
وضع احد اهم اعلام التفكير الغربي الحديث هيغل للعقل مسارا تتابعيا موحدا اياه من الاسطورة، الى الدين، الى الفلسفة، وهكذا يصير الغرب على مستوى التجلي العقلي وسيرورته، الاعلى والقمه منذ الاغريق، فكيف اليوم، علما بان الراسمالية قد ارتهنت حسب اهم "علماء" الاجتماع الغربيين(1) الى التعبيرية اللاارضوية الدينيه "البروتستانتيه"، والسؤال الذي يظل معلقا هنا هو لماذا لم تصبح الفلسفة اختراقية مجتمعية على مستوى العالم، وظلت مجالا نخبويا مقارنه بالدين الممارسة الحياتيه الشاملة، بحيث نتوقع سؤالا اخر هو لماذا لاتكون التعبيرية تعبيريتان منفصلتان، لاارضوية مجتمعية ابراهيمة شرق متوسطية هي ظاهرة كونيه شاملة، تقابلها تعبيرية ارضوية تظهر في اعلى المجتمعية الازدواجية الطبقية الاعلى ديناميات ضمن صنفها الارضوي الاحادي.
ان مايسقط من اللوحة ويخلخل بنيتها على مستوى الادراكية البشرية لهذه الجهه، هو القطع بنهائية الطور الفلسفي الثاني بعد الاغريقي، المترافق مع الاله، واعتباره الخاتمه الكونيه غير القابله لاية احتمالية اخرى، وهو ماجرى تكريسه اليوم بكل ما متاح من طاقة بحيث غدا من المستحيل كليا التفكير باحتمالية الطور الثاني "الديني" المجتمعي اللاارضوي، بحكم التبدل الانقلابي من اليدوية الى الالة، بحيث نتوقع انتقالا من الحدسية النبوية الى العليّة على سبيل المثال، لندخل باب "العلم" و "العقلانيه" اللاارضوية، بدل الارضوية الغالبة والمكرسه.
ليس بمقدور العقل الاحادي الارضوي ادراك، فضلا عن قبول فكرة الازدواج المجتمعي، وحين يذهب الغرب الحديث للكشف عن الحقيقة الازدواجية الطبقية التي ظلت غائبة حتى القرن التاسع عشر، فانه يبادر الى تعميمها على العالم، مستبعدا كليا احتمالية ان تكون هنالك "ازدواجية" اخرى غيرها، من نوع "الازدواجية المجتمعية" التي هي خاصية المجتمعية الشرق متوسطية، وهي السبب وراء، والمحرك الدينامي الذي اليه تعود التعبيرية الكونية اللاارضوية الاختراقية للمجتمعات الاحادية، نبويا حدسيا ابان الطور اليدوي من التاريخ المجتمعي.
هنا نكون امام اهم واكبر نقص يرافق عملية الانتقال الالي بصيغتها الابتدائية الاولى، ومارافقها من ردة فعل عائدة الى نوع المجتمعية التي انبثقت بين ظهرانيها، كمفتتح بواية مسار ذاهب الى الاكتمال ماديا، وعلى مستوى الوعي، مابين الالة المصنعية الاولى والتكنولوجيا الانتاجية والعليا العقلية الوشيكه، وماتتطلبه من نمطية اعقالية ضرورية، الكينونة المجتمعية ليست قاصرة دونها، الامر الذي يتم نفيه ابتداء بالتركيز على الحاصل الابتداء على انه الغائية والنهاية المرجوة من الانقلاب الفاصل الواقع، الامر الموحي بالمحدودية الادراكية ونقص الخيال المتوافق مع الحقيقة المجتمعية ومنطوياتها الثرة، والمتعدية للمنظورات والملموسات التبسيطية الاقرب الى الطبيعة الجسدية اليدوية، وثقل ترسبها من الطور المجتمعي المنقضي.
والاهم في اللوحة المشار اليها اعلاه، ليس فقط ماقد ولدته القصورية الاوربية ومتبقياتها، فالخطر لهذه الجهه هو ماقدحصل كانعكاس متماه مع الظاهرة الغربيه وماتقوله عن نفسها، وماهو واقع بحكم المتغير الالي وما رافقه من منجز هائل، وهو ماقد حل على موضع الازدواج المجتمعي الشرق متوسطي اللاارضوي، ولابد ان ناخذ بالاعتبار بما خص هذا الموضع من العالم، كونه يوم وقع الانقلاب الالي الاوربي، كان في حال انقطاع بين الدورات، وهذه عادة ما يتلازم معها الانحطاط، فالمنطقة الازدواجية المجتمعية محكومة مثلها مثل الازدواجية الطبقية، الى المراحل التي توافق كينونتها وبنيتها، فهي خاضعه لقانون الدورات والانقطاعات، اكثرها تجليا في الموضم الازدواجي البؤرة في ارض مابين النهرين التي كانت قد انهارت دورتها الثانيه العباسية القرمطية الانتظارية مع القرن الثالث عشر، وعادت للانبعاث بلا نطقية مع القرن السادس عشر.
ووقتها لم يكن من المتوقع لهذا الموضع ان ينهض معبرا عن ذاته بناء على، ووفقا للاشتراطات الناشئة الاليه الحديثة، خاصة وانه لم يسبق ان عبر عن ذاته بحسب ماكانت تتيحه اشتراطات الطور اليدوي "عليّا"، فكانت تعبيريته وقتها "حدسية نبوية" ايحائية، لتبقى مسالة ادراك الذاتيه مؤجله، بانتظار التفاعلية الناشئة عن الانقلاب الالي ومايترتب عليه، وفي مقدمته التشبهية بالغرب قوميا، ووطنيا، ثم طبقيا، احاديا ارضويا، مع كل مايلازم ذلك من متغيرات المتغير الالي، وانعكاساته الشاملة الابتدائية كما تنطق بها الارضوية الاحادية، بصيغتها الطبقية.
ومع ان المنطقة كانت قد عرفت من جهتها بداية الانبعاث الحالي الحديث الثالث في ارض سومر جنوب العراق قبل الانقلاب الالي، عند القرن السادس عشر، الا ان ذلك لم يرافقه النطق اللازم، وظل مبعدا من الادراكية والوعي بحكم استمرارمفعول اليدوية التي كانت سائده هنا، في حين عمت المنطقة امثولة مصرية مع محمد علي الالباني، على اعتبار مصر هي البنية الوطنيه النموذجية الاقرب الى الكينونه الغربية الاوربية، وان من دون دينامياتها، كما وجدت انطلاقا من الجزيرة العربية موضع الثورة الكبرى الاسلاميه، بدايات الدعوة "القومية" بتحفيز براني، وصولا الى الطبقية العامة بناء على التاثر بالانقاسامات الحاصلة في البنية الغربية دوليا، وحالة القطبيه العامة للكوكب، ماقد منح فكرة الطبقية الماركسية فعالية عالمية.
هذا ماكان بمستطاع العقل الازدواجي واللاارضوي الشرق متوسطي ان يتمخض عنه، خلافا لحقيقتة، لابل للحقيقة الانتقالية التحولية المجتمعية الكونية المتلازمه مع الانقلاب الالي، ومساره، وماهو ذاهب اليه من انتقال من الجسدية اليدوية، الى الاليه التكنولوجية العقلية، فالانقلاب الالي يبدا بالاكتمال مع الرؤية النطقية اللاارضوية الثانيه المطابقة لمنطواه، ووقتها يصير العالم ماخوذا بالانتقالية العظمى، الى العقل، مع بدايات تحرره واستقلاله عن الجسدية، الامر المرهون للقفزة اللاارضوية الثانيه العليّة، مابعد الابراهيمه النبوية الموافقة والمتطابقة مع اشراطات اليدوية والغلبة الارضوية.
نحن ازدواج مجتمعيتان، مانراه وماقد وصل الى الانهيار الشامل على الصعد كافة دولا وتيارات واتجاهات متشبهه ببغاويا بالغرب الابتدائي، هو انهيار الارضوية ضمن تكويننا اي الجزء القابل للتماهي مع الغرب القصوري، وهو البداية والاشارة التاريخيه الكبرى لانبثاق التعبيرية العظمى التحولية الازدواجية اللاارضوية، تلك التي ستاخذ الكائن البشري الى المستقبل المقرر له، والحاكم لوجوده والياته التاريخيه، وهو مما" لاعين رات ولا اذن سمعت".. فلنوجه النظر الى هناك، الى حيث يقبع السر الكوني المجتمعي الاعظم المغفل كنقيصة وعي وادراكية كبرى "انسايوانيه"ظلت غالبه الى اليوم.
***
عبد الأمير الركابي
...........................
(1) مثال كتاب "ماكس فيبر" الهام فوق العادة "الاخلاق البروتستانتيه وروح الراسمالية"/ مركز الانماء القومي/ ترجمة محمد علي مقلد.