القائد على تحفيز الأفراد وبناء العلاقات وتوجيه الفريق من خلال التأثير والإلهام. لذلك، في بيئة العمل الحديثة، يُفضل أن يجمع الشخص بين دقة التنظيم وروح القيادة، ليكون "قائدًا مديرًا" أو "مديرًا قائدًا"، مما يُحقق التوازن بين الكفاءة والإبداع.

كذلك، تُعدّ المرونة من السمات النفسية المهمة التي تميز القائد الناجح. فالقدرة على التكيّف مع المتغيرات تُمكّن القائد من تحويل التحديات إلى فرص، ومساعدة الفريق على تجاوز العقبات بطريقة إيجابية. وجود قائد مرن يعزز الاستقرار والشعور بالأمان لدى أعضاء الفريق، حتى في أوقات الأزمات.

وأخيرًا، من الخصائص الأساسية التي يمتلكها القائد الناجح القدرة على تحفيز الفريق. القائد الذي يعرف كيف يُلهم أفراده من خلال الكلمات المشجعة والتقدير المناسب يعزز دافعهم الداخلي للعمل. وهذا بدوره يُسهم في تعزيز روح التعاون، وزيادة الشعور بالمسؤولية، والعمل بروح الفريق الواحد.

في ضوء ما سبق، فإن القيادة ليست مجرد منصب أو سلطة، بل مسؤولية تتطلب وعيًا نفسيًا واجتماعيًا، وفهمًا عميقًا للسلوك الإنساني، وقدرة على التكيف والتوجيه. وكلما تمكّن القائد من تطوير هذه الجوانب، كلما كان أثره إيجابيًا ومستدامًا في مجتمعه أو بيئة عمله.

ورغم أهمية القيادة ووضوح أثرها الإيجابي في تطوير الأفراد والمجتمعات، إلّا أننا – في كثير من السياقات المعاصرة – نفتقد إلى القائد الحقيقي الذي يمتلك الرؤية والقدرة على الإلهام. فغالبًا ما تطغى الإدارة الشكلية على روح القيادة، ويغيب عن الساحة من يتمتع بالحكمة والمرونة والقدرة على تحفيز الآخرين بصدق. إن غياب هذا النوع من القادة يُؤثر – بلا شك - سلبًا على الأداء الجماعي ويُفقد المؤسسات والمجتمعات بوصلتها نحو التقدّم. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى الاستثمار في تكوين قادة حقيقيين يملكون الكفاءة والإنسانية معًا، ويسعون لصناعة الأثر لا الاكتفاء بالمناصب.

وإجمالًا، فإنّ القيادة الحقيقية ليست سلطة تُمارَس، بل تأثير يُلهِم ويزرع الأمل ويصنع الفرق في النفوس قبل المؤسسات. فالقائد الملهم هو من يحوّل التحديات إلى فرص، ويجعل من العمل رسالة، ومن الفريق عائلة، ومن الهدف حلمًا مشتركًا. وقد قال الشاعر في وصف هذا النوع من القيادة:

"إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ

فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ"

فهذا البيت يُجسد روح القائد الذي لا يرضى بالحلول الوسط، بل يرفع سقف الطموح، ويقود من حوله نحو القمم، بالإرادة، والرؤية، والإلهام الصادق.

***

بقلم: أ.د. هاني جرجس

ليس هناك مجالٌ لا يتنازع داخله الضّدان، ومثلما الأذكياء في الخير والأمانة والتَّقدم، يقابلهم أذكياء في الدَّجل والكذب والتَّأخر، وهنا أقصد المجال الفكريّ، ففي لحظة يُقدم «الاصطناعيّ» بحثاً، في أيّ مجال ترغبُ، إن أردت الفيزياء فعنده ما ليس عند إسحاق نيوتن (ت 1727)، وإنْ طلبت البيان فعنده ما ليس لدى الجاحظ (ت 255 هج)، وإن طلبت علوم الرّجال والسِّير، فيُقدم لك ما تجهد به لأيام وشهور بثوانٍ. لهذا نجد التّثاقف يتزايد، فالكلّ يتحدث، فإن سُئلت، كطبيب أو مؤرخ، عن دواء أو واقعة، تجد الذي سألك يوزع عيناه بينك وبين آيفونه، وما يقرأه فيه هو المصدقُ، مع أنه جمعه مِن علوم النّاس، لكنَّ هيبة الجهاز، وعجائبيته الباهرة، تغري بالتّصديق، وكأن العلم الذي فيه ليس بشريّاً.

نادراً ما يوجد باحث، أو كاتب اليوم، لم يستفد مِن محركات البحث، بصورة أو أخرى، فبواسطتها تؤخذ المعلومة مِن أمهات العلوم كافة بلمح بصر، أو لمح برق، إنَّها سرعة الضّوء، وما عليك إلا تحديد المعلومة، ثم تدقيق النتيجة بطريقتك، وهذا يحتاج إلى عِلمٍ وتخصص وثقافة، وإلا المحرك لا يهديك إلى شيء موثوق. كانت سرعة لمح البصر، أو لمع البرق، مِن أحلام الأولين، تأتي قصص عديدة فيها وصل فلان بلمح بصر، تشبيهات لواقع متخيل سيأتي وقد أتى، نعيشه الآن، كالشَّعاع الذي تخيله المتكلمون، وهو اليوم يماثل الأشعة فوق البنفسجية.

غير أنَّ هذا التَّقدم الفائق، يُستخدم في الدَّجل أيضاً، أشخاص يدعون البحث، ومترجمون يدعون الترجمة، يستخدمون «الذَّكاء الاصطناعي» في تأليف الكتب وترجمتها، ويبدون متخصصين، لكنهم أتقنوا إدارة أدوات «الذَّكاء الاصطناعي»، فألفوا الكتب العِظام، وللأسف معارض الكتب ملأى بمؤلفاتهم، وهي ليست لهم، ولا للذكاء الاصطناعي، فالأخير يقوم بمهمة الإدارة والتنسيق، لِما رمي في أجواف أجهزته. إنّ الدَّجل في الكتابة ظاهرة قديمة، لكنها تعاظمت، مع ظهور «غوغل»، وبقية محركات البحث، بما يمكن تسميته بـ «نسخ ولصق»، ولأنَّ الدَّجالين احترفوا لصوصية الحروف، فهم يقومون بإعادة صياغة النُّصوص، كي لا تبدو مِن جهود غيرهم، مع التَّلاعب بالمصادر والحواشي، إذا اقتضى الأمر. هذا هو الدَّجل، الذي يمنحه الذَّكاء الاصطناعي، وليس لدي ما أستطيع التعبير به، عن الوقاية مِنه.

سيكون أمام المؤسسات الأكاديميَّة، ومراكز البحوث، مهمة صعبة، في التَّمييز بين ما ينتجه العقل، وما يستولي عليه الدَّجل، وإلا لا قيمة تبقى لهذه المراكز، ولم تبق حاجة لأهل الاختصاص، والخطورة الأكثر تكون في العلوم الإنسانية والآداب، فمجال اللصوصيّة فيها مفتوح، منذ القدم، ولكنه توسع، وسيتوسع، مع الذَّكاء الاصطناعي. لا أتردد في المشابهة بين العقل والدَّجل، مع الذكاء الاصطناعي، باكتشاف نوبل للديناميت، أفاد البشرية بأعز فائدة، لكنه صار أداة قتل رهيبة، فمنه تصنع المتفجرات القالعة للصخور، والمبيدة للحياة، في الوقت نفسه. إذا فتح مجال الذّكاء الاصطناعي، دون ضوابط صارمة، وأحسبها في مجال التأليف والكتابة، صعبة المنال، ستتحول الثّقافة إلى مستنقع مِن الدَّجل، فما وصله ول ديورانت (ت 1981)، في «قصة الحضارة» سيظهر مؤلفات لدجال، وأسفار غيره أيضاً، لأن الذَّكاء الاصطناعي يُقدمها له، فيطبخها مِن جديد. قد يلغي الذكاء الاصطناعي الاختصاص، فيظهر أصحاب السَّبع صنائع. يقول أبو عُبيْد القاسم بن سلام (ت 224 هج)، صاحب «الأموال»: «ما ناظرني رجلٌ قطٌ، وكان مُفَنِّناً في العلوم إلا غلبته، ولا ناظرني رجلٌ ذو فنٍّ واحد إلا غلبني في عِلمه ذلك» (ابن عبد البرِّ، بيان العلم وفضله).

قدمت منصات الذَّكاء الاصطناعي باحثين مزيفين، وخبراء دجالين في كلّ علم ينطون، يزايدون على ابن سلام في شرح كتابه «الأموال»، وبحضوره! قد يفيد ما قاله المفسر فخر الدِّين الرَّازي (ت 606 هج) شاهداً: «نهاية إقدام العقول عِقالُ/ وأقصى مدى العالمين ضلال» (ابن خِلِّكان، وفيات الأعيان).

***

رشيد الخيّون

 

أنا لا أتحدث هنا بادعاء إنني شاعر أو حتى لكوني ذواقاً للشعر، فأنا أحسب نفسي في مرتبة متواضعة بالنسبة لآخرين لهم القدرة والحق في تناول المسألة الشعرية لأنهم من أهلها، ولكن حينما يتوقف الأمر على تناول الجانب الاجتماعي والنفسي والتاريخي للشاعر كونه إنساناً بدرجة أساسية فذلك ما أهتم به وأتجادل عليه.

وأجد أننا أمام نوعين من القراءات، أولهما تلك التي تتناول شاعرية الشاعر، وثانيهما تلك التي تتناول شخصية الشاعر. ولقد وجدت ومن خلال متابعتي لهذين الشأنين أن تَقييم البعض لا ينطلق من أهمية الفصل ما بين الشاعر كأديب وبين الشاعر كإنسان. هذا الموقف في اعتقادي يحمل نواقصه من واقعية أن الباحث يسقط مزاجه الشخصي (عين الود أو عين الكراهية) على منهجه البحثي فيورطنا معه في حصيلة متقاطعة مع التقييم العلمي والمهني والأخلاقي.

إن البعض يكره عبد الرزاق عبد الواحد لأنه أحب صدام حسين ومجَّده، ويغلقُ بقفل الكراهية السياسية على البوابة التي تسمح لنا بالحكم عليه كما هو، لا كما نحن، فإذا به يحكم على شاعرية الشاعر وعلى شعره من خلال موقفه هو وليس من خلال موقف الشاعر، إذ قد يكون الشاعر صادقاً في محبته لصدام حسين ومؤمناً بما يقوله، فليس كل من أحب صدام حسين ومدحه كان انتهازياً.

مثال آخر قد يضعنا في نفس المساحة هو الموقف من الكبير مظفر النواب، فالرجل كان شيوعياً ونقيضاً للبعث عقيدةَ وتاريخاً واشخاصاَ، ولكنني مع ذلك لاحظت أن كثيراً من البعثيين أنفسهم من أعداء (النَواب) السياسيين معجبون حقا بالنواب الشاعر رغم كراهيتهم للنواب السياسي، وكانت قصيدة (براءة) مثلاً تدور على ألسنتهم دائماً كما أن قصيدة (الريل وحمد) صارت قاسماً مشتركاً لألسنة العراقيين الذي يتغنون بمحبة العراق.

وإني لا أجد رجلاً عانى ما عاناه من هذا الخلط المرتبك والمزاجي والإسقاطي مثل كبير الشعراء الجواهري بحيث صارت مواقف الجواهري الشخصية تأكل من عظمته الشعرية. ومما يقال على سبيل المثال أنه كان سريع التحولات: فمن تأييد للحكم الملكي إلى تأييد لعبد الكريم قاسم إلى الثناء على أحمد حسن البكر. برفقة ذلك لم يكن البعض مستعداً للبحث في إبداع الشاعر بمعزلٍ عن مواقفه السياسية.

إن كبير الشعراء الجواهري طالما تغنى بالعهد الجمهوري وزعيمه عبد الكريم قاسم ووقف مواقف عداء شديدة ضد البعثيين والقوميين وكل خصوم عبد الكريم وكانت لقصيدته التي يحث فيها عبدالكريم على قتل خصومه في قصيدته المشهورة بعنوان "تحرك اللحد" (فضيق الحبل واشدد في خناقهم فربما كان في إرخائه ضرر)

إذ كلما أعود لقراءة تلك القصيدة فإني أهتز مرتين: الأولى من الحبكة الشعرية التي عليها القصيدة والثانية من موقف الشاعر الميال لإدماء الموقف بدلا من تقديم النصح والرؤى الحكيمة، وأسأل: ولكن لماذا يحاسب الشاعر على موقفه الشخصي حتى كأنه المخطئ الوحيد فينا يوم كنا جميعاً على خطأ ..؟! أليس الشاعر إنساناً مثلنا يأخذه الموقف إلى حالة انشداد تتفوق فيه عاطفة الشعر على حكمة الإنسان. بل لعله الأكثر فينا انشداداً لانفعالاته الشعرية الجامحة.

في رحلتنا العراقية المتخمة بكل أنواع العذابات علينا أن نعيد قراءة تاريخنا على ضوء حكمة السيد المسيح: من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر.

بدون هذه الحكمة سيكون صعباً علينا أن نرى النور في نهاية النفق.

***

د. جعفر المظفر

رجال كهول يقصون النساء والشباب باسم السماء

رغم إني لست متدينا، الا انني أقدم التعازي الحارة لكافة المؤمنات والمؤمنين الكاثوليك بوفاة البابا فرنسيس - خورخي ماريو بيرجوليو - ، والتهنئة على الاتفاق بين الكرادلة على اختيار بابا جديد هو ليو الرابع عشر - روبرت فرنسيس بريفوست - . ان هذه اللحظة الروحية لها مكانتها واحترامها، بوصفها تعبيرا عن علاقة الانسان الكاثوليكي بربه، وهي علاقة شخصية لا يجوز التدخل فيها او فرضها على الاخرين.

لكن، وفي لحظة تاريخية تتطلب اعادة النظر في كافة اشكال السلطات الاستبدادية، يبرز مشهد انتخاب بابا الفاتيكان بوصفه نموذجا صارخا لأقصاء النساء والشباب عن مراكز القرار الروحي داخل المؤسسات الدينية. فالعملية مازالت محصورة في الكرادلة الذكور الكبار في السن، ضمن منظومة دينية تقليدية لا تتيح للمرأة لا الترشح ولا التصويت، كما تقصي عمليا فئة الشباب رغم غياب نصوص واضحة تنص على ذلك. وهذا يحدث في وقت تشكل فيه النساء والشباب الاغلبية في صفوف المؤمنين والمؤمنات الكاثوليك حول العالم. ان اقتصار اختيار من يفترض انه يمثل - المسيح والكاثوليك - على الارض على الرجال الكبار وحدهم، لا يعبر فقط عن استمرارية منظومة ابوية، بل يعكس ايضا تجاهلا كبيرا وابتعادا واضحا عن روح العصر فيما يتعلق بقيم المساواة والتحرر الانساني.

اليسار والموقف من الأديان

قبل الدخول في الموضوع، لا بد من التطرق إلى رؤية اليسار الإلكتروني للدين، حيث يدعو، في الظرف الحالي، إلى تحييد الدين عن الدولة دون المطالبة بفصله تماما، مع ضمان حرية التدين والعقيدة كحق شخصي غير قابل للمساس. احترام المعتقدات الدينية لعامة الجماهير يعد جزءا من التزام الدولة بتأمين مساحة للتعددية الفكرية والدينية، بحيث تبقى العلاقة بين الإنسان ودينه علاقة شخصية لا تفرض قسرا على الآخرين. وفق هذه الرؤية، تصبح الدولة مسؤولة عن إدارة هذا التوازن من خلال الحفاظ على حيادها تجاه جميع الأديان، وإلغاء الدين الرسمي للدولة، مع تقديم الدعم للمؤسسات الدينية بوصفها منظمات جماهيرية، بشرط أن يكون هذا الدعم متساويا ويعكس مستوى التدين في المجتمع دون تفضيل دين على آخر.

مفهوم التحييد يمثل خيارا واقعيا ومتوازنا الآن، يدرك أن الدين لم يفصل تماما عن الدولة في أي مكان في العالم، بما في ذلك الدول الغربية المتقدمة التي تعتبر علمانية، ولا يزال الدين يلعب دورا ثقافيا واجتماعيا في تشكيل الهوية الوطنية، وجزءا من الحياة العامة، حيث تمول بعض المؤسسات الدينية، وتدمج الأعياد الدينية في الجداول الرسمية، وتحترم معظم الشعائر الدينية كجزء من التنوع الثقافي. التحييد يعني وضع إطار يحول دون استغلال الدين كأداة للحكم أو للتشريع أو للقمع أو التمييز، مع الحفاظ على دوره الثقافي والاجتماعي، بينما الفصل الكامل قد يكون صعبا عمليا الآن، حسب درجة تدين المجتمعات، وقد يثير توترات اجتماعية لا ضرورة لها. ولذلك، ينبغي على القوى اليسارية والتقدمية أن تتجنب طرح هذا الخيار في البلدان أو السياقات التي يشكل فيها الدين حضورا قويا، ومكونا أساسيا من الهوية الثقافية والعامة، تجنبا لانعكاسات سلبية محتملة على دورها الجماهيري.

تحييد الدين لا يعني تهميشه أو إقصاءه، بل يعني ضمان أن تظل الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان. يضمن هذا الإشراف أن المؤسسات الدينية لا تتحول إلى أدوات لنشر التعصب الديني والطائفي أو فرض الهيمنة الفكرية. يجب أن يتم تعليم العاملين والعاملات في المؤسسات الدينية في مؤسسات تعليمية حكومية تركز على قبول التعددية الدينية والفكرية ونبذ العنف والتعصب، وكذلك احترام الحق في الايمان والالحاد باعتباره جزءا من حرية المعتقد الفردية، مع تقديم قراءات عصرية للنصوص الدينية تراعي التطور الفكري والعلمي والحقوقي. هذا النهج يعزز من قدرة المجتمعات على التماسك، حيث يتم التعامل مع الدين كعنصر ثقافي واجتماعي وليس كأداة سياسية أو أيديولوجية. تحييد الدين من الممكن أن يجنب الدولة خطر الانقسامات الطائفية والتمييز الديني، ويسهم في خلق فضاء عام تحترم فيه التعددية الدينية.

لا بد من التأكيد أن الدين ليس تناقضا رئيسيا بحد ذاته، بل إن ظهوره، واستمراره، أو زواله يعد نتيجة لظروف سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية تطورت عبر التاريخ. لذلك، لابد ان يسعى اليسار إلى تجنب الاصطدام الحاد مع المعتقدات الدينية للجماهير، ويدعو إلى حوار علمي وعقلاني يبرز الجوانب التقدمية والإيجابية في الأديان التي يمكن أن تسهم في تحقيق التغيير نحو نظام أكثر عدالة ومساواة. في الوقت ذاته، يتبنى نقدا علميا للجوانب السلبية للأديان المنافية للتطور العلمي وحقوق الإنسان والمساواة والافكار التقدمية، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق التاريخي الذي أنتج هذه الجوانب. تهدف هذه القراءة العلمية المتوازنة إلى التأثير الإيجابي على الجماهير المؤمنة وجرها الى الافكار اليسارية، في إطار يراعي تعدد السياقات الثقافية والدينية وتنوع التجارب التاريخية.

في العديد من الدول المتقدمة، مثل الدول الاسكندنافية، تراجعت الحاجة الى الدين والمؤسسات الدينية بشكل ملحوظ، نتيجة للتطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بالإضافة الى تحقيق مستويات عالية من الامان والضمان بمختلف اشكاله. وقد أصبح الدين في هذه المجتمعات جزءا من الموروث التاريخي أكثر مما هو ممارسة يومية، حيث اغلقت العديد من دور العبادة او هجرت، بل وتحولت بعضها الى فنادق، ومطاعم، او منشآت ثقافية. وتعكس هذه التحولات تغيرا عميقا في الاتجاهات العامة نحو انماط أكثر علمانية، تقلص فيها دور الدين بشكل كبير في الحياة العامة، مع بقائه خيارا شخصيا او رمزيا لدى بعض الافراد.

أما القوى الدينية المتعصبة التي تسعى إلى إقامة أنظمة حكم دينية استبدادية، فهي تعد قوى رجعية تعمل ضد الفكر الديمقراطي واليساري، وتروج لأجندات تتناقض مع حقوق الإنسان. فلابد من فضح هذه القوى والتصدي لها بمختلف الوسائل الممكنة، نظرا لاستغلالها الدين في تبرير التمييز والقمع. في المقابل، دعم التيارات والشخصيات الدينية المستنيرة والإصلاحية، التي تسعى إلى تقديم قراءات علمية عصرية للنصوص الدينية والتراث، وتوائمها مع القيم الحقوقية والمساواة والتقدم العلمي.

انتخاب البابا الفاتيكان في 2025

بغض النظر عن الموقف الفكري من الأديان عموما، أو الديانة الكاثوليكية على وجه الخصوص، أتناول هذا الموضوع من منظور تقدمي وحقوقي، حيث أرى في الكنيسة الكاثوليكية منظمة جماهيرية كبرى تضم عددا كبيرا من المؤمنات والمؤمنين، وغالبيتهم من الجماهير الكادحة ولها تأثير روحي ويومي كبير عليهم. وإذ تعد الكنيسة أمرا واقعا حاضرا بقوة في حياة مئات ملايين الناس حول العالم، فإن الواجب يحتم علينا المطالبة بجعلها أكثر ديمقراطية، وخاصة في عالم يشهد ثورات وتغييرات اجتماعية متلاحقة ضد جميع أشكال التسلط، وعلى رأسها التمييز بين الرجال والنساء، وسائر أشكال التمييز، سواء كان قوميا أو دينيا أو جنسيا أو عمريا أو غيره. ورغم هذه التحولات، لا يزال مشهد انتخاب بابا الفاتيكان يتم داخل دائرة مغلقة من الذكور فقط، بمتوسط أعمار يقترب من السبعين، في طقس يذكرنا بالبنى القروسطية التي احتكرت السلطة باسم الحق الإلهي، وكرست إقصاء النساء، والشباب، وعموم الجماهير الكاثوليكية المؤمنة، بوصفه أمرا مقدسا لا يمس. هذا الترتيب البطريركي يتعارض بشكل كبير مع قيم العدالة والمساواة كما تطرحها مواثيق حقوق الانسان والتطورات الحقوقية الحديثة، وهو ما يفتح الباب امام نقاش اوسع حول ضرورة الحاجة الى تطوير الكثير من الجوانب في بنية المؤسسة الكنسية.

وفي ضوء هذا الواقع، من المفيد النظر الى تجارب كنائس اخرى نجحت في ادخال اصلاحات حقيقية، خاصة في الدول الاسكندنافية، حيث تظهر بوضوح امكانية التحديث الكبير والانفتاح داخل المؤسسات الدينية. في السويد مثلا، تم في عام 2013 انتخاب امرأة على راس الكنيسة، وهي انتيه جاكلين، التي تولت منصب رئيسة الاساقفة عام 2014، وهو اعلى منصب ديني فيها. كما تشكل النساء اليوم أكثر من نصف عدد الكهنة في كنيسة السويد. في ايسلندا ايضا، تم في عام 2012 انتخاب اغنيس سيغورداردوتير كأول امرأة تقود الكنيسة وتحمل لقب أسقف البلاد. وتشهد فنلندا خطوات مشابهة نحو المساواة، حيث سمح بسيامة النساء منذ عام 1988. هذه النماذج تثبت ان تولي المرأة اعلى المناصب الروحية لم يعد استثناء، بل يمثل مسارا اصلاحيا حقيقيا، يمكن ان يلهم نقاشا اوسع داخل مؤسسات دينية اخرى حول العالم.

إن استمرار احتكار الرجال المسنين لهذا المنصب الروحي الأعلى للكاثوليك، وحرمان النساء والشباب من الكهنوت ومن حق الترشح والمشاركة في انتخاب البابا، لا يفضح فقط بنية كنسية أبوية، بل يكشف عن تناقض صارخ بين خطاب الكنيسة الكاثوليكية المعلن حول المحبة والمساواة، وبين ممارساتها الفعلية الخاضعة لمنطق الإقصاء القائم على النوع الاجتماعي والعمر، ويعيق اي اصلاحات تقدمية وحقوقية داخل الكنسية. وهو تناقض ينسحب أيضا على خطاب الدول الرأسمالية الغربية التي تدعي دعم دور المرأة والشباب، بينما تصمت بشكل صارخ عن هذا النوع المفرط من الإقصاء داخل مؤسسة دينية عالمية كبرى مثل الفاتيكان. هذا الشكل من السلطة لا يختلف كثيرا عن أدوات الحكم في العصور الاقطاعية التي كانت ترى في النساء والشباب كائنات أدنى، لا يحق لهم القيادة أو التمثيل، وهو ما يجب أن يواجه بنقد جذري صريح من قبل كل القوى والتنظيمات الحقوقية والنسوية والتقدمية في العالم اجمع.

إن الكنيسة الكاثوليكية وكافة المؤسسات الدينية لكافة الاديان، إذا كانت جادة في خطابها الأخلاقي المعلن، فعليها أن تحدث قطيعة مع هياكلها المغلقة السلطوية والموروثة من عصور سابقة، وتفتح أبوابها للنساء والشباب بكل ما يحمله ذلك من مسؤوليات ومواقع قيادية، بما في ذلك الحق في الترشح والانتخاب. فالدين، إن لم يتحرر من هذه البنية الذكورية، سيبقى إطارا لتبرير التمييز الجندري والعمري تحت غطاء ديني تقليدي. وما لم تنزع القداسة عن هذه السلطة المغلقة، فإن كل حديث عن المحبة والمساواة سيظل عرضة لفقدان مصداقيته، إن استمر الواقع على ما هو عليه من إقصاء النساء والشباب، تحت غطاء ديني تقليدي ينسب إلى التفويض الإلهي أو استنادا إلى تأويلات دينية تقليدية.

برأيي، ينبغي للقوى التقدمية واليسارية أن تتعامل مع المعتقدات الدينية بروح نقدية منفتحة، وأن تدعو إلى قراءات علمية جديدة تراجع الاستخدامات السلبية للدين، ومنها الاستعمال السلطوي الذكوري والتمييزي. وهنا، فان اقصاء النساء والشباب عن الكهنوت في معظم الاديان، ومنعهم من الترشح واختيار راس المؤسسات الدينية، لا يمثل فقط انتهاكا لحقوقهم، بل نفيا صريحا لمبادئ حقوق الانسان والمساواة. لا بد من تعرية هذا التواطؤ بين السلطة الدينية والتمييز الجندري والعمري المفرط، والتصدي للقوى الدينية المتعصبة التي تغذي خطاب الاقصاء باسم النصوص المقدسة، وتروج لأجندات تكرس الإقصاء استنادا إلى قراءات دينية تقليدية، وتدفع باتجاه مواقف تعيق التطور الحقوقي، وتهدد اي مشروع تحرري، ومنها المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، وتعزيز دور الشباب في مجتمعاتنا، فضلا عن ضمان انتخاب المسؤولين والمسؤولات في المؤسسات الدينية وفي مواقع اتخاذ القرار فيها بشكل ديمقراطي شفاف ومباشر من قبل الجماهير التي تمثلهم.

في الختام، تمثل هذه الكلمات دعوة صريحة لكل النساء والرجال، في الديانة المسيحية الكاثوليكية خاصة، وفي سائر الأديان عموما، للمطالبة والعمل من اجل اصلاحات ديمقراطية وتقدمية جذرية في بنية المؤسسات الدينية وتوجهاتها الفكرية. اصلاحات تضمن المساواة الكاملة بين المرأة والرجل، وتعزز دور الشباب، وتكفل حق الانتخاب المباشر لرأس السلطة الروحية، سواء كان رجلا او امرأة، من قبل جميع المؤمنين والمؤمنات دون تمييز في العمر او المرتبة. كما تدعو الى اصلاحات اوسع تنسجم مع التطور البشري وتلتزم بمواثيق حقوق الانسان الدولية.

***

رزكار عقراوي

اي نوع من التمحضات او الاصطراع المفهومي يمكن ان نتخيله وقد نشا على وقع ماهو اخذ بالتبلور والحضور على مستوى العالم والعراق من هنا فصاعدا، وهل الامر يخص، او هو من نوع التكراراية المعهودة للاصطراعات "الفكرية" بين يمين ويساراو داخل كل منهما، ومثالية ومادية، وكل منظومة الاختلافات العائدة لنوع التفكير والنظر الغالب السائد، والوحيد بالنسبه للكائن البشري منذ بدايات التبلور المجتمعي على مدى عشرات القرون، مادامت الانتاجوية اليدوية وماتبعها من توهميه عائدة لفعلها واثرها حتى الساعة مستمرة. وهل من المتوقع ان يلوح في الافق مايمكن ان يقلب الصفحة التي ان اوان مغادرتها من دون وطأة كل قصورات التكوين البشري المعتاد، معززا بالنقص الادراكي البنيوي الموروث عقليا، على طريق الترقي النشوئي العقلي المستمر.

وجد هذا الموضع التبلوري البدئي المجتمعي اللاارضوي، الموافق للغاية والهدف المجتمعي النهائي، ليمر على مدى التاريخ المجتمعي بمحطتين ومرحلتين : اولى يدوية كما هو الحال بالنسبه للظاهرة المجتمعية بعمومها، وثانيه راهنه هي الحالية، تحكمها شروط الانتقال الاليه العقلية، مع بلوغ الالة قمه اكتمالها، في الاولى وجدت المجتمعية اللاارضوية نبويا حدسيا، بما يتماشى مع اشتراطات اللاتحقق الناجمه عن النقص في الوسيلة المادية الانتقالية، كما الحال في الطور اليدوي، ناهيك عن النقص الادراكي الاعقالي ابان الطور المذكور، قبل ان يرتقي العقل الى مايؤهله بالاختبار والتجربة الحياتية، لمقاربة ذاتيته، ونوع ماهو مهيأ ومؤهل للذهاب اليه، وهو ما ينتظر ضمن الاصطراعية الاليه الراهنه وتحوراتها، بالانتقال من الحدسية النبوية الى "العليّة" السببيه المتوقعه اليوم.

هذا يعني ان للعراق رؤيتان دالتان على طبيعته ونوعه النمطي المجتمعي، اولى حدسية نبوية هي الابراهيميه، وثانيه اخذه بالتبلور وقد تهيات اشتراطات تبلورها من هنا فصاعدا، هي الرؤية اللاارضوية مابعد الابراهيمية، وهي كما الاولى، كونية متعدية للكيانيه، تواكب وتصادف اشتراطات الفنائية المجتمعية البشرية وليس العراقية وحسب.

لقد عاشت الابراهيمية متواصلة في عزلة كلية على مدى القرون، خارج الفعالية، قبل ان تتهيا لها الاسباب الاختراقية المضادة لوطاة وفعل الامبراطوريات الاحادية الارضوية الشرقية والغربية، الفارسية الرومانيه، من ضمن فعل قانون التفاعلية التحولية الكوني، ومسببات دخول الازدواج المجتمعي في المجتمعات الغربية والشرقية لاجل اكتمالها بنية، وهو ماتحقق في الطور الابراهيمي العملي، اليهودي، المسيحي، الاسلامي الذي حول المجتمعات في الغالب الى الازدواج الارضوي/ اللاارضوي الى الساعه.

لم يعد حضور اللاارضوية اليوم متوقفا عند تكريس الازدواج المجتمعي، ماكان من غير الممكن وقتها الطموح الى مايتعداه بظل انتفاء اسباب التحولية، فالمجتمعات اكتملت من هنا فصاعدا اسباب انتقالها التحولي، من الارضية الجسدية الى العقلية، وهو ماصار وشيكا على مستوى وسيلة الانتاج التكنولوجية العليا مافوق اليدوية الجسدية، مايجعل من اللاارضوية الحالية الثانية، من نوع المنظور الكوني التحولي الانتقالي بالمعمورة ومجتمعاتها الايلة للفناء بفعل التفارقية الحاصلة، مابين نوع وسيلة الانتاج فوق اليدوية الارضوية الجسدوية، وشروط الانتاج الموروثة، وهوماقد صار مخيما على الغرب وعموم العالم، وسائرا بوتائر لن تلبث ان تظهر علائمها غير المفسرة، او التي يستحيل الاقتراب من معانيها ارضويا، كما هو الحال الباقي راسخا مايزال وسائدا بماهو متبقات وثقل طور تاريخي طويل للغاية، وان يكن انتهى تاريخيا.

نحن على مشارف الانتقال من "الفنائية" الى "الفنائية التحولية"، والنواة وبؤرة الانتقال هي ارض اللاارضية التاريخيه الازدواجية، نموذج الفنائية التاريخيه الازدواجية عبر الدورات والانبعاثات، وصولا الى الساعة، حيث الفنائية مقترنه بالتحول من الارضوية الجسدوية الى " الانسان العقل" مابعد الارضوي.

***

عبد الأمير الركابي

.........................

(1) عدا الاتفاق على كون سومر هي مبتدا المجتمعية ومايعرف بالحضارة وهو ماقد حدا بباحث مثل كريمرلان يضع كتابا بعنوان :" التاريخ بدا في سومر" يقول المؤرخ اوريسيوس عن بابل:" لهذا قدر الله الملك في هذه المواضع وهذه الامم في الدنيا ارباعا: البابلي في الشرق والقرطاجي ف القبله، والمجدوني في الجوف ( الشمال)، والروماني في الغرب. وكان بين السلطان الاول بابيل. والسلطان الاخر، وهو سلطان روما، فشبه السلطان الاول وهو السرياني بالوالد الموروث، وشبه السلطان الاخر ـ وهو الروماني ـ بالولد الوارث. واما الافريقي والمجدوني فانهما شبها بالوكيلين على الملك، حتى كبر الولدالواجب له الميراث/ اوريسيوس/ تاريخ العالم/ الترجمه العربية القديمه حققها وقدم لها: د عبدالرحمن بدوي/ المؤسسة العربية للدراسات والتنشر/ لبنان/ ص167 .

(2) وضع المصري الدكتور سليمان عبدالعزيز نوار كتابا بعنوان "داود باشا والي بغداد" من منطلق وعلى اساس التشبيه بظاهرة محمد علي الالباني/ دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ـ القاهره.

(3) فتحي رشيد/ حدث ويحدث في العراق والمنطقة.. امركة ام صهينه؟ رؤى اشكاليه/ دار ترقي للطباعة والنشر والتوزيع / دمشق.

(4) في اجواء عشرينات القرن الفائت، قال فليب ويرلند الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه على العراق، وواضع مروية مايسمى "العراق الحديث" الاستعمارية نصا، كتبرير لاقامه حكومة و "دولة" برانيه، كانت لازمه لضمان المصالح البريطانيه في هذه البلاد : ((العراق الحديث حصيلة العملية التدريجيه للتوحيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للولايات التركية الثلاث : بغداد ، والبصرة، والموصل، توحيدا نجم عنه وطن واحد وسوق وطنيه واحده، وقد بدات هذه العملية منذ الاحتلال التركي الثالث لبغداد في عام 1831، واشتد زخمها منذ ستينات القرن الماضي، حتى افضت الى تشكيل الحكومه العراقية المؤقته، تحت الاحتلال البريطاني، في عام 1920)) يراجع .د محمد سلمان الحسن/ التطور الاقتصادي في العراق/ ج1/ ص27/ المكتبه العصرية للطباعة والنشر/ صيدا ـ بيروت.

 

في ذكرى اغتيالها.. الباحثة الجزائرية عائشة غطاس صورة لـ: "الإنتلجنسيا"

 أنطلق من هذه العبارة، لأعبر عن ظاهرة الاغتيالات في الجزائر والحديث عنها، قد يعيد السؤال عن قضية "المثقف والسلطة"، فتاريخ 10 ماي 2011، يعيد الحديث عن جريمة الاغتيال البشعة التي راحت ضحيتها الدكتورة عائشة غطاس عندما وجدت مقتولة داخل شقتها، وهي أستاذة التعليم العالي (قسم تاريخ) برتبة دكتوراه في جامعة الجزائر 2، منذ سنة 2007 إلى غاية اغتيالها، بعد أن كرّست حياتها لدراسة تاريخ الجزائر خلال العهد العثماني، وذاع صيتها في الجزائر وفي منطقة المغرب العربي والعالم الإسلامي، فهي حاصلة على شهادة الدكتوراه بإشراف المؤرخ ناصر الدين سعيدوني.

 وقد قام بتأبينها المؤرخ أبو القاسم سعد الله تعبيرا على أن الجامعة الجزائرية فقدت أكاديمية من الطراز الأول قال عنها من عرفوها عن قرب في المحيط الجامعي أن عائشة الغطاس عُرِفَتْ بمواقفها العلمية والإنسانية مع طلبتها ومحيطها الجامعي، واستطاعت أن تؤسس منهجا علميا، تاريخيا شمل كل الجوانب المرتبطة بدراسة تاريخ الجزائر خلال العهد العثماني، ودراسة خصوصية المجتمع الجزائري بمختلف شرائحه ومكوناته، ويرجح البعض أن جريمة اغتيالها يعود إلى مواقفها، خاصة بعد فتحها ملف اليهود في الجزائر من خلال كتابها "يهود الجزائر"، تطرقت فيها إلى سفرديم الجزائر، وقامت بتوثيق الكتاب ليبقي شاهدا على الأحداث، لكن الملف أغلق قبل ان ينتهي التحقيق، اليوم تمر أربعة عشر (14) سنة عن اغتيال هذه الباحثة والمؤرخة التي أجرت الكثير من الأبحاث في التاريخ والأنتروبولوجيا، ولا تزال قضية اغتيالها تشكل لغزا كبيرا في الوسط الجامعي والثقافي في الجزائر.

 فالحديث عن اغتيال هذه الباحثة، هو اغتيال لـ: "الإنتلجنسيا "، حيث يتجدد فيه الحديث عن "المثقف" وعلاقته مع "السلطة"، وكأن المثقف (العربي) يعيش أزمة المعنى، بدليل أنه اصبح يطرح عدة إشكاليات في إشكالية واحدة هي: كيف يتشكل الآخر اجتماعيا وثقافيا في حياتنا الإجتماعية والثقافية؟ وماهي الصورة التي يمكن اختيارها للآخر؟ وماهي مجالات حضوره في المخيال العربي؟ فالسلطة تبحث عن المثقف الموالي (الرسمي) أما المثقف الملتزم (الحُرّ)، فهي تعيقه على مواصلة طريقه، لزرع أفكاره.

 ومن هذا المنطلق ظهرت "الإنتلجنسيا"، أو كما اطلق عليها اسم "النخبة" أو "الصفوة"، إذ يقال أنها طبقة من المثقفين المنفردين في المزايا والصفات والخصوصيات،  حيث ينطبق هذا المفهوم على المثقف الثوري، باعتباره حاملا للوعي، فمن مهام الإنتلجنسيا خلق أو ابتكار أفكار ونظريات، أي العمل الذهني لحل المشكلات التي يغرق فيها المجتمع، إلا أن الطبقة المثقفة وجدت نفسها محاصرة من قبل السلطة، لأنها استطاعت التأثير في الجماهير، فكم من العلماء والمثقفين من انطووا على أنفسهم، بسبب الاستبداد ومصادرة الحريات، وكم من العلماء والمثقفين من غُيِّبَ من أجل رأي من الآراء.

***

علجية عيش

من يستطع او بمقدوره ان يصف لي العراق الحالي القائم من 2003 حتى الساعة، نوع سلطة، وطبقات، ونمطية حكم، واجتماع وآليات، او ان يحدد لي انتماء نوع الحالة وال"النظام" القائم، لاي من انماط الدول او الحكومات تاريخيا في المكان، وراهنا، او ان يؤكد لي ثقته بامكانيه استمرار الحال القائم من دون "الريعية النفطبة البرانيه"، حتى بالمقارنه بدول الابار الريعيه الخليجيه، مع دور الريع كمحرك محور لنوازع الطائفية والعشائرية والمناطقية، ثم يجيبتي عما اعتبر مع بداية القرن المنصرم بداية اكتمال تشكل "العراق الحديث"، ودولته كما قررها الانكليز، ووضع سرديتها الضابط الملحق بالحملة البريطانيه فليب ويرلند(4)، مكرسا الكذبه الاستعمارية الغربية الحداثوية بالضد من النطقية الغائبة المؤجله، العائدة الى التشكلية العراقية الحديثة الانبعاثية، المبتدئة من القرن السادس عشر، مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر الحديثه.

تاريخ من التصادمية بين النموذجية الغربية الحداثية التغلبية ومنظورها، والتشكلية العراقية ونمطيتها وكينونتها المجتمعية التاريخية، هذا هو تاريخ العراق الحديث خلال قرن من الزمن، نقف عند خلاصاته ونتائجه الان، وقد آن الاون للخروج من وطاة وطائلة الهيمنه النموذجية البرانيه الغربية وسرديتها، وعموم منهجيتها في النظر الى الوقائع والمعطيات والتاريخ، الامر الذي يستوجب ابتداء ولزوما تصفية الحساب مع المنظورات  الاستعارية الايديلوجية الجاهزه، وماعرف ب "الوطنيه الحديثة الزائفة" باهم تياراتها: (الماركسية، والليبرالية، والقومية)، بمعنى بدء  الدخول الى عالم "الوطنيه العراقية بصيغتها الوطن كونيه"، والى التشكلية الانبعاثية الازدواجية اللاارضوية مابين النهرينيه.

لنتصور لو ان الجادرجي وفهد (يوسف سلمان يوسف)، وفؤاد الركابي، قالوا  بعد نهاية العشرينات " لا" هذا ليس العراق، والعراق لم يكتمل ولادة بعد، ورفضوا مقولة "العراق" الانكليزيه الويرلنديه، الامر الذي لايمكن تخيله او تصوره كامكان مستحيل، سواء من ناحية الوطاة العالمية للظاهرة الغربية وتوابعها النموذجية والتفكرية، او بما خص الاشتراطات التي نشات "الوطنيه الزائفة" في غمرتها، في عراق كان في حال انحدار انقطاعي بين دورتين مجتمعيتين، الراهنه الثالثة منهما ماتزال تعاني اشتراطات الاصطراع مع البرانيه اليدوية، وهي بحد ذاتها ماخوذه بالاشتراطات اليدوية ماتزال، هذا في الوقت الذي كانت قد غلبت فيه نزعه الالتحاق ب "العصر"، بجانب  كون الذاتيه والهوية اللاارضوية العراقية كانت ماتزال، وكما كانت على مر تاريخ المكان، غائبة وممتنعه على العقل البشري ومستوى  وحدود طاقته وقدرته على الاحاطة، وكل هذه اسباب لايمكن التقليل من اثرها  غير العادي الفاصل على الاصوات "المؤسسة" للمنظور الحداثي الزائف، الذي يكرس المنظور البراني الالي الغربي، فكان هذا التيار  عنصرا مضافا وجزءا اساسيا من عملية الفبركة الكيانيه الاستعمارية، ماتزال سارية حتى اللحظة، وان تكن اسبابها ومايمكن ان يبررها قد انطوى وانقلب  منهارا عمليا بالتجربة الحيه،وماصار كحصيلة ونتيجه، هو المعاش.

ولنتصور الى اليوم واللحظة، ماكان يواجهه الايديلوجيون وقتها من استحالة مفهومية قياسا للحظة الحالية بعد قرن من التاريخ الثر الزاخر، الاحتدامي التصارعي الاقصى، بينما نحن نذهب اليوم الى  وضع اللمسات الاولى لولادة العراق والحركة "الوطن كونيه العراقية"، وكم والى اي حد  نتوقع ان تصل وجهة مثل هذه، من استقلال فوق استثنائي، خارج اي مقبول او من الممكن التوقف عنده لتبين حتى ملامحه.

والامر لهذه الجهه مفهوم تماما اذا ماعلمنا بان المطلوب راهنا في الحالة العراقية هو انقلاب مفهومي كوني مؤجل حلت ساعته وصار واجبا، لابالنسبه للعراق بالذات وحسب، ولا لمنطقة الشرق المتوسطي تحديدا، بل للعالم وللغرب نفسه، ولما قد عرفه العالم قبل حوالي الثلاثة قرون من انتقال من "اليدوية"، الى "الاليه"، ومارافقها وتولد عن انبثاقها من مروية واشكال متغيرات، ونظم مجتمعية، وعلى مستوى الدول واجمالي المفهوم الوجودي الحياتي، اعتبرت ساعتها هي مايطابق الانتقالة النوعية الاليه توهما.

وليس مانذهب اليه اقل من مجازفة كبرى مبررة وواجبه حياتيا ومجتمعيا، محورها واساسها القول بان الانقلاب الالي لم يحدث هو ايضا، ولم يكتمل بعد، وان اكتمال عناصره ومفعوله الذي وجد من اجله، منوطة بالافصاحية النطقية اللاارضوية المهياة كينونة من دون غيرها لتامين اسباب الانتقال "الفنائي التحولي"، مقابل الفناء ماقبل التحولي الذي ظل ساريا على هذا المكان خلال دورتين اثناء الطور اليدوي من التاريخ، وهذا يعني ان الاله توجد ابتداء بصيغتها المصنعية الاولى كمجرد عتبة اولى، تظل تتحور الى ان تصل الى التكنولوجيا العليا، وينتهي زمن اليدوية وقتها، لندخل عصر "الانتاجية العقلية"، الامر والنتيجه المتوافقه مع الحقيقة المجتمعية ومساراتها، والمالات التي هي موجودة كي تبلغها، اي الانتقال من المجتمعية اليدوية الجسدية الحاجاتيه، الى العقلية مافوق الارضوية، الامر غير المكتشف من قبل الكائن البشري حتى اللحظة، مثلما هي المجتمعية اللاارضوية الاولى المابين نهرينيه وطبيعتها، ومنطوياتها التي هي ذاهبة اليها، ودالة على حضورها النهائي .

كانت اللاارضوية خلال التاريخ اليدوي، وعبر دورتين تاريخيتين ازدواجيتين فانيتين، تصطرع عمليا وتتشكل في حماة الاصطراع مع الارضوية اليدوية، وهو ماقد استمر الى الدورة الحالية وبداياتها، وصولا الى نهاية العهد العثماني مع بدايات القرن المنصرم، لتبدا من حينه مرحلة الاصطراعية الالية حيث تتبدل المسارات والنهايات، مابين فنائية غير تحولية كانت هي الحاضرة في الطور اليدوي، وصولا الى اليوم، ومايمكن  ومنتظر ان تسفر عنه الاصطراعية اللاارضوية مع المجتمعية الارضوية الاليه، التي هي اصلا منطوية على اداة الانتقال من الارضوية الى الطورالمقصود من التاريخ البشري، بانتظار العنصر الثاني الحاسم، "النطقية  العظمى المؤجله"، ساعة  تكتمل وقتها اسباب الانتقالية المجتمعية الكونيه المنتظرة على مر التاريخ.

ويعني ماذكر ان عملية الانتقال الى "الالة" ليست اوربيه،  وان هي بدات في الموضع الاوربي الارضوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه لازدواجيته الطبقية، بل ان الانتقال الانقلابي الالي هو لاارضوي،  وهو بالاحرى لحظة توفر ماكان وماظل ينقص اللاارضوية التاريخيه حتى تنتقل الى العالم التي هي مهياة لفتح بوابته للمجتمعات البشرية. اي للانتقالية من "الفنائية ماقبل التحوليّة" الى "الفنائية التحوليّة" الراهنه الوشيكة، مايحيل بدايات الانقلاب الالي الى القرن السادس عشر، والى الانبعاثية اللاارضوية المنتفجية في ارض سومر، ارض اللاارضوية الاولى التاريخيه،  بغض النظر عن ثقل ماقد ذهبت اوربا الى تكريسه كمرويه ارضوية عائدة لمتبقيات اليدوية، على حدث يتجاوزها، لم يكن وقتها قد اكتملت ملامحه مابعد الاليه.

ليس في العراق اليوم برغم ماهو عليه من ترد شامل وانحطاطية كليه، وفقدان للذاتيه وللوجود الحي، اية رؤية او ملامح منظور، لما بعد، او يوحي باية امكانيه للخروج من الوضع الراهن الى مابعده، ان كان هناك مابعد، وفي افضل الاحوال تظل متبقيات وخردة "الوطنية الزائفة"، ومن هم في عالمها، يلوكون الانتقادات للفساد والطائفية وغيرها من مناحي التردي الشامل الفاقع، بلا اي اقتراب من الجوهر، ومن الحال الغالب الطاغي الفاقع كمنتهى لاصطراعية انتقالية عظمى، محورها "اما الذاتيه المؤجله والنطقية المنتظرة على طول التاريخ،  او الفناء،"اي وبكلمه " اما  تبلور الحركة الوطن كونيه العراقية، او الخروج من الحياة والتاريخ".

***

عبد الأمير الركابي

تتعارض انبعاثة  اللاارضوية مابين النهرينيه الثالثة الراهنه، مع ماسبقها من تشكلات كليا، فهي سياق  محكوم لاشتراطات الاستحالة،  على العكس من الدورتين الاولى السومرية البابلية الابراهيمة، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، فالنمطية الازدواجية الكونية المتعدية للكيانوية الوطنوية، ليست قوة اكراه امبراطوري تغلبي عادي مثل الكيانات الامبراطورية الاحادية الارضوية، وهي لاتتححق بالقوة المجرده حين تحل ساعة وضرورة انطلاقها خارج ارضها، واللاارضوية وتعبيريتها الابراهيمه على الطرف الاخر، مثال، اما السرجونية البابلية الاولى، فهي وجدت ضمن اشتراطات لاحضور فيها للمصدات والموانع، لان السبق الزمني التبلوري  المجتمعي مابين النهريني، يمنع وجود مثل هذه المصدات، في حين لعب الفتح الجزيري في الدورة الثانيه ذات الدورفي تمهيد الطريق امام الامبراطورية العباسية كي تنتشر على مدى المعمورة، واذن فان السبق التبلوري من ناحيه، وتكفل الفتح، لعبا الدور الضروري التمهيدي اللازم في الدورتين السالفتين حتى يتحقق الازدواج الكوني بصيغته الامبراطورية كونيا.

على العكس من ذلك تماما، يبدأ التبلور الراهن الحالي مع القرن السادس عشر وسط استمرار مفاعيل الانقطاعية الانهيارية الثانيه،  وتحول بغداد عاصمة الامبراطورية الى مركز براني محتل تتابعا،  خارج الاليات التاريخية، وهنا تاخذ الخاصية الازدواجية دورها  المختلف المضاد للديناميات الصعودية، بالاخص وان بغداد ظلت موجوده كمكان وهيكيله لاكما حدث لبابل التي فنيت وغابت من الوجود، بما اوجد "عراقا" برانيا، من اعلى تتناوب عليه منذ هولاكو الدول واشباه الامبراطوريات، خلال الفترة من القرن الثالث عشر الى السادس عشر حين كان العراق غائبا كليا، او بعد ذلك حين انبعثت الاليات الوطن كونية في ارض سومر من جديد. ويلعب  المنظور ومفهوم الكيانيه هنا بقوة دورا فاصلا، فتوحيد الكيانيه "وطنويا" من اعلى بغض النظر عن الحال المعقد الناشيء، هو امر شائع، راسخ، ومتعارف عليه، ان لم يكن هو القاعدة، بما يحعل غيره وسواه من افتراضات، غير وارد، ولا بالامكان التفكير به.

وهنا تنطوي اهم واخطر ناحية فاصلة، بالاخص مع تحول البرانيه من يدوية الى الية على مستوى الوسائل المستجده، كما حصل ابان حكم داود باشا 1817/ 1831 الذي يشبه عادة بابتسار، بمحمد على، (2)  مع الاختلاف النوعي الهائل بين الظاهرتين، وخضوع العراقي لاشتراطات الاصطراعية الانبعاثية الذاتيه، ومفاعيل اصطراعيتها، مقابل حالة التماهي البراني الصرف المصري، هذا علما بان  تبدل البرانيه من اليدوية التي استمرت من هولاكو الى داود باشا، عرفت حالتين وطورين، الاول نقلي وسائلي، للمدفعية كمثال  مع بعض التسلكات التنظيميه مثل حجم الجيش الذي وصل الى 100 الف منتسب، والثاني  الذي  يبدا بعد الاحتلال الانكليزي، مختلف كليا ونوعا لانه مقترن بنموذجية كيانيه، هي الوطنية الكيانيه الحديثة الاوربية، شديدة الوطاة والفعل التدميري الاقرب للافنائي على نمطية ازدواجية مثل الرافدينيه مابين النهرينيه.

وتتعاظم وطاة الاحتلال النموذجي ومرويته الى ابعد الحدود بفعل عنصر غاية في الاهمية والفعالية لهذه الجهه، ذلك هو استمرار فقدان النطقية المجتمعية، وبقاء التشكلية التاريخيه بلا مروية دالة عليها ونابعه من كينونتها، ماقد سهل على الغرب عملية الهيمنه المفهومية "الوطنيه" والكيانيه،  بالاخص مع وصوله المبرر وقتها عالميا، الى  حيازة التعبيرية العراقية المتاحة  والممكنة في حينه، وكتعبير مزور عن الذاتيه، باسم "وطنيه ايديلوجيه" تبلورت وقتها مروية الغرب ومفهومه المسلط على العراق من خارجه، وبالضد من كينونته وخاصياته التاريخيه الكونيه، ماقد اوجد وعلى مدى غير قصير، ماتزال مفاعيله سارية، نوعا من "الوطنيه الزائفة"، والمنظور المستعار الجاهز، بما منع العراق من الوجود الحالي الراهن ومايزال.

هل العراق قد ولد واكتمل تشكلا ام انه مازال لم تكتمل عناصر ولادته، مستمرا بالتشكل، بغض النظر عن الاكذوبة البريطانيه عنه وعن اكتمال تشكله كما ارسى اسسها كمروية حديثة، ليظهر من حينه عراقا مفبركا ملفقا من خارج الياته وبنيته، ومسارات تشكله  المنبعثة المستمرة من القرن السادس عشر والى اليوم، بانتظار النطقية التاريخيه الغائبة المؤجله على مر تاريخ المجتمعية الازدواجية اللاارضوية، المميزه لهذا المكان من المعمورة.

انتهت كذبة الحداثوية البريطانيه ومالحق بها من ايديلوجيا، مع اضطرار الغرب عبر ممثله العولمي الامريكي المولود خارج الرحم التاريخي، الى افناء الكيانيه المتشكله في ظل التوهمية الغربية، وبالضد منها، بعدما تبينت استحالة  غض النظر عن الاحتمالية الاستراتيجيه المضاده في المنطقة الاكثر حساسية واهمية بالنسبه للغرب ولامريكيا، وهو ماعبر عنه كيسنجر بالقول : "مشكلتنا نحن الغربيون ليست مع صدام  بل مع العراق، هذا البلد القوي، ربما ياتي احد بعد صدام ويقوده باتجاه مضاد لمصالحنا في الشرق الاوسط، وعليه يجب تحطيم العراق"(3) ماقد اوجد منذ نهاية القرن المنصرم، حالة من ضرورة الافنائية الثانيه، بعد الاولى الانكليزيه، مختلفة عنها،هي الاخرى لاشبيه لها على مستوى العالم، متميزه نوعا كاستعمار، تقوم  منذ عام 2003 على التحكم في المسارات بدون احتلال ظاهر فاقع، وهو مايمثل اليوم البرنامج الفعلي المسير للعراق بالمشاركة والتسييرالبراني لمن يكون في موقع القدرة على التنفيذ، بدون دولة، ماعادت قابله للوجود، وبلا سلوك من شانه ان يفضي الى وحدة الديناميات والقرار، في واقع هو ركام من متبقيات وحثالات الفترات المنصرمه منتهية الصلاحية من تاريخ التشكلية الحديثة: القبلية، والنجفية الانتظارية، والايديلوجية المنهارة، فاقدة الفعالية والحيوية التاريخيه، بينما انتقل عامل العيش على حافة الفناء البيئي الرافديني، الى الاحترابي المتناغم مع الزمن الالي،  حروبا متصلة من عام 1980  مع اطول حرب بين دولتين بعد الحرب العالمية الثانيه  مع ايران التي استمرت لثمان سنوات، الى اليوم تكرارا لحربين كونيتين  تدميرية للكيانيه القائمه،  وحصار استمر ل 12 عاما هو الاقسى المضروب على بلد في التاريخ،وداخلية ابرزها حملة التفخيخات، التي نتجت عنها خسارة بشرية تساوي الخسارة في حرب بين بلدين، غير الاحتراب الطائفي لقرابة سنتين،  و ماعرف بالمقاومه الجزئية في المناطق الغربيه، ردا على اسقاط النظام وفقدان امتياز الحكم من اعلى، وهو ماستتبعه عدة  ظواهر عنفية ارهابية رهيبه بلا توقف احتلت ثلث البلاد، ذلك بينما التصحر واحتمالات الانتقال من بلاد مابين النهرين، الى بلاد مابعد النهرين يغدو وشيكا،   ولنتصور للحظة كارثة رهيبه كبرى من نوع  غياب عوائد النفط وريعه المستحصل من خارج العملية الانتاجيه، في بلاد هي الاعرق زراعيا انتاجيتها صفر، وتعداد سكانها يقارب ال 45 مليونا، فاذا اضيف لهذا فقدان السيادة " الوطنيه"، والحضور الايراني المناسب للمصلحة الامريكيه، عدوة الحضور الوطني العراقي، مع انعدام اي منظور او مفهوم "وطني" لدى الحثالات التي  بموقع السلطة والحكم  او خارجها، وما صار فاقعا وبمثابه شبه ممارسة رسميه من فساد وسرقة ونهب للمال العام، واستهتار بالمصلحة العامة، وبكل ما يعود لمصلحة المواطن، عدا الاستقطابات المناطقية العشائرية والطائفية والاثنيه، ما لم يتم الى الان وصفه، او ضعه ضمن صيغة او صورة، تقارب تشخيص ما هو معاش، مقارنة باية حالة عرفت  في التاريخ الحديث، او مرت على بلد من البلدان، من دون ان يلوح في الافق وعلى مستوى التعيين  اشارة لشبح الفنائية الحالة على بلاد، لابد من البحث في الاسباب التي يمكن ان تجعلها مع ذلك ورغمه ماتزال حيه، فضلا عن ان تنطوي على احتمالية اخرى مابعد فنائية، وكيف؟.

***

عبد الأمير الركابي

 

مهمة اليسار العاجلة

 لا يمكن خوض معركة التحرر الاشتراكي في القرن الواحد والعشرين بأسلحة القرن الماضي. في زمن تهيمن فيه الخوارزميات، وتُدار فيه الوعي الجماهيري عبر الذكاء الاصطناعي، وتُصاغ فيه السياسات والتصورات بناءً على البيانات الضخمة، يجد اليسار نفسه أمام سؤال وجودي: كيف يمكن لحركات ما زالت تنظم نفسها بمنطق تقليدي، وبأدوات ميدانية قديمة، أن تواجه رأسمالية رقمية متقدمة تكنولوجيًا إلى حدود غير مسبوقة؟

هذا النص ليس فقط دعوة لتطوير أدوات، بل لتحويل الوعي التنظيمي والفكري نحو فهم عميق لطبيعة المعركة الرقمية. إنها ليست مجرد فجوة في "التمكن التقني"، بل فجوة في استيعاب أن الفضاء الرقمي لم يعد ساحة محايدة، بل هو ساحة طبقية بكل المعايير. الرأسمالية تسيطر، تنظّم، تبرمج، وتُخضع. أما اليسار، فيعاني من تراجع حضوره، وتضييق هامش تأثيره، بل وأحيانًا من غياب رؤية رقمية واضحة أصلًا.

هذا المدخل يفتح النقاش حول مركزية التكنولوجيا في معادلات الهيمنة والتحرر، ويطرح بوضوح أن تجاوز الفجوة الرقمية لم يعد ترفًا تنظيميًا، بل شرطًا لبقاء اليسار ذاته. فالمعركة لم تعد فقط على الأرض، بل أيضًا في الخوارزميات، في الوعي، في البيانات، وفي الشبكات. وهو كمساهمة أولية في تقديم رؤية نقدية اشتراكية للذكاء الاصطناعي من منظور اليسار الإلكتروني، سواء في تعميق هيمنة رأس المال أو في استكشاف إمكانياته كأداة تحررية ضمن أفق اشتراكي. ليست هذه الدراسة مجرد تحليل نظري، بل محاولة نظرية-عملية لفتح نقاش يساري حول الذكاء الاصطناعي، وطرح بدائل واقعية لتحرير التكنولوجيا من قبضة الدول الكبرى والشركات الاحتكارية، أو على الأقل تحديد دورها وتأطيره في المدى القريب، وتوجيهها نحو خدمة العدالة الاجتماعية، والمساواة، والديمقراطية.

إن الصراع على التكنولوجيا ليس معركة ضد العلم ذاته، بل ضد احتكار استخدامها من قبل القوى المسيطرة لتعزيز الأرباح وترسيخ الهيمنة. لا ينبغي أن يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره تهديدًا في حد ذاته، بل كساحة جديدة للصراع تتحدد ملامحها بناءً على ميزان القوى الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والفكري.

عند مواجهة الأزمات، تلجأ الرأسمالية إلى إعادة إنتاج نفسها وتدوير ذاتها عبر أدوات علمية وتكنولوجية متطورة، تُمكّنها من تجاوز التحديات إلى حدٍّ كبير، دون المساس بجوهرها الاستغلالي. فعلى سبيل المثال، خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، استخدمت الحكومات الرأسمالية التطور والأساليب العلمية والأدوات التكنولوجية، إلى جانب الأموال العامة، لإنقاذ الاقتصاد وتجاوز الأزمة، مما ضمن استمرار النظام المالي مع تحميل الطبقات العاملة تكلفة الخسائر.

كذلك، في ظل جائحة كورونا عام 2020، تصوّر الكثير من اليسار أن الرأسمالية في أزمة عميقة لن تتجاوزها، لكنها استطاعت، مرةً أخرى، تجاوزها بطرق مختلفة، حيث عززت الدول والشركات الكبرى استخدام الأتمتة، والذكاء الاصطناعي، والعمل عن بُعد، مما ساهم في إدامة الاقتصاد الرأسمالي واستمرارية الإنتاج بآليات جديدة، رغم الأزمة والإغلاق العام في العديد من البلدان. ومع ذلك، أدّى هذا التوجّه إلى تقليص الاعتماد على العمالة البشرية، وزيادة أرباح الشركات، في حين فُرضت على الملايين ظروف عمل غير مستقرة، أو تم الاستغناء عنهم بالكامل.

تُظهر هذه السياسات كيف تستفيد الرأسمالية من العلوم والتكنولوجيا كأدوات لتجاوز الأزمات وإعادة هيكلة النظام واستمراريته. بل إن الرأسمالية، في بعض الأحيان، تستعير وتوظّف بعض الأفكار الماركسية والاشتراكية عند الحاجة، مثل تدخل الدولة ودعمها وتعويض الفئات المهمشة، ولكن فقط كإجراءات وإصلاحات مؤقتة تهدف إلى استقرار النظام، وليس إلى تغييره. وعند انتهاء الأزمات، يتم التراجع عن أي إصلاحات أو مكتسبات جماهيرية، ويُعاد إنتاج الاستغلال بآليات أكثر تطورًا.

في ضوء التحديات التي يفرضها العصر الرقمي، يمكن لليسار أن يستفيد من هذه المرونة والتقدم العلمي، ليس بالتنازل عن مبادئه التحررية، بل عبر إعادة صياغة وتطوير خطابه وأدواته واستراتيجياته بشكل علمي لمواكبة التحولات المتسارعة. يتطلب ذلك استخدام الأدوات العلمية الحديثة بفعالية، ليس فقط لتحليل القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بدقة، بل أيضًا لتطوير خطاب سياسي علمي وواقعي، وآليات تنظيمية مرنة قادرة على توسيع قاعدة اليسار وجذب الجماهير، لا سيما الشباب الذين نشأوا في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا.

إن استثمار بعض الأدوات وحتى الأفكار العلمية التي طورتها الرأسمالية في التطوير وتجاوز الأزمات لا يعني القبول بها أو التماهي مع قيمها، بل يشكل استراتيجية علمية لاستغلالها في خدمة قضايا العدالة الاجتماعية والمساواة، وتقليص التفاوت الطبقي، والدفاع عن الحقوق الأساسية، كخطوة مرحلية نحو بناء نظام اشتراكي أكثر إنسانية وعدلًا.

 إذا كانت الثورة الصناعية الأولى قد غيّرت معادلات الإنتاج المادي من خلال إدخال الآلة والبخار، ما أدى إلى تطوير الصناعة، وبالتالي تسريع الاستغلال الرأسمالي للطبقة العاملة داخل المصانع، فإن الثورة الصناعية الثانية وسّعت هذا النمط عبر الكهرباء وخطوط الإنتاج، مما ضاعف من تركز رأس المال وسيطرة البرجوازية. أما الثورة الصناعية الثالثة، المعروفة بثورة الحوسبة والاتصالات، فقد دشّنت مرحلة جديدة من تقسيم العمل، من خلال إدخال الحواسيب وأنظمة الأتمتة الرقمية في خطوط الإنتاج، وتسهيل التواصل بين البشر، وكسر احتكار الإعلام والمعلومات. اليوم، تأتي الثورة الرقمية، أو ما يُسمى بالثورة الصناعية الرابعة، لتُحدث قفزة نوعية تُغيّر معادلات السيطرة والتحكم في المعرفة والمعلومات، وتعيد صياغة العلاقات الاجتماعية، مما يجعلها ميدانًا جديدًا ومهمًّا للصراع الطبقي.

في ظل الثورة الرقمية، أصبحت المعرفة والبيانات والمعلومات أحد أهم موارد الإنتاج، حيث يتم استغلالها لتعزيز الهيمنة الرأسمالية، مما يجعل امتلاك التكنولوجيا والتحكم في تدفق المعرفة أحد العوامل الحاسمة في الصراع الطبقي الحديث. لم تعد وسائل الإنتاج مقتصرة على المصانع والمزارع والمكاتب، بل أصبحت البيانات والخوارزميات أدوات مركزية في إعادة إنتاج الهيمنة الرأسمالية بطرق غير مرئية، عبر التحكم في الرأي العام، وتوجيه السلوك الاجتماعي.

ومع ذلك، ومع كل هذه التغييرات الكبيرة والهائلة، لا تزال معظم تنظيمات اليسار، وبنسب متفاوتة، متأخرة رقميًا، مما يضعها في موقع ضعف أمام آلة الرأسمالية الرقمية المتقدمة. هذا التأخر لا يقتصر على نقص الأدوات التقنية، بل يعكس أيضًا ضعفًا في الرؤية السياسية الواضحة لاستخدام التكنولوجيا في خدمة النضال. إن الفجوة الرقمية التي تعاني منها تنظيمات اليسار ليست مجرد نقص في الإمكانيات التقنية، بل تعكس ضعفًا كبيرا وغير مقصود في إدراك أن التوسع والتطوير الرقمي أصبحا شرطًا وجوديًا لاستمرارية وتطوير النضال الاشتراكي. إن عدم امتلاك اليسار للأدوات الرقمية يجعله أشبه بـ"نملة" تواجه "فيلًا"، حيث تمتلك الرأسمالية قدرة غير مسبوقة على التحكم في الفضاء الرقمي، وصياغة وعي الجماهير، وتوجيه المعلومات، وتضييق الخناق على أي حركة بديلة مناهضة لنظامها. إن استمرار هذه الفجوة يعني أن اليسار سيظل مستهدفًا بسياسات السيطرة والتقييد والإقصاء الرقمي، مما يحدّ من قدرته على التنظيم، والتأثير، والمقاومة بفعالية، وتحقيق بدائله الانسانية.

بينما يخسر اليسار إحدى المعارك الآن، لأنه لا يزال يتعامل مع التكنولوجيا كأداة ثانوية للرأسمالية، بدلًا من اعتبارها أحد الساحات الرئيسية للصراع الطبقي، فإن هذه المعركة لم تُحسم بعد. إن الانتصار لن يتحقق بالشعارات، بل بتحويل الرؤية إلى برامج عمل ملموسة، تعتمد على الاستخدام الواعي والفاعل للتكنولوجيا، وتقديم بدائل قادرة على مواجهة الهيمنة الرقمية للرأسمالية. لا يمكن لليسار أن يظل في موقع الدفاع، بل عليه أن يخوض المعركة التكنولوجية باستراتيجية واضحة، بحيث لا يكون مجرد مستخدم سلبي للتكنولوجيا، بل طرفًا فاعلًا في إعادة تشكيل مستقبلها.

عندما ينجح اليسار في دمج التكنولوجيا في مشروعه التحرري، يمكنه الخروج من هامشية الوجود الرقمي ليصبح قوة تنظيمية قادرة على التكيف مع العصر الرقمي، وتطوير أدوات واستراتيجيات جديدة تمكنه من التصدي للهيمنة الرأسمالية بقدرات أكثر تكافؤًا، مما قد يتيح له استعادة زمام المبادرة في معارك المستقبل.

ومع ذلك، فإن التكنولوجيا، مهما بلغت من التطور، لا يمكن أن تكون بديلًا عن التنظيم البشري الواعي. إن القوة الحقيقية لأي حركة يسارية تقدمية لا تكمن في الأدوات التي تستخدمها، رغم تأثيرها الكبير جدًا، بل في الإنسان المُنظَّم القادر على تسخيرها لخدمة أهدافه. قد يكون الذكاء الاصطناعي وعموم التكنولوجيا وسيلة فعّالة لتعزيز إمكانيات النضال والتنظيم والتحشيد، لكنه لن يُغني عن التضامن، والتنظيم السياسي والجماهيري، والعمل الميداني، التي تظل المحرك الأساسي لأي تغيير جذري على الأرض. لا ينبغي أن يتحوّل الاعتماد على الأدوات التكنولوجية إلى استبدال النضال السياسي المباشر بالعمل الرقمي، لأن النضال الفعلي يتم في الميدان وبين الجماهير، بينما يظل الفضاء الرقمي ساحة داعمة، فعّالة، ومكمّلة له، لكنها ليست بديلًا عنه.

كيسار، نسعى إلى تقديم بدائل تحررية في مختلف المجالات المجتمعية، مثل الاقتصاد، العدالة، الحقوق، المساواة، والتغيير الاشتراكي، إلخ. ومع ذلك، لم يتم حتى الآن تطوير رؤية يسارية رقمية واضحة وشاملة وبديلة لمواجهة السيطرة التكنولوجية للرأسمالية بشكل جدي، رغم خطورة هذه السيطرة في تعزيز وترسيخ الهيمنة الرأسمالية وأيديولوجيتها على الأجيال القادمة.

إن الدرس الجدلي الأهم هنا هو أن التكنولوجيا ليست مجرد "أداة محايدة"، بل ساحة معركة طبقية يجب خوضها بوعي علمي واستراتيجي. لم يكن العلم يومًا تقدُّمًا موضوعيًا بحتًا، بل كان دائمًا مشروطًا بمن يملكه، ومن يستخدمه، وكيف يُستخدم. إن المشكلة لا تكمن في هوية الذكاء الاصطناعي ذاته، بل في احتكاره من قبل القوى الرأسمالية، وإعادة توظيفه لتعميق الصراع الطبقي.

لذلك، لا يمكن لليسار الاكتفاء بنقد التكنولوجيا وطريقة استخدامها، بل عليه تطوير بدائله اليسارية والتقدمية وطرح آليات جديدة لاستخدامها، بحيث تعمل وفق منظومات تقدمية ديمقراطية شفافة برقابة مجتمعية، وتخدم الأهداف الإنسانية بدلًا من أن تكون مجرد أداة للاستغلال وتعظيم الأرباح.

 إن المواجهة لا تقتصر فقط على فهم بنية الهيمنة الرقمية، بل تتطلب اختراق القلعة الرقمية للرأسمالية، لا الوقوف عند أسوارها والاكتفاء بالصراخ!

فكما حوّل ماركس وإنجلز العلوم في عصرهما إلى سلاح ضد الرأسمالية، فإن اليسار اليوم مطالب بأن يكون فاعلًا في هذه الساحة، لا مجرد مراقب سلبي أو مستخدم متلقٍ خاضع للنظام الرأسمالي الرقمي.

***

رزكار عقراوي

باحث يساري، ومتخصص في قضايا التكنولوجيا واليسار

..............................

* مدخل لكتاب: الذكاء الاصطناعي الرأسمالي، تحديات اليسار والبدائل الممكنة، يمكن الحصول عليه مجانًا عبر الرابط:

https://rezgar.com/books/i.asp?bid=3

حول التأثيل الإتيمولوجي كلمة شروگية وشراگوة في موسوعة د. جواد علي "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" بمناسبة الجدل الطائفي دفاعا وتهجما على الشراگوة العراقيين. تمهيد: تحفل مواقع وصحف عراقية عديدة على شبكة النت، وصفحات بعض الجرائد العراقية والعربية، بالعديد من المقالات الاستعراضية المتباهية عن فراغ، فتخوض في موضوع المفردات في اللهجة العراقية التي يعتقدون بأن لها جذور سومرية وأكدية أو آرامية وسريانية. ورغم صعوبة أخذ أغلب هذه الكتابات مأخذ الجد، لعدم اعتمادها أية منهجية علمية او توثيق تأثيلي رصين، ما يجعلها أقرب إلى الانطباعات الذاتية والخواطر المصوغة بلغة ركيكة حافلة بالأخطاء، بل إنها تُوظَّف أحيانا لخدمة البروباغندا السياسية الرائجة. لقد قالوا كل شيء عن أصل كلمة شروگية وشراگوة جمع شروگي و شرگاوي فهي عند بعضهم سومرية أو أكدية أو يونانية وربما رومانية كل هذا ليمنعوا ويبعدوا عن النظر أصلها العربي الفصيح، في زمن صعود الهويات الفرعية الطائفية والعشائرية وانحسار الهوية الوطنية الرئيسة والعداء الصريح للعروبة لغة وهوية ثقافية لبلاد الرافدين وشعبها العريق.

* بخصوص ما قيل عن الأصول السومرية لهذه الكلمة، فهي مجرد ملاحظة عابرة من قبيل "سوالف المقاهي" تخلو من أي توثيق أو تحليل علمي. وهناك من يتحدث عن الأصول السريانية واليونانية والرومانية للكلمة، وقد تكون هذه الفكرة انتحالا سريعا ومبتسرا لما كتبه العلامة العراقي د. جواد علي في موسوعته الضخمة "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام حين ناقش أصول كلمة سراكيني وشراكيني وعلاقتها بلفظ شرقوق وشروك فقد كتب العلامة الراحل:

* "لم يتحدث أحد من كنيسة اليونان والرومان والسريان عن أصل لفظة "سراكيني" (Saraceni) وسراكينوا  (Sarakenoi)، ولم يلتفت العلماء إلى البحث في أصل التسمية إلا بعد النهضة العلمية الأخيرة، ولذلك اختلفت آراؤهم في التعليل، فزعم بعضهم انه مركب من "سارة" زوجة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، ولفظ آخر ربما هو "قين = عبد"، فيكون المعنى "عبيد سارة".

 وقال آخرون: أنه مشتق من "سَرَقَ"، فيكون المواد من كلمة "Saraceni" "سراكين" "السراقين" أو "السارقين" إشارة إلى غزوهم وكثرة سطوهم. أو من سراقا بمعنى "شرق"، ويراد بها الأرض التي تقع إلى شرق أرض النبط.

وقال "ونگلر" أنه من لفظة "شرقو"، وتعني "سكان الصحراء" أو "أولاد الصحراء". استنتج رأيه هذا من ورود اللفظة في نص من ايام "سرجون". ويرى آخرون أنه تصحيف "شرقيين"، أو "شارق" على تحو ما يفهم من كلمة "قدموني" (Qadmoni) في التوراة، بمعنى شرقي، أو أبناء الشرق ""Bene Qedhem. وكانت تطلق خاصة على القبائل التي أرجع النسابون العبرانيون نسبها إلى "قطورة". وقد مال إلى هذا الرأي الأخير أكثر من بحث في هذه التسمية من المستشرقين، فعندهم أن "سرسين" أو "سركين" أو "Sarakenoi" من "شرق". ولهذا يرجحون هذا الرأي ويأخذون به.

والقائلون ان "سارقين" من أصل لفظتين "سارة"، زوج إبراهيم، ومن "قين" بمعنى "عبد" وان المعنى هو "عبيد سارة"، متأثرون برواية التوراة عن سارة زوجة إبراهيم التوراتي، وبالشروح الواردة عنها. وليس لدى أصحاب هذا الرأي أية أدلة أخرى غير هذا التشابه اللفظي الذي نلاحظه بين "سركين" وبين "سارقين"، وهو من قبيل المصادفة والتلاعب بالألفاظ ولا شك، وغير هذه القصة الواردة في التوراة، قصة "سارة" التي لا علاقة لها بالسرسيين).

* ويضيف د. جواد في ما يخص موضوعنا "هذا وما زال أهل العراق يطلقون لفظة "شروگ" و "شروگية" على جماعة من العرب هم من سكان "لواء العمارة" والأهوار في الغالب، وينظرون اليهم نظرة خاصة، ولا شك عندي أن لهذه التسمية علاقة بتلك التسمية القديمة. ويستعمل أهل العراق في الوقت الحاضر لفظة أخرى، هي "الشرجية"، أي "الشرقية"، ويقصدون بها جهة المشرق. وتقابل لفظة "بني قديم" في العبرانية، وهي من بقايا المصطلحات العراقية القديمة التي تعبر عن مصطلح "شركوني" و "بني قديم".

هذا وقد عرف العربُ أن الروم يسمونهم "ساراقينوس"، وذكر "المسعودي" ان الروم إلى هذا الوقت "أي إلى وقته" تسمي العرب "ساراقينوس". وذكر خبرا طريفاً عن ملك الروم "نقفور" المعاصر لـ "هارون الرشيد" وزعم أن الرشيد "أنكر على الروم تسميتهم العرب ساراقينوس. وتفسيرهم ذلك عبيد ساره، طعناً منهم على هاجر وابنها إسماعيل، وأنها كانت أَمةّ لسارة، وقال: تسميتهم عبيد سارة، كذب".

وقد كانت منازل "القدمونيين"، "هقدمني"، "هاقدموني" "Kadmonites"، في المناطق الشرقية لفلسطين، أي في بادية الشام. ولما كان "قيدما" "kedemeh" هو أحد أبناء إسماعيل في اصطلاح "التوراة"، فيكون أبناء "قيدما" من العرب الاسماعيليين. وقد ذكر في موضع من التوراة انهم كانوا. يقطنون المناطق الشرقية لفلسطين قرب "البحر الميت" المعروف في العبرانية بـ "هايم هقدموني"، أي "البحر القدموني" "البحر الشرقي".

ونضيف أن لقب "الشرقاوي" ليس حكرا على جنوب وشرقي العراق بل هو موجود في مصر فالنسبة إلى محافظة الشرقية التي تقع شرقيها هي الشرقاوي وتلفظ مهموزة تارة وقافا حميرية أو جيما قاهرية تارة أخرى. ومن المشاهير الذين يحملون هذا الاسم الشاعر والأديب عبد الرحمن الشرقاوي والبطل الشعبي أدهم الشرقاوي وغيرهما.

* والخلاصة هي أن كلمة شروگ وشراگوة لا يمكن تأثيلها بدقة إلا في ضوء الجذر العربي الفصيح "ش ر ق" فهم إذن الشرقيون الشراقوة والشُّروق كجمع تكسير وقد لُفِظَت القاف هنا قافا حميرية أي جيما قاهرية كعادة أهل العراق وأجزاء واسعة من الجزيرة العربية بما فيها اليمن في زمن "گال تعالى"!

* * * 

علاء اللامي - كاتب عراقي

...................

المصدر: علي د. جواد - المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام / الفصل الخامس عشر / نسخة إلكترونية/ -رقم الصفحة غير ثابت.

ما تقع واقعةٌ في السّياسيةِ والاجتماعِ إلا واستدعي التّاريخُ لمماثلتها. نعم، زعماء الغرب يستدعون الماضي الغابر، لكنْ لا يزيد على تَزويق الخطابات، أما في مجتمعاتنا فيستدعى بحذافيره وشخوصه. يظهر الأوائل في النّزاعات الدّينيّة الطَّائفيَّة قادة للجماعات اليوم، إنه إحياء للماضي. ففي الحرب العراقيّة الإيرانيَّة (1980-1988) ظهر سعد بن أبي وقاص (ت: 55 هج) راكباً حصانه يقود المعركة، فأُحييت القادسيّة مِن جديد، وكأنها لم تقع (15 هج)، وفي الحرب الطّائفيّة حضر المختار الثّقفي (قُتل: 67هج) رمزاً للانتقام، واستعد المعتقدون بالمهدي المنتظر لظهوره، فظهر أكثر مِن مدعٍ، وسميت الفصائل المسلحة بأسماء الصّحابة وكناهم، فتصرفت هذه المجاميع بما نقل لهم التّاريخ، لا تمييز بين زمان وآخر، فما إن تقع واقعة إلا ولها نموذج غابر، يحضر ويهيمن.

فلا عجب مِن استدعاء واقعة «صلح الحسن ومعاوية» (41 هج)، لتضفي التّاريخ على المحادثات الإيرانيّة الأميركيَّة، فمَن يريد تبريرها وشرعنتها، لجأ إلى مثال «صلح الحسن»، وقد بويع بالخلافة بعد مقتل والده عليّ بن أبي طالب (40 هج)، وكان «عليّ يُدعى بالعراق أمير المؤمنين، وكان معاوية بالشَّام الأمير، وبعد قتل عليّ صار يُدعى معاوية بأمير المؤمنين» (الطّبريّ، تاريخ الرُّسل والملوك)، وذلك قبل الصّلح بينه وبين الحَسن، الصُلح الذي يمتدح عند السّنّة والشّيعة، مع اختلاف التَّبرير.

دعم رجال السُّنة الصّلح بحديث: «إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، ولعلَّ اللهَ أَنْ يُصلِحَ به بين فئتَينِ عظيمَتين منَ المُسلِمين» (البخاري، الصَّحيح، باب الصُّلح)، رواه أبو بكرة الثّقفي (ت: هج)، أما رجال الشّيعة فمنهم مَن اعتبر الصّلح اضطراراً، لغاية مؤقتة، واختصره ابن واضح اليعقوبيّ (ت: 292 هج)، قائلاً: «قَدم معاوية العِراق، فغلب على الأمر، والحسن عليل شديد العِلة، فلما رأى الحَسن أنّ لا قوة به، وأنَّ أصحابه قد افترقوا عنه، فلم يقوموا له، صالح معاوية، وصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها النَّاس، إنَّ اللهَ هداكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وقد سالمتُ معاوية، وإن أدري لعله فتنة لكم، ومتاع إلى حين» (تاريخ اليعقوبيّ)، لم يذكر الحديث، ولا المؤرخ ابن جرير الطّبريّ (ت: 310 هج) ذكره، لكن مِن المؤرخين الكبار ذَكره أحمد البّلاذريّ (ت: 279 هج) «في جُمل أنساب مِن الأشراف». 

صُنفت كُتب عديدة في «صلح الحسن»: «صلح الحسن ومعاوية» لأحمد بن محمَّد الهمدانيّ (ت: 333 هج)، و«صلح الحَسن» لعبدالرَّحمن بن كثير الهاشميّ، وربّما أقدمها كتاب «قيام الحَسن» لإبراهيم بن محمّد الثَّقفيّ (ت: 207 هج)، أورد عناوين هذه الكتب الشّيخ راضي آل ياسين (ت: 1953)، في كتابه «صِلح الحَسن»، الذي ترجمه آية الله عليّ خامنئيّ إلى الفارسيّة، ولخامنئيّ كتاب بهذا العنوان «صلح الحسن» (1972) أصله محاضرتان، وتُرجم إلى العربيّة.

أثير «صلح الحسن» في محادثة بين محسن الحكيم (ت: 1970)، والخميني (ت: 1989) بالنَّجف (1965)، العام الذي وصل فيه الخمينيّ العراق، أراد الخميني من الحكيم الإفتاء لصالح الثَّائرين بإيران، ويتدخل بالسَّياسة كمثال الحُسين بن عليّ (قُتل:61 هج)، أجابه الحكيم: «وماذا تقولون عن الإمام الحسن، إنه لم ينهض» (التَّفاصيل في كتابنا 100 عام مِن الإسلام السّياسيّ بالعراق/ الجزء الثاني). كذلك أثيرت الواقعة «صلح الحسن» خلال الحرب العراقيّة الإيرانيَّة عند السَّعي لوقفها.

يتداول اليوم «صلح الحسن»، ومَن يسميه «صلح الحسن ومعاوية»، و«عام الجماعة»، وقد اتفقت المذاهب بصحة ما وقع، واختلفوا بالتبرير، وما أسفر عنه مِن نتائج.

الشّاهد، أن التّاريخ ما زال قابعاً في وقائع الحاضر، لم يُغادر الذّهنيّة المحكومة بخطاب الماضي، وكأنَّ الزَّمن توقف عن الجريان، والقديم لا يحضر تاريخاً، بل انفعالاً، لذا قيل لكلّ نازلةٍ وقتها: «قل لمَن لا يرى المُعاصرَ شيئاً/ ويرى للأوائل التّقديما/ إنَّ ذلك القديم كان حديثاً/ وسيغدو هذا الحَديث قديما»(الحُر العامليّ، أمل الآمل). إنه الماضي الذي لم نغادره ولن يغادرنا، ما زال للسياسة مصلحة فيه.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

السؤال الذي يتصدر الحديث هنا سوف يقرا حتما وكما هو متوقع بحسب المنظور الارضوي الجسدوي الاحادي حيث "الفناء" يعني "الزوال" المادي وحسب، وهذا مالم نقصده، لان الفنائية المجتمعية هي قاعدة وجودية سارية ومتحكمه باليات التاريخ المجتمعي، وهي مخيمه الان على العالم ومجتمعاته، في المقدمه منها وعلى راسها، تلك التي ينظر لها على انها المحور وموضع الصدارة المتقدم منذ ان انبجست الاله بين ظهرانيه، هذا في حين ان "الالة" اصلا وجوهرا هي عامل افنائية للمجتمعية الاحادية، مكان اليدوية التي ظلت تعززها كي تؤدي هذا الغرض الاساس الموكوله له المجتمعات، بمعنى ان الظاهرة المجتمعية تنتقل من الجسدوية الارضوية التابيدية المرتكزة لليدوية الى مابعدها، اي الى "المجتمعية العقلية" مافوق الارضوية، وهو مايجري الدخول في رحابه، مع الانقلاب الالي ومنتهياته التكنولوجيا تحديدا.

 ذلك يعني بلا ادنى شك، بان المجتمعات تقوم بعد تبلورها كاصطراع ازدواجي افنائي حصيلته ومنتهاه انقضاء امد المجتمعية الارضوية اليدوية الجسدية، التي تظل غالبه توحي بانها هي الغاية والهدف ومايدل على الحقيقة الوجودية وغايتها، بينما تنطوي اللاارضوية من حيث الدلالة للذهاب الى مابعد يدوية ارضوية، خارج الوعي، محكومة لعدة اسباب تكرس خروجها من التداول، اولها القصور العقلي الناجم عن جدة العقل وحاجته للتشكل الاصطراعي من خلال الظاهرة المجتمعية بعد انبثاقه بصيغته الاولى مابعد الحيوانيه، وصولا الى "الانسان / العقل" المنتظر ظهوره على اعقاب " الجسد/ العقل" الراهن الانتقالي، بغض النظر عن الاعتباطية التي ترى في الحالة الانتقالية "الانسايوانيه" كمال "االانسان"، وكما سبقت الاشارة فان المجتمعية تقوم وتتبلور اساسا في ارض سومر في ارض مابين النهرين "لاارضوية" كنمط وكينونة مفردة مستقلة، تنصب عليها التشكلات المجتمعية الارضوية من جهاتها الثلاث ليبدا من يومها اصطراع افنائي بين مجتمعيتين، ليس لاحداهما نفي الاخرى، مايفضي في الحصيلة الى فناء المجتمعيتين معا، وهو ماحصل بعد التاريخ الطويل من الاصطراعية من البدايات في سومر الى بابل، حيث تقوم المجتمعية النازلة من اعلى بعد سلسله الغزوات الداخلية المكلفة، باقامه ارضها المستقلة المعزولة المحمية، المسورة باعلى مايمكن تصوره من اشكال الاسوارمناعة،تقيمها على حافة اللاارضوية العليا، لتمارس عملية افناء العالم والكيانيه اللامكانيه السفلى، وهو ماتكرر مع بغداد بعد هروب العباسيين من الكوفة بحثا عن "ارض مستقلة"، جربوا اولا ان يجعلوها في الرمادي، ثم في الهاشميات حين قامت بوجههم انتفاضة الراوندية.

لا بغداد ولا بابل كانتا تحكمان العراق، بل هما نتاج حالة فشل على هذا الصعيد بمقابل مجتمعية اخرى لها منطقها ومفهومها للحكم والدولة المشاعية المساواتية المحكومة للفزعة والنخوة، وللاامتازية ملكيا وسلطويا بصفتها نمطا مجتمعيا لاكيانيا طبيعته، مناقض للكيانيه، فضلا عن الذهاب للاعلان عنها، او اعتبارها غرضا او حاجه، فالعراق هو سرجون الاكدي وبابل وملوكها من الاعلى، وكوراجينا 2355 قبل الميلاد اول من نطق بكلمه "حرية / امارجي" في التاريخ البشري، وبكل حقوق الانسان المتعارف عليها اليوم، وبحقوق المستضعفين، وهي هارون الرشيد واسلافه الهاربون من الجنوب في الاعلى، "بغداد" المبتكرة اليوم، وعالم الانتفاضات (الشقاق والنفاق بحسب مفهوم الارضويين) مع حمدان قرمط، والاسماعيليين، والتشيع الامامي الانتظاري، والحلاجية والخوارجية، ومجلس العقدانيه الذي يضع في اول بنوده " يحق للانسان ان يؤمن كما يحق له ان لايؤمن"، غير اخوان الصفا والمعتزله. الطرف او العالم الاعلى مدفوع بسبب العجز الداخلي الى الانقلاب الامبراطوري تخلصا من وطاة الاصطراعية المدمرة التي بلا نتيجه، وهو التاقلم الاصطراعي الذي دفع بسرجون الاكدي 2334/2279 قبل الميلاد، بلا اسباب وجيهة ظاهرة، لان يحتل من نقطة تكاد لاترى في ارض سومر، عيلام شرقا، والشام والاناضول غربا، ويعبر الى جزيرة كريت ليعلن " انا حاكم زوايا الدنيا الاربع". انها ارض الازدواج المجتمعي الكونيه، احتدام اصطراعيتها الذاتيه ينتج المنظور المجتمعي الكوني / الابراهيمي/ من اسفل، والامبراطوري الازدواجي من اعلى، وهي لاشيء يمكن ان يجمعها باية حال او درجة، بالمفهوم الكيانوي الاحادي الارضوي "الوطنوي" بصيغته الابتدائية السكونية المصرية، ولا بذلك الأعلى ديناميات ضمن نمطيته، الاوربية، الازدواجية الطبقية الغالبة الكاسحة نموذجا وتفكرا اليوم، بقوة مفعول الالة ومترتباتها.

 اقيم ما يعرف ب "العراق الحديث" بناء عليه، اعتمادا لمروية وسردية مفتعلة مناقضة تماما وتدميرية ساحقة "من اعلى "، وبناء لفرضية الديناميات البرانيه الانقطاعية الحالة على المكان منذ 1258 ، تحت قوة تبرير و غلبة المنظور الحداثي الوطنوي القوموي الاوربي الالي، وهي حالة لايمكن ان لاننتبه الى خصوصيتها الاستثنائية، مقارنه بكل مامعروف من اشكال الهيمنه وديناميات السيطرة الغربية الراسمالية الحالة على المعمورة، وهو ماقد اوجد نوع صدام مختلف يعود بالانقلابيه الالية الراهنه الى حقيقة اخرى مقابله، نافية لتلك المكرسة غربيا، بحيث نقف امام نشوئية انبعاثية لاارضوية سومرية حديثة، حاصلة مع القرن السادس عشر في ارض مابين النهرين،تقابلها وطاة توهمية غربية تقول بالعراق المتشكل بحسب فليب ويرلند مع الاحتلال التركي الثالث عام 1831 مع انحراط المكان بالطور الراسمالي ومفاعيله المفترضة بلا دلائل ذاتيه، سوى الاحداث الواقعة وقتها من قبل الاتراك واضطرارهم لاعادة احتلال العراق مع الحملة التي ازالت الوالي المماليكي الاخير داود باشا، وهو حدث يعود للتفاعلية الازدواجية، واحتمالاتها، والمخاطر التي توقعها الاتراك منها بعد سلسله طويلة من الاصطراعية الجنوبيه المماليكية.

  ثمة اذن عراق عراقي محكوم لالياته التاريخيه التي تبدا من الجنوب سومريا او كوفيا بصريا، واليوم منتفجيا، وعراق هو استمرار للبرانيه الحالة على هذا الموضع منذ 1258 وهي برانيه افنائية للنمطية اللاارضوية الازدواجية مافوق الكيانوية، قامت اليوم مستندة لقوة مفعول الانقلاب الالي، على انها "العراق"، يعزز حضورها واستمرارها، غياب النطقية "العراقية"، تلك الباقية غائبة منذ ان وجد هذا النمط من المجتمعية وتبلور، لتعدية نموذجا، الطاقة المتاحة للعقل البشري على الادراك، ما قد ظل ملازما كنقيصة كبرى كونيه، تاريخ هذا المكان على مدى دورتين تاريخيتين كبريين، غير ماقد مر حتى الان خلال القرون التي تزيد على الاربعة الماضية الى اليوم، رغم الاحتدام الافنائي الراهن الحديث، بعدما تبدلت اشتراطات الاصطراعية التاريخيه ومن ثم الانبعاثية.

***

عبد الأمير الركابي

 

وصلت اسباب الافنائية المسلطة على الكينونه العراقية اخيرا، درجة من الفعالية والحضور ماعاد ممكنا معها استبعاد احتمالية الانتقال لعالم الفنائية المنتظرة ومنها التحولية، والحكم لهذه الجهه قائم على متابعه اليات التاريخ  العراقي الحديث خلال مايزيد على القرن، عندما حلت التوهمية التغلبية الغربية المقترنه بالانقلاب الالي، احتلالا مباشرا عسكريا، واخر مفهوميا كيانيا، ابتداء من الحملة  العسكرية البريطانيه عام  1914والصاعدة من الفاو جنوبا نحو عاصمة الامبراطورية المنهاره، ومركز البرانيه الشرقية التناوبيه الحالة على المكان من عام 1258 مع  احتلالها على يد هولاكو، مع ما قد ارساه الضابط الانكليزي الملحق بالحملة البريطانيه فليب ويرلند من مرويه تشكلية "عراقية حديثة" مفتعلة، تصف التشكل العراقي الحديث استعماريا، بما يخالف واقع الحال الحاصل من جهه، ويناقض وينفي الحقيقة التاريخيه للمكان  كليا، ماقد اوجد بالقوة منظومه عملية ومنظورية افنائية، هي نوع استثنائي لاشبيه له من اشكال الهيمنه التي تستدعي، لابل تشترط الغاء الآخر.

وثمة عامل رئيسي استنداليه مشروع البرانيه الحداثية الاستعمارية، تاتى من عدم اكتمال التشكل العراقي الحديث المبتديء في ارض سومر التاريخيه من القرن السادس عشر، حين عادت الاليات التاريخيه للمكان للانبعاث في دورة ثالثة، بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، مع ظهور "اتحاد قبائل المنتفك" عام 1530 كحقبة اولى تاسيسية قبلية الطابع، اعقبتها الثانيه الانتظارية النجفية التي حلت محل الاولى بعد القرن السابع عشر، وصولا الى القرن العشرين، عندما تبدلت اللوحه ولم يعد التشكل الحديث يواجه صيغ البرانيه المتعاقبة على عاصمة الدورة الثانيه المنهارة، بصيغتها الشرقية اليدوية، في وقت انقلبت حالة البرانيه مدار الاصطراع التشكلي الحديث الصاعد من الجنوب، كما هو القانون التاريخي للتشكل العراقي، لتغدو مع حضور الانكليز، توهمية آلية، وليصبح التشكل الذاتي الحالي، الثالث تاريخيا من حينه، محكوما للاشتراطات الانقلابيه التاريخيه الحديثة الحالة على المعمورة .

وليس الحديث عن "الفناء" على خطورة التعبير، خارج عن تاريخ او خاصيات الموضع الذي نتحدث عنه فالفنائية لازمت التشكل التاريخي  لنوع الكيانيه المتعدية للكيانيه  الرافدينيه، فكانت تختم دورات التشكل التاريخي، بحيث يغيب وينقطع الفعل التاريخي في هذا الموضع من المعمورة، وهو ماقد حصل ابان حالتين شهيرتين من دون تعيين او تمييز لطبيعتهما ومايدلان عليه، والمقصود ماكان وقع ابان انهيار بابل واختفائها من الوجود بعد موقعها العالمي (1)، عام 539 ، ثم مع انهيار بغداد عاصمة الدورة الثانيه الامبراطورية عام 1258 بعد خمسه قرون من الحضور العالمي القمة والفعالية النوعية الانقلابيه، والظاهرة المشار اليها لاوجود لها في مايعرف بالمنظور او الادبيات، وما معتبر من قبيل البحوث التاريخيه، لافي الماضي ولا الحاضر المجافي جمله وتفصلا لصالح النموذجية الارضوية الاوربيه، الامر الذي كان ومايزال حصه هذا الموقع من العالم، لتجاوز بنيته وآلياته المجتمعية الكونية مامتاح ومتوفر للعقل البشري من طاقة وقدرة على الادراك، ماقد حكم ارض مابين النهرين تاريخيا، بان تظل تعيش تاريخها بلا ادراك للذاتيه والنطق بها، ومن ثم بلا وعي بالحقيقة المجتمعية الشاملة مثلها مثل بقية اصقاع العالم.

وتكمن هنا مسالة هي الاهم بما يخص علاقة الكائن البشري بوجوده و بحقيقته المجتمعية الغائبة والمطموسة لاسباب موضوعيه، اساسها خضوع البنيه المجتمعية، ومن ثم العقلية لاشتراطات اليدوية الجسدية باعتبارها النمطية والنموذجيه المفردة الاحادية الابدية، علما بان المجتمعات ومايتصل بها من بنية وكينونه تنشا في موضع البدء التبلوري مزدوجة، قاعدتها الببيئة النهرية في منطقة الشرق المتوسطي، الاولى ارضوية جسدوية نموذجية  هي الشكل الاني اليدوي الغالب،، وتقوم في ارض النيل حيث التوافقية الانتاجية البيئية، وحيث  محور العملية " النيل" متوافق مع الجهد البشري الانتاجي، يفيض باتفاق مع الدورة الزراعية، والمكان محمي شرقا وغربا بالصحراء، وشمالا بالبحر، مايجعل  المجتمع متجسد في الدولة  والكيان/ الوطني، وفي الفرعون الاله، حيث التكراريه الاجترارية، والمرحله الوحيدة الاولى  والاخيرة، والسكونيه النمطية، يقابلها ويتقدم عليها زمنيا بعض الشي، نمط اخر لا كياني، يتشكل ضمن اشتراطات الطرد البيئي، حيث النهرين العاتيين المدمرين المخالفين للدورة الزراعية، وفيضانهما المباغت الذي يجعل الحياة والعملية الانتاجية اقرب للحرب، وللعيش على حافة الفناء، معززة بجمله من العوامل المناخية والطبيعية المجافيه التي تحفز على الارتقاء خارج الارض ومنظورها السكوني، نحوالعالم الاخر كموضع سكن، تزداد اسباب تكريسه بفعل المحيط الجغرافي البشري المتلائم مع اشتراطات ومايعزز  الفنائية الاولى البيئية الانتاجية المخيمه، مع الانفتاح من الجهات الثلاث الشرقية والغربية والشمالية، حيث الجبال الجرداء والصحارى، سيولا بشرية طامحه للسيطرة ولاجبار ارض الخصب الجنوبية ابتداء من سومر اصل اللاارضوية المجتمعية الممتنعه على الخضوع  الذي دونه الفناء، بايه صيغة كانت، كينونه وبنية.

ان تاريخ وكينونة الموضع المتعارف عليه بالعراق هو "تاريخ الفنائية التحولية"،  الصيغة الاساس المجتمعية الملغاة من الوعي لصالح الصيغة الثباتيه التابيدية الارضوية،  ونموذجها الكلاسيكي الاصل النيلي المتوافق عيشا ووعيا مع الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي الاعقالي، ومن ثم وبناء عليه، النمط او النوع الغالب ابتداء وعلى مدى التاريخ اليدوي من التاريخ البشري، وابسط مايترتب على مامذكور الانتباه الى كون الظاهرة المجتمعية بالاصل وساعة التبلور، ثنائية كينونه ونوعا، وليست احادية كما هو سائر وراسخ في الوعي البشري اليدوي ومتبقياته الراهنه، وبالذات منها توهمياته الكبرى المواكبه يدويا للانقلاب الالي المصنعي كما عرف مع الحداثة الغربية ماقبل الادراكية للانقلابية الالية التكنولوجية، ومنطوياتها وحقيقتها التحولية.

وليس من السهل على الاطلاق تحدي المروية الاحادية عن المجتمعات وتاريخها ونوع اصطراعيتها التاريخيه، والديناميات الفاعلة في سيرورتها، والاغراض الكامنه خلف وجودها ومنتهياتها، مع ثقل الاعتياد الطويل والرسوخ المعزز بالمتغيرات الاخيرة، ومن ذلك وفي صدارته على سبيل المثال، "جريمه" كبرى من نوع  احالة عملية الانقلاب الالية الى القرن السادس عشر، والى ارض سومر التاريخيه البدئية، وماقد حدث فيها من انبعاث لاارضوي راهن ثالث، واعتباره هو المؤشر على طبيعة ونوع  الانقلابيه الالية التكنولوجية، ولحظة الانتقال المجتمعي البشري من اليدوية التاريخيه الجسدية الاولى، الى العقلية، لامن اليدوية الى الاليه كما اشاع الغرب، وكما استمر الاعتقاد ساريا الى الان.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

هل نحن على مشارف الاختراقيه الثانيه؟ لاشك ان افتراضا من هذا القبيل يتعدى ما يعتبر في باب المعقول او الممكن استيعابه على مستوى الموضوعات والاسباب، عدا المعطيات الفاعله، سواء على جسامة المدى الزمني على طوله، او من حيث النوع، الامر الذي يذهب بنا الى افتراض التفارقيه النوعية بين عالمين وزمنين، من حيث مراحل ومستويات الادراكية والوعي البشري المتاح للكائن الحي حتى الان، وماقد تسببت به القصورية العقلية من عجز عن مقاربة الظاهرة الاجتماعية ومنطوياتها، والمآلات التي هي ذاهبه اليها، وظلت تحكم تفاعليتها التاريخيه مع حجب الهدف المقرر لها.

والاهم فيما يشار اليه هو التراكمية الهائلة المتولدة عن القصورية العقلية الطبيعية، وعن توالي تكريس المنظورات والمفاهيم الموافقه، بالذات منها تلك العادة للاشتراطات اليدوية الجسدية الحاجاتيه، ماقد القى بثقله على اللحظة الانقلابيه الالية ساعة وقوعها، واخضعها لماقبلها من رؤى وتصورات راسخه، من المستحيل حتى اليوم تصور ماعداها، يدخل في ذلك ميل الكائن البشري العضوي والعقلي الى الخضوع للعادة والتكرار، هذا غير الانسياق وراء امكانية ان يذهب ماهو حاصل، مع ما يمكن ان يكون " تقدما"، وسيرا الى الامام من دون خروج على اسس الراسخ والمعتاد، ان لم تعيد تكريسها بصيغة اخرى.

كل هذا ونحن نقف امام ثورة عقل تنفي "العقل" كما متعارف عليه، وكما موصوف ومستعمل، مالايمكن تخيل احتمالية وقوعه باي شكل كان، الا اذا استوجب ضرورة عليّه قصوى راهنه على الكائن البشري ووجوده، وفي هذا السياق سيكون من غير المعقول، وبعد كل المسار المجتمعي التاريخي، القول بلا ادرية او صدفوية الحياة والوجود البشريان، او عدم اتفاقهما مع الغائية الكونيه العليا الناظمه للكون وتحولاته ومساراته العظمى غير المدركة، ولا المماط عنها اللثام كما قد يعتقد بناء للمحدودية العقلية الراهنه، اي تلك التي تصدر عن مابين عشرة الى خمس عشرة بالمئة من الطاقة العقلية المتاحة والقابلة للاستعمال، والمدخره لحين حلول اشتراطات العيش بالعقل خارج الجسدية.

المؤكد ان الغائية الكونيه العليا قد هيات الاسباب واللوازم الضرورية حتى تتوفر اسباب الانقلابيه الحالية بكل مايفترض ان تنطوي عليه من "اكراهية " لزومية، واشتراطات واسباب مادية ضرورية لاجل التحول الانقلابي الاعظم، بعد ان وفرت العامل الاهم الالي المتحول اليوم ومن هنا فصاعدا، الى تكنولوجية عقلية غير قابلة للتفاعل مع اشتراطات المجتمعية الانتاجية الجسدوية اليدوية ومتبقياتها الصناعية الاولى، او حتى الحالية التكنولويجية الانتاجيه، وبالاجمال توفير الانتقالية الفاصلة بين اليدوية ومابعدها، بما هي عليه، اي كانتقال من اليدوية الجسدية الى العقلية، لاكما تقول الى اليوم متبقيات المنظور اليدوي للاله، مكرسه اليدوية، بافتراضات من نوع "التقدم" تكريسا للبقائية الاحادية الابدية المجتمعية الارضوية الجسدية.

يجب ان نكون واثقين من ان العالم مقبل على "مالاعين رات ولا اذن سمعت"، وذلك بحكم نوع وطبيعة ومستوى الانقلابيه الفنائية التحولية المقصوده، ونوعها غير المسبوق، والذي عاشت البشرية تاريخها الى الساعة بانتظار بلوغ مشارفه، بالمقابل وفي ارض الاختراقية اللاارضوية الاصل الاولى، سيكون المطلوب والمتوقع هو الاخرمما لايمكن تخيل نوعه ومستواه من حيث الرؤية الموافقة للانتقالية التحولية الكونية، من الجسدية منتهية الصلاحية، الى العقلية مافوق اليدوية، بالانتقال من النظر النبوي الحدسي الابراهيمي الاول، الى المنظور اللااارضي العلّي السببي، وسط وفي غمرة الاضطرابيه الافنائية العظمى، مايضع الايديلوجيات والموروثات خارج الاحتساب، وخارج العالم.

هذا بينما يكون الغرب قد غادر موقع الفعالية القيادية وتوهميتها الاليه المؤقته.

***

عبد الأمير الركابي

..........................

(1) فبعد سقوط روما "راح الوثنيون وكانوا مايزالون هم الاغلبية يعزون اسباب انهيار روما والانحلال العام الذي اصاب الامبراطورية الرومانيه الى انتشار الديانة المسيحية . لهذا انتدب اوغسطين للدفاع عن المسيحية ضد هذا الاتهام، فانشا يكتب كتابه الاساسي المشهور "مدينة الله" ابتداء من سنة 415 او بداية سنة 416 م وفرغ من كتابة المقالات العشر الاولى منه في ذلك الوقت، لكنه احس بان كتابه هذا بحاجة الى تكمله تتولى بيان ماوقع في تاريخ العالم قبل ذلك الوقت من مصائب وكوارث لاشان للمسيحية بها. لانها سبقت ظهورها، فعهد اوغسطين بهذه المهمة الى اوروسيوس"/ اوريسيوس ـ تاريخ العالم: الترجمه العربيه القديمه حققها وقدم لها د عبدالرحمن بدوي/ المؤسسة العربيه للدراسات والنشر/ ص 6 / هذا وكتاب اوريسيوس اصلا معنون ب " التواريخ ضد الوثنيين".

(2) نلفت النظر الى كتابنا الصادر قبل اشهر عن / دار الانتشار العربي ـ بيروت/ كتاب العراق: الكتاب اللاارضوي المنتظر منذ سبعة الاف عام/ عبدالامير الركابي/. كبداية ومنطلق تاسيسي.

* ازيل هامشان كانا وردا ترقيما في الحلقات، لانتفاء اللازمه.

رحلَ البابا فرنسيس (1936-2025) تاركاً بصمته الإنسانيَّة في تاريخ الفاتيكان والعالم، كان قريباً مِن الفقراء ببساطته، ومحاولاته في التّجديد الدّينيّ، لمواكبة مستجدات العصر، العِلميّة والاجتماعيَّة، مع دعمٍ لا محدود للتسامح والتّعايش بين الأديان، وفي هذا المجال، كان توقيعه وإمام الأزهر «وثيقة الإخوة الإنسانيَّة» بأبوظبي (2019).

عُدَّ البابا فرنسيس أكبر الزَّعامات الدِّينيَّة تأثيراً لصفاته الشّخصيَّة، والمسيحيَّة، بطوائفها، غادرت الكراهيات في ما بينها، ناهيك عن الكاثوليكيَّة، التي يتزعمها روحيَّاً، تبلغ نحو مليار وأربعمائة مليون كاثوليكيّ، مِن مليارين وأربعمائة مليون مسيحي، تأتي الأرثوذكسية بعدها عدداً، وكان قريباً مِن الجميع. ظلّت الكاثوليكيَّة تترقب فرصة العودة إلى العراق، فمنه اِمتدَّت الكنيسة الشَّرقيَّة إلى الهند، فما الآثار الكنسيَّة بجزر على الخليج العربيّ، إلا مراكز في الطّريق مِن البَصرة إلى الهند، مثل كنيسة جزيرة صير بني ياس، والسّينيَّة، بدولة الإمارات، ومِن آثار ذلك الكنيسة الشَّرقيَّة بكيرلا الهنديَّة، فقبل سنوات يُبعث قساوستها مِن العِراق. مع دخول الكاثوليكيَّة العراق (القرن 16 الميلاديّ)، عبر التبشير بين أتباع الكنيسة الشّرقية، ووجود ما يُعتقد أنها مدينة إبراهيم (أور)، الحاضر في (اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلام)، لم يزر العراق بابا مِن بابوات الفاتيكان، غير فرنسيس (2021)، مع أنَّ أول جاثليق عراقيّ وصل إلى روما، ومنحه الفاتيكان (1553م) «دِرع الرَّئاسة» (أبونا، تاريخ الكنيسة الشّرقيَّة)، لكن «سولاقا» اغتيل (1555م). عُدت زيارة البابا إلى العراق تحدياً، فيومها مازال الوباء مُهدداً، الأمن قلقاً، لكنه أصرَّ، ليلفت أنظار العالم إلى مآسي البلاد المبتلية، بعد الغزو الأميركيّ وتداعياته، وعبث الجماعات المسلحة بالدِّماء، ناهيك عن استنزاف مسيحييه بالهجرة والتّهجير.

قبل ذلك، عزم البابا يوحنا الثّاني (ت: 2005) زيارة العراق (1999)، ضمن جولته بالشّرق الأوسط، وكان النِّظام آنذاك متحمساً للزيارة، بسبب الحصار (1990-2003) الشَّامل، ظناً أنَّها بارقةُ أملٍ لرفعه، لكنَّ الدُّول الكبرى حالت دونها، بعذر تهديد حياة البابا، وقيل ألغيت لاجتناب الصّبغة السّياسيَّة التي سيفرضها النّظام العِراقيّ، والخبر المقبول أنَّ الأميركان منعوها، كي لا تفتضح كارثة الحصار، ويتشكل ضغط دوليّ لصالح العِراق.

بعد اثنين وعشرين عاماً، أثير إلغاء زيارة البابا يوحنا، بوجه زيارة البابا فرنسيس، ففسر المعارضون: أنَّ النِّظام العِراقيّ رفض استقبال الحبر الأعظم، كي لا تطأ قدمه مدينة إبراهيم (أور)، فيكون مقدمة لتدويلها دِينياً، باسم الخليل، وهذا خلاف الواقع، إنما كان النّظام ينتظر الزِّيارة، وقد انتقد إعلامه موقف البابا، والدُّول التي ضدها.

لكنَّ غاية ذلك التلفيق هو الهجوم على الزّيارة الأخيرة، وعندها هوجم عرَّاباها رئيس الجمهوريّة ورئيس الوزراء، وكانا سبب نجاحها، وترتيب زيارة البابا النَّجف، وأور، والمناطق المسيحيّة التّاريخيَّة كقراقوش بالموصل، فعلى الرّغم مِن الصِّلات السابقة بين النّجف والفاتيكان، كوصول الوفد البابوي للتعزية بالمرجع محسن الحكيم في صيف 1970 (الصّغير، أساطين المرجعية العليا)، لكنَّ أول مرة يتم لقاء مباشر بين مرجع النَّجف وبابا الفاتيكان. عن أور، صحّح الأب أنستاس الكرمليّ (ت: 1947) الخطأ التّاريخيّ، فليس مِن علاقة بين أبي الأنبياء إبراهيم ومدينة أور السومريّة، والخطأ حصل في تعريب النّص التَّوراتيّ: «أنت الرَّبُّ الإله الذي أخرجته (أي أَبرام) مِن نار الكلدانيين»، فعرَّب النّص عن أصلها العبراني: «مِن أور الكلدانيين، وسبب هذا الفرق في الاستخراج أن اسم النَّار، واسم المدينة الكلدانية أُور هما واحد بالعبرية» (مجلة المشرق، السنة 1900). القصد أنّ القصة لا تستحق الضّجيج، فالحقيقة أنَّ البابا زار أقدم آثار الخليقة، ومكان القصة الأصلية للطُّوفان (باقر، ملحمة جلجامش)، وليس مدينة إبراهيم. أقول: كانت زيارة البابا، رسالة إلى العالم عن هذا البلد العريق، الذي لا يستحق ما تفعل به قوى داخليّة وخارجيّة مِن شرور. كان حقَّاً بابا المعذبين، قصدهم، وصلى لأجلهم، وما زيارته العِراق إلا بهذا المنحى.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الأول من أيار/ مايو مناسبة عالمية تحتفل بها اغلبية الشعوب تكريماً للطبقة العاملة ودورها النضالي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. يوم تتوحد فيه الأصوات المطالبة بالحقوق، ويستحضر فيه التاريخ لحظات من التضحية والكفاح التي مهدت الطريق نحو بعض من قوانين العمل العصرية التي انصفت نضال العمال وأكدت القيم الإنسانية.

تعود جذور هذا اليوم إلى أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً إلى عام 1886 في مدينة شيكاغو. كانت امريكا تعيش بداية الثورة الصناعية، وكان العمال الأوروبيون المهاجرون إلى "العالم الجديد" يمثلون الشريحة الأكبر في القوة العاملة، وكانت ظروف العمل قاسية وغير آمنة مقابل أجور زهيدة وساعات عمل طويلة. تلك الظروف حفزت النقابات العمالية في امريكا في الأول من أيار 1886، بتنظيم إضراباً واسعاً شارك فيه أكثر من 300 ألف عامل. حركة احتجاجية واسعة طالبت بحقوقها، كان من بين قادة الحركة العمالية عدد كبير من الاشتراكيين والشيوعيين واليساريين الذين كانوا يؤمنون بضرورة إنهاء الاستغلال، قُوبلت الاحتجاجات بعنف من قبل السلطات، نتج عنها عدد من الضحايا.

وتبع ذلك حملة قمع واعتقالات عنيفة ضد قادة العمال، ومع استمرار الاحتجاجات السلمية، وقعت حادثة عُرِفت باسم "مجزرة هايماركت" (Haymarket Riot)، ألقى شخص مجهول قنبلة على رجال الشرطة عندما كانوا يفرقون العمال المضربين. أدى الانفجار وإطلاق النار الذي تلاه إلى مقتل (7) من رجال الشرطة و(4) من العمال. وبعد المحاكمة التي جرت بعد حادث الانفجار، تم الحكم على ثمانية من القادة النقابيين بتهمة الضلوع في الهجوم، وأعدم أربعة منهم عام 1887.

 تبلورت فكرة الاحتفال بالأول من أيار كيوم رمزي لتكريم نضال العمال عبر العالم، وفي عام 1889، كتب رئيس اتحاد نقابات العمال في أمريكا إلى المؤتمر الأول للأممية الثانية الذي عقد في باريس (وهي منظمة أممية لليسار والعمال) لتبني فكرة أن يكون الأول من أيار يوماً للاحتفال العالمي بحقوق العمال. وقد استجاب المؤتمر لهذه الدعوة عرفاناً بتضحياتهم وتوحيداً لصفوفهم في مواجهة الظلم والاستغلال. ومنذ ذلك الوقت، اصبح مناسبة رسمية تحتفل الكثير من بلدان العالم سنوياً بهذا الحدث التاريخي من خلال إقامة احتفالات ومسيرات ومهرجانات وندوات ثقافية تؤكد على حقوق العمال وضرورة تحسين ظروفهم.1411 iraq

وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، تغير مسار الخريطة العالمية، وأصبح الصراع الطبقي والانقسامات السياسية والاقتصادية أكثر حدة  ووضوحاً، وظهرت الكثير من المفاهيم الحقوقية التي تصب في تعزيز دور الطبقة العاملة في نضالها ضد الإستغلال والجشع الرأسمالي. وأخذ الأول من أيار "عيد العمال"، يحمل أبعاداً فكرية تتجاوز الطابع الاحتفالي، ليكون مناسبة لتعزيز قيم العدالة والمساواة والكرامة، وليذكرنا بأن العمل ليس فقط وسيلة للعيش، بل ركيزة أساسية للهوية الإنسانية، لتحقيق الذات والمساهمة في بناء المجتمعات، ولترسيخ فكرة التضامن الطبقي والوحدة بين مختلف فئات الشعب في مواجهة سياسات التهميش والتمييز.

وفي عالمنا المعاصر، تتعدد صور المعاناة والتحديات العمالية، التي تتمثل في تصاعد معدلات البطالة، وهشاشة العمل غير النظامي، وانتشار العمل غير الآمن، فضلاً عن التأثيرات السلبية للتطور التكنولوجي المتسارع، والاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي، ما يستدعي تأملات جادة حول مستقبل العمل وحقوق الإنسان في ظل الرقمنة. وهو أيضاً دعوة للحكومات وأرباب العمل إلى تبني سياسات عادلة ومستدامة تضمن الحقوق العمالية، وتوفير بيئة عمل آمنة، لتحقيق التوازن بين متطلبات السوق وكرامة الإنسان.

فالاحتفال بالأول من أيار يعبر عن وعي العمال في تجسيد رمزية وفكرة الصراع الطبقي (كما تحدث عنها ماركس)، حيث تتجلى علاقات القوة بين الطبقة العاملة وأصحاب رؤوس الأموال. ويسهم في بناء الهوية الجماعية للطبقة العاملة، من خلال المشاركة في الفعاليات العمالية الشعبية التي تؤكد الانتماء إلى مجموعة اجتماعية لها مصالح مشتركة، قيم مشتركة وتطلعات متشابهة. وبذلك فهو مناسبة لإبراز التضامن الاجتماعي، ليس فقط بين العمال على المستوى العالمي بل امتدت تأثيراته على الأصعدة المحلية، هذا التضامن تجاوز الأفراد ليشكل روابط اجتماعية قوية تصب في تعزيز التماسك الاجتماعي داخل الطبقة لتسلط الضوء على القضايا الحقوقية المطلبية كالمساواة في الأجور، والحماية الاجتماعية، والمشاركة في مجالات العمل النقابي وصنع القرار السياسي والاقتصادي، وبالتالي نقل هذه القيم والأعراف من جيل إلى آخر.

أولت الأحزاب الشيوعية واليسارية في أغلب دول العالم أهمية كبيرة للحركات العمالية في إعادة إنتاج القيم والرموز الثقافية للطبقة العاملة، قيم الكفاح من أجل المطالبة بالحقوق وتفعيل عمل المؤسسات الاجتماعية مثل النقابات والأحزاب اليسارية كوسائط تنظيمية، تعبوية وتفاوضية لصالح العمال. وبإضفاء الشرعية على المطالب، وخلق آفاق للاعتراف بقضايا العمال بشكل رسمي وشعبي، كفاعل اجتماعي قادر على التأثير في عملية التغيير الاجتماعي.

إحياء عيد العمال ليس مجرد تقليد سنوي، بل فعل نضالي مستمر، كحق مطلبي أساسي وقيمة إنسانية، ومصدر لتحقيق الذات والمشاركة الفعالة في مجالات التنمية، مما يتطلب من المجتمعات التمسك بقيم التضامن والعدالة، وتكريسها في السياسات والتشريعات. ويمثل هذا اليوم دعوة لتجديد الالتزام بالمبادئ التي طالما نادى بها المفكرون التقدميون والنقابيون، وعلى رأسها: قيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لكل عامل دون تمييز.

والغريب بالأمر أن الولايات المتحدة، مهد الحراك العمالي للأول من أيار، لا تحتفل بعيد العمال في الأول من مايو، بل تحتفل به في أول اثنين من شهر سبتمبر (عيد العمل – Labour Day)، وذلك لتجنب ربطه بجذوره الاشتراكية والاضطرابات العمالية. أما في معظم دول العالم، الأول من أيار عطلة رسمية، يتم فيه تنظيم مسيرات ضخمة يقودها النقابيون والأحزاب اليسارية. بعض الحكومات تعترف بهذا اليوم رسمياً لتفادي الغضب الاجتماعي، واحتفالات العمال بهذا اليوم هو تذكير سياسي مستمر بأن العمال ليسوا مجرد قوة اقتصادية، بل فاعلون سياسيون يطالبون بحقوقهم: الحق في التنظيم النقابي، الإضراب، المشاركة في صياغة السياسات العمالية. ويشكلون مجموعة ضغط مؤثرة في القرارات الحكومية. 

 بدأ العراق بالاحتفال الرسمي بعيد العمال العالمي في الأربعينيات من القرن العشرين، بالتزامن مع تطور الحركة العمالية والنقابية في البلاد، خصوصاً بعد تأسيس الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق عام 1944. وبمرور الزمن وبعد سقوط الملكية، أصبح الأول من أيار يوماً معترفاً به، تُنظم فيه فعاليات نقابية ومهرجانات وخطب سياسية وثقافية تركز على حقوق العمال وأوضاعهم المعيشية، وقد لعبت الحركات النقابية وقوى اليسار، خاصة الحزب الشيوعي العراقي، دوراً مهماً في ترسيخ أهمية هذا اليوم داخل المجتمع العراقي بأن يكون له طابع نقابي وشعبي وإعلامي، لا سيما بعد ثورة 14 تموز 1958، التي جعلت المسيرات فرصة يتجدد فيها إحياء الذاكرة النضالية. (أرسل لي مشكوراً مؤرخ ثورة تموز الأُستاذ هادي الطائي صور مرفقة داعمة لذلك).

يواجه العراق الكثير من التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية والنقابية، كارتفاع معدلات البطالة بين الشباب والخريجين، وعمالة الأطفال، وغياب الحماية القانونية للنقابيين، وانعدام الرقابة على بيئة العمل. ورغم وجود نقابات، إلا أن الكثير منها يُعاني من التسييس أو القيود القانونية التي تحدّ من القدرة على تمثيل العمال بشكل حر ومستقل. واليوم التركيبة السياسية الطائفية والمحاصصة جعلت من الملفات العمالية ملفات مؤجلة أو ثانوية أمام صراعات السلطة، وقوانين العمل غير مفعّلة ولا تواكب التحولات العصرية. ورغم ظروف اللاستقرار الأمني، يظل عيد العمال مناسبة حيوية تعبّر عن طموحات الطبقة العاملة في السعي إلى حياة معاشية كريمة. وفي كل عام، ترتفع الأصوات للتذكير بأن العدالة الاجتماعية تبدأ من احترام العامل، وحماية حقوقه، والاعتراف بدوره في إعادة بناء العراق.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

 

عشية الذكرى اﻟ 76 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 كانون الأول / ديسمبر 1948)، احتفلت البشرية باليوم العالمي لمكافحة الفساد (9 كانون الأول / ديسمبر)، وذلك استجابة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يقضي بنشر الوعي بخطورة ظاهرة الفساد على المستويات السياسية والإدارية والمالية، وذلك انطلاقًا من اتفاقية الأمم المتحدة التي أبرمت في 31 تشرين الأول / أكتوبر 2003، والتي دخلت حيّز التنفيذ في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2005.

فايروسات الفساد

تمتدّ ظاهرة الفساد لتشمل جوانب الحياة كافة، حيث تكمن خطورتها في الآثار السلبية التي تتركها على التنمية والاستثمار وانخفاض الانتاج، حيث تنتشر فايروساته بالتكاثر على عموم جسد الدولة، ابتداءً من تأثيره على حكم القانون ونزاهة الانتخابات، فضلًا عن استشرائه في مفاصل العلاقات السياسية، إضافةً إلى انعكاساته الأخلاقية، التي ستقود إلى تفشّي الرشا وغياب الرقابة والمساءلة، واستبدال ذلك بتسويات سياسية أو صفقات اقتصادية على حساب العدالة، وهو الأمر الذي لا يؤثر على المجتمع فحسب، بل سينعكس على سلوك الأفراد كذلك.

وتُعتبر الأنظمة الشمولية والاستبدادية، سواءً المدنية منها أو الدينية، بيئة صالحة لتفقيس بيض الفساد، خصوصًا بغياب الحكم الرشيد وانعدام الشفافية وشحّ حريّة التعبير وتعطّل المسائلة، وهو ما عكسته تقارير "المنظمة العالمية للشفافية" ، وكذلك "المنظمة العربية لمكافحة الفساد".

وحسب التقارير الدولية لعام 2023، جاءت الدانمارك وفنلندا ونيوزلندا في طليعة دول العالم الأقل فسادًا، وفي الوقت نفسه، كانت بعض الدول مثل سوريا وفنزويلا والصومال في أسفل قائمة البلدان الأكثر فسادًا في العالم. وعلى الرغم من المساعي المبذولة لمكافحة الفساد في العراق، إلّا أنه ما يزال حسب التصنيفات العالمية من الدول الأكثر فسادًا، وقد كشفت ما سمّي بسرقة القرن، التي أثارت ضجّة كبرى في العام 2022 عن تورّط الكثير من كبار السياسيين العراقيين والمسؤولين الحكوميين، الذين ظهروا غارقين في الفساد حتى أذنيهم، وهو ما أثار حفيظة الشارع العراقي، بل والعربي، الذي أخذ يتندّر بسخرية سوداء عن أننا لم ننتهِ بعد من مناقشة "صفقة القرن" حتى داهمتنا "سرقة القرن" .

ووفقًا للمفوضية العليا لمكافحة الفساد فإن أكثر من 1000 مسؤول عراقي رفيع المستوى بينهم وزراء ووكلاء وزراء ومدراء عامين ومستشارين ونواب، ناهيك عن المواقع الأولى في الدولة، كانوا قد اتّهموا بالفساد، وهناك ما يزيد عن 15 ألف ملف من الدرجة الأولى أمام المفوّضية والقضاء.

الفساد ظاهرة عالمية

صحيح أن الفساد يُعتبر ظاهرةً عالميةً، إلّا أن حاجة الدول النامية إلى مكافحته أشدّ بسبب غياب أو ضعف حكم القانون، فضلًا عن شح الثقافة الديمقراطية والحقوقية، وعدم استقرار المؤسسية في العمل على صعيد الإدارة والأفراد، ناهيك عن ضعف الشعور بالمسؤولية وقصور حريّة التعبير والصحافة الاستقصائية.

وكثيرًا ما أخفقت البلدان النامية ومنها البلدان العربية في محاولاتها لمحاربة الفساد، وباءت الخطط بالفشل بسبب غياب وعي جماعي يرسخ ثقافة المساءلة والشفافية والالتزام الأخلاقي، إضافة إلى عدم التعاون بين المؤسسات الحكومية والمنظمات الوطنية والدولية، وحجب حق الاطلاع على المعلومات.

ولكي تسهم الحملات الوطنية لمكافحة الفساد بقسطها، لا بدّ من مشاركة الأفراد والجهات خارج نطاق القطاع العام والمؤسسات الحكومية، مثل منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات والنشطاء المنشغلون بمكافحة الفساد للتصدّي لهذه الآفة الخطيرة، ويحتاج الأمر إلى تحالفات إقليمية ودولية، انسجامًا مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لضمان جهود جماعية وفاعلة للحد من هذه الظاهرة.

الفساد ضدّ الفساد

ثمة فساد من نوع جديد يزعم مكافحة الفساد، حيث أن بعض الجهات الرسمية التي يتم إنشاؤها لمكافحة الفساد سُرعان ما تنخرط هي في الفساد ويسيل لُعابها له طالما لم تتوفر سبل المساءلة الجادة والمسؤولة، وكثيرًا ما يتساءل المواطنون، هل سيضع المسؤولون عن مكافحة الفساد المالي والإداري حدًّا له، أم سيضيف أعباءً جديدة تكرّس البيروقراطية السائدة؟ وأحيانًا يعلو صوت الفاسدين بالحديث عن ظاهرة الفساد ومساوئه في صخب وضجيج يستهدف التغطية على فسادهم، سواء كانوا في السلطة أم خارجها من المتواطئين معها.

ويمكن القول أن الفساد هو الوجه الآخر للإرهاب، وهو الذي يموّله ويغضّ النظر عن تداعياته لتشاركهما في المصالح، كما أنه يسهّل مهماته ويغطّي على مرتكبيه؛ وتتعدّد أسباب الإرهاب اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا، وهو انعكاس لظاهرة التعصّب، وهذا الأخير حين يتحوّل من التفكير إلى التنفيذ يصبح تطرفًا، والتطرّف يصير عنفًا إلى أن يُصبح سلوكًا، وحين يضرب العنف عشوائيًا يُصبح إرهابًا، وحين يستهدف إضعاف ثقة الدولة بنفسها وإضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة ويكون عابرًا للحدود يوصف بأنه "إرهاب دولي".

جبهات مكافحة الفساد

للوقوف ضدّ ظواهر الفساد وذيوله، لاسيّما التي ترتبط بالمحاصصة والطائفية والانتماءات الضيّقة على حساب الهويّة الوطنية، وتغليب المصالح الخاصة على المصلحة العامة يتطلّب العمل على أربع جبهات؛ الجبهة الأولى - بناء المؤسسات وتوطيد الأطر المؤسسية وتعزيز الشفافية في القطاع العام وعموم أجهزة الدولة؛ أمّا الجبهة الثانية - فهي القضاء، الذي لا بدّ له أن يكون مستقلًا ونزيهًا ومحايدًا وعادلًا في إطار حكم القانون، بحيث يكون رادعًا؛ والجبهة الثالثة - تتمثّل في إعادة النظر بالتشريعات والقوانين النافذة، وسن طائفة جديدة منها، التي تنسجم مع القوانين الدولية التي تحارب منظومة الفساد؛ والجبهة الرابعة - رفع مستوى الوعي بخطورة هذه الظاهرة والتثقيف ضدّها وإشراك منظمات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات للقيام بدورها التوعوي والتنويري.

ولا بدّ للشباب من القيام بمبادرات وأنشطة من شأنها عرض بعض التجارب الدولية والإقليمية والتدريب والتربية على سُبل مكافحة الفساد، والدعوة إلى تفعيل آليات عملية لتعزيز المساءلة والشفافية وكشف جراثيم الفساد المنتشرة تحت أسماء مختلفة، باعتبارها "ثقافة" تقوم على "التذاكي" و"التشاطر"  و"التكسّب" و"الفهلوة" على حساب تنمية البلاد وتطوّرها، ونزاهة الأفراد والمؤسسات وصدقيتها.

بريمر وفساده

يكفي أن نشير إلى ما فعله الفساد في بلد خرج لتوّه من رحم الديكتاتورية، فخلال عام واحد من حكم بول بريمر السفير الأمريكي المطلق الصلاحيات في العراق (13 أيار / مايو 2003 - 28 حزيران / يونيو 2004)، بدّد لوحده نحو 8 مليارات و800 مليون دولار، وذلك بعد أن تعرّضت الدولة العراقية إلى عملية نهب منظّمة خارجية وداخلية، إقليمية ودولية، وذهب نحو تريليوني دولار، وهي واردات النفط خلال عقدين من الزمن، هباءً منثورا دون حصيلة تُذكر.

وكان بإمكان هذه المبالغ الطائلة إعادة إعمار العراق وترسيخ كيانيته ووحدته الوطنية وتحقيق السلام المجتمعي، لكن الفساد الضارب الأطناب شكّل عائقًا جديًا أمام تطوّر الأوضاع المعيشية والخدمية والصحية والتعليمية والبلدية والبيئية، بما فيها الماء الصافي والكهرباء والبنى التحتية، خصوصًا في ظلّ زيادة السكّان والتغيّرات المناخية وزيادة التصحّر والجفاف، ولم تنفع جميع محاولات الاحتجاج الشعبية، التي شهدتها بغداد وبقية المحافظات العراقية.

محنة القضاء

وشاعت ثقافة السخرية في مجتمع لم يعرفها إلّا ما ندر، وفقد مصطلح مكافحة الفساد الكثير من معانيه، بل أصبح "شعاراً" يتشبث به الفاسدون أيضًا، وربما قبل غيرهم، حيث يتجرؤون على اتهام خصومهم، أو التواطؤ مع فاسدين آخرين للانتقام أو الثأر أو الكيدية، من المنافسين السياسيين. وقد بيّنت التجربة أن ليس كل من يزعمُ مكافحة الفساد حريص على المال العام، لاسيّما حين يتم غض النظر عن بعض الملفات وإشهار أخرى، فمن يريد مكافحة الفساد حقاً لا يتّجه لزج القضاء في علاقات نفوذ، وتواطؤ مع من يسعى للتسقيط السياسي، أو النيل من منافس، وهناك أمثلة عدة على ذلك، جرت تسوية ملفاتها بعد ضجة صارخة، وتشويه سمعة، ووقف القضاء في الحالين عاجزاً، أو مغلولاً، لاسيّما في ظلّ أعمال العنف والتداخلات العشائرية، وإن كان هناك أمثلة إيجابية جريئة دفع بعض القضاة ثمنها باهظاً، علمًا بأن القضاء العراقي، بغضّ النظر عن الضغوط والتداخلات والتحدّيات السياسية التي تعرّض لها في السابق والحاضر، فقد ظلّ وفيًا لسيادة العدل وإحقاق الحق على الرغم مما أصابه من تصدّعات.

وفي الختام أقول ليس المهم إكثار الحديث عن الفساد وتشكيل الهيئات واللجان، والبحث عن انتشاره، وتسطير توصيات لمكافحته، بل تمكين المؤسسات والأفراد وتنظيمات المجتمع المدني لمكافحته، وتحصين الإدارة بالوقاية، والحماية، والإجراءات الفعّالة لتطويقه، وحصره.

***

د. عبد الحسين شعبان

مفكّر وأكاديمي

 

يغلب التوهم والشطط الادراكي للحظة في الموضع المنطلق حيث  تبلورت الظاهرة المجتمعية، لاسباب في مقدمها حضور او غياب الديناميات الناظمه للمكان بحسب الطور الزمني، فاذا كانت الديناميات الشرق متوسطية في حال غياب وحصل الانقلاب الالي، وان بصيغته الابتدائية الافتتاحية، مع قوة حضوره الكاسح نموذجا وتفكرا، فان المتوقع ساعتها يكون بالحتم شكلا من اشكال الحضور المتماهي مع الاخر، بما في ذلك القول ب "النهضة" باستعارة ماهو واقع لدى الاخر المقابل، يجاريه وينطق بمقابله بنوع من "نهوض زائف" منفصل عن فعل آلاليات التاريخيه الذاتيه، الامر الذي لن يعدم الاسباب المحفزة والحاضرة من بين اجمالي تنوعات البنية المجتمعية مدار البحث،  وبالذات منها المقارب نوعا نمطيا للنمطية الغربية من بين  تلك الموزعه على بضعة انماط مجتمعية متكامله، مابين ازدواج ارضوي لاارضوي رافديني، ومجتمع دولة احادية نيلي، ومجتمع لادولة احترابي محكوم لاقتصاد الغزو في الجزيرة العربية، ومجال مفتوح غير قابل للتبلور الكياني، شامي.

والمهم الاخطر الغائب هناهو الانتباه الى احتمالية حلول زمن نوعي انتقالي بمرويتين: اولى آنية يدوية الاساس، واخرى متاخرة منتظرة، معها  تصبح الادراكية المفهومية العقلية متطابقة مع اشتراطات الطور الحالي، فالغرب الذي عرف الانبجاس البكوري الالي بصيغته الابتداء المصنعية، لم يكن في وضع ادراكي مكتمل، لان الظاهرة المستجده لم تكتمل اصلا بعد، فما كان بالامكان وقتها وحتى الساعه، النظر الى الالة بغير الموروث والراسخ من التصورات والمفاهيم العائدة الى ماقبلها من حيث الجوهر، بانتظار بقية محطات ومراحل الانقلابيه المستجدة بعد الاله المصنعية، ذهابا الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، قبل الاخيرة العليا الموشكة على الحضور، مايعني اختلافا كليا في قواعد النظر للمستجد الشامل الحاصل، مابين ابتداء اولي غير مكتمل، وآخر هو "انقلابيه عظمى"  نحو عالم آخر مختلف على مستوى النظر و الوسائل، واجمالي العلاقة بالتاريخ والوجود ومساراته، مع الاليات الناظمه لحركته ومستهدفاته.

هذا السياق يدخل عملية التفاعل الشرق متوسطي الاوربي الحداثي، مسارا يذكر بحالة انصبابية اوربيه/ شرقية  سابقه، صارت اليوم مقتصره على الغرب الاوربي ذهابا الى ماينتج عنها وعن تفاعليتها بين موضعين حكمتهما على مر التاريخ مثل هذه العلاقة، كما كان عليه الحال ابان الانصبابية الرومانيه الفارسية ومانتج عنهما من اختراقية كونية مضادة صادرة عن المنطقة الشرق متوسطية، منطقة الانماط الثلاثة والمجال الوسط، امتدت من الصين الى اوربا غربا، الامر الذي لم يسبق ان جرت ملاحظته فضلا عن التوقف عنده من قبل، مايجعل من غير المنتظر حضور اي شكل من اشكال استعادتة كواقعه تاريخية تفاعلية كبرى نوعية، تتعلق بخاصية الازدواج المجتمعي المغيبه على مر التاريخ.

ولنتصور لو انه قد جرت عملية تحديد مراحلية كونية ابعد من النطاق الاوربي للانقلاب الالي تقول: بان العملية المذكورة تبدا اوربية وتنتهي شرق متوسطية، تبدا احادية ارضوية وتنتهي  تحولية عظمى ينتهي عندها التاريخ الارضوي المجتمعي الحاجاتي، يوم تنبثق بعد التفاعل المديد الاصطراعي الشامل، النطقية اللاارضوية المؤجله، والتي ظلت الى اليوم خارج الادراكية العقلية، خاضعة لاشتراطات اليدوية، تلك التي تنطوي على الرؤية التحولية الكبرى البشرية من "الانسايوان" العقل/ جسدي الانتقالي، الى " الانسان/ العقل"، وهو الهدف والغرض الفعلي  الحاكم اليوم، ومع الانقلاب الالي لعملية التشكل المجتمعي كونيا، مايعني كون الانقلاب الالي مازال طي المستقبل، وانه لم يحصل بمعنى الاكتمال،  حتى الساعه.

هل المنطقة خالية كليا من حضور الاليات الذاتية؟ لايمكن  الاجابه على سؤال من هذا القبيل اشارة لما هو غير مدرك، فالمنطقة ماتزال غير واعية لذاتها، ولا لاليات تاريخها، وهي تظل على مدى القرون تعيش تاريخها بلا وعي للذاتيه المجتمعية، مايجعلها اقرب اليوم للاحتفاء ب " نهضة" محمد على الالباني وعفلق السوري، متغاضية كليا عن احتمالية الانبعاثية مابين النهرينيه التي تبدا مع القرن السادس عشر، اي قبل بداية الانبجاس الالي الاوربي، بعد فترة  من الفوضى استمرت من انهيار الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، مع سقوط عاصمة الامبراطورية الكونيه بغداد عام 1258،  الى القرن السادس عشر حين قام "اتحاد قبائل المنتفك" في ارض سومر التاريخيه، ارض الدورة الاولى الازدواجية،  والبدئية المجتمعية وتعبيريتها  الكونية اللاارضوية الابراهيمه، لنشهد اليوم عملية تشكل تاريخي حديث يبدا قبليا، ثم انتظاريا نجفيا، ثم ايديلوجيا، قبل ان يدخل طور الفنائية الكيانيه الوجودية الحالية.

وهو مسار مغفل غيرحاضر على مستوى الوعي، حيث القصورية العقلية التاريخيه تتحول اليوم الى معضله عالمية كبرى، مع التازم الغربي المتعاظم، وتزايد التفارقية بين وسيله الانتاج وشروط الانتاج الجسدية، بينما متبقيات "النهضوية الزائفة" الايديلوجية الحضاروية في حال انهيار وترد، تقابله محاولة تسييد نمطية مغايرة للخاصيات التاريخيه، على قاعدة الريع النفطي والتدخلية الامريكيه المباشرة، بغطاء تشبهي زائف ابراهيمي،  خارج عن حكم الاليات التاريخيه، في وقت تتزايد مظاهر الانهيار النموذجي الغربي، مقابل غلبة الكيانيه الامريكيه المفقسه خارج رحم التاريخ، بينما الديناميات الانتاجية تنتقل تباعا الى مابعد مجتمعية وكيانيه، وماوراء دول وممارسات حياتيه جسدوية يدوية  منتهية الصلاحية، يخيم عليها شبح ينتمي لاحتمالية الفنائية.

العالم على مشارف الانقلاب والثورة العظمى الانقلابيه التحولية، بينما تتاكل وتسير للانهيار متبقيات المبتنيات الكيانوية والمفهومية الارضوية الجسدية، وبالذات منها وعلى راسها التوهمية الغربية الجاري الاصرار على اعتمادها والتمسك بها في غير اوانها، وبعدما فقدت مصداقيتها واقعا معاشا، بالمقابل لا تاخذ الانقلابيه المفهومية لاسباب غير عادية مكانها المفترض بين ليله وضحاها، وفي حين تجر ي محاولات معزوله ومؤطره بالتجاهل العمد او بسبب العجز عن الاستيعاب، لارساء بدايات انتقالية  تفتح الباب لعملية ازاحة متبقيات الهيمنه الارضوية اليدوية، فان كل ماهو مودع في الذاكرة والوجدان البشري، وفي طريقة النظر الى الاشياء والى الذات والوجود، يقف مايزال بقوة سدا مانعا دون حصول الاختراقية اللاارضوية، بغض النظر عن ظهور بدايات ماتزال خارج الاستيعاب او الوعي(2)، بانتظار حضورية تطابقية وقائعا وحدثيا، مع ماهو مذاع  ولازم وشيك من نداء انتقالية عظمى ماتزال خارج الانتباه.

***

عبد الأمير الركابي

 

الشرق الأوسط حقل تجارب لصراعات القوى العظمى؟

الأديان ساحة معركة: من يحارب باسم الله؟

***

لا تخفى على متأمل في أحوال الشرق الأوسط اليوم حقيقة مرة: أن الفوضى العارمة التي تكتسح المنطقة ليست وليدة الصدفة، ولا هي مجرد انتفاضة شعوب عطشى للحرية فحسب. بل هي، وكما يخبرنا التاريخ حين يقرأ بعين ثاقبة، حلقة من حلقات مسلسل طويل من التآمر العالمي، تديره أياد خفية تحمل أختام الماسونية والصهيونية، وتستظل بخيانة حكام تخلوا عن عروبتهم قبل أن يتنكروا لشعوبهم. 

المؤامرة.. ليست وهماً! 

من ينكر نظرية المؤامرة اليوم، كمن ينكر حرق نيرون لروما! التاريخ، منذ اتفاق سايكس-بيكو إلى وعد بلفور، إلى غزو العراق، وإلى "الربيع العربي" المشبوه، يخبرنا أن المنطقة لم تكن يوماً ساحة لصراع القوى العظمى فحسب، بل ميداناً لتنفيذ مشاريع استعمارية تهدف إلى تفكيك الهوية وإعادة تشكيل الخريطة بما يوافق مصالح الكيان الصهيوني. فكيف لنا أن نفسر تزامن الحروب الأهلية، وتفتيت الدول، وتغيير الحلفاء، وخروج الثوابت السياسية عن مسارها، إلا بضغطة زر من غرفة تحكم في عاصمة غربية أو تحت أنقاض هيكل مزعوم؟ 

ليس غريباً أن تتحول الفضائيات ومواقع التواصل إلى ساحات لحرب نفسية تذيب العقول قبل الأجساد. فالثورة الإعلامية التي يزعمونها "تحريراً للرأي" هي في حقيقتها آلة لتزييف الوعي، تصنع الأعداء وفق القلب، وتبرر الغزو باسم الديمقراطية، وترفع شعارات الحرية بينما تدفن الحقيقة تحت ركام الأكاذيب. ألم يكفنا أن الإعلام الغربي يعلق على دموع الأطفال في غزة بينما يبرر قتلهم باسم "الحق في الدفاع عن النفس"؟! 

رغم ذلك، فإن المفارقة الأقسى هي تنامي الحس الإنساني لدى شعوب المنطقة رغم القهر. فالشاب العربي اليوم يقرأ التاريخ بعين نقدية، ويربط بين النقاط بين الماضي والحاضر، ويرى أن الفوضى ليست قدراً، بل نتيجة لسياسات ممنهجة. والسؤال الآن: هل ستنجح هذه الشعوب في كسر حلقة المؤامرة، أم أن التضحيات ستذهب سدى كما حدث في مآس سابقة؟ 

التاريخ يعيد نفسه.. فمن يتعلم؟ 

لطالما كان التاريخ ساحة لصراع الإرادات. وإذا كانت المؤامرات قادرة على صنع فوضى، فإن إرادة الشعوب قادرة على صنع مستقبل يكسر القيود. فهل ننتظر جودو ليخلصنا، أم نكون نحن البناة الحقيقيين لتاريخ جديد؟ الجواب يكمن في ذاك الحس المشبوب بالغضب والأمل الذي يملأ شوارع بغداد ودمشق والقاهرة وغزة.. فلا يأس مع الحياة! 

إذا كانت الفوضى في الشرق الأوسط تشبه زلزالاً لا يتوقف عن الهز، فإن يداً خفية تحرك الصفائح التكتونية للتاريخ من خلف الستار. فما نراه اليوم من دمار وتفتيت ليس انهياراً تلقائياً، بل هو "فوضى منظمة" تدار بمزاج القوى الكبرى، وتوجه نحو أهداف محددة: إضعاف المقاومة، تفكيك الهوية، وإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لخرائط جديدة تكرس التبعية والانقسام. 

لا يخفى على أحد أن الكيان الصهيوني هو أكبر مستفيد من هذه الفوضى. فكلما اشتعلت حرب أهلية في دمشق أو بغداد، ازدادت شرعية "إسرائيل" كـ"واحة استقرار" في محيط مضطرب! والأمر لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه إلى اختراق الاقتصادات العربية عبر شركات وهمية، والتغلغل في الإعلام لترويج "ثقافة الهزيمة". حتى بات بعض العرب يصدقون أن السلام مع العدو هو الحل الوحيد! 

الإعلام: سلاح التضليل الأكثر فتكاً 

في عصر "الحروب الهجينة"، لم يعد السلاح التقليدي هو الأشد فتكاً، بل الإعلام. فبينما تقصف غزة، تتحول الفضائيات إلى منصات لتبرير المجازر أو ليّ الحقائق. والمؤسف أن بعض العرب انضموا إلى هذه الآلة الإعلامية، فصاروا يروجون للأجندة الصهيونية دون أن يشعروا! 

الشرق الأوسط اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستمر في لعبة الفوضى، أو ينتفض ليكتب تاريخه بنفسه. والخيار ليس صعباً.. فالشعوب التي قاومت، انتصرت. والباقون سيدفنون في صفحات التاريخ كخونة أو خونة! 

ليس غريباً أن تتحول بوصلة السياسة الدولية نحو الشرق الأوسط، فمنذ أن أدرك الاستعمار القديم أهمية المنطقة الجيوستراتيجية، واللعبة الكبرى مستمرة. لكن الجديد اليوم هو تحول المنطقة إلى "مختبر مفتوح" لتجارب العصر: من حروب الجيل الرابع إلى هندسة المجتمعات، ومن اقتصاديات الحروب إلى اختراق السيادات الوطنية تحت شعارات براقة. 

لم تعد الحروب التقليدية هي الأداة الوحيدة للهيمنة. اليوم، نرى "حروب العقوبات" التي تحولت إلى أداة لإخضاع الأمم. من حصار العراق في التسعينات إلى عقوبات إيران وسوريا اليوم، تظهر معادلة واضحة: "أفقر الشعب تسيطر على القرار". والغريب أن المؤسسات المالية الدولية أصبحت أدوات تنفيذ لهذه السياسات، بينما تتحول البنوك إلى حراس للهيمنة الغربية. 

الثورات الملونة: عندما تتحول الأحلام إلى كوابيس 

ما يسمى "الربيع العربي" لم يكن سوى فصل جديد من فصول تفكيك المنطقة. اليوم نرى الحصاد المر: دول منهارة، هويات ممزقة، ومجتمعات تعيد تعريف نفسها بقوة السلاح. اللافت أن نفس أدوات "صناعة الثورات" تتكرر: من منظمات المجتمع المدني الممولة خارجياً إلى قوى إعلامية تزرع الفتنة تحت شعار التغيير. 

أصبح الخطاب الديني سلاحاً ذا حدين. من جهة، نرى "الإسلاموفوبيا" كأداة لتبرير العدوان، ومن جهة أخرى نرى الجماعات المتطرفة كأداة لضرب استقرار الدول. المفارقة أن نفس القوى التي تدعي محاربة الإرهاب هي من صنعته وموّلته في ثمانينيات القرن الماضي. اليوم، تحولت سوريا والعراق وليبيا إلى ساحات لتصفية الحسابات تحت غطاء ديني. 

بين حرية التعبير واستعمار البيانات 

في عصر الثورة الرقمية، لم تعد الحدود الجغرافية كافية لحماية السيادة. منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى أدوات للتأثير السياسي، وشركات التكنولوجيا الكبرى أصبحت لاعباً أساسياً في تشكيل الوعي الجمعي. الأسئلة المقلقة تتكاثر: من يملك بياناتنا؟ كيف تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتوجيه الرأي العام؟ ولماذا أصبحت "الرقمنة" شكلاً جديداً من الاستعمار؟ 

في مواجهة هذه العواصف، تبرز المقاومة الثقافية كخندق أخير. من إحياء التراث الفلسطيني إلى صمود الهوية اليمنية، تثبت الشعوب أن الثقافة يمكن أن تكون سلاحاً أقوى من الدبابات. هنا يبرز سؤال المصير: هل نستطيع تحويل تراثنا من مجرد ذاكرة إلى مشروع مستقبلي؟ 

رغم كل هذا الظلام، تبقى المقاومة هي الأمل الوحيد. تثبت الشعوب أنها قادرة على كسر القيود. والسؤال الآن: هل نتعلم من الدروس؟ فالتاريخ يعلمنا أن الأمم التي توحدت أمام المؤامرات، استطاعت أن تصنع مصيرها. 

هل نستحق البقاء؟ 

التاريخ لا يرحم الضعفاء. أمام هذا المشهد المعقد، لم يعد أمام شعوب المنطقة إلا خياران: إما الاستسلام لمشروع الفوضى الخلاقة، أو إعادة اختراع الذات من خلال: 

1-  بناء وعي جمعي قادر على قراءة المؤامرات

2-  إعادة تعريف مفاهيم السيادة في عصر العولمة

3-  تحويل الأزمات إلى فرص للبناء الحضاري

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل نتعلم من دروس الماضي أم نكرر أخطاءنا؟ الجواب لن تجده في الكتب، بل في إرادة الشعوب التي ترفض أن تكون ضحية للتاريخ.

***

د. عبد السلام فاروق

كتبت وول ستريت جورنال ان فرض الرسوم الجمركية كان من المفروض ان يقوي من سعر صرف الدولار، ولكن ما حصل هو العكس تماما. منذ منتصف يناير حتى الان فقد الدولار حوالي 9 ٪ من قيمته مقابل سلة من  اهم العملات. حدث خُمسا هذا الانخفاض منذ الأول من أبريل، حتى مع ارتفاع عائد سندات الخزانة الأمريكية لعشر سنوات تدريجيًا بمقدار 0.2 نقطة مئوية. هذا المزيج من ارتفاع العائدات وانخفاض قيمة العملة يُنذر بالخطر: إذا ان المستثمرين  يهربون رغم ارتفاع العوائد، فلا بد أن ذلك عائد إلى اعتقادهم بأن أمريكا أصبحت أكثر خطورة. تنتشر شائعات بأن كبار مديري الأصول الأجنبية يتخلصون من الدولار الأمريكي.

تقول مجلة الإيكونيميست البريطانية، لعقودٍ من الزمن، اعتمد المستثمرون على استقرار الأصول الأمريكية، جاعلة منها ركائز للتمويل العالمي. يساهم عمق سوقٍ بقيمة 27 تريليون دولار في جعل سندات الخزانة الأمريكية ملاذًا آمنًا؛ إذ يهيمن الدولار على تداول كل شيء، من السلع والبضائع إلى المشتقات المالية. ويدعم هذا النظامَ الاحتياطي الفيدرالي، الذي يَعِدُ بمستويات منخفضة للتضخم، والحوكمة الأمريكية المتينة، التي تُرحّب بالأجانب وأموالهم وتُؤمّن لهم الأمان. في غضون أسابيع قليلة، استبدل الرئيس دونالد ترامب هذه الافتراضات الراسخة بشكوكٍ مُقلقة.

ان دخول الاقتصاد الأمريكي في حالة ركود حسب معظم المراقبين بات امرا واردا نتيجة لفرض الرسوم الجمركية، مما سيضطر الفدرالي الامريكي الى خفض أسعار الفائدة ( قام ترامب بتهديد السيد بأول رئيس الفدرالي بإعفائه من منصبه ). ان خفض أسعار الفائدة سيكون امرا ضروريا خاصة اذا سات الاحصائيات الخاصة بسوق العمل. مما سيؤدي الى زيادة في انخفاض للدولار امام العملات الأخرى.

وفي سياق متصل، اعلن صندوق النقد الدولي اثر اجتماعات الربيع المنعقدة في واشنطن حاليا، الى خفض من توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي وذلك من 3 ٪ الى 2.8 ٪ كما حذر من المخاطر المتزايدة والمحتملة على النظام المالي والمصرفي العالمي.

ان انخفاض الدولار الأمريكي سيكون له تداعيات مهمة على اقتصادات دول الخليج، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالأسواق المالية العالمية، كما ان عملاتها مربوطة بسعر صرف الدولار وفيما يلي اهم القنوات التي سيتجلى فيها تأثير هذا الانخفاض:

الإيرادات النفطية: الدول الخليجية تعتمد بشكل كبير على الإيرادات النفطية، وبما ان النفط مسعر بالدولار، فان انخفاض الدولار قد يخفض إيرادات هذه الدول مقابل العملات الأخرى. ورغم احتمال ارتفاع سعر النفط. نتيجة لانخفاض الدولار غير ان ما شهدناه خلال الأسابيع الماضية هو انخفاض كبير في أسعار النفط، لذلك، هناك انخفاض في قيمة الدولار كما ان الأسعار انخفضت نتيجة الى الزيادة في الإنتاج التي قررتها أوبك بلس. ان انخفاض أسعار النفط بالإضافة الى انخفاض سعر الدولار وبالتالي انخفاض أسعار صرف عملات دول الخليج مقابل العملات الأخرى سيعقد من وضع الموازنات العامة في دول الخليج وقد يؤدي ذلك الى عجوزات في هذه الموازنات.

ان انخفاض قيمة الدولار ستجعل من الصعب الحصول على قروض مقومة بالدولار وخاصة بأسعار تنافسية مما سيؤثر على خدمة الدين العام. رغم ان معظم دول الخليج لا تزال تتمتع بملاءة جيدة للاقتراض غير ان ذلك لن يستمر طويلا اذا واصل الدولار نزوله.

المسالة الأخرى، هي موضوع إدارة الاحتياطيات الأجنبية، دول الخليج تحتفظ بجزء كبير من احتياطاتها بالدولار الأمريكي، سيؤدي انخفاض سعر صرف الدولار الى انخفاض قيمة هذه الاحتياطيات، مما سيؤثر على الاستقرار المالي في هذه الدول ومما سيجعل هذه الدول تبحث في استراتيجيات جديدة في مجال الصرف الأجنبي. كما تحتفظ معظم الصناديق السيادية بأصول بالدولار مما يسبب لها هذا الانخفاض هبوط في أرباحها وربما خسائر في حالة إعادة تقييمها.

الواضح جدا ان انخفاض سعر الدولار وبالتالي انخفاض أسعار صرف عملات دول الخليج، سيرفع من قيمة الواردات، وخاصة ان هذه الدول تستورد تقريبا معظم السلع والخدمات من الخارج، فنتيجة لذلك سترتفع أسعار هذه السلع وخاصة السلع الغذائية. ان ارتفاع أسعار السلع وبالذات السلع الغذائية سيكون له تأثير كبير على الفئات الفقيرة والمتوسطة. ان هذا الارتفاع في أسعار السلع والخدمات سيرفع من معدلات  التضخم في هذه الدول.

صحيح ان انخفاض الدولار سيؤدي الى ان صادرات دول الخليج ستكون اكثر تنافسية في السوق العالمية، وبالتالي ستستفيد هذه الصادرات من هذا الانخفاض. غير ان معظم الصناعات الخليجية تعتمد على المدخلات المستوردة، فقيمة هذه المدخلات سترتفع أسعارها نتيجة لانخفاض سعر الدولار.

ستستفيد. السياحة من انخفاض الدولار ومن انخفاض قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأخرى. قد يؤدي ذلك الى زيادة في عدد السواح. نظرا لانخفاض قيمة العملة. ولكن انخفاض قيمة العملة أيضا سيؤثر سلبا على السياح الخليجيين، حيث ان الأسعار ستكون مرتفعة بالنسبة لهم في البلدان التي سيقومون بزيارتها.

بالنسبة للعمالة الوافدة: ان عدد كبير من العمالة الوافدة تقوم بتحويل جزء كبير من دخلها الى بلدانها. الانخفاض في قيمة العملة سيؤدي الى انخفاض في قيمة الأموال المحولة ومما سيرفع من رواتب العمالة الأجنبية لتعوض هذا الانخفاض.

ارتباط العملات بالدولار : عملات دول الخليج مرتبطة بالدولار الأمريكي (عدى الكويت الى حد ما، تربط عملتها بسلة من العملات يهيمن عليها الدولار)، انخفاض الدولار ممكن يؤدي الى تغيير في السياسات، بما في ذلك تغيير في أسعار الفائدة او إعادة تقييم لربط العملة.

الواضح ان ارتباط سياسة سعر صرف عملات دول الخليج بالعملة الامريكية، وان كان لفترة طويلة كان مناسبا واستفادت دول الحليج من استقرار الدولار. ان دخول الاقتصاد الأمريكي في مرحلة عدم اليقين وخاصة اذا ادركنا ان الدين العام وصل الى مرحلة خطرة مما سيهدد باستقرار هذ العملة، فقد يكون من المناسب ان تبحث دول الخليج خيارات ربط عملاتها بسلة من العملات او تعويم عملاتها او البحث في خيارات أخرى وخاصة بعد ان توقف قطار توحيد وتقريب عملات دول المجلس.

***

علي الرئيسي - باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية

..................

* نشرت بالتزامن مع صحيفة الرؤية العمانية.

 

امتثلت رؤية الأنظمة العربية لواقع التبعية المشبوهة المفعمة بالشر، واعتمدت تلك الأنظمة على سياسةٍ قمعية بحقِ شعبها على امتداد الساحةِ العربيةِ المتراميةِ الأطراف، وانحازت بمجملها إلى جانب القوى الأجنبية الخارجية، وبذلك تلاشت السيادة، وتلاشى الاستقلال والتحرّر.

ومن خلالهم ووفق توجيهات من يدعمهم تشوّهت الرسالة الإعلامية، كما الرسالة الثقافية والتربوية، وبرزت ثوابت الانتهازية والفساد والتكبّر والإقصاء والقمع.

كما تلاشى الحقّ العربي منذ سنواتٍ طوال، وتلاشت أيضاً اللحمة العربية أيضاً، حيث عجزت كل القمم العربية من توحيد الصف العربي، ومن تطوير مشروع الأمن القومي العربي، أو أي مشروع واضح المعالم والأهداف، يجمع العرب ويوحّدهم، رغم كثافة طاقتهم وقدرتهم وثرواتهم، وعلى الأقل على المستوى الإقتصادي، أو التعاون العسكري، أو حتّى تطوير المؤسسات التربوية. لكنهم نجحوا فعلاً في مُطاردةِ المواطن العربي وقمعه ومحاربته في أمنه الغذائي والصحي.

لذلك فرغت الساحة العربية من المفكرين ومن السياسيين الجادين في عمل أي خطوةٍ إيجابية ٍ نحو الأمام.

كما انتشرت الإجتهادات الغوغائية التي تلعب دورها أيضاً في تمزيق الأمّة والموقف العربي.

فهل يُعقل أن الأنظمة العربية والحكّام العرب عجزوا فعلاً عن رؤية الطريق الصائب نحو بناء الإنسان العربي المبدع والمبتكر والحفاظ على كرامته وسيادته.

من خلال هذا الواقع المتردي إنتشرت شعارات دخيلة على الساحة كأن يُقال الأردن أولاً أو لبنان أولاً. في الوقت الذي يُعاني فيه الشعب الفلسطيني وتواجهه مشروعات إبادة، لكنه لا يزال صامداً ومقاوماً وهو يتطلّع بشغف إلى دولته على رقعة جغرافية من وطن، كما رسمها لهم العرب.

إن الذي أوقف وحدة الشارع العربي، وثقافة التعايش العربي والإعتزاز، وامتلاك الهيمنة والقوة، وعلى كل المستويات، أسباب عديدة.

مثل القمع الذي مارسته الأنظمة العربية بحق المواطن، والذي أثار الكراهية بين الشعب الواحد، فهناك شريحة واسعة من الناس تم حرمانها من الوظائف بسبب رؤيتها للواقع المُعاش، أو لموقفها السياسي، وبقيت الوظائف في الدولة محجوزة لمن يوالون النظام القائم.

وكثيرون من الناس تتم ملاحقتهم ويتم زجّهم في السجون، ومنهم من تمت تصفيته، ومنهم أيضاً من فرّ إلى خارج البلاد.

كافة الأنظمة العربية تُكرّم على الدوام من يواليها، كما تُقدّم جماعة على أخرى، وطائفة على أخرى، وتنحاز بشكلٍ جلي لصالح مجموعة سياسية على حساب مجموعات سياسية أخرى.

الجميع يعلم أن كل الدول العربية في القرن الماضي تحررت من الاستعمار الفرنسي والبريطاني والإيطالي، وأعلنت إستقلالها، لكن هذا الاستقلال تبرعت به الأنظمة العربية مرة أخرى للقوى الإستعمارية من خلال التبعية الشريرة التي تحكم العالم العربي كله.

الأنظمة العربية نفسها هي التي اجتهدت ونشرت قيم الفساد والنفاق والكراهية، وفرّقت الناس عن بعضهم، ونشرت فيما بينهم الأحقاد والفتن لسببٍ وجيهٍ واحد، أن الأنظمة القمعية المشبوهة ليس بوسعها أن تكون لصالحِ المواطن والمجتمع، بل تضخ بين مواطنيها كلّ أشكال الفتن كي يبقى الحاكم على الكرسي كحارسٍ أمين للمجتمع وللدولة من وجهة نظرها.

وهذا يكفي وكما يشاء الغرب أن تتدهور الدول العربية، حتّى أن أي حاكمٍ لم يعد بمقدوره تحقيق التآلف في وطنه.

تمزّقت الهوية العربية، وبالتالي تشوّهت هوية المواطن أمام نفسه والآخرين.

علينا أن لا ننسى أن تجّار الدين المقرّبون من الأنظمة الذين أباحوا لأنفسهم أن يقوموا بالإفتاء في مختلف الأمور نيابةً عن الأمّة، ووجّهوا الأمور ليس وفق التعاليم الإلهية، بل وفق مصالحهم ومصالح الحاكم، وكما يُملى عليهم.

ومعظم هؤلاء فتحوا درب التمزّق والاقتتال، لذا انتشرت العديد من الجماعات الإسلامية التكفيرية المتشددة والمتطرفة، وكلّ منها يدّعي أنه يملك مفاتيح الجنّة ومجموعته هي الفائزة.

هؤلاء تحوّلوا إلى خلفاء الله على الأرض ولديهم التفويض المطلق لتوزيع الناس، هذ إلى الجنة، وذاك إلى النار، ويجب قتله.

وأصبحت كل جماعةٍ تُكفّر الأخرى، بل وتُخرجها من ملّةِ الإسلام، وبالتالي انتشرت الفتن المذهبية.

ويبقى المواطن وحده هو الذي يدفع ثمن العهر السياسي للدولة والفتن المذهبية، دماً غزيراً في كلّ بقعةٍ جغرافيةٍ عربية.

وانحاز الإعلام العربي الأسود والمشبوه للفرق الضالة، ضد فرقٍ أخرى، وهو يُمجّد بسلطان الدولة، فغرقَ العربي في التشويه والتضليل الذي زاد الهوّة بين الناس وغُيّبَ وإلى الأبد أي مشروعٍ عربي موحد.

مشكلتنا الأساسية نحن العرب بأننا نفتقد الطموح والإبداع، ولا نريد أن نتعلّم ونسمو بالعقلِ وبالفكرِ والتحليل الموضوعي لكل مشاكلنا، ولكل الظواهر السياسية والاجتماعية التي نعاني منها.

وستبقى الأوضاع تتدهور ويتحكّم بنا الأجنبي الذي يُسيّرنا وفق مصالحه ومخططاته المدمّرة، ما دام التفكير غائباً، والفهم العقلاني لمجريات الأمور لا يُؤخذ به، ولا تأتي الصحوة إلاّ بعد أن يبلغ نزيف دماء الساحة العربية حدّه الأقصى، وعندما تقع الفأس على الرأس، حينها يمكن أن نفكّر.

مع الأسف معظم مشاكلنا ونزيفنا الدموي لم يتوقّف ما دامت هناك دول عربية تقوم بسكب الزيت على النار وعلى الدوام، بسبب الخلاف العربي - العربي.

والكيان الصهيوني يلعب دوراً مهماً في هذا المجال، فلقد إستطاع أن يكسب ود بعض الأنظمة العربية التي أصبحت حليفة له، ووفيّة للكيان الصهيوني وتُنفّذ كل أوامره وطلباته.

كما أن الكيان الصهيوني يعنيه تماماً إضعاف العرب وتمزيق العرب، من خلال ممارساته في إشعال الفتن وتمزيق كلّ ما يمسّ النسيج الاجتماعي والأخلاقي والإنساني العربي.

بكل تأكيد إن المسؤولية تقع علينا حول التدخل الصهيوني والخارجي بشؤوننا، لأننا ربطنا تبعيتنا معهم وبهم، ومن خلال هذه التبعية قاموا بفتح كلّ الثغرات في بلادنا، إن كانت اجتماعية أو ثقافية أو عسكرية وسياسية واقتصادية، وأصبح هو الذي يتحكّم بنا وبمسيرتنا.

إذاً العرب أنفسهم هم الذين يسمسروا على أوطانهم وعلى أنفسهم، وبذلك أصبح العداء بين العربي والعربي أشدّ وأقسى من عدائنا لكل الأعداء الخارجيين بما فيهم الكيان الصهيوني.

مع الأسف أمّتنا تعيش أسوأ أحوالها، بينما الصهيونية أصبحت في أحسن أحوالها وتطورها، وتقوم أيضاً بتصعيد الحروب الأهلية والصراعات داخل المنطقة العربية، وتُدمّر بنفس الوقت تركيبة الجيوش العربية.

لقد ساهمت الدول الاستعمارية بعد مرحلة الاستقلال العربي بصناعة نظاماً عربياً مختلاً، رغم أن المنطقة العربية تملك كل مقوّمات التمسّك والشموخ والقوة والثروات الهائلة، والحضارة والتاريخ والمصالح الواحدة، وزرعت في أحضان هذه الأمّة كياناً صهيونياً غريباً.

لا ننكر أن النظام الاقليمي العربي قد وُلدَ مختلاً فعلاً، لذلك اليوم يحصد هذا العالم العربي نتاج ما زرعته الأنظمة العربية طوال سنواتٍ سابقة طوال، ولن تقوم له أي قائمة إلاّ بعد إصلاح هذا الخلل، والإصلاح في حالة سُبات.

الخلل في ممارسة كل أنواع القمع والوصاية والإقصاء من قبلِ الأنظمة الحاكمة، وتبعيتها للأجنبي من أجلِ حماية الكرسي، واحتكار هذه الأنظمة لكل الثروات الطبيعية الوطنية، ونشر الفساد وحيتانه، وتجميد العقول والسيطرة عليها، وانتشار مفهوم دولة المخابرات، حيث أُهين المواطن، وتم الإختراق الخارجي لهيبة الدولة.

لقد أصرّ الحكّام العرب على إغلاق مختلف أبواب التغيير السياسي، من خلال تبريرات سرابية، مفعمة بالشعارات الزائفة.

ولا بُدّ لنا إلاّ أن نتساءل، ما هو موقف العرب في حال اندلاع حربٍ موسّعة إقليمية أو دولية، وما هو مستقبل " جامعة الدول العربية "، وما هو موقف الأنظمة العربية من الموجة التصاعدية للحركات المتطرفة بعد سنواتٍ من موجات العنف وبروز التنظيمات المسلحة المتطرفة الجهادية في الميدان العربي ؟.

كلّ المؤشّرات تؤكّد أن الوطن العربي يمرّ بأزمةٍ كبيرة، وأن الحديث عن مستقبل العرب المعروف منذ إنتهاء الحرب العالمية الأولى والخلافة العثمانية، لا يزال الحديث عنه قائماً منذ أكثر من 100 عام بدون أي إجابةٍ أو حل، إنّه الفراغ الفكري والايديولوجي لكافة الأنظمة العربية.

لذا على كافة الكتاب والمفكرين المثقفين العرب أن يأخذوا دورهم الفاعل ويتحمّلوا مسؤولياتهم الوطنية والقومية والإنسانية من أجل تقييم الواقع، ورسم البرنامج الفعّال كرؤيةٍ مستقبلية جديدة، وتفعيل مشروعٍ نهضوي للعالم العربي، يستطيع الإجابة بعمق عن " مستقبل العرب ".

مع الأسف لقد إنهزمت الأنظمة العربية استراتيجيّاً، والتجأت إلى القوى الخارجية وحوّلت الساحة العربية إلأى ساحةٍِ لصراعات المصالح الأجنبية، وبذلك تلاشت الثروة العربية، المال العربي، والأمن العربي، والمواطن العربي.

الإقليم العربي يشهد صراعات وترتيب صفقة المستقبل، كل القوى العدوّة تلعب كما يحلو لها ويروق في الميدان، ووحدهم العرب هم الغائبون عن الميدان، في الوقتِ الذي تصلهم فيه أخبار الميدان من الخارج، وكأن ما يحدث في المنطقة العربية لا يعنيهم، أو أنه يحدث في مناطق نائية خلف المحيطات.

مع الأسف أن العرب هم آخر من يعلم تأثير الأزمات الاقليمية عليهم، ومن المؤكّد أن كلّ أزمةٍ إقليمية ينتج عنها العديد من التداعيات والشروخات، والتي بالتالي تؤثّر عميقاً في الدول، بحيث لا تستطيع أجهزة تلك الدول منع حصولها.

فقط العرب الذين يقعون في هكذا مطبات التي تُعتبر من البديهيات عند الدول الأخرى، المُعادلة تؤكّد أن القوة والحكمة تكمن في السيطرة على الأزمة قبل وقوعها، بهدفِ صيانة الأمن الإقليمي.

أمام هذا الواقع المتردي والمتشعّب لا بُدّ إلاّ أن نتساءل:

هل هناك من وسيلة للحدّ من مسار الانحدار المتفاقم عند العرب؟.

الشعب العربي هو كبقية شعوب العالم، الجميع يتشاركون بشكلٍ جاد للنضال ضد العدوان والقمع والإستبداد، والجميع تابع ولا يزال التضحيات التي قدّمتها الجزائر وسورية ومصر وفلسطين واليمن وليبيا، والدم الذي قدّمته هذه الدول وغيرها بهدفِ التحرّر والسيادة، ومع ذلك هذه الدول لم تصل إلى برّ الأمان المُراد، فالشعارات والأغاني الوطنية لا تصنع دولاً، والحاكم المستبد ولا جيشه يصتع وطناً.

ما تشهده الساحة العربية يُؤكّد لنا بصيص النور الذي يُرى في نهاية النفق، لا يملك الأمل للخروج من هذا الواقع المرير، غزّة وفلسطين ينتهج الكيان الصهيوني حولها حرب إبادةٍ صريحة، والعرب صامتون لغاية الآن، والعالم كله يتابع بصمتٍ وتجاهل.

في عملية إستلام وتسليم برعايةٍ إقليمية ودولية، جاؤوا بأبو محمد الجولاني ليكون متنفّذاً بسورية، وهو الذي كان في القاعدة، ومن ثُمّ في داعش وبعد ذلك جبهة النصرة، ومن ثم في فتح الشام وأخيراً في تحرير الشام، وتاريخه كله يشهد له بأنه كان يُمارس القتل والذبح والإبادة لمختلف الطوائف التي يجدها أمامه، وأصبح الجيش السوري معظمه من الأجانب المتطرفين والجهاديين المرتزقة من الشيشان والأنغور وسواهم، وكلهم عبارة عن فصائل مسلحة تكفيرية يحكمون سورية الآن، وإسرائيل اقتحمت الجنوب السوري ووصلت إلى حدود الأردن والعراق، والعرب صامتون وكأنهم لم يسمعوا شيئاً، وتركيا تقيم قواعد عسكرية، وأمريكا أيضاً، والأكراد أيضاً لهم حصّة، والساحل السوري له حصّة، وهذا يعني أن سورية تتحوّل تدريجياً إلى خمس دويلات، والعرب نائمون في سباتٍ عميق، والمخطط الصهيوني يتابع مسيره فهو واضحٌ وتم الإعلان عنه، سورية هي المفتاح ومن ثم يبدأ دور لبنان والأردن والعراق ومصر والسعودية، وأيضاً العرب يتجاهلون، وكأنهم ينتظرون أن يصل الدور عليهم.

المخطط واسع وخطير، ومع الأسف العرب لم يتفاعلوا مع هكذا مخطط بشكلٍ يتناسب مع خطورة الحدث، وكأنهم في حالة موتٍ سريري.

كافة المنظمات الحزبية والفكرية والأدبية تتناول الأزمات بشكلٍ خجول مع الأسف.

إننا بحاجةٍ ماسّة إلى صحوة الضمير العربي، وإلى العمل الجاد من أجلِ النهوض بمشروعٍ عربي قبل فوات الأوان.

وعلى الأنظمة العربية الكف عن تقليد النعامة ودفن الرأس في الرمال، وكأن الأمّة مصرّة على تلقّي النكسات المتتالية، والصعود وبقوة نحو الهاوية.

يا ابن الوليد ألا سيفُ تؤجّره

فكلّ أسيافنا قد أصبحت خشبا.

نزار قباني.

إن انتهاج سياسة الحكمة والعقلنة قبل فوات الأوان جديرٌ بأن يُخرج المنطقة العربية من هذا الوضع اليائس.

إن التمترس وراء ممارساتٍ كيدية على حساب الأمن القومي العربي المشترك، وعلى حساب الأمن الاستراتيجي سيجعل المنطقة العربية بقعةً من سراب.

يبدو أن الحكّام العرب لا يعنيهم إلاّ الكرسي مهما كان الثمن، حتّى ولو أُبيدت الأوطان أمام أعينهم وهم يتباهون بأوسمة التبعية، ولا يحرك ذلك فيهم أي أي حسٍ وطني أو قومي أو إنساني. كأن ضميرهم ميّت، بل هم كذلك.

كما صمتوا عن ذبح وإبادة العربي في غزّة وفلسطين فإن مدية الجزّار ستحزّ دمهم عاجلاً أم آجلاً ومن الوريد إلى الوريد.

هل يستطيع المفكرون والسياسيون وعلماء النفس البشرية والاجتماع أن يأخذوا دورهم الجريء لبناء جيلٍ حر كاسر لجدار الخوف وهو بطبعه ينادي بجرأة وإخلاص ووعي وإدراك من أجل الحرية وطمس كلّ معالم القمع الإستبدادي والفساد والعهر السياسي المتفشي في البلاد، وأخذ دوره الفاعل المُشارك في صناعة القرار السياسي والعسكري والأمني والثقافي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي في الدولة ؟.

على كافة الكتّاب والمفكرين والمثقفين والأدباء العرب أن يتحمّلوا مسؤولياتهم الجادّة من أجلِ إعادةِ الصواب إلى البوصلة العربية، وإلاّ عليهم أن يستمروا في صمتهم، ويعلنون فشلهم وبالتالي أن يخرجوا من الميدان، ويكفّوا عن النفاق، وعلى الأمّة والأوطان السلام.

وسيبقى السؤال الذي يأتينا وعلى الدوام بدون أي إجابة، وكأنه قادمٌ من سهول السراب مخترقاً الفضاء المبهم.

*** 

د. أنور ساطع أصفري

إذا صدّقتَ كل ما يُقال في وسائل الإعلام عمومًا، وعن الانتخابات النيابية المقبلة في 2025 خصوصًا، فأنت ضيف دائم مخدوع في نشرات الأخبار والبرامج الحوارية.

لن أعود بعيدًا في أغوار التاريخ لكشف زيف الإعلام، ولكن سأبدأ من جوزيف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر، الذي قال: "اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الآخرون". ونظرًا لأهمية أفكاره وتأثيرها، فقد اهتم الدارسون بإرثه، وأطلقوا عليه "النظرية الغوبلزية".

وفي منطقتنا العربية، نجد مثالًا آخر على الإعلام المضلل. ففي مصر خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان الإعلامي أحمد سعيد يبث عبر البيانات العسكرية تأكيدات على "انتصارات ساحقة" للجيوش العربية، بينما كانت الحقيقة تظهر تدريجيًا، كاشفة عن حجم الخسائر الفادحة. أعقب ذلك تنحي عبد الناصر وعودته إلى الحكم، وبقي اسم أحمد سعيد مرادفًا للكذب في نظر كثيرين. وقد صرح في أحد لقاءاته لاحقًا قائلاً: "العلاقة بين القوات المسلحة والإذاعة هي علاقة آمِرة، كأننا جنود في المعركة. تُملَى علينا البيانات ونُجبر على إذاعتها، مهما كانت مخالفة للواقع، وإلا فالعقوبة هي الإعدام!"

وقد وثّق الصحفي المصري ياسر بكر هذه الظاهرة في كتابه"صناعة الصحافة المصرية للكذب في نصف قرن".

أما في العراق، فلدينا المثال الأشهر: إعلام محمد سعيد الصحاف قبيل الغزو الأميركي عام 2003. كان الصحاف يرى الدبابات الأميركية بعينيه من فندق الميريديان وسط بغداد، لكنه يصرّ على أن "العلوج" قد تم دحرهم على أبواب المدينة! (العلج: وصف يُطلق على الأحمق الغليظ بدناً وعقلاً ومعاملة).

كان الرئيس الأمريكي بوش الابن مولعا بمتابعة المؤتمرات الصحفية للصحاف. وفي كل مرة كان يبدو بوش مندهشاً من تخريجات الصحاف، والسخرية من انتصارات أمريكا، بل كان لايأوي إلى فراشه إلاّ بعد أن يستمع إلى تصريحات الصحاف ثم يضحك ويشعر بالغبطة والسرور، وهذا النجاح هو ما جعل شركة غربية تبيع 5 ملايين فانيلة عليها صورة الصحاف ، ولم يتوقع أحد أن يُنقذ الصحاف نفسه بتلك الأكاذيب، لكن الأميركيين تعاملوا مع تصريحاته بوصفها مادة ساخرة للضحك، بل أحبوه بسببها!

قبل الخوض في هذا الموضوع أكثر فأكثر، لا بد من التفريق بين "المعلومة المغلوطة" و"الخبر الكاذب". في الأولى، يكون هناك جزء من الحقيقة يُضاف إليه جزء من التضليل، وغالبًا ما تُستخدم الإثارة والمبالغة. كتب كثير من الباحثين عن الكذب، أبرزهم الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، أستاذ "الكوليج دو فرانس"، الذي ألّف كتابًا بعنوان: "تاريخ الكذب".

وأعود إلى جوهر هذه المقالة: تشخيص واقع شراء السلطات الفاسدة في العراق ذمم أغلب وسائل الإعلام، وفي مقدمتها القنوات الفضائية. فمعظم هذه القنوات مملوكة لأحزاب السلطة التقليدية، أو لرجال أعمال يجعلون منها أبواقًا تمجّد تلك الأحزاب، ما دامت الأموال تتدفق، والعقود تُمنح، والتسهيلات تُقدَّم.

وعندما تُتهم هذه الوسائل، تردّ بوقاحة: "نحن لا نكذب، نحن نُجمّل!". لكن الحقيقة أن الواقع في إجازة... والبديل تُنتجه وسائل الإعلام. من فبركة العناوين إلى صناعة "الواقع البديل"، يُمارس الكذب على الهواء مباشرة، أو عبر الصحف والمواقع الإلكترونية!

وبات إطلاق الأخبار الكاذبة أسهل من أي وقت مضى: يكفي هاتف ذكي، واتصال بالإنترنت، وحساب على منصات التواصل الاجتماعي. ومن هناك نسمع ثرثرةً لا تميز بين "قانون انتخابات"، و"نظام التمثيل النسبي"، و"الصوت غير المتحول"، و"صيغة توزيع المقاعد سيئة الصيت: سانت ليغو"، فيحدث الخلط والبلبلة.

الخلاصة: إعلام زائف في أغلبه، ضجيجه أعلى من معلوماته، ولن يؤدي إلا إلى مزيد من السوء في الانتخابات المقبلة.

***

د. وليد كاصد الزيدي

 

لقد ناقش الفلاسفة، منذ سقراط الى عصرنا هذا، قضايا الخير والحق والعدل والسلطة والعنف والدولة.... ومع ذلك، لم يُسهم الفلاسفة حتى الآن إلا قليلاً في تسليط الضوء على القضية الفلسطينية سيكون من المُحزن حقا أن نرى ان سماء الفلسفة اليوم قد انطفأت مصابيحها ولم تعد مرصعة بالنجوم كما يجب لها ان تكون والأنوار التي سحرت كانط توارت في الأفق البعيد بعد ان أفرغ الخطاب الفلسفي من بعده الإنساني ومحتواه الأخلاقي وسيكون هذا العصر شاهدا على عجز الفلسفة المعاصرة في التخفيف من معاناة واحزان أطفال غزة وتحقيق العدالة للذين قتلوا بوحشية هناك في فلسطين.

عجز الفلسفة المعاصرة عن مقاومة الشر وافتقار المشتغلين بالفلسفة الى فضيلة قول الحق والوقوف في وجه الأنظمة المستبدة يجعلنا نشعر بالاستياء فلا وجود لنقاش فلسفي جاد حول فلسطين في الفصول الدراسية ومؤسساتنا الثقافية وحتى في المعاهد التي تحمل ما يسمى قسم الفلسفة في جامعاتنا. وعلى رغم من اقتناعنا بأن الفلسفة تفكير اشكالي وايماننا بانه من واجب الفيلسوف تحمل مسؤوليته الأخلاقية والانحياز الى كل ما هو انساني مادام هو حارس القيم ومشرعها في بعض الاحيان الا ان الناظر بعين النقد في شكل ومضمون الخطاب الفلسفي المتداول عندنا يلاحظ تهافت هذا الخطاب.

و مع ذلك هناك حالات من الاستثناء فقد نشر في 8 نوفمبر2023 مجموعة من أساتذة الفلسفة في أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأوروبا رسالة للتعبير علنا وبشكل لا لبس فيه اعلنوا فيها تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وإدانة المجزرة المستمرة والمتصاعدة بسرعة التي ترتكبها إسرائيل في غزة وبدعم مالي ومادي وأيديولوجي كامل من الحكومات الغربية و في مقال للمؤرخ وعالم الاجتماع ماكسيم رودنسون ، بعنوان "إسرائيل، حقيقة استعمارية؟" تساءل عن الأسباب الحقيقية لما يحدث في فلسطين وأجاب أن "تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين هو تتويج لعملية تنسجم تمامًا مع حركة التوسع الأوروبي الأمريكي الكبرى في   القرنين التاسع عشر والعشرين، بهدف استعمار أراضٍ أخرى أو السيطرة عليها اقتصاديًا وسياسيًا".

موقف الفلاسفة من القضية الفلسطينية من سارتر وإيمانويل ليفيناس الى حنة آرنت

الحاخام سعاديا جاؤون [سعيد بن يوسف أبو يعقوب الفيومي] (882 م-942م) قبل ما يزيد على ألف عام تحدث عن اليهود قائلا : «أمتنا توجد فقط داخل التوراة» وقد علق عبد الوهاب المسيري في كتابه نهاية التاريخ دراسة في بنية التفكير الصهيوني عن هذا القول بأنه لم يعرف الشعب اليهودي التاريخي كعرق، ولا كشعب ينتسب إلى هذا البلد أو ذاك، أو هذا النظام السياسي، أو ذاك، أو كشعب يتكلّم اللغة نفسها، بل كشعب يهودية التوراة، ووصاياها وقد أشار في كتابه هذا وغيره من الكتب الى مواقف بعض الفلاسفة اليهود والتي تتأرجح بين التطرف والاعتدال ذكر منها:

-  موقف مارتن بوبر (1878 ـ 1965) هذا الفيلسوف الصهيوني الصوفي يري أن «تاريخ اليهود هو تاريخ يتدخل فيه الرب». ويفرق بوبر بين «التاريخ» (التجربة التي تعيشها الأمم، على حد قوله) «والوحي» (وهو التجارب الهامة الخالصة التي يعيشها الأفراد)، ويرى أنه حينما يتحول الوحي إلى أفكار تفهمها الجماهير وتؤمن بها، فإنها تصبح عقائد. هذا هو الوضع بالنسبة لسائر الأمم، أما بالنسبة لإسرائيل، فالأمر جد مختلف، إذ إن ثمة تطابقا كاملا بين الوحي والعقيدة والتاريخ. إن إسرائيل تتلقى تجربتها الدينية الحاسمة كشعب، فليس النبي وحده هو الذي تشمله ظاهرة الوحي «التاريخ كوحي، الوحي كتاريخ». وهكذا يتحول اليهود، في هذا الإطار الحلولي، إلى شعب من الأنبياء، ويتحول تاريخهم إلى وحي مستمر، ولذا فاليهود بحسب تصور بوبر الصوفي العلماني «أمة تحمل وحيا (إلهيا) عبر تاريخها المقدس» الذي لم يكن سوى صراع لا ينتهي من أجل وضع مُثُل الأنبياء موضع التطبيق» كما يقول نحمن سيركين (1868 ـ 1924) الزعيم الصهيوني العمالي. إن الفيلسوف المتصوف والمفكر «الاشتراكي» يتفقان على خصوصية «التاريخ اليهودي» وقدسيته، كما يتفقان على تداخل التاريخ المقدس والتاريخ الإنساني.

-    موقف موسى مندلسون (1729-1786) الفيلسوف اليهودي الألماني، فيلسوف الهسكلاه بالدرجة الأولى الذي حاول أن يحطم “الجتو العقلي الداخلي” الذي أنشأه اليهود حول أنفسهم لموازنة الجتو الخارجي الذي كانوا يعيشون فيه، وقد بذل أقصى جهده لتبيان علاقة الدين بالعقل، ورفض أن يعترف بأي جانب من اليهودية يتنافى مع العقل، بل إنه ذهب إلى حد الإيمان بأن اليهودية ليست “دينًا” مرسلًا من عند الله، بل هي مجموعة من القوانين الأخلاقية المُنزلة، وأنه عندما تحدث مع موسى في سيناء لم يذكر له أي عقائد بل ذكر له طريقة للسلوك يتبعها الأفراد في حياتهم الشخصية وقد انتقد مندلسون سيطرة الحاخامات على الديانة اليهودية واليهود، وبيَّن في كتابه (أورشليم أو انعتاق اليهود المدني 1873) أن هناك أسسًا ثلاثة لليهودية؛ أولًا: وجود الله، ثانيًا: الإيمان بالعناية الإلهية، ثالثًا: خلود الروح، وهو -يُمثل ديكارت- تقبل هذه القيم لأنها حقائق بديهية مثل الحقائق الرياضية كما تُشكل الأساس الفلسفي لكل الأديان قاطبة، وحاول مندلسون أن يعيد تعليم إخوانه في الدين حتى يمكنهم الاندماج منع بقية الشعوب، فقام بترجمة “أسفار موسى الخمسة” إلى الألمانية ليقضي على عزلة اليهود الموضوعية والنفسية وكتب تعليقًا مستنيرًا على الكتاب المقدس، وأصدر مجلة لنشر كل ثمار الثقافة العالمية بالعبرية، وأخيرًا أنشأ مدرسة في برلين للأطفال اليهود لتعليهم الألمانية وبعض الأعمال اليدوية إلى جانب العلوم اليهودية التقليدية وحاول مندلسون أن يضمن استمرار حركة الهسكلاه، فطالب بمنح كل فرد حرية العقيدة ليُقرر كل ما يشاء حسب ما يمليه عليه ضميره وتصوره الأخلاقي، أي أنه كان يحاول أن يجعل من اليهودي فردًا له حريته ووعيه وليس مجرد وحدة في مجموعة قومية دينية تسلبه حريته وإنسانيته، وقد تركت فلسفة مندلسون أثرًا عميقًا على الفكر اليهودي، بل ويمكن اعتبار مذهب (اليهودية الإصلاحية) نتاجًا مباشرًا للهسكلاه عامة ولفكر مندلسون على وجه الخصوص، فقد حاول مؤسسوا هذا المذهب أن يصلوا إلى صيغة معاصرة لليهودية تلائم العصر وتتخلص من أثار المطلقات اللاتاريخية التي كانت تدور في فلكها، وتتضح هذه النظرة التاريخية في موقف المفكر الإصلاحي صمويل هولدهايم (1806-1880) من التلمود إذ يقول: “يتكلم التلمود بأيديولوجيا العصر؛ أما أنا فأتكلم من وجهة نظر الأيديولوجيا العليا لهذا العصر؛ لذلك فأنا مٌحق ولي الصلاحية لعصري”.

وبالعودة الى تاريخ الفلسفة المعاصرة بداية من القرن العشرين يمكننا ان نشير أيضا الى :

-    موقف إيمانويل ليفيناس (1906-1995) ولفهم وجهة نظره بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لابد من الإشارة أولا الى ان ليفيناس لم يقوم بالهجرة إلى فلسطين وانه كان يردد عبارة "الإنسان أقدس من قطعة أرض". ومع ذلك لم يكن معارضا لقيام الدولة اليهودية على ارض فلسطين بل كان مدافعا عن قيام دولة يهودية على أسس أخلاقية او كما يقول - دولةً تتجسد فيها الأخلاق النبوية وفكرة السلام فيها. " إن الأخلاق التي تحملها اليهودية "لا تنفصل عن الغايات الدنيوية للدولة" وتذهب إلى أبعد من هذه الغايات . "و في نصوصه من الخمسينيات، والتي جُمعت بعضها في كتاب "الحرية الصعبة" (1984)، كتب قائلا: "إن الشيء المهم في دولة إسرائيل لا يتمثل في تحقيق وعد قديم، ولا في البداية التي ستمثل عصرًا من الأمن المادي - وهو أمر إشكالي، للأسف! - ولكن في الفرصة التي أتيحت أخيرًا للوفاء بالقانون الاجتماعي لليهودية. كان الشعب اليهودي حريصًا على أرضه ودولته، ليس بسبب الاستقلال الذي لم يكن مضمونًا الذي توقعه منها، ولكن بسبب عمل حياته الذي يمكنه أن يبدأه أخيرًا ، وهو تحقيق العدالة، وسياسة أخرى موضوعة تحت علامة الأخلاق - "  تمامًا كما بررت ممارسة العدالة في العصور القديمة الوجود على الأرض. »  إن الواقع التاريخي سوف يؤكد جزئيا مخاوف ليفيناس. في عام 1967، شنت إسرائيل "هجوماً استباقياً" ضد جيرانها العرب ، واحتلت قطاع غزة وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية ، ولكن قبل كل شيء احتلت القدس، التي أصبحت عاصمتها بحكم الأمر الواقع، حتى ولو لم يتم الاعتراف بها دولياً. وفي ندوة المثقفين اليهود في فرنسا، أصدر ليفيناس - على الرغم من تمسكه الراسخ بوجود الدولة العبرية - انتقادات قوية. وهو يتحدى الفيلسوف أندريه نيهر الذي يزعم أن "  إسرائيل تقف إلى جانب العدالة"  : فيرد ليفيناس : "  لا يجوز لإسرائيل ولا ينبغي لها أن تكون مضطهدة " . اسمع يا نهير، ألم تشعر قط بأدنى تساؤل، أو أدنى شك في ضميرك؟ [...] اسمع مجددًا: 800 ألف عربي بلا مأوى. بالنسبة لهم، التشرد يعني الحرمان من كل شيء. [...] بدأنا نمتلك ردود أفعال المحتل. [...] يجب أن تكون مؤتمراتنا هي المكان الذي نعبر فيه عن تحفظاتنا. »

ولكن ليفيناس يدرك، في الوقت نفسه، الخطر: خطر أن تصبح هذه الأرض بمثابة مصفوفة لهوس بالهوية، وأرض خصبة لدولة، مثل كل الدول التي سبقتها، سوف تسمح لنفسها بأن تقع في شباك التجذر والقومية، في غموض التجذر. اليهودية، تحديدًا، تدعونا إلى الحذر من تقديس الأرض، كما سيوضح ليفيناس في كتابه "هايدغر، غاغارين، ونحن" (1961): "لطالما كانت اليهودية حرة فيما يتعلق بالأماكن. وهكذا ظلت وفية للقيمة الأسمى. لا يعرف الكتاب المقدس إلا أرضًا مقدسة واحدة. [...] الطعام، [...] الشراب، [...] والمأوى، ثلاثة أشياء ضرورية للإنسان، يقدمها الإنسان للإنسان. الأرض لذلك. الإنسان سيد نفسه لخدمة البشر، لا غير". أليست إسرائيل، كدولة ذات سيادة، في خطر نسيان هذه الطريقة في سكن الأرض كأجنبي؟ ليس على الفور، مسبقًا . لأن هذه الأرض التي ترتبط بها الدولة العبرية، والتي هي موضع نزاع دائم، لا تشكل بأي حال من الأحوال أساساً دائماً. "انعدام الدعم العالمي، وغياب أي "موقف احتياطي مُجهّز""  : "هذه هي الأرض التي تمتلكها إسرائيل في دولتها. وتُجهد جهود بنائها والدفاع عنها بسبب الاحتجاج والتهديد المستمر والمتزايد من جميع الجيران. دولة لا يزال وجودها موضع شك في كل ما يُشكّل جوهرها؛ بينما تُعدّ أرض الأمم السياسية دائمًا "المصدر الأقل نقصًا" والذي يبقى عندما يُفقد كل شيء. " إن ما يُشكّل أساسًا دائمًا بالنسبة للدول الأخرى يُعتبر بالنسبة لإسرائيل "تحدٍّ أو طريقًا مسدودًا ". ولكن تحديدًا، ألا تُخاطر إسرائيل، في مواجهة جيرانها المعادين "المُحاطين بأراضيهم"، بالتصلب في رغبةٍ تفاعليةٍ في جذورٍ أرضية؟ على أية حال، ليفيناس حريص على تذكيرنا بما لا تمثله هذه الأرض: لأن "الكتب [...] تحملنا إلى عمق أكبر من الأرض" (وخاصة "الكتاب"، الكتاب المقدس العبري)، لأن "الإنسان أقدس من قطعة أرض" . ولن يتردد في انتقاد الشكل الذي تتخذه الصهيونية في كثير من الأحيان: "لقد تم تفسير الصهيونية بحثًا عن دولة يهودية، وتطوير المستعمرات في فلسطين، لفترة طويلة، على الرغم من أشكال الحياة الجماعية الجديدة التي ظهرت في الكيبوتسات ، من حيث القومية" (ما وراء الآية).

إن الواقع التاريخي سوف يؤكد جزئيا مخاوف ليفيناس. في عام 1967، شنت إسرائيل "هجوماً استباقياً" ضد جيرانها العرب ، واحتلت قطاع غزة وصحراء سيناء ومرتفعات الجولان والضفة الغربية ، ولكن قبل كل شيء احتلت القدس، التي أصبحت عاصمتها بحكم الأمر الواقع، حتى ولو لم يتم الاعتراف بها دولياً. وفي ندوة المثقفين اليهود في فرنسا، أصدر ليفيناس - على الرغم من تمسكه الراسخ بوجود الدولة العبرية - انتقادات قوية. وهو يتحدى الفيلسوف أندريه نيهر الذي يزعم أن "  إسرائيل تقف إلى جانب العدالة"  : فيرد ليفيناس : "  لا يجوز لإسرائيل ولا ينبغي لها أن تكون مضطهدة " . اسمع يا نهير، ألم تشعر قط بأدنى تساؤل، أو أدنى شك في ضميرك؟ [...] اسمع مجددًا: 800 ألف عربي بلا مأوى. بالنسبة لهم، التشرد يعني الحرمان من كل شيء. [...] بدأنا نمتلك ردود أفعال المحتل. [...] يجب أن تكون مؤتمراتنا هي المكان الذي نعبر فيه عن تحفظاتنا. »

في "السياسة بعد!" يتناول ليفيناس، البعد الدولي للصراع. ويبدأ بالعودة إلى "أصل الصراع اليهودي العربي"  : "لقد كان الأمر حادًا منذ إنشاء دولة إسرائيل على قطعة أرض قاحلة كانت ملكًا لأبناء إسرائيل منذ أكثر من ثلاثين قرنًا، أنه على الرغم من تدمير يهودا في عام 70، فإن المجتمعات اليهودية لم تهجرها أبدًا، وأنها في الشتات لم تتوقف أبدًا عن المطالبة بها، وأنها منذ بداية القرن ازدهرت مرة أخرى من خلال عملهم؛ بل على قطعة من الأرض سكنها منذ قرون أولئك الذين يحيط بهم من جميع الجهات وعلى مساحات شاسعة الشعب العربي العظيم الذي هم جزء منه، ويطلقون على أنفسهم اسم الفلسطينيين. "

في عام 1979، وقعت إسرائيل ومصر معاهدة سلام. ويريد ليفيناس أن يرى في هذا أملاً بالمصالحة المحتملة.: "لا يحتاج اليهودي إلى أن يكون "نبيًا أو ابن نبي" لكي يتمنى ويأمل في المصالحة اليهودية العربية، لكي يلمحها، بما يتجاوز الجيرة السلمية، كمجتمع أخوي. »

وفي الوقت نفسه، يريد ليفيناس أن يؤكد بشكل عام على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. تصريح بعيد كل البعد عن الوضوح في سياق أخلاقياته. ويؤكد ليفيناس بالفعل على "المسؤولية اللانهائية" للوعي تجاه الآخرين، تجاه الآخر المطلق. ولكن بعد ذلك يسأله أحد محاوريه: "أليس الآخر بالنسبة للإسرائيلي هو في المقام الأول والأساس الفلسطيني؟" ، بدلاً من الإسرائيلي الآخر الذي يشبهك إلى حد ما، ويشاركك الانتماء إلى نفس المجتمع؟ يرد ليفيناس بهذه العبارات: "  إذا اعتدى جارك على جاره أو ظلمه، فماذا عساك أن تفعل؟ هناك، تتخذ الغيرية طابعًا آخر؛ هناك، في الغيرية، قد يظهر عدو، أو على الأقل تنشأ مشكلة معرفة من هو المصيب ومن هو المخطئ، ومن هو العادل ومن هو الظالم. هناك أناس مخطئون". ويضيف الفيلسوف: "  شعبي وأقاربي ما زالوا جيراني" ، فهم ما زالوا آخرين مهما كانت الصلة الطبيعية والسياسية والإقليمية التي تجمعنا. "نحن ندافع عن جيراننا عندما ندافع عن الشعب اليهودي". إلى جانب الشعور بـ "المسؤولية غير المحدودة"، هناك مجال للدفاع، لأن الأمر لا يتعلق دائمًا بـ"أنا"، بل بأحبائي الذين هم جيراني. أنا أسمي هذا سياسة الدفاع، ولكنها سياسة ضرورية أخلاقياً ، تركز على الدفاع عن الآخر.

كما نرى، لم يتوقف ليفيناس أبدًا عن مواجهة فهمه الفلسفي لدعوة إسرائيل بالأحداث المأساوية التي يشهدها العالم. إن رسالته تركز في المقام الأول على الأمل في المصالحة: "إننا نستطيع ويجب علينا أن نفكر، في بعض الأحيان بالاتفاق مع المفكرين الأكثر وضوحا في المعسكر المعارض، أن الوقت قد حان لتهدئة هذه المحنة". ليس هذا واضحا تماما، بلا شك. ولعل موقفه يمكن تلخيصه في الحكاية التالية: في عام 1992، عندما سئل إيمانويل ليفيناس في مقابلة مع الفيلسوف الإسرائيلي  يعقوب غولومب عن كيفية وضع نفسه في مواجهة حقيقة الصراع المؤلم بشكل متزايد، أجاب بشكل مقتضب: "أنا سعيد دائمًا إذا تحدث الناس"

-    موقف جان بول سارتر منذ عام 1949 وحتى وفاته، كانت مواقف بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مدفوعة بالرغبة في "التخلص من اللامبالاة الأوروبية" ، ولكن أيضا بنوع من الحياد. نظرة إلى الوراء على التزامات هذا "الصديق لكلا المعسكرين" ، الذي أحزنه وضع اعتبر - حتى في ذلك الوقت - لا يمكن حله.إن الرجل الذي ألقى بنفسه بكل قلبه (ورغما عنه) لسنوات في النضال من أجل تحرير الجزائر كان دائما يشعر بقلق بالغ إزاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومن ناحية أخرى، أقنعت دراما الحرب العالمية الثانية سارتر بضرورة حماية الشعب اليهودي من رعب معاداة السامية من خلال إنشاء دولة إسرائيل. ومن ناحية أخرى، ألهمه نضاله ضد الإمبريالية الأميركية ومن أجل تحرير الشعوب المستعمرة رغبة ملحة في الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، إن لم يكن الدفاع عنها.

دعم سارتر منذ البداية قيام دولة إسرائيل الى جانب دعوته إلى إقامة دولة فلسطينية حيث أظهر دعمه لدولة إسرائيل التي أنشئت بعد قرار الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 وأعلنت رسمياً في 14 ماي 1948 وقال: " لقد كنت آمل ولا أزال آمل أن تجد المشكلة اليهودية حلاً نهائياً في إطار إنسانية بلا حدود، ولكن بما أن أي تطور اجتماعي لا يستطيع تجنب مرحلة الاستقلال الوطني، فيجب علينا أن نفرح لأن دولة إسرائيل المستقلة سوف تأتي لتضفي الشرعية على آمال ونضالات اليهود في جميع أنحاء العالم"

وفي عام 1966 بدأ سارتر يجمع نحو 40 مثقفاً إسرائيلياً وفلسطينياً، بهدف اقتراح تقرير خاص لمجلة Les Temps Modernes. وعلى هذا الأساس قام أيضاً برحلة إلى الشرق الأوسط، مع سيمون دي بوفوار والصحفي والكاتب كلود لانزمان .

ويختتم الفيلسوف في مقدمة العدد قائلاً: "لقد توجهنا إلى الإسرائيليين والعرب أنفسهم، وعرضنا عليهم، كليهما، الفرصة للتحدث في مجلتنا لعرض وجهة نظرهما علينا". كما أعرب كلود لانزمان، الذي قدم الملف، عن أسفه لغياب الحوار بين المثقفين من الجانبين، مستحضراً "تعايشاً خامداً" و "تجاوراً سلبياً".

في 3 فبراير 1969، أجرى سارتر مقابلة مع الصحفية كلودين شونيز لمجلة Le Fait Public من خلالها لخص سارتر المسار المستقبلي في ثلاث نقاط: اولا سيتعين على إسرائيل إعادة الأراضي التي تحتلها، بل ويجب عليها اتخاذ قرار بذلك دون ضغط، من تلقاء نفسها؛ ثانيا: يجب الاعتراف بسيادة إسرائيل؛ ثالثا: يجب أن تكون المشكلة الفلسطينية الموضوع المباشر للمفاوضات الأولى.

في عام 1976، قبل سارتر ـ الذي رفض العديد من الألقاب الفخرية، بما في ذلك جائزة نوبل ـ درجة الدكتوراه  الفخرية  من الجامعة العبرية في القدس، قائلاً إنه كان ليفعل نفس الشيء لو منحته جامعة القاهرة هذا اللقب. بالنسبة للعديد من المراقبين، كانت هذه الفترة بمثابة نقطة تحول، لأن سارتر أصبح في هذا الوقت قريبًا من بيني ليفي ، وهو ماوي سابق اعتنق اليهودية وأصبح سكرتيره. في ذلك الوقت، كان جان بول سارتر أعمى وضعيفًا بالفعل: وتحدث البعض عن "سرقة رجل عجوز".

وفي عام 1979، نظم الفيلسوف مع بوفوار، في منزل ميشيل فوكو، "مؤتمراً من أجل السلام في الشرق الأوسط" ، والذي تعرض لانتقادات شديدة من المفكر والمؤرخ إدوارد سعيد . إن منظّر كتاب الاستشراق: الشرق الذي خلقه الغرب (1976) ورائد ما بعد الاستعمار، والذي تمت دعوته لتمثيل المفكرين الفلسطينيين، يندد بالحضور المفرط لليفي، في حين يأسف على  حضور سارتر "السلبي الغريب، غير المثير للإعجاب، الخالي من التأثير" والذي يبدو وكأنه "شبح ما كان عليه". ويعتقد سعيد بأسف أن "الموضوع الحقيقي للاجتماع هو تعزيز مكانة إسرائيل  [...]  وليس الفلسطينيين أو العرب".

-    موقف ريموند آرون  (1905-1983) كان شاهداً على الاضطرابات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في النصف الثاني من القرن العشرين  ولم يتوقف عن التشكيك في مستقبل دولة إسرائيل غير المؤكد. إن مداخلاته المكتوبة، والتي تكون في بعض الأحيان عاطفية، وفي أغلب الأحيان مليئة بالتفاصيل الدقيقة، ومترددة ومتغيرة، يجب أن توضع في منظور العلاقة المعقدة للمؤلف مع يهوديته.ورغم أنه نشأ في عائلة يهودية من جهة والده ووالدته، وكان معاصراً للنازية والمحرقة، إلا أن ريموند آرون يعترف بسهولة: "" إن ميلاد دولة إسرائيل في عام 1948 لم يثير أي عاطفة في نفسي" ( مذكراته ، 1983.ورغم هذه التكهنات وحتى هذا البرود النسبي، فإن ريموند آرون سيغير وجهة نظره كلياً خلال عامي 1966 و1967، عندما تبرز إمكانية اندلاع حرب بين إسرائيل والدول المجاورة. فأخذ قلمه وكتب العديد من المقالات في أعمدة صحيفة لوفيجارو ليعبر عن قلقه العميق. بدأت في 30 أبريل 1966. راقب الفيلسوف سباق التسلح الدائر في المنطقة، فقال لنفسه إن الحرب القادمة قد لا تنتهي، وأنها تهدد بالاستمرار ما دام جيران إسرائيل ينكرون عليها حقها في الوجود: "إن الصراع، الذي سيستمر ما دام جيران إسرائيل لا يعترفون بدولة إسرائيل، كامن مؤقتًا [...] حتى مع تفوق إسرائيل عسكريًا، لا يمكنها حل مشكلة وجودها بالقوة. من ناحية أخرى، في اليوم الذي يتفوق فيه جيرانها عليه، قد تتاح لهم الفرصة لخلق أمر واقع".  الأولية، يكشف ريموند آرون، المتفرج على السياسة، عن ارتباط وجودي قوي جداً بإسرائيل، وهو الارتباط الذي لم يقيسه هو نفسه.

-    موقف حنة أرندت إذا كان هناك فيلسوف كانت له علاقة معقدة مع دولة إسرائيل والقضية الفلسطينية، فهو بلا شك حنة أرندت. وباعتبارها ناقدة يهودية للمنظمات اليهودية، التي اتهمتها على وجه الخصوص بالتواطؤ مع ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، تعاملت أرندت مع إسرائيل بمزيج من التضامن الأساسي والقلق الواضح. لا شك أنها كانت متحمسة لإقامة "وطن قومي يهودي" في فلسطين - وفي باريس، تعاملت مع نقل الأطفال اليهود إلى "الأرض الموعودة" في ثلاثينيات القرن العشرين، الأمر الذي أتاح لها فرصة الذهاب إلى هناك لأول مرة في عام 1935. لكنها نظرت بريبة إلى تحول هذا المركز من الابتكار الاجتماعي والسياسي إلى دولة قومية منخرطة في حرب لا نهاية لها مع جيرانها العرب. في عام 1961، عادت إلى فلسطين الإسرائيلية لتغطية محاكمة أدولف آيخمان  : وعلى الرغم من موافقتها على اختطاف الشخصية النازية البارزة، فقد عارضت علناً الطريقة التي تم بها استخدام المحاكمة، في وقت كانت فيه الدولة العبرية الشابة تسعى إلى ترسيخ مكانتها، كأداة لتشكيل التماسك الوطني. "إن المحاكمة تتعلق بأفعاله [أيخمان] ، وليس بمعاناة اليهود، أو الشعب الألماني أو الإنسانية، ولا حتى بمعاناة السامية والعنصرية".

إن تأملات هانا آرندت حول القضية الإسرائيلية الفلسطينية لا تنفصل عن تساؤلاتها حول الصهيونية. إن الصهيونية ، التي ولدت في القرن التاسع عشر ، تمثل بالنسبة لأرندت نقطة تحول في التاريخ اليهودي، " عنصراً ثورياً في الحياة اليهودية"  : حيث تم استبدال الاستسلام، وقبول الألم الناجم عن التيهان الذي لا نهاية له، بـ "الرغبة في فعل شيء ما بشأن المشكلة اليهودية" ، "الرغبة في العمل وحل هذه المشكلة". بالنسبة لليهودية، فإن الأمر يتعلق بتسييس وجودها.

كانت هذه الحركة العظيمة، منذ البداية، متعددة. تحدد آرندت على نطاق واسع اتجاهين رئيسيين. ومن ناحية أخرى، هناك ما يمثله على وجه الخصوص تيودور هرتزل واليهودية الأوروبية الغربية. هدف هرتزل هو القضاء على معاداة السامية. ولكن في نظره فإن معاداة السامية هي في المقام الأول رد فعل من جانب الدول الأخرى تجاه الوجود اليهودي في الشتات. والحل هنا يصبح واضحا، وبشكل ميكانيكي تقريبا: إنه من الضروري "تحويل اليهود إلى أمة مثل أي أمة أخرى". النموذج الذي يشير إليه هرتزل ـ والذي هو بلا شك المرجع في عصره ـ هو نموذج الدولة القومية التي تعيش منطوية على ذاتها في شكل من أشكال العزلة المحصنة عن الآخرين. "لا يمكن التعبير عن الواقع بأي شكل آخر غير شكل الدولة القومية"  ؛ لقد تم وضع أسس الصهيونية في وقت لم يكن أحد يستطيع أن يتصور فيه أي حل آخر لمشاكل الأقليات أو القوميات سوى دولة قومية مستقلة ذات سكان متجانسين. وبالتالي، فإن معاداة السامية سوف تختفي بالنسبة لهيرتزل. "لذا فمن الضروري "إيجاد مكان في البنية الثابتة للواقع" ، مكان "  الشعوب المنظمة في هيئات ثابتة" ، "حيث يكون اليهود في مأمن من الكراهية والاضطهاد"  : "سوف يلجأ شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب حيث يمكن لليهود، دون تدخل من دول أخرى، أن يطوروا كائنهم الحي المنعزل الخاص بهم. » حلم هرتزل، بالنسبة لأرندت، بـ "الهروب من العالم" .

من الواضح، وهذا هو الهدف الكامل بالنسبة لأرندت، أن "البلد الذي حلمت به لم يكن موجوداً [...] مهما كانت فلسطين، فهي ليست مكاناً يمكن لليهود أن يعيشوا فيه في عزلة، وليست أرضاً موعودة حيث يمكنهم الهروب من معاداة السامية ". ولكن هذا التيار القومي اليهودي سوف يتأكد من تجاهل هذه الحقيقة. تُشير أرندت إلى "خطر إبعاد اليهود عن الواقع مجددًا ". وفي مواجهة واقع معاداة السامية المُستمر، والذي من الواضح أنه لم يختف مع بداية قيام دولة إسرائيل، توقعت الفيلسوفة رد فعلٍ انفعالي، وتصلبًا قوميًا نتيجةً لهذا العمى: "يتظاهر بعض القادة الصهاينة بالاعتقاد بأن اليهود قادرون على الحفاظ على وجودهم في فلسطين ضد العالم أجمع، وأنهم قادرون على مواصلة سياسة كل شيء ولا شيء ضد الجميع وكل شيء. [...] لكن وراء هذا التفاؤل يكمن يأسٌ عميق وقبولٌ عميقٌ للانتحار. "

***

علي عمرون – أستاذ فلسفة

 

تشكل مجزرة الأرمن واحدة من أبشع الجرائم والمآسي التي شهدها القرن العشرون، تحديداً في (24) نيسان/ أبريل 1915، التي تجلى بها الفكر القومي المتطرف في ممارسة التطهير العرقي. حصلت المأساة في قلب الدولة العثمانية المتهالكة التي بدأت تفقد نفوذها مع تصاعد النزعات القومية. ومع تأسيس "جمعية الاتحاد والترقي" واستلامها السلطة، برز تيار قومي تركي عنيف يدعو إلى "تتريك" الدولة، وجعل الهُوِية التركية فوق جميع الهُوِيات الأُخرى. هذا الطابع القومي المتشنج لم يكن مجرد شعور بالإنتماء، بل تطور إلى شوفينية عنصرية تُقصي الآخر المختلف، حيث كُتب فصل دامٍ مازال عالقاً في الذاكرة الجمعية المؤلمة، اسفر عن نتائج مرعبة أدت إلى مقتل ما يقارب مليون ونصف المليون أرمني خلال سنوات الحرب العالمية الأولى (1915-1917). إلى جانب تهجير وتشريد مئات الآلاف من السكان وتدمير مجتمعات كاملة كانت جزءاً أصيلاً من النسيج الاجتماعي الثقافي للمنطقة.

المسيحيون الأرمن إحدى أكبر الجماعات العرقية المتميزة التي كانت تعيش منذ قرون في منطقة الأناضول التي هي جزء من الدولة العثمانية، وكانوا يتمتعون بحضور اقتصادي وثقافي واجتماعي متميز. وفي أواخر ثمانينيات القرن التاسع عشر، شكَّل بعض الأرمن منظمات سياسية تهدف إلى المطالبة بحقوقها في إطار الحكم الذاتي، هذا التوجه أثار شكوك الدولة العثمانية حول مدى ولاء الأرمن. في بادئ الأمر، كانت السلطات العثمانية تستوعب بعض المظالم الاجتماعية الأرمنية، ولكن في ربيع عام 1909، تحولت المظاهرات الأرمنية المطالبة بالحكم الذاتي الى أحداث عنف دموية راح ضحيتها الكثير من المواطنين من الطرفين.

مجزرة الأرمن، كانت نتيجة لمجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والدينية. أُرتكبت في سياق قومي شوفيني، حيث اجتمعت النزعة القومية المتطرفة مع أدوات السلطة العثمانية، في إطار تطهير عرقي ممنهج أدى إلى كارثة إنسانية. كانت السلطات العثمانية متذمرة من وجود الأرمن، بسبب قربهم من روسيا، وإحتمالية انضمامهم للعدو الروسي أثناء الحرب، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات قاسية ضدهم. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك خوفاً من زيادة نفوذ الأقليات المسيحية داخل الدولة العثمانية، مما دفع بعض القادة إلى اعتبار الأرمن تهديداً يجب التخلص منه. 

ومع زيادة مطالب الأرمن الحقوقية، بدأت التوترات تتوسع بين الأرمن والحكومة العثمانية نتيجة للتمييز الديني والعرقي، وأخذت مسارات معقدة، لا سيما خلال الحرب العالمية الأولى، اتهمت السلطات العثمانية الأرمن بالتعاون مع عدو تركيا الجيش الروسي، ما أدى إلى إشكالات عديدة أدت إلى اتخاذ قرارات جائرة بالضد من الأرمن. وفي 24 أبريل 1915، بدأت السلطات العثمانية باعتقال وقتل قادة المجتمع الأرمني في إسطنبول، وهو ما يُعد بداية الإبادة الجماعية.

 وفي بداية مايو 1915، توسعت المضايقات الحكومية للأرمن، ترحيل قسري لمئات الآلاف من الأرمن من منازلهم في شرق الأناضول باتجاه سوريا والعراق، وزحفت أعداد كبيرة من المدنيين على شكل قوافل إلى أقاليم أرمنية ذات كثافة سكانية في شرق الأناضول. وقد رافق هذا الهجوم العنفي مشاهد دموية وعمليات سرقة واغتصاب واختطاف وابتزاز وتعذيب وتنكيل، أدت إلى موت مئات الآلاف من الأرمن قبل الوصول إلى معسكرات الاعتقال المخصصة لهم. ووسط هذه المشاهد المرعبة سقطت القيم الأخلاقية والإنسانية، وتواطأت السياسة الدولية بالصمت أو التجاهل لتضيف مزيداً من الآلام على ذاكرة الناجين من المجزرة.

ارتبطت مسألة محاربة الأرمن ارتباطًا وثيقاً بأحداث الحرب العالمية الأولى، حيث شاركت الدولة العثمانية بشكل رسمي في الحرب في نوفمبر 1914 إلى جانب دول المحور (ألمانيا والنمسا-المجر)، الذين قاتلوا ضد (بريطانيا العظمى وفرنسا وروسيا وصربيا). وفي ظل تلك الظروف الاستثنائية أُرتكبت الأعمال الوحشية وعمليات الإبادة الجماعية.

ورغم التعددية الثقافية والدينية التي كانت تتسم بها الإمبراطورية العثمانية، فإن صعود الفكر القومي الطوراني - الشوفيني - إلى سدة الحكم عبر "حزب الاتحاد والترقي"، شكل تحوّلاً خطيراً نحو سياسات الإقصاء والتصفية العرقية، خاصة ضد الأقليات غير المسلمة، لاسيما المسيحية منها.

كان الفكر القومي الشوفيني الذي تبناه قادة "الاتحاد والترقي" يقوم على فكرة مركزية تفوق "العرق التركي"، وسعيه لخلق وطن متجانس عرقياً ودينياً. واعتُبرت الأقليات، خصوصاً الأرمن والمسيحيين، "كياناً غريباً" داخل هذا المشروع القومي، مما جعلهم هدفاً مباشراً لخطط "التطهير" التي رُوج لها باعتبارها ضرورة وطنية للحفاظ على أمن الدولة ووحدتها، تحت ذرائع واهية مثل "الخيانة" بعد اتهام الأرمن زيفاً بالتحالف مع قوى أجنبية معادية، أي "التحالف مع الروس".

استغلت السلطات العثمانية هذه الاتهامات كذريعة  نفذت من خلالها مذبحة مأساوية من خلال  القتل الميداني وارتكاب أبشع حالات الاضطهاد والقتل الجماعي، والتهجير القسري،  وعمليات الاغتصاب وغيرها من الممارسات البعيدة عن القيم الإنسانية. لم تكن هذه الأفعال مجرد تجاوزات عسكرية في زمن الحرب، بل كانت مدفوعة بعقيدة واضحة تسعى إلى تطهير الأناضول من كل ما هو غير تركي وغير مسلم. ولم يكن الأرمن وحدهم من دفعوا ثمن هذا الفكر المتطرف، بل طالت المذابح أيضاً الآشوريين والسريان والكلدان، حيث شُنت حملات إبادة مماثلة ضدهم نتيجة للنهج القومي المتطرف.

هذا التصرف العنفي الدموي كشف عن حقيقة طبيعة المشروع القومي العثماني الجديد الذي أراد خلق "أمة واحدة" بالقوة، ولو على أنقاض شعوب بأكملها. أظهرت أحداث الكارثة بأنه يمكن للفكر القومي الشوفيني المتعصب الراغب في النقاء العرقي أن يتحول إلى أداة فتاكة بيد سلطة الدولة.

رغم مرور أكثر من قرن على مأساة المجازر، لا تزال الدولة التركية الرسمية ترفض الاعتراف بهذه الجريمة إلى يومنا بأن ما حصل يعتبر "إبادة جماعية". هذا الموقف الرسمي المتشنج المتمسك بمسألة استمرارية الإنكار، يشكل جزءاً من البنية الفكرية القومية المتطرفة. ويُعد هذا الإنكار امتداداً لنفس المنظومة التي سمحت أصلاً بوقوع تلك المأساة.

إن مذبحة الأرمن لم تكن مجرد فصل من فصول من العنف العشوائي، بل كانت نتاجاً مباشراً لفكر قومي شوفيني تبنى الإقصاء والتطهير العرقي كوسيلة لصياغة هُوِيّة وطنية متخيلة. وهي حقيقة مأساوية توضح لنا كيف يمكن للفكر المتطرف أن يتحول إلى أداة إبادة حين يتحالف مع السلطة والقوة العسكرية.

ورغم محاولات التعتيم على هذه الجريمة وإنكارها، ولكن الدلائل التاريخية والشهادات الموثقة والوثائق الرسمية أثبتت بأن ما حدث يرقى إلى مرتبة الإبادة الجماعية وفقاً لتعريف الأمم المتحدة لعام 1948 بشأن منع جرائم الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.

إحياء ذكرى الإبادة الجماعية للأرمن لا يعني تغذية مشاعر العداء أو الانتقام، وإنما إلى ترسيخ ثقافة الوعي بالتاريخ، وتعزيز احترام حقوق الإنسان، ومنع تكرار هكذا جرائم مشينة بحق البشرية. مأساة مجزرة الأرمن ستبقى جرحاً مفتوحاً لا يندمل في ضمير وذاكرة الإنسانية، ومسؤولية أخلاقية لتذكيرالأجيال بكيفية التصدي للظلم بكل أشكاله. وهذا يتطلب عملاً متواصلاً ومتعدد الجوانب في تثقيف الأجيال القادمة، بأهمية إستذكار هذا الحدث المأساوي الذي يهدف إلى تكريم ضحايا المجزرة، ومنع حدوث مثل هذه الجرائم مستقبلاً من خلال إقامة فعاليات تذكارية تسلط الضوء على الأحداث التاريخية تسهم في نشر الوعي والتعليم، وإدراج مادة الإبادة الجماعية في المناهج الدراسية وتعزيز البحث الأكاديمي حولها. والتواصل في مجالات العطاء الفني والأدبي، كتابة المقالات والكتب، وإنتاج أفلام وثائقية، وإقامة معارض فنية تعكس معاناة الأرمن وقصص الناجين من تلك الأحداث. والمساهمة في الدعوة للاعتراف السياسي بالضغط على الحكومات للاعتراف بهذه المجزرة وإدانة مرتكبيها، والمطالبة بالعدالة التاريخية.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا

التضامن المغربي مع فلسطين.. بين الولاء الوطني والتضامن الإنساني

"لسنا صدى لأحد، ونحن فخورون بمغربيتنا، لكننا مع فلسطين ضد همجية الاحتلال" – هذه العبارة التي أطلقها الكاتب والإعلامي ياسين عدنان تختزل إشكالية معقدة يعيشها المغاربة في تعاطيهم مع القضية الفلسطينية. فكيف يمكن الجمع بين الفخر بالهوية المغربية والانحياز إلى قضية تحررية خارج الحدود؟ ولماذا ينظر إلى التضامن المغربي مع فلسطين على أنه "صدى" لجهة ما، بدلاً من اعتباره موقفاً مستقلاً نابعاً من قناعة ذاتية؟

في هذا المقال، سنحاول تفكيك هذه الإشكالية من خلال أربعة محاور رئيسية: الجذور التاريخية للتضامن المغربي مع فلسطين، السياق السياسي والثقافي لهذا التضامن، القراءات المختلفة لهذه الظاهرة، وأخيراً مستقبل هذا التضامن في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية.

المحور الأول: الجذور التاريخية للتضامن المغربي مع فلسطين

1.1 البعد الديني والروحي

يرتبط المغاربة بفلسطين بروابط روحية عميقة تجعل من القضية الفلسطينية جزءاً من الوجدان الجمعي المغربي. فالمسجد الأقصى، كأولى القبلتين وثالث الحرمين، يحتل مكانة خاصة في المخيال الديني المغربي. وقد ظل سلاطين المغرب على مر التاريخ يوجهون الهبات والعطايا لعمارة المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية في القدس، مما خلق تراكماً تاريخياً للارتباط الروحي بين المغرب وفلسطين.

1.2 ذاكرة المقاومة ضد الاستعمار

يشترك المغرب وفلسطين في تجربة الصراع ضد القوى الاستعمارية، وإن اختلفت السياقات التاريخية. فبينما كان المغرب يحارب الاستعمار الفرنسي والإسباني في النصف الأول من القرن العشرين، كانت فلسطين تواجه المشروع الصهيوني المدعوم من بريطانيا. هذه التجربة المشتركة خلقت نوعاً من التضامن العضوي بين حركات التحرر في البلدين.

وقد تجلى هذا التضامن عملياً عام 1948 عندما تطوع المئات من المغاربة للقتال إلى جانب الفلسطينيين ضد العصابات الصهيونية، في إطار ما عرف بـ"جيش الإنقاذ" الذي شكله عبد القادر الحسيني. ولا تزال ذاكرة هؤلاء المتطوعين حية في الوعي الجمعي المغربي كرمز للتضامن مع القضية الفلسطينية.

1.3 التضامن الشعبي في زمن الملك الحسن الثاني

في عهد الملك الحسن الثاني، اتخذ التضامن المغربي مع فلسطين أبعاداً رسمية وشعبية. فمن الناحية الرسمية، كان المغرب من أوائل الدول العربية التي دعمت منظمة التحرير الفلسطينية واعترفت بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. ومن الناحية الشعبية، شهدت المدن المغربية مظاهرات حاشدة تضامناً مع الفلسطينيين، خاصة بعد حرب 1967 واحتلال إسرائيل لما تبقى من فلسطين التاريخية.

المحور الثاني: السياق السياسي والثقافي للتضامن المغربي المعاصر

2.1 الربيع العربي وتحولات الوعي

شكلت أحداث الربيع العربي منعطفاً مهماً في تعاطي الشعوب العربية مع القضية الفلسطينية. فبعد عقود من احتكار الأنظمة العربية لملف الصراع العربي-الإسرائيلي، برزت مبادرات شعبية مستقلة للتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين. وفي المغرب، تجلى هذا التحول في ظهور حركات مناهضة للتطبيع مع إسرائيل، مثل "الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع"، التي نظمت وقفات واحتجاجات في مختلف المدن المغربية.

2.2 المسيرات الشعبية: الرباط نموذجاً

في أبريل 2025، شهدت العاصمة المغربية الرباط مسيرة حاشدة تضامناً مع غزة، شارك فيها عشرات الآلاف من المغاربة من مختلف الشرائح الاجتماعية والانتماءات السياسية. ووصفت وسائل الإعلام المسيرة بأنها "ملحمة جديدة سطرها المغاربة"، حيث رفعت الأعلام الفلسطينية إلى جانب الأعلام المغربية، وهتف المشاركون بشعارات تندد بـ"حرب الإبادة" التي يشنها الجيش الإسرائيلي على غزة.

2.3 المثقفون والفنانون.. صوت التضامن

لعب المثقفون والفنانون المغاربة دوراً بارزاً في تعبئة الرأي العام المغربي للتضامن مع فلسطين. فمن ياسين عدنان الذي يدافع عن شرعية هذا التضامن، إلى اللاعب الدولي حكيم زياش الذي عبر علناً عن رفضه لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، إلى المهندسة المغربية ابتهال أبو السعد التي ضحت بوظيفتها في مايكروسوفت احتجاجاً على تعاون الشركة مع إسرائيل. هؤلاء وغيرهم يمثلون وجوهاً مغربية بارزة اختارت أن تعلن تضامنها مع فلسطين دون أن يتناقض ذلك مع انتمائها المغربي.

المحور الثالث: قراءات في التضامن المغربي مع فلسطين

3.1 القراءة الوطنية: التضامن لا يناقض الهوية

ينطلق أنصار هذه القراءة من فكرة أن التضامن مع القضايا العادلة في العالم هو جزء من الهوية المغربية الأصيلة. فالمغرب، بموقعه الجيوستراتيجي وتاريخه الحضاري، لا يمكن أن ينغلق على همومه الداخلية ويتجاهل معاناة الشعوب الأخرى، خاصة إذا كانت تربطه بها روابط دينية وتاريخية كما هو الحال مع فلسطين.

3.2 القراءة النقدية: بين التضامن والمصالح الوطنية

يطرح بعض المغاربة تساؤلات حول مدى استفادة المغرب من هذا التضامن، خاصة في ظل ما يرونه تقاعساً فلسطينياً عن دعم القضية الوطنية المغربية، كما حدث في تصريحات جبريل الرجوب التي اعتبرت متحيزة للجزائر في نزاعها مع المغرب حول الصحراء. وهنا يبرز سؤال مركزي: إلى أي حد يمكن الفصل بين التضامن الأخلاقي مع قضية عادلة وبين حسابات المصلحة الوطنية؟

3.3 القراءة الاستراتيجية: التضامن كخيار سياسي

ترى هذه القراءة أن التضامن المغربي مع فلسطين ليس مجرد موقف عاطفي، بل هو خيار استراتيجي يستند إلى رؤية مغربية للصراع في المنطقة. فالمغرب، بحكم حضوره الدولي وعلاقاته المتوازنة مع مختلف الأطراف، يرى في دعمه للقضية الفلسطينية مساهمة في إرساء استقرار المنطقة برمتها.

المحور الرابع: مستقبل التضامن المغربي مع فلسطين

4.1 تحديات التطبيع

يشكل التطبيع الرسمي بين المغرب وإسرائيل تحدياً كبيراً للتضامن الشعبي المغربي مع فلسطين. فمن ناحية، هناك إرادة سياسية مغربية لتحقيق مصالح معينة من خلال هذا التطبيع، ومن ناحية أخرى هناك رفض شعبي واسع للتطبيع مع دولة تحتل أراضي عربية. هذا التناقض يضع المغاربة أمام اختبار صعب لموازنة ولائهم الوطني مع التزامهم الأخلاقي تجاه القضية الفلسطينية.

4.2 صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف

مع صعود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل، وتصاعد وتيرة الاستيطان والاعتداءات على المقدسات الإسلامية في القدس، من المتوقع أن يشهد التضامن المغربي مع فلسطين مزيداً من الزخم. فالمغاربة، كغيرهم من المسلمين، يرون في القدس والأقصى رمزاً دينياً لا يمكن التنازل عنه، مما يجعل القضية الفلسطينية قضية شخصية بالنسبة لكثير منهم.

4.3 دور الشباب المغربي

يلعب الشباب المغربي دوراً محورياً في إعادة تعريف أشكال التضامن مع فلسطين، بعيداً عن الخطاب التقليدي. فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي والحركات الاحتجاجية المبتكرة، يستطيع الشباب المغربي التعبير عن تضامنه مع الفلسطينيين بطرق تتناسب مع روح العصر، مع الحفاظ على الثوابت الوطنية المغربية.

نحو تضامن عقلاني متوازن

التضامن المغربي مع فلسطين ليس ظاهرة طارئة أو موضة عابرة، بل هو جزء من نسيج الهوية المغربية المركبة التي تجمع بين الانتماء الوطني والالتزام الإنساني. وكما قال صديقي المثقف المغربي "ياسين عدنان"، يمكن للمرء أن يكون فخوراً بمغربيته وفي نفس الوقت منحازاً إلى قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية.

إن التحدي الذي يواجه المغاربة اليوم هو كيفية الحفاظ على هذا التضامن الأصيل مع فلسطين، دون أن يتحول إلى أداة في الصراعات الإقليمية، ودون أن يؤثر سلباً على المصالح الوطنية للمغرب. وهذا يتطلب وعياً نقدياً قادراً على التمييز بين التضامن المشروع مع المظلومين وبين الاستغلال السياسي لهذا التضامن.

في النهاية، يبقى التضامن المغربي مع فلسطين شاهداً على حيوية المجتمع المغربي وقدرته على الجمع بين الانتماء الوطني والانفتاح على قضايا الأمة، وهو ما يجعل من المغرب نموذجاً فريداً في المنطقة العربية.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم