آراء

آراء

في النقاش بشأن سياسة أميركا الخارجية، حدد الباحثون 4 اتجاهات، يمثل كل منها سمة عامة لسياسات الرؤساء المتعاقبين وحكوماتهم. أظن أن كثيراً منا يستطيع رؤية الفوارق بين السياسة الخارجية للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، وسياسات سلفه جورج بوش، ومن قبله جيمي كارتر ورونالد ريغان... وغيرهم. وها نحن نرى العالم مشغولاً اليوم باستكشاف النهج السياسي للرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب.

يُنسب كل من تلك الاتجاهات إلى واحد من الرؤساء القدامى، الذين يُنظر إليهم أيضاً بوصفهم صنّاعاً للآيديولوجيا السياسية الأميركية. دعنا نأخذ مثلاً الاتجاه الذي يميل إلى «الانكفاء على الذات»، ويُنسب عادة إلى الرئيسين جورج واشنطن (1789 - 1797) وتوماس جيفرسون (1801 - 1809). فهذا الاتجاه يميل إلى تحاشي الانخراط في حروب خارجية. ويرى أن الخيار الأمثل للولايات المتحدة هو أن تكون القطب الاقتصادي للنصف الغربي من الكرة الأرضية؛ ذلك أن تفاعلها مع أوروبا والأميركتين سيتيح لها تطوير اقتصاد مزدهر، يغنيها عن النزاعات المحتدمة في آسيا وأفريقيا.

وعلى العكس من ذلك تماماً «الاتجاه الليبرالي»، الذي يُنسب إلى الرئيس وودرو ويلسون (1913 - 1921)، ومبدؤه أن الولايات المتحدة ستكون أكثر أماناً وازدهاراً إذا كان العالم مستقراً متصالحاً. ويرى أن انتشار مبادئ الديمقراطية الليبرالية عبر القارات سيجعل الحكومات أميل إلى التفاوض والتفاهم، ويحجّم تأثير المتطرفين ودعاة الحروب.

بين هذين الخطين المتناقضين، يذكرون أيضاً «الاتجاه المتشدد»، الذي يميل إلى التدخل الواسع، اقتصادياً وعسكرياً، في شتى أنحاء العالم، ويعدّ الكرة الأرضية كلها نطاقاً للأمن القومي الأميركي. إن الميل الشديد إلى «العولمة الاقتصادية» ثمرة لهذا الاتجاه، الذي يُنسب عادة إلى الجنرال آندرو جاكسون، الرئيس السابع للولايات المتحدة (1829 - 1837).

أميل إلى تقسيم السياسة الأميركية الدولية إلى اتجاهين فحسب: «اتجاه محافظ» و«اتجاه تدخلي». وأرى أن هذا التقسيم - رغم عموميته - أوسع انطباقاً على الواقع التاريخي للسياسة الأميركية خلال الخمسين عاماً الماضية. وهما على أي حال متداخلان؛ بقدر أو بآخر.

يحمل «الاتجاه المحافظ» معظم السمات المعروفة عن «الآيديولوجيا المحافظة»، من التركيز على التجارة والاقتصاد، إلى تحاشي النزاعات العسكرية الكبرى، وعدم الثقة بالمنظمات التي تؤطر العمل السياسي الدولي، أو تقرر سياسات طويلة الأمد نيابة عن الدول الأعضاء. هذا الاتجاه ينطلق من أن الولايات المتحدة قوة اقتصادية متكاملة، وأن بوسعها تطوير تفاعل نشط بين العرض والطلب في سوق محلية متكاملة، لا تنعزل بالضرورة عن الأسواق ومصادر الخامات الدولية، لكنها أيضاً لا تخضع للضغوط النشطة في هذه الأسواق.

يميل هذا الاتجاه إلى «الانكفاء على الذات». وحين يبدي حماسة للعمل الدولي، فسيكون على الأغلب مكرساً لخدمة استراتيجيات محلية قصيرة الأمد، وليست بالضرورة آيديولوجية أو جيوبوليتيكية.

أما «الاتجاه التدخلي»، فهو يرى، عموماً، أن قوة الولايات المتحدة تكمن في حضورها الفعال على الساحة الدولية، وأن العالم كله سوق للمنتجات الأميركية ومصدر للخامات والموارد الأولية. يحظى هذا الاتجاه بدعم الشركات الكبرى، المالية والصناعية واللوجيستية، كما يحظى بدعم الأكاديميين ومن يمكن إدراجهم ضمن «الاتجاه الأخلاقي» في النخبة العلمية والمجتمع المدني. دعم التجار سببه واضح، أما دعم الأكاديميين والمجتمع المدني، فيرجع إلى اعتقادهم بأن لدى الولايات المتحدة قوة ناعمة مؤثرة، تشكل وسيطاً فعالاً في علاقتها بشعوب العالم. تمتد القوة الناعمة من التجارة إلى الثقافة والفن والعلوم... إلخ.

أرى أن السمات الرئيسية لـ«الاتجاه المحافظ» أكثر انطباقاً على سياسات الرئيس ترمب، وفقاً لما عرفنا في دورته الرئاسية الأولى (2017 - 2021)، وهذا واضح أيضاً في دورته الثانية، رغم أن الوقت ما زال مبكراً لوضع تقييم دقيق.

وفقاً لهذا التصور، أستطيع القول إن ترمب ليس رئيساً محارباً، ولا هو ميال إلى التوسع الخارجي وخوض صراعات مكلفة... إنه أقرب إلى تاجر يسعى إلى بيع بضاعته وتخفيض التكلفة. وهو يرفع صوته بالتهديد والوعيد كي يُبعد الآخرين عن طريقه، من دون حماسة للصدام الفعلي.

ستظهر صدقية هذا الاحتمال أو بطلانه مع نهاية العام الحالي كما أظن.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

ان أفضل توصيف لسياسات الرئيس ترامب هو ما تفضل به الاقتصادي الأمريكي المعروف والحآئز على نوبل في الاقتصاد جوزيف استغلتز الذي قال " ان سياسات ترامب لا تعتمد على أي نظرية اقتصادية، وبالتالي حتى أولئك الذين يريدون التفاوض معه لا يعرفون كيف، لأن سياساته لا تعتمد على نظرية اقتصادية أو حتى على منطق سليم. طبعا هناك آراء عديدة حول كيف توصل ترامب الا ان فرض التعرفات الجمركية سيجبر المصانع الأمريكية إلى العودة إلى الولايات المتحدة وستخلق فرص عمل في الداخل الأمريكي. يعتمد ترامب على مستشاره للتجارة وهو السيد بيتر نافارو، وهو اقتصادي أمريكي عمل مساعدا لترامب في عدد من الوظائف. نافاورو معروف بآرائه المتشددة حول التجارة وكان من اهم مستشاري ترامب في السياسات المتعلقة بالتجارة وبالذات فرض الرسوم الجمركية على الصين.

 نافورو أستاذ الاقتصاد في جامعة كالفورنيا في أرفين، لدى نافاورو عدد من المؤلفات حول التجارة وهو أحد أبرز منتقدي سياسات الصين التجارية، أعماله تركز على الاختلالات التجارية وتراجع التصنيع في الاقتصاد الأمريكي.

منهج وسياساته مثيرة للجدل وهي محل نقد من معظم الاقتصاديين. حيث يعتقد الكثيرين ان هذه السياسات ستقود إلى حروب تجارية، بينما يرى مؤيديه أنها ضرورية لحماية المصالح الأمريكية.

نظرا للمخاوف من تراجع سندات الخزانة الأمريكية الأسبوع الماضي (إضافة الى انهيار سوق الأسهم). تراجع الرئيس ترامب – على الأقل في الوقت الحالي عن معظم الرسوم الجمركية الجديدة التي هدد بفرضها على نحو 60 دولة، ولكن، بينما قد تكون الاسواق قد كسبت هذه المعركة فان الحرب التجارية لم تنته بعد.

كان تراجع ترامب ملحوظا، كما يتضح من رد فعل السوق، فبعد ان شهدنا أكبر انخفاض في مؤشر ستاندارد بورز 500 منذ عام 2020، شهدنا بعد ذلك أكبر انتعاش منذ 2008. لكن خلف الكواليس، يشعر العديد من المستثمرين بالقلق من أننا لم نشهد بعد نهاية الانهيار، ولا يزال العديد يتوقعون ركودا اقتصاديا هذا العام، على الرغم من تراجع ترامب.

يعود جزء من سبب التشاؤم المستمر إلى بقاء العديد من التعرفات الجمركية سارية. لا تزال الواردات إلى الولايات المتحدة خاضعة للتعرفة الأساسية البالغة 10٪. حتى أسابيع قليلة مضت، كانت الرسوم الجمركية تعتبر صدمة عميقة لنظام التجارة العالمي. ولا يزال من المتوقع ان يكون لها تأثير كبير على التضخم والطلب الكلي في الولايات المتحد،. بالإضافة إلى عائدات التصدير للعديد من شركاء الولايات المتحدة التجاريين. بينما يامل ترامب في إبرام صفقات مع دول مختلفة، الا انه من غير الواضح ما سيحدث بعد فترة التوقف التي تبلغ 90 يوما للتعرفات الجمركية المتبادلة (باستثناء الصين)، خاصة في حالة عدم وجود اتفاقيات.

لكن الخبر الأبرز هو التصعيد الكبير في الحرب التجارية مع الصين. رفع ترامب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية الى نسبة مذهلة بلغت 125٪ بعد أعلنت بكين عن رسوم جمركية متبادلة على الوردات الأمريكية. سيكون تاثير هذه المرسوم كبيرا. فرغم تصاعد التوتر بين البلدين، حافظت التجارة بين الولايات المتحدة والصين على أهميتها، حيث بلغت 585 مليار دولار في العام الماضي وحده.

إجمالا، يعد معدل التعريفات الجمركية الحالي في الولايات المتحدة الأعلى منذ الثلاثينات من القرن الماضي. ستسبب هذه التعريفات فوضى للمصنعين الأمريكيين، الذين يستوردون العديد من مدخلات الإنتاج من الصين. ستؤدي هذه التعريفات الى انخفاض إيرادات الشركات المصدرة الى الصين، وارتفاع لأسعار للمستهلكين في أمريكا. كما سيتأثر الاقتصاد الصيني سلبيا. ستنخفض عائدات التصدير، وسترفع التعريفات الصينية الانتقامية أسعار الواردات من الولايات المتحدة، مما يؤثر على أسعار كل شيء من الهواتف الذكية الى فول الصويا.

يبدوا ان فريق ترامب أدرك هذا هذا متاخرا. فقد أصدرت الإدارة مذكرة خلال عطلة نهاية الأسبوع تعلن فيها ان الهواتف الذكية، أكثر السلع المستوردة من الصين الى أمريكا، ستعفى من الرسوم الجمركية، كما ستعفى واردات مهمة أخرى، من الأجهزة الإلكترونية الى أشباه الموصلات والخلايا الشمسية. (ان مسؤولي ترامب أشاروا الى ان هذه الإعفاءات قد تكون مؤقتة فقط). وستستفيد دول أخرى تعاني من عجز تجاري كبير مع الولايات المتحدة، من فيتنام الى تايلند الى ماليزيا الى تايوان، من الإعفاءات.

هذا تحول هادئ، وان كان صارخا، عن إدارة زعمت الأسبوع الماضي أنها ستعيد تصنيع هواتف آيفون الى الولايات المتحدة. وقد أديرت هذه المسالة بشكل سيء للغاية. كما أشار بول كروغمان في مقال نشر مؤخراً على موقعه. بات من الواضح ان ترامب وفريقه الأساسي يدركون أنهم تجاوزوا الحدود. فحسب جميع الروايات، يهمش الآن مدير الحرب التجارية- بيتر نافارو- مع تغيير الإدارة لتكتيكاتها.

لكن حتى مع تراجع ترامب عن موقفه، لايزال العديد من المستثمرين متشائمين. فرغم تراجع ترامب عن العديد من الرسوم الجمركية التي هدد بفرضها الأسبوع الماضي. الا ان الضرر الذي أحدثته هذه المعركة التجارية الأخيرة لا يمكن إصلاحه بين عشية وضحاها. فقد أدى سلوك ترامب المتقلب الى زيادة حالة عدم اليقين، وتفاقم التشرذم الاقتصادي وانهيار الثقة في نظام التجارة العالمي المدعوم من الولايات المتحدة.

***

علي الرئيسي - باحث في قضايا الاقتصاد والتنمية 

 

نعيش زَمناً نهمس في دواخلنا: أنحن أبناء القرن الحادي والعشرين، وأدركنا منتجات العقل البشري في اِختراعاته واكتشافاته الهائلة؟ بينما تجدنا ضائعين في الأعجبَ والأغربَ مِن الأوهام! زمن يحلق بنا بأجنحة التَّخلف، حتَّى صرنا كما قال ابن حِلِّزَة اليشكريّ (قبل الإسلام)، في نشوه وصحوه، وهو ما ليس في المعلقة: «إذَا انتشيتُ فَإِنَّنِي/ رَبُّ الْخَوَرْنَقِ وَالسَّدِيرِ/ وَإِذَا صَحَوْتُ فَإِنَّنِي/ رَبُّ الشُّوَيْهَةِ وَالْبَعِيرِ»، ومنها البيت الذَّائع: «وأحبها وتحبني/ ويحب ناقتَها بعيري»(المغربيّ، نشوة الطَّرب).

دعا الاِنتشاء بنزاعات الماضي صاحب عِمامة سوداء، يقف محمساً الأتباع بهتاف «البصرة علويَّة»، وهي مجرد إغفاءة، ما أن يستيقظ منها، الخطيب والجمهور، سيجدون أنفسهم بين ركام مِن المآسي. تجده بالوهم ملكَ الخورنق والسّدير، قصري النّعمان بن المنذر بالحِيرة، وإذا البَصرة التي يخاطبها بمجدٍ علويّ، يطلب صبيانها الماء العذب، وكانت أم الماء، ويستورد أهلها التّمر، وكانت أمَّ النّخيل، لكنَّ «كلّ خَاطِبٍ عَلى لِسَانِهِ تَمْرَةٌ» ما يراه لنيل حاجته (الميدانيّ، مجمع الأمثال).

سَلخ هتاف «البَصْرة علويّة» البَصْرة عن العِراق، عشية مباراة كرة، على أرض البَصرَة، ويصادف تاريخها طعن عليّ بن أبي طالب، ثم وفاته (21 رمضان 40هج)، وموعد المباراة ليس بيد حكومة البَصْرة ولا العراق كافة، إنما توقيت خاص مِن «الاتحاد الدُّولي لكرة القدم» (الفيفا)، وحسب تقدير صاحب الهتاف أنَّ البَصْرة، إذا سمحت بالمباراة، في عشية المناسبة، ستكون «عثمانيَّة»، نسبةً إلى عثمان بن عفان (قُتل: 35هج)، وتعود إلى أجواء معركة «الجمل» (36هج) حيث البْصَرة! فحسب أصحاب المنابر، على العِراق ألا يحسب للعالم حساباً، تُحدد أفراحه وأتراحه بالولادات والوفيات، ونزاعات قبل أربعة عشر قرناً.

لم يكفِ صاحب العِمامة الجدل، الذي ملأ الكُتب في هذه القضية وغيرها مِن السّابقات، تراه أعادنا إلى الجدل بين معتزلة البصرة ومعتزلة بغداد، وعليه صُنف معتزلة البَصْرة عُثمانيَّة سُنيَّة، ومعتزلة بغداد علويّة زيديَّة، ويومها كتب الجاحظ (ت: 255هج) رسالة عُرفت بـ«العثمانيَّة»، رابطاً الأفضلية بين الأربعة الرَّاشدين، حسب القِدم في الخلافة، فردها عليه المعتزليّ البغداديّ أبو جعفر الإسّكافيّ (ت: 240ه) في «نقض رسالة العثمانيّة»، ولأنَّ الجاحظ كان أستاذاً في زَمنه تجاهل الإسكافيّ.

حصل أنّ «دخل أبو عثمان (الجاحظ) صف الوَّراقين (سوق الكُتب) ببغداد، فقال: مَن هذا السّواديّ (الريفيّ) الذي بلغنا أنه يعرض لنقض كُتبنا! والإسكافيّ جالسٌ، فاختفى حتَّى لم يره» (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة). غير أنّ الجاحظَ إذ جعل التَّفضيل حسب تسلسل الخلافة، مقابل الإسكافي وأصحابه، الذي قالوا بالفاضل والمفضول، كان يكن لعليّ كلّ التقدير، وكَتب في خصومه رسالة «النَّابتة» (رسائل الجاحظ)، والتي سميت أيضاً بـ«رسالة بني اُميَّة»، ومع ذلك، صنّفه الفقيه الشّيعيّ أحمد بن موسى بن طاووس (ت: 673هج) في: «المقال الفاطميَّة في نقض رسالة العثمانيَّة» مِن النَواصب، والنَواصب، الذين يسيئون لآل البيت، هم عند فقهاء السّنّة، مثل الغلاة بهم عند فقهاء الشِّيعة، خارج الإسلام.

كيف يُعتبر الجاحظ ناصبيَّاً وهو القائل: «وقال عليّ رحمه الله: قيمة كلِّ امرئ ما يحسن. فلو لم نقف مِن هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة، لوجدناها شافية كافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية» (البيان والتبيين).

أقول: ماذا تجني البصرة مِن علويتها أو عثمانيتها، والقوم اختلفوا وتصالحوا، وماذا يجني العِراق مِن خطاب مأزوم، غير جهلٍ تراكميّ، وربّما لا يهم صاحب الهتاف أمر العِراق، وهو مِمَن سمنت نحورهم بخيره، فمِن حقّه إذا تمثل بما تمثل عبيد الله بن الحر (قُتل: 68هج): «لا كوفة أمّي ولا بَصْرة أبي/ ولا أنا يثنيني عن الرِّحلة الكسل» (الطّبريّ، تاريخ الرُّسل والملوك)، فقلبه لا يعتصر على بلد يهدمه الطّائفيون، مِن أمثاله، «حجراً حجراً»، فليس له مصلحة ببَصرة عراقيّة عامرة، لا عثمانيّة ولا علويَّة.

***

د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

الدولة - إن صح التعبير - مؤسسة متطورة، وإذا كانت هناك قيم مطلقة عابرة للزمكانية، إلا أن الدولة إجرائيا لها ارتباط وثيق بالظرفية، ولا يمكن بحال استنساخ نماذج إجرائية سالفة في واقع مختلف تماما، كما لا يمكن الوقوف عند حرفية النصوص الإجرائية الماضوية في واقع مختلف، قد تكون الروح مطلقة كالمساواة والعدل والحرية، إلا إن إجراء تحقق ذلك لا ينفصل عن الواقع المعيش، وفي نظري لا توجد ديانة أو فلسفة من حيث الابتداء أرادت أن تختزل الدولة في صورة إجرائية مغلقة، لكنها تناولت الدولة وفق ظرفية واقعها الذي تعيشه، فإذا وجدت نصوص في ذلك فهي لا تخرج عن روح القيم المطلقة، أو الظرفية المقيدة بواقعها، وعليه ربط الدولة كليا بواقع ظرفي مختلف تماما ربط يقود العقل المعاصر إلى الجمود والتخلف، وقد يقوده إلى الصراع والنزاع والاحتراب، كما يجعل العقل يعيش في مخيال وهمي يتمثل في أن استنساخ الدولة في صورتها الإجرائية الماضوية تقوده إلى الرفاهية والكرامة والخلاص من آلام الواقع، وهو نوع من الوهم، والهروب من واقع الحال الذي ينبغي أن يدرس بعقلانية الواقع، لا بأوهام الماضي، والكثير مما يروى عن الماضي يصلنا منه ما هو مختزل عن واقعه، وليست الصورة الحقيقية المرتبطة بإنسان تلك المرحلة وفق تقدمه أو تأخره وفق مقياس واقعه وظرفية زمنه.

ولما نتحدث عن السلفية لا نريد هنا السلفية بالمفهوم المذهبي المغلق المتمثل في بعض الجماعات الدينية المعتدة بأرثوذوكسيتها، أو التي ترى الخلاص في رؤى واجتهادات السلف، وليس المراد أيضا الوقوف عند بعض الجماعات الإصلاحية المعاصرة والتي تبنت السلفية لقبا لها، والمراد من حديثي هنا أنه لا يوجد ديانة أو مذهب أو حركة لا سلف لها، أو لا رؤية سلفية لها، تسمت باسم السلفية، أو حتى كانت رافضة لهذا المصطلح، فالعديد من هذه الحركات لها ارتباط سياسي في النشأة، ولها رؤية سلفية حول الدولة والاجتماع البشري، قد تجمد عليها، وقد تتطور رؤيتها إذا ما حدث انفتاح عند بعض منظريها وأتباعها، بيد أن الخلاص من الرؤية الماضوية لا يمكن أن يتمثل في جميع أفرادها، وقد يتعرض المنظرون الجدد لإقصاء من قبل التقليديين - السلفيين - في كل مذهب، والذين يستخدمون البراجماتية النفعية وفق كيان الدولة القائم، وإن كان واقع خطابهم له رؤية ماضوية خلاصية حول واقع الدولة، لهذا يحاربون المنظرين الجدد باسم الدولة نفسها عندما تكون المصلحة واقعة بين السياسي والديني الأرثوذكسي.

قد يكون من الناحية الشكلانية لا خطورة في علاقة السلفيات الدينية والمذهبية بالدولة في الخطوط الجامية والنفعية البراجماتية، الخطورة لما تتسع دائرتها حيث يتمثل إشكاليتها في رفض الآخر القريب دينيا أو مذهبيا إذا كانت مخالفا لسلفيتها الحرفية، ورفض البعيد خارج التفكير الديني ذاته محاولة لإقصائه وإبعاده، مستخدمة أدوات الدولة ذاتها من حيث المؤسسات، وقد تتسع إلى القضائية والضغط الاجتماعي، ولو كانت الدولة لها صورة ليبرالية أو علمانية من حيث الابتداء، ليخرج مفهوم الآخر المختلف من دائرة المواطنة المرتبطة بالذات الواسعة، إلى المواطنة المرتبطة بمدى النفعية من جهة، وبضيق التصنيفات المذهبية تجاه المختلف من جهة ثانية، وتتسع الخطورة عندما يملأ العقل الجمعي المستقِبل لخطابات سلفية ترى الخلاص في نماذج ماضوية هي بذاتها تصارعت وتحاربت، واختزلت في روايات وقصائد شعرية، يستقبل العقل الجمعي هذه الخطابات بلا إعمال عقلي، ولا نقد معرفي، تجعله يعيش الازدواجية بين مخيال الخطاب وظرفية الواقع، ليسقط ذلك سلبا في تأثره بجماعات متطرفة باسم الدين، أو يكون ناقما لمحيطه الذي يعيش فيه.

لهذا لابد من إعادة قراءة الدولة وفق نظريات الواقع، ولابد من نقد مثل هذه الخطابات غير المنضبطة من تديين الدولة وإخراجها من إطارها الإنساني المتحرك، إلى الأطر اللاهوتية المغلقة من جهة، ومن طبيعتها الحالية الواقعية إلى الخلاصات الماضوية الوهمية من جهة أخرى، ليبنى العقل الجمعي على المواطنة المرتبطة بالذات المتساوية بين الجميع، هذه الذات لا تلغي الخصوصيات الدينية والمذهبية والفكرية والثقافية، ولكنها من حيث الدولة يبقى الجميع ذاتا واحدة لا تمايز بينهم، والكل سواء في العمل والاجتهاد والشراك والإبداع والكفاءة، فإذا لم يحدث مثل هذا النقد، وإذا لم يتم إعادة التعامل مع العقل الجمعي ليكون متعقلا ناقدا محاورا، وليس مستقبلا فقط لخطابات من الخارج باسم المقدس أو غيره، قد ينضبط تفكيره حاليا نتيجة قوة الدولة الوطنية، وليس لسبب ما يتمثله من ثقافة جمعية مؤمنة بإنسانية الدولة وظرفيتها الزمكانية، يظهر ضرر ذلك في الخطابات غير المنضبطة التي قد تتحول إلى فعل حال ضعف الدولة المركزية.

فالجماعات الحركية المتطرفة مثلا لم تكن بعيدة عن هذه الخطابات والسلفيات غير المنضبطة، التي بنيت على كراهية وإقصاء الآخر تحت مفهوم «الولاء والبراء»، أو تحت عمومية الأسلمة بما في ذلك المتحرك في الاجتماع البشري، ومحاولة لاستنساخ تجارب سابقة لها ظرفيتها وفق التديين والخلاص باسم المقدس، ولو كانت مرجعيتها روائية وتطبيقات تراثية لا علاقة لها بالنص الأول من حيث الابتداء، هذه الجماعات تجاوزت حد الخطاب إلى الفعل، بيد أن الخطاب الذي تحمله لا يختلف عن خطاب السلفيات الدينية والمذهبية في عالمنا العربي والإسلامي، فما زالت النظرة الخلاصية للدولة في صورتها الماضوية حاضرة، والعديد من أدبيات هذه الجماعات الحركية المتطرفة لا يختلف تماما عن الذي يطرح في الجامعات والمساجد، وما نراه أيضا في الكتب الدينية التقليدية فيما يتعلق بالحكامة، وتصنيف المختلف الديني والمذهبي، وكلاسيكية الولاء والبراء والتكفير والتفسيق، وإسقاطات ذلك على المعاملات والحدود والقوانين المدنية وما يماثلها.

***

بدر العبري – عُمان

 

في زمنٍ لا يتذكّر إلا ما يمكن أرشفته، يغدو غسان كنفاني احتمالًا معطّلًا في ذاكرة تتذكّر اسمه أكثر مما تقرأه، وتردّد صورته أكثر مما تصغي إلى رجفته الأولى.

لا أحد يعرف يقينًا من أين بدأ الحريق، لكن الدخان الذي لا يزال يعلو من جثّة الفكرة، يشير إلى أن شيئًا ما احترق في مكانٍ ما بين اللغة والرصاصة، بين الكتابة والمقصلة، بين أن يكون المرء “غسانًا” أو يُستدعى بوصفه كذلك.

هشاشة الاسم لا تعني ضعف الرمزية، بل إنها علامتها القصوى: حين يُعاد إنتاج الاسم خارج سياقه، وحين يُنزَع عن صاحبه ليُلبَس لغيره، يصبح الاسم نفسه منفى آخر، مؤجّلٌ، معطّل، ومرهق من كثرة الاستخدام.

غسان لم يكن يكتب عن فلسطين كما تُكتب الخُطب أو البيانات. لم تكن فلسطين عنده ساحة، بل سؤال. لم تكن شعبًا، بل صورة ناقصة عن الإنسان في لحظة انكشاف. في البدء لم تكن هناك خرائط، بل وجع. وجع فادح يشبه ما يسميه فوكو بـ”المعرفة الجريحة”، تلك التي لا تأتي من التنظير بل من الحفرة، من الجسد الملقى خارج كل مؤسسات المعنى. وفي هذا البدء، لا يقف غسان كشاهد، بل كمُتّهم يشهر نصّه في وجه محكمة بلا عدالة. لم يكن منفيًا فحسب، بل صار المنفى نفسه. كائنًا مشطورًا بين طفولة مسروقة وأحلام لاجئة، بين بيت يرفض أن يتذكره، ومخيم لا يتوقف عن التكرار.

أن تكتب عن غسان يعني أن تعترف بأنك تأخّرت. أن كل محاولة للكتابة عنه اليوم، تجيء محمّلة بإرث من التأجيل، ووعي متأخر بجرح لم يُختم. لا أحد يكتب عن غسان، بل يحاول أن يكتب تحت وطأة ما تركه غسان في الكلمات. أن تكتب عنه هو أن تكتب من مكان لا تستحقه تمامًا، أن تدخل مساحة خُلقت لتُقفل بعد رحيله. لكن لا بأس. فالكتابة، كما تعلّمنا منه، ليست امتيازًا ولا شرفًا، بل هي اضطرار أخلاقي، فعل قلق لا يهدأ، ومرآة مشروخة نعيد فيها النظر إلى وجوهنا لا لنُصلحها، بل لنفهم لماذا تكسّرت هكذا.

في عالم ما بعد النكبة، كانت اللغة آخر ما بقي للفلسطيني. كل شيء صادرته السلطة: الأرض، والحدود، والجغرافيا، وحتى الحق في الغضب. وحدها اللغة تسللت من بين البنادق، لتقول ما لا يستطيع الإعلام أن يموّله.

هنا تحديدًا كتب غسان. لا بصفته رجل تنظيم، ولا بصفته مناضلًا مؤطرًا، بل بوصفه شظيّة لغة، مقاومة في بنية الجملة، وتمردًا في صيغة الحكاية. لم يكن الطفل في “عائد إلى حيفا” عائدًا، بل هو قطيعة بين زمنين، لا يعترف أحدهما بالآخر. لم تكن المرأة في “أرض البرتقال الحزين” محض أمٍ، بل كانت مجازًا لخراب أنثوي نازف في ذاكرة لم تعد تخص أحدًا.

لقد أدرك غسان مبكرًا أن الكارثة لم تكن في ما فعله العدو فقط، بل في ما فعله أبناء البيت حين صدّقوا خطاب المالك. حين صارت القضية إدارة، وصار الحلم ورقة، وصارت اللغة نشرة حزبية. قالها ذات مرة: “الخيانة ليست دائمًا خيانة القضية، أحيانًا هي خيانة الفكرة داخل القضية.” وهذا، في جوهره، أخطر ما فعله. لم يكن عدوًا واضحًا لأحد، لكنه كان خطرًا على الجميع. لأنه لم يهادن، ولم ينتظر التوقيت المناسب. كتب قبل أن تُراجع الفكرة، وتكلم قبل أن يُسمَح له بالكلام. ولهذا ظلّت الجبهة تنظر إليه ككائن يجب احتواؤه، أو التخلص منه.

غسان لا يُستعاد. من يستعيده يزوّره. لا يُحتفَى به، بل يُقرأ بحذر. لأن نصه لا يُطرب، بل يُفزع. لا يُطمئن، بل يهز. لا يعرض حلاً، بل يفضح من ينتج الحلول الجاهزة. من يحاول تحويل غسان إلى جدارية، يشارك في اغتياله مرة أخرى. ومن يكرّمه بصيغة المؤسّسة، يجهّز له تابوتًا لغويًا لا يليق به.

المنفى، كما كان يراه، ليس غياب الوطن، بل حضور زائد للسلطة. هو اللحظة التي تنسى فيها صوتك، وتبدأ في تكرار جمل الآخرين. هو أن تحضر في المكان، لكنك مغيّب عن الزمن. أن تكون في الجغرافيا، لكن بلا تاريخ خاص بك. وأن تحيا كما يقول أغامبين بـ”الحياة العارية”، تلك التي لا تملك فيها حق أن تكون أكثر من مجرد أداة في يد المراقب.

في عالم عربي يصر على التواطؤ مع النسيان، يصبح استدعاء غسان فعل مقاومة. لا لأننا نحتاج إلى رمز، بل لأننا نحتاج إلى لحظة صدق. والصدق ليس في إعادة تدوير مقولاته، بل في خيانة الموروث البليد، في مساءلة اللغة التي أصبحت صنمًا، وفي تمزيق الصورة التي صارت شعارًا بلا روح. أن نقرأ غسان اليوم يعني أن نقرأ أنفسنا في مراياه المهشّمة، أن نعيد طرح الأسئلة التي سُكِت عنها طويلاً: من سرق الوطن؟ من استبدل الثورة باللجنة؟ من تواطأ على اللغة؟ ومن رضي بالانتظار؟

غسان، في النهاية، لم يمت لأنه كتب عن فلسطين. مات لأنه كتبها بطريقة لا تصلح للبيع. لأنه لم يقدّمها كبطاقة، بل كسؤال.

لم يروّج لها كماركة، بل كشظية. لأنه لم يمنح السلطة مخرجًا، ولم يعطِ الاحتلال فرصة للرد.

مات لأنه لم يكن صالحًا لأن يكون جزءًا من العرض.

ولأننا لم نغادر المنفى، فإن غسان لم يغادرنا. لا بوصفه نبيًا، بل كجرحٍ مفتوح في خاصرة اللغة. هشاشة اسمه لا تعني نسيانه، بل تعني أنه لا يزال يوجع. وأن من يحملون اسمه اليوم لا يفهمونه، بل يعيدون قتله كل يوم. وفي هذا، ليس المنفى ما نتعرّى منه، بل ما نكتشف أننا نرتديه كلما ظننا أننا عدنا.

***

إبراهيم برسي - السودان

 

النسق الثقافي الذي يرفض الاختلاف ويتجاهل قيمة التعددية محكوم عليه بالموت، فالحياة الثقافية تُبنى على التنوع والتفاعل بين المختلفين. الهوية ليست كيانًا مغلقًا، بل هي عملية ديناميكية تتشكل من خلال الحوار والتبادل مع الآخر. عندما ترفض ثقافة ما الاختلاف، فإنها تفقد قدرتها على التكيف مع التغيرات وتصبح عاجزة عن مواكبة تطورات العصر، مما يقودها في النهاية إلى الانعزال والموت الثقافي. ويؤكد عالم الأنثروبولوجيا "كليفورد غيرتز" أن "الثقافة هي شبكة من المعاني التي ينسجها البشر من خلال تفاعلهم مع بعضهم البعض." وبالتالي، فإن أي محاولة لإغلاق هذه الشبكة أو رفض التعددية تؤدي إلى تصلب الثقافة وفقدانها لمرونتها، مما يجعلها غير قادرة على التكيف مع التغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. من جهة أخرى، يرى المفكر "إدوارد سعيد" في كتابه "الثقافة والإمبريالية" أن "الهوية الثقافية لا يمكن أن تكون معزولة أو منفصلة عن العالم، بل هي دائمًا في حالة حوار وتفاعل مع الآخر." وهذا الحوار هو الذي يضمن استمرارية الثقافة وتطورها، بينما يؤدي الانغلاق والأحادية إلى جمودها وانحسارها. وفي السياق العربي، يقول المفكر "عبد الله العروي": "التعددية هي شرط أساسي لتقدم المجتمعات، فبدونها تصبح الثقافة مجرد صدى للماضي، عاجزة عن مواجهة تحديات الحاضر." وهذا يؤكد أن رفض التعددية ليس فقط تهديدًا للثقافة، بل أيضًا لعملية التقدم الاجتماعي والفكري.

مثال: خلال القرن العشرين، شهدت العديد من الأنظمة السياسية التي تبنت أفكارًا عنصرية أو شمولية محاولة فرض ثقافة أحادية على مجتمعاتها، مثل نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا أو المانيا النازيه أو البهلوية في إيران. هذه الأنظمة رفضت الاعتراف بالتنوع الثقافي والإثني، مما أدى إلى تفككها وانتهائها بسبب مقاومة الشعوب ورفضها لهذه السياسات. في المقابل، نجد أن المجتمعات التي تبنت التعددية الثقافية، مثل كندا، نجحت في بناء هوية وطنية قائمة على احترام الاختلاف، مما جعلها أكثر استقرارًا وتقدمًا.

الأهوازيون، وهم سكان العرب في الأهواز (المعروف أيضًا باسم خوزستان في إيران)، يتمتعون بتاريخ طويل من الانفتاح الثقافي والتعددية، وذلك بسبب موقعهم الجغرافي الاستراتيجي الذي جعلهم على تماس مع حضارات وثقافات وديانات مختلفة عبر التاريخ. هذا الموقع جعل الأهواز نقطة تقاطع بين الثقافات العربية والفارسية والتركية وحتى الأوروبية (بريطانيا وفرنسة والبرتقال)، مما ساهم في تشكيل هوية ثقافية غنية ومتنوعة وبعيدة عن الأحادية. من أسباب هذا الانفتاح يمكننا أن نشير إلى الموقع الجغرافي المحادي للخليج حيث جعلها على اتصال دائم مع ثقافات وشعوب متعددة، أيضاً التاريخ الحضاري حيث شاهد الأهوازيون ظهور حضارات عدة عندهم وعند جيرانهم، كالحضارة العيلامية والسومرية والبابلية والعربية والفارسية.

 على الرغم من انفتاح الأهوازيين وتقبلهم للثقافات الأخرى على مدى التاريخ، إلا أنهم واجهوا صعوبات في أن تتقبلهم الثقافات الأخرى كشعب أهوازي له تاريخه وثقافته، خاصة في السياق الإيراني الحديث. هذه الصعوبات يمكن تفسيرها بعدة عوامل: أولا: السياسات الاحادية الإيرانية التي تنبع من فكرة الدولة الأمة والتي يصر عليها بعض السياسيين، ثانيا: الإعلام المضلل والصورة النمطية للأهوازيين الذي يحاول أن يظهرهم على أنهم مجرد قبائل مشتتة تسكن هنا وهناك بأعداد قليلة. ثالثاً: حالات عدم الاعتراف بالحقوق اللغوية والثقافية المنصوصة في الدستور الإيراني تجاه كل القوميات المتواجدة في إيران (بناء على إحصائية اليونسكو هناك أكثر من ٧٤ لغة وثقافة في إيران) ورابعا: عدم وجود نخبة حقيقية تطالب بالحقوق الأساسية والدستورية.

إذن هذا الأمر يسلط الضوء على أهمية تعزيز الحوار الثقافي والاعتراف بالتنوع اللغوي والثقافي كأساس لبناء مجتمعات أكثر انسجامًا وتفاهمًا في عصر أصبحت التعددية وقبول الآخر والاعتراف بحقوقه أمر بداهي.

***

د. سعيد بوسامر

أبريل ٢٠٢٥

بهدف التحقق ابتدءا من تعيين موضع مدينة بغداد عند انشائها وهو جزء من موقعها؛ نحتاج إلى الدقه في ذلك من الذين وصفوها جغرافيا من القدماء أمثال الخطيب البغدادي وياقوت الحموي وان لم يعاصروها، وما تيسر لاحقا من الكشوف الاثارية، وباعتماد تكنولوجيا المعلوماتية المتاحة الان وفقا لنظم المعلومات الجغرافية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي المناسبة للتحليلات الجيومكانية للمرئيات الفضائية والصور الرادارية والليزرية والجوية لمتابعة التغيرات المكانية على المدى الزمني. ومدينة (بغداد المدوّرة، أو المنصور، أو العبَّاسية، أو مدينة السَّلام كما عُرفت به رسميًا) أسسها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 145هـ / 762م، وشيدت على الضفة الغربية لنهر دجلة عند بقايا قرية بغداد القديمة. واستهدف المنصور جعلها مقرا رسميا عاصميا للخلافة العربية الإسلامية العبَّاسية.

الموقع الجغرافي لمدينة بغداد المدوّرة وفق الوصف الأول الذي ورد بالنصوص التي دونها القدماء؛ وقوعها على ضفاف نهر دجلة الغربية، ما بين مجرى النهر الذي غير مجراه مرارا بسبب الفيضانات المدمره، وبين مجرى نهر الصراة الذي يتفرع من نهر الفرات، ومساره اصبح يحاذي جنوبي غربي إحدى بوابات المدينة بعد تشييدها، ومنه (أُنشئ نهر كرخايا لتغذية الاجزاء الغربية للمدينة، والذي شُقّت منه أيضا؛ قناة بطول أحد عشر كيلومترا تقريبا للخندق الذي أُحيط بالمدينة)، ومن بقايا نهر الصراة الحديث مسار نهر الخر الذي يمر حاليا في منطقة المنصور/ حي دراغ غربي بغداد.(1)

التخطيط العمراني وتوىسع المدينة

الأبعاد الهندسية التقريبًة لمدينة بغداد المدورة لكل من؛ مساحتها الكلية داخل سورها سبعة كيلومترات مربعة، وبقطر كيلومترين ونصف، ومحيط سورها الدائري تسعة كيلومترات ونصف، وتحيط بمركز المدينة أسوار دائرية قوية مكونة من ثلاثة أسوار متداخلة فيها أربعة أبواب (خراسان، الشام، الكوفة، البصرة) ولكل باب برج مراقبة، اما الشوارع الرئيسية فتمتد من هذه الأبواب إلى مركز المدينة، وخلف الاسور احيطت المدينة بخندق عميق لتعزيز دفاعاتها وشُقّت له قناة من نهر كرخايا ليجري فيه الماء ليشكل أحدى التحصينات العسكرية للمدينة، ويتوسط مركز المدينة المسجد الجامع/ المنصور يجاوره قصر باب الذهب عند تقاطع قُطرَيها المتعامِدَين، ومكتبة دار الحكمة، وتميزت المساجد والقصور والقباب بالزخرفة  بأشكال هندسية أو نباتية. تميز مخطط مدينة بغداد المدورة بأسوارها الدائرية ومركزها المتوسط بأتخاذها شكلًا هندسيًّا منتظمًا دائريًّا كامل الاستدارة، وعليه عدت ظاهرة الجديدة في الفن المعماري الإسلامي، ومثلت قمة الإبداع الهندسي والتخطيط الحضري مما جعلها نموذجًا فريدًا في تاريخ المدن. وقد عانت المدينة لموقعها على ضفاف نهر دجلة من مشكلات الفيضانات المتكررة نتيجة لنظامً النهر الجيومورفولوجيً المعقدً والمتغيرً بالتعرية بنحت الضفاف والترسيب المتراكم مما افضى الى تغير مسار مجرى النهر باستمرار عبر الزمن، وشهدت المدينة اربعة عشر فيضانا عارما بين عام 186هـ/ 802م أي بعد حوالي 40 سنة من تأسيسها، وعام 654هـ/ 1256م، وقد أثر ذلك بشكل كبير على المدينة وسكانها عبر تاريخها.

بعد بناء بغداد المدورة وتزايد السكان فيها وتجنبا للاكتظاظ السكاني سمح الخليفة الثالث محمد المهدي في عام160هـ / 776م، بالبناء في الضفة الشرقية المقابلة للمدينة المدورة واسماها الرصافة (الجانب)، ثم شيد جسرا بينهما كمدينة واحدة. وفي عام 279هـ / 892م فضل الخليفة أحمد المعتمد نقل دار الخلافة الى الرصافة، وتبعه في ذلك كافة الخلفاء من بعده حتى سقوط الخلافة العباسية، واتخذو من قصر المأمون وهو قصر قديم دارا للخلافة؛ لأقامة الخليفة ومقرا لدواوين الدولة، ثم قام الخليفة المعتضد بضمه لقصر الفردوس الذي بناه، وجعل منهما (قصر التاج), "وطبقا لخرائط جونز/ 1852م واطلس بغداد/ 1952م وكوكل/ 2022م"  كانت قصور الخلفاء العباسيين الرئيسة في الرصافة مجاورة لكل من؛ مقبرة (باب أبرز للخلفاء العباسيين خارج قصورهم)، وموضعها محلة البارودية في منطقة الميدان، ومحلة (المخرم وفيها مبنى طاق قصر الخليفة العباسي المأمون القديم)، وموضعها القلعة/ وزارة الدفاع في باب المعظم، و(جامع القصر)، وموضعه جامع الاحمدي في الميدان، و( قصر ام حبيب ابنة هارون الرشيد)، وموضعه قصر الحرم شرقي القصر العباسي في الميدان. وشيد الخليفة المستظهر بالله سور بغداد/ الرصافة عام 488هـ / 1095م، بخمسة ابواب ابرزها باب المعظم والذي دخل منه تخريبا وتدميرا المغول بقيادة هولاكو عام 656هـ / 1258م )). (2)

الكشف الآثاري والتحليل الجيومكاني

بداء الكشف المكاني لموضع مدينة بغداد المدوَّرة عام 1420هـ/ 2000م مع الشروع في مدينة بغداد الحالية بتكسية شواطئ ضفاف دجلة بالحجر، وقبل التكسية عثرت لجنة مرافقة من مؤسسة الاثار العراقية على؛ لَقًى أثرية (قوارير، كِسَر فخارية مزخرفة/ نباتية وهندسية، مسكوكات، وقطعة فخار دائرية فيها أختامُ الخليفة المنصور)، كما عُثر على جدار أثري مغمور بالماء بعمق ستة أمتار، وتكشفت الأسس الضخمة لبقايا قاعة كبيرة، من المحتمل ان تكون قصر المنصور الذي عُرف بقصر باب الذهب. وهكذا فأن الكشوف الآثارية هذه تتوافق مع ما ورد في كتابات المؤرخين القدماء. (3)

تأكيدا لما تقدم نحاول الان؛ استخدام معطيات كل من؛ الخرائط الكارتوغرفية وخرائط الكوكل ايرث والتحليلات الجيومكانية للمرئيات الفضائية، والتي أظهرت أن (ضفة نهر دجلة الغربية) التي جرى فيها الكشف الآثاري المذكور (حاليا مقابل كورنيش الأعظمية)؛ خارجة عن مسار النهر بفعل النحت/ الجرف المستمر لها، وعميقة الشاطيء، خلافا للضفاف المجاورة في شماليها وجنوبيها الحاوية على الرواسب المتراكة؛ وذلك ما يدل على تعرية مياه النهر بنحت هذه الضفة باستمرار عبر الزمن وأدى الى جرف الضفة، وبالتالي جرف نصف المدينة المدورة تدريجيًّا نحو قاع نهر دجلة.

التحليل الطيفي بالألوان المتعددة للمرئية الفضائية لضفة النهر هذه وجوارها؛ اتاح رؤية "هالة دائرية" نصفها تحت سطح مياه نهر دجلة والنصف الاخر تحت سطح ترب الضفاف، وموقعها الفلكي حول تقاطع خط طول 44.3141 شرقا، ودائرة عرض 33.3611 شمالا. ان هذة الهالة تشيرنا الى اطلال السور او اطلال الخندق الدائري الذي كان يحيط بالمدينة بطول تسعة كيلومترات ونصف.

هـكذا يمكن التقرير بان؛  بغداد الحالية بتوسعها المساحي المتواصل هي استمرار للعاصمة العربية الأسلامية العباسية "مدينة بغداد المدوره" ، والتي تقع جغرافيا عند الضفاف الغربية لنهر دجلة، وعبر عشرات السنين ساد الرأي والرأي الاخر لدى الباحثين بصدد الموضع المكاني للمدينة ضمن موقعها، والمؤكد؛ تشييد مدينة بغداد المدوره على ضفة النهر وليس حافته، وأن المساحة الكلية للمدينة المبنية وسورها وخندقها وجوارها من الترع والمزارع والتجمعيات الريفية شغلت مساحة واسعة من الأراضي، وقد توصل التحليل السابق إلى تعرض أجزاء كبيرة من مركز المدينة للغرق، وعليه فأن موضعها المكاني الأن هو؛ "ضمن الأضلاع الوهمية للمثلث المساحي الذي يبداء من مركز المدينة المدوره على ضفة نهر دجلة الغربية (شمالي مقتربات جسر الاعظمية حاليا)، وباتجاه شمالي غربي نحو ساحة عدن/ الكاظمية، وباتجاه جنوبي غربي نحو مسار شارع مطار المثنى". ولا نعلم حاليا حدود أبعاد الاتجاه غربي مركز المدينة المدوره.

***

مجيد ملوك السامرائي – كاتب اكاديمي

........................

المـراجـــع

(1) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، ج1، مكتبة نور،

https://www.noor-book.com

(2) مجيد ملوك السامرائي، باب المعظم وبغداد، مجلة الكاردينيا،2022،

https://algardenia.com

(3) عماد عبدالسلام رؤوف، أكتشاف مركز المدينة المدوَّرة، شبكة الألوكة، 1439هـ/ 2017م،

https://www.alukah.net/cultura

 

أُغلق فندق هيلتون لندن المتروبول (أجوور روود) لاجتماع المعارضة العراقيَّة، لثلاثة أيام من (12 إلى 14 ديسمبر 2002)، حضر المئات، مِن سياسيين، ومَن دخل السّياسة لحظتها، مع المنسق الأفغانيّ الأميركيّ زلماي خليل زادة، أول سفير أميركيّ ببغداد، بعد الغزو، ومتظاهرون خارج الفندق حملوا لافتات الاعتراض، تلاشت هتافاتهم بعد المؤتمر.

كانت الكلمات تلقى، ولا نسمع منها غير العِراق الجديد، والنّظام الدّيمقراطيَّ، ومثالب النّظام المُحتضر. كنا نمزح مع الأصدقاء الكُرد، أنَّ ننتخب، مِن الآن، مسعود البارزاني رئيساً، وبهذا تُحل القضية الكرديَّة، فانبرى أحدهم قائلاً: لا، فأيام وتنقلبون عليه. كنا نمزح على هامش الاجتماعات، بينما تَمرُّ بنا مواكب المختلفين والمؤتلفين مِن عمائم وأفندية، وكاكه مسعود أحدهم، وكان زلماي يطوف، بصحبة أحمد الجلبي (ت: 2015)، على غرفهم، لإصلاح ما بين الفرقاء، فاستعدادات الغزو قد تمت، لحمل المؤتمرين إلى بغداد.

لم يُطرح مشروعٌ مفصل للعمران، غير إسقاط النّظام ومحاكمة أركانه، وكأنها تهيئة للانتقام، فكانت ساحة الطّرف الأغر بلندن تضم تظاهرة أسبوعيّة لهذا المطلب، اخترقها النّظام ببغداد، فشخصيات داخل المعارضة، مِن النّاشطين، غابوا في اليوم الأول بعد السُّقوط، وبعد فرهود وثائق المخابرات، ظهرت قصصهم، ومنهم مَن افتضح قبل ذلك، بعضهم اِتخذ التَّعامل مع النّظام سراً، بسبب اليأس مِن تغييره، لضمان راتبٍ جارٍ، فلا هو يدري ولا المعارضة تدري أنَّ دور بغداد سيأتي بعد كابول.

لكنَّ معارضة الأمس، وسُلطة اليوم، تناسوا الفضل الأميركيّ، فما أنْ فُتحت بوابات بغداد، أدعوا أنّهم فاتحوها، وساعات ويُبث نبأ قتل ابن المرجعية عبد المجيد الخوئيّ بالنّجف، بسكاكين عمائم الميدان الصَّاعدة، وكانت فاتحة المقاتل.

أفرحتنا صبيحة الأربعاء (9/4/ 2003)، وأوحشتنا، فأمام الكاميرات لم يسقط النّظام كالمعتاد، ببيانات وأناشيد، وتلاوة: «وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ»، فلهذه الآية صلة بأسماع العراقيّين، في الانقلابات، الصَّحيحة والمفبركة. ذاب صبيحة الأربعاء النّظام الصّلب كفص ملحٍ، طُبعت صور أركانه على كارتات لعبة «الورق»، وزعها الأميركان، بما يوحي أنَّ اللَّعبةَ قد بدأت.

مَن ولد صبيحة الأربعاء، بلغ اليوم الثّانية والعشرين، سمع بجبروت السّابقين وعاش نظام (الفوضى الخلاقة)، بالقتل والنّهب. بعد هذه السّنوات لم تبق كلمة مِن خطابات الهيلتون، فقد بدأ توزيع الغنائم، واستبدلت الطَّوائف بالوطن، وشُرع الانتماء إلى الخارج، فانقلبت الخيانة فضيلة والوطنيّة رذيلة. أخذ حزب «البعث» السُّلطة الأربعاء (17 يوليو 1968)، ولم يعلن عن هويته لأيام، حتَّى بانت مِن تنصيب أحمد حسن البكر رئيساً (1968-1979)، فُسر ذلك تحسباً مِن ذاكرة العراقيين عن اِنقلاب (8/2/1963)، وكانت إحدى أقسى المحطات في تاريخ العراق، لكنّ العجب ليس في عودة «البعث»، إنما لسقوطه في الأربعاء نفسه، فبعد اِقتحام الدَّبابتين الأميركيتين لساحة الفردوس ببغداد، هوى التّمثال، وانتهى كلّ شيء. فلم تلتقط كاميرات الشَّاشات صورة لأحد أركانه، وبلمحة البصر، اختفت الجداريات والتَّماثيل، ودبت أفواج النَّاهبين لآثار الأولين مِن المتحف، فتداول جنود أميركان حكاية «علي بابا والحرامي»، وهي تعرض أمامهم حيّةً، فسنوات الحصار أفقدت ضحاياها التّوازن الأخلاقي، ولم تنفع الحملة «الإيمانيّة الكبرى» بترقيع الفتوق. كانت الصّورة أمامنا، في أروقة الهيلتون، مفعمة بالآمال، ولم نحسب للمآلات حساباً، بسماع خطابات العمائم والأفندية، الذين كادوا يتلاشون ببلدان الاغتراب، بين التجارات الزَّهيدة والمهن الرخيصة، وإذا بالغزو يمنحهم الجاه والمال، وتسري الحياة في عروقهم. كان نهب العقارات، وتشكيل الفصائل المسلحة، أول الإنجازات، والإصرار على هدم الدّولة، فلكلِّ فصيل دولته. هذا، وشتان بين آمالنا ومآلاتنا.

لم نسمع ما قاله مسكين الدَّارميّ (ت: 89هج) في معادن الرّجال: «ولا تحمد المرءَ قبل البلاء/ ولا يسبق السّيل منك المطرْ/ وإني لأعرف سيما الرِّجال/ كما يعرف القائفون الأثرْ» (التوحيديّ، الصّداقة والصَّديق)، والدَّارميّ شاعر عراقيّ، صاحب البيت الذّائع: «قُل للمليحةِ في الخِمارِ الأسودِ / ماذا أردْتِ بناسكٍ مُتعبّدِ».

***

*كاتب عراقي

 

العولمة كانت حلمًا أمريكيا خالصا. ولد من رحم انتصارات الحرب العالمية الثانية، عندما اجتمع المنتصرون في "بريتون وودز" ليقسموا العالم إلى مربعات اقتصادية، ويختاروا الدولار لغة وحيدة للتبادل. كانت الفكرة بسيطة كخدعة ساحر: اجعل الجميع يؤمنون أن السوق الحر هو طريق الخلاص، ثم امسك أنت بزمام البنوك والجيوش. العولمة لم تكن نظامًا طبيعيًّا، بل قصة روتها أمريكا لذاتها أولًا، ثم صدقها العالم حين رأى في الدولار مرآة تعكس قوة لا تهزم. لكن المرايا لا تكذب إلا حين تكون الأشباح خلفها حية.

الليبرالية الجديدة، ذلك التنين الذي روضته أمريكا، لم يكن سوى وحشٍ من ورق. لقد أقنعونا أن يد السوق الخفية ستوزع العدل، وأن حرية رأس المال ستجعل الفقير يرقص مع الغني على إيقاع واحد. لكن اليد الخفية كانت دائمًا ترتدي قفازًا عسكريًّا. حين انهارت الاتفاقيات، أو رفضت دولة لعبة الدولار، كانت حاملات الطائرات تذكر الجميع بمن يملك حق الفيتو على القوانين والأخلاق.

إذن العولمة الأمريكية لم تكن نظامًا اقتصاديًا، بل آلة لترجمة القوة إلى هيمنة. الدولار لم يكن عملة، بل سيفًا مسلطًا على رقاب الدول. حين أرادت إيران أن تبيع نفطًا باليورو، تحولت حساباتها إلى أشباح في النظام المصرفي العالمي.

شروخ في المرآة

لم تسقط العولمة لأن أحدًا كسر القواعد، بل لأن أمريكا نفسها بدأت ترتعش بيدها. حين أدار ترامب ظهره لاتفاقيات المناخ ورفع شعار "أمريكا أولًا"، وفرض جمارك علي واردات نحو 184 دولة حول العالم، لم ترامب يكن يخون المبدأ، بل يكشفه: العولمة مجرد غطاء لمصالح القوي. الصين، التلميذة التي تجاوزت المعلم، لم تعد تخشى السيف القديم. أقامت طرقًا حريرية تتفادى الدولار، ونسجت شبكات تجارية مع من كانوا بالأمس عملاء لواشنطن.

أوروبا، التي ظلت لعقودٍ جالسة في الظل، بدأت تلملم كرامتها. اتفاقيات التجارة مع آسيا، والحديث عن جيشٍ أوروبي موحد، كلها إشارات إلى أن التبعية لم تعد خيارًا. حتى أمريكا اللاتينية، التي ظنتها واشنطن حديقتها الخلفية، ترفع الآن رايات التحرر من "العقيدة الشمالية"، وتتطلع إلى بكين وموسكو.

الأكاذيب:

أول أكذوبة هي أن "العولمة تعني الازدهار للجميع". الحقيقة أن الازدهار كان يوزع كالجوائز في حفلةٍ خاصة. الشركات العابرة للقارات نقلت المصانع إلى حيث الأجور أرخص، وحولت العمال إلى أرقام في جداول أرباحها. أوهايو التي كانت تغني بصناعة الصلب، صارت ترثي أبنائها الذين تسمموا بأحلام الوظائف العائدة.

ثاني أكذوبة: "العولمة تنشر الديمقراطية". الحقيقة أن الديمقراطية صارت سلعة تصدر مع الأسلحة. حين فتحت واشنطن أسواق الشرق الأوسط بالدبابات، لم تكن تزرع حرية، بل تخلق فوضى تسمح لشركاتها بسرقة النفط تحت شعار "إعادة الإعمار".

صحوة الجنون الأمريكي

أمريكا التي صنعت النظام بدأت تهدمه بشراهة لا تعرف الخجل. الحروب التجارية مع الصين، والتهديدات لأوروبا، والعقوبات التي تشل حركة الحلفاء، كلها أفعال تشبه انتحارًا بطيئًا. لم تعد واشنطن قادرة على لعب دور الشرطي واللص في آن واحد.

الجنون الأمريكي ليس في رفض العولمة، بل في اعتقادها أنها تستطيع العيش خارج التاريخ. الصين تبتكر، روسيا تعيد تشكيل تحالفاتها، والجنوب العالمي يكتشف أن اللعبة يمكن أن تلعب بأكثر من مائدة.

ما بعد السقوط

العولمة الأمريكية تحتضر، لكن العالم لا ينتظر الجنازة. الفوضى التي نراها ليست نهاية، هي مخاض ولادة نظام جديد. العملات الرقمية تتحدى الدولار، التكتلات الإقليمية تعيد رسم الخرائط، والتكنولوجيا تمنح الصغير سلاحًا لمحاربة الكبير.

السؤال الآن: هل سنرى عالمًا تتعدد فيه المراكز، أم ستنزلق البشرية إلى حروبٍ باردة جديدة؟ التاريخ لا يكرر نفسه، لكنه يعلمنا أن القوة لا تموت، بل تتنكر في أزياء مختلفة. أمريكا قد تفقد تاجها، لكن المعركة القادمة هي بين من يريدون إمبراطوريات مغلقة، ومن يحلمون بعالم لا يملك فيه أحد حق فرض القواعد.

العولمة كانت مرآة أمريكا. الآن، وبعد أن سقطت المرآة، نرى وجوهًا كثيرة تبحث عن هوية جديدة في شظايا الزجاج.

العولمة ليست شيئًا، بل قصة. والقصة الأمريكية بدأت تنفد من الحبر. ما فعله ترامب وماسك ليس خيانة للفكرة، بل كشفًا لجوهرها: أنها كانت دائمًا أداة للهيمنة، وليست عقيدة مقدسة. هنا تكمن المفارقة: النخبة التي صنعت الوهم صارت أول ضحاياه. حين تخلت وول ستريت عن "اليد الخفية" لتنقذ نفسها خلال أزمة 2008، كانت تقطع الغصن الذي تجلس عليه.

مقارنة واحدة تكفي: في 1944، اجتمع رجال "بريتون وودز" ليكتبوا دستور العالم الجديد. في 2024، يجتمع قادة مجموعة "بريكس" في كازان الروسية ليعلنوا موت ذلك الدستور. الفرق ليس في القوة، بل في السردية. أمريكا التي روت للعالم حكاية "القرية الكونية" تكتشف أن القرويين قرروا بناء قرى متوازية.

التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يغمز. روما التي نشرت القانون ثم انهارت تحت ثقل فسادها، بريطانيا التي غربت عنها الشمس حين رفعت شعار "بريطانيا أولًا" في حقبة الاستعمار الجديد، والآن أمريكا التي تبيع أسهمها في مشروعها العالمي. الفارق الوحيد: الإمبراطوريات القديمة كانت تسقط بفعل الغزاة، أما أمريكا فتنهار بيد أبنائها.

ترامب ليس برتوس يطعن قيصر، إنه قيصر الذي يطعن نفسه. حين قال: "أمريكا لم تعد ترضى بأن تكون ممثل العالم"، كان يجهل أن البطولة كانت السبيل الوحيد لبقائها. الصين، بتلمذتها الذكية، تعلمت درسًا من التاريخ: الإمبراطورية تدوم حين تكون قواعد اللعبة ملكًا للجميع، لكن الفائز دائمًا هو من يكتب القواعد.

صخرة التناقض..

الهند.. تحولت من مستعمرة رقمية إلى إمبراطورية بيانات: كانت الشركات الأمريكية ترى في الهند سوقًا لبيع الهواتف الذكية، لكن "الرقمنة الهندية" قلبت المعادلة. نظام "اليوبي آي" للمدفوعات الإلكترونية حول المليارات من الفقراء إلى لاعبين في الاقتصاد الرقمي، دون المرور عبر فيزا أو سويفت. الهند لم ترفض العولمة، بل اخترقتها بأدواتها.

أفريقيا: حين يتحول المستعمَر إلى شريك: الصين لا تقدم خطابات عن الديمقراطية في أفريقيا، بل تبني موانئ وسكك حديد. النتيجة؟ 43 دولة أفريقية وقعت على مبادرة الحزام والطريق، ليس حبًا في بكين، بل لأن واشنطن ظلت لعقود تتعامل مع القارة كمتسولةٍ تنتظر الصدقات.

أوروبا الشرقية: سور من الخرسانة واليورو: بولندا التي قاومت الشيوعية بمساعدة أمريكا، ترفض اليوم استقبال اللاجئين من الشرق الأوسط بدعم من الخطاب الشعبوي. هنا يظهر تناقض العولمة الأمريكية: شعارات "حقوق الإنسان" تتحطم أمام أول اختبار لمصالح الدول.

من نيتشه إلى زوكربيرج..

"كل ما هو عظيم ينهار من الداخل" – هذه العبارة التي تنسب إلى نيتشه تصف أمريكا بدقة. حين حول المشرعون في واشنطن الكونجرس إلى سوق لصفقات السلاح والنفط، كانوا يحفرون قبر الهيمنة الأخلاقية.

"لا يمكنك أن تكون سوبرمان وضحية في الوقت نفسه" – مقولة الكاتب الهندي أروهنداتي روي تشرح تناقض الخطاب الأمريكي: التمسك بلقب "الشرطي العالمي" مع تصوير النفس كضحيةٍ للصين والهجرة.

"البيانات هي النفط الجديد" – مقولة ماثيو هوبرت لم تكن بريئة. حين قالها مدير "إيكسون موبيل" السابق، كان يعترف بأن عصر الهيمنة بالدبابات انتهى، وأن المعركة القادمة ستكون على خوارزميات الذكاء الاصطناعي.

لقد كانت العولمة أشبه بتمثال ضخم من الثلج. نحتته أمريكا بيدين خبيرتين، لكنها نسيت أن الثلج يذوب تحت شمس مصالحها القصيرة. حين أسمع سياسيًا أوروبيًا يتحدث عن "الاستقلال الاستراتيجي"، أو شابًا مصريًا يبيع منتجات على "علي بابا" دون دولار، أعلم أن العالم يعيد تشكيل نفسه خارج الصندوق الأمريكي.

التكنولوجيا علمتنا درسًا قاسيًا أن الهيمنة لم تعد تحتاج إلى أساطيل، بل إلى رموز برمجية. الصين التي تفوقت في صناعة الرقائق الإلكترونية، والهند التي تصدر المبرمجين، كلها علامات على أن القوة صارت سائلة، تتدفق عبر الكابلات الضوئية لا عبر سفن الأسطول السادس.

صعود التنين

العالم يقف على مفترق طرق تاريخي: فوهة بركان تنفث فرصًا لم تكن متاحة منذ قرون، وفي نفس الوقت تهديداتٍ كامنة قد تعيدنا إلى عصور الظلام. الصين ترفع مشعل "العولمة البديلة" عبر طرقها الحريرية الرقمية، بينما أمريكا تطلق رصاصاتها الأخيرة في حروب تجارية وثقافية قد تحرق الأخضر واليابس.

لكن الخطر الحقيقي ليس في القوة الصينية، بل في الفراغ الذي ستتركه أمريكا. حين ينهار "الشرطي العالمي"، تظهر عصابات إقليمية (إيران، تركيا،،...) كل يحمل سلاحه ويرسم حدوده بالدم.

هل نستحق فرصةً ثانية؟

العالم اليوم، أمام اختبار وجودي: إما أن يتعلم من أخطاء العولمة الأمريكية فيبني نظامًا متعدد الأقطاب يتشارك الثروات، أو يسقط في فخ "الحروب والصراعات " حيث تحل النزاعات بالحصار الاقتصادي والجيوش الالكترونية.

***

د. عبد السلام فاروق

 

من البديهي ان تظل المنطقة مشمولة باجمالي الانتكاس القصوري التصوري للحظة على المستوى الاعم، وبالذات ذلك الاكثر فعالية على مستوى المعمورة، المتميز بانبثاق الاله بين تضاعيفه،  اضافه لعلو دينامياته الاصطراعية الطبقية التكوينيه البنيوية، وماقد تولد عن ذلك من انقلابيه عليا ارضوية استثنائية، تسنى لها التحول الى نموذجية شامله على مستوى الكرة الارضية وعموم مجتمعاتها، مع الاخذ بالاعتبار كون المنطقة الشرق متوسطية  تكوينا وحضورا تاريخيا، هي بالاحرى مقابل ومناظر، له حضوره الفاعل وغير العادي في المتغير الحاصل الانقلابي على مستوى وسيلة الانتاج، ومن ثم المجتمعية البشرية.

هذا مع العلم ان مايشار الية من دور، يظل بلا اثر، ومن دون اي درجه من الحضور او لفت الانتباه، الامر المحال الى اللحظة وطبيعتها بغض النظر عما يظل  يواكبها من نظر وادراك الامر المتوقع اذا نحن اخذنا بالاعتبار حقيقة كوننا امام انقلابيه وجودية نوعية، تضاهي تلك التي عرفتها الظاهرة المجتمعية ابتداء، وقت تبلورها بصيغتها اليدوية الجسدية الاولى وماقد استغرقته من تفاعل واعقال مديد،  وتدرجات  من محاولة الادراكية الوجودية  على مدى القرون، قبل الاستقرار على الحد الادنى الممكن من التوفر على اسبا ب التفاعلية مع الذات والطبيعه، واجمالي الوجود، مع ان المتحقق في حينه لم يكن  وافيا تماما بالغرض، ولا انطوى على الادراكية الضرورية اللازمه، لاسباب اهمها تمكن القصورية العقلية من الكائن البشري، بالاخص بازاء ادراكه للظاهرة المجتمعية ومنطوياتها.

واخطر ماتتميز به  اللحظة الراهنه على هذا  الصعيد، كونها لم تبادر ابتداء، ولاكانت مؤهله لحظتها لعبور النقص القصوري المومى اليه، على العكس من ذلك فانها قد كرسته مع شيء من الادعائية الابتدائية بخصوص فك رموز الظاهرة المجتمعية،  مع ماعرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، وهو محاولة ابتدائية ارضوية لا "مجتمعية" كما تريد ان توحي، فالمجتمعية لاتغدو قيد الاحاطة قبل الادراك الضروري وقت يماط اللثام عن طبيعتها " الازدواجيه"، ويحصل معها كل مايترتب على واقع كهذا من انقلاب شامل في المنظور ومجمل الرؤية البشرية للمجتمعات والتاريخ والياته ومستهدفاته الغائبة، الامر الذي يعيد بصيغة اخرى مناسبه للحظة، مفعول واثار حالة الانصباب الثاني الراهن المختلف نوعا بعد الانصباب اليدوي الاول، الروماني ومقابله الشرقي الفارسي، وماترتب عليهما وتولد عنهما من حال تشكلي تصارعي مع الكينونه اللاارضوية الشرق متوسطية، انتهى بالاختراقية المسيحية الاسلامية الجزيرية  كاختراقية شامله شرقا وغربا، حققت الازدواج في الكيانات والامبراطوريات الارضوية الاحادية على مستوى المعمورة، بغالبتها الفعاله.

والانصبابية المزدوجه هي مظهر تشكلي مجتمعي على مستوى المعمورة، خاضع لقانون التشكل الازدواجي المجتمعي، به تتكامل بنيه المجتمعات الاحادية  كما حصل في الطور اليدوي، اذ هو  يحدث اليوم فياتي مشفوعا بالانقلابيه الاليه الاحادية، في حين يتحول الازدواج الى  ضرورة تحوليه نهائية، تبدا بالغلبة النموذجية والتفكرية الكاسحه بظل حال من الانقطاعية والانهيار الشرق متوسطي، يضعه  تحت طائلة لحظة استثناء غير مسبوق، ساحقة للاليات الذاتيه من دون اي احتمالية دالة على الحضور المباين التاريخي الازدواجي كينونة، بما في ذلك الحالات التي من شانها ان تذكر بالاليات التاريخيه، وفي مقدمها الانبعاث التاريخي " المنتفجي" الحاصل في ارض سومر اليوم منذ القرن السادس عشر، بعد الانهيار الذي حل على هذا الموضع الازدواجي النموذجي البؤرةعام 1258 بسقوط بغداد، وحلول الانقطاع  الثاني بعد الاول  اللاحق على سقوط بابل،  بانقضاء الدورة الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية، المواكبه للوثبة الجزيرية المنطلقة في القرن السابع.

ولايمكن الشك في الاستحالة شبه المطلقة المانعة لاية بوادر حضور للاليات المحركة لعملية الانبعاث الراهنه، اشارة الى الدورة الثالثة الازدواجية، بالخصوص بازاء ظاهرة محمد علي الالباني  المصري وقرينه الشامي، ومقابله التشبهي الابراهيمي الارضوي، بينما الموضع اللاارضوي اصلا، مايزال في حال اصطراع مع البرانيه التي حلت عليه متخذة من بغداد عاصمة الامبراطورية  المنهارة موضعا للتعاقبة الشرقية، يدويا قبل ان تظهر في الافق ايه ملامح للانقلابية الالية وامتداداتها، الامر الذي ظل ساريا حتى بدايات القرن العشرين، ليبدا مع الاحتلال البريطاني 1917 تاريخ من الافنائية النمطية المتعدي للاصطراعية الذاتيه، يريد تكريس الارضوية بقوة مفعول الاله وماتسببه من تسارعية استثنائية في الاليات المجتمعية، عدا القفزة المفهومية والتصورية عموما، وهكذا وقع الموضع الازدواجي البؤرة التاريخي في غمرة نوع من الاصطراعية غير المسبوقة، وغير المتكافئة، فاذا كانت الاصطراعية الاولى قد حصلت بين قوتين  ارضوية ولاارضوية،  كانا بالاحرى بما فيهما بابل، اعلى تجليات الارضوية الازدواجية، يدويان، امكن للجانب اللاارضوي منهما،ان ينتج تعبيريته الدالة على حضوره في غمارهما منتقلا  تحت وطاة احتمال الافنائية من الاصطراعية الذاتيه الى الكونية ليصبح بمواجهة الانصبابية المزدوجة الشرق غربيه.

كل الشواهد التي يمكن التعرف عليها اليوم لاجل قياس مامتوقع، ومايمكن ان يتمخض عنه الاصطراع الافنائي الناشب بين الكينونة اللاارضوية المنبعثة، ومايتعلق ويتصل بالحضور الارضوي بصيغته الالية، تدل على ان الجانب اللاارضوي زائل وذاهب الى الفناء الحتمي، بالاخص اذا عولنا على القصورية مدعية العلموية، وصدقنا ماشاع من توهمية توصيفية للالة مسارها ومنحاها، واذا كانت هي ارضوية متوافقه مع هذا النمط المجتمعي ام لا، الامر الذي يستوجب مايلزم من الوقت ومن التطورات الاصطراعية المتعددة الاوجه، قبل ان يكتشف الجانب اللاارضوي الاساس من الانقلاب الالي، مع تحولات الالة من "المصنعية" المعززة ابتداء لليدوية ومنظوراتها في الجوهر، ذهابا الى التكنولوجيا الانتاجية الحالية، المعززة بصيغة المجتمعية  المفقسة خارج الرحم التاريخي الامريكية، الخارجة عن احكام المجتمعية وتبلوراتها وتمايزاتها، ومنها الطبقية التي تميز الموضع الذي انبجست فيه الالة.

لن تلبث الخطوه، او الحقبة الاخيرة من الاله ان تتحقق كقوة انقلاب تحولية مافوق مجتمعية، حين يغدو الانقلاب التكنولوجي عقلي  مفارق للموروث وللحالة الجسدية التاريخيه، حتى تسقط  مبررات الارضوية، ولا تعود اوربا قوة فعالة بقدر ما تاخذ بالغرق خارج الديناميات المجتمعية المفارقة للمجتمعية التي صارت من هنا فصاعدا، ومع الطور الالي الاخير، هي المجتمعية، فاذا بنا امام حضور متاخر غير ملحوظ ،وخارج الاعقال القصوري التا ريخي، وحينها  تعود الكتابية/ من كتاب،  النمطية فوق الكيانية، ذات الكينونه الكونية، هي الثورة العظمى المنتظرة الاليه، بعد تلك الاولى التمهيديه اليدوية، ومجتمعيتها المنتهية الصلاحية الارضوية، ليرتفع في الافاق صوت ومفهوم اللاارضويه مابعد النبوية، تلك التي كانت تواكب اليدوية الارضوية موضوعيا، وتفاعلت مع اشتراطات غلبتها الاولى، لتسود تعبيرية اللاارضوية الثانيه العليّة السببية العقلانيه مافوق الارضوية، ولتبدا المجتمعية الجسدية الحاجاتيه بالانتهاء مغادرة المسرح الارضي.

***

عبد الأمير الركابي

في كل منعطف تاريخي تمر به الأمة العربية، يتجلى أمامنا مشهد التناحر الداخلي، وكأن العرب قد استبدلوا قضيتهم الكبرى بصراعات صغيرة تستنزف قواهم وتبقيهم في دائرة الجمود، في حين أن العالم من حولهم يتحرك ويتغير، أحيانًا لصالحهم، لكن غالبًا ضدهم. هذا الواقع يدفعنا إلى طرح السؤال الجوهري: إلى متى سنظل غارقين في الخلافات الداخلية، بينما تتكالب علينا الأخطار من الخارج؟

حتمية التغيير: لماذا يجب أن نتجاوز خلافاتنا؟

العالم لا ينتظر أحدًا، والسياسة لا تعترف بالضعفاء. الدول التي لا تتعلم فن التكيف مع الزمن ومواجهة تحدياته محكوم عليها بأن تكون مجرد أداة في يد القوى الكبرى. وللأسف، فإن العرب – رغم ما يملكونه من مقومات حضارية وثقافية واقتصادية – ما زالوا عاجزين عن استثمار هذه الإمكانيات لصالح مستقبلهم. والسبب الرئيسي؟ هو الانقسام الداخلي الذي يتغذى على الاختلافات المذهبية والعرقية والدينية، في وقت لا تستطيع فيه الدول القوية أن تنهض دون الحد الأدنى من الوحدة الوطنية والتوافق المجتمعي.

إن الخلافات الداخلية بين العرب لم تكن يومًا مصدر قوة، بل كانت دائمًا مدخلًا للغزاة والمحتلين والمتربصين. عبر التاريخ، كانت الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية سلاحًا استخدمه أعداء الأمة لتفكيكها وإضعافها، بدءًا من الحروب الصليبية، مرورًا بالغزو المغولي، وانتهاءً بالاستعمار الغربي ومخططاته الحديثة. ومع ذلك، يبدو أننا لم نستوعب الدرس بعد، فنكرر الأخطاء ذاتها، لكن بثوب جديد في كل مرة.

كيف نحول طاقة الصراع إلى منصة للفعل؟

بدلًا من إهدار الجهد والوقت في النزاعات العقيمة، يمكن توجيه هذه الطاقة نحو بناء مشروع عربي مشترك قائم على التعاون والتكامل، لا على الإقصاء والإلغاء. لا يعني ذلك إلغاء التعددية أو تجاهل التنوع الثقافي والديني، بل يعني إدارة هذا التنوع بحكمة بحيث يكون مصدرًا للإثراء لا للصراع.

إعادة تعريف الهوية العربية

الهوية العربية ليست هوية عرقية أو دينية محضة، بل هي هوية ثقافية وحضارية تجمع بين كل من يتحدث العربية وينتمي إلى تاريخ هذه الأرض. تجاوز الخلافات يبدأ بإعادة فهم أنفسنا بعيدًا عن التصنيفات الضيقة التي تكرس الانقسامات.

بناء مشروع اقتصادي عربي موحد

الاقتصاد هو أحد أكثر العوامل القادرة على تجاوز الخلافات السياسية. حين تتشابك المصالح الاقتصادية بين الدول والمجتمعات، تصبح النزاعات أقل حدة، وتزداد الحاجة إلى التعاون. فلماذا لا يكون هناك سوق عربية مشتركة، أو على الأقل تكامل اقتصادي حقيقي بين الدول العربية؟

تطوير منظومة تعليمية تعزز قيم التعددية والانتماء المشترك

منذ الصغر، يتم تشكيل وعي الأفراد من خلال التعليم والإعلام. ومن هنا، فإن إدخال مناهج تعليمية تكرس ثقافة التعايش وتاريخ العرب المشترك يمكن أن يسهم في بناء أجيال ترى في الاختلاف مصدرًا للتكامل لا للصدام.

إصلاح الإعلام العربي ليكون أداة بناء لا هدم

الإعلام العربي في كثير من الأحيان يغذي الفرقة أكثر مما يوحد. يجب أن يكون لدينا خطاب إعلامي يعزز نقاط الالتقاء بدلًا من تضخيم نقاط الاختلاف، ويحث على العمل الجماعي بدلًا من نشر ثقافة الإحباط والهزيمة.

تحييد الصراعات الخارجية عن الداخل العربي

العالم العربي يعاني من كونه ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، حيث تُستخدم بعض القوى العربية كأدوات في مشاريع الآخرين. يجب أن يكون هناك وعي سياسي بأن العرب بحاجة إلى استراتيجية مستقلة، تحميهم من أن يكونوا مجرد بيادق في لعبة القوى الكبرى.

خاتمة

ان تجاوز الخلافات الداخلية ليس ترفًا، بل هو ضرورة وجودية. نحن اليوم في مرحلة مفصلية، حيث تتشكل التحالفات العالمية وتُعاد صياغة التوازنات الدولية. وإذا لم يتمكن العرب من تجاوز انقساماتهم الداخلية، فسيجدون أنفسهم مجرد كيانات ضعيفة تابعة للقوى الكبرى، بدلًا من أن يكونوا فاعلين في تقرير مصيرهم ومستقبلهم.

لقد آن الأوان لأن ننتقل من مرحلة الشكوى والبكاء على الأطلال إلى مرحلة الفعل والإنتاج. التحديات التي تواجه العرب اليوم تستوجب إرادة سياسية وشعبية صلبة، ورؤية مستقبلية تتجاوز الحسابات الضيقة، من أجل بناء مشروع نهضوي عربي قادر على مجابهة الأخطار وصناعة التاريخ بدلًا من أن يكون مجرد متلقٍ له.

إذا لم نبدأ الآن، فمتى؟ وإذا لم نكن نحن، فمن؟

***

مجيدة محمدي – تونس

.................

المراجع:

1. في الهوية العربية والتحديات الداخلية:

- محمد عابد الجابري، نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي

- عبد الإله بلقزيز، العرب ومستقبل الأمة: دراسات في المسألة القومية

- برنارد لويس، أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة الشرق الأوسط

2. في التاريخ العربي والانقسامات الداخلية:

- ابن خلدون، المقدمة

- ألبرت حوراني، تاريخ الشعوب العربية

- حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي

3. في الاقتصاد العربي والتكامل الإقليمي:

- جلال أمين، العالم عام 2050: كيف سيبدو الاقتصاد العالمي في المستقبل؟

- سمير أمين، التراكم على الصعيد العالمي

- مجموعة من الباحثين، التكامل الاقتصادي العربي: الواقع والتحديات (منشورات مركز دراسات الوحدة العربية)

4. في الإعلام ودوره في تشكيل الوعي:

- نعوم تشومسكي، السيطرة على الإعلام

- إدغار موران، ثقافة أوروبا وبربريتها

- علي حرب، المصالح والمصائر: صناعة الحياة ومآزق العولمة

5. في الجغرافيا السياسية والاستراتيجيات الدولية:

- هنري كيسنجر، النظام العالمي

- زبيغنيو بريجنسكي، رقعة الشطرنج الكبرى: الأولويات الجيوسياسية للولايات المتحدة

- فواز جرجس، أمريكا والعالم العربي: سياسات الهيمنة وصناعة التبعية

 

تظل البشرية قاصرة اعقالا بازاء التاريخ والظاهرة المجتمعية، مادامت محكومه الى النظر " الاحادي" قبل كشف النقاب عن الحقيقة الازدواجية واشكال تجليها بحسب طبيعتها، الملكية الكيانوية / الوطنيه الامبراطورية الارضوية ونموذجها التاسيسي الفرعوني الملكي المصري، واللاارضوية  النبوية السومرية،  الكونية، المتعدية للكيانيه وللدولة، واشكال تفاعلهما النموذجي مع الاشتراطات الانتاجية وممكنات التحقق، الارضوي الغالب بحكم الطور اليدوي الجسدي، واللاارضوي المضمر والمصادر المبعد من الحضور، المضطر للتجسد اختراقا في قلب المجتمعية الارضوية ابان زمن ماقبل تحققه، لافتقاره  ابتداء للعناصر الضرورية المادية والاعقالية اللازمة للحضور واقعا.

وهذا مايجعل اللاارضوية تتخذ الصيغة التي تظل عليها، توافقا مع اشتراطات اليدوية وغلبة الجسدوية الحاجاتية الارضوية، مولدة عالمها الموازي السماوي المفارق المتعالي (3)على الارضوية قوة وعالما مقابلا اعلى، ومحتاز على القدرات والفعل الاستثنائي الكوني  الابدي، بمقابل سلطة الارضوية الحاكمه المؤقته، والايله للزوال لمصلحه عالم اخر هو الابقى، والغاية  من الوجود، تعبيرا فوق عادي، يتجاوز الملموسات، مرتكزا الى الكينونه البشرية والى ازدواجها الاصل ك (عقل/ جسد)، العقل نصفها الافعل، و "الارض" التي عليها تقف الكيانيه اللاكيانيه، الاتيه من العالم الاخر حكما، بالالهام والاصطفاء السماوي، والنطقية الكتابيه التي هي الكيان اللاكيان الباقي ماثلا وحيا، في قلب وبين تضاعيف الارضوية الى الابد.

وبما ان اللاارضوية غائبه  متعذرة على الادراك اصلا، فان افتراض خضوعها لتاريخيه تشكلية وتطورية غير وارده قطعا، علما بانها مسار تشكلي مستمر على مدى عشرات القرون، يبدا مع تبلور الظاهرة المجتمعية في ارض سومر جنوب مابين النهرين حيث الاشتراطات البيئية المجافية الطاردة للنهرين العاتيين المخالفين للدورة الزراعية،  والاكثر تدميرا بين الانهار، بما  يجعل الكائن البشري  مع اجمالي اشتراطات الحياة والانتاج  مجتمعيا، مرهونا ابتداء بالاصطراعية الاقرب للفنائية مع الطبيعه، ضدها وبمفارقة معها من دون توافق من نوع ذلك المقابل النيلي، المعاكس كليا، والقائم على وحدة النيل والارض، حيث اتفاق فيضان النهر مع الدورة الزراعيه، عكس دجلة والفرات، مايجعل الحصيله في الموضوعين البدئيين ثنائية في الرافدينه، منهما تتاسس مرتكزات المنظور المفارق السماوي، قبل ان يدخل على المشهد الطور الثاني من الاصطراعية المجتمعية، في موضع مفتوح شمالا وشرقا وغربا على الانصبابات السلاليه من الجهات الجبلية الجرداء والصحراوية الطامحه للهيمنه على الموضع الجنوبي شديد الخصوبه( وادي النيل بالمقابل محمي بالصحراء شرقا وغربا وبالبحر شمالا) مايزيد من اسباب لاارضويته، من دون ادراكية او امكان ملاحظة حتى للخاصيات المميزه للمجتمعية في موضع هذه مواصفات تبلوره، والظروف التي تشكل ضمنها وفي غمرتها، بما جعله بلا تمايزات من نوع الملكية والسلطوية، مع اسبقية للتشاركية التضامنية الواعية،  مايولد من حينه حالة اصطراع بين شكلين ونمطين مجتمعيين، الاعلى النازل الارضوي العادي، والاسفل اللاارضوي، ويحفز ضمن مجراه وفتراته وحقبة، ضرورات التبلور التعبيري المجتمعي اللاارضوي، بالتوافق مع ميل الجهات الغازية الى المزيد من تعزيز قدراتها، باتخاذ موقع الاستقلال والعزله في مدن عليا، تقام على الحواف  العليا لمجتمع اللاارضوية، تكون محصنه اعلى تحصين، تمارس حلب الريع الزراعي بالغزو الداخلي المكلف للغاية، ثم العودة للانعزال وراء الاسوار والقلاع  داخل مدن "الامبراطوريات"، واكملها بابل ثم بغداد.

ومن التالهية الابتدائية وليدة الاصطراع الاول البيئي، وتطوره اللاحق في سياق الاصطراعية بشكلها الثاني  حين تضاف وطاة الارضوية الانصباببية الى الاولى البيئية الطاردة، ذهابا الى المراحل والمحطات المتاخرة من تبلور الاصطرعية، وقيام الامبراطوريات المدينيه و وبلوغها ممكنات واحتمالية افناء المجتمعية السفلي، بالمصادرة الالهية والنموذجية، وبوسائل القوة التي   يحوزها مركز مثل "بابل"، تبلغ الاحتدامية الاصطراعية معه ذروتها، مايسرع في اكتمال النموذجية الكونية  المجتمعية السفلى، بتبلور الكيانيه اللاارضوية مافوق الكيانيه باعلى صيغها النبوية الابراهيمة، الذاهبة خارج ارضها،  التي هي في الواقع  ارضها ومكان تحققها، ليبدا من يومها مسار التحقق الكوني  الدعوي النبوي التراكمي كمرحلة فاصله، وصولا الى التجسد العملي للكيانيه الكتابية  التاسيسي الاول، التوراتي، ومن بعده الانجيلي المسيحي، وصولا الى الاسلامي الكمال والذروة النهائية التي من اهم خواصها، واجلى مناحي عبقريتها اللاارضوية اعلانها قرب انتهاء الصراع الارضوي اللاارضوي، والانفتاح على عالم "فك الازدواج"، وهو ماقد تكفل النبي محمد في الاعلان عنه كختام يساوي البدء الابراهيمي الاول، ويعلن انقضاء دوره ومهمته.

بعني " ختام النبوة" بالمنطوق اللاارضوي وتاريخانيته المجتمعية الشاملة للمعمورة، ان الاصطراع المجتمعي الازدواجي قد شارف على الانتهاء من هنا فصاعدا، وان الصيغة او النموذجية الارضوية الجسدية صارت على وشك الاختفاء وجودا، وهو ماسوف تصلة البشرية بناء على الانقلابية الاليه ومغادرة الزمن الارضوي اليدوي، حين كانت  اللاارضوية غير قابله للتحقق، وهنا يبرز في السياق  واحد من اخطر التحديات الموروثة عن القصورية العقلية التاريخيه، وهو ماينشا عن انبجاس الاله في الموضع الارضوي الاعلى ديناميات ضمن صنفه، باعتباره النموذج الازدواجي الارضوي الاصطراعي الطبقي، والذي يذهب مستغلا الانقلابيه الاليه، وماتوفره من ممكنات استثنائية الى تكريس مفهوم ورؤى الارضوية ذهابا الى تابيدها، وجعلها النموذجية التي لاغير لها، ولامن مواز، ومن ثم لامستقبل يمكن ان يضعها بموقع الموقت الضروري قبل توفر اسباب سيادة المجتمعية العقلية.

وهنا  تحل لحظة الافتراق الاكبر تحت غمرة التناقضية الاعلى، بين الوسيلة الانتاجية ومنطوياتها، وماهي محكومة له، وبين الاعتقادية القصورية المناقضة لها نوعا، فالاله وسيلة لاارضوية نوعا وكينونة، تحتاج للمرور بمعبر اصطراعي انتقالي لاارضوي يكون الاعلى ديناميات حتى تنتقل تباعا، من المصنعية الاقرب لليدوية، الى التكنولوجية الانتاجية الحالية، الى التكنولوجيا العليا العقلية اللاارضوية، حيث لاتعود المجتمعية الارضوية قابلة للاستمرارموضوعيا وماديا،  وحيث تبدا بالانهيار المتوالي، بينما يصبح العالم والمجتمعية البشرية ككل "لاارضوية" محكومه لاشتراطات من نوعها، وتعود الرؤية الكونية الاولى اللاارضوية لتغدو غالبة، والكتاب ضرورة وجودية، وقد انتقل من الالهامية النبوية الحدسية، الى نوع اخر من الاعلان اللاارضوي "العلّي/ السببي " ساعة يصير التاريخ والماضي المجتمعي قابلا للقراءة لاارضويا عليّا فيماط عنه اللثام بعد طول غياب، اي بانتقال العليّة المعروفة ب " العلمية العقلانيه"  درجات فوق التخيل الارضوي، تلائم نوع ومنطلق المنظور المشار اليه كلزوم وضرورة اساس، لابد منه قبل الانتقال نحو عالم "المجتمعية العقلية".

***

عبد الأمير الركابي

 

سوريا والسودان وليبيا واليمن، أربع دول عربية تعيش مخاض الدولة المطلقة. وبيان ذلك: أن أي بلد لا يستطيع العيش في أمان واستقرار، من دون حكومة قوية، سواء كانت عادلة أو جائرة. صحيح أن العدل هو مطلب الناس وغايتهم، لكنه لا يتحقق إلا بوجود حكومة قوية مستقرة. من هنا قال علماء السياسة إن الخطوة الأولى لاستقرار السياسة العادلة، هو وجود دولة قوية مطاعة. فإذا وجدت، حان وقت الانتقال للمرحلة الثانية، أي تنظيم إدارة الدولة على أساس المشاركة العامة للمجتمع في الحقوق والتكاليف.

يبدو لي أن معظم الدول النامية، وقعت أسيرة الخلط بين المرحلتين، فبعضها تجمّد عند الأولى، وبعضها انخرط في جدل مبكر حول المرحلة الثانية، بحيث بدا للمواطنين وأطراف المشهد السياسي أن الاتفاق على الخطوة الأولى مشروط باتفاق مسبق على تفاصيل الثانية. دعنا نأخذ مثلاً من ليبيا، حيث اتفقت القوى السياسية مرات عديدة على عقد انتخابات عامة لاختيار رئيس الدولة، مع أنهم لم يقيموا الحكومة الواحدة التي تبسط سلطانها على أرض البلاد أقصاها وأدناها.

ربما ظن الوسطاء الذين سعوا لحل الأزمة الليبية أن انتخاب الرئيس سيوفر فرصة للإجماع على التمثيل السياسي للبلد. وهو ظن في غير محله. ولو حصل فسوف يكون الرئيس مجرد وسيط وطني، يضاف إلى الوسطاء الدوليين، ولن يكون حاكماً بالمعنى الذي نعرفه عن رئيس الدولة. السبب ببساطة هو أن مصادر قوة الدولة، ولا سيما الأموال والقوات المسلحة، في يد أطراف سياسية متنازعة، لأن الدولة المركزية غير موجودة في الأصل. على أي حال فحتى هذه الخطوة الرمزية لم يكتب لها النجاح، فلم تعقد الانتخابات ولا انتُخب الرئيس. وبقيت البلاد، كما كانت منذ 2014، مقسومة بين حكومتين؛ تسيطر إحداهما على بعض الشرق والأخرى على بعض الغرب.

قيام الدولة الواحدة القوية ضروري للتطور السياسي. ومن دونه ستعود البلاد إلى فوضى ما قبل الدولة، كالذي نشهده اليوم في البلدان المذكورة.

حسناً. لماذا لا تبادر الأطراف السياسية للاتفاق على معالم المرحلة الثانية، وتضعها كمسودة إعلان دستوري، ثم تتفق على إقامة السلطة الواحدة القوية؟

الجواب معلوم: كل طرف لا يطمئن للآخر، بل يخاف أن يقع في قبضته فيخسر حقوقه، أو يخسر فرصته في أن يكون حاكماً أو شريكاً في الحكم.

لعلكم الآن تقولون إن هذه هي أيضاً مشكلة السودان واليمن وسوريا. لماذا انفصل جنوب السودان عن شماله في 2011؟ لأن الرئيس السابق عمر البشير أبى أن ينتقل بالنظام السياسي من حكم الفرد إلى المشاركة السياسية الفاعلة، فضحى بوحدة البلد، كي لا يخسر سلطانه. وحدث الأمر نفسه في اليمن عام 1994، وحدث شيء قريب من هذا في سوريا خلال السنوات العشر الماضية، حين أبى الرئيس السابق أن يشرك معارضيه في السلطة، فقاد البلد إلى أزمتها الحالية، وكان في وسعه أن يبرز كمصلح تاريخي، كما يأمل كثير من الناس.

في ظني أن جذر المشكلة، في كل هذه البلدان، هو أن الذين بيدهم مصادر القوة، خاصة أصحاب السلطة والسلاح، لا يؤمنون بأن جميع المواطنين شركاء في سياسة بلدهم، شراكة جذرها امتلاكهم تراب الوطن، وأن هذه الشراكة مصدر لحق المواطنين في شراكة مماثلة في الشأن العام. بعبارة أخرى فهم لا يؤمنون بتساوي جميع أهل البلد في الحقوق والواجبات، بناءً على كونهم ملاكاً لوطنهم، وأنهم – لهذا السبب أيضاً – مكلفون بحمايته وتنميته وتطوير إنجازاته. وفي السياق نفسه، فإن الغالبية الساحقة من المواطنين، لا يرون أنفسهم معنيين بالشأن العام، أو ما يسمى في الثقافة العربية الدارجة «التدخل في السياسة».

الشراكة المتساوية بين المواطنين، هي القاعدة الأولى لما يعرف في علم السياسة بالإجماع الوطني. والإيمان بها هو الأساس لكل مجتمع سياسي حديث. ولنا عودة إلى الموضوع في قادم الأيام.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

يستعمل تغلبيون قبليون مثل ال سعود والشخص الذي وظفوه تكريسا لغلبتهم، يستعملون النبوة المحمدية الخاتمه والاسلام ك "تراث وطني"، وكمادة استثنائية الحضور بمالها من قدسية وقوة اثر وفعاليه يتم تزييفها واخراجها عن مساقها التاريخي، باسم "السلف" تفاديا ل "النبوه" الاصل، وتهربا من الاساس غير القابل للاستحضار اليوم، مع عملية الغاء شامل وكلي لتاريخ النبوة والسلف الذي يراد بعثة من لحظة الدعوه في القرن السابع الى حينه، بالغاء الفتح وماتمخض عنه من امبراطوريات ومنجز هائل حضاري بقوة غلبة العقيدة الاجمالية، على اعتباره خطئأ، بما يعني اتهام النبوة نفسها باللاجدوى، وبالخضوع لفعل التاريخ والواقع المجافي لها، بغض النظر، وباسقاط بشع بغيض لأعظم منجز في التاريخ اللاارضوي الابراهيمي بالاحتساب التاريخي الواقعي الذي لم تقم الثورة النبوية الجزيرة خارجه، مع انها قد فرضت عليه ذاتها، بعكس دعوة محمد بن عبدالوهاب التي تبدا اليوم من الرضوخ للواقع، والانكسار امامه بالتحاقها المسبق البدئي بالقبيله.
وبالمقارنه اخيرا واليوم، لابد من طرح التساؤل عن ما يفترض الغاءه وازالته من سجلات التاريخ، تاريخ الثورة الجزيرية الكبرى العالمي الاكبر، الساري مفعولا تصارعيا الى اليوم ازدواجا (عقيدة/ واقع ارضوي) باشكال متعدده، وصولا لظاهرة استعادة واستغلال التاريخ اللاارضوي واخر تجلياته الختامية الكبرى بعد مصادرته ارضويا، وبحسب ماقد آلت اليه حركة محمد بن عبدالوهاب الملحق بال سعود وحكمهم الريعي النفطي المرتهن للغرب واقتصاده، هل يمكن باية حال تصور مجرد المقارنه وان من بعيد، بين الظاهرتين، التزويرية البلهاء التي تلغي النبوة والكتاب باسم السلف، محولة النبوة الختام الى فعل بشري ارضوي صرف، فكان "السلف" موجود بذاته وصفته، مثلما ان محمد بن عبدالوهاب موجود بذاته، ومن دون آل سعود ونزوعهم التغلبي السلطوي الارضوي.
تقوم الاستعادة "السلفية" الاصل على محاول بائسه للهروب من شرط "النبوة" وقد اعلن ختامها، وبما ان الحاصل حاضرا لايستطيع الارتقاء اليوم الى مستوى الكينونة الابراهيمه الحدسية النبوية الالهاميه، وبظل ماقد صارعاما من الانهيار والتردي، وضرورة استحضارماقد سلف، فان مايبقى ويمكن الركون اليه هو تخريج ينتمي الى الفبركة التردوية التي يراد الخروج منها عن طريق تكريسها، مادام المطلوب يتعدى الطاقة الادراكية المتاحة، وماتتطلبه لحظتها من التجرؤ على فتح باب التساؤل: ماذا بعد النبوة وقد اعلن ختامها في موضع من العالم التاريخ فيه موكول لفعلها اللاارضوي؟ وهل من صيغة تحقق تعبيري لاحق عليها بعد ان ادت المطلوب، وحققت ابان الزمن اليدوي ماكانت موكلة به؟
تساؤل كهذا يعني انقلابا خارج التخيل، ليس لمحمد بن عبدالوهاب وغيره من اشباهه وعينته موقعا على اطرافه او حوافه لصغر حجمهم المتناهي، وانغماسهم فيما هم غارقين فيه من اشتراطات التردوية بين المراحل الكبرى والانتقالات التاريخيه النوعيه، فاذا جاء مايوجب الحضور باي شكل بظل صعود الطرف الاخر على المنقلب المتوسطي الغربي، والتحول النوعي مابعد اليدوي، واجمالي المفاهيم والنموذجية المجتمعية الحياتيه ومنجزها الارضوي الهائل الباهر انقلابيا، لم يبق امام التردوية الانقطاعية الغامرة لمنطقة التعبيرية اللاارضوية، سوى التشبه الاحيائي الجاهز، المزورواقعا وادراكا كما كان يمكن للاارضوية ان تظهر تكرارا اليوم وفي ارضها ابتداء، محسنة باسم خصوصيتها اسباب التحاقها ببزه ولغة ابراهيميه ظاهرية مستعاره من طور مضى، بالعالم الاخر الحداثي الغربي الالي وغلبته الكوكبيه.
والمسالة الجوهر الغائبه على هذا الصعيد، قصور العقل الحالي بما هو عليه من تردوية انقطاعية عن التفريق اللازم غير المماط عنه اللثام، بين المجتمعتين ونوع التعبيريتين الغالبتين على التاريخ المجتمعي، وبالذات في المنطقة مدار البحث الشرق متوسطية، من دون بقية انحاء العالم حيث الازدواج المجتمعي اضعف، واشتراطات تجسده لاتتيح التبلور النموذجي الكوني الحاصل في هذا الجزء من المعمورة، موضع تبلورالابراهيمية بما هي تعبيرية مجتمعية موازية ومفارقة لتلك الارضوية المعتادة، والبارزه الشامله، وباصطراعية معها تنتهي بتجسد اللاارضوية داخل الارضوية على مستوى العالم، مخترقة مجتمعاته الارضوية في غالبيتها، وهذا النوع من النظر ليس واردا في عرف شخص شبه امي مثل محمد بن عبد الوهاب، متاخر سنين ضوئية ادراكا عن التمييز بين الفعالية اللاارضوية النبوية، والارضوية، وكيفيات حدوث الاختراقية الازدواجية باستعمال الوسائل الارضوية شرطا، ومنها السلف الذي يرتكز هو اليه على انه ممكن تحولي قابل للاعتماد، خارج الفعالية اللاارضوية النبوية واشتراطاتها.
وتبرز لهذه الناحية مسالة غاية في الاهميه ميزت التاريخ الازدواجي المجتمعي في هذا الجزء الفعال لهذه الجهه من المعمورة، تلك هي مسالة "الختام النبوي" ومترتباته فضلا عن دلالته الانقلابيه، حيث النطقية المجتمعية هي الطور اللاارضوي مع توفر الاسباب اللازمه لتحققه، بعدما ظلت النمطية الارضوية هي الغالبه على مدى الطور اليدوي من تاريخ المجتمعات، بمعنى قرب حدوث الانقلاب التاريخي، الهدف الاساس للوجود المجتمعي، وانتهاء صلاحية المجتمعية الارضوية الجسدوية، بعد توفر الاسباب المادية الضرورية للتحقق المضمر في العملية المجتمعية، وتجلي المنظور اللاارضوي كواقع معاش قابل للادراك بلا الهامية ووحي، اي من دون "نبوه"، الامر الذي يظل منتظرا حاكما للحقيقة التاريخيه المضمرة غير مكشوف عنها النقاب، مع قرب ساعتها المنتظرة على مدى التاريخ.
وقتها وبالانتظار، اي قبل حلول لحظة الوثوب العقلي الاعظم، بالتخلص من قصورية العقل الطويلة الامد، والباقية مرافقه للعقل وعلاقته بالظاهرة المجتمعية واغراضها، وماهي موجود لبلوغه، تتكرر في موضع غلبة الديناميات اللاارضوية، وقوة حضورها، ظاهرة استعمال النبوة بوسائل ارضوية، واعمال الايهامية، وهو ماتصطنعه الظروف واللحظات التاريخيه ووطاتها كما الحال الذي حفز اليوم ظاهرة السلفية، وغيرها من اشكال وتشبهات ايحائية تدعي احضار الاصل النبوي الذي انتهت مهمته في حينه، بعد ان ادى المطلوب ضمن اشتراطات لحظته التاريخيه ازدواجا، بانتظار لحظة تحققه واقعا ونهائيا، من دون وطاة الازدواج الغالب فيها حضور الارضوية.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

مع تناول أحداث غزوة حُنين، يبلغ مسلسل معاوية ذروة التجهيل والتزوير المقصود في محاولة لأدلجة وتسييس الحدث التأريخي الفني لأغراض معاصرة قد لا تخلو من البواعث والميول الطائفية أو التكفيرية.
تزوير الحقائق في غزوة حُنين
لنقل هذا الحدث الضخم في السردية الإسلامية درامياً، يرينا "مسلسل معاوية" مشاهد مضطربة لجيشين يلتحمان في الصحراء. ويستمر القتال في لقطات سريعة لبضع ثوان، ثم يفر جيش الوثنيين المشركين، وينتصر المسلمون، فيما تكون عدسة الكاميرة مسلطة غالباً وفي لقطات قصيرة متلاحقة على معاوية وهو يقتل الأعداء واحداً بعد آخر على طريقة الكاوبوي الهوليودي الخارق وهو يجندل السكان الأصليين. وأخيراً، يرفع معاوية يديه متهللاً مكبراً مع هزيمة جيش العدو. يصلح هذا المقطع ليكون مثالاً بالغ السوء على القراءة الفنية التلفيقية والمزيِّفة لوقائع تاريخية ثابتة فَصَّل فيها المؤرخون المسلمون القدماء أيما تفصيل.
فأولاً، لم تجرِ وقائع غزوة حُنين في صحراء، بل في واد منحدر كثير الشِّعاب والشجر من أودية تهامة ويدعى "حنين" فهو أقرب إلى الغابة منه إلى الصحراء المفتوحة كما تقول كتب المغازي كلها. وقد كمن مقاتلو القبيلتين الوثنيتين هوازن وثقيف بقيادة مالك بن عوف النصري في شعابه وأحْنائه ومضايقه وبين أشجاره لجيش المسلمين بناء على نصيحة الشاعر المُسن المرافق لهم دريد بن الصمة. وبلغ تعداد جيش المسلمين اثني عشر ألف مقاتل بينهم ألفان من الطلقاء الذين أسلموا كرهاً بعد فتح مكة كأبي سفيان وأولاده.
قسَّم النبي جيش المسلمين إلى كتائب؛ فكانت الأولى من بني سُليم بقيادة خالد بن الوليد في المقدمة، والثانية للمهاجرين بقيادة علي بن أبي طالب، والثالثة بقيادة الزبير بن العوام. وهناك تقسيم آخر أكثر تعقيداً وفروعاً للمهاجرين والأنصار وللعرب المسلمين من أبناء القبائل والطلقاء.
كانت كتيبة خالد بن الوليد في المقدمة، وهي التي وقعت في الكمين المعادي، إذْ باغتها المقاتلون القبليون بالهجوم من مكامنهم وأمطروها بالنبال والحجارة، فتشتت شمل الكتيبة وقتل بعض مقاتليها وأصيب خالد بجروح بالغة وفرَّ كثيرون من الميدان نحو مكة. لم يبق مع النبي إلا نفرٌ قليل، اختلف الرواة في تحديد عددهم. فأبو حجر العسقلاني يقدرهم تارةً بأربعة أنفار: ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم، وكان علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب يقاتلان بين يدي النبي، وتارة يقدرهم بعشرة بينهم إضافة الى الأربعة سالفي الذكر أبو بكر وعمر بن الخطاب، وصعد رواة آخرون بالعدد إلى أربعين صحابياً لم يكن بينهم أحدٌ من آل سفيان!
في تلك اللحظات العصيبة ارتجز النبي أرجوزته الشهيرة: "أنا النبي لا كَذِب ...أنا ابن عبد المطلب"، واستمر يقاتل بسيفه هو ومن معه. ثم طلب من عمه العباس، الذي عرف بصوته الجهور القوي، أن ينادي على "أصحاب بدر" أن اقبلوا ولا تفروا! فحضر ممن شاركوا في معركة بدر العشرات وكأنهم الحرس الاستشهادي الخاص بالإسلام في ساعة الشدة. وبدأوا يتصدون للمقاتلين القبليين ويكشفونهم عن مواقعهم فمالت الكفة لمصلحة المحمديين. وبدأ مسلمون آخرون يعودون إلى الميدان، وانقلبت المعركة لمصلحة المسلمين وهُزمت قبيلتا هوازن وثقيف في النهاية تاركين خلفهم غنائم ضخمة!
كانت حُنين معركة هائلة ومعقدة من عدة أجزاء، كاد يباد فيها جيش المسلمين، وهرب معظم مقاتليه في جزئها الأول. ثم، وبسبب ثبات آل بيت النبي والمسلمين الأوائل البدريين، لا الطلقاء، انتصر المسلمون انتصاراً حاسما وصعباً. لقد تحولت هذه الأحداث التي فصَّل فيها المؤرخون وكتاب السِّير القدماء إلى مشاهد تلفزيونية ركيكة كالتي التي عُرضت، فهل هذا معقول ويمكن تبريره؟
ترى، ألم يقرأ المؤلف والمخرج شيئاً عن تفاصيل هذه الغزوة في أمهات الكتب الإخبارية وموسوعات التراث؟ ألم يقرآ ما ورد بخصوصها في القرآن الذي تحدث عن هذه المعركة بتفصيل كافٍ، وعلل سبب هزيمة المسلمين في بدايتها، تقول الآية {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ/ التوبة 25}، أم إنَّ همهما كان مُنصباً على إظهار آل سفيان أبطالاً!
ثم أين نضع روايات وأحاديث معاكسة لرواية المسلسل وردت في أهم المصادر السُّنية وقالت إنَّ "أبا سفيان وبعض أهله اعتزلوا النبي (فارقوه وابتعدوا عنه) قبل بداية معركة حُنين وشمتوا بهزيمة المسلمين"، ففي "شرح مشكل الآثار" (6 / 412) للإمام الطحاوي المولود في القرن الثالث الهجري بصعيد مصر، نقرأ بعد سلسلة العنعنة: "لَمَّا انْهَزَمَ النَّاسُ يَوْمَ حُنَيْنٍ جَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ يَقُولُ: لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ، وَصَرَخَ كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ: أَلَا بَطَلَ السِّحْرُ الْيَوْمَ" يقصد السحر الذي رموا به نبي الإسلام". ونجد هذه الرواية بنصها هذا في تاريخ الطبري (224 هـ - 310 هـ) ص 347 مج2 - دار مؤسسة الأعلمي.
ونقرأ على ص 197 من "سير أعلام النبلاء" للذهبي وهو من أهل القرن السابع الهجري ما ورد من وصف للأحداث صباح يوم غزوة حنين حيث كتب: "فلما أصبح القوم، اعتزل أبو سفيان، وابنه معاوية، وصفوان بن أمية، وحكيم بن حزام، وراء تل، ينظرون لمن ستكون الدَّبرة (الهزيمة)". كما ورد هذا الحديث في مغازي التابعي عروة بن الزبير بن العوام (ت 94 هـ/713) ولم يُعرف عنه أنه كان مناوئاً لبني أمية بل كان مقرباً منهم!
نقدُ بعض نقدِ المسلسل
نال مسلسل معاوية الكثير من النقد في أيامه الأولى، وكاد يتحول إلى قضية رأي عام وفضيحة فنية (بجلاجل)، وخرج النقاد والصحافيون غالباً بأحكام سلبية قاسية عليه وعلى القائمين عليه، ودعا بعضهم لمقاطعته ثم انحسر اهتمام النخبة وعامة الناس به وكاد يتوارى تماماً بين المسلسلات الرمضانية.
ومما كُتب من نقد عن هذا المسلسل أتوقف عند مثالين. الأول كتبه د. عبد الله معروف، أستاذ السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي في "جامعة 29 مايو" بإسطنبول، وهو ممن يترضَّون على معاوية، فسجل على لغة المسلسل ركاكتها وبعدها عن جزالة لغة ذلك العصر، وضرب لذلك مثالاً في ما قالته هند بنت عتبة مُناغيةً وليدها معاوية: "أنتَ إنجازي الأعظم"! وإذا كنا نتفق مع د. معروف على أن هذه العبارة المستحدثة المعاصرة ناشزة وركيكة، فليس من السهل الاتفاق معه على وجوب كتابة حوار المسلسلات التاريخية في عصرنا بلغة عصر صدر الإسلام. فعلى صعوبة ذلك تنفيذياً، من المرجح أنَّ كُثراً من المشاهدين اليوم لن يفهموها بسهولة. والحل كما أعتقد يكون في استعمال لغة وسيطة لا تجنح إلى الجزالة والتقعر اللفظي القديمين ولا تسقط في المباشرة والركاكة الفظة كلغة "أنت إنجازي الأكبر"!
ويتساءل الناقد وهو هنا على حق: "متى كان العرب في مكة يلبسون القفطان العثماني وملابس العصر المملوكي؟! أما من الناحية التاريخية، فيجد د. معروف فرقاً بخمس سنوات بين عمر معاوية في المسلسل وعمره في المصادر التأريخية. والحقيقة، فلا يوجد عمر متفق عليه في المصادر القديمة لمعاوية. إذْ أنَّ هناك أكثر من تقدير لعمره بين من قال، ولد مُعاوية قبل البعثة بخمس سنين، وقيل بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، أي أن الفرق في المصادر القديمة يصل إلى ثماني سنوات.
نقد يوسف زيدان للمسلسل
كما انتقد الكاتب المصري يوسف زيدان، والذي يُعرِّف نفسه بـ "الباحث المتخصص في التراث العربي المخطوط وعلومه" مسلسل معاوية. ومما قاله بهذا الصدد: إنَّ المسلسل "أظهر مكة قبل وبعد الإسلام كروما القديمة، ومعاوية كسقراط/ المصري اليوم عدد 6 آذار مارس 2025". وهذا كلام مرسل وغير صحيح البتة؛ فالبنايات والبيوت كلها طينية وبسيطة وذات طابق واحد. والأدوات الحياتية والملابس والإكسسوارات بسيطة جدا بما فيها بيوت الخلفاء كبيت عثمان وهو أغناهم، وهذا ما شاهده المشاهدون على الشاشات.
وقد سجلنا في مقالة سابقة أن المخرج أظهر بلاط هِرَقْل وكأنه حمام تركي مهجور خالٍ من مظاهر الأبهة الرومانية. ولكني أضيف الآن، أنَّ الحلقات اللاحقة، وبدءاً من الحلقة العاشرة، تحسنت فيها الديكورات كثيراً، وخصوصاً قصر معاوية بدمشق الشام. ولا أدري عن أي روما يتكلم يوسف زيدان، خصوصاً وهو يعلق على الحلقة الأولى وشيئا من الثانية من المسلسل فقد اعترف بأنه لم يتمكن من مشاهدة أكثر من حلقة وثلث!
يعترض يوسف زيدان على أن معاوية لم يكن كاتبا للوحي لأن عمره حين توفي النبي كان أحد عشر عاماً. وهذا تخريج غير صحيح في أي حساب حسبناه. وإذا كنا نتفق مع زيدان على أن معاوية لم يكن من كتاب الوحي، ولكن لسبب آخر غير صغر سنه، بل لأنه لم يكن كاتبا للوحي بل كاتبا للنبي يملي عليه مراسلاته مع الأمراء وزعماء القبائل العرب. أما لناحية عمره، فما يقوله زيدان ليس صحيحاً؛ فقد توفي النبي في ربيع الأول سنة 11 هـ / حزيران - يونيو 632 م. أما معاوية، فقد ولد على أرجح الروايات وأقواها في 15 ق. هـ / 608 م. وهذا يعني أن عمر معاوية حين توفي النبي كان لا يقل عن 25 عاما. وإذا افترضنا أنه أصبح واحداً من كتاب النبي بعد فتح مكة فيكون عمر معاوية عندها ليس أقل 22 عاما. فكيف خرج علينا زيدان بهذه الحسبة؟
معاوية كاتب الوحي أم القبائل؟
يحتفل المسلسل في الحلقة الثانية بكون معاوية صار أحد كتاب الوحي، ويعطي لهذا الأمر أهمية استثنائية خارقة ويخصص له العديد من المشاهد الطويلة، والهدف هو دائما تنزيه بطل المسلسل ومنحه صفات إيجابية شتى حقا أو باطلا. والحال فإنَّ كتابة الوحي ليس شيئا يُقدِس أو يعصِم فاعله. وينكشف لنا الحجم الحقيقي وغير المهم لهذه الحيثية حين نعلم أن معاوية كان واحداً من عدد كبير من الكتاب في خدمة النبي. فقد قال بعض المؤرخين إنهم ثلاثة عشر، وصعد بهم ابن كثير في "البداية والنهاية" إلى ثلاثة وعشرين كاتبا، وبالغ آخرون فقالوا بل هم أربعون كاتبا. ويمكن القول إنَّ هؤلاء هم غالبية إنْ لم يكونوا جميع من كانوا يجيدون الكتابة في مجتمع مكة الصغير الجاهلي، والذي لم يعرف الكتابة كثيرا من قبل.
وقد أورد الإمام عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن صاحب "تخريج الأحياء" أن ثلاثة من كتاب الوحي ارتدوا عن الإسلام وهم ابن خطل وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، أخو عثمان بن عفان في الرضاعة، وثالث لم يذكر اسمه.
وبمراجعة كتب التراث والمصادر الوثيقة لم يثبت أصلاً "ان معاوية كان كاتبا" للوحي؛
ففي "سير أعلام النبلاء" للذهبي نقرأ أن زيد بن ثابت كان كاتب الوحي، وكان معاوية كاتباً لما بين النبي وبين العرب. وورد في "الإصابة في تمييز الصحابة" للحافظ ابن حجر الهيثمي هذا الخبر تكراراً. قال: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي فيما بينه وبين العرب. "ولم يُصَرَح بكتابة معاوية للوحي إلا في حديث لأبي عوانة الإسفراييني النيسابوري وهو حديث موضوع لا يصح" كما كتب الباحث الإسلامي د. عدنان إبراهيم في مقالة له على مدونته بعنوان "هل كتب معاوية الوحي - 21 شباط فبراير، 2011".
وقد جاءت الضربة الأخيرة والقاضية لهذا الزعم من الفقيه الحنبلي المتشدد صاحب كتاب "تلبيس إبليس"، والذي لا يمكن اتهامه بممالأة العلويين وشيعتهم، ابن الجوزي القرشي البغدادي (510هـ - 597 هـ) في كتابه "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه". حيث ردَّ على ابن كثير الذي وصف معاوية بأنّه "كاتب وحي رب العالمين وخال المؤمنين"، فخاطبه قائلاً: "وأما قولك (ومعاوية كاتب وحي رب العالمين) فليس بصحيح، وذلك لأنَّ معاوية أسلم عام الفتح، وهو وأبوه من الطلقاء، وقد أسلم في أوقات قد فرغ فيها نزول الوحي ووصل عند قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا - سورة المائدة آية 3 ﴾ فماذا سيكتب معاوية بعد هذا- دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ص242" - طبعة دار الإمام النووي، حققه وقدم له حسن السقاف. ويضيف ابن الجوزي في كتابه هذا، أن معاوية حتى حين كتب رسائل النبي إلى زعماء القبائل العرب فهو لم يكتب إلا ثلاث رسائل، فيقول: "وليكن معلوماً أنه -معاوية - أيضاً ما كتب للنبي (ص) إلا ثلاث رسائل – م.س".
ومن طريف ردود ابن الجوزي على ابن كثير، رده بخصوص وصف معاوية بـ "خال المؤمنين" كتب: "فأما قولك "خال المؤمنين" فليس بصحيح البتة، لأنه لم يرد في سنة صحيحة أو أثر. وعلى قولك هذا في الخؤولة، فإن حُيي بن أخطب اليهودي يكون جد المؤمنين لأنه والد السيدة صفية زوجة النبي"ص"- م.س.
إن مشكلة أهل مسلسل "معاوية" والمسلسلات التأريخية التجارية المماثِلة المؤدلجة بالفكر السلفي التكفيري ذي الدوافع الطائفية المعاصرة، ومهما بُذِلَ عليها من ملايين الدولارات، إنها باتت تُصنع في زمن صار من السهل فيه حتى على المسلم البسيط وقارئ العربية غير المتخصص الوصول إلى أمهات المصادر التراثية بسهولة تامة، ليتبن له الحقُّ من الباطل والغثُّ من الثمين والصحيح من السقيم والحقيقي من المزور والمُدَلَس. وفي ما أثاره هذا المسلسل من ردود أفعال درسٌ قاسٍ ولكنه مفيد لمن يتعظون من أخطائهم وأخطاء غيرهم!
***
علاء اللامي - كاتب عراقي

 

لاوجود في الشرق المتوسطي العربي لايه تفاعليه مع الراهن الحاضر ذاتيا على المنقلبين النقلي عن النموذج الاوربي، او الاستعادي الابراهيمي، المنحنيان المهمينان على العقل ومظاهر حضوره بغض النظر عن فعاليتها، وان هي قد دلت وان بلا ابداعية مواكبه للحظة، على قوة حضور الذاتيه غير الناطقة ولا المفصح عنها، وبغض النظر عن راهنيتها، ومع تعدد مظاهر واشكال الاستعادية التشبهيه الابراهيمه كما تجلت تحت وطاة النهوضية الاوربيه، فانها تظل تعكس من موضع حساس، قوة حضور المنجز الذاتي التاريخي وتعذر اقصائه من اللوحه.
وتولد التشبهية الابراهيمه كمنزع مقاومه ورفض ينطوي على رفض النموذجيه التفكرية والنموذجيه الاوربيه، بالاخص مايبدو من جانبها الالغائي للنمطية المجتمعية المقابله اللاارضوية التي هي خاصة ونوع تعبيريه هذا الموضع من العالم، علما بان حركة رفض الاوربة الحداثية تجري اليوم، ضمن حاله عدم توازن ذاتيه اهم معالمها واخطرها غياب النبوة و"الكتاب"، العنصران الحاسمان في بنية وفعالية اللاارضوية من جهه، والارجحية التاريخانيه المتولدة عن راهنية المنظور الغربي مقارنه بتاريخ المصدر اللاارضوي النبوي بصيغته الاخيرة الخاتمه، مايضع الاخير بموقع اللافعالية التاريخيه، بما انه لم يحقق المطلوب ويسود هو على مستوى المعمورة، بل على العكس تردت وضعفت نتائجا مفسحة المجال اما م الصعود الغربي وهيمنته الكاسحه على مستوى المعمو رة، الامر الذي يضعف للوهلة الاولى من مصداقية اللاارضوية النبوية تاريخيا، كحقيقة شمولية نهائية.
وكما سبق التنويه فان الحال العقلي اللاارضوي وقت مواجهته التحدي الصعودي الالي الغربي، يكون في حال من التردي الاقصى، هذا اذا اخذنا بالاعتبار كون التعبير المذكور ليس من دون حكم الفعالية التغييرية التاريخانيه، الامر الذي تكرسه الانحطاطية التشبهية، وشخص من مستوى محمد بن عبدالوهاب ادنى من ان يرتقي لمستوى التعبيرية التي يريد استحضارها مفصوله عن متعلقاتها اللاحقة على الوحي والكتاب الاخير، اي اجمالي ماقد حدث منذ القرن السابع حتى الثالث عشر، وانتهاء فترة النهوض الموصوله بالانطلاقة الجزيرية الكبرى، ونحن نعرف ان المذكور مجرد دارس للسلفيه الموروثة تلقاها في بغداد، وبعد تجربة عارضة له في البصرة، هرب منها وكاد ان يقتل اثناء هربه الى ان عاد الى بلاده ليباشر نوع استحضار مقفل، مادون عقيدي، ومستوى تدن معرفي منعه وقتها ان يعي نوع العلاقة الجوهر والاصل بين " العقيدة" و " القبيله"، فوضع دعوته التي بلا الهام راهن مشفوعة بتوهماته الموكوله الى اسباب تهديديه برانبه محفزه، بين يدي القبيله/ ال سعود/، الامر المخالف كليا للمبدأ النبوي المحمدي الذي حقق وقتها اخضاع القبيلة للعقيدة في مجتمع قبلي، الامر الذي استمر طيله عهده والراشدين من بعده، الى معاوية بن ابي سفيان بطل الانقلاب القبلي وعودة القبيله التي تستعمل العقيدة لاغراض الحكم العضوض الوراثي، غير المعروف في الجزيرة نفسها اصلا حتى قبل الاسلام، بحكم كونها مجتمع لادولة خاضع لاقتصاد الغزو، بلغ ذروة تازمه بسبب قطع الاحتلال الفارسي على مدى سنوات طويله للشريان التجاري الواصل بين البحر عند جنوب الجزيرة العربيه، والهلال الخصيب شمالا، المصدر الذي كان يؤمن الحد الادنى من التوازن المعاشي المجتمعي.
ولاشك ان بعضا من ملامح الاختناق التجاري المذكور قد لاحت في حينه مع الاحتلالات البرتغالية والهولنيه والبريطانيه للساحل الخليجي، وقطعها للطريق البحري الواصل للهند مصدر التجارة الحيوي التاريخي، الا ان شيئا نوعيا وانقلابيا كان قد حصل وقتها تاتى في حينه من افتقاد الجزيرة العربيه لميزتها الاهم، باعتبارها مجتمعا احترابيا استثنائيا بناء على نوع الاقتصاد الناظم لحياة هذا الموضع الصحراوي، الامر الذي اليه يعود بالدرجه الاولى ماقد حدث في حينه من انتشار لامثيل له في التاريخ البشري لانطلاق احترابي خارج من ارضه الصحراوية الجرداء المعزوله، بما لايصل الى ربع مليون مقاتل حاف، احتلو العالم الشرقي وصولا الى الصين والهند، والى الغرب وصولا لاسبانيا بما لايزيد على العشرين سنه، الامر الذي لامثيل ولاشبيه له في التاريخ البشري، علما بان الخارجين الحفاة من الصحراء لم يكونوا متميزين تسلحا وماكانوا يمتطون الدبابات ويطلقون الصواريخ، ولا تميزوا في اي مجال تسليحي احترابي ان لم يكن العكس، هذا وهم دخلوا الهلال الخصيب بزمن قياسي، والهلال يضم خمسة ملايين ساكن وقتها، وهم ليسوا اكثر من مائتي الف في ارض يحميها الغزاه الفرس والرومان، وجيوشهم المسلحه اعلى تسليح في وقته.
التازم الاقصى في مجتمع احترابي، السيف فيه يرضع مع صدر الام، وهو الحياة لمجتمع "طلع" لايحكم ولايحكم كما يقول عنها اهلها، حيث الفكرة الالهام اللاارضوي / النبوة /كيانيه مطابقه متعدية للكيانيه، يريد استعادتها ارضوي امي، يبدا من اعتماد قانون الغلبه القبيلي المتضاد كينونه مع مايجري استعماله لاغراض الحكم والسيادة التي ماتلبث ان تهزم "عسكريا" في ارضها على يد محمد على الالباني، ليذهب ال سعود بعدها منفيين الى الكويت فلايعرف عنهم وقتها دين ولادعوة، الى ان تحولت النبوة على يدهم الى ريع نفطي يستدعي الانكليز للاتيان بهم من منفاهم ليقيموا " دولة استعمال النبوة ريعيا للحكم المجافي كليا حتى لطبيعة المكان التاريخيه، محولة اياه من مجتمع محارب اعلى،الى مجتمع منزوع السلاح يعيش على اعطيات الحكم الممسك برقبة الابار ومردودها، نهايته محمد بن سلمان وتحديثاته الكاريكاتورية"، وكل هذا لم يستوجب بعد والى الساعه، اي توقف عند معنى التشبهية الابراهيميه ودرجة ترديها المريع قياسا لما تدعية وتتوهمه، من دون حتى مجرد انتباه الى اختلاف وتباين الدعوة السلفية المريع، مع ماتدعي استحضاره في غير ساعته واوانه، وبالذات بين هبة "الفتح" المحمدية الكونية العظمى، وبين الانهزام المخزي امام محمد علي للوهابيه في عقر دارها، كدالة على تغير اساس لم ينظر فيه الى اليوم، بين زمن ونوع ممارسة عسكرية ماقبل وابان الانطلاقة الجزيرة ومابعد، وصولا الى الانقلاب الالي واثاره على الممارسة العسكرية عموما، مايجعل التوافق بين الالهامية النبوية في حينه في القرن السابع والميزة الكينونه البنيويه، وطبيعة المفهوم المجتمعي المعاش والموروث للحكم، ونوع الدولة، ركائز مادية اساسية لتكريس الالهامية الايمانيه بغض النظر عن الفعالية، بالاخص ابان الطور التعبيري اللاارضوي النبوي الحدسي وختامه المحمدي.
ـ يتبع ـ
***
عبد الامير الركابي

 

خرج علينا رجلٌ يعتمر العِمامة البيضاء، وهو يقف أمام خريطة، يُحدد عليها مسار «السُّفيانيّ»، حسب الكتب الخاصة بظهور المهدي المنتظر، يقابل هذا المشهد هتافات علت وسط دّمشق: «بكرية عمرية أمويَّة»! خطاب لا يدر على العراقيين والسُّوريين سوى القتل والجهل!
عاد اسم «السّفيانيّ» إلى الواجهة، لاختصار السّياسة بنزاع العلويين والأمويين، قبل (14 قرناً) بينما أولادهما وأحفادهما اعتبروه ماضياً قد ولى، فالمهدي، والممهد له اليماني، علويان، بالنَّسب والانتماء، والسُّفيانيّ مِن آل أبي سُفيان الأمويّ، ويظل النّزاع (الأبديّ) جارياً بينهما، دون الاكتراث بأن ابنة أبي سفيان أُمُّ حبيبة رملة، كانت ومازالت أمَّ المؤمنين (ابن سعد، الطبقات الكبرى)، وأن عليَّ الأكبر بن الحُسين (قُتلا: 61هج) أمه ليلى، حفيدة أبي سفيان، فأشير إليه بعلوي العمومة، وأموي الخؤولة (القُميّ، منتهى الآمال).
بالمقابل، تزوجت فاطمة بنت الحُسين، بعد ابن عمها الحسن المثنى العلويّ، حفيد عثمان بن عفان الأموي، فولد أخٌ أموي لآل الحسن العلويين (الزبيريّ، نسب قُريش). القصد لم يكن هناك سفياني يُهدد المستقبل، مثلما خرج علينا أمين «الدّعوة الإسلاميَّة» مُتوكّئاً على هذا الماضي، فلو تركه ليس له ما يُحشد الجمهور.
وقف المعمم، يحدد مسار رؤية أمين الدّعوة بإقليم شيعيّ، في أنّ السُّفياني سيدخل بغداد مِن الشَّام، متناسياً أنّ شاحنات متفجرات دخلت أمام ناظره منها، مثل صناديق حلوى عنده، تكلم ضدها ليومين وقلب الرِّداء مدافعاً عن مُرسليها، بينما كانت تهز بغداد على مدار الأسبوع، فبدل الخطاب ليصرخ: أتيناك يا بيروت، أتيناكِ يا دَمشق، أتيناكِ يا صنعاء، والمؤتمرون برئاسة مستشار الولي الفقيه يردون: أتيناكِ يا بغداد! ولم يأتِ بغداد سوى الخُرافة والاغتيال والخطف، فضاق أهلها بهول ما يواجهون ويعانون.
حسب الكتب الخاصة بالمنتظر، يسبق ظهوره السُّفيانيّ، وكانت المفاجأة، خروج رجلٍ كان مختلط النسب علويَّاً وأمويَّاً، اعتبروه السّفيانيّ، وهو عليّ بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمه نفيسة حفيدة العباس بن عليّ بن أبي طالب، لقبه «العُميطر»(ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق). بويع بدَمشق ضد العباسيين، في عهد عبد الله المأمون(ت: 218 هج)، كان هدفه مشتركاً أمويَّاً وعلويَّاً، ثم انحسر مختفياً(195-199هج).
أُهملَ السّفيانيّ هذا، ففيه ما يخالف منطقهم، واليوم يهددون بسفيانيّ، بعد الذي حصل بسوريا، والسّفيانيّ المهدد به، قد يكون «بعثياً» سُنيّاً، أو «بعثيّاً» علويّاً، فذاك يُحسب بحساب منطق الممهد للظهور، فيجري الخسف المعروف في الآثار، مُثلت خرافته في أكثر مِن زمان، فلا خسوف بيداء، ولا النَّفس الزَّكية يعود، ولا علامة مِن العلامات تحققت.
غاب المنطق، فما تحاوله الدّولتان، العراقيّة والسُّوريَّة، التعامل بالواقع، تفسده الجماعات بهتافها وسلاحها، جماعات يمثلها أمين «الدّعوة» في خطابه المأزوم، وقد تخيل نفسه «طالب الثَّارات» المختار الثّقفي(قُتل: 67هج)، وغيره الخصم عبيد الله بن زياد(قُتل: 67هج)، يقابله خطاب الدَّواعش، الذين يريدونها «طالبان»، والطائفية قاسمهما المشترك.
هدد المعمم بسفياني «الدَّعوة الإسلاميَّة»، أنه قادم من «قرغيزيا»، سيطرق دمشق، ويحتل ما يمر به مِن بلدان وأراضين، ويُستقبل من قِبل غرب العراق(السُّنيّ)، ويدخلون معه لاحتلال النّجف، وبغداد، وحسب المعمم سيحكم لأيام، ثم يقوم اليماني، وجيشه مِن الميليشيات الولائيَّة، ويطرد السفيانيّ، كي يمهدها للمهدي المنتظر، فانظروا حجم المأساة والملهاة في وقت واحد!
هذا الخطاب المشروخ، لكثرة طرحه، يخطف مِن أهل العراق العقل، ويجعلهم أمام جهل، يُحار باختراقه، فإذا كان هناك سفيانيّ حقّاً، فأصحاب هذا الخطاب هم (السفياني) بعظمه ولحمه، وللأمير عبد الله بن المعتز العباسيّ(قُتل: 296هج)، ما يُنشد: «قد عضَّني صَرْفُ النّوائبْ/ ورأيتُ آمالى كواذب/ والشّمْسُ تأكُلُ ظلّها/ أكلَّ اللّظَى عيدانَ حاطبْ»(الصُّولي، أشعار أولاد الخلفاء)، فالخُرافة حين تَضرب أطنابها تُحيل الآمال كواذبَ.
***
د. رشيد الخيون - كاتب عراقي

في البدء، لا بد من الإقرار بأن التاريخ ليس خطًّا مستقيمًا، بل هو موجات متكسرة، تتلاطم فيها القوى، وتتصارع فيها الأوهام والحقائق. لقد ظن العالم، بعد سقوط جدار برلين عام 1989، أن عجلة التاريخ قد توقفت، وأن “نهاية التاريخ” التي بشّر بها فوكوياما قد حلت، حيث لم يعد هناك صراع، بل سيادة مطلقة لقيم الليبرالية الغربية. لكن السنوات التي تلت كانت كفيلة بفضح هذا الوهم. لم يكن التاريخ قد انتهى، بل كان يعيد تشكيل نفسه، متحركًا في دوائر عبثية حيث تُعيد الأنظمة المستبدة إنتاج ذاتها بأشكال جديدة، وحيث يتقدم العالم إلى الخلف، كراقص سكير يتعثر بين نشوة القوة وفوضى الانحطاط.
في الولايات المتحدة، تتجسد هذه الحركة النكوصية في عودة ترامب، ليس كشخص بل كحالة، كفكرة جذرها الخوف وساقها العنف. لم يكن ترامب سوى انعكاس لحقيقة أكثر عمقًا: أن الديمقراطية الليبرالية، التي يفترض أنها بلغت قمتها، قد بدأت في التآكل من الداخل، ولم تعد سوى غطاء شفاف يحجب تحت سطحه تصدعًا أخلاقيًا وسياسيًا. إن الشخصيات التي تحيط به الآن—من ستيف بانون الذي يحلم بثورة يمينية شاملة إلى جي دي فانس الذي يرى في السلطة المطلقة حلًّا لكل شيء—تكشف عن نزعة فاشية تتبلور ببطء، وتعيد إلى الذاكرة مشاهد صعود الطغاة في ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن التآكل الأمريكي ليس مجرد صراع أيديولوجي، بل هو انعكاس لفشل اقتصادي عميق. فقد صنعت الرأسمالية المتوحشة طبقة صغيرة تملك كل شيء، فيما تآكلت الطبقة الوسطى، ما خلق حنقًا شعبيًا غذى الشعبوية اليمينية.
إن هشاشة البنية الاجتماعية ليست سوى ممر مفتوح للديكتاتوريات القادمة.
ولكن، هل يمكن فصل هذه التحولات عن صعود الأنظمة القمعية في الشرق الأوسط وأفريقيا؟ هل يمكن فصل صورة الطاغية العربي، المتكئ على بندقية القمع، عن صورة السياسي الغربي، الذي يتحدث عن الديمقراطية فيما يوقّع صفقات الأسلحة مع أمراء الحرب؟ من القاهرة إلى موسكو، ومن الرياض إلى الخرطوم، تتشابك المصالح في نسيج من الدمار، حيث يصبح المواطن البسيط مجرد رقم في معادلة القوة، وحيث تُعاد كتابة الخرائط بدماء الشعوب.
في السودان، مثلًا، لم يكن النزاع بين الجيش والدعم السريع مجرد صراع داخلي، بل كان امتدادًا لسياسات دولية ترى في البلاد مجرد رقعة شطرنج، تُحرَّك فيها القطع كيفما تشاء مراكز القوى. وفي سوريا، حيث تحولت البلاد إلى مسرح مفتوح للقوى المتنافسة، من الولايات المتحدة وروسيا إلى إيران وتركيا، باتت سيادة الدولة فكرة هشة، بينما تقتسم الفصائل المسلحة، المدعومة من الخارج، أراضيها كغنائم حرب. أما في اليمن، فقد أصبح البلد ساحةً لحرب لا تنتهي، مدفوعة بأطماع إقليمية وخارجية، حيث تُستخدم المأساة الإنسانية كأداة ضغط سياسي، وحيث الموت اليومي لا يُعد خبراً يستحق الذكر.
وفي الخليج، تبدو الصورة أكثر فجاجة. أنظمة ملكية مترفة تحكم بالحديد والنار، تدفع الأموال بسخاء للإمبريالية كي تضمن بقاءها على العرش، وتنفذ الأجندات الغربية بوعي الطامع في الخلود السياسي.
السعودية، التي تحلم بأن تكون قوة عالمية، تمارس أعتى أشكال القمع الداخلي، فيما تشتري شرعيتها الدولية من خلال عقود السلاح والصفقات الاقتصادية الضخمة.
لكنها ليست فقط دولة بوليسية، بل هي نموذج لرأسمالية ريعية تُبقي شعبها في حالة خضوع من خلال توزيع الريع النفطي، بينما تبني ناطحات سحاب تعكس وهم الحداثة. الإمارات، التي تقدم نفسها كواحة للاستثمار والانفتاح، لا تتردد في سحق أي صوت معارض، وتدير عمليات تدخل خفية في دول أخرى لإعادة تشكيل المشهد السياسي بما يتناسب مع مصالحها.
نموذجها الاقتصادي، الذي يقوم على العمالة المهاجرة الرخيصة وقوانين الاستثمار التي تخدم النخبة العالمية، ليس سوى واجهة لاستبداد مموه بحداثة زائفة. أما قطر، التي تتباهى بإعلامها الحر، فلا تزال تحكم بقبضة العائلة الواحدة، حيث الديمقراطية مجرد زينة لا تتجاوز حدود الاستعراض. هذه الدول، التي تتاجر بواجهات الحداثة، تحافظ على جوهرها السلطوي، حيث يصبح الولاء للعرش أهم من الولاء للوطن، ويصبح الشعب مجرد تفصيل ثانوي في معادلة الحكم.
في بغداد، المدينة التي كانت يومًا قلب العالم النابض بالمعرفة، ومركزًا للفكر والفلسفة، لم يبقَ سوى أطلال تحكي حكاية مدينة خُذلت مرارًا. هناك، حيث كانت الحلقات الفلسفية تُعقد تحت ظلال النخيل، وحيث كان الورّاقون ينسخون كتب أرسطو وأفلاطون، لم يتبقَّ سوى أنقاض تحرسها الميليشيات، وشوارع تنتظر قدوم الضوء من نفق لا يبدو أن له نهاية.
في بغداد، كما في دمشق، كما في بيروت، تبدو المدينة وكأنها تجاهد لتبقى على قيد الحياة، تحاول أن تتذكر أيامها الخوالي، لكنها لا تجد في حاضرها سوى الخراب.
لقد أدرك غرامشي، حين كتب من سجنه، أن “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لم يولد بعد”، وهذه هي المعضلة التي يعيشها العالم اليوم: أنظمة فاسدة لكنها متجذرة، وحركات مقاومة لم تجد بعد لغتها الخاصة. المثقف، في ظل هذا كله، يبدو كمن يقف على حافة هاوية، متسائلًا عن جدوى كلماته في عالم يحكمه الصخب والسلاح.
ما مصير المثقف في زمن الهيمنة المطلقة؟ هل يُعقل أن يكون قدره الصمت، أو أن يتحول إلى أداة في يد السلطة، كما فعل كثيرون ممن ارتدوا عباءة الثورة ثم باعوا أنفسهم في مزاد المصالح؟
إن مصير المثقف في هذا الزمن يشبه إلى حد بعيد مصير بطل كونديرا في “كائن لا تحتمل خفته”، الذي يجد نفسه ممزقًا بين ثقل الالتزام وخفة التجاهل. هل يكون شاتوف، ذلك المثقف الروسي الذي قتله أصدقاؤه الثوريون في “الشياطين” لدوستويفسكي، أم يكون ساراماغو الذي كتب عن العمى في عالم يرى لكنه لا يبصر؟ المثقف الذي يرفض الانخراط في اللعبة السياسية يجد نفسه منفيًّا داخل وطنه، مسجونًا في لغة لم تعد قادرة على وصف الخراب، لكنه، رغم ذلك، يظل الشاهد الأخير، ذاك الذي يسجل الهزائم حتى حين يكون عاجزًا عن منعها.
أما المواطن البسيط، فهو الضحية الحقيقية لهذا النظام العالمي المختل. في السودان، في العراق، في اليمن، في فلسطين، في كل مكان حيث الحروب تدار كاستثمارات، يتحول الإنسان إلى مجرد وقود في آلة السلطة. المواطن، الذي كان يحلم بحياة كريمة، يجد نفسه مطاردًا بالجوع والخوف، مرغمًا على قبول واقعه كأنه قدر مكتوب.
إن الحروب الحديثة، التي يديرها أمراء الحرب بشراكة مع القوى العظمى، لم تعد تحتاج إلى مبررات أيديولوجية كما كان الحال في القرن العشرين، بل صارت تدار بوقاحة لا تخفى: حرب من أجل الغاز، حرب من أجل النفط، حرب من أجل النفوذ، بينما الشعوب تدفع الثمن وحدها.
في نهاية المطاف، تبقى الأسئلة مفتوحة: هل نحن في زمن تولي الأشرار زمام الأمور، أم أن العالم لطالما كان يحكمه الطغاة، لكننا فقط صرنا أكثر وعيًا بهذه الحقيقة؟ هل يمكن أن يولد من هذا الدمار شكل جديد من المقاومة، أم أننا محكومون بالعيش في هذا الدوران العبثي؟ هل سيسجل التاريخ هؤلاء الطغاة كمنتصرين، أم أن هناك، في مكان ما، في زقاق ضيق، أو في قلب مدينة تشتعل، ثائرًا يحمل في عينيه وعدًا لم يتحقق بعد؟
***
إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

أثارت التغييرات المفاجئة التي حصلت في سوريا على نحو سريع إشكاليات ومشكلات بناء الدولة أو إعادة البناء، باستعادة مصطلح غورباتشوف "بريسترويكا"، خصوصًا ما أعقبها من تطوّرات في الملف الكردي بإعلان عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمّال الكردستاني (المحكوم مدى الحياة) منذ العام 1999 في سجن إمرالي، الطلب من أنصاره إلقاء السلاح وحل الحزب، الأمر الذي يطرح مجددًا مسألة إعادة بناء الدولة في ظل تحديات المواطنة ونظام الحكم ومشكلة المجموعات الثقافية والعلاقة بين الهويّة العامة والهويّات الفرعية، وهو ما واجه الدولة العراقية منذ تأسيسها وإلى اليوم، والتي تعمّقت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
وإذا كان توصيف الدولة التركية كدولة بسيطة تقوم على نظام مركزي يعتمد على القومية الأكثر عددًا، وهو ما كان سائدًا في سوريا والعراق، وكذلك إيران، إلّا أن العراق بعد الإطاحة بالنظام السابق وقيام نظام جديد، انتقل من الدولة البسيطة إلى الدولة المركبة، ومن النظام المركزي إلى النظام اللّامركزي "الاتحادي – الفيدرالي"، وهو ما تسعى المجموعات الثقافية الكردية – السورية إلى ما يماثله من خلال الإدارة الذاتية التي تشكّلت بعد الانتفاضات التي عمّت البلاد منذ العام 2011 فيما يسمّى ﺑ "الربيع العربي".
وكان عبد الله أوجلان قد طرح مشروع "الأمة الديمقراطية"، الذي يعتبره مبادرة ترتقي بالطموح إلى تحقيق دولة تقوم على المواطنة، وأساسها المساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى أجواء من الحريّة، وهو ما يعتبره أوجلان مدخلًا مناسبًا لحلّ المسألة الكردية في تركيا، بل لمشكلة التنوّع الثقافي في المنطقة. ويحتاج الأمر إلى اعتراف بالتعددية والتنوّع، وبالتالي إدارة حوار سلمي حول سُبل الحل المناسب في الوضع الملموس وفي الظرف الملموس.
وعلى الرغم من توقيع رئيس الجمهورية أحمد الشرع اتفاقًا مع مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وإعلان الدستور السوري المؤقت الذي حدّدت فيه فترة الانتقال ﺑ 5 سنوات، ومنحت رئيس الجمهورية صلاحيات تكاد تكون غير مسبوقة، باستثناء الأنظمة التي شهدت انقلابات عسكرية، إلّا أن الإشكاليات الإثنية – القومية ستظلّ تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى، ما لم تجد حلًّا مقبولًا يقود إلى تسوية تاريخية بالاعتراف بها على أساس حق تقرير المصير، واختيار الصيغة المناسبة للعلاقات العربية – الكردية، علمًا بأن الكرد شهدوا حالات تهميش وإقصاء ومحاولات صهر وحرمان من الجنسية لأعداد كبيرة منهم والذين يسمون بالمكتومين، وتشييد ما سمّي ﺑ "الحزام العربي" ، تلك التي خطط لها النظام السابق منذ العام 1964، وشملت نحو عقد كامل من التغيير الديمغرافي، وقام بتنفيذها بقسوة محمد طلبة هلال، الضابط السابق في جهاز الأمن السوري.
أما بالنسبة للعراق، فعلى الرغم من إقرار الدستور بالنظام الفيدرالي، فحتى الآن لا تزال هويّة النظام غير محدّدة، وصعوبة تصنيفه بسبب تعويم سيادته وعدم فاعليته بفعل هيمنة العامل الخارجي، سواء كان دوليًا، والمقصود بذلك الولايات المتحدة، أو الفاعل الإقليمي المؤثر في الداخل، والمقصود بذلك إيران، علمًا بأن للولايات المتحدة ولتركيا قواعد عسكرية في العراق، في حين أن إيران تمتلك علاقات وطيدة مع فصائل مسلحة في الحشد الشعبي وعبر أذرع مؤثرة من خارجه.
ولعلّ ازدواجية نماذج التدخّل الخارجي الدولي والإقليمي، أثرتا بشكل خاص على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية للنظام، ارتباطًا بقضايا التنمية التي تحتاج إلى الأمن ومكافحة الإرهاب والمخدرات، فضلًا عن تداخلات السياسة مع السلاح والدين والمال.
وإذا كانت صيغة النظام المركزي الشمولي قد جرّت البلاد إلى حروب ودمار واستبداد، فإن صيغة ما بعد العام 2003 لم تسهم في لحمة الدولة العراقية، على الرغم من رواج دعوات إلى المحاصصة الإثنية - الطائفية باعتبارها هي الحل، لأن البلد عانى من المركزية الشديدة والصارمة التي أنتجت ديكتاتورية منفلتة من عقالها، ولكي يُصار إلى تنظيم العلاقة بين الفرقاء والفاعلين السياسيين، كان لا بدّ من وضع حلّ لمشكلة الحكم المعتقة، فاختُرعت مسألة ما يسمّي ﺑ "المكونات" التي وردت في الدستور7 مرّات، ثم جاء بايدن، الذي أصبح رئيسًا، بمشروعه الثلاثي القاضي بتقسيم العراق إلى ثلاث فدراليات شيعية، كردية وسنية، ووضع نقاط تفتيش وإصدار هويّات خاصة وجيش لحماية حدود هذه الفيدراليات، وكان الأمر يعني مستقبلًا تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق، حيث يصبح التقسيم كواقع أمرًا واقعًا.
وعلى أساس هذه الصيغة الثلاثية ابتُدع العرف الذي قُسّمت به الرئاسات الثلاث، فللشيعية السياسية (رئاسة الوزراء)، وللسنية السياسية (رئاسة البرلمان)، وللكردية السياسية (رئاسة الجمهورية)، دون اعتبار للكفاءة بقدر الولاء والزبائنية السياسية، لكنها لم تؤدّ إلى حل مشكلة الحكم بل زادتها تعقيدًا، وكانت بداية نزاع جديد ومركّب.
ويعرف العراق اليوم كيانيتين دستوريتين وإن كانتا متحدتين، لكنهما شبه منفصلتين أو مستقلتين من الناحية الفعلية، ولم يتكوّن فهم مشترك للفيدرالية ومضامينها والتجربة العراقية وخصوصيتها، وحسب وصف رئيس إقليم كردستان نجرفان البارزاني، فإن الدولة تترنّح بين: مركزية شديدة وفقًا لمنظور بغداد، ولا مركزية فيدرالية تتجاوز الحدود.
أعتقد أن النظام الفيدرالي الحالي كصيغة راهنة، لم يعد فعّالًا، والدليل على ذلك تفاقم المشكلات وتراكمها وصعوبة إيجاد حلول لها، فالمجلس الاتحادي الذي أقرّه الدستور في المادة 65، وكان يمكن أن يشكّل العامود الفقري للنظام السياسي في العراق، ظلّ معطلًا منذ 20 عامًا (أي منذ الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2005) وإلى اليوم، والمشاكل عالقة مثل المادة 140 والاختلاف حول عائدية كركوك والمناطق المتنازع عليها وقانون النفط والغاز وصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، التي غالبًا ما نرى التنازع بينهما، إضافة إلى الاختلاف الشديد في تفسير بعض مواد الدستور، حتى أن المحكمة الاتحادية، بدت متناقضة أحيانًا، فاليوم تعطي تفسيرًا وغدًا يكون تفسيرًا آخر مختلفًا، بسبب التداخلات السياسية والضغوط التي تمارسها القوى المتنفّذة.
ليس من باب التشاؤم القول أن الصيغة الراهنة وصلت إلى طريق مسدود، إذْ تقضي المسؤولية البحث عن صيغ جديدة بوضع معالجات وإصلاحات واتفاقات عملية من شأنها انتشال الدولة العراقية من واقعها الهش والمتفتّت، وصولًا إلى دولة أكثر تماسكًا وانسجامًا، دون أن يعني ذلك العودة إلى الدولة المركزية، بقدر ما هو إشباع صلاحيات الدولة الاتحادية والإقليم والمحافظات، وفقًا لما ورد في الدستور النافذ، والأمر يقتضي استبدال صيغة المحاصصة بالمواطنة.
الجدير بالذكر أن نظام المحاصصة الذي قاد إلى تعويم الدولة، وأصبح عقبة كأداء أمام تطورها، هو ذاته الذي كان وراء إغراق الدولة اللبنانية حتى أذنيها منذ العام 1943 بالمشاكل العويصة، والتي ما تزال، على الرغم من مرور ثمانية عقود من الزمن، بعيدة كل البعد عن الوصول إلى شاطئ الأمان، وإذا كان التوازن مسألة أساسية في الأنظمة الاتحادية، فإنه يقوم على الثقة أولًا، وتلبية الحقوق واحترام مبادئ المواطنة دون الإخلال بصلاحيات الحكومة الاتحادية أو صلاحيات إقليم كردستان. والتوازن لا يعني العودة إلى المركزية المفرطة التي أصبحت من الماضي، ولا التحلّل من الالتزامات التي يفرضها الدستور على الإقليم فيما يتعلّق بصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
إن إدارة التنوّع في مجتمع متعدّد الثقافات مسألة ضرورية، وهي مسألة تواجه العراق اليوم، مثلما تواجه سوريا، كما أنها إن عاجلًا أم آجلًا ستكون ملحةً وأساسيةً بالنسبة لتركيا وإيران، طالما بقت المسألة القومية دون حل مقبول يستطيع فيه الكرد أن يعبّروا عن أنفسهم باعتبارهم قومية متميزة وجزء من أمة عريقة، مثلما هي الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية، والكل له الحق في تقرير المصير وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، بما يعزّز من سبل التقدّم والتنمية والمشترك الإنساني، الذي يقوم على تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها.
إن المشاركة الإيجابية في الحياة العامة عنصر لا غنى عنه لأي مجتمع ذي طبيعة تعدّدية مثل مجتمعات الشرق الأوسط وأممه الأربعة، وحماية التنوّع وحُسن إدارته ومنع ذوبان الهويّات الفرعية مسألة أساسية. ولعلّ المشاركة هي الدرس الأول في التربية على المواطنة، تلك التي تكون حاضنة للثقافات على أساس العيش المشترك أو العيش معًا، بغض النظر عن الدين والقومية واللغة أو غيرها، وذلك عبر حوار فعّال ومستمر لبناء هويّة موحّدة تعترف بالخصوصية وتعتبرها مادة غنية لإثراء الهويّة العامة.
***
د. عبد الحسين شعبان

ازداد الاهتمام في السنوات الأخيرة على المستوى الرسمي والأكاديمي والإعلامي والشعبي بموضوعة الفاشية الجديدة وعلاقتها بصعود شخصيات وأحزاب اليمين المتطرف في العديد من البلدان الأوروبية والولايات المتحدة، وبعض البلدان النامية، خصوصا في أمريكا اللاتينية. وجاء فوز دونالد تراب بفترة رئاسية ثانية في انتخابات عام 2024، والذي ينتمي إلى اليمين المتطرف وذو توجهات فاشية شعبوية واضحة ليزيد من هذا الاهتمام؛ إذ يشكل صعود اليمين المتطرف تحولا خطيرا، وستكون له تداعيات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والأمني، وعلى مستوى النظام العالمي، وهو أكبر تحول تلا صعود الفاشية بين الحربين العالميتين.
لاشك أن هذه التحول مرتبط بشكل وثيق بالأزمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمر بها البلدان الرأسمالية في المركز والأطراف، خصوصا بعد تبني نهج الليبرالية الجديدة-على الرغم من ثبوت فشله بعد اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008- وما تركه من نتائج فاقمت حدة الفوارق الطبقية، ودفعت المزيد من الشرائح الاجتماعية نحو الهامش. كل هذه الظروف تهيأ الحاضنة الخصبة لصعود الأحزاب والشخصيات اليمينية المتطرفة، والتي تجد فيها شرائح اجتماعية واسعة يائسة منقذا لها من الأزمات التي تعيشها بعد خيبة آملها بالأحزاب الليبرالية التي حكمت طيلة عقود.
نحاول في هذه المقالة تتبع نشوء بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة، وعلاقتها بإرث الفاشية، من خلال تحليل الآتي: مفهوم الفاشية الجديدة، الجانب النظري-التفسيري، العلاقة بين اليمين المتطرف والفاشية الجديدة، اليمين المتطرف والهجرة الوافدة، وظاهرة الترامبية.
ما هي الفاشية الجديدة؟
يُطلق مصطلح الفاشية الجديدة في المقام الأول على تلك المجموعات السياسية والأيديولوجية والأحزاب التي عملت بعد عام 1945، خصوصا في أوروبا، والتي استلهمت بشكل مباشر تجربة الأنظمة الفاشية والنازية في فترة ما بين الحربين العالميتين في ألمانيا وإيطاليا وبلدان أوروبية أخرى. كانت هذه المجموعات تتكون في كثير من الأحيان من بقايا الناشطين الفاشيين والنازيين الذين لم يكونوا مستعدين للتخلي عن نشاطهم السياسي أو في الواقع التخلي عن أيديولوجياتهم على الرغم من الهزيمة العسكرية. وكان عدد كبير من الذين يدعمون هذه المنظمات يحنون إلى الماضي ومعزولين عن المؤسسات الديمقراطية الليبرالية وثقافتها لفترة ما بعد الحرب، ويحمل الكثير منهم وجهات نظر متطرفة وغير قابلة للمساومة، مؤكدين على الطابع "الثوري" للفاشية بدلا من نسختها القومية أو تلك التي تؤكد على بناء دولة قوية(1). وما نفهمه عن الطابع الثوري هنا استخدام العنف المفرط ضد الخصوم، وهذا يذكرنا بالمجازر التي ارتكبتها النازية ضد خصومها الداخليين والخارجيين، والاعتداءات المتكررة على المهاجرين من قبل اليمين المتطرف.
حديثا، وبعد رفع السرية عن وثائق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ظهر ما كان مشتبها به لفترة طويلة، وهو أن الجيش الأمريكي وجهاز الخدمة السرية قاما بحماية العديد من المجرمين النازيين والفاشيين بعد الحرب العالمية الثانية، وتجنيدهم كجنود وجواسيس ضد البلدان الاشتراكية(2). وكان العمل الأساس لوكالة المخابرات الأمريكية هو زرع الجواسيس في البلدان الأخيرة، وهذا ما أقر به رئيسها ألين دالاس للفترة 1953-1961، بشكل موسع في مذكراته.
على الرغم من تشوه سمعة الفاشية، وما أرتبط بها من تمييز عنصري بعد الحرب العالمية الثانية، ونجاح البلدان الرأسمالية في أوروبا الغربية في بناء دولة الرفاه الاجتماعي، لكن كان هناك وجود مستمر للفاشية على هامش السياسة السائدة. لقد كانت واحدة من السمات الأكثر لفتا للانتباه لهذه الفاشية الجديدة تتمثّل في الغياب الكلي تقريبا للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين والتي ازدهرت فيها الفاشية لأول مرة، إنها ظروف عدم الاستقرار السياسي، والضائقة الاقتصادية الشديدة، والخوف من تمدد الشيوعية والشعور الواسع بالإذلال الوطني والتطلعات المحبطة. يتمثّل أحد العوامل المساهمة في صعود الفاشيين المعاصرين في الهجرة الوافدة. خصوصا عندما يتفاقم الوضع نتيجة الركود الاقتصادي على الرغم من عدم ظهور ضائقة اقتصادية كالتي كانت بين الحربين العالميتين(3)، علما أن موضوع الهجرة يجري تسيسه على نطاق واسع، لأغراض انتخابية بحتة، حيث تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن هناك حاجة ماسة للهجرة الوافدة حاليا وفي السنوات القادمة.
منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، برزت إلى الواجهة كثير من الحركات اليمينية المعادية للأجانب، متأثرة باليمين الجديد في أوروبا وأمريكا، لهذه الحركات في بعض الأحيان جذور واضحة مع الماضي الفاشي والفاشية الجديدة، ولكنها غالبا ما تنأى بنفسها عن ذلك علنا. لقد ركزت كثير من المناقشات الأخيرة بين العلماء على التوصل إلى إجماع جديد حول تعريف شامل للفاشية، والذي من شأنه أن يسمح بتصنيف أكثر وضوحا للحركات اليمينية المتطرفة والشعبوية(4) عبر العالم، أي التمييز بين الفاشية الحقيقية وغيرها من الظواهر الزائفة. فقد عرّف روجر غريفين الفاشية على أنها صنف من الأيديولوجيا السياسية التي يتمثل جوهرها الأسطوري في شكل متخلف من القومية الشعبوية المتطرفة(5).
منذ انبثاق النظام الاجتماعي- الاقتصادي والسياسي العالمي الجديد، بعد تفكك المنظومة الاشتراكية، حلت إلى حد كبير أنماط جديدة من الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة محل المجموعات المتطرفة الأقدم أو التي تحن إلى الماضي الفاشي، وحققت إنجازات كبيرة في الانتخابات في العديد من البلدان. هذه الأحزاب لا تسعى في أوروبا الغربية علانية إلى الإطاحة بالأنظمة الديمقراطية أو تدعو إلى العنف، بدلا من ذلك، تؤكد على قضايا هي موضع اهتمام كثير من الناخبين، خصوصا الهجرة الوافدة والقانون والنظام. وعلى العكس من ذلك، اتخذ إحياء اليمين المتطرف في أوروبا الشرقية، شكلا من القومية المتطرفة، والتي قد تكون لها جذور مع فاشية ما بين الحربين العالميتين أو لها صلات مع الأيديولوجية الفاشية(6). وهنا لا تكون الهجرة أحد الأسباب لأن هذه المنطقة طاردة للمهاجرين، ويمكن أن يكون تاريخ الحروب والتطورات السياسية التي مرت بها المنطقة، وإعادة رسم الخرائط السياسية عدة مرات، وضم بعض الأراضي إلى دول أخرى، واخفاق التجربة الاشتراكية أسبابا قد ساهمت في صعود هذا التوجه القومي المتطرف.
الجانب النظري - التفسيري
بحكم نفور الفاشية من الفكر، تفضل عدم إضاعة الوقت في بناء نظريات مجردة حول نفسها، لكن لا ينبغي لنا أن نستنتج أنها ممارسة عمياء أو طريقة غريزية بحتة. ترى الفاشية نفسها أنها معادية لجميع الأنظمة الطوباوية التي ليس مقدر لها أن تواجه أبدا اختبار الواقع. إنها معادية لكل العلوم وكل الفلسفات التي تظل مجرد مسائل خيال أو ذكاء. لا تنكر الفاشية قيمة الثقافة، إذا كانت المساعي الفكرية العليا تجري من خلالها تنشيط الفكر باعتباره مصدرا للعمل(7)، أي موجها للعمل الذي تريد تنفيذه خصوصا العمل على تزييف وعي الناس واشغالهم عن أسباب مشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية الحقيقية.
تدور سياسة الفاشية بالكامل حول مفهوم الدولة القومية، وبالتالي فهي لديها نقاط اتصال مع العقائد القومية، إلى جانب التمييز بينها وبين الأخيرة والذي من المهم أخذه بالاعتبار. وترى أنها تتوفر على حل للتناقض بين الحرية والسلطة؛ إذ تكون سلطة الدولة مطلقة. وإن الدولة لا تلجأ إلى الحلول الوسط، ولا تساوم، ولا تتنازل عن أي جزء من مجالها لمبادئ أخلاقية أو دينية أخرى قد تتداخل مع الضمير الفردي. ولكن من ناحية أخرى، لا تصبح الدولة حقيقة إلا في وعي أفرادها. وتوفر الدولة الفاشية التشاركية نظاما تمثيليا أكثر صدقا وأكثر اتصالا بالواقع من أي نظام آخر تم ابتكاره سابقا، وبالتالي فهو أكثر حرية من الدولة الليبرالية القديمة(8). علما هذه الأفكار تطرحها الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية على نحو مباشر أو غير مباشر، حيث تنتقد المؤسسات والنخب السياسية الليبرالية وتتهمها بالفساد.
يعتمد اليمين الجديد على منظري "الثورة المحافظة" مثل كارل شميت، وأوزوالد شبنغلر، ومنظري الليبرالية الجديدة مثل فريدريش فون هايك الذي يفضل دكتاتورية ليبرالية، وعلى هذا الأساس رأى في حكومة الوحدة الشعبية المنتخبة في شيلي في بداية سبعينيات القرن الماضي بزعامة سلفادور اليندي دكتاتورية مستبدة. وفرض الليبرالية الجديدة بواسطة العنف في هذا البلد رأى فيها تحقيقا لـ "الحرية"،(9)، وهو ما أثبت الواقع عدم صوابه، حيث جلب تطبيق الليبرالية الجديدة كوارث اجتماعية واقتصادية واسعة وعمق التفاوت الطبقي.
أصبح ألكسندر دوغين الفيلسوف السياسي الروسي ونظريته "السياسية الرابعة" أحد المبادئ لتوجهات الفاشية المنظمة عالميا وفوق الوطنية. وتتمثّل موضوعته الرئيسة: أن جميع الأيديولوجيات السياسية، باستثناء الليبرالية، قد عفا عليها الزمن ويجب على جميع معارضي الليبرالية أن يتحدوا. ويجب ان يتم هذا الاتحاد تحت خيمة نظام اجتماعي استبدادي تقليدي واضح"(10).
ظهرت خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دراسات ماركسية غنية بشأن الفاشية والتي اتجهت لتأكيد وجود تناقضات متنوعة ومتعددة الأشكال أدت إلى ظهور الفاشية، علما تعتبر النظرية الماركسية عادة أن الرأسمالية أو الليبرالية هي منشأ الفاشية.
الكتاب الماركسيون الذين تصدوا للقيام بمهمة بناء مفهوم نظري للفاشية، من الذين جرى الاستلهام بأعمالهم، هم: ليون تروتسكي، جورجي ديمتروف، أنطونيو غرامشي، دانيال غيرين، بالميرو تولياتي، ونيكوس بولانتزاس(11)، والأخير لا يقوم بتقليص تفسير الفاشية إلى تناقض بسيط بل يرى أنها على العكس تنتج من تناقضات معقدة للغاية.
تؤكد جميع الكتابات الماركسية بشأن الفاشية على الصلات التي تربطها بالرأسمالية. وكان أكثر تعريفات الفاشية تأثيرا الصادر عن مؤتمر الأممية الشيوعية في عام 1935، والذي نصَّ على أن "الفاشية الممسكة بزمام السلطة هي الدكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر الرأسمالية المالية رجعية وشوفينية وإمبريالية". وكان رأي الأممية الشيوعية أن الأزمة التي عانتها الرأسمالية على درجة من الخطورة لم تكفِ معها الدكتاتورية التقليدية؛ لذلك استخدم الرأسماليون الحركة الفاشية الشاملة لتدمير الاشتراكية. ويذهب تعريف عام 1935 إلى أن الفاشية ليست "صنيع" الرأسماليين فقط؛ لأنها اعتمدت أيضا على أفراد من البرجوازية الصغيرة التي كانت ناقمة بشدة على رأس المال الكبير(12). وهذا ما نراه أيضا في الأحزاب اليمينية المتطرفة الحالية.
وقد شعر بعض الماركسيين أن هذا التعريف يسم جميع الأنظمة الدكتاتورية دون تمييز بالفاشية. وشعر آخرون أن البرجوازية الصغيرة تلعب دورا أكثر استقلالية، وأنها تقف إلى حد ما في طريق مصالح الرأسماليين. تبنى الماركسيون هذه الانتقادات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين في محاولة لإضفاء قدر أكبر من المرونة على نموذجهم. لكن معظم الماركسيين لم يتخلوا عن قناعتهم بأن الفاشية تعمل بالأساس لمصلحة الرأسمالية(13).
وقد سبق أن قدم ديميتروف، في ثلاثينيات القرن العشرين، بداية الإجابة على سؤال، ما الذي يحفز كتلاً كبيرة من الناخبين على الانضمام إلى الفاشية؟ بالقول: "ما هو مصدر نفوذ الفاشية على الجماهير؟ إن الفاشية قادرة على اجتذاب الجماهير لأنها تخاطب بشكل ديماغوجي احتياجاتها ومطالبها الأكثر إلحاحاً. إن الفاشية لا تؤجج الأحكام المسبقة المتجذرة بعمق في الجماهير فحسب، بل إنها تلعب أيضاً على مشاعر الجماهير، وعلى شعورها بالعدالة، بل وأحياناً حتى على تقاليدها الثورية. إن الفاشية تهدف إلى استغلال الجماهير على نحو غير مقيد، ولكنها تقترب منها بأشد أساليب الديماغوجية المناهضة للرأسمالية، مستغلة الكراهية العميقة التي يكنها العمال للبرجوازية الناهبة، والبنوك، والترست، وأباطرة المال"(14).
حاليا يقدم لنا الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في كتابه "التعرّف على الفاشية"، الصادر حديثا، وصفا للفاشية، مؤكدا أن ظهور بعض سماتها لا بد أن يؤدي إلى عودة "فاشية جديدة" قد تكون أكثر قسوة من فاشية موسوليني. وإن تغيير الفاشية لشكلها لا يعني استحالة كشفها، فهي تشترك في جميع أشكالها، حتى تلك التي لم تظهر بعد، في 14 سمة يعتقد إيكو أنها تمثل جوهر كل نظام فاشي، وهي: "عبادة التقاليد، رفض الحداثة بالمطلق، اللاعقلانية، رفض النقد والفكر النقدي، الخوف من التنوّع، العمل على إحباط الطبقات الوسطى، تصوير الخصوم كأعداء يمكن هزيمتهم بقوة مفرطة، تكريس فكرة الحرب الدائمة وضرورة الاستعداد لها دائما، تكريس الفكر الشعبوي والعمل على تبرير احتقار كل طبقة للطبقة التي تخضع لها، ابتكار بطولات جماهيرية ولو وهمية، استعمال الخطاب الشعبوي السهل في مخاطبة الشعب، تقديس ما يسمى بالزعامة والرجولة، إعمال "الشعبوية النوعية" في مواجهة إنكار الحقوق الفردية"(15). كل ذلك من اجل أن تحتفظ الطبقة الحاكمة بالسلطة. وكما يقول تون فان دايك "الحق أن التاريخ يقول إن الأيديولوجيات غالبا ما تتشكل لإضفاء الشرعية على سيطرة طبقة حاكمة أو نخب أو منظمات"(16).
العلاقة بين اليمين المتطرف والفاشية الجديدة
يرفض كثير من الكتّاب تطبيق مفهوم الفاشية لوصف التوجه الفكري لليمين المتطرف الحالي. يستند هذا الرفض إلى دوافع وحجج تختلف استنادا إلى رؤية كل كاتب والنظرية التي يستند إليها في التحليل. فمثلا، يرفض إميليو جنتيل التفريق بين المفهوم والظاهرة التاريخية. ويذكر أن مفهوم الفاشية هو تاريخ الفاشية بحد ذاته، الذي ليس له أسلاف في القرن التاسع عشر، ولن يتكرر في القرن الحادي والعشرين. ويرى أرماندو بواتو، إذا أردنا أن نقبل التماهي الكامل بين المفهوم والحقيقة التاريخية المذكور في هذا القول، فإن ذلك من شأنه أن يمنعنا من استخدام مفاهيم أخرى، مثل الديمقراطية والدكتاتورية في التمييز بين ديمقراطيات ودكتاتوريات مختلفة عرفناها عبر التاريخ. وسوف يصبح استخدام العلوم السياسية مستحيلا(17)، وهذا القول دقيق وينسجم مع واقع البحث في شتى صنوف المعرفة.
لا يبدو أن هناك إرثا واضحا منفصلا للفاشية الجديدة؛ إذ إن الإرث الرئيس، هو الإرث الأيديولوجي الذي ينتمي إلى الفاشية بدلا من الفاشية الجديدة. قد يبدو قبول اليمين المتطرف الأوروبي الجديد بالنظام الديمقراطي، لكن في الواقع، ربما لا يزال مثقفوه يؤمنون بمعتقدات راسخة تتمثّل في العودة الأسطورية إلى العصر الاستبدادي الذهبي. ومن ناحية أخرى، جرى تهميش النزعة العسكرية العنيفة والروح الحربية (18)، دون أن يعني ذلك التخلي عنها.
لقد بدا واضحا أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن هناك علاقة بين فضائع الفاشية الكلاسيكية لسنوات ما بين الحربين العالميتين والحركات المعاصرة لليمين المتطرف الأوروبي؛ إذ في أواخر الأربعينيات والخمسينيات، جرى تحديد أي مجموعات قومية متطرفة باعتبارها تمثّل الفاشية الجديدة أو النازية الجديد، لأسباب ليس أقلها أنها كانت تؤوي الكثير من أتباع الأنظمة الفاشية القدامى. ولكن حتى حاليا، فإن أخبار أعمال العنف أو النجاحات الانتخابية لليمين المتطرف في أوروبا تحيي شبح الفاشية في أذهان المراقبين في كل مكان. وبدون شك، ظلت العلاقة بين جميع حركات اليمين المتطرف وسنوات ما بين الحربين العالميتين أمرا واقعا لا مفر منه(19).
تحتل في عصر القطبية الأحادية، معاداة أمريكا مركز الصدارة، وكذلك معاداة العولمة والهجرة الوافدة. وبما أن التعاون عبر الحدود الوطنية آخذ بالازدياد، وخاصة بفضل شبكة الإنترنت، لذلك فإن الجيل الجديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة لم يعد كما يبدو مهتما بإحياء الفاشية الدولية(20)، ولكن لا يعني هذا عدم وجود علاقات وتنسيق وتعاون بين الأحزاب اليمينية المتطرفة خصوصا في أوروبا، وهذا ما يلاحظ في برلمان الإتحاد الأوروبي، حيث تعززت كتلة الأحزاب المذكورة في الانتخابات التي جرت عام 2024.
1- ألمانيا
بعد الحرب العالمية الثانية، كان لا يزال في ألمانيا عدد مهم من النازيين السابقين. وكانت حكومة ألمانيا الغربية، تخشى من انتعاش التطرف، لذلك، حظرت الأحزاب المناهضة للدستور ومنعت أعضائها من العمل الحكومي. وعلى الرغم من ذلك، كان هناك كثير من المجموعات النازية الصغيرة، لكن دون أن تتمتع بأهمية سياسية، إضافة إلى ذلك تقدم أعضائها في السن. لكن الانتعاش الحديث والأكثر خطورة لنشاطات النازيين الجدد حدث في أوائل التسعينيات ردا على الهجرة الوافدة(21)، خصوصا من بلدان أوروبا الشرقية.
وأحدث الأحزاب اليمينية المتطرفة هو حزب البديل من أجل ألمانيا الذي تأسس عام 2013، لكنه في هذه السنة لم يتمكن من الدخول للبرلمان. ومنذ انتخابات عام 2017، أصبح الحزب أكبر أحزاب المعارضة، وهو أول حزب يميني قومي متطرف يدخل البرلمان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحقق الحزب نجاحات مهمة في الانتخابات الإقليمية عام 2024 في عدد من الولايات خصوصا في شرق البلاد وللحزب ارتباطات مع النازية الجديدة (22)، ويتبنى مواقف عنصرية معادية للمسلمين والمهاجرين عموما.
2- إيطاليا
كانت ومازالت إيطاليا النموذج الأول لدراسة الحركة الفاشية، حيث ظهرت هناك واستولت على السلطة منذ عشرينيات القرن الماضي بقيادة بينيتو موسوليني، وتحالفت مع النازية. وقد كانت الازمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحروب وما خلفته من تداعيات هي الحاضنة المناسبة لنمو الحركة الفاشية.
أصبحت إيطاليا أول دولة في الاتحاد الأوروبي تقودها حكومة أكثر يمينية بقيادة جورجيا ميلوني، زعيمة حزب إخوة إيطاليا، الذي لديه علاقات تاريخية بالفاشية الجديدة، وذلك بعدما تمكن التحالف اليميني المُكون من حزبها بجانب حزب الرابطة وحزب فورزا إيطاليا من الفوز بأكثر من ثلث الأصوات بنسبة تقدر 44 في المئة في انتخابات عام 2022. بالنسبة إلى تاريخ حزب إخوة إيطاليا الذي تأسس عام 2012 على يد ميلوني، فإنه يعود إلى حزب الحركة الاجتماعية الإيطالية الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية بقيادة جورجيو ألميراني، رئيس الأركان في حكومة موسوليني الأخيرة، وضم في عضويته أنصار الفاشية. واستمر الحزب خلال الثلاثة عقود التي أعقبت الحرب يُمارس العمل السياسي باعتباره حزبا يمينيا صغيرا (23).
وفي التسعينيات شهد الحزب تحولا جديدا على يد جيانفرانكو فيني، المتأثر بالفاشية الجديدة، وكان ينظر إلى موسوليني باعتباره أعظم رجل دولة في القرن العشرين، غير أن فيني حاول تقديم صورة أقل تطرفا؛ حيث أعاد تسمية الحزب باسم التحالف الوطني.
وفي ظل قيادته انضمت ميلوني للتحالف وتدرجت فيه. وعلى الرغم من أنها كانت من المعجبين بموسوليني، فإنا قامت بزيارة نصب "ياد فاشيم" التذكاري للهولوكوست في إسرائيل، إبان توليها وزارة الشباب في حكومة سيلفيو برلسكوني عام 2009(24). وهذا الموقف محاولة للتقرب من اللوبي الصهيوني الداعم لإسرائيل على المستوى الأوروبي والعالمي.
3- روسيا
لفترة من الوقت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي مباشرة، ظهرت بعض السمات التي حفزت سابقا نمو الفاشية وتطورها في إيطاليا. فقد تواصل ارتفاع معدل التضخم المفرط في روسيا ووصل إلى ما يقرب من 2000 في المئة سنويا. وتراجع الإنتاج الصناعي في الاتحاد السوفيتي السابق نحو 40 في المئة عام 1994 (25).
كانت هذه الفترة التي حقق فيها فلاديمير جيرينوفسكي أكبر نجاحاته. متسلحا بأفكار الفاشية المألوفة، إذ نجح في جذب 22,8 في المئة من الأصوات في انتخابات عام 1993. وأشار أحد التقارير إلى أن 43 في المئة من العسكريين الروس في طاجاكستان صوتوا إلى حزب جيرينوفسكي (الحزب الليبرالي الديمقراطي). وبعد ذلك، ولأسباب عدة، تراجع الدعم للأخير وحزبه(26). ويُعد جيرينوفسكي "أول شعبوي حديث" وأحد أعمدة نظام بوتين عن طريق استيعاب أصوات الناخبين الغاضبين والمخيبة آمالهم وأصحاب التوجهات اليمينية المتشددة(27) وبقي على الدوام عضوا في الدوما حتى وفاته عام 2022.
4- البرازيل
تُعد البرازيل نموذجا لدراسة الفاشية الجديدة، حيث أنها ظهرت في بلد غير أوروبي، ويُعد من البلدان النامية، ولهذا فإن هذه التجربة جديرة بالدراسة واستخلاص النتائج منها، لأنها قد تكون مفيدة لبقية البلدان النامية التي ربما تواجه مثل هذه النزعات. علما امتدت هذه التجربة أربع سنوات (2019-2022) وهي فترة حكم الرئيس جير بولسونارو وحركته.
ولدت حركة بولسونارو من تظاهرات الشوارع الكبيرة التي جرت عامي 2015 و2016 للمطالبة بعزل رئيسة البرازيل ديلما روسيف، وهي أول مرأة تتولى هذا المنصب للفترة 2011-2016. وتستند الحركة الفاشية كحركة رجعية على البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى، بتعبير أدق الجزء العلوي من هذه الطبقة. وتضم هذه الحركة أيضا المالكين الصغار – الجزء المنظم جدا والمستقل من أصحاب الشاحنات والذي كان منذ بدايته ذو توجه يميني فاشي. وقد بحثت الأنثروبولوجية ايزابيلا خليل لمدة ثلاث سنوات توجهات المتظاهرين ذوي التوجه اليميني في البرازيل من خلال إجراء مقابلات معهم في التظاهرات، وقد أحصت أحد عشر عنصرا رئيسا حاضرا في خطاب بولسونارو ومؤيديه ضد كل من: الفساد، الشيوعية، اليسار، النسوية، السياسيين، الأحزاب، الإجهاض، المثلية الجنسية، الامتيازات والنظام(28). ويُلاحظ هناك مشتركات بين هذا الخطاب وخطاب الشخصيات والأحزاب اليمينية المتطرفة في بلدان أخرى خصوصا الأوروبية منها.
في الفاشية الأصلية، كانت البرجوازية المهيمنة هي البرجوازية الإمبريالية الكبرى، ويمكن أن تكون الفاشية عكس ذلك في بلد تابع، فهي تنظم هيمنة رأس المال الأجنبي الإمبريالي والجزء المرتبط به من البرجوازية المحلية الخاضعة لهذا الرأسمال. لذلك، فإن الليبرالية الجديدة والبرامج السياسية توسع انفتاح الاقتصاديات التابعة على رأس المال الإمبريالي، والفاشية، باعتبارها نوع خاص من الدكتاتورية، لا تتعارض مع الليبرالية الجديدة. لذلك فإن حكومة بولسونارو تنتمي إلى الفاشية الجديدة والليبرالية الجديدة(29) في الوقت نفسه. وبحسب أرماندو بواتو توجد في البرازيل ديمقراطية برجوازية تواجه أزمة وتدهورا.
اليمين المتطرف والهجرة الوافدة
أصبحت الهجرة الوافدة في عدد من بلدان أوروبا الغربية قضية سياسية، خصوصا في أوقات الصعوبات الاقتصادية. وفي ظل هذه الظروف التي أصبحت شائعة على نحو متزايد في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، يمكن بسهولة التلاعب باستخدام التمييز العنصري من قبل الأحزاب ذات التوجهات الفاشية والنازية. وبحسب إيان آدمز يبدو أن الفاشية الجديدة ليست أكثر من كراهية عنصرية منظمة سياسيا. ومن المؤكد أن هذا هو الحال في فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة وبريطانيا(30).
وإذا تركنا جانبا مسألة التصنيف، من الممكن مناقشة أن اليمين المتطرف في أوروبا الغربية حاليا، مقارنة بفترة الحرب الباردة، اضطر إلى التأقلم مع الديمقراطية الليبرالية، وبالتالي وضع جانبا أفكاره "الثورية". لكن لم يتم كبح العنف بالضرورة، حيث يمارس العنف من خلال الهجمات ضد المهاجرين من قبل المتعاطفين مع اليمين المتطرف. وتراجعت في أوروبا الغربية معاداة السامية إلى الخلف في حين برزت إلى الواجهة معاداة المسلمين، على عكس أوروبا الشرقية حيث ظلت الأولى بارزة فيها(31).
يذكر دايك "نفهم من هذا الطرح أن الأيديولوجيات العنصرية ليست نظاما مجردا سقط من السماء مصادفة على المجتمع الأوروبي، بل هو معتقدات ترسّخت تاريخيا واجتماعيا وثقافيا في الذهن الاجتماعي لعدد كبير من الأوروبيين، وتتحكم إلى حد ما في معتقداتهم عن الآخرين ضمنيا. وقد تظهر هذه المواقف مثلا حقيقة أن أكثر من ثلثي سكان أوروبا الغربية اليوم يعارض وفود المزيد من المهاجرين"(32). على الرغم من الحاجة الماسة للعمالة المهاجرة في أوروبا، نتيجة تراجع النمو الطبيعي للسكان، وهذا ما أعلنته مؤخرا عدة دول منها ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وحتى هنغاريا وغيرها.
1- ألمانيا
كانت ألمانيا الغربية سابقا تتوفر على سياسية ليبرالية للغاية تجاه الهجرة الوافدة، وكانت ترحب بالكثير من "العمال الضيوف"، خصوصا من تركيا. لكن ساهم ارتفاع البطالة في الثمانينيات في نمو الفاشية الجديدة التي تغذت على الخوف والاستياء من الهجرة. وقد بقي الأمر تحت السيطرة خلال هذا العقد؛ بسبب أن الاقتصاد الألماني كان قويا ومزدهرا، لذلك نظر معظم الألمان إلى المشكلات الاقتصادية باعتبارها مؤقتة.
وقد تغيرت هذه الوضعية بسبب عاملين مترابطين. يأتي في المقام الأول، تفكك الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية والفوضى الاقتصادية التي أعقبت ذلك ما عزز من تدفق المهاجرين من هذه المنطقة باتجاه الغرب الغني. وتمثّل العامل الثاني في إعادة توحيد ألمانيا عام 1990 الذي عقب انهيار المانيا الشرقية، إذ لم يكن هذا التوحيد نجاحا فوريا. وسببت إعادة هيكلة الاقتصاد بطالة ضخمة في المانيا الشرقية، وهددت ازدهار المانيا الغربية. وترافق هذا الوضع واحتمال الهجرة الوافدة مع الاضطراب الاقتصادي، كل ذلك كان أرضا خصبة لنمو الفاشية الجديدة. لذلك، كان هناك نمو سريع للمجموعات النازية الجديدة، وهجمات على المهاجرين، خصوصا في ألمانيا الشرقية. وقد تأسس الحزب الجمهوري الجديد باعتباره الحزب اليميني المتطرف الرائد في وقته بعد عام 1989. وكان برنامجه يتضمن ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية (33).
2- فرنسا
على نحو مشابه، غذت الهجرة الوافدة والقلق من آفاق المستقبل النشاط الفاشي الجديد في فرنسا. على الرغم من أن كثير من الهجرة يرتبط بإرث الاستعمار الفرنسي. فهناك أعداد كبيرة من المهاجرين من بلدان شمال أفريقيا، إضافة إلى توقعات بأن كثير من المهاجرين الجدد يريدون الدخول إلى البلد نتيجة المشكلات الاقتصادية والحروب الأهلية في عدد من بلدان هذه المنطقة، لذلك كان هناك نمو في المشاعر المعادية للمهاجرين.
أسس جان ماري لوبان حزبا يمينيا متطرفا عام 1972، لكنه أصبح في الصدارة مع الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة في أوائل الثمانينيات، عندما فازت الجبهة الوطنية بمقاعد في الجمعية الوطنية الفرنسية والبرلمان الأوروبي. وعندما وصلت البطالة إلى ثلاثة ملايين، زعم لوبان أن ترحيل ثلاثة ملايين مهاجر سيحل المشكلة "بضربة واحدة". وتحدث عن تنامي أسلمة أجزاء من فرنسا وعواقب تهديد الهوية والثقافة الفرنسيتين. يبدو من المرجح أن مسألة الهجرة ستكون ذات أهمية متنامية، وقد تكون مصدرا لتنامي الدعم لليمين المتطرف في المستقبل(34). وقد كادت الجبهة الوطنية أن تحتل الصدارة في انتخابات الجمعية الوطنية التي جرت عام 2024 لولا مبادرة تحالف اليسار الذي أحتل المرتبة الأولى.
الترامبية
نشأ مصطلح الترامبية وبات يتداول على نطاق واسع خصوصا من قبل المحللين السياسيين والإعلاميين والكتّاب، خلال فترة رئاسة ترامب الأولى (2017-2021)، وزاد الاهتمام أكثر بهذا المصطلح بعد فوز الأخير في انتخابات عام 2024. وتواجه دراسة الترامبية صعوبات منهجية، لأن صاحبها لا يتوفر على فكر سياسي - اقتصادي منسجم، ويتسم بالمزاجية وتقلب الآراء، ثم أن صعوده السياسي لم يأت بالتدرج عبر المؤسسات السياسية بل جاء من خارجها، ومن قطاع العقار والمال حصرا، ولا يمتلك خبرة واسعة في إدارة شؤون الدولة.
الحقيقة أن فوز ترامب في انتخابات عام 2024، ودراسة النتائج المترتبة عليه سيستغرق بعض الوقت قبل التمكن من تكوين صورة كاملة له. إذ ليس كل شيء واضحاً كما قد يبدو من الوهلة الأولى. وكما قال كارل ماركس: "كل العلوم ستكون زائدة عن الحاجة إذا كان المظهر الخارجي وجوهر الأشياء متطابقين بشكل مباشر"(35).
وعن أسباب فوز ترامب يبدو أن الجانب الاقتصادي لعب دورا محوريا في ذلك. فقد شكلت الأوضاع الاقتصادية الصعبة في البلاد وارتفاع تكاليف المعيشة والإسكان والتضخم محور اهتمام الناخبين. إذ تشير استطلاعات الرأي التي جرت للخارجين من التصويت إلى أن ثلثي الناخبين يرون أن الاقتصاد في حالة سيئة أو ليست جيدة، وأن 69 في المئة منهم صوتوا لترامب(36) إضافة إلى ذلك، فقد اجتمعت أكثر القطاعات رجعية وتطرفا في الطبقة الرأسمالية لدعم دكتاتور متمرس نجح في حشد حركة جماهيرية من القوى المتناقضة خلفه. إنها الصيغة الكلاسيكية للفاشية(37).
والأسوأ من ذلك، على عكس ما حدث عندما فاز عام 2016، لن يتصرف ترامب بشكل ارتجالي هذه المرة. فسوف يدخل البيت الأبيض بأجندة مدروسة بالكامل للمليارديرات ــ مشروع 2025 ــ تستهدف الطبقة العاملة والنقابات، والأشخاص الملونين، والمهاجرين، والنساء، والمثليين جنسيا، والرعاية الطبية للمعمرين، والضمان الاجتماعي، والرعاية الطبية المساعدة، وتشريعات تغير المناخ، وغير ذلك. ومن المتوقع أن يفرض تخفيضات ضريبية كبرى لصالح الأغنياء وتخفيضات في الخدمات العامة لبقية الناس(38). وقد وقع بعض الأوامر التنفيذية التي تخص ذلك منذ اليوم الأول لاستلامه الرئاسة. وهذ جلي إذ أنه جاء ليخدم الشركات الكبرى التي أوصلته إلى الحكم بتبرعاتها الضخمة لحملته الانتخابية.
أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية المتوقعة لترامب "على الرغم من المؤشرات المبنية على رؤية ترامب وترشيحاته للمناصب الرئيسة في إدارته، فإن مزاجيته، وتقلباته، وعدم امتلاكه منظومة أفكار منسجمة، كلّها عوامل ستجعل من الصعب التنبؤ بسياسته الخارجية"(39). وهذه تعد من الفترات الصعبة التي تتطلب تنسيق جهود قوى السلام والديمقراطية لإجبار ترامب على احترام حقوق الآخرين وقبول الحقائق الجيوسياسية.
باتت فترة حكم ترامب السابقة، محل دراسة وتحليل واستخلصت منها نتائج مهمة منها: إن فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية عام 2016، والدعم اللاحق الذي كان قادرا على المحافظة عليه أثناء وجوده في منصبه، حير العديد من المهتمين. فمثلا، يشير ويندي براون وبيتر جوردون وماكس بنسكي إلى أن صعود ترامب، إلى جانب صعود الحركات اليمينية الشعبوية المعاصرة، لا يتناسب مع التصنيفات المعترف بها في التحليل السياسي. ومن بين الألغاز الرئيسة التي تمثلها الترامبية لمثل هؤلاء المراقبين افتقارها إلى التماسك الأيديولوجي(40). وهذه الصفة تنطبق على الفاشية في إيطاليا في عهد موسوليني.
كذلك، "على الرغم من نجاة المؤسسات الديمقراطية الأميركية من رئاسة ترامب، إلا أنها ضعفت بشدة. وعلاوة على ذلك، تحول الحزب الجمهوري إلى قوة متطرفة معادية للديمقراطية تعرض النظام الدستوري الأميركي للخطر. إن الولايات المتحدة لا تتجه نحو الاستبداد على الطريقة الروسية أو الهنغارية، كما حذر بعض المحللين، بل نحو شيء آخر: فترة طويلة من عدم استقرار النظام، تتميز بأزمات دستورية متكررة، وعنف سياسي متزايد، وربما فترات من الحكم الاستبدادي"(41).
على الرغم من أن ترامب حفز على هذا التحول نحو الاستبداد، إلا أن تطرف الحزب الجمهوري كان مدفوعا بضغط قوي من الأسفل؛ إذ أن الناخبين الأساسيين للحزب هم من البيض والمسيحيين، ويعيشون في الضواحي والمدن الصغيرة والمناطق الريفية. ولا يقتصر الأمر على تراجع المسيحيين البيض كنسبة مئوية من الناخبين، بل إن التنوع المتزايد والتقدم نحو المساواة العرقية قد قوضا أيضا وضعهم الاجتماعي النسبي. ويعتقد كثير من الناخبين الجمهوريين أن بلد طفولتهم يؤخذ منهم. فقد وجد مسح أجري عام 2021 برعاية معهد أمريكان إنتربرايز أن 56 في المئة من الجمهوريين وافقوا على أن "طريقة الحياة الأميركية التقليدية تختفي بسرعة كبيرة لدرجة أننا قد نضطر إلى استخدام القوة لوقفها"(42). وهذا ما دفع بعض المهتمين للقول بإمكانية حدوث حرب أهلية.
هذه المواقف تعكس اشتداد الصراع الطبقي في الولايات المتحدة، ويتطلب حسم هذا الصراع لصالح الطبقات والفئات المتضررة ولو تدريجيا، معارك ونضالات سياسية وفكرية وثقافية لوقف هجوم اليمين المتطرف واستعادة المبادرة للقوى اليسارية والديمقراطية المناهضة لهذا التوجه، لأن خطورة صعود اليمين المتطرف لا تقتصر على الولايات المتحدة، بل سينعكس ذلك في تعزيز مواقع هذا الجناح في أوروبا وبقية العالم.
***
د. هاشم نعمة
....................
الهوامش
(1) Bosworth R. J. B. The Oxford Handbook of Fascism, Oxford University Press, 2009, p. 586.
(2) Ibid., p. 593.
(3) Ian Adams, Political ideology today, Manchester, Manchester University Press, 1993, pp. 249-250.
(4)للمزيد راجع: هاشم نعمة، "في سمات الشعبوية"، الثقافة الجديدة، العدد 447، أيلول 2024، ص 46-57.
(5) Bosworth, p. 601.
(6) Ibid., p. 587.
(7) Paul Schumaker (ed.), The Political Theory Reader, Oxford, Wiley Blackwell, 2010, p. 58.
(8) Ibid., pp. 59-60.
(9) رشيد غويلب (ترجمة وإعداد)، قوى اليسار الأوروبي: الأزمة المالية والسياسات البديلة، بغداد: دار الرواد المزدهرة، 2015، ص 232.
(10) عصر ذهبي تقليدي جديد - اليمين المتطرف والرأسمالية المتخلفة / ناتاشا شتروبل، ترجمة رشيد غويلب، 12 تشرين الثاني 2022.
(11) Armando Boito, Reform and Political Crisis in Brazil, Leiden/ Boston: Brill, 2018, p. 190.
(12) كيفن باسمور، الفاشية: مقدمة قصيرة جدا، ترجمة رحاب صلاح الدين، القاهرة: مؤسسة هنداوي، 2014، ص 23.
(13) المصدر نفسه، ص 23-24.
(14) سي. جيه. أتكينز، "صباح اليوم التالي: تحليل ماركسي لفوز ترامب"، موقع صحيفة "عالم الشعب" (الحزب الشيوعي الأمريكي)، 6 نوفمبر 2024.
(15) الفاشية اللافكرية الجديدة كما فضحها أمبرتو إيكو /ثقافة / الجزيرة نت.
(16) تون فان دايك، الأيديولوجيا والخطاب، ترجمة سعيد بكار ولحسن بوتكلاي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023، ص 50.
(17) Boito, p. 188.
(18) Bosworth, pp.603-604.
(19) Roger Griffin, (ed.) International Fascism, London: Arnold:1998, p. 305.
(20) Bosworth, pp.603-604.
(21) Griffin, p. 305.
(22) البديل من أجل ألمانيا - ويكيبيديا، 3 كانون الأول 2024.
(23) آية عبد العزيز، "تهديد محتمل! صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في السويد وإيطاليا"، اتجاهات الأحداث، العدد 34، نوفمبر- ديسمبر 2022، ص 53.
(24) المصدر نفسه، ص 53.
(25) James A. Gregor, Phoenix: Fascism in our Time: USA/ UK, Transaction publishers, 2002, pp. 150-151.
(26) Ibid., pp. 150-151.
(27) رحيل السياسي الشعبوي الروسي فلاديمير جيرينوفسكي عن 75 عاماً، العربي الجديد، 6 أبريل 2022.
(28) Boito, p. 191.
(29) Ibid., pp. 189-190.
(30) Adams, pp. 249-250.
(31) Bosworth, p. 603.
(32) دايك، ص 56.
(33) Adams, pp. 250-251.
(34) Ibid., p. 251.
(35) أتكينز.
(36) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الانتخابات الرئاسية الأمريكية: أسباب فوز ترامب والتداعيات المحتملة، الدوحة: 11 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 1.
(37) أتكينز.
(38) المصدر نفسه.
(39) المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، السياسة الخارجية لرئاسة ترامب الثانية: الرؤية والتوقعات، الدوحة: 18 تشرين الثاني | نوفمبر 2024، ص 5.
(40) Jeremiah Morelock (ed.) How to Critique Authoritarian Populism, Leiden, Brill, 2021, p. 366.
(41) Foreign Affairs, 20 January 2022.
(42) Ibid.
* نشرت في الأصل في مجلة الثقافة الجديدة، العدد 451، آذار| مارس 2025.

 

لنتصور لو ان العقل في المنطقة قد ذهب ـ وهو افتراض غير واقعي ـ الى المقارنه بين الرؤية والتصورات التي عمت المنطقة تحت طائلة المتغير الالي الغربي ارتكازا للمروية التي تضع محمد على الالباني، ومعه مصر، بموقع البؤرة الانقلابيه التشبهية المتماهية مع النموذج الاعلى، بلا اي عنصر فعالية ذاتي يمكن التوقف عنده سوى الاستعانه بالخاصية التكوينيه الكيانوية لمجتمع الدولة التاريخي المنزوع التفاعلية والاصطراعية الداخلية، ضمن شروط البرانيه والفعل من خارج المكان رضوخا لنموذج مطلوب نقله،وبين حالة الانبعاثية الراهنه خارج الاله ومفعولها الابتداء، المطروده من المقاربة لتعديها الطاقة العقلية المتاحة على الاحاطة، والحاصلة في القرن السادس عشر، قبل بدايات العمليه الانقلابيه الالية الاوربية بصيغتها الاولى "المصنعية"، لنصبح في غمرة دورة تاريخيه/ آليه تكنولوجيه/ ثالثة بعد دورتين يدويتين، تعذر فيهما لنقص في المتوفر الضروري، ماديا واعقاليا، تحقق النموذجية المجتمعية فوق الارضوية، اصل ومبتدا الظاهرة المجتمعية ومنتهاها.
هذا والغالب المتوقع المستحيل هنا، احتمالية الذهاب الفوري للنطقية، واسباغ الطبيعه والخاصية المحركة والقابعه خلف الانبعاث الحالي، بعد دورتين ناقصتي النطقية، كمثل الذهاب الخارق وفوق الممكن في ساعته، لاعتبار الحاصل من قبيل الانتقال الى المجتمعية العقلية، مع اعتبار انتهاء الطور اليدوي بمثابة انقضاء اجل نوع معين من المجتمعية، انتهت وظيفتها، الامر الذي اوجد تناقضية احتدامية كبرى بين المجتمعية القائمه الاوربية الارضوية الازدواجية الطبقية، عالية الديناميات ضمن صنفها المجتمعي، والتي انبثقت الاله المتجاوزة لها فعالية بين ظهرانيها، وبين اداة الانتقال المجتمعي النوعي الاعظم غير المكتمله الكينونه ماتزال، بما يعني كون الغرب ليس اكثر من تمهيد غير مكتمل العناصر، ولايستقيم كينونة تفاعليه وتعبيرا مع الانقلابيه المطلوبة والمضمرة، بما يضع غيرها، المجتمعية اللاارضوية، بموقع الغاية والهدف المتلائم مع سياقات الانقلابية المجتمعية الراهنه، فهل كان او هو اليوم حتى واردا باي شكل، الاعتقاد بان الانقلاب الالي هو انقلاب رافديني شرق متوسطي، كتب له ان يغرق ابتداء وسط طور وحالة من التوهمية الكبرى المخالفه للحقيقه، ولطبيعة الانقلاب التاريخي الحاصل.
يصل الامر بواحد من المع المحسوبين على الافكار الحداثية في مصر، حد القول باندهاش:"ياالهي مصر جزء من اوربا" وهذا مافعله الدكتور طه حسين حين عاد لمصر من زيارة لاوربا ووجدها تعاني وطاة مرض الكوليرا، والشخص نفسه عبر عن اعتقادة الجازم بان المجتمعيات الاصطراعية مثل العراقي هي مجتمعات اقل "حضاروية"(2) مقارنه بتلك السكونية الاجترارية التي امضت قبل وقت غير قصير، اربعة قرون تحت الهيمنه العثمانيه عرفت خلالها 150 واليا، كانوا يعينون من الاستانه بفرمان دون ان يعرف اي اعتراض او حتى اعلان عن عدم الرضى عن واحد منهم، بينما قل من بين من وضعوا بموقع حكم بغداد العاصمة الامبراطورية المنهارة، من مات على فراشه، الظاهرة التي استمرت الى الغزو الابادي الامريكي 2003 .
البشرية مجتمعيتان تظل تحت طائلة منظور واحد، يجعل الظاهرة المجتمعية موجودة بلا ولادة، في حال تصير تستغرق تفاعليتها الرحميه المفضية للولادة، فلا تبدا علائم الطلق، ويصير الصراخ النطقي الاول واقعا، الا بعد ان ينتهي الطور اليدوي الرحمي بعد احتدام اصطراعي انتقالي عالي التوهميه، مابين متبقيات اليدوية، والاليه الذاهبة تحورا الى التكنولوجيا العقلية، الجنين المودع بين تضاعيف الوجود الحي، والاكثر حضورا ووجودا اصلا في الموضع الابتداء التبلوري المجتمعي في الشرق المتوسطي، وتحديدا في ارض مابين النهرين، والمكتوب عليها مواجهة اعلى مايمكن تصوره من اشكال القصورية العقلية المتجدده، والهيمنيه الساحقة الافنائية، المعجونه باشتراطات الانهيارية والتردي التاريخي الموضوعي، المنوط اصلا باليات الانتقال والصعود الكبرى، حين هيأ هذا المكان بازدواجيته ونهوضه في الدورة الثانية مابين القرن السابع والثالث عشر، اسباب الانقلابيه الاقتصادية التجارية عالميا وعلى المنقلب الاوربي حيث الديناميات الارضوية العليا تحديدا، لتبدا من هنا آليات استكمال التفاعلية التجارية الذاهبة الى الالية الصناعية، قابلها كما هو قانون الدورات والانقطاعات الرافديني، انهيار انقطاعي تاريخي هو الاخير خلال الطور اليدوي.
وتلعب التقابلية التاريخيه الشرق متوسطية الاوربيه ومحطاتها، دورا اساسا في تامين البنية الاعتقادية الحداثية المقابله للغرب من موقع الشعور بنوع من التساوي او المضاهاة، فالمنطقة تعرف انها كانت قبل قرون ليست بعيده استمرت حتى الثالث عشر، مركزا حضاريا متقدما عالميا، وهي مركز فعالية كونيه وحضاريه بدئية اسبق من الاخيرة، مامن شانه جعل التساؤل" لماذا تاخرنا وتقدم الغرب؟" من قبيل المقوله العملية، لولا انها ترد من دون اعتبار (لمابعد) اي لما يتعدى الغرب الحالي والطور النهوضي المتلازم مع الثورة الجزيرية الابراهيمه الاخيرة، لا التماهي المتمثل بالصيغة و النموذجية الغربية، ما يفترض التفريق بين "تقدم الغرب" و"تاخرنا" كذاتيتين تاريخيتين، كانتا ووجدتا في التاريخ منفصلتين متباينتين نوع محركات واسباب، وصنف تعبيرية، مابين فلسفية ارضوية نخبوية اغريقية، ولاارضوية كونية نبوية ابراهيمه، هي من اخترق الاخر مجتمعيا وسكن بين تضاعيفه الى اليوم، مع تباين الوسائل والاسباب، بين الامبراطوريات والانصبابات الكيانوية باتجاه شرق المتوسط، وبين نوع الرد الاختراقي المجتمعي العقيدي اللاارضوي.
الاهم في كل هذا هو المتغير الحاصل خارج محركات التقابلية التارخية المعتادة بصيغتها اليدوية، اثره ونوع فعاليته مجتمعيا، مع اخذ التباين البنيوي بالاعتبار، وهنا تظهر واحده من اهم قصورات العقل الابتدائية، اذ يظل مجهولا الاثر البنيوي الطاريء على التفاعلية البنيوية المجتمعية الاصل اليدويه، بما هي ( كائن بشري/ بيئة)، الى ( كائن بشري / بيئة/ آلة) وهي عنصر جديد طاريء مختلف، تتغير بموجبه الاصطراعية التشكلية المجتمعية بدخول عنصر مستجد من خارجها ومن غير طبيعتها، مايجعل من الفاصل من وقته العودة الى النوع المجتمعي الاصل ونمطيته، بما لايترك اي مجال بعدها للتغاضي عن الانشطار الازدواجي اللاارضوي / الارضوي مجتمعيا، بحثا عن مسارات الاصطراعية التفاعلية المجتمعية وانواعها بعد حضور الاله، حتى نتعرف على اشكال التفاعلية الطارئة في الحالين والصنفين، اللاارضوي والارضوي، كل ومدى قربه او بعده تلاؤما مع المستجد الانقلابي الفاصل، بحثا عن سلامة المسار المجتمعي والوعي به، بظل الانقلابيه الكبرى الواقعه بما هي الاصل الواجب التركيز عليه، وليس التوهمات الصناعوية الاليه التي كرسها الغرب دالة وهمية اعتباطية على الحداثة والعصر.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

الدول الريعية، تلك التي يعتمد اقتصادها بشكل أساسي على الإيرادات التي تأتي من الموارد الطبيعية، مثل النفط والغاز، تقدم نموذجًا فريدًا ومختلفًا في السياسة والاقتصاد. في هذه الدول، لا تساهم الأعباء الضريبية ولا الإنتاج المحلي في تمويل الدولة كما هو الحال في الدول الصناعية، بل تقتصر هذه الوظائف على الريع الطبيعي الذي يتم استغلاله وإعادة توزيعه بشكل غير متوازن.
وغالبًا ما تتحول هذه الأنظمة إلى أنماط من الحكم القائم على الولاء الشخصي والتوزيع العشوائي للثروات، مما يعزز من حالة الفساد المستشري وغياب المؤسسات الحقيقية. يتم تثبيت سلطة النخب الحاكمة عبر آليات غير قانونية وغير مؤسسية، مما يجعل القوانين مجرد أدوات تبرير لسلطة غير شرعية وتزيد من تفشي “الزيف” في النظام.
بعد أن لفظني السودان ونظامه الإسلاموي العسكري، لم يكن خروجي مجرد هروب من جحيم السياسة، بل قفزة في الفراغ، حيث لا يقين سوى في الابتعاد عن آلة القمع التي التهمت أجيالًا وأحلامًا ومصائر. لكن الرحيل، مهما بدا فكاكًا، لا يعني القطيعة، بل إعادة تعريف العلاقة مع المكان، مع الذاكرة، مع السؤال الأزلي عن الوطن. و قد كنت محظوظًا أن أجد نفسي في بلد تُدار فيه الأمور بقواعد واضحة، حيث الدولة ليست انعكاسًا للأفراد، بل كيان مستقل، يتجاوز الولاءات الشخصية إلى منطق المؤسسات، لكن هذه الاستقلالية ليست مطلقة، بل مشروطة ببنية أعمق، بنية لم يكن من السهل تجاهلها.
حين عدت، ولو عابرًا، إلى دول قريبة من السودان، دول احتضنت كثيرًا من أهلي وأصدقائي الفارين من ذات الجحيم، دول تحمل ملامح الثراء والبذخ، لكنها تخفي في عمقها ذات الاختلالات التي جعلتني أفر من وطني.
منذ اللحظة الأولى، كان ثقل الوهم أشد حضورًا من صلابة الواقع. الأبراج الزجاجية، الطرقات الواسعة، العلامات التجارية المتوهجة، كلها كانت تؤدي دورها في رسم صورة الحداثة، لكن ما كان غائبًا هو العمق، ذلك الإحساس بأن وراء هذا المشهد نظامًا يعمل باستقلال عن إرادة الأفراد، عن العلاقات الشخصية، عن تلك المكالمات العابرة التي تفتح الأبواب وتختصر الزمن. لم يكن الأمر مجرد صدمة حضارية، بل مواجهة مع بنية تدور حول ذاتها، تعيد إنتاج أنساقها بصرامة لا تلين، حيث يتغير الشكل لكن الجوهر يظل ثابتًا، وكأن الدول ليست كيانات سياسية وإدارية، بل مجرد تقنيات للهيمنة، آليات مُحكمة لإدارة الامتثال، حيث لا شيء يعمل بالقانون، لكن لا شيء يعمل بدونه أيضًا.
الرعب في هذه المنظومة لا ينبع فقط من فسادها، بل من قدرتها العبقرية على المحاكاة. إنها لا ترفض الحداثة، لكنها تفرغها من مضمونها، تحوّلها إلى أداء، نسخة مشوّهة من الدولة الحديثة، حيث الشكل يتقدّم على الجوهر، والإجراء يحلّ محل الفعل، كما لو أن كل شيء مجرد تمثيل لا يبلغ أبدًا لحظة التحقق. هنا، القوانين ليست قوانين، بل أدوات انتقائية تُستخدم لتعزيز الهيمنة حين تلزم، وتُترك معلقة حين تصبح عبئًا. المؤسسات ليست مؤسسات، بل هياكل فارغة تحافظ على التراتبية دون أن تنتج شيئًا حقيقيًا. الزمن نفسه يفقد صلابته، لا يسير إلى الأمام، بل يلتف حول نفسه في دائرة مغلقة، حيث التغيير ليس أكثر من إعادة تدوير للفشل بصيغ مختلفة.
ليس هذا الفساد مجرد خلل، بل هو المنطق الذي تعمل به البنية ذاتها، ليس استثناءً بل القاعدة. إنه ليس مجرد انحراف عن مسار الدولة، بل هو الدول كما تشكلت وكما تعيد تشكيل نفسها. هنا، لا يعمل النظام بالمنع الصريح، بل بالإغراء المستمر، لا يفرض الطاعة بالقوة، بل يجعل العصيان أمرًا مكلفًا حد الاستحالة. وهنا، يصبح الإنسان كائنًا رماديًا، عالقًا بين الامتثال والتواطؤ، بين الرفض والتكيف. هل يتمسك بمثالية ستتركه معطلًا إلى الأبد؟ أم ينخرط في اللعبة، مدركًا أن كل تنازل صغير ليس مجرد تكيّف، بل مساهمة في إعادة تدوير المنظومة؟ هنا، لا شيء يُحسم بالمجرد، بل بالتجربة اليومية، حيث تنحلّ الحدود بين الأخلاقي والعملي، حيث يجد المرء نفسه، رغم كل مقاومته، منزلقًا إلى الداخل، يتحول إلى ترس في آلة كان يظن أنه قادرًا على البقاء خارجها.
لم يكن عبد الله العروي مخطئًا حين تحدث عن “الدولة المستحيلة”، ذلك الكيان الذي يبدو دائمًا على أعتاب الحداثة لكنه لا يدخلها أبدًا، يراوح مكانه بين إرث سلطاني لم يختفِ تمامًا، ووعود حداثية لا تتحقق، كمن يقف على عتبة باب لا يجرؤ على عبوره.
الدول هنا ليست أدوات لتنظيم المجتمع، بل مسارح كبيرة لإعادة إنتاج علاقات القوة، حيث القانون نفسه ليس سوى قناع، حيث المؤسسات مجرد ديكور، حيث الفساد ليس مجرد عرض جانبي، بل هو الطريقة الوحيدة التي تستمر بها اللعبة.
إنها ليست دولًا فاشلة، بل دولًا تتقن فن إعادة إنتاج فشلها، تجعل منه ضرورة، تحوله إلى إيقاع يومي، إلى طريقة للحياة.
في فضاء كهذا، لا أحد بريء تمامًا، لأن الجميع، بطريقة أو بأخرى، متورطون في اللعبة. حتى أولئك الذين يرفضون الانخراط يجدون أنفسهم، في لحظة ما، مضطرين للانتظار، ينتظرون المكالمة المناسبة، لأن أي محاولة للخروج الكامل من هذه المنظومة تعني العيش على هامشها، بلا صوت، بلا تأثير، بلا قدرة على الحركة. المكالمة الهاتفية من شخص نافذ تصبح الحل الوحيد في وجه بيروقراطية موظف لا يعرف ماذا يفعل مع سيستم عقيم، حيث لا خيار آخر. في النهاية، الدول الريعية ليست مجرد أجهزة حكم، بل حالات ذهنية، أشكال من أشكال الوعي التي تجعل القمع يبدو طبيعيًا، والفساد ضرورة، والوساطة مهارة أساسية للحياة. إنها ليست مجرد أزمة أنظمة، بل أزمة وجودية، حيث الفرد لا يعيش في دول تقرر مصيره، بل في فراغ ممتد بين القانون واللا قانون، بين المؤسساتية والوصولية، بين الرسمي وغير الرسمي، حيث لا شيء قطعي، لكن كل شيء متوقع، حيث الماضي ليس تاريخًا مضى، بل حاضر يُعاد إنتاجه بلا نهاية، حيث كل محاولة للخروج ليست سوى خطوة أخرى في طريق العودة.
في هذه المنظومة التي تشكلت في دول النفط والزفت، حيث الفائض الاقتصادي يولد نمطًا من العيش قائمًا على التوزيع غير المتوازن للثروات، تكون الدول الريعية آلة لصنع الانتماءات الهشة. في هذه الدول، تتماهى السياسة مع الاقتصاد في علاقة تبعية تامة، حيث يُخضع المواطنون للولاءات الشخصية والوساطة، وتبقى الدول في يد أقلية احتكارية، مما يعزز من سطوة النخب المتنفذة. كما يقول فوكو في تحليله للقوى المنتشرة في المجتمع، إن هذه القوى لا تعمل بشكل مركزي، بل تتمثل في شبكة معقدة من العلاقات التي تشكل “الذات” وتعيد إنتاج التبعية بشكل دائم. في هذا السياق، تصبح الدول الريعية أكثر من مجرد نماذج اقتصادية؛ هي مشاريع للهيمنة اللامباشرة، وهو ما يعزز مفهوم غرامشي للهيمنة الثقافية، حيث تسعى النخب الحاكمة إلى تثبيت سلطتها من خلال “القبول الطوعي” للمواطنين بما يرضي مصالحهم.

إن هذه الدول، رغم تظاهرها بالحداثة، لا تبرح مكانها، فهي تحتفظ ببنية اجتماعية تشبه إلى حد بعيد المجتمعات التقليدية، حيث تبقى وسائل الإنتاج (النفط والزفت) تحت سيطرة نخبة محدودة، فيما يتم إغراق الشعب في دوامة استهلاكية لا نهاية لها.
***
إبراهيم برسي

في سبتمبر (أيلول) 2017 صوَّت غالبية الأكراد العراقيين (92 في المائة) لصالح استقلال إقليم كردستان، بعد نحو عقدين من الحكم الذاتي الموسع. هذا يشبه إلى حد كبير مشهد جنوب السودان في يناير (كانون الثاني) 2011 حين صوَّت 99 في المائة من سكانه على الانفصال عن الشمال.
بوسعنا أن نمرّ أيضاً على الحرب الأهلية في جنوب اليمن عام 1994، والتمرد الذي أدى إلى انفصال باكستان الشرقية عن أختها الغربية، وظهور دولة بنغلاديش في 1971، أو الحرب التي أدت إلى تفكك يوغوسلافيا، وقيام جمهوريات البوسنة وكرواتيا والجبل الأسود في 1992 ثم انفصال كوسوفو عن صربيا في 2008.
هذه أمثلة، أحسب أن غالبية القراء الأعزاء يذكرونها، وهي حوادث أدت أو كادت أن تؤدي إلى تفكك دول، ظن كثيرون أنها راسخة الجذور عصية على التفكيك.
المؤكد أن كلاً منا قد علم بتجربة واحدة على الأقل، تتضمن حالات انفصال بين أزواج أو أعضاء في عائلة واحدة أو شركاء في عمل تجاري، يعرف كل العقلاء أنه يؤدي إلى خسائر كبيرة. مع ذلك، فإن الناس يقدمون عليه، أفراداً – كما في الأمثلة الأخيرة – أو شعوباً كاملة كما في الأمثلة السابقة.
السؤال الذي لا بد أن يواجهه إخوتنا في سوريا: ما هو الظرف الذي تبلورت فيه إرادة الانفصال وتفكيك البلد، في التجارب التي ذكرناها، وفي عشرات التجارب المماثلة على امتداد تاريخ العالم الحديث، وما هي العوامل المماثلة التي قد تكون متوفرة فعلياً في سوريا اليوم؟ التأمل في هذا السؤال سيأخذنا إلى الجزء الثاني الأكثر أهمية: كيف نحول دون تفاقم العوامل الدافعة لانكسار الوحدة الوطنية، وكيف نعزز إرادة العيش المشترك والسلم الأهلي؟
إن سمحتم لي بالجواب، فإنني أرى أن ظرف انكسار الوحدة الروحية، أي إرادة التعايش، يتبلور عندما تشيع الميول المتطرفة وتنكمش الميول المعتدلة عند شريحة واسعة من السكان. التطرف يعني أن الفرد مطلع على الخسائر التي ستحصل جراء الانفصال، لكنه مع ذلك يراه أقل سوءاً من أي ضرر يترتب عليه، أو لنقل إنه يرى الوضع القائم أسوأ كثيراً من أي ظرف سيأتي بعد الانفصال. إنه أشبه بالذي يقدِم على الانتحار، أو يخوض مغامرة، يعلم سلفاً أن احتمالات السلامة فيها أقل من احتمال الهلاك. هذا تصور متطرف بلا شك، وإذا حمله الفرد فإنه يُعدّ متطرفاً.
خلال السنوات العشر التي مضت من عمر الثورة السورية، لم نسمع أحداً يتحدث عن تقسيم البلاد. حتى في المناطق الكردية التي انفصلت فعلياً عن حكومة دمشق، كان أقصى المطالب هو الحكم الذاتي، على النحو القائم في كردستان العراق. أما اليوم فنرى خرائط عن ثلاث دول أو أربع، ونسمع أشخاصاً يقولون من دون اكتراث: إذا أرادوا أن ينفصلوا، فليذهبوا إلى الجحيم، نحن أيضاً لا نريد العيش معهم. وحين ينشر هذا الكلام على منصات التواصل الاجتماعي يتفاعل معه آلاف الناس، مرحبين أو رافضين.
أعلم أن من يقول هذا متطرف أو جاهل، وأن من يتفاعل معه مثله. لكن ما الذي جرى حتى بات الناس يائسين من الشراكة الوطنية، غير مكترثين بانكسارها. يتحدثون عن تقسيم بلدهم، كما لو كان وليمة يتنافس عليها البعض ويزهد فيها آخرون.
إنني أتمنى من كل قلبي ألا يصغي السياسيون إلى من يدعوهم لإرسال الدبابات والمدافع لقتل المتمردين. أتمنى ألا يصغوا لمن يقول إن للأكثرية أن تقرر وإن على الأقلية أن تسمع وتطيع. هذه الدعوات تنبئ عن ذهنية متطرفة، وهي تؤدي إلى إشعال جمرة التطرف عند الطرف المقابل. لو كان هذا مثمراً لكان بشار الأسد قد نجح في إنهاء الثورة الشعبية طوال عقد كامل. ما يحتاج إليه السوريون هو احتواء الخائفين والغاضبين والمتشككين، وليس قمعهم أو إقصاءهم. هذا هو طريق السلامة إن أردنا العبور بسوريا إلى بر الأمان.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

لو شُيدت مدينة «إكسبو» في عصر أبي الحسن المسعوديّ (ت: 346هج)، وما حولها مِن عُمران وحياة آمنة، لذكرها في «مروج الذَّهب» مِن بناء سليمان بن داوود، لعجائبيَّة الحضارات القديمة، ظنوها شُيدت بخوارق سكان «وادي عبقر»، فمَن ينظر صورة المكان، قبل عمرانه، يرى كثبان رمال تتوسطها شجرة «الغاف»، وكانت مستراحاً للجِمال، ونهض العُمران وهي تتوسطه، مع الحفاظ على ما أَلف ظلها مِن كائنات، ونحلٍ عُرض عسله باسم «إكسبو».
هذا ما قرأته في كتاب «الشَّاهد»(2025)، الذي يحكي قصة «إكسبو 2020»، مِن الحلم إلى الحقيقة، ففي تاريخ أول «إكسبو»(1851)، لم تكن أرض «إكسبو دبي» غير رملٍ وملحٍ، وإنسانٍ يلوذ بظلال «الغاف»، ينافح مِن أجل الوجود، وحتَّى الثَّلاثينيات مِن القرن الماضي، لم يصل لأسماع البغدادي عبود الكرخيّ(ت: 1946)، عن دبي ما يوحي أنها ستستضيف(إكسبو 2020)، لذا، ذكرها ضمن: «الاستحالات» قائلاً: «ويصير بدبي مدرسة حربيَّة»(ديوانه)! وهو ينطلق مِن عاصمته، التي قفزت بإرادة الأولين، وهوت بعبث المتأخرين.
قرأتُ بداية «الشَّاهد»، فشعرتُ أنَّ القومَ يطلبون المستحيل، وهذا ما تطبعنا عليه مِن التّجاريب، فلمعروف الرّصافي(ت: 1945)، ما يُعبر به، عن خذلان: «هيَ المواطن أدنيها وتقصيني/مثلُ الحوادث أبلوها وتبليني»(النّزوح، 1922)، وبعد مئة عام ترجمها الشّاعر المطبوع موفق محمَّد قائلاً: «ورأيت مَن كان المؤملَ والمُرَجئَ/ والمُقدَسَ لا يريد سوى اِنكسارك/ فاقرأ على البلد السَّلام/ وقف الحدادَ على صِغارك»(سرمهر وأنكس).
أكتب عن «الشَّاهد» بدهشةٍ، كيف نافست التي استصغر شأنها الكرخيّ، مدناً عريقةَ التَّمدن، على الفوز بمعرض عالميّ، وتتكلل بالنَّجاح، فوسط انبهار الحضور صعدت امرأة، قادمة مِن ظل الغافة، وألقت خطابَ ترشيح بلادها، بإنجليزية وفرنسية متقنتين، عارضةً دواعي التّرشيح (2012)، وأُعلن الفوز(2013)، فرُسم التَّخطيط وصعد العُمران.
كنتُ شاهداً على «الشَّاهد»، وفر لي الفرصة طوال «إكسبو» مفوضه العام ووزير التَّسامح والتعايش معالي الشّيخ نهيان بن مبارك، الذي خصه «الشّاهد» بعنوان «الرَّجل المناسب»، لاحظتُه لم يتخذ مدى السّتة أشهر مكتباً، بل السَّاحات كانت مكتبه، فَجَرتْ يومياتُ المعرض بدقةٍ متناهية، رغم عظمة الزّحام مِن مختلف الأمم، مِن الصَّباح وحتَّى منتصف اللّيل، لم يظهر ما يعكر صفو الاجتماع، وقد بلغ العدد (24) مليون زائر.
حضر على رؤوس وفود الدّول المشاركة: ملوك ورؤساء، وزعماء طوائف، فكان استقبال سلطان «البهرة الدَّاوودية» المستعليَّة الإسماعيلية يوماً مشهوداً، فالأتباع تقاطروا بالألوف مِن الخارج. كان كلّ وفد رسميّ يُستقبل في ساحة العروض، والكلمات التي ألقاها المفوض العام على عدد الدُّول الـ(192)، بما يُليق بالكبرى منها والصُّغرى. فاجأ «الوباء» نهاية الإنجاز، فظُن أنَّ الجهود راحت هباءً، يومها تعطل عمل الآلاف، وكان التّحدي الأكبر، فطُلب التأجيل، ليكون الافتتاح(2021).
إنها قصة نجاح ليست وراءه الثروة فأوطان ثرية يفتك الفقر بمواطنيها، وليست البيئة، فبيئتها قاحلة جُعلت خصبة، وغيرها خصبة استحالت قاحلة، ولا التَّاريخ وهم لا ينكرون حياة العوز. كان وراء النّجاح آباء، كلما أنجزوا هدفاً رسموا أهدافاً. وأنا أقرأ «الشَّاهد»، وما رأيته مِن أداء الشَّابات والشّباب، المتطوعات والمتطوعين، أغبطُ لا أحسدُ، وأقول: لا أحسدُ، فمَن ينظر أحوال مدنه، التي اعتقد الأولون أنْها تأسست بقوى خارقة، وإذا هي اليوم لا يأمن مواطنها على دَمه، قد يغلبه الحسد للناجحين، مدن ثرواتها الهائلة يتقاسمها الفساد، وفرض الظَّلماء في أحوال النّساء، فتغلبت الرَّذائل على الفضائل وبالقانون!
بعد أنْ استغلت الدِّين أحزابٌ تُجيد التَّراشق بقنابل الطَّوائف والقبائل. ويثور السُّؤال: ما السّرُ بتحويل بيئةٍ عطشى طاردة، إلى جاذبة للملايين، مِن المشرق والمغرب، وفي جمرة القيظ؟ أجاب الجواهريّ(ت: 1997)، قبل ستة وتسعين عاماً، واضعاً شرطَ تجاوز الأزمات: «إذا لم ينَلُها مُصلحونَ بواسلٌ/ جريئونَ فيما يَدُعون كُفاة»(الرّجعيون 1929).
***
رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في سياق متراكب كهذا من القصورية الموروثة ومستوى غلبتها ضمن اشتراطات الانقطاعية الانهيارية الحالة على الشرق المتوسطي، وحصول القفزة الاستثناتية النوعية في الغرب، لم يكن واردا باية حال توقع انتباهه من نوع عودة الانبعاثية التاريخيه عند منتصف القرن السادس عشر في سومر في ارض مابين النهرين، عندما انتهت حالة الفوضى العامة في ارض السواد، بين منتصف القرن الثالث عشر والقرن السادس عشر، لتعود وتتبلور ناهضة اسباب حضورالديناميات الصعودية النمطية اللاارضوية الثالثة، بعد الاولى السومرية البابلية الابراهيمه، والثانيه العباسية القرمطية بصيغتها الاولى القبلية مع ظهور تحالف "اتحاد قبائل المنتفك"، مستبقا الانقلاب الالي الاوربي، ودالا على طبيعته الفعليه المضمرة بناء للسردية التاريخية اللاارضوية غير المكشوف عنها النقاب للحدث الانقلابي المجتمعي اللاحق على اليدوي.
وكما الحال مع التبلورية المجتمعية الاولى اليدوية، استمرت مفاعيل غلبة القصور العقلي المواكب للحدث البدئي الاول، بما اضفى عليه مجددا خاصية الاحادية المجتمعية الموروثة، خلافا للحاصل، ولما هو واقع في الموضع التبلوري المجتمعي الاول الشرق متوسطي النهري، بين مجتمعية لاارضوية هي نتاج وحصيلة الشروط البيئية الطبيعية المجافية الطاردة التدميرية الرافيدنيه مابين النهرينيه، ومقابلها الكيانوية الوطنيه المتلائمه مع الاشتراطات الانتاجية النهرية الاحادية حيث التوافق النيلي الانتاجي، والحماية الجغرافيه للكيانيه النهرية شرقا وغربا وشمالا من دون اي شكل من الاصطراعية الذاتيه، وبما يكرس حال المجتمع المتمثل في دولة، اي نمطية مجتمع الدولة الاحادية الكيانوية ذات التشكلية الواحد التكرارية الاجترارية، الخاضعه للبرانيه، والمقفلة فعالية على ذاتها، حاكمها الفرعون الهها،مقابل الحاكم النائب خادم القوة العليا الرافيديني، مقاومتها للغازي متوقفه عند نطاق الاحتواء والاقلمه التكرارية لموقع الحاكم المطلق، مالا يميل الحاكمون البرانيون الى رفضه كصيغه مثاليه لما يمكن ان يحلموا به كمتغلبين.
وليس النموذج النيلي نمطية خاصة، بقدر ماهي شكل ضمن مجتمعية غالبه، بغض النظر عن تعدد صيغها كمجتمعات ارضوية جسدية حاجاتيه، اعلاها ديناميات الاوربية على الضفة الاخرى من المتوسط، حيث الازدواج الاصطراعي الطبقي، عدا عن نمط مجتمعات اللادولة الارضوية، وهو مايكرس بالاحرى حالة الازدواج المجتمعي الارضوي بصيغتها الغالبة الظاهرة على مستوى المعمورة، والصيغة الثانيه اللاارضوية غير الموعاة، والتي تظل خارج الادراكية البشرية، بالاخص وانها تظهر بالاساس مفتقرة الى الوسائل الضرورية اللازمه لتحققها، فتظل قائمه بصيغة ماقبل تحققية شاملة للمجتمعات ككل، تخترقها استنادا لطبيعتها المتعدية للكيانيه الارضوية عقيديا كتابيا، بصيغتها الاولية بانتظارالتفاعلية التاريخيه الضرورية اللازمه قبل الانتقال الى التحقق، وهو مايعود الى الطور الثاني الانتاجوي ومترتباته بعد اليدوية، بينما تظل التعبيرية اللاارضوية، واعلى صيغها واكملها ضمن اشتراطات تعذر التحقق الاولى، نبوية حدسية ابراهيمية، تعاني الطرد خارج النوع المجتمعي الملموس والمعاش المعاين، والمعدود ضرورة احادية، فتحال الى الماوراء و"الدين"، نوع المصادره القصورية الغالبة، تعبيرا عن العجز امام الظاهرة المجتمعية وطبيعتها الازدواجية الاساس والاصل، وهو مايظل حاكما للعقل وادراكيته الناقصة على مدى التاريخ اليدوي.
قامت البدئية الاولى اليدوية مرهونه لواقع من الازدواجية المجتمعية غير المكشوف عنها النقاب لاسباب قصورية عقلية، وعادت وقامت كما متوقع اليوم مع البدئية الثانيه الاليه محكومه لذات القصورية، لابل واكثر ايغالا في الاحادية وتكريسها، فلم يؤد ماهو لازم ومطلوب وقتها، مع ماقدعرف من محاولة اقتراب من الظاهرة المجتمعية مع علم "الاجتماع/ اخر العلوم" ماهو لازم بالتخلص اولا وبداية من وطاة الاحادية الارضوية، فكان المتحقق اليوم لاماقد عرف على انه علم الاجتماع، بل "علم اجتماع الارضوية المجتمعية الاحادية"، الحضور المجتمعي الاخر بحسب تصنيفه وما مايراه منها، مجرد فرع مدمج داخل الاصل، اسمه"علم الاجتماع الديني" خلافا للحقيقة الازدواجيه التاريخيه البدئية الابكر من الارضوية، ووجود الظاهرة المجتمعية الابتدائي بصيغة الازدواج، مع التباين النوعي في الحضور والفعل والتعبيرية مابين "مجتمعية لاارضوية"، واخرى "ارضوية" وتباينهما الكلي وتفاعليتهما التاريخانيه التصيريه.
يمكن ان نتساءل بغض النظر عن التبعات والمتوقع من درجة ومستوى قطعية الاستنكار والرفض المتوقع: ترى هل بدات الانقلابيه الاليه في القرن السادس عشر، في نفس الموقع الذي وجدت فيه البدئية الاولى اليدوية؟، وهل الانبعاثة السومرية الثالثة الراهنه المستمرة منذ مايزيد على الاربعة قرون، هي الانبعاثة التحققية اللاارضوية التي ظلت منتظرة على مدى التاريخ المجتمعي اليدوي، بانتظار توفر الاسباب المادية والاعقالية الضرورية لمثل هذا الانقلاب التاريخي النوعي المنتظر؟ بعدما غدت مثل هذه الاسباب وشيكة الحضور.
نعم هذا مانعتقده ونذهب لتاكيده، مع كل ماهو مترتب على اعتقاد كهذا من تبعات ليس من المقبول باية حال استهوالها، او التردد امام مايمكن ان تولده من عواصف الرفض، بالاخص اذا قارنا بين المتوقع في حال التغاضي عن النطقية الواجبه المتاخرة والحاحها المتزايد، ومايمكن ان ينتج عن مواصلة نكران الحقيقة الاهم في التاريخ الوجودي البشري، وهو ماتتجه البشرية تباعا نحوه من احتمالية انتهاء صلاحية نوع المجتمعية الغالبة، وصولا لاعتى اشكال الاضطرابيه المغلقة المنافذ والسبل. هذا مع علمنا بما هو حاصل من ارجحية مضادة تكرسها العادة وطول الممارسة، والاقتناع الزائف المقارب للمطلق، وهو يجد نفسه في موضع الرجحان الشامل، مع مامتوفر له من امكانات، وهو ليس سوى نوع رجحان مطابق لرؤية نمطية ونوع مجتمعي بعينه، تقابله زاوية التعبيريه والرؤية اللاارضوية المضمرة ومفهومها للرجحان والقوة، ومصادرها وعناصر فعاليتها المخالفة نوعا، حيث التعبيرية الكتابية العقيدية و "الفكرة" مقابل الملموسات الكيانيه الجسدية( وطنيات وامبراطوريات) مدعمة بالاساطيل والجيوش الجراره، ومايعرف بالمادية التي لم تصمد، لاامام المسيحية(1) مع انها كانت ماتزال لاتحققية في حينه وفرديه، ولا امام الاسلام الخارج من اخر زاوية قاحله، بثلة من حفاة صدئي السيوف، لم تتمكن الامبراطورية الفارسة ازاءه غير ان تختفي كنموذج ونمط حياة تاريخي في موضعه، وقد انقلب الى مستوى من التعبيريه الابراهيمه الاقرب للاول والاساس الشرق متوسطي وظل كذلك الى اليوم.
يمكن للفكرة ومسار الاليات التاريخيانيه التصيرية، ان تضع كل ركامات وملايين اطنان الاسلحة، والاسلحة النووية خارج الفعالية، عند لحظة من تاريخ التصير المجتمعي صارت قريبه الان، مع علامات الانفصال بين الوسيله الانتاجية العليا التكنولوجية العقلية، ومادة الانتاج التقليدية المرهونه للجسدية الارضوية الحاجاتيه المنتهية الصلاحية.
***
عبد الأمير الركابي

 

منذ اواخر القرن المنصرم دخل الشرق المتوسطي طورا تازميا استثنائيا، فقد معه بالاضافة للرؤية الذاتيه الغائبه اصلا، امكانية التعكز على المتاح في حينه من ممكنات مستعاره ومنقوله، اهمها تلك التي تعود الى التماهي النقلي مع النموذجية الغربيه الحديثة الاليه، بمقابل حالة "تشبه ابراهيمي" منطو على ايحائية استعادية لتعبيرية تاريخيه مطابقة، هي بالاصل خاصية تاريخيه للمنطقة ومنجزها الكوني بما هي مجتمعية اخرى.
وبين الحركة الوهابية السعودية، ومحمد علي الالباني، انقسم التعبير المميز للمنطقة، من جهه كتيار راغب وعازم على الالتحاق بالحداثة الغربية، فبرك مايسمى بتيار "النهضة العربية" الزائف، ابتداء من الطهطاوي ومحمد عبدة والافغاني، وماتبعهما من تيارات ايديلوجه اوربية منقوله، قومية ويسارية وليبراليه، موحية بامكانيه واحتماليه اللحاق بالانقلابيه الاوربية اعتباطا، ومن دون محاولة اثبات مادي واقعي، مرتكز لرؤية منطلقها الذات والكينونه المجتمعية في لحظتها، ماكان من شانه ان وضع الميل المشار اليه بخانه النزوع النهضوي الالتحاقي الصرف بالاخر، تحت واجهة التساؤل "لماذا تقدم الغرب وتاخرنا؟" بلا محاولة اجابه مرهونه لواقع منطقة تعاني من الانهيار الانحطاطي منذ سقوط بغداد عاصمة الدورة الازدواجية الثانيه عام 1258، من دون ان يخطر على البال سؤال كان المفترض وجوبا ان يحضر بالحاج منذ منتصف القرن الثالث عشر، وصار اكثر الحاحا مع التحدي المتاخر الاوربي، والا فكيف يمكن تخيل امكان تقدم من اي نوع كان من دون التعرف على مسببات وعناصرالمرض العضال الحالة وطاته على الذاتيه منذ بضعه قرون.
على المنقلب الاخر وجد في موضع النهوض الثاني الشرق متوسطي، بعد البدئي المجتمعي الاول الثلاثي النهري، (الثنائي الرافديني ـ الاحادي النيلي)، التعبيرية الكبرى الجزيرية اللاارضوية الختامية النبوية مع القرن السابع، والتي كانت وراء الاختراقية الكبرى اللاارضوية الابراهيمه للشرق وصولا الى الصين والهند واوربا عند طرفها الغربي الاسباني، وماتسببت به من تحفيز للاليات الرافدينيه، ولبنيتها الازدواجية المجتمعية الكونية الاساس، بما جعل من بغداد عاصمة للعالم على مدى خمسه قرون، نهضت بالاقتصاد التجاري الريعي العالمي درجات غير مسبوقة، كان لها الاثر الفاعل الرئيسي في تهيئة الاسباب الانقلابيه التجارية المفضية للصناعية على المنقلب الاوربي، بما قد تمخض اخيرا عن انتهاء الطور اليدوي من الانتاجية مع مايطابقة من نوع مجتمعي.
وعلى المنقلبين كان التوجه المشار له قد اتخذ طابعا تكريسيا للحالة التردوية الانهيارية التاريخيه، فالقول بالنهضة لان طرفا اخر قد حقق نهوضا في ارض وبناء لتشكليته ودينامياته التاريخيه والنمطية المجتمعية، لايمكن ان يصدر الا عن نكوص وقصورية تاريخية، والاعتراف القائل يومها باننا قد "تاخرنا" من دون مايؤشر او يلفت النظر الى احتمالية او مظهر ولو ابتدائيا، دالا على مؤشر نهوض ذاتي من اي نوع كان، حيث لايبقى في اللوحة سوى طرف ناهض على المنقلب المتوسطي الاخر، يقابله طرف مواجه جغرافيا وتاريخيا لاوجود له ضمن الفعالية النهوضية، على العكس هو في حال ترد وانحطاط باعترافه هو، مثل هذه المعادلة لايمكن ان يبنى عليها، او يتوصل من خلالها الى تخريف اخرق من نوع ذلك الذي اعتبر من قبيل الاحتمال او امكانيه اللحاق بالطرف الاخر.
موضوع رئيسي اخر لم يكن متوقعا بالطبع للعقل المتردي ان يقاربه، فضلا ان عن يعتبره منطلقا للحكم والمقارنه بين نهوضين، الحالي الاوربي "الالي " بالدرجة الاولى وهو انقلاب زمني نوعي من اليدوية، والنهوض الاسبق الشرق متوسطي العربي ضمن الاشتراطات اليدوية، لابالوسيلة الانتاجية، بل بالرؤية اللاارضوية الابراهيمه النبوية، التي اخذت المكان ومعه العالم نحو مستوى من الديناميات المجتمعية هي الاعلى مقارنه باية حالة نهوض ابان الدور اليدوي من التاريخ البشري، دلالة على نوع ودرجه علو الديناميات التاريخيه المجتمعية في هذا الجزء من المعمورة، وهو مايعززه ويؤكد حضوره تاريخ البدء والبكورة التبلورية المجتمعية التاريخيه الاولى التاسيسية الحضارية كما معروفة.
فهل من الممكن بناء عليه المقارنه بين "تاخرنا" و "تقدم" الاوربي الحديث، ومااللازم الواجب تدبره والنظر فيه عند المقارنه، او محاولة افتراض امكانيه التشابه بعد ماهو حاصل لدى الاخر، بغض النظر عن نوعه قياسا الى مايميز التاريخ التعبيري الشرق متوسطي والياته، مع الاخذ بالاعتبار مايترتب على حضور العنصر المستجد الالي، وكيفيات تفاعليته والنتائج المترتبه عليه في حال انتقاله الى العالم المغاير كينونة وبنية وديناميات، الابراهيمي التعبير والفعالية، وماالمترتبات المضمرة او المتوقعه من مثل هذا النوع من التفاعلية المنتظره افتراضا من هنا فصاعدا.
هذا مع العلم ان الاحادية المفهومية والتصورية تترافق مع ظاهرة الغرب الحديث، وتكرس لاسباب موضوعيه وغرضية، تلك هي المرافقه للعملية النهوضية الاليه الاوربيه، سواء النموذجية الكيانيه، او مجمل النظر الى التاريخ، مع الميل البداهي وارتكازا لقوة الق وسطوة ماقد انجز وتحقق من قفزات معرفية وعلميه، لتعزيز المركزية النموذجيه الغربيه وسيلة للهيمنه على مستوى المعمورة، وفي حين كانت الضرورة وقتها تستدعي بالحاح البحث عن الذاتيه، وعن الهوية التاريخيه للمنطقة ومنجزها التاريخي الهائل، والشامل في العصر اليدوي، صادق العقل الشرق متوسطي العربي على التنازل عما هو ليس جديرا بالخوض فيه، او مقاربته، الامر الذي كان من شانه الاساءة الى الحدث الاوربي نفسه، فتكريس الاحادية والمركزية الاوربيه الابتدائية الاليه ليس في صالح اوربا، ولا العالم، فالديناميات الانقلابيه التي تبدا بالاله، هي منطلق بدئية مجتمعية وتاريخيه اخرى غير تلك الاولى اليدوية، والاله ومضمراتها تحتاج الى رؤية كونية اخرى لن تكتمل ولا هي مجهزة مسبقا، ومن دون جهد اصطراعي شامل تحولي انقلابي، ليس من حق احد افتراض اكتماله فورا لحظة انبثاق الالة بصيغتها الابتدائية المصنعية، قبل التكنولوجية والتكنولوجية العليا.
هنا نواجه مسالة غاية في التعقيد والحساسية، قد تخفف من وطاة ماقد ارتكبه العقل العربي، ان كان له وجود فاعل وقتها، من اعتباطية من الصعب نسبتها الى العقل المكتمل، تلك هي نقيصة تعذر التعرف على الذاتيه والهوية المجتمعية التاريخيه التي ظلت تحكم تاريخ المنطقه، برغم دورات تاريخها الصعودية والانقطاعية، بحيث ظل العقل اجمالا قاصرا ادراكا دون نوع وطبيعة البنيه المجتمعية، الامر العائد الى واحده من اهم الخاصيات البشرية التاريخيه بما خص العقل بازاء الظاهرة المجتمعية، والنكوص دونها، لابل وعدم الانتباه لها كمعطى قابل للاحاطة حتى وقت قريب.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

المقدمة: للتنمية الاقتصادية اهمية بالغة في التخطيط الاقتصادي السليم بل هو الاساس المحوري الحاسم في بناء الدولة المدنية الديمقراطية، واني على اعتقاد واعد بان هناك ترابط مشيمي بين الديمقراطية والتنمية الاقتصادية كما هو واضح في دول الغرب الاوربي بسبب ممارستها للديمقراطية منذ قرن من الزمن بتزامنها مع الثورة الصناعية، وتبدو مهلهلة وضعيفة في العراق لكونها حديثة على النهج الديمقراطي، انا امتلك وطن ذو امكانيات زاخرة وموارد وثروات متنوعة واسفي حين اذكر بعضا من السوداوية بابتلاء وطني الحبيب بمئة عام كوابيس ولعنة في ذاكرة الاجيال بالحفريات العميقة في كينونة وصيرورة اللادولة العراقية منذ تأسيسه الهجيني المنحوس 1921 ولأكثر من قرن مضى يبدو كغثاثة سياسية ومخاض عسير للتغيير وذلك لهلامية الهوية المتلازمة مع غياب ثقافة المواطنة لاشتباكات وتقاطعات وارهاصات الصراع الطبقي للمجتمع العراقي المتعدد الانتماءات الهوياتية والشعبوية من عرقية ومذهبية ومناطقية تبدو جراحاتها الواسعة بسعة جغرافيتها كفيلة في اضفاء السوداوية والكأابة والقنوط على تكويناتها السوسيولوجية الجمعية اضافة الى تنمر دول الجوار تركيا وايران وخبث الكويت الجارة وضغوطات المستعمر ابو ناجي البريطاني وشريكه التاريخي الولايات المتحدة الامريكية، ومن سوء الطالع تعرض كيان الوطن لزعل وغضب الطبيعة كتوسونامي الفيضانات المتكررة والمدمرة وفايروس الطاعون مع معايشة الثلاثي المقيت الفقر والمرض والجهل.
العودة الى سيمياء العنوان واخطبوط اللبرالية الحديثة امبراطورية الدولار الامريكي اللاعب الرئيسي في الانقلابات العسكرية العابرة للقارات وتغيرات النظم الديمقراطية وحتى تكون في جيوب المافيات وعصابات الموت والاغتيالات واصبح العالم على صفيح ساخن وربما قربتْ نهاية الراسمالية الجشعة المتعددة الرؤوس اوالقطط السمان بانضمام افريقيا الى مجموعة (البريكس) بعملة موحدة اثر انقلاب النيجر المسمار الاخير في نعش النهب الفرنسي وصفعة اخرى للصبي ماكرون وضربة قاتلة للدولار وامريكا واوروبا وخطوة قوية نحو عالم متعدد الاقطاب ومن المحتمل القريب انضمام مصر والسعودية وقطر والجزائر لان على جدول منهاج المؤتمر دعوة لانضمام الدول المذكورة عند نجاح المؤتمر، تحية لمؤتمر قمة " بريكس " المنعقد في 22- 8-2024 لاصدار عملة جديدة باسم بريكس تلغي هيمنة الدولار على اسواق العالم علما ان بريكس تكونت من روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا.
النص: سياسيون
العراق لا يسيطر على عملية بيع الدولار ولا على مزاد العملة، وتهريب الدولار بجري عبر الطائرات من داخل العراق !؟
لمناقشة ديباجة التوطئة لبحثي الاقتصادي اشير الى الفقرات التي سوف اطرحها اعتبرها من ركائز هذا البحث الجاد وا لتي تعتبر الرافعة المهمة في مستقبل منعش (واعد) للاجيال القادمة:
اولا-مزاد العملة: ان مزاد العملة (فرية) امريكية بريمرية، ان عملية مزاد العملة الاجنبية في البنك المركزي العراقي مرتبطة بمصارف تعود لجهات سياسية تبيع العملة الاجنبية وسبائك الذهب والعراق يتصدر لائحة الفساد العالمية، انها ظاهرة خطرة ومرعبة تشير معلومات موثقة ان في العراق 72 مصرفا اهليا وحكوميا والرقم كبير غير مسبوق على الاقل في دول الجوار اذ في كل من تركيا وايران 32 مصرفا يتم تحويل الاموال لاستيراد البضائع بمبالغ تصل الى اكثر من 200 مليار دولار يوميا، والفضيحة المالية هنا بروز الفوارق المالية بين حجم ونوعية البضائع وقيمتها وحسب المؤشر الدولي للدول الاكثر فسادا هي العراق فنزيويلا كوريا الشمالية وليبيا والسودان واليمن وافغانستان وسوريا وهذه المعطيات نُشرتْ من قبل المنظمة الدولية Transparency International طُبقتْ الفرية عام 2004 من قبل البنك المركزي العراقي من انهُ شكلا من اشكال الاحتيال الاقتصادي المرتبط بحبله السري مع عملية غسيل الاموال في العراق فمزاد العملة اصبحت وسيلة لتهريب الدولار من العراق والتي تخص المال العام، فقد تم هدر 318 ملياردولار بين سنة 2004-2014 وهي عائدات النفط العراقي الايل للنفاذ عام 2040 والذي ضخهُ البنك المركزي وهي خسارة لا يستهان بها حين يعاني الاقتصاد العراقي شللابسبب الحرب الداعشية وانخفاض سعر البرميل من النفط الخام والتوجه الى الاستدانة الداخلية والخارجية ومن البنوك الدولية ورهن مستقبل الاجيال القادمة والضمانات السيادية والرضوخ للشروط التعسفية لصندوق النقد الدولي وبالتالي وضع الاقتصاد العراقي على (حافة الانهيار).
تحديات تعصف بالاقتصاد العراقي بعد 2003 اوجدت مناخا ملائما لتهريب الدولار!؟
وثانيا: هنا المعادلة الاقتصادية المتوقعة جراء تهريب الدولار بالتاكيد تضرب الاقتصاد العراقي لوضعهِ على حافة السقوط حيث تتهاجم عليه التحديات والتداعيات والرهانات والشروخات من كل حدبٍ وصوب داخلية واقليمية ودولية تلعب دورا مريحا وسهلا في انهاك الاقتصاد العراقي ووضعهِ على الحافة المهلكة، لان العراق يفتقد الصندوق السيادي وهو صندوق توفير تمتلكهُ الدولة كعنصر استدامة في توفير السيولة النقدية وهي من فوائض الدولة من اجل الاستثمار وهو ليس بجديد تستخدمهُ دول الخليج كقطر والكويت فهو يؤمن حاضر ومستقبل الاجيال وديمومة الحفاظ على المؤسسة الاقتصادية والمالية، فغياب هذا الصندوق في العراق اوصلت الحكومة عام 2014 -2018 لصعوبة دفع رواتب الموظفين كان بالامكان تاسيسها وتقزيم ظاهرة الفساد الاداري والمالي المستشري في مفاصل الدولة وكل هذه الشروخ تساعد على انعاش مناخ تهريب الدولار وافقار البلد، وهذه اجابات بحثية على سؤال: لماذا يهرب الدولار؟
- ان العراق يفتقد الى الصندوق السيادي
-تذبذب اسعار بيع النفط الخام على المستويات الاقليمية والدولية
- لم يتجاوز العراق شكل الدولة الريعية باعتماد مشاريع الانفاق العام على بيع النفط الخام
- اللجوء الاضطراري الى صندوق النقد الدولي الذي يستنزف الاقتصاد الوطني
- تعويم العملة المحلية وهو اسوء نهج يستخدمهُ الصندوق في تعويم العملة بدلا من تقديم علاجا مناسبا وهو ما يؤدي لانهيار الاقتصاد الوطني وتساعد على تهريب الدولار.
- البيروقراطية والمحسوبية والمنسوبية والفساد الاداري والمالي.
- وقوع العراق تحت البند السابع البغيض بعد 2003 الذي ابتلع المليارات من المال العام.
- وصول نسبة الاغراق في نظام السوق الى 95% الذي اصاب الاضرار بالحالة الصناعية والزراعية والسياحة.
- انخفاض موجودات البنك المركزي العراقي وترهله واتجاهه لضخ الاموال كمخدروبشكل عشوائي لاسكات الضغط الشعبي.
- الارتفاع المفاجئ لسعر الدولار لذي ادى الى خفض القوة الشرائية للمواطن والتسبب في كساد السوق المحلية وفتح فرصة ثمينة لظهور المضاربين والجشعين الاحتكاريين مع الفلتان الامني وتهريب الدولار.
- الحكومات المتوالية على السلطة تتجه الى الاستدانة الداخلية والخارجية اكثر من 50 جهة لتامين المتطلبات الخدمية اليومية على الحد الادنى فيتجه الاقتصاد الايل الى السقوط خطرٍ اكبر متمثل بقوة الدولار كالذي يلوذُ من الرمضاء بالنارّ!.
- احتساب ايرادات النفط الخام على (التخمين) بغياب وزارة التخطيط الذي هو الاخر معتمدا على الاعلام وهو اعتماد عشوائي متخبط لا يعي الواقع ا لاقليمي والدولي.
- التوزيع الغير عادل للثروات بين المحافظات على سبيل المثال لا الحصر البصرة المغبونة تضخ الميزانية العراقية بنسبة 90%.
- ولم تكن لسلبيات الاقتصاد الاحادي سياسية اجتماعية بل شملت اخلاقيات العمل في انتشار الاتكالية وتضخم الجهاز الاداري الملوث بالبيروقراطية وبالتالي العبور السهل والمريح للدولار الامريكي عند عبور الحدود.
- انخفاض قيمة صرف الدينار العراقي امام الدولار الامريكي والذي يعني عدم استقرار سعر الصرف.
- العجز في ميزان المدفوعات الذي ادى الى استنزاف الاقتصاد العراقي ويتبعهُ انخفاض القدرة الانتاجية.
***
عبد الجبار نوري - كاتب وباحث عراقي مغترب
اذار-2025

......................
المراجع وهوامش
د- علي ميرزا-استخدام الاحتياطي في غير وظيفته
د- سمير شعبان – جريمة تبيض الاموال القاهرة 2016
ايمان محمود –الازمات الاقتصادية العالمية
وزارة الداخلية المصرية – مكاعحة غسيل الاموال 2016
قانون مكافحة غسيل الاموال – الاردن 2016

الحربان العالميتان الاولى والثانية، هي اوروبية بامتياز، وميدان الحرب الباردة الاول هو اوروبا، ومعظم الدول المنخرطة في اكبرحلفين عسكريين عالميين، وارسو والناتو، هي اوروبية، اضافة الى امريكا وكندا كأمتداد وجودي متفاعل!
المركزية الاوروبية الطاغية على العالم، جعلته اسير لتفاعلاتها التنافسية، وحداثتها المتسلحة بالتفوق في انتاج اعظم ادوات الحروب قاطبة، والتي مهدت لسيطرتها الكولونيالية، وفرض شروطها على العالم القديم والجديد، لم تستسلم اليابان لامريكا الا بعد استخدام الاخيرة للسلاح الجهنمي، الذري، على مدينتي هيروشيما ونكزاكي، والصين اخضعتها بريطانيا بقوة اساطيلها وكثافة طلقات مدفعيتها، وبحيلها الافيونية، وشعاراتها الكاذبة الداعية لحرية التجارة، اما الهند درة التاج البريطاني فلم تكتفي بريطانيا بنهب ثرواتها بل سخرت شبابها لخدمة العسكرية البريطانية في مستعمراتها حول العالم، والشرق الاوسط تقاسمته بريطانيا وفرنسا، باتفاقيات سايكس بيكو، التي لم تراعي سعي شعوبه لحق تقرير المصير، ثم اقامت انظمة محلية تسير بفلكها !
عملت بريطانيا وفرنسا على ترحيل المشكلة اليهودية التي تعاني منها اوروبا اصلا الى الشرق الاوسط من خلال وعد بلفور لاقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، مما تسبب بخلق مشكلة مركبة ومستفحلة بتداعياتها حتى وقتنا الحالي، استيطان احلالي يؤدي الى تشريد الشعب الفلسطيني صاحب الارض، اما في افريقيا فالامر اكثر استعبادا وقهرا، فنظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا شاهد، ومازالت فرنسا تعتبر غرب افريقيا مجال حيوي وتاريخي لنفوذها والتفاصيل كثيرة من الصومال حتى سبتة ومليلة !
امريكا الجنوبية اعتبرها الاوروبيون حديقتهم الخلفية التي يتزودون منها بما يثريهم ليكرسون تبعيتها كسوق لتصريف منتجاتهم التي تتغذى على خامات جنوب العالم !
مشوار طويل من الحروب المتسلسلة سلكته الراسمالية الاوروبية الامريكية، لمصلحة احتكارات كارتلاتها، والتي لا يفلت من قبضتها اي بلد من البلدان، حتى بعد موجة التحرر السياسي التي سادت العالم كنتيجة عرضية للحرب العالمية الثانية ومقاومة الشعب للسياسات الاستعمارية !
تفاوت التطور التنافسي الاوروبي يشكل دافع موضوعي للحروب الداخلية والخارجية وهو فاعل حتى الآن : والامثلة كثيرة، حروب دول البلقان، الحرب القبرصية، صراعات اسبانيا الكتلونية، استمرار احتلال بريطانيا لجبل طارق الاسباني، مشكلة شعب الباسك في عموم شبه الجزيرة الايبرية، واخيرا الحرب الروسية الاوكرانية، وتداعياتها التي اثبتت ان اوروبا لم تتخلى بعد عن نهج التسلح الذي ينتج فائض القوة للحصانة والتفوق لسوقها الداخلي والخارجي !
يقول تولستوي في ملحمته الخالدة " الحرب والسلام " : ان حادثا احترب فيه ملايين البشر، وقتل فيه نصف مليون من الرجال، لايمكن ان تكون إرادة فرد واحد هي سببه !
نعم الحروب نتاج عوامل موضوعية وذاتية، وتعاشقها يتجسد حتما بمجموعة افراد، وربما بينهم من تتوحد فيه تلك العوامل بطغيان زماني ومكاني تتجلى فيه محددات الصدفة والضرورة معا، فلو لم يكن بونابرت لكان غيره وهكذا الحال بالنسبة للكسندر الاول، او هتلر او موسوليني وفرانكو وتشرشل، حتى ريغان وبايدن وترامب او صدام وبوتين !
واكرر مقولة تولستوي " ان نابليون اداة لا معنى لها بيد التاريخ "، فالصفات الشخصية للافراد لا تحدد وجهة التاريخ، ربما تمنح الحوادث تجسيدا مطابقا لروحه، كالممثلين البارعين في اداء ادوارهم على خشبة مسرح !
يقول علي عزت بيجوفيتش : الحرب ايغال في توحش القوة، وفيها تقع افعال سادية تخالف الفطرة الانسانية، والحروب تصنع سرديتها الكبرى ويضمحل الانسان حد التلاشي امام هذه السردية، ويتقزم لمجرد شيء !
وفي معرض تناوله لنصوص تولستوي في الحرب والسلام، يذهب الى كون النصوص الروائية خير معبر عن حقيقة الحرب السافرة، فهي مادة خصبة للسرد الروائي، ويقرر ان اشتغال المؤرخ على حقبة تاريخية ما، ينتج عنها نوع من السرد البراني لتلك الحقبة اما اشتغال الاديب عن نفس الحقبة فينتج عنه سرد جواني في تفاصيله كل شياطين وملائكة تلك الحقبة التاريخية واخلاقياتها مع كل اكسسواراتها!
تولستوي يحرض غاندي على إستفزاز الضمائر لا العضلات!
هل يعقل ان 30 ألف انجليزي يستعمرون مئات الملايين من الهنود ؟ نعم لان الاكثرية منهم رضوا بالخنوع لاسباب عديدة اجتماعية وثقافية ودينية، لكنهم لو عرفوا ان الانكليز سلطة ظالمة يمكن معارضتها بوسائل المقاطعة السلمية لفعلوا ذلك، هذا فحوى مراسلات الى هندوسي التي كتبها تولستوي في واحدة من رسائله الى غاندي وآخرين من نخب المقاومة الهندية والتي تشرح فكرته، بسلاح سلمي يخير المتعجرفين بان يتصرفوا كوحوش ام بشر بقيم انسانية واخلاقية تميزهم عن حيوانات الغابة؟
رفض ومقاومة الاستعمار البريطاني لا تحتم الصدام الدموي، بل تحتم التعبئة الواعية للملايين كي لا يخنعوا ولا يستجيبوا لدعوات الطاعة العمياء للحكام، التي يبثها وعاض السلاطين من اصحاب النفوذ الديني، ولا دعوات الانتحار التي يبثها المتطرفين، فالمقاومة اللاعنفية ستضعف البريطانيين وتجعلهم بوضع لا يستطيعون الدفاع عنه، المقاطعة السلمية للملايين ستحقن الدماء وتحقق هدف جلاء المستعمرين!
***
جمال محمد تقي

 

منذ عقود والخلاف السّياسيّ أخذ يتلبد بالنّزعة الطّائفيّة بأقصى درجاتها، بين الأديان والمذاهب والقوميات، لكنَّ أفظعه القائم على أساس دينيّ، ومع أنَّ الله واحد للجميع، لكنَّ كلَّ دين ومذهب يتحدث عن إلههِ، ويظهر في صِدام مع معتقدات الآخرين، وعندما أقول بأقصى درجات الطَّائفية، أقصد سفورها عن سفك الدَّماء، وسّيف الحزب المسلول باسم الدّين، لا يخشى حرمة إنسان ولا تعاليم إله، فلأبي العلاء المعريّ(ت: 449هج): «طَموحُ السّيفِ لا يخْشَى إلهاً/ولا يَرجو القِيامَةَ والمَعادا(سَقْطُ الزَّندِ).
لا يعتقد صاحب الخِطاب الطَّائفيّ، سيبني ويُعمر وطناً، وهنا نأخذ حالة العِراق، ونكتب ذلك لعلَّ هناك مَن يتعظ، ويعرض نفسه على الأطباء للشفاء مِن هذا المرض، فللتاريخ أعينٌ وآذان. بعد حرب 1991، كتبت الصّحافة الرّسميّة سلسلة مقالات ضدّ مواطنيها، وهي سابقة أن يَقذف نظامٌ شعبه في جريدته الرَّسميّة، بما يعاف (جريدة الثورة 5 أبريل 1991)، وهي جريدة حزب يضم أهل المذاهب كافة، فلو حصرها بمن ثاروا ضده، لعفى نفسه، فكم مِن هؤلاء قُتل بسلاح المنتفضين حينها، وكم منهم بين أركان النِّظام الكبار، وأكثر من نصف البعث كانوا مِنهم؟ كذلك نشرت جريدة «بابل» (تأسست1991) سلسلة مقالات ضدّ مذهب ودين، من مواطنيها (بابل، 10,13 أبريل (نيسان) 2002).
كتبت «الثَّورة» و«بابل» هذا ببغداد، بينما كانت جماعات بالمنافي تناقش الطَّائفيّة بالعراق، فأصدرت ما عرف بإعلان طائفيّ. جاء فيه:«من أجل إلغاء الممارسات الطَّائفيّة، التي مارستها الأنظمة المتعاقبة، لا بدّ أن يعاد النَّظر في التَّركيبة الإداريّة للدولة العراقيّة، ومؤسّساتها العسكريّة والمدنيّة، من خلال إعادة النظر في طريقة التوظيف في هيئات ومؤسّسات الدولة. واعتماد مبدأ الكفاءة المهنيّة»(الإعلان، جريدة الزَّمان 20 يونيو 2002).
فإذا كان خطاب«الثّورة» و«بابل» «حيَّة رقطاء»، فقد أولدت حيَّات، والعبارة لمحمد صالح بحر العلوم(ت: 1992)، قالها(1934) قبل تحول الطَّائفية إلى مقاتلٍ: «وأترك شعور الطائفيةِ جانباً/ فالطَّائفية حيَّة رقطاءُ»(شعراء الغري). أقول أولدت حيَّات، بقانون الفعل ورد الفعل. بعد 2003 صارت الطَّائفية شائعة، حملت المجتمع مآسي الإقصاء والتهجير والقتل والخطف، وصارت مادة «أربعة إرهاب» وحش يجول على مدن وقرى أهل مذهب بعينه دون غيره، وحملت المناهج الدراسية، ودوائر الدّولة طائفيّة على طائفيّة، ولم ينبس الموقّعون على الإعلان المذكور، وهم ما زالوا أحياء -منهم تبوأ منصباً ومكانة في النِّظام الجديد- ببنت شِفة ضدّ الطّغيان الطّائفي، حتَّى صار واقعاً يعيشه العراقيون، لأنهم توهموا الانتصار على المواطنة بالطّائفيَّة، الطائفيّة التي انتقدوها رياءً. إنها دواليب المصائر، تحتاج إلى ضمائر مصلحين كفاةُ، لا ضمائر معبأة بالسّموم.
فإذا كتبت جرائد السابقين، بما يدينهم، فاليوم تحوّل البرلمان إلى ساحة ردحٍ طائفيّ، والتّجاوز الطُّفولي على مقدسات الشُّركاء بالوطن، وإذا كان الموقف مِن الحوادث السّوريّة، جرى بالشُّعور الطّائفيّ، ظناً أن المنتصر بالحشد الطائفيّ لا يُهزم، وإذا رياح الأقدار تهبُ بما ليس في الحسبان، فلو فكر النّظام السَّابق، وهو سلطة الأمس، ومعارضوه، سلطة اليوم، بخطورة ما مارسوا لعتقوا العراقيين مما جرى ويجري عليهم.
فهل يجري التّفكير باِنهاء اللُّعبة، التي يؤرخ لها بالقرون، وإلى متى تبقى هذه الصّفحة الدّامية مفتوحة؟! نعود إلى أبي العلاء، وقصيدته «عاند مَن تُطيق عناده، أو أرى العَنقاء تكبرُ أن تُصادا»، وبيته: «جَهولٌ بالمَناسِكِ ليس يَدري/أغَيّاً باتَ يَفْعَلُ أم رَشادا«(سَقْطُ الزَّندِ)، لا يجب أنّ يتصرف الطّائفيّ بحرية، ممارساً طائفيته بأقصى صورها، مِن موقع السُّلطة، على أنها الحرية والدّيمقراطيّة، يشتم مَن يشاء، ويحرض الجموع ضد الجموع. أقول: لا تأخذه نشوة النّصر، فالدوائر تدور، مثلما تُفاجئنا اليوم، والحليم مِن يعصم نفسه بخطاب المواطنة، لا خطاب«الحيّة لا تلد غير الحيَّة» (الخوارزمي، الأمثال المولّدة).
***
د. رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

يبدو أن نمطًا جديدًا من العلاقات الدولية واللغة الديبلوماسية بدأ يطغى على القواعد المعروفة والأعراف والتقاليد الدولية منذ تولّي الرئيس دونالد ترامب مقاليد البيت الأبيض.
ولعلّ هذا التغيّر يحتاج إلى مراجعات استراتيجية وجيوسياسية على الصعيد العالمي وانعكاساتها على صعيد منطقة الشرق الأوسط، بما يستدعي مستلزمات جديدة للتكيّف مع المتغيّرات الحاصلة، لحفظ المصالح الوطنية العليا للدول والشعوب.
ولأن الخيارات أصبحت محدودة، بل يمكن القول ضئيلة، خصوصًا بعد طائفة من المتغيّرات على صعيد المنطقة، فإن الفرص باتت ضيقة، لاسيّما بعد حرب الإبادة على غزّة، والتي استمرّت بأشكال جديدة حتى بعد الهدنة، حيث قامت بعمليات انتقام في الضفة الغربية، فضلًا عن العدوان المتواصل على لبنان وانهيار النظام السوري وهروب رئيسه بشار الأسد، وتراجع الدور الإيراني وضُعف الدور الروسي.
كلّ ذلك كان مغريًا للولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائها الأوروبيين لممارسة المزيد من الضغوط على دول وشعوب المنطقة، خصوصًا وأن المحور الممانع تفكّك عل نحو شديد، وانهارت بعض أركانه، واضطّر إلى تقديم تنازلات في ظلّ اختلال موازين القوى في المنطقة.
ولعلّ المأزق لا يتعلّق بالمنطقة فحسب، بل أن الرئيس الأوكراني زيلينسكي تعرّض إلى الإهانة أمام جمع من الصحافيين لم تألفها الديبلوماسية الكونية في القرن العشرين وربع القرن الماضي من القرن الحادي والعشرين.
ويبدو أن الأمر أصبح عاديًا في ظلّ سياسة جديدة للولايات المتحدة، التي بدأها الرئيس ترامب بإعلان الرغبة في ضمّ كندا وإلحاق غرينلاند بالولايات المتحدة والهيمنة على قناة بناما، والتحلّل من اتفاقيات ومعاهدات والتزامات دولية، بل مطالبة الدول التي سبق أن قدّمت لها الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية أو عسكرية بتسديد ثمنها، ناهيك عن التهديد باتخاذ عقوبات وفرض رسوم جمركية حتى على حلفاء واشنطن الذين يستخف بهم الرئيس الأمريكي.
ثمة تطوّر خطير حصل في المنطقة أيضًا وذلك بالتداخلات التركية في سوريا ونفوذها الذي تعزّز بعد الإطاحة بالنظام السابق، بعد أن كان الشريط الحدودي، السوري – التركي، يتمدّد باتجاه حلب والمناطق المجاورة، ناهيك عن إعلان تركي الحرب على الجماعات الكردية المسلحة "الإدارة الذاتية"، التي تقودها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وبداية معارك بين قوات الجيش الوطني السوري والدولة السورية برئاسة أحمد الشرع وبين القوات الكردية المدعومة أمريكيًا.
يدرك الإيرانيون، الذين تراجع نفوذهم، بأن سقف التفاوض مع الولايات المتحدة قد انخفض كثيرًا، حتى أن الوصول إلى صفقة تحمي ماء الوجه أصبحت صعبة المنال بعد أن كانت متاحة قبل عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر / تشرين الأول 2023.
وتتصرّف الإدارة الأمريكية الجديدة على نحو غير مألوف، وبالضدّ من اتفاقية فيينا بخصوص العلاقات الديبلوماسية لعام 1961، ناهيك عن الأعراف والتقاليد الديبلوماسية، التي استقر عليها تواتر الاستعمال والتكرار، بحيث أصبحت مقبولة ومعترف بها.
التغييرات السريعة ستزيد من أوزان بعض القوى وستضعف من أوزان قوى أخرى، وقد تعزّز الموقف التركي بالتمدد إقليميًا، وإذا كانت سوريا فضاءً حيويًا لها، فإن وجود قواعدها في العراق واستمرار عملياتها العسكرية يجعلها قوة إقليمية كبرى في المنطقة، لاسيّما بعد إعلان زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، عن دعوته لإلقاء السلاح وحلّ الحزب في مبادرة غير مسبوقة ودون أي شروط مسبقة، بما فيها فتح حوار حول حقوق الشعب الكردي في تركيا وضمانات إزاء عدم ملاحقة المنتمين إليه بتهمة الإرهاب، وذلك أقل ما يمكن تحديده من مطالب عامة.
إذا كانت إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة تلجآن إلى الديبلوماسية المزدوجة، أي أن تل أبيب تتغوّل وتتعامل مع قواعد القانون الدولي باحتقار، وواشنطن تبرر وتدعم وتسوّغ، فإن دبلوماسية أخرى بدأت تظهر بحيوية، وأعني بها الديبلوماسية السعودية، وهي دبلوماسية ناعمة تحاول تجنّب الصدامات وتسعى للتقريب بين طهران وواشنطن، لأنها تخشى من رد فعل إسرائيل لارتكاب حماقة قصف المفاعلات النووية، بما سيلحق بالمنطقة من آثار خطيرة عسكرية واقتصادية وسياسية وتداعيات أخرى.
لقد تركت المتغيرات الدولية تأثيرًا سلبيًا على علاقات واشنطن مع الاتحاد الأوروبي، ابتداءً من أوكرانيا ومرورًا بالنقد الشديد لمسار الاتحاد، فضلًا عن التقارب الروسي – الأمريكي، والأمر قد يأخذ بٌعدًا أكثر تطرفًا على الصعيد الأوروبي، لاسيّما بصعود الشعبوية اليمينية المتطرفة في العديد من دول أوروبا، الأمر الذي يٌنذر بتحولات جديدة وربما خطيرة، وتحمل مفاجئات غير محسوبة، قد تؤدي إلى إحداث اختلالات في نمط العلاقات الدولية، بازدراء قواعد القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقيات الدولية، والإطار الناظم للعلاقات الدولية المعروفة، ناهيك عن انهيار القيم الأخلاقية التي كانت تنادي بها الدول الغربية، أو ما يسمى بالعالم الحر، في صراعها مع الكتلة الاشتراكية منذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، بما فيها ما بعد انهيار الأخيرة في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، حيث أصبح قانون القوة هو السائد، وتعود إلى الواجهة مقولة الفيلسوف والسياسي الكبير مكيافيلي، والتي كان يردّدها كثيرًا الزعيم البريطاني تشرشل، "لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة"، وهذا ما قد يضع العالم في عاصفة أو عواصف جديدة لا حدود لها على الصُعد العسكرية والاقتصادية والسياسية.
***
عبد الحسين شعبان

كتب: الب قيصر يليوغلو
ترجمة: علي حمدان*
***

في السابع والعشرين من فبراير/شباط، أصدر عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون ــ الذي خاض نضالاً من أجل الاستقلال ضد الدولة التركية على مدى أربعة عقود ــ إعلاناً دراماتيكياً. فقد دعا إلى حل منظمته ونزع سلاح جميع الجماعات التي تقاتل من أجل تحرير الأكراد، والتخلي عن المطالب السابقة بحل فيدرالي، والدعوة بدلاً من ذلك إلى التحول إلى الديمقراطية داخل الهياكل السياسية القائمة في البلاد. وبعد يومين، أعلن حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار الفوري، متخلياً تقريباً عن طموحاته في الحكم الذاتي. ورحبت القوات الكردية في روج آفا بتدخل أوجلان، وعرض حزب الاتحاد الديمقراطي إلقاء سلاحه طالما كان بوسعه أن يستمر في الوجود كمنظمة سياسية.
كان هذا تتويجا لعملية تفاوض بين الجهات الفاعلة في الدولة والسياسيين الأكراد والتي بدأت في أواخر عام 2024، بمبادرة من حليف أردوغان دولت بهجلي، رئيس حزب الحركة القومية اليميني المتطرف. ومن غير الواضح ما الذي قد يكسبه الأكراد من الصفقة، باستثناء احتمال نقل أوجلان من السجن إلى الإقامة الجبرية. وفي حين تم الترويج للمفاوضات السابقة على أنها "عملية سلام"، فقد جرت هذه المرة تحت راية "تركيا خالية من الإرهاب"، متجاوزة البرلمان وكذلك الوسطاء كطرف ثالث. ومن الواضح أن أردوغان لا يشعر بالحاجة إلى تقديم تنازلات. وتشير التقارير غير المؤكدة إلى أنه قد ينهي الممارسة الواسعة النطاق المتمثلة في استبدال رؤساء البلديات الأكراد المنتخبين بمسؤولين معينين من قبل حزب العدالة والتنمية، في حين يكبح جماح العدوان ضد شمال سوريا الذي يهيمن عليه الأكراد وربما يطلق سراح بعض السجناء. لكن لا شيء من هذا مهم بشكل خاص، وحتى الآن لم تقدم الحكومة أي التزامات حازمة. لقد حصلت على الكثير ولم تقدم شيئا.
لقد حظي بيان أوجلان بإشادة شاملة من جانب المثقفين ذوي الاتجاه السائد والليبراليين والصحافة المؤيدة للحكومة. ولكن على اليسار، كان رد الفعل أكثر غموضا. هل خان اوجلان الأكراد؟ هل يمكن فهم تفكيك حزب العمال الكردستاني على أنه أي شيء آخر غير الاستسلام الكامل؟ ما العوامل التي دفعت إلى اتخاذ هذا القرار؟ للوصول إلى إجابة، يتعين علينا أن ننظر إلى علاقات القوة بين الجهات الفاعلة الرئيسية وحساباتها الاستراتيجية المحتملة. على الرغم من أن نظام أردوغان غارق في أزمة هيمنة استمرت لسنوات، وهزته التقلبات المالية وسوء الإدارة السياسية، فقد خضع أيضًا لعملية توطيد استبدادي. لقد أعيد هيكلة الدولة على أسس رئاسية مفرطة، مما مكن من الاضطهاد الجماعي للمعارضين، الذين سُجنوا بالآلاف. كما استخدم المحسوبية لترسيخ دعمه بين الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم جنبًا إلى جنب مع عمالها، مما أدى إلى تجنب التحديات الانتخابية من المعارضة. وقد أعادت تأكيد شرعيتها من خلال ادعائها الفضل في الإطاحة بالأسد، ووصفت هيئة تحرير الشام المنتصرة بأنها ليست أكثر من وكيل تركي.
في الوقت نفسه، أُجبِر حزب العمال الكردستاني على التراجع. ويواجه حلفاؤه في سوريا مستقبلاً قاتماً في ظل نظام معادٍ، خاضع لتركيا. ولم يعد الدعم الأميركي مضموناً مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض. والواقع أن أردوغان يهدد بالفعل روج آفا بغزو كامل النطاق بمجرد انسحاب امريكا. ومع تراجع أفق التحرر، أصبح السكان الأكراد حريصين بشكل متزايد على تأمين السلام، حتى لو كانت الشروط غير مواتية. وربما حسب أوجلان أنه إذا لم يستجب بشكل إيجابي لعرض الحكومة بوقف إطلاق النار، مهما كان هذا العرض ساخراً وغير صادق، فإنه يخاطر بتنفير الملايين من الناخبين الأكراد ودفعهم مرة أخرى إلى أحضان حزب العدالة والتنمية. ففي نهاية المطاف، أصبح حزب أردوغان مهيمناً في المناطق الكردية في تركيا في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بوعوده بالديمقراطية والسلام ــ وهو السيناريو الذي لا يريد القادة الأكراد أن يتكرر.
يبدو أن القوات الكردية تعتقد أن ابتلاع هذا الطعم المر هو السبيل الوحيد للحفاظ على قاعدتها الاجتماعية وتجنب نهاية عنيفة للحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا. وبذلك، تأمل أن تضع نفسها في موقف أقوى في المفاوضات المستقبلية، سواء مع الحكومة أو حزب الشعب الجمهوري المعارض. ومع ذلك، تظل هناك تساؤلات حول كيفية تنفيذ التفكيك المرتقب لحزب العمال الكردستاني. أصر أوجلان على أن ذلك يجب أن يتم في إطار قانوني وديمقراطي مناسب. ولكن هل توافق الدولة على هذا؟ هل ينحل حزب العمال الكردستاني رسميًا مع الاحتفاظ بالهياكل الظلية غير الرسمية في العراق وإيران في حالة انهيار المحادثات اللاحقة؟ لا يزال مثال فارك الكولومبية، حيث قدمت الدولة ضمانات للمسلحين والتي لم تحترمها إلا جزئيًا، واستمرار الجماعة في حملتها المسلحة ــ حاضرًا في أذهان الجميع.
بالنسبة لأردوغان، فإن الهدف النهائي واضح: تقسيم المعارضة وإطالة فترة رئاسته. ومن خلال طرح احتمالات الحد من القمع على مدى الأشهر والسنوات القادمة، يأمل في إقناع الأكراد بدعم تعديل دستوري يسمح له بالترشح لمنصب جديد، بشروط تجعل من السهل عليه الفوز في الجولة الأولى. وإذا نجح، فقد يؤكد شكوك العديد من ناخبي حزب الشعب الجمهوري في أن الأكراد على استعداد لخيانة مستقبل تركيا الديمقراطي لتعزيز مصالحهم العرقية. ومن شأن هذا النوع من الخلاف أن يجعل من الصعب إلى حد كبير على أي منافس رئاسي - على الأرجح عمدة إسطنبول الحالي من حزب الشعب الجمهوري، أكرم إمام أوغلوا - تشكيل الوحدة بين المعارضة التركية والكردية.
في حين يحاول الأكراد تحقيق أقصى استفادة من توازن القوى غير المتكافئ إلى حد كبير، فمن الواضح أن احتمالات السلام المستدام في ظل حكم أردوغان وبهجلي معدومة. فقط اجندة التحول الديمقراطي الحقيقي التي لا تقدم تنازلات للقوى الانعزالية القومية والرجعية، والذي يرتكز على النضال الاجتماعي المتجاوز للخطوط العرقية يمكن ان يغير المعادلة. ولا ترغب أحزاب المعارضة الرئيسية في مثل هذا التوجه. وحتى تظهر مثل هذه الحركة، فمن المرجح أن تستمر الاردوغانية في إملاء شروط السلام.
***
* كاتب ومترجم عماني
نيولفت ريفيو 7 مارس, 2025

 

تتداخل هنا المعوقات او العوامل المانعه دون تحقق الادراكية اللازمه في حينه والى الساعه، وعلى رأسها مسالة التفارقية النوعية النمطية المجتمعية، وما هو متوافق منها مع الصيرورة المجتمعية وافاقها المقررة، مقارنة باخرى غيرها، ربما تكون مهيأة لان تكون اكثر من غيرها حاضنه للافتتاح الانقلابي الالي ،ولبداياته تحديدا، وهو مالا يمكن مقاربة اسبابه الخارجه عن الطاقة الاعقالية الادراكية البشرية بما يخص ويتعلق بمنطوبات الظاهرة البشرية الحياتيه عموما، والمجتمعية كمحطة متقدمه، وربما اخيره من محطاتها المحسوبة والمدروسة اتفاقا مع الوجهه المقررة للوجود الحياتي المجتمعي.
من هنا وبناء عليه، يمكن ان يتم التوقف عند احتمالية انبثاق الالة في غير الموضع او نوع المجتمعية المطابقة لمنطواها، ولما هي موجودة لكي تحققه ضمن المسار المجتمعي، ووقتها يواجهنا الاصعب على مستوى الادراكية، وفي حين يتم الانغماس القصوري فيما حاصل في الموقع الذي عرف قبل سواه انقلاب الاله والرضوخ لابل الانسحاق تحت وطاتها، حيث لن تكون واردة باية حال احتمالية ذهاب التفكير والطاقة العقلية الادراكية، للبحث في مدى تطابق الكينونه النمطية المجتمعية الاوربية مع الغرضية الاليه، علما بان الغرضية المشار اليها مبهمه ماتزال وتظل كذلك مادامت متبقيات ومفاعيل الادراكيىة اليدوية ماتزال حاضره على مستوى المعمورة ككل.
هل الاله عنصر تقدم مجتمعي بالقياس لماقبله وحسب، ام هي قوة انقلاب من المجتمعية الجسدية الى العقلية؟ هذا سؤال من المستحيل وروده ابان الطور الانقلابي الالي الافتتاحي، لسبب رئيس هو الاخر نتاج القصورية العقلية التي تظل مرافقة لعلاقة العقل البشري بالظاهرة المجتمعية، فلا تقاربها عجزا، الى ان يفتتح الغرب بمناسيبة الانقلابيه المستجده بين تضاعيفه هذا الميدان مطلقا عليه تسمية "اخر العلوم" مع كل مايمكن توقعه ساعتها من احتمالية عدم النضج والاولية الابتدائية، بعد طور القرون الماضية من الانعدام الكلي للمجال او الميدان المعرفي الاساس والضروري ضرورة غير عادية، لاجل التعرف عل الذاتيه والجوانب الاهم من الحقيقة الوجودية ومآلاتها.
وياخذنا الامر لهذه الجهه الى الاهم والجوهر في الاكتشاف المستجد المجتمعي والنظر فيه، والذي يبقى خافيا ومبعدا عن الوعي والانتباه، ومن ثم عن البحث الضروري اللازم الذي لاعلم اجتماع من دون كشف النقاب عنه، ذلك هو مايعود للتحري فيما اذا كانت الظاهرة المجتمعية احادية او ازدواجيه كينونه وبنية نمطية؟ الامر الذي كان من شانه قلب كل الاستراتيجيات الحياتيه البشرية، بعد ان يكون قد غير، لابل قد قلب تماما اللحظة الانقلابيه على اهميتها الابتدائية، بحيث نصبح امام انقلابيتين كبريين، احداهما عملية انقلابيه والاخرى رؤيوية مواكبه ولازمه مقترنه بالانقلاب الحاصل ومكمله ضرورة له ولمنطوياته، واين هو ذاهب موضوعيا، وهو ماقد ظل خارج الادراكية، مكرسا الفصل بين الاله والوعي بها وبمنطواها الفعلي التحولي الانقلابي النوعي.
هل المجتمعية تنشأ بالاصل لاارضوية وتعيش تاريخها اليدوي كله تحت وطاة الغلبة المفهومية للنوع المجتمعي الاخر الارضوي، والاهم هل ياترى قد حلت ساعه نزع الهيمنه الارضوية على الادراك البشري؟ هنا يتمثل السؤال الحاسم الانقلابي والاعظم الذي به ومعه يمكن تصور الانقلابيه التاريخيه ممكنه وقابلة للتحقق،والا فان الاله لن تورث بالاخص مع انبجاسها في المجتمعية الارضوية،الا التوهميه والرؤية القاصرة الموروثة، معدلة او محسنة تحت طائلة وتبرير مايتولد ساعتها من انقلابيه في الممكنات وافاق التحقق العقلي مافوق اليدوي، والمتعدي له بمراحل، تتحول حكما الى سبب مقنع يكرس التوهمية الكبرى جاعلا منها لحظة تقدم اكبر، وحلول للعلم والعقلانيه، محل الخرافة والتدني الادراكي.
على هذا المنوال كان لابد من انتظار المسافة التوهمية المرافقة للانتقالية الاليه كمحطة انتقالية سابقه على توفر الاسباب الضرورة، حين تصير الانتقالية الانقلابيه مدار البحث مكتملة عناصرا، الامر الذي كان يوجب مرور المجتمعية القائمة واالغالبة منها الارضوية، بفترة اولى من الاصطراعية الالية مع البنية المجتمعية الموروثة، بعد دخول عنصر الالة عليها الامر الذي كانت الالة بذاتها تحتاجه حتى تكتمل هي بالذات، متجاوزه الصيغة الاولى الافتتاح التي كان لها ان تظهر وقتها بصيغة المصنعية، بما يعني خضوع الالة خلاف المعتقد الى مسار من التحول الاصطراعي قبل ان تكتمل بنيه ونوعا، اي ان الالة ليست كما قد قرر من نظروا اليها ابتداء، بل ماهي، وماستكون عليه عند نهياة الاصطراعية الثلاثية التي تتولد عنها وبسببها، حين تصبح تكنولوجيا عليا مابعد التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، مع المتغيرات المواكبه المجتمعية الناجمه عن الاصطراعية المستجده، والتي تصيب البنيه المجتمعية الارضوية بالانحلال تباعا وباطراد في عقر دارها حيث تنبجس الاله، بينما تكون الكيانيه الامبراطورية والمجتمعية الامريكية المفقسة خارج رحم التاريخ قد دخلت التفاعلية الرئيسية وريثة للغرب الاوربي، متحولة لمركز قياده منذ اكثر من قرن مضى.
تتداعي البنية والكينونه المجتمعية الارضوية بصيغتها الازدواجية الطبقية، وموضع انبثاق الاله لصالح بنية اخرى قارية، تقوم على افناء ستين مليونا من السكان الاصليين، بلا تاريخ بنيوي، ولا طبقات، تعتاش على الفكرة المنقضية الليبرالية الاوربيه، وعلى الرسالية الزائفه، بينما تنتقل بالالة الى التكنولوجيا الانتاجية، والى اخراج الانتاجية من نطاق الكيانيه المحلوية / الوطنيه، الى العولمة المخترقة للسيادات الكيانيه، ووقتها تكون اللاارضوية هي الصيغة والكينونه المجتمعية المطابقة للحظة، ولنوع الانقلابيه الفعلية مابعد المجتمعية، ومافوق الكيانيه الوطن قومية، وماتتطلبة من منظور غائب ومؤجل على مدى الطور اليدوي والعتبة الافتتاحية الالية ، بانتظار الانقلاب بالفكرة لاارضويا، في الوقت الذي تحضر فيه التكنولوجيا مافوق الارضوية ومافوق الجسدية، حيث وسيله الانتاج المستجده عقلية بالدرجة الاولى، ذاهبة بالبنية المجتمعية وماتبقى منها خلال ماقد تعرضت له خلال الاصطراعية المصنعية، ومن ثم التكنولوجية الانتاجية من تاكل، الى مابعد مجتمعية جسدية ارضوية حاجاتيه، والى مافوق مجتمعية ذاهبة الى التحلل كما كانت بالاصل قد صممت تصيرا ومسارا.
الانقلاب الالي انقلاب نوعي مشابه للانقلاب من (الصيد واللقاط)، ال (التجمع + انتاج الغذاء)، بدايته غير لحظة تحققه، ومختلفه عنها، بالاخص على مستوى الادراكية والوعي، بالذات بالظاهرة المجتمعية، تحديدا مايتعلق بخاصيتها الازدواجية الارضويه الجسدية الحاجاتيه، ومقابلها اللاارضوية العقلية مافوق الجسدية، والمتحررة منها ومن وطاتها ومتبقياتها الحيوانيه العالقة ماتزال بالعقل، جوهر الكينونه المجتمعية البشرية المغادر للكوكب الارضي الى الكون اللامرئي.
***
عبد الأمير الركابي

يقول ميشيل فوكو، في حفريات المعرفة، السياسة هي حرب مستمرة بطرق اخرى، عكس ان الحرب هي سياسة بطرق اخرى عنيفة، فمازالت آليات القوة تمارس حرب دائمة حرب صامتة، وبحسب حفرياته، فأن كل اشكال الحداثة ومؤسساتها تكريس لتلك الاليات المتجذرة في وحشيتها برغم واجهاتها المدنية البراقة التي توحي بالانسلاخ عن العمق السحقيق والحاضر باقسى صوره البشعة في اسلوب القتل الجماعي المنظم، والمغلف بكل انواع التحديث، السجون المدارس المستشفيات الاعلام.. ليس الفرد من يصنع السلطة كما تتبجح صناديق الاقتراع انما السلطة من يصنع الفرد، وبالتالي مازال الفرد خادم للسلطة وليس العكس، والسلطة تمارس السياسة التي هي حرب دائمة، والمحرك لا زال هو هو، اللاعدالة وتحديدا الاقتصادية، اما عن العلوم الانسانية فيقول انها تعكس مناخ السلطة السائدة، هي علوم للسيطرة على الانسان وليس لفهمه، والتاريخ اصبح تاريخ لذرائع السلطة التي مازالت هي ذاتها منذ قيام الدولة، وحتى الساعة حارسة للملكية المقدسة والتفاوت الطبقي!
قال نيتشة في شطحة من شطحاته الفذة: حذار وانت تحارب الوحوش ان تتحول الى وحش مثلهم تماما. وكل حروب بني البشر وحشية حتى اقدسها تلك التي تتقيد بوصايا الرب الذي صنعته سيرورة السلطة المطلقة لتجعلها اكثر اخلاقية!
وهذا ابن خلدون يجمل المعنى عندما يقول: إعلم ان السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره!
الحروب قاعدة والسلام إستثناء!
لا يمر يوم من ايام المجتمعات البشرية دون حروب، وما ايام السلام إلا نوعا من الاستعداد لها، او محاولة تأجيلها، او تفاديها بتقديم دياتها للغزاة او المبتزين، او الفرار منها بالهجرة الى ارض بعيدة كما كان يحصل ايام الوحشية والبربرية والمدنية البكرية، ما قبل الحداثة، وفي مجتمعات الحداثة تكثفت الحروب وصارت اكثر نظامية وتأثيرا وسرعة، خاصة بعد ان تبلورت الاشكال السياسية للدول الحديثة وجرى التوافق بينها على حدود الاقاليم وحصانتها النسبية، فالارض كلها قد تم تأطيرها، بالامر الواقع، والتبعية، القارات الخمس والجزر المحيطة بها دول معترف بها او كيانات تابعة، وتدريجيا اصبح معظمها ممثلا في منظمة الامم المتحدة، وقبلها كانت الامبراطوريات الامبريالية الاوروبية والامريكية الشمالية تستعمر اغلب شعوب وكيانات اسيا وافريقيا وامريكا الجنوبية ومازالت آثار هذا الاستعمار ظاهر برغم موجة الاستقلال السياسي والتحرري التي غمرت اركان المعمورة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة 1991، وبقي بعضها خاضعا بشكل او بآخر لنفوذ الاقوياء والمهيمنين عالميا، حتى على القطبين المتجمدين الشمالي والجنوبي، تم رسم مناطق نفوذ بين الدول صاحبة القدرة على التوسع والاستحواذ والاستكشاف، وصار ديدن الاستكشاف اسلوب عمل لفائض القوة من اجل المزيد منها، لبسط النفوذ والتنافس على اسباب القوة المضافة، وقد انتقل هذا الديدن نحو الفضاء، بعد ان استغرق ما فوق وتحت سطح اليابسة بما فيها المتجمدة، وكل محيطاتها ومسطحاتها المائية،، غرين لاند، القريبة من امريكا مثلا تابعة للدنمارك، فوكلاند، القريبة من الارجنتين تابعة لبريطانيا، الضفة الغربية وقطاع غزة التابعة للشعب الفلسطيني مازالت محتلة بقوة البطش الاسرائيلي المدعوم امريكيا!
اوروبا اكثر قارات العالم حروبا وقتلا على مر العصور لكنها شهدت فترات استراحة وإعادة شحن بانتظار التنفيس القادم!
حروب لا تنتهي!
اكتشاف الامريكيتين واستراليا من قبل الاوروبيين كان ذروة تاريخية في حروب الغزو والازاحة والابادة، وقد اضافت لهم مصادر نوعية لمضاعفة فائض قوتهم الاقتصادية والحربية والتقنية وبسط نفوذهم على ارجاء العالم، امبراطوريات لا تغيب عنها الشمس، بريطانيا العظمى وفرنسا واسبانيا والبرتغال وايطاليا، حتى بلجيكا وهولندا، استعمروا العالم القديم والجديد، بحروب تلد اخرى!
***
جمال محمد تقي

معاوية ومسلسل المئة مليون دولار: حين راج خبر انتاج مسلسل "معاوية" قبل سنتين، كتبتُ مقالة بعنوان "مسلسل معاوية: بين محاذير الفتنة ولا جدوى المنع/ الأخبار – 26 شباط 2023"، ناقشت فيها التداعيات الاجتماعية والسياسية المحتملة لتسويق وبث هذا المسلسل. وخلصتُ إلى أن اعتماد طريقة منع وحظر الأعمال الفنية لم تعد مجدية في زمن الفضاء الإعلامي المفتوح وأتيت بأمثلة عملية تدعم هذا الرأي، وإلى أن الجهد التثقيفي النقدي والمنهجي الذي يواجه أعمالاً كهذه يبقى أكثر فائدة وجدوى، وأصح من حيث المشروعية المدافعة عن الإبداع الفني والأدبي ضد قرارات المنع والتحريم والقمع.
واليوم، وقد أُنتِجَ مسلسل معاوية بميزانية ضخمة فاقت مائة مليون دولار، وشرعت شبكة قنوات (MBC) السعودية ببثه، أعود إلى هذا الموضوع، لتسجيل بعض الأفكار والملاحظات حوله بعد مشاهدة بداياته، على أمل العودة إليه في مقالة أخرى بعد اكتمال عرض حلقاته خلال شهر رمضان الجاري.
المسلسل من إخراج الفلسطيني الأميركي طارق العريان، الذي عُرف بإخراج العديد من الأفلام والكليبات الغنائية، وتأليف الإعلامي والممثل ومقدم البرامج المصري خالد صالح، أي أنَّ الرجلين لا علاقة لهما بالتأريخ والأعمال الفنية التأريخية وخاصة التأريخ العربي الإسلامي ودقائقه. وقد قالت صحيفة "المصري اليوم - عدد 4 آذار - مارس 2025" على موقعها على النت، نقلا عن المخرج أحمد مدحت، أن المخرج طارق العريان انسحب من إخراج الفيلم وطلب رفع اسمه من المسلسل وفعلا لم يظهر اسمه في الحلقات الأولى وحل هو محله تحت عبارة "رؤية إخراجية: أحمد مدحت". والسبب كما قال مدحت هو استياء العريان من التعديلات الكثيرة التي أجريت على المسلسل أثناء عملية مراجعته من قبل هيئة العلماء في السعودية، وهو ما أدى إلى تعديلات عدة على محتواه. ومن الجدير بالذكر أن المخرج البديل عُرف بأنه مخرج شاب أنجز بعض الأفلام الوثائقية وعدد من الأفلام الروائية القصيرة، بمعنى أنه لا يختلف كثيرا عن العريان في موضوع إخراج المسلسلات والأعمال الفنية التأريخية. وذكر أنباء أخرى أن العريان ربما يكون قد عاد كمخرج للمسلسل ولكن اسمه لم يظهر معه! ومن الجدير بالذكر أن المخرج البديل عُرف بأنه مخرج شاب أنجز بعض الأفلام الوثائقية وعدد من الأفلام الروائية القصيرة، بمعنى أنه لا يختلف كثيرا عن العريان في موضوع إخراج المسلسلات والأعمال الفنية التأريخية.
معاوية شخصية تأريخية تأسيسية
إنَّ معاوية بن أبي سفيان شخصية إسلامية - بمعنى من داخل السردية الإسلامية بكل ما فيها - وهي شخصية من الوزن الثقيل بالمعنى التأريخي النقدي المحايد، ومن حيث المساحة الحَدَثيَّة التأريخية، وليس بالمعنى المعياري الديني المذهبي والفقهي ضمن ثنائيات من قبيل؛ مؤمن كافر/ حرام حلال، فلا يدخل هذا المعنى ضمن اختصاصي واهتماماتي النقدي لأنه من مشمولات رجال الدين والفقهاء لا المؤرخين والباحثين.
ومعاوية شخصية استثنائية تأسيسية بالمعنى الجوهري والمضموني؛ فهو أول حاكم "مَلك" عربي ساد قومَهُ بالقوة المادية الغاشمة والدهاء السياسي بعد ظهور الإسلام، وحوَّل الحكم الشوروي القائم على البيعتين الخاصة والعامة إلى حكم ملكي وراثي مع كل مظاهر الحكم الكسروي الهرقلي الاستبدادي العنيف الذي كان قائماً آنذاك، وجاءت الموجة العربية المسلمة من جزيرة العرب لتكتسحه وتدمره.
أعتقد أنَّ الهدف الإعلامي والسياسي الأساسي لهذا العمل التلفزيوني هو تسويغ وشرعنة الحكم الملكي الوراثي الاستبدادي الذي أسسته الأسرة الأموية، ومن بعدها العباسية والفاطمية والدفاع عنه حتى حين بلغ ذروته في حكم الحق الإلهي المقدس، وتحول الحاكم إلى "ظل الله في الأرض"، أو بكلمات المنصور العباسي (إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتأييدهِ). هدف المسلسل إذن، تسويغ وشرعنة هذا الحكم الطاغوتي الوراثي الاستبدادي، دينياً، في عصرنا الحاضر على حساب حكم الشورى الأقرب جوهراً إلى مفهوم الديموقراطية والمساواة.
وعلى أساس هذه الفكرة الجوهرية، فكرة التفريق بين الخلافة الشورية والمُلك العضوض (حكم فيه ظلم وعسف واستبداد)، نهض كتاب "الخلافة والمُلك" بقلم أحد أركان السلفية الإسلامية المعاصرة - وياللعجب - هو أبو الأعلى المودودي. وفي هذا الكتاب نجد نقداً لاذعاً وعميقاً لا هوادة فيه لمعاوية بن أبي سفيان حيث يعتبره المؤلفُ مسؤولاً عما حدث للإسلام والمسلمين بعد انقضاء العهد الراشدي، مع أن المودودي لم يكن ممن يلعنون معاوية كبعض العلماء السنة من مثل عبيد الله بن موسى العبسي شيخ البخاري، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وهو أستاذ الإمام أحمد، وصاحب "المصنف" كما يذكر الباحث عدنان إبراهيم، بل كان المودودي يترضى عليه أحيانا و"يعترف بأفضاله ومحامده" ولكنه لا يرى بأساً من أن يقول إنه أخطأ حين أخطأ ص97. ويسجل المودودي في هذا الكتاب أن الخطأ الفاحش الذي ارتكبه الخليفة الرابع علي بن أبي طالب هو أنه تأخر كثيراً في عزل عامله على الشام معاوية، وكان يسمع لرأي المغيرة بن شعبه الذي كان ينصحه بعدم عزل معاوية واستفزازه، فيما كان عليه أن يعزله قبل أن يستفحل خطره ص84.
مَن بدأ بتوريث الحكم في الإسلام؟
وقد يقال إنَّ معاوية وعشيرته أمية لم يكونوا الوحيدين أو البادئين بالحكم الوراثي في السردية الإسلامية، فالعلويون قالوا به، وبايعوا الحسن بن علي بعد اغتيال أبيه. وقد يبدو هذا صحيحاً شكلاً ومظهراً، ولكن إذا شئنا الدقة التأريخية فلا يمكن اعتبار مبايعة الحسن بالخلافة توريثاً صريحاً مستوفياً لأركان الوراثة المعروفة. فالإمام علي - كما تنص على ذلك جميع المصادر السُّنية بخلاف الشيعية التي تعتقد بالوصية والإمامة المعصومة المتوارثة- لم يوصِ بها لابنه الحسن، بل ترك الأمر شورى بين المسلمين، فبايع الخاصةُ والعامةُ الحسنَ خليفةً.
وقد اعتبر جَمعٌ من علماء أهل السنة والجماعة أن فترة الستة أو الثمانية الأشهر التي تولى فيها الحسن الخلافة تعدُ جزءاً من الخلافة الراشدة ومكملة لها ومنهم: أبو بكر بن العربي والقاضي عياض وابن كثير وابن أبي العز، ومحمد عبد الرؤوف المناوي.
-لقد تنازل الحسن عن الخلافة طوعاً لمعاوية وليس لأحد بنيه أو إخوته بعد الصلح الشهير معه، وقبل أن يكمل عامه الأول، على أن تعود له من بعده. فلم يف معاوية بوعده في هذا الصلح ذي الشروط الخمسة عشر مع الحسن، بل تتهمه بعض مصادر التراث بأنه غدر بالحسن واغتاله بالسم، ليخلو له الجو فيوَّرث المُلكَ بعد موته إلى ابنه يزيد. ويعلل ابن خلدون - وهو سفياني الهوى- ذلك في المقدمة كالتالي: "وقد عهدَ معاويةُ إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم، فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه، مع أن ظنهم كان به صالحاً، ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظن بمعاوية غيره، فلم يكن ليعهد إليه، وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق، حاشاً لله لمعاوية من ذلك/ المقدمة ط3، 1981، ج2، ص603".
أما الحقيقة التي ترويها مصادر التراث الإسلامي فتقول شيئا آخر حول توريث معاوية الحكم لابنه يزيد فقد خطب في المدينة طالباً البيعة لابنه. وحين لم يجد تجاوبا، بل كان المسلمون وفي مقدمتهم أبناء الصحابة يردون عليه بجفاء، قال معاوية: "أقسم بالله لئن رد عليَّ أحدكم كلمةً في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها السيف إلى رأسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم فقال: أقم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين ومع كل واحد سيف، فإن ذهب رجل منهم يرد عليَّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهم. ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم لا يُبتُّ أمرٌ دونهم ولا يُقضى إلا عن مشورتهم، وإنهم قد رضوا وبايعوا ليزيد، فبايعوا على اسم الله! فبايع الناس... فلقي الناسُ أولئك النفرَ فقالوا لهم: زعمتم أنكم لا تبايعون فلمَ بايعتم؟ قالوا: كادنا وخفنا القتل/ ورد الحدث في غالبية المصادر الإسلامية القديمة ومنها (الكامل في التاريخ - ابن الأثير - ج 3 - الصفحة 511) و (العقد الفريد ج 4 ص 372).
ومعروف أن بني العباس سلكوا طريق الحكم الملكي الوراثي العضوض أيضا، وحتى العلويون في طورهم الشيعي اللاحق حيث جعلوا نظريتهم في الحكم تقوم نظرياً وعملياً على أساسه في الدولة الفاطمية بمصر. وفي الممالك والسلطنات الإسلامية الوراثية وآخرها العثمانية التركية، والسعودية في نجد والحجاز، والعلوية الإدريسية في المغرب الأقصى والهاشمية في العراق والأردن.
معاوية وأمه هند والطلقاء
لقد أحدث معاوية بن أبي سفيان أحداثاً جساماً وجذرية في تأريخ الإسلام يمكن وصفها بالثورة السياسية والاجتماعية الضخمة - وقد يسميها بعض المعاصرين ثورة مضادة من حيث الجوهر - حين أنشأ أول إمبراطورية تدين شكلا بالإسلام وتُساس بالاستبداد العنيف الذي جاء الإسلام ليطيحه.
وبالعودة إلى الحلقة الأولى، وبعد خمس دقائق فقط من بدايتها ومشاهدة ولادة هند بنت عتبة (الممثلة التونسية سهير بن عمارة) لابنها معاوية (يؤدي دوره الممثل السوري لجين إسماعيل)، يقفز المؤلف، إلى معاوية وهو في السابعة أو الثامنة من عمره يقرأ رسالة كُتبت على رقٍّ من أخته رملة التي آمنت سرا بالإسلام، وهربت من دار أبيها ليلا مع المهاجرين المسلمين إلى الحبشة. وفي رسالتها تدعو رملةُ أخاها معاويةَ إلى الإيمان برسالة الإسلام فيخرج الصبي معاوية ليلاً في الصحراء وهو يصرخ باسمها، ويظل حزينا عليها لا يكاد يترك رسالتها إليه!
-هكذا ينفتح المسلسل ومنذ دقائقه الأولى على تفصيلة صغيرة يُراد بها تأكيد أن معاوية كان قريباً روحياً من أخته المسلمة، ومتعلقاً بها عاطفياً وبالتالي بالإيمان بالدين الجديد الذي اعتنقته. ليس من السهل تأكيد وتوثيق هذه القصة الصغيرة في السردية الإسلامية التراثية، فمن كان يهتم بصبي صغير ويدون أحداث طفولته عصر ذاك. ولكن كيف تصح هذه الجزئية، وصاحبها وبطل هذا المسلسل الباهظ التكاليف من الطلقاء، أي من الذين أسلموا كرهاً بعد فتح مكة، وسيطرة المسلمين عليها وتدمير الأصنام والأوثان في كعبتها؟
يربو عدد الطلقاء وفق المصادر الإسلامية على ألف شخص منهم جميع أفراد أسرة أبي سفيان باستثناء أم المؤمنين رملة "أم حبيبة" التي تزوجها النبي بعد عودتها من الحبشة كما يسجل المودودي في كتابه "الخلافة والمُلك". ومن الجدير بالذكر أن أم حبيبة لم تكن ممن يساومون على دينهم حتى مع أقرب الناس إليها؛ وقد زارها والدها أبو سفيان في المدينة قبل فتح مكة، وهي زوج النبي. وحين دخل أبوها غرفة النبي طوت أم حبيبة فراش الرسول ورفعته وتركت أباها واقفاً. فسألها معاتباً لِمَ فعلت ذلك؟ فردت عليه كما أورد ابن عساكر في التاريخ (79/150) وابن سعد في الطبقات (8/79) الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (7/653)، الحافظ الذهبي في «السير» (2/222- 223) وضعَّفه محدثون آخرون: "هذا فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت امرؤ نجس مشرك. فقال: يا بُنية قد أصابك بعدي شر".
-بعد سبعة عشر دقيقة من الحلقة الأولى، يقفز المؤلف ثانية بمعاوية إلى عمر شاب في الثامنة عشرة وهو يرافق والده في تجارته إلى الشام. وأقل ما يقال هنا إنَّ هناك انعداما للتوازن الحدثي والزمني في كتابة السيناريو هو الحاضر. كما أنَّ هناك إهمالاً متعمداً لأمور وأحداث خطرة كثيرة بخصوص ماضي وسمعة هند بنت عتبة أسال القدماء حولها مداداً وفيراً. من ذلك مثلاً ما كتبه ابن كثير في "البداية والنهاية" وغيره كثر حول اتهام زوجها الأول الفاكه بن المغيرة المخزومى لها بالزنا، ورحلتها إلى اليمن لتحكيم كاهن عرّاف هناك في اتهامها...إلخ! لقد حذف المؤلف كل هذه الأحداث، وطهَّر هند أم معاوية منها تطهيراً بأن بدأ الحلقة الأولى منها بولادة معاوية "ثمرة قلبها" كما كانت تناغيه.
تغييب "آكلة الأكباد" في المسلسل
لقد كانت مشاهد معركة (أحد) بحضور هند أم معاوية، قصيرة ومضطربة إخراجياً. وحذف المؤلف والمخرج أحداثاً مهمة منها، وتحديداً، حذف ما قامت به هند مع جسد الشهيد حمزة عم النبي حين التهمت كبده بعد أن اغتاله عبدها وحشي بأمر منها، ومذ ذاك أصبح المسلمون يلقبونها بهند آكلة الأكباد، وهو الحدث الذي أولاه مصطفى العقاد صاحب فيلم "الرسالة" الشهير أهمية خاصة وقدمه بطريقة فنية وإخراجية معبرة أبدعت فيها الفنانة الكبيرة منى واصف.
ولمزيد من الإطراء والتطهير لابنها معاوية فقد أظهره لنا المسلسل حزينا لهزيمة المسلمين في أحد، مكرِّرا لعبارات السلام والعقلانية، مجادلاً أمه حول أن النبيَّ محمداً ليس ساحراً كما تقول بل إنَّ ما يقوله هو الحق. ولكن ذلك لم يدفع معاوية لإعلان إسلامه أو يمنعه من حضور إعدام الأسير المسلم خبيب بن عدي في مكة. وهنا يظهر الحزن والتكدر على معاوية لقتل الأسير المسلم! فهل سمع أهل المسلسل بقصة الصحابي الجليل حُجْر بن عدي، والذي أمر "الخليفة" معاوية بقتله صبراً "بالإعدام ذبحا" لأنه لم يتبرأ من علي بن أبي طالب ويسبه علناً. و"القتلُ صبراً" فعل كانت العربُ تنفر وتشمئز منه لخسته وتعتبره فعلاً منحطاً لا يقوم به إلا جبان رعديد لا علاقة له بالفروسية.
ومن الجدير بالذكر هنا، أن عناصر من مجموعات سلفية وهابية مسلحة سورية، تفاخر بولائها لدولة بني أمية، نبشت في 27 أبريل، 2013م قبر الصحابي الشهيد حُجر بن عدي في مدينة عدرا في ريف دمشق واستخرجت الجثمان ودفنته في مكان غير معروف في إهانة سمجة وتدنيس للقبر وصاحبه الذي قُتل ظلما قبل أكثر من ألف عام!
-وفي الدقيقة 31 من الحلقة الأولى يطل علينا معاوية من ريف دمشق فارساً أنيقاً وقد صار رجلاً تجاوز الثلاثين من عمره تقريباً والسنة هي السابعة للهجرة (629 م تقريبا)، كل هذا في نصف ساعة من الحلقة الأولى في مسلسل من ثلاثين حلقة!
ثم جاء استدعاء هِرَقْل ملك الروم لأبي سفيان التاجر وابنه معاوية ليستخبر منهما عن هوية النبي الجديد في بلدهما الحجاز، وتم اللقاء بهما في قاعة بائسة أشبه بحمام تركي عتيق مهجور. فهي شبه مظلمة في قلعة أثرية متآكلة على وشك الانهيار، كالحة ومجردة من كل بهاء وزخارف تميزت بها قاعات البلاط البيزنطي المعروفة بفخامتها، فأين، يا ترى، ذهبت المائة مليون دولار التي خصصت لإنتاج المسلسل إنْ لم تظهر في ديكورات بلاط هرقل؟!
-تنتهي الحلقة الأولى من المسلسل بمشهد معاوية بن أبي سفيان وهو (لابس أبيض في أبيض) ويتوضأ ليصلي صلاة المسلمين، ثم بلقطات من مشهد دخول جيش المسلمين إلى مكة فاتحاً، فعودة إلى معاوية وهو يصلي، ومع صوت في الخارج ينادي مكررا أمر الرسول: "مَنْ دخل بيت أبي سفيان فهو آمن". وهنا يرفع معاوية يديه مؤدياً صلاة المسلمين مكبراً بصوت خاشع لا يخلو من حماسة: الله أكبر!
إن المشهد الختامي للحلقة الأولى يُظْهِرُ معاويةَ وكأنه كان مسلماً مجاهداً في السر طيلة حياته، بل ربما يذهب الظن بمن لا يعرف تأريخنا إلى أن معاوية هو الذي فتح مكة ببطولته الشخصية! وكل هذا في الحلقة الأولى فقط من مسلسل في ثلاثين حلقة، حرص أهل المسلسل على أن تكون بجرعة كبيرة من الترويج والحماسة للتجربة الأموية إلى درجة تصدم المشاهد وترفع سقف الأهداف المتوخاة ألا وهي: تسويغ وشرعنة الملكية الوراثية الكسروية القيصرية، وتطهير وتنقية مؤسسوها ورموزها؛ معاوية وأبيه أبي سفيان وأمه هند على حساب التأريخ ومبادئ دولة الشورى والبيعتين.
***
علاء اللامي - كاتب عراقي

 

قبل أسبوع من لقائه العاصف مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إنه يسعى إلى التوافق مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على طريقةٍ لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وأشار ضمنياً إلى أنه لا يحتاج إلى استئذان الأوكرانيين، حتى لو تعلَّق الأمر ببلدهم. لكن إذا كان زيلينسكي يودّ مناقشة المشروع الأميركي، فليمنح واشنطن امتيازاً خاصاً للتحكم في المعادن الثمينة التي تفخر بها أوكرانيا.
في الوقت ذاته تقريباً، أعلن ترمب خطة لتحويل قطاع غزة إلى منطقة ترفيهية، تديرها الولايات المتحدة، وتوفر مجالاً مشتركاً للمصالح الاقتصادية لكل من العرب والإسرائيليين والأميركيين. وقيل إن مبعوثي البيت الأبيض تحدثوا فعلياً مع دول عدة سيهاجر إليها سكان غزة، من سوريا إلى الأردن ومصر حتى شمال الصومال.
وكما في المثال الأوكراني، لم يتحدث الرئيس الأميركي مع أصحاب الشأن، أي سكان غزة، ولا مع الحكومة الفلسطينية، قبل أن يطرح هذا المشروع الذي سيغيِّر حياتهم إلى الأبد.
وقبل مشروع غزة، أخبر ترمب مواطني كندا بأنه يريد ضم بلدهم إلى الولايات المتحدة لتكون الولاية 51. كما أخبر حكومة الدنمارك بأنه يريد شراء جزيرة غرينلاند، وأخبر حكومة بنما بأن واشنطن تريد استعادة السيطرة على قناة بنما، التي تخلَّت عنها نهاية 1999. وفي هذه الأثناء أعلن فرض رسوم جمركية على واردات الألمنيوم والصلب، وهو قرار يؤثر على الصادرات الصينية، ويؤثر بدرجة أكبر على أستراليا، الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في منطقة المحيط الهادئ.
هذا «بعض» ما فعله الرئيس خلال 6 أسابيع من توليه السلطة. وهو يكشف عن نوعية العمل السياسي المتوقَّع أن تشهده العاصمة الأميركية في السنوات الأربع القادمة. بعض المحللين تحدث عن تغير في المزاج العام للمجتمع الأميركي، وأن الطريقة التي ظهر بها الرئيس ومساعدوه، هي مجرد صورة مكثفة للتغير المذكور. ويؤيد هذا التحليل استطلاعات رأي أُجريت بعد لقاء ترمب - زيلينسكي. أظهرت هذه الاستطلاعات أن نصف الأميركيين تقريباً يتبنون موقف رئيسهم بشأن أوكرانيا والصين. لكنَّ استطلاعات رأي أخرى أظهرت أن شعبية الرئيس ما زالت دون المتوسط العام لشعبية الرؤساء السابقين في الأسبوع الرابع من تولي السلطة. وهذا يتعارض مع الفرضية السابقة.
ويبدو لي أن ترمب يحمل سمات واضحة لزعيم شعبوي يتبنى رؤية مغايرة كلياً للتقاليد السياسية السائدة بين النخبة. ولعلها -لهذا السبب بالذات- قوية التأثير في القاعدة الجماهيرية. تتمثل هذه الرؤية في الشعار الانتخابي «فلنُعِدْ لأميركا عظمتها المفقودة».
ينطوي هذا الشعار على إدانة ضمنية للنخبة السياسية، ودعوة للشريحة الاجتماعية التي تصنف نفسها حاميةً للهوية الأميركية، كي تتحد مع الرئيس في تلك المهمة. يستعمل ترمب وفريقه الأدوات الدعائية ذاتها التي يستعملها الزعماء الشعبويون؛ من تأجيج الشعور بالتفوق على الأمم الأخرى، إلى التشكيك في نزاهة النخبة، وخصوصاً التركيز السلبي على أشخاص بعينهم، بوصفهم رموزاً للفشل، إلى تبني مبادرات ضخمة وسريعة، تُصحح الاختلالات والأخطاء.
وبالتوازي يجري التركيز على شخص الرئيس، بوصفه الوحيد القادر على قيادة السفينة، اعتماداً على ميزاته الشخصية وليست القوة المشتركة للحكومة. يقول في هذا الصدد مثلاً: «لو كنت في البيت الأبيض يومذاك لما انفجرت الحرب في أوكرانيا».
ميزة هذا المسار أنه قصير الأمد، كثير الادِّعاء وقليل النتائج. خُذْ مثلاً محاولة ترمب إصلاح العلاقة مع كوريا الشمالية في 2019، التي انتهت بفشل ذريع، رغم ذهابه شخصياً للقاء الزعيم الكوري، وهو ما يعد تجاوزاً للبروتوكول وتقاليد السياسة.
هذه المرة أيضاً سنسمع كثيراً من الدعوات والادعاءات، لكنني أرجح أن ترمب سيحصد نتائج قليلة فحسب. إن موقف رئيس أوكرانيا في مواجهة ترمب ونائبه خلال الاجتماع الشهير بالبيت الأبيض، دليل على أن زعماء العالم لن يأتوا طائعين كما تخيَّل الرئيس، حتى لو كانوا في حالة حرب وحاجة، مثل زيلينسكي. بل أميل إلى الاعتقاد أن موقفه هذا سيشجِّع زعماء آخرين على مواجهة ترمب من دون قلق.
***
د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

بقلم: جوزيه أوبر
ترجمة: د. محمد عبد الحليم غنيم
***
حكمة من اليونان الكلاسيكية: ما أجمل الديمقراطية والليبرالية إذا أدركنا الفرق بينهما
***

قبل ربع قرن من الزمان، أعلن عالم السياسة الأميركي فرانسيس فوكوياما أن التاريخ قد انتهى. فقد انتهى البحث الطويل عن أفضل نظام سياسي ممكن. وكانت الديمقراطية الليبرالية ــ التي عُرِفَت بأنها السيادة الشعبية بالإضافة إلى الحكم الذاتي الفردي وحقوق الإنسان ــ هي الحل.
اليوم، في عصر الإرهاب والحروب الدائمة والأنظمة الاستبدادية المتجددة، عاد التاريخ بقوة. ولكن فوكوياما كرر مؤخراً بتفصيل مثير للإعجاب وجهة نظره الأساسية القائلة بأن الديمقراطية الليبرالية هي أعلى أشكال التنمية السياسية، وهي وجهة نظر يشترك فيها كثيرون. ويقارن عالم الإدراك ستيفن بينكر بين الديمقراطيات الليبرالية والأنظمة القائمة على أيديولوجيات شيطانية طوباوية، ويخلص إلى أن "الديمقراطيات أقل دموية إلى حد كبير من أشكال الحكم البديلة". ومثل غيره من الكتاب المعاصرين، يستخدم بينكر "الديمقراطية" كاختصار لـ "الديمقراطية الليبرالية"، بمعنى مجموعة من الظروف المفضلة: السيادة الشعبية، وسيادة القانون، وحقوق التصويت، وحقوق الإنسان، وحرية التعبير، وتكافؤ الفرص، وفصل الكنيسة عن الدولة، والعدالة التوزيعية، والاقتصاد القائم على السوق. وبالنسبة لمخترعيها اليونانيين القدماء، كانت الديمقراطية تعني ببساطة الحكم الذاتي الجماعي من قِبَل المواطنين.
إن حزمة الديمقراطية الليبرالية تحظى اليوم بإعجاب واسع النطاق، ونادراً ما تخضع للتدقيق والتمحيص، حتى أن الناس يميلون إلى نسيان أنها في الواقع حزمة متكاملة. وحتى المتشككون يربطون الديمقراطية بالليبرالية: ففي أوائل عام 2008، دعا الرئيس الباكستاني آنذاك برويز مشرف الحكومات الغربية إلى التوقف عن الهوس بالديمقراطية، وهو ما كان يعني به: التوقف عن التركيز على حقوق الإنسان. وعندما يستخدم فوكوياما أو بينكر أو مشرف "الديمقراطية" للإشارة إلى الالتزام بالحقوق العالمية أو الفصل بين الكنيسة والدولة، فإن قِلة من الناس يتوقفون لطرح الأسئلة. ولكن دعونا نفعل ذلك على وجه التحديد. إن الديمقراطية والليبرالية تحتويان على قدر كبير من القيمة، لكنهما ليسا نفس الشيء. فمن الممكن أن تتحدا في نظام سياسي ناجح، ولكن زواجهما ليس حتمياً.
يُوضّح تاريخ الحُكم الذاتي للمواطنين في دُول المُدن اليونانية ماهية الديمقراطية—وما الذي تقدمه (وما لا تقدمه). كانت أثينا القديمة، مثل بعض دول المدن اليونانية الأخرى، ديمقراطية، لكنها لم تكن ديمقراطية ليبرالية. لم يتبنَّ الأثينيون القدماء حقوق الإنسان، ولم يفصلوا الدين عن سلطة الدولة القسرية. أما الليبرالية، فهي مُثُل أخلاقية وُلِدَت من عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وتتمحور حول قيمة الاستقلالية الفردية. وتُقدّم الليبرالية مبررات لاعتبار الحقوق عالمية، وملازمة لكل فرد بشري، ولماذا يجب على الدولة القسرية أن تظل محايدة فيما يتعلق بالدين. وقد يكون النظام السياسي ليبراليًا دون أن يكون ديمقراطيًا—كما كان الحال في إمبراطورية النمسا والمجر في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال.
بقطع النظر عن اعتراضات مشرف، فإن الديمقراطية اليوم لا تواجه أي معارضة صريحة. وحتى النازيون الجدد في ألمانيا يطلقون على حزبهم السياسي اسم الديمقراطيين الوطنيين (وليس الاشتراكيين الوطنيين). ويصف المستبدون الصينيون نظامهم الاستبدادي بأنه ديمقراطي. وتروج دساتير الدول التي نشأت بعد الثورة، والسياسات الخارجية للقوى الكبرى، ومهام الوكالات الدولية، للديمقراطية باعتبارها هدفاً لها. ولكن ماذا إذن؟ ما المشكلة إذا أصبحت الديمقراطية غير قابلة للتمييز عن الليبرالية، وإذا ما تم مساواة الحكم الذاتي الجماعي بحقوق الإنسان والحكومات العلمانية؟
إذا كانت الديمقراطية بهذه الأهمية، بحيث تستحق حشد جهود وموارد هائلة، فيجب أن يكون لدى الناس تصور واضح عمّا تعنيه. لقد نتج جزءٌ من المعاناة الإنسانية خلال ربع القرن الماضي، ضمن محاولات بناء الديمقراطية، عن حقيقة أن الطبقة السياسية لم تكن تمتلك تصورًا واضحًا حول مكونات الديمقراطية الليبرالية. وإذا كانت الديمقراطية تستحق النضال من أجلها، فمن الضروري فهم أسسها.
عندما يستخدم الباحثون مصطلح الديمقراطية بالمعنى الضيق، فإنهم يشيرون عمومًا إلى مجرد "حكم الأغلبية، لا أكثر"، على عكس سيادة القانون. بالنسبة لأولئك الذين، مثل جيمس ماديسون، المؤلف الرئيسي للدستور الأمريكي، يخشون شبح حكم الغوغاء، فإن الديمقراطية دون ليبرالية قد تؤدي إلى طغيان الأغلبية. وتُظهر الديمقراطيات اليونانية القديمة أن تصوّر الديمقراطية على أنها مجرد حكم الأغلبية هو خطأ. فالديمقراطية، حتى قبل أن تكون ديمقراطية ليبرالية، هي في الواقع أكثر من مجرد حكم الأغلبية.
اختزال الديمقراطية إلى حكم الأغلبية يبرر هيمنة النخب. كان أفلاطون، بخطته لـ"الملوك الفلاسفة"، من أوائل المدافعين عن هذا النخبوية، إذ كان يؤمن بأن الحكم الجيد يتطلب إبعاد معظم الناس عن المشاركة الفعالة في السياسة. كان هدف أفلاطون من حصر السلطة في أيدي قلة هو تعزيز الفضيلة. وفي العالم الحديث، هناك أيضًا منظّرون سياسيون مؤثرون، مثل الراحل رونالد دوركين، يجادلون بضرورة إبقاء الناس العاديين على الهامش باسم الدفاع عن القيم الأخلاقية الليبرالية مثل الاستقلالية، والحقوق، والعدالة التوزيعية.
ولكن، مهما كانت النوايا حسنة، فإن النهج النخبوي في الحكم يُعد خطيرًا (بالإضافة إلى كونه غير ديمقراطي) لأن الالتزام الأخلاقي وحده لا يكفي لتوجيه السلوك اليومي لمعظم الناس معظم الوقت. فالأخلاق الليبرالية وحدها لا يمكنها أن تخلق نظامًا اجتماعيًا مستقرًا قائمًا على الاختيارات الحرة للأفراد الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة. ولتحقيق الاستقرار الاجتماعي، تحتاج الليبرالية المعاصرة إلى أساس سياسي، إما ديمقراطي أو سلطوي.
هناك طريقتان للوصول إلى المعنى الجوهري للديمقراطية. الأولى، بالنظر إلى المجتمع اليوناني القديم الذي ابتكرها، حيث كانت تعني بالنسبة لهم سلطة هيئة واسعة من المواطنين لاتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات العامة. ولكن لماذا ينبغي لمواطني القرن الحادي والعشرين أن يهتموا بتصور مجموعة من الرجال الذين كانوا يملكون العبيد ويمنعون النساء والمهاجرين من المشاركة السياسية لماهية الديمقراطية؟ الإجابة هي أننا لا نزال نطمح إلى مفهومهم الأساسي للديمقراطية.
نشأت كلمة "الديمقراطية" في دولة المدينة أثينا بعد الثورة الأثينية عام 508 قبل الميلاد. في تلك الثورة، أطاح شعب أثينا بقائد سياسي مدعوم من قوى أجنبية كان قد نفى معارضيه وحاول فرض حكومة قمعية يسيطر عليها أعوانه. بعد الثورة، استدعى الأثينيون المنتصرون من المنفى زعيمهم المفضل، كليستينيس. أدرك كليستينيس أنه لم يكن ممكنًا العودة إلى الحكم عن طريق الطغاة أو التحالفات الضيقة من الأرستقراطيين. لقد أصبح شعب أثينا الآن المؤلف الجماعي والضامن لنظام دستوري جديد. لقد وضعت الثورة الشعب الأثيني على مسرح التاريخ.
أثبت النظام التجريبي الذي صممه كليستينيس في ظل ظروف الأزمة نجاحًا استثنائيًا. مع الحكومة الجديدة، صعدت أثينا إلى الصدارة في العالم اليوناني. وفر المواطنون من الطبقة العاملة، الذين حصلوا حديثًا على حقوقهم، قوات مسلحة كبيرة ومتحمسة. وصوّتوا لاستخدام الفوائض المالية لتحقيق أهداف عامة. وبفضل تخلصهم من الخوف من أن يستولي الطغاة على أرباح مبادراتهم، استثمر الأثينيون في مجتمعهم. ازدهرت الفنون والحرف، وازدهرت الصناعة والتجارة. تعاونت أثينا مع منافستها إسبرطة لهزيمة غزو هائل من قبل الإمبراطورية الفارسية القوية، ثم أنشأت إمبراطورية في بحر إيجه، ونجت من حرب كارثية مع إسبرطة، وساهمت في تحقيق نمو اقتصادي لليونان استمر لمدة قرنين. ساهم صعود الديمقراطية الأثينية وحيويتها في وضع الأساس الثقافي للحضارة الغربية.
كانت الحجة الأفضل، وليس الصوت الأعلى، هي التي كانت لديها فرصة جيدة للفوز .
أطلق الأثينيون على حكومتهم الجديدة اسم "الديمقراطية"، أو ديموقراطيا باللغة اليونانية، وهي تجمع بين ديموس ("الشعب") وكراتوس ("السلطة"). وبالتالي تعني الديمقراطية "سلطة الشعب"، ولكن تحديدًا ديموس بمعنى "جميع المواطنين"، وكراتوس بمعنى "القدرة على الفعل". أكد الاسم الجديد على كل من مثالية وواقعية. أولاً، أعلنت الكلمة أن المواطنين كجماعة، بدلاً من الطغاة أو مجموعة صغيرة من الأرستقراطيين، هم الأحق بحكم دولتهم: فالشعب هو السلطة العامة الأكثر شرعية. كما أكدت مثالية الديمقراطية على أن الشعب يتمتع بالقدرة الأخلاقية والفكرية على حكم أنفسهم. قد يكونون عرضة للخطأ، لكنهم قادرون على السعي لتحقيق المصالح العامة بطريقة عقلانية.
حكم الشعب نفسه من خلال استخدام المؤسسات الجديدة لحكومته الديمقراطية في صنع السياسات وتنفيذها، دون وجود حاكم أعلى. كان المواطنون من مختلف الطبقات الاجتماعية يناقشون قضايا السياسة العامة بأساليب تتسم بالتعاون والتنافس في آنٍ واحد. لقد جمعوا المعلومات والمعرفة لإيجاد حلول مبتكرة للمشكلات. لم يكن الصوت الأعلى هو الذي يفوز، بل كانت الحجة الأقوى هي التي تحظى بفرصة جيدة للانتصار. في قرعة سنوية، كان الأثينيون يختارون 500 مواطن ليكونوا أعضاء في مجلس ديمقراطي. كان أعضاء المجلس يستشيرون الخبراء، ويناقشون السياسات، ويحددون جدول أعمال الاجتماعات المتكررة للجمعية العامة، التي كانت مفتوحة لجميع المواطنين. في عصر أرسطو، كان اجتماع الجمعية العامة النموذجي يجذب ما بين 6,000 إلى 8,000 مواطن يشاركون في التصويت.
لكن البعض استاء من قوة الشعب. فقد سخر الأرستقراطيون الساخطون، الغاضبون من فقدان احتكارهم السياسي، من الحكومة الجديدة باعتبارها هيمنة أغلبية تسعى إلى مصالحها الخاصة على أقلية متميزة من أصحاب الثراء والتعليم. تساءلوا: كيف يمكن لأشخاص عاديين—مزارعين، خزّافين، تجار تجزئة، صانعي أحذية—أن يفهموا أي شيء عن شؤون الدولة المهمة؟ وكيف يختلفون عن العبيد الكادحين؟ بالنسبة للأرستقراطيين الغاضبين، أصبح مصطلح ديموس مصطلحًا ازدرائيًا، مقتصرًا على المواطنين الذين كانوا مضطرين للعمل لكسب رزقهم. وبالنسبة للرافضين للديمقراطية، كانت الأغلبية من الطبقة العاملة تستحوذ بشكل غير مشروع على السلطة، التي كان ينبغي أن تظل في أيدي "القلة الممتازة"—أي الرجال الذين اعتقدوا أنهم الأحق بالحكم بسبب ثروتهم الفائقة، وتعليمهم، ونَسَبهم.
وبعد رفض الديمقراطية، ابتكر الأرستقراطيون اليونانيون خرافة مفادها أنها تعني في الواقع "طغيان الأغلبية بلا قانون". لكن مقارنة الديمقراطية بمصطلحات يونانية أخرى تشير إلى أنظمة الحكم (الأرستقراطية، والأوليجارشية، والملكية، وما إلى ذلك) تُظهر بوضوح أن الديمقراطية ظهرت في الأصل كمصطلح إيجابي، استخدمه أولئك الذين رأوا الدولة على أنها ملك مشترك لجميع المواطنين.
بالنسبة للديمقراطيين الأثينيين، كان الديموس يشمل جميع من يمكن تصوّر قدرتهم على ممارسة السلطة السياسية بنشاط داخل حدود الدولة. وفقًا للخيال الثقافي اليوناني القديم حول "من يمكن أن يكون مواطنًا"، كان المواطنون هم "الذكور الأحرار، البالغون (أكبر من 18 عامًا)، إما من مواليد البلاد أو ممن أثبتوا ولاءهم للدولة". وبالنظر إلى التاريخ، كان هذا التصور يُعد متقدمًا نسبيًا لأنه لم يشترط على المواطنين امتلاك ثروة أو مستوى تعليمي معين. ولم يكن هناك مستوى من الشمولية في المواطنة يضاهي ما حققته أثينا القديمة حتى عصر الثورات في القرن الثامن عشر.
بالطبع، في القرن الحادي والعشرين، يبدو التصور الثقافي اليوناني القديم لمن يمكن أن يكون مواطنًا مشاركًا محدودًا للغاية إلى درجة تجعله غير شرعي. فقد استُبعدت النساء والعبيد ومعظم المقيمين الأجانب في أراضي أثينا. ولهذا، يزعم بعض الباحثين في التاريخ اليوناني أن أثينا لم تكن ديمقراطية. لكن ما يقصدونه في الواقع هو أن أثينا لم تكن ديمقراطية ليبرالية، حيث لم يعترف الأثينيون بحقوق الإنسان للعبيد والنساء والمقيمين الأجانب لفترات طويلة. وبالفعل، لم تكن أثينا ديمقراطية ليبرالية، لكنها كانت ديمقراطية—بمعنى أنها كانت تُحكم من قبل مواطنيها.
لقد شهد أواخر القرن الخامس قبل الميلاد أهم تغيير دستوري في تاريخ الديمقراطية الأثينية. فقد تبنّى المواطنون الأثينيون، بعد فترة عصيبة من الحرب الخارجية والطاعون والحرب الأهلية، قواعد جديدة وضحت العلاقة بين المراسيم السياسية والمبادئ الأساسية للقانون الدستوري. جعلت هذه القواعد المراسيم التي تُصدرها الجمعية العامة للمواطنين خاضعة للطعن القانوني، بحيث يمكن إبطال أي مرسوم عبر المراجعة القانونية. ساعد هذا القيد على سلطة الديمقراطية المباشرة في استقرار المجتمع الأثيني بعد الحرب الأهلية، حيث ضمن أن الأغنياء والفقراء على حد سواء أعادوا التزامهم بالمشاركة في مجتمعهم. لم يكن هذا الإصلاح الديمقراطي انعكاسًا جذريًا من "طغيان الأغلبية" إلى "حكم القانون الدستوري"، بل كان تحسينًا للديمقراطية. في الواقع، وضع الأثينيون قيودًا على سلطة الجمعية العامة منذ بداية العصر الديمقراطي.
لا ينبغي للديمقراطية أن تكون حطام قطار الأغلبية
إن القاعدة التي تحكم ممارسة النفي توفر مثالاً واضحاً للحد من السلطة التشريعية للجمعية ـ وهو الحد الذي كان ديمقراطياً ولكن ليس ليبرالياً. ففي كل عام، كان الأثينيون يصوتون في اجتماع للجمعية على ما إذا كانوا سيعقدون عملية نفي. وعادة ما كانوا يصوتون بـ"لا". وفي خمس عشرة مناسبة معروفة، كانوا يصوتون بـ"نعم". ثم كانوا يعقدون اجتماعاً ثانياً، في الساحة العامة، حيث كان كل مواطن يحضر معه قطعة من الفخار (أوستراكون) يكتب عليها (أو يطلب من صديق متعلم أن يكتب) اسم الشخص الذي يرى أنه الأجدر بالنفي من أثينا لمدة عشر سنوات. وكان الشخص الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات في هذا "التصويت على الأقل شعبية" يُنفى من المدينة. لم يكن هناك محاكمة ولا استئناف.
لقد انتهك النفي السياسي الحقوق الفردية التي أصبحت لاحقًا جوهر الليبرالية، لكنه كان ديمقراطيًا بلا شك، كما أن الأثينيين حددوا نطاقه بدقة. فقد قُيدت إمكانية إجراء النفي إلى مرة واحدة سنويًا، وكان التصويت على الشخص المنفي يتم فقط في الاجتماع الثاني. ومن خلال قانون النفي السياسي، قيد الأثينيون دستوريًا سلطتهم التشريعية مباشرة بعد ثورتهم الديمقراطية. جاءت الإصلاحات القانونية اللاحقة لتقنن وتوسع مبدأ تقييد السلطة التشريعية، وهو مبدأ كان موجودًا منذ البداية.
إن هذه النقطة مهمة لأن العديد من الناس اليوم يفترضون أن الحد من سلطة الحكومة هو ابتكار حديث ليبرالي صريح. ولكن هذا ليس صحيحاً. ذلك أن الديمقراطية غير الليبرالية قادرة على فرض القيود على نفسها. وبوسع المواطنين الديمقراطيين أن يختاروا حكم القانون كمبدأ دستوري، وبوسعهم أن يفعلوا ذلك دون استحضار الفكرة الغامضة القائلة بأن القوانين هي التي تحكم. والديمقراطية لا ينبغي لها أن تكون حطام قطار الأغلبية.
لقد قامت الديمقراطية الراسخة في اليونان القديمة على حكم ذاتي مشترك ومحدود يمارسه المواطنون. فهل لا يزال هذا هو جوهر الديمقراطية في عصرنا؟ يمكن تناول هذا السؤال من زاوية فلسفية. تخيّل مجتمعًا حديثًا واسع النطاق يعيش ضمن حدود دولة مستقلة؛ وليكن اسمه "ديموبوليس". يتميّز سكان ديموبوليس بتنوعهم الكبير؛ ففيهم الأغنياء والفقراء، وينتمون إلى أصول عرقية مختلفة. كما تتعدد توجهاتهم الفكرية؛ فبعضهم ليبراليون، وآخرون تحرريون، وهناك جمهوريون، فضلًا عن أتباع ديانات ومعتقدات شتى.
إن سكان ديموبوليس تحرّكهم مصالحهم الذاتية كما هو الحال لدى البشر عمومًا، وليسوا أكثر ميلًا للتعاون من غيرهم. ومع ذلك، فهم يتفقون على ثلاثة أمور أساسية:
1. تأسيس دولة مستقرة وآمنة.
2. تحقيق ازدهار يكفي لمنافسة الدول الأخرى.
3. ضمان عدم وقوع الحكم في قبضة فرد قوي أو تحالف مستبد.
كما يملك سكان ديموبوليس القدرة على وضع قواعد دستورية جديدة لدولتهم، لكن نجاح النظام الجديد مرهون بحصر هذه القواعد في نطاق يحظى بدعم فعلي من المجتمع المتنوع الذي يشكّل هذه الدولة.
لا يفترض واضعو دستور ديموبوليس أنهم يؤسسون نظامًا سيكون الأفضل عالميًا لجميع الشعوب في كل مكان. بل إنهم يسعون إلى إقامة حكومة تتيح لشعب ديموبوليس تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: الأمن، والازدهار، وعدم الوقوع تحت حكم استبدادي. سيدفع المواطنون بعض التكاليف على شكل وقت وضرائب ليعيشوا دون حاكم متسلط، لكنهم لا ينوون تكريس حياتهم بالكامل لإدارة الحكم. يتحمل واضعو دستور ديموبوليس الافتراضيون مسؤولية جماعية لوضع قواعد منطقية ومستدامة لأنفسهم وللأجيال القادمة. ويجب أن تُمكّن هذه القواعد المواطنين وذريتهم من فرض تلك القوانين، وتعديلها عند الضرورة. لذلك، يجب أن يكون المواطنون راغبين وقادرين على العمل المشترك ككيان جماعي.
ولكي يحقق أهل ديموبوليس أهدافهم الثلاثة، فإنهم يحتاجون إلى إرساء قواعد أساسية. وتتطلب القاعدة الأولى المشاركة في وضع القواعد وإنفاذها. ويعني شرط المشاركة أن كل الأشخاص الذين يتصورهم أهل الثقافة مواطنون محتملون هم مواطنون فعليون. ولأن هذا هو العصر الحديث، فإن هذا يشمل كل الرجال والنساء البالغين من السكان الأصليين، وبعض الأجانب المجنسين على الأقل. وتعني قاعدة المشاركة أيضاً أن الجميع يتقاسمون تكاليف الحكومة. ويتحمل كل المواطنين واجب المساعدة في وضع القواعد وإنفاذها. ويتحملون واجباً مماثلاً بمعاقبة أي شخص يفشل في أداء واجب المشاركة. وقاعدة المشاركة ضرورية للحد من الانتفاع المجاني. فكل مواطن، بقدر ما يهتم بمصلحته الذاتية على نحو عقلاني، يستطيع أن يختار التمتع بسلع الأمن والرخاء وعدم الاستبداد دون المساهمة في الجهود المبذولة للحفاظ عليها. ولكن الدولة لن تظل آمنة ومزدهرة لفترة طويلة إذا ما حاصرها المنتفعون المجانيون.
إن القاعدة الثانية تتعلق بكيفية اتخاذ القرارات. إن عدم الاستبداد يعني أنه لا يمكن لأي فصيل محدد من الشعب أن يحكم بشكل شرعي، باعتباره مستبداً جماعياً، على بقية الشعب. إن المشاركة بالإضافة إلى عدم الاستبداد تعني أن كل مواطن لابد وأن يتمتع بحق التصويت المتساوي، وأن تتاح له فرصة متساوية للمشاركة في وضع التشريعات وتولي أي أدوار سياسية أخرى تنشأ في سياق إرساء القواعد. وعلاوة على ذلك، لابد وأن تهدف السياسة التشريعية ليس فقط إلى عدم الاستبداد، بل وأيضاً إلى الكفاءة. وإذا كان لها أن تحقق غاية الأمن في بيئة خطيرة وقابلة للتغيير، فلابد وأن تكون القرارات التي يتخذها المواطنون أفضل من الاختيارات العشوائية. ومن أجل اتخاذ قرارات أفضل، فإن المواطنين يحتاجون أيضاً إلى حرية الفكر والتعبير والتجمع.
إن القاعدة الثالثة تفرض حدوداً على السلطة الجماعية: إذ يتعين على العملية التشريعية وصنع السياسات أن تقيد قدرة المواطنين الجماعية على وضع قواعد تهدد المساواة الوظيفية أو حرية المواطنين. والواقع أن الحماية القوية ضرورية لأن الحرية السياسية والمساواة المدنية ضرورية لتأمين الأغراض الأساسية التي توجد الدولة من أجلها. ولأن المواطنين يتفقون على أنهم يريدون دولة آمنة ومزدهرة وغير طاغية، فإن المواطنين ـ بوصفهم مشرعين ـ يدركون أنه لا يجوز لهم وضع أي قاعدة من شأنها أن تجعل الدولة غير آمنة أو فقيرة أو استبدادية. وباختصار، لابد أن تفي القواعد بمعيار دستوري: فلابد وأن تكون القاعدة التي تحظر التشريعات التي تهدد الغايات الثلاث المتمثلة في الأمن والرخاء وعدم الطغيان راسخة قانونياً ومطبقة.
إن الميل الحديث إلى خلط الديمقراطية بالليبرالية جعل من الصعب تنفيذ نظام ديمقراطي ناجح دون أن يكون ليبراليا .
إن القواعد الأساسية الثلاث ــ التي تتطلب المشاركة في وضع القواعد وإنفاذها، ووضع الإجراءات اللازمة لاتخاذ القرارات المشتركة والفعّالة، ومنع التشريعات التي من شأنها أن تهدد الظروف اللازمة لاتخاذ القرارات وتنفيذها ــ تفضي إلى حكومة أساسية للمدينة الشعبية الخيالية. وتتمتع هذه الحكومة بسمات جوهرية مماثلة لتلك التي تميزت بها الديمقراطية اليونانية القديمة: الحكم الذاتي الجماعي والمحدود من قِبَل هيئة كبيرة ومتنوعة من المواطنين الأحرار والمتساوين سياسياً. وهذه الحكومة ليست ليبرالية بالمعنى المعاصر الذي يضمن حقوق الإنسان العالمية، ولكنها ليست أيضاً طغياناً أغلبياً. بل إنها في واقع الأمر ديمقراطية.
إن ديموبوليس مجرد تجربة فكرية، لكنها تمتلك نظائر قريبة في العالم الحقيقي. فعلى مدار الربع قرن الماضي، سعى كثيرون إلى إنشاء حكومات دولة جديدة تكون غير استبدادية، آمنة، ومزدهرة – كما شهدنا في الربيع العربي والثورات الملونة في أوروبا الشرقية. وكما فعل الأثينيون القدماء ومواطنو ديموبوليس الخيالية، كانت هذه الحركات تسعى إلى الديمقراطية باعتبارها حكمًا ذاتيًا جماعيًا، لكن ليس جميعها تبنّى الليبرالية. وبالنسبة لبعض الليبراليين، يُنظر إلى ذلك على أنه فشل أخلاقي. ومع ذلك، فإن الفوضى والاستبداد اللذين أعقبا كثيرًا من التحولات الديمقراطية المفترضة يشيران إلى فشل سياسي أعمق. ويمكن أن يُعزى هذا الفشل جزئياً إلى حقيقة مفادها أن الديمقراطية الأساسية، من دون الليبرالية، لم تكن قط على قائمة السياسة الدولية.
هناك أسباب عديدة لعدم نجاح الربيع العربي والحركات الثورية الحديثة الأخرى في إقامة دول مستقرة، مزدهرة، وغير استبدادية. لكن الميل الحديث إلى الخلط بين الديمقراطية والليبرالية جعل من الصعب تطبيق نظام ديمقراطي ناجح لكنه غير ليبرالي. مثل هذا النظام قد لا يرقى إلى تطلعات الليبراليين الديمقراطيين، حيث إنه: قد لا يدعم حقوق الإنسان،وقد يفرض الامتثال الديني،و قد لا يوزع الموارد المادية بعدالة. ومع ذلك، يمكن للنظام الديمقراطي غير الليبرالي أن يكون مستقرًا، دون أن يتحول بالضرورة إلى طغيان الأغلبية. فهو يجب أن يضمن المساواة السياسية إلى جانب الحد الأدنى من الحريات السياسية الأساسية للمواطنين. عندما يكون الخيار بين الاستبداد القمعي أو الفوضى، تظل الديمقراطية – بوصفها حكمًا ذاتيًا جماعيًا – هدفًا يستحق السعي إليه. بل إن الديمقراطية قد تكون أساسًا متينًا للنظام السياسي، وربما تمهد الطريق نحو الديمقراطية الليبرالية في المستقبل.
تقدّم الديمقراطية والليبرالية سماتٍ جديرة بالتقدير للمجتمع الحديث، لكن لا يجب الاستخفاف بالصعوبة التي ترافق الحفاظ على الحكم الذاتي الجماعي للمواطنين مع حماية الحقوق الليبرالية وتعزيزها. تظهر هذه الصعوبة بوضوح في الولايات المتحدة خلال القرن الحادي والعشرين، حيث تواجه البلاد تحديات الإرهاب العالمي والمحلي، والاستقطاب السياسي، وأشكال التمييز القديمة والجديدة، وصراعات الهوية الجماعية، والتفاوت الاقتصادي المتزايد. تتحسن آفاق الديمقراطية والليبرالية، محليًا ودوليًا، عندما يدرك الناس الفرق بينهما.
(انتهى)
***
...........................
الكاتب: جوزيه أوبر/Josiah Ober: أستاذ العلوم السياسية والدراسات الكلاسيكية في جامعة ستانفورد. أحدث كتاب له هو "صعود وسقوط اليونان الكلاسيكية" (2015).

 

قبل عام وفي شهر شباط/ فبراير تحديدًا (2024)، لبّيتُ دعوةً من كرسي اليونسكو في جامعة الموصل لإلقاء محاضرة عن "الإرهاب والأمن التعليمي"، وحينها كانت الموصل قد أخذت تتعافى من الإرهاب الداعشي (2014 - 2017)، وتفيض إبداعًا وجمالًا.
اليوم العالمي لمنع التطرّف العنيف
لعلّه من "وحي" إرهاب داعش ووحشيته، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا في العام 2016 (الدورة 77 رقم 243)، يقضي بالاحتفال ﺑ "اليوم العالمي لمنع التطرّف العنيف"، وهكذا أصبح يوم 12 شباط / فبراير من كل عام مناسبة لمراجعة الإجراءات والتدابير المتّبعة من جانب الحكومات والمنظمات الدولية، وما تحقّق على هذا الصعيد لمنع التطرّف العنيف وما لم يتحقّق، ولاسيّما في مجال التعليم والتربية، أي الخلفية الثقافية والفكرية المتعلّقة بالتطرّف والعنف.
وتوقّفتُ وأنا أتناول الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لظاهرة التطرّف عند الفظاعات التي شهدتها هذه المدينة العزيزة، والتي تحتاج إلى خيال حسب جيرارد جينيت، المفكّر الفرنسي وأحد أبرز أعلام النقد البنيوي؛ وبالفعل فإن ما حصل في الموصل يحتاج إلى خيال خصب كي يمكن تصوّر كيف استطاع أهلها تجاوز تلك المحن والعذابات والآلام، وهي ذاتها التي عاشها الكرد والإيزيديون والمسيحيون وسائر المجموعات الثقافية الإثنية والدينية خلال عمليات التطهير والعسف التي تعرضوا لها، وهو ذاته ما عاناه أهل فلسطين عمومًا وغزة خصوصًا خلال حرب الإبادة الأخيرة.
تعريف الإرهاب
على الرغم من أن مصطلحات مثل التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب والإرهاب الدولي متداولة منذ عقود من السنوات، إلّا أن ثمة اختلافات في تفسيراتها وتأويلاتها، تبعًا للأغراض الأيديولوجية والمصالح السياسية لكل جهة أو فريق، خصوصًا في ظل غياب تعريف مانع جامع، إذْ هناك ثمة ترابط لدرجة الانشباك أحيانًا بين هذه المصطلحات، ومع ذلك فالأمم المتحدة عجزت عن التوصل إلى توافق دولي بشأن تعريف الإرهاب، مثل ما عجزت قبلها عصبة الأمم منذ العام 1933 وما بعد تأسيس الأمم المتحدة، وتحديدًا إلى العام 1974، من إيجاد تعريف للعدوان.
والأمر لا يتعلّق بصعوبة التوصّل إلى تعريف للإرهاب، الذي ظلَّ مطروحًا في أروقتها منذ تأسيسها وإلى اليوم، بل لتعارض المصالح السياسية للقوى المتنفّذة في العلاقات الدولية. وما بين العام 1963 والعام 2001 صدر نحو 13 قرارًا دوليًا (تصريحًا أو اتفاقيةً)، ولكنها جميعها لم يتم فيها وضع تعريف للإرهاب الدولي، سواءً في فترة الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين أم ما بعدها.
وبعد أحداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001 الإرهابية الإجرامية، صدرت ثلاث قرارات دولية، لكنها لم تحدّد ماهية الإرهاب الدولي بوضع تعريف متّفقٌ عليه، على الرغم من أن هذه القرارات وصّفت الحالة، وكانت هذه القرارات قد صدرت إثر الهجوم الذي قام به تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن على برجي التجارة العالمية في نيويورك ومبنى البنتاغون.
وكان القرار الأول برقم 1368 قد صدر في 12 أيلول/ سبتمبر 2001 أدان العمل الإرهابي، أما القرار الثاني فهو القرار رقم 1373 الذي صدر في 28 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه (2001)، ويُعتبر من أخطر القرارات التي اتخذتها المنظمة الدولية، ففيه عودة للقانون الدولي التقليدي، الذي كان يجيز" الحق في الحرب"، حيث أعطى الحق في شنّ "الحرب الوقائية" أو "الحرب الاستباقية" إذا كان ثمة خطر وشيك الوقوع أو محتمل من جانب القوى الإرهابية، فمن حق الدول شنّ الحرب حماية لمصالحها الحيوية وأمنها القومي، كما كانت قواعد القانون الدولي التقليدي تبرر ذلك، وبالطبع فإن ذلك عمليًا يقتصر على الدول المتسيّدة في العلاقات الدولية.
أما القرار الثالث، فهو القرار 1390، الذي صدر في 16 كانون الثاني / يناير 2002، وفرض عقوبات على الدول التي تمتنع عن الانخراط في التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب.
داعش ودزينة القرارات الدولية
بعد احتلال داعش للموصل (10 حزيران/ يونيو 2014) وتهديدها أربيل وإقليم كردستان، وتمدّدها باحتلال نحو ثلث الاراضي العراقية (محافظتا الأنبار وصلاح الدين وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى) ، صدرت أربع قرارات دولية مهمة هي:
القرار رقم 2170 في 15 آب/ أغسطس 2014، الذي قضى بإدانة التطرّف، واعتبر عمل داعش الإرهابي تهديدًا للسلم والأمن الدوليين.
القرار رقم 2178، الذي صدر في 24 أيلول/ سبتمبر 2014 ودعا إلى إدانة التطرّف والعنف.
القرار رقم 2185، الذي صدر في 20 تشرين الأول/ نوفمبر 2014.
وكان القرار رقم 2195 الذي صدر في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2014، قد دعا لعمل جماعي لمواجهة داعش.
محو الذاكرة
لعلّ أول ما استهدفه الإرهاب وتنظيم داعش هو تغيير منظومة التعليم، منهجًا ووسائلًا، وضخّ ثقافة متعصّبة ومتطرّفة باستخدام الترغيب والترهيب، عبر شعارات إسلاموية، والهدف هو محاولة خلق وعي ثقافي أحادي لا يقبل الآخر ولا يعترف بالحق في الاختلاف، بل يسعى لتأثيمه وتحريمه وتجريمه.
وقد استهدف داعش فئة الشباب بشكل عام والناشئة بشكل خاص، حيث أقدم على تغيير المناهج الدراسية والتربوية، وكان قصده محو الذاكرة بما يتجاوز الإرهاب الفيزيولوجي ليمتد إلى الإرهاب الفكري، خصوصًا بمحاولة غسل الأدمغة، وهو ما حاولت أنظمة وتجارب أخرى تطبيقه، سواءً كانت تلك نازية أم فاشية أم اشتراكية متطرّفة باسم الطبقة العاملة وجمهور الكادحين، وملحقاتها اشتراكيات قوميّة باسم توحيد الأمة العربية وتحرير فلسطين، كما كانت في العراق وسوريا أو غيرها من التجارب العالمثالثية.
وبغض النظر عن تخلّف تلك المحاولات الداعشية وأخواتها، فإن تجارب أخرى شهدتها أوروبا لتغيير مناهج أو ذاكرة شعوب وقعت تحت الاحتلال، والعنوان هو واحد، عدم الإقرار بالتنوّع ورفض التعدّدية والتمسك بالتفسير الشمولي الإطلاقي.
ونستعيد هنا سؤال الزعيم الفرنسي شارل ديغول لمرافقيه، وهو يتوجّه بجيشه لتحرير فرنسا، وماذا عن التعليم؟ فقيل له أنه بخير، حيث كانت جامعة السوربون العريقة، والتي تمثّل رأس رمح في المقاومة الثقافية، تقوم بمناقشة الأطاريح في الأقبية، ويتلقى الطلبة دروسهم ويقومون ببحوثهم في أجواء من السرية والكتمان كجزء من مواجهة الاحتلال الألماني.
والسؤال هو ذاته الذي وجّهه الزعيم البريطاني ونستون تشرشل، في الوقت الذي كانت الطائرات الألمانية النازية تدكّ لندن، مسقطةً قنابلها فوق رؤوس ساكنيها، وحين تلقّى جوابًا إيجابيًا عن انتظام التعليم وممارسة الجامعات لدورها، هتف من أعماقه: إذًا بريطانيا بخير.
شهادات حية
كنت قد استمعت إلى شهادات وقصص وحكايات من أساتذة جامعيين من الموصل وصلاح الدين والأنبار وديالى وكركوك، وجميعها كانت تصبُّ في المقاومة السلمية اللّاعنفية المدنية، حتى بعد احتلال داعش دور العلم، حيث كانت العقوبات الغليظة والصارمة، والتي تصل إلى الموت أحيانًا، تخيّم فوق رؤوس الجميع.
بعض الأساتذة فضّل ترك الجامعات والبقاء في منازلهم، ولم يغادروها طيلة فترة الاحتلال الداعشي، والبعض الآخر عبّر عن ممانعته بطرق مختلفة، حتى وإن كان المعلن يختلف عن المُضمر، علمًا بأن داعش حاول إيجاد بيئة حاضنة وأخرى مستعدّة وثالثة مولّدة لأفكاره، لكنه لم يتمكّن فرض هيمنته على العقول والإرادات، على الرغم من أجواء الإرهاب والرعب التي أشاعها. الجدير بالذكر أن وضع الأستاذات الجامعيات كان أكثر صعوبةً وتعقيدًا، فالاضطهاد كان مزدوجًا، أولًا لكونهنّ نساء؛ وثانيًا عليهنّ الانصياع للمنهج الداعشي.
الانتقام من التاريخ
وكي يتم محو الذاكرة الجماعية، فقد تم نحر الثور المجنح في بوابة نركال رمز حضارة الآشوريين، وتدمير مدينة نمرود وتجريف آثارها التي تعود إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وكان قد بناها الملك الأشوري شليمنصر وتدعى "كالحو"، وطالت يد التخريب مدينة الحضر وجامع النبي شيت وجامع النوري ومنارة الحدباء، وعشرات الجوامع والكنائس والمراقد والأديرة.
لم يكن ذلك ليحدث لولا التعصّب الذي استحوذ على عقول البعض، فأنجب التطرّف، وهذا الأخير هو ابن التعصّب، وحين يصير التطرّف سلوكًا يتحول إلى عنف، والعنف حين يضرب عشوائيًا يصبح إرهابًا، وعندما يكون عابرًا للحدود يدعى إرهابًا دوليًا، خصوصًا حين يستهدف إضعاف ثقة الفرد والمجتمع بالدولة، وإضعاف ثقة الدولة بنفسها، وبالطبع إضعاف ثقة المجتمع الدولي بقدرة الدولة على مواجهة الإرهاب.
مقاربة سيسيوثقافية
وتحتاج مكافحة الإرهاب إلى مقاربة سيسيوثقافية وحقوقية تجمع في جنباتها البحث في أسباب التعصّب الديني والطائفي والقومي العنصري الاستعلائي، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ارتباطًا بالأمن التعليمي بشكل خاص والأمن الإنساني بشكل عام.
التطرّف هو من نسل التعصّب. ليس كلّ متعصّب هو متطرّف، إلّا إذا انتقل التعصّب من التفكير إلى التنفيذ، حينذاك يصبح تطرّفًا. وهكذا فكلّ متطرّف هو متعصّب بالضرورة، سواءً كان لأسباب قومية أم دينية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم غيرها، ويمكن أن يكون المتعصّب إسلاميًا، كما يمكن أن يكون علمانيًا، لأن المتعصّب يعتقد أنه يمتلك الحقيقة والأفضلية على الآخر، فأينما يتّجه أو يميل تتجّه وتميل معه، ويصبح مثل هذا التفكير خطرًا حين يصير سلوكًا مهيمنًا على شخص أو جماعة متطرّفة، فيؤدي تحت ذات المسوغات الافتراضية إلى العنف، بل حتى إلى ارتكاب الجرائم، لأنها ستكون مبرّرة. وثمة تجارب مارست فيها الانظمة الاشتراكية والقومية مثل هذه الأعمال، كما مارستها أنظمة وجماعات إسلامية تعطي لنفسها مثل هذا الحق، وتحت ذات المبرّرات.
ثلاث أدوار لمواجهة الإرهاب
ولمواجهة الإرهاب لابدّ من خطاب جديد، فليس الخطاب الأمني وحده كافيًا، بل لابدّ من خطاب فكري وثقافي مقنع، كما يمكن للجبهة الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى الجبهة القانونية والقضائية، مثل ما هي الجبهة الدينية والمدنية، أن تلعب دورًا مهمًا في مكافحة التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب، وبالطبع ستكون المعركة الإعلامية واسعة ومتنوعة في ظلّ اقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، وتحتاج إلى خطاب وسطي اعتدالي سلمي بنشر قيم التسامح واللّاعنف عبر ثلاثة أدوار؛
الأول - الدور الوقائي، ولعلّ مقولة "درهم وقاية خير من قنطار علاج" تنطبق على موضوع محاربة التعصّب وتداخله مع التطرّف والعنف والإرهاب، وهذا يحتاج إلى بيئة آمنة توفّر الحدّ الأدنى من احترام الإنسان وحقوقه، فضلًا عن محاربة الفساد، الوجه الآخر للإرهاب، والذي يسهّل الجريمة المنظمة والاتجار بالمخدرات وتجارة الأسلحة والأعضاء البشرية؛
والثاني - الدور الحمائي، أي الحماية من العمل الإرهابي قبل وقوعه عبر معلومات استخبارية وتحريّات أمنية وإنذارات مبكّرة، فضلًا عن الاعتماد على وعي المواطن، ولا بدّ هنا من الاهتمام بالشباب وتوفير فرص لهم لممارسة هواياتهم والتمتّع بأوقات فراغهم وتعزيز ثقافة السلام والتعاون والتضامن والتسامح وحكم القانون، بعيدًا عن ثلاثية الظلام التي تُنتج الإرهاب؛
والثالث - الدور العلاجي، وذلك برعاية ضحايا الإرهاب، الذي أساسه التعصّب والتطرّف بهدف تأهيلهم، فضلًا عن بعض المتورطين بالإرهاب، والذين هم وجه آخر للضحايا بحكم الظلم الاجتماعي، لدمجهم بالمجتمع عبر مناهج تعليمية علمية وعملية حديثة.
إرهابان لا يبنيان وطنًا
إن محاربة التطرّف ليست بالتطرّف المضاد، بل بقرع الحجة بالحجة ومواجهة الفكرة بالفكرة ودحض الرأي بالرأي، فضلًا عن ذلك توفير بيئة تقبل الآخر وتقرّ بالتنوّع وتحترم التعدّدية، فعنفان لا يولدان سلامًا، وتعصبان لا يولدان تسامحًا، وظلمان لا ينتجان عدالة وإرهابان لا يبنيان وطنًا.
والأمر يتطلّب الاستثمار في التعليم لتنمية الوعي ومحاربة الجهل والتخلف، وتأمين الحقوق الأساسية، ونشر ثقافة المواطنة التي تقوم على الحريّة والمساواة والعدالة، لاسيّما الاجتماعية وإن بحدّها الأدنى والشراكة والمشاركة، فنحن شركاء في الوطن وينبغي أن نكون شركاء باتخاذ القرار.
***
د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر

غدت الحروب متلازمة كالحتميات لتاريخ البشرية، وجزء من طبيعتها، كأسلوب حياة مستدام، اضفت عليها المعتقدات الدينية والدنيوية قداسة تحلل انبثاقها وتحرم تجريمها، مثلها مثل ابغض الحلال عند الله، وكأن الحروب قد كتبت على الجميع دون إستثناء، وقد وضعت ضوابط لجعل ايقاعها مستساغا، بما هو واقع تاريخي لا مفر من التعاطي مع تكراره المزمن!
فجرائم الحرب لا تجرم الحرب نفسها إنما التمادي غير المبرر في تفاصيل سيرها، وبعد ان يكون المنتصر قد حقق مبتغاه في النيل من خصمه المنكسر، وعادة ما يكون المنتصرون فيها من يتحكم في اطلاق الاحكام عليها ثم استشراع ما يناسبهم من اعراف وقوانين، فالقوانين الدولية، ومحكمة العدل الدولية، والاجواء والاجراءات الايجابية التي برزت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر، قد ارست نوع من النزوع نحو توازن الاقوياء النوويين، والذي سمح للضعفاء، والمتشبثين بالسلام المبني على العدل، ان ينتزعوا من خلال منظمة الامم المتحدة الكثير من التشريعات والقوانين والتعاريف التمييزية متعددة الاطراف للحد من استسهال الجنوح للحروب بدل الحوار وحل الخلافات بالطرق السلمية!
بعد الحرب العالمية الاولى قامت منظمة عصبة الامم، وجرى تجاوزها بعد ان تجاوزتها الحرب العالمية الثانية فقامت على اطلالها منظمة الامم المتحدة، والآن يشهد العالم مرحلة انتقالية تراكمت شواهدها منذ ايام الحرب الباردة وانبثاق الاحلاف العسكرية الكبرى، حلف وارسو وحلف شمال الاطلسي، الناتو، ثم انحلال الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين 1989، وما تلاه من ارتدادات جيوسياسية، ادت الى توسع حلف الناتو، مع إستبقاء عقيدته في احتواء اوروبا الشرقية وعزل روسيا، وهذا ما انعش من جديد النفس التوتري في اوروبا، فمحاولة روسيا لترميم حدودها المتداخلة مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق اصطدم بصد غربي متكالب، صب الزيت على نار الازمة الاوكرانية الروسية، وعندما جاء ترامب قرر اصلاح المعادلة لانها ستؤدي الى قيام تحالف راسخ بين روسيا والصين العدو الاول والمنافس الاجدر والاخطر لامريكا وقطبها الاوحد والمهدد بالافول، وبدلا من ان تتصرف اوروبا الغربية باستقلالية وتبني علاقة متكافئة مع روسيا، صابتها هستيريا القاصرين، الخائفين، حتى اصبحوا دعاة حرب لا افق لها، غير كسر الروس والانتصار عليهم حتى آخر اوكراني!
إستعباد حداثي!
في حروب القرون ما قبل الراسمالية، كان استعباد المسبيين والاسرى امر معتاد، وبعد سيادة مجتمع الحداثة الراسمالي اصبحت للظاهرة الكولونيالية سمة استعباد لشعوب باكملها بعد ان تستعمرها وتتلاعب بمصائرها، فالعبيد الذين استجلبهم الاوروبيين من افريقيا اثناء المرحلة الاستعمارية الاولى كانوا وقودا لاعمار العالم الجديد، امريكا، بعد حروب ابادة الاقوام صاحبة هذا العالم، اي ان الراسمالية الغربية المتوحشة مارست سياسة الاستعباد الحداثي المزدوج، عندما استولت على ارض الهنود الحمر، وعندما استجلبت الافارقة ليعملوا كعبيد في تلك الارض، ويتحول الاستعباد من شكله الاولي الذي يملك فيه السيد حق التصرف بعبده ونسله حتى الموت، علاوة على حق عرضه للبيع والشراء في اسواق النخاسة الى الشكل الثاني الكولونيالي الى الشكل الثالث الذي يجعل من مجتمعات باكملها تتمتع بحريتها الشخصية لكنها خاضعة لتقسيم عمل دولي يجعلها في موقع المفعول به وعلى طول خط السير انتاجا وتوزيعا وعرضا وطلبا!
الحروب سياسة بوسائل عنيفة!
تعرف السياسة بانها فن الممكن، واذا كانت الحرب هي سياسة في الاصل فانها حتما فن له كامل اركان الممكنات، مادامت العقلية الاولى، بوحشيتها وبربريتها، هي الممكن الوحيد لعقلية مدنيتها القائمة!
يتبع الجزء الرابع
*** 

 جمال محمد تقي

 

 

لم يسبق لفكرة الخالق، او "الله"، واكتشافها كضرورة وجودية نوعية مجتمعية ان نوقشت من قبل ضمن سياقات تشكل التعبيرية اللاارضوية، ومستوى الجهد الهائل، ودرجة العبقرية العقلية التي اقتضتها بدلا للارضوية وسبابها الكيانيه الحاجاتيه والبشرية التي اليها تعود التشكليات الكيانيه، مقابل الكيانيه الكونية مافوق، والمتعدية للكيانيه كجغرافيا وكائن بشري، ماكان يستوجب حضور قوة عليا، تجرد الارض من كل اشكال الحضور، او السلطة، او الكيانيه المعروفة، واضعه اياها بعهدة السماء والقوة الخارقة الاعلى، ومتخلصة بهذا من قوة فعل الارضوية الغالبة وجبروتها في حينه، في وقت ماتزال التحققية اللاارضوية مؤجله الى زمن وطور اخر،لم تتوفر اسبابه بعد.
ولنتخيل اليوم كيف واجه العقل الرافديني السومري الاول مسالة (ارض اللاارضوية الكونية العليا)، ومالذي استوجبته في حينه من بنائية شاملة لوجود مجتمعي اخر غير مرئي، موضعه السماء، مع كل مرويته الوجودية، وقصص الخليقة الاولى على الارض، "وادم" الاب الاعلى للكائن الموجود لكي يعمر الارض، وموجبات الكينونه اللاارضوية اليومية السلوكية الموافقه لاحكام السماء، ومايترتب عليها من حساب قادم بعد الموت، حيث العالم الاخر، مايرتفع بالكائن البشري من الارض ليرهن وجوده بكينونة اخرى، وبنهاية وحصيلة مقررة ينتهي عندها الوجود على الكوكب الارضي، ليبدا زمن مافوق الارض، بما جعل الوجود البشري على امتداد التاريخ ازدواجيا، ممتنعا على الغلبة الكلية الارضوية، برغم ملموسيتها وفعلها الحي اليومي الحاجاتي المباشر.
مع ذلك فان هذا الجانب لايلقى اي توقف او مجرد تلبث، حين ينظر الى المجتمعية كظاهرة مع اولى تبلوراتها، فالاركولوجيا الاوربية المتاخرة همها الاول والاخير هو الجانب الارضوي، والبحث عن اللقى والاثار، وما يسمى الوثائق، مع انها ان اكتملت تشكلا لاتمثل الجانب الاساس، فلا يتبقى مهما جرى على يد "الباحثين" وعلومهم، سوى الجانب المبسط المعاش من الوجود المجتمعي من دون منطواه السماوي، الذي يعامل ببداهة على انه مشمول من ضمن الظاهرة الوحيده المجتمعية الارضوية، قد تقتضيها اسباب متعلقة بنواقص الكينونة البشرية.
ان مايذهل لهذه الجهه دلالة على قصورية العقل الارضوي، النكوص امام المنجز العبقري النبوي كفعل فوق ارضوي، من قبل اشخاص من نوع المسيح عيسى او محمد، الاول بظل الامبراطورية الرومانيه، واختراقه لها اعزلا بلا سلاح ولاجيش وحتى من دون اب،مع مع تحقيقة الاختراقية المجتمعية اللاارضوية باستمراره وجودا "حيا" الى اليوم بين تضاعيف جزء هام من المعمورة، بعد الفي عام، او محمد الامي القابع في اخر العالم واكثره " تخلفا"، والمخنوق بحضور فارس وروما هو وقبائل الجزيرة المازومة، ليخرج من ارضه بمائتي الف محارب من الحفاة، فيصل الصين والهند وغربا الى اسبانيا في عشرين عاما وهو مالم يعرف له مثيل ارضوي، ليبقى حيا حيث وصل الى اليوم، بينما ماركس ونظريته الحداثوية الطبقية لم تدم اكثر من قرن ونصف حتى انهارت، وصارت من الماضي، برغم العلمية والديالكتيك وماديته التاريخيه، ما يضعنا امام نوعين من الفعل والعبقرية، احدهما اني محدود خاضع للملموس وحركته وتقلباته، واخر كوني فوق ارضي قابع في الدواخل البشرية، متعد فعالية للفعل الارضي الامبراطوري والعقلي بما لا يقاس ولا يقارن.
عالمان ومجتمعيتان، عدم الاعتراف بثنائتهما المتلازمه هو غمط للاثنين، واسقاط للحقيقة المجتمعية الواقعية بكليتها، مهما يكن النزوع الارضي المادي الاحادي العياني للغلبة المطلقة والواحدية الداله على القصور الادراكي، ونقص الطاقة العقلية، المستفيده مؤخرا ومنذ الختام النبوي قبل الف واربعمائة عام، من الانحطاطية الشاملة على الصعيدين الارضوي واللاارضوي في الموضع الذي عرف ابتداء وقبل غيره، التاسيسات الاولى للازدواج المجتمعي، فلم يبق من اللاارضوية وتعبيريتها غير الفقه والتكرار وقائعا واقوالا تعداها الزمن مع اعلان الختام، فالنبي محمد الذي اعلن كونه الختام النبوي، انما كان وقتها يبلغ العالم عن دخول اللاارضوية طورا اخر غير النبوة والحدس الالهامي، مايستوجب نوعا اخر من التعبيرية، وليس اجترار والامساك بتلابيب ماقد انتهت فعاليته.
هنا يتمثل التحدي الاكبر الوجودي التاريخي الكوني المنتظر، خلافا لما قد ساد الى اليوم من مفاهيم التماهي مع الغرب، ومحاولة الحاق المنطقة بالمفاهيم والنموذجية الغربيه، الامر المتعدي كليا للغرب وماهو محكوم به، بالاخص مع الانقلابية الاليه منذ حلولها هناك بصيغتها الافتتاحية الاولية المصنعية، وماقد تسببت به من انقلابيه عقلية وعلمية على المستويات المختلفة ارضويا، وبما يبقي مفعول الاله ضمن ذات المقاصد اليدوية الارضوية السابقة، في الوقت الذي تتوفر فيه اليوم ومع الانقلاب الالي نفسه، اسباب الانتقال اللاارضوي تعبيرا ونظرا انقلابيا مابعد نبوي حدسي، مرتكزه الادراكية العليّة اي العقلانيه اللاارضوية.
فالاله ليست صيغه واحده نهائية، بل هي محكومة بالتغير والتحور، من مصنعية الى التكنولوجية الانتاجية الحالية، الى التكنولوجيا العقلية العليا، اي هي قوة تامين اسباب الانتقالية اللاارضوية، وليس اقامه المصانع وصناعة السيارات والطائرات، وهذا يستوجب ان يرى اللاارضويون بانهم ذاهبون وشيكا الى الاكوان العليا، وان الوجود على الارض هو حالة مؤقته انتقالية مابين "الانسايوان" المزدوج الكينونه (جسد/ عقلي)، الى الانسان / العقل، الذاهب للانفصال عن الجسد، واخر متبقيات الحيوانيه الباقية عالقة به وحاملته، وهذا ماكان يعنيه من مثلوا اللاارضوية وانبيائها العظام الكبار، وعباقرتها عن زمن التحقق، وان التكنولوجيا العليا هي الثورة الاليه بالمنظور اللاارضوي، حيث الاكتمال والوصول الى المبتغى منها، ومن حصولها في الطرف الثاني من المتوسط، بصفتها ثورة عقلية اخرى، تنهي متبقيات الارضوية المستمرة حتى بعد انبجاس الاله ومانتج عنها من توهمية حداثوية خضعة لهيمنه العقل اليدوي الموروث الراسخ، كان لها ان ظهرت بين تضاعيف مجتمعية ارضوية عالية الديناميات بسبب ازدواجيتها الطبقية.
ثمة جهد هائل وخارق ينتظر العقل اللاارضوي من هنا فصاعدا، لامثيل له ولاسابق، هو مايمثل بعد اليوم الحقيقة التحولية البشرية والانقلابية المتعدية للارضوية والجسدية، مع متبقياتها السائرة للزوال، مثل الموت الجسدي، والحاجاتيه، وكل اشكال الكيانيه الموضعية ونظمها الراهنه، واليدوية المنتهية الصلاحية، الامر الذي سيحتاج الى مالا يمكن الان وصفه من الجهد والعمل الخلاق اللائق بالعقل اللاارضوي المتعدي للقدرات الارضوية المعروفه بسنين ضوئية، وان قوبل بكل الرفض الذي يمكن تخيله او من المستحيل تخيله.
ايها الكائن البشري، انت ذاهب الى العالم الاخر، تلك هي مهمتك التي عليك تحقيقها من الان فصاعدا، بغض النظر عن، وبرغم كل القصورات التي تعاني منها، مع غيرها من المتبقيات الارضوية المانعه، بالاخص لان الاحتمالية تقول بان الشرق الاوسط سيكون هو البؤرة الانتقالية التحولية العظمى كما كان ابتداء، والا فان المتبقي على مستوى المعمورة خيارا في نهاية المطاف، هو الفناء.
***
عبد الأمير الركابي

من اهم مظاهر الانحطاطية الشرق متوسطيه المستمرة منذ اكثر من سبعة قرون، غياب التحدي الابراهيمي من الاهتمام العقلي، على افتراض وجود مايدل على حضوره الفعال باية درجه ومستوى، وفي مكان وموضع من المعمورة، تعبيريته الرئيسية والاهم عن ذاته، نبوية حدسية ابراهيمية، لم تحضر هذه على الاطلاق من بين مايمكن اعتباره مجالات وموضوعات جديره بالمراجعه، بحثا عما يمكن ان يكون مساعدا على عبور حالة التردي الشامل وتوقف عمل الديناميات التاريخيه المجتمعية، هذا على الرغم من تعاظم الرغبه باللجوء لمتبقيات هذا المنجز، ومحاولة بعث فعاليته المتوقفه عن طريق تكرار نماذجه ومناسباته الفعالة المنصرمه، والتي غدت من الماضي، وادت المطلوب بناء على اشتراطات زمنها الذي انقلب وتغير مع حضورها، لنغدو بعدها، وبعدما وجدت، مشمولين بمفاعيل زمن اخر كمثل الاسلام الختامي وماتحقق بفعله انتشارا وفعالية امبراطورية دامت لاكثر من خمسة قرون، وكرست الانتشار المفهومي شرقا وصولا الى الصين وغربا حتى غرب اوربا.
والاشكال الاكبر والعقبة الكاداء لهذه الجهه، ان الابراهيمية والنبوية العملية منها كالمسيحية والاسلام، لايخضعان عقليا للتاريخانيه، وانهما مع جملة النبوية خارج فعل الزمن والتاريخ، فليس لهما ماض وحاضر ومستقبل، وهذه الصفة المتعدية للتاريخ تناسب مصدرهما الالهي فوق الزمني، والذاهب بهما الى انتهاء الوجود البشري على كوكب الارض/ القيامه، مايعني كونهما حضور عالم آخر في قلب الحياة الارضية المجتمعية المادية، تاخذها لمافوق ارضوية.
هذا في حين سادت مع الحضور الاوربي المتاخر الالي على مستوى المعمورة، نزعه متشبهه بالمصدر الغالب تفكرا ونموذجا، تكرس الارضوية ومايعرف بالعقلانيه والعلم، بما يخرج المنظور المعروف بالديني من دائرة الاهتمام، وصولا لالغائة كضرورة وموجب حياتي فضلا عن الخياراو احتماليته على مستوى الحياة المعاشة وتنظيمها، قابله في هذا الموضع من العالم نزوع مضاد سلفي انبعاثي، تعددت اشكاله كصيغة دفاعية بلا فعالية منتظره، حضور الغرب ومثله ومفاهيمه الحداثوية ظل يعزز انبعاثها، من دون اية حصيله يمكن احتسابها على صعيد مضاهاة الواقع عالميا، بعد الانقلاب الالي ونهوض الغرب، او الخروج من دائرة وعالم الانهيار الانحطاطي المستمر.
لم تخطر على البال على الاطلاق، احتمالية وقوف المنطقة الابراهيمه الشرق متوسطية امام مفترق تاريخي ابراهيمي، يخرج بالتعبيرية الكونية التاريخيه من عالم غير المدركة خلفيته الى الواقع والمعاين، بمعنى الثورة داخل الابراهيميه، ومع ان الغرب قد شرع كابتداء وتمهيد في وضع اسس النظر الى الظاهرة المجتمعية التي كانت خارج الادراكية العقلية على مدى تاريخ البشرية، الا ان ماقد تحقق في مجال "اخر العلوم" لم يكن قد وصل الحد الضروري واللازم لاجل مقاربة ماهو مطلوب ومساعد على ظهور مايمكن ان يفتح الباب، امام طور اخر تكميلي مناسب للمرحلة التاريخيه من الرؤية اللاارضوية النبوية بصيغتها الحدسية الاولى، فلقد كان المطلوب وغير المتوفره اسباب بلوغه بعد، اماطة اللثام عن الحقيقة المغفله غير المكشوف عنها بما خص المجتمعات ونوعها، واذا كانت كما هو سائد وغالب، واحدة ام اكثر نوعا، وصولا الى التعرف على ثنائية النمطية المجتمعية اللاارضوية/ الارضوية.
وقتها كان من الوارد او يصير من المعقول التفكير بمصدر اخر واقعي وملموس للتعبيرية الاخرى النبوية الابراهيمه، فضلا عن ان يحضر التفكير بضرورة وامكان ان تكون الرؤية المذكورة خاضعه، وان بحسب شروطها وكينونتها، للتاريخانيه وللتطور نوعا، ومع ان الغرب قد اكتشف وقتها بان التعبيرية الفوقية نتاج البنية التحتية، الاانه ظل يرى في التعبيرية النبوية صيغة وحيده ماورائية دينيه، نافيا عنها صفة المجتمعية ولو من باب الاحتمال، ولايقف الامر لهذه الجهه عند النوع والنمطية المجتمعية من دون مكمله، والعامل البنيوي التكويني البشري وازدواجية كينونته العقلية الجسدية، الامر الذي يسهم في تعميم اشكال الرؤية المعتبرة ماورائية كطور من اطوار مسيرة العقل، كما قرر الغرب اعتباطا بحسب هيغل على الاقل، متنقلا بالعقل من الاسطورة، الى الدين، الى الفلسفة، بينما الواقع ان ماعرف من تعبيرية هو الاخر ثنائية، ابراهيميه نبوية شرق متوسطية، وفلسفية اغريقية مقابلة من نوع وصيغه اخرى، هي قمة التعبيرية الارضوية مقابل التعبيرية اللاارضوية الشرق متوسطية.
هل الانتقال من اليدوية مجتمعيا الى الاله يغير شكل التعبيرية اللاارضوية واعلى صيغها واكملها النبوية الابراهيمه؟ لقد قلبت الاله الغرب الاوربي على الصعد كافة، وغيرت منظوره للاشياء وللكون كما كان ممكنا، وبحسب مامتاح ومتوفر من قدرة المجتمعية الارضوية الاعلى ديناميات ضمن نمطيتها وصنفها بسبب الازدواجية الطبقية، على التفاعل مع الطاريء الانقلابي النوعي، غير ان هذا ليس اخر ولانهاية مامتضمن في الانقلابية الالية على مستوى المعمورة، بانتظار شمولها العالم بعد اوربا الرائدة، ومطلقة الانقلابيه المفهومية والمجتمعية الابتداء، وهو مالن يكون النهاية، ولا اخر ماسيترتب على الحدث التحولي الحاسم، وخصوصا بما يتعلق بالجزء من العالم المعروف بالشرق الاوسط الابراهيمي، الاسبق تبلورا مجتمعيا، وصياغه تاسيسية بدئية للحياة البشرية، وللتعبيرية الكونية الازدواجية الاكمل، فاذا كانت الالة لم تنبجس ابتداء في هذا الموضع بالذات، وظهرت مقابله على الطرف الاخر من المتوسط، موضع التفاعلية التاريخي مع الجانب الشرقي، فان ماعرف وحدث الى اليوم لن يكون النهاية، ولا اخر مامنتظر كونيا.
بالتوقف عند باب التعبيرية اللاارضوية الشرق متوسطية باعتبارها مجتمعية غير مدركة، وقف العقل البشري بسبب قصوريته الابتدائية دون الكشف عن خاصياتها ومصدر تعبيرها، ليس من المستبعد ان نجد المحركات المتزايدة الفعالية مع الوقت وزيادة اسباب التردي الثاني، بعد فترة التماهي الاولى مع الغرب، الغالبة اليوم، والسائدة كانحطاطية ثانيه، شامله بعدان انتفت وخرجت من الحسبان الاسباب المتوهمه عن اللحاق بالغرب لمجرد الرغبة ووطاة العجز عن مقاربة الذات والاخر.
فلنتوقع اليوم ومن هنا فصاعدا، بدء الاضافة النوعية اللاارضوية المعتادة بصيغتها الراهنه، الموافقه لطبيعة هذا الجزء من المعمورة، ولمقتضيات حقيقة الوعي الكوني بعد الانقلاب الالي، لاارضويا، بانتظار الثورة الكبرى في علم الاجتماع ومترتبات البنية التعبيرية الموافقه للانقلابية المجتمعية اللاارضوية الالية، بعد النبوية اليدوية، وهو مايمكن تخيله كمسار انتقالي كوني مستجد، من المنتظر ان يكون هو الانقلاب الكوني الفعلي المواكب لظهور الالة وقد شارف على الانبثاق، بمقابل احتمالية اخرى هي الفناء.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم