آراء
عبد السلام فاروق: الوحشية الغربية بلا أقنعة

لطالما تغنى الغرب بحضارته، وادعى أنها قائمة على قيم الحرية والعدالة والإنسانية، لكن الواقع يكشف زيف هذه الدعاوى كل يوم. فها هي أربع عشرة طائرة شحن قادمة من أمريكا وألمانيا تصل إلى أرض المحتل، محملة بالعتاد الحربي، لتزيد من نار الصراع اشتعالاً، وتؤكد أن الحضارة الغربية ما زالت تعيش في عقلية الحروب الصليبية، تمد يدها بالسلاح والدمار حيثما أرادت، وتنثر خطابات السلام حيثما انتهت مصالحها.
حضارة أم غزو؟
يقولون إنهم يحملون مشعل الحضارة، ولكن أي حضارة هذه التي تقوم على احتلال الأرض وسرقة الحقوق؟ أي حضارة تزعم أنها تنشر الديمقراطية وهي تدعم الاستبداد؟ إنها حضارة تناقض نفسها، فهي ترفع شعارات الحقوق الإنسانية بينما تبيع الأسلحة لمن ينتهك هذه الحقوق. إنها حضارة تلبس ثوب الفكر والتنوير، لكن عقلها لا يزال يعيش في القرون الوسطى، حيث القوة هي القانون، وحيث الغزو والاستعمار وسيلة للسيطرة.
صدع الغرب رؤوسنا بحديثه عن حقوق الإنسان، لكنه لم يتورع عن دعم كل محتل، ولم يتردد في إشعال الحروب حينما تتعارض مصالحه مع مبادئه. فهل يمكن أن نثق بحضارة تضع سكيناً في يد القاتل، ثم تأتي لتمسح دم الضحية؟!
عقلية الصليبي الجديد
ما الفرق بين الغزوات الصليبية التي اجتاحت المشرق منذ قرون، وهذه الطائرات التي تحمل السلاح اليوم؟ الفرق في الشكل فقط، أما الجوهر فهو واحد: عقلية الغازي الذي يرى نفسه سيد العالم، والذي يعتقد أن له الحق في تقرير مصير الشعوب. إنها العقلية نفسها التي أحرقت مكتبات الأندلس، ودمرت حضارات بأكملها في أمريكا اللاتينية، واستعبدت إفريقيا لعقود.
ولكن التاريخ يعلمنا أن كل ظالم إلى زوال، وأن الشعوب التي تقهر لا تموت، بل تتحول قهرها إلى قوة تقاوم. فكما انتفضت الشعوب ضد الاستعمار القديم، ستنتفض الأجيال القادمة ضد هذا الاستعمار الجديد، الذي يتخفى تحت عباءة الاقتصاد والسياسة، لكنه في حقيقته لا يختلف عن سابقه.
لا ينبغي للغرب أن يندهش حينما تتحول الشعوب التي عانت من قهره إلى قنابل موقوتة. فكل فعل يولد رد فعل، وكل ظلم يزرع بذور الثورة. لقد حوّل الغرب دولنا إلى ساحات حرب، فلماذا يعترض إذا ما انتقلت هذه الحروب إلى عواصمه؟ لماذا يتعجب إذا ما رأى أبناء المستعمرات السابقة يردون الصاع صاعين؟
إن القانون الطبيعي يقول إن الظلم لا يدوم، وإن الحضارات التي تقوم على القهر تسقط تحت ثقل جرائمها. والغرب، إذا استمر في سياسته هذه، سيجد نفسه يواجه عاصفة لن يستطيع صدها، لأن الشعوب التي تتعلم من التاريخ لا تنسى، ولا تغفر.
فالحضارة الحقيقية ليست في تراكم السلاح، ولا في فرض الهيمنة، بل في احترام الإنسان، في كل مكان. والغرب اليوم، بدعمه للمحتل وتزويده بآلات الدمار، يثبت أنه لم يتعلم من دروس التاريخ. فليتذكر أن الحضارات العظيمة لم تسقط إلا عندما تحولت إلى آلة للقتل، وعندما فضلت القوة على الحق.
فهل يفيق الغرب قبل فوات الأوان؟ أم سيظل غارقاً في أوهام تفوقه، حتى تأتي رياح التغيير فتدمر كل شيء في طريقها؟ السؤال معلق، والإجابة تكتبها الأيام القادمة.
تناقض القيم ووحشية الممارسة
لا يكفي أن نقف عند حد تشخيص الداء، بل لا بد من تعرية جذوره، وتتبع مساراته الخفية التي تتخفى وراء خطاب براق، لكنه أجوف من الداخل. فالغرب الذي يتشدق بالحرية والديمقراطية هو نفسه الذي يدعم أنظمة استبدادية حينما تخدم مصالحه، وهو نفسه الذي يبيع السلاح لكل من يدفع، بغض النظر عن دماء الأبرياء التي ستسيل به. فأين هي المبادئ التي يرفعها الغرب شعاراً، إذا كانت المصالح هي التي تقود سياسته؟
أتقن الغرب لعبة ازدواجية المعايير، فهو يدين العنف في مكان ويغذيه في مكان آخر. فها هو يحاكم مجرمي الحرب في محكمة الجنايات الدولية، لكنه في الوقت نفسه يمد إسرائيل بكل ما تحتاجه لمواصلة جرائمها في فلسطين. وها هو يرفع لواء حقوق المرأة في العالم العربي، لكنه يتجاهل معاناة النساء والأطفال تحت القصف الغربي في العراق وسوريا وأفغانستان.
فكيف يمكن للعقل أن يتقبل هذا التناقض الصارخ؟ الجواب بسيط: لأن الغرب لا ينظر إلى هذه المبادئ إلا من خلال عدسة المصلحة. فإذا تعارضت المبادئ مع المصالح، طويت المبادئ جانباً، وإذا تطابقتا، رفعت رايات الفضيلة. وهذا هو جوهر النفاق السياسي الذي تمارسه النخب الغربية، والتي تريد أن تصدر للعالم صورة المنقذ، بينما هي في الحقيقة جزء من المشكلة.
الاستعمار الجديد
لم يعد الاستعمار الغربي يحتج إلى جيوش غازية كما في الماضي، فقد اكتشف أدوات أكثر فاعلية وأقل كلفة: الاقتصاد، والإعلام، والثقافة. فالشركات العابرة للقارات تمتص خيرات الشعوب تحت شعار "الاستثمار والتنمية"، والإعلام يغزو العقول عبر صناعة الرأي العام، والثقافة تصدر على أنها "قيم عالمية"، بينما هي في حقيقتها إمبريالية فكرية تهدف إلى طمس الهويات المحلية.
ولكن هل يمكن لهذا النموذج أن يستمر إلى الأبد؟ التاريخ يقول لا. فكما انهارت الإمبراطوريات القديمة تحت ثقل تناقضاتها، سينهار هذا النظام الجديد عندما تدرك الشعوب أنه لا يختلف عن سابقه إلا في الشكل. فالعنف الاقتصادي قد يكون أبطأ من العنف العسكري في إثارة الغضب، لكنه أعمق أثراً، وأشدّ تدميراً على المدى البعيد.
بين اليأس والأمل
قد يتساءل البعض: ما جدوى المقاومة في عالم يسيطر عليه الأقوياء؟ والجواب هو أن المقاومة ليست خياراً، بل هي ضرورة وجودية. فالشعوب التي لا تقاوم تُدفن حية، وتُسلب إرادتها، وتُحوَّل إلى مجرد أدوات في آلة الاستهلاك الغربية. لكن التاريخ يعلمنا أن كل محاولات القهر فشلت في النهاية، لأن إرادة الحياة أقوى من كل آلات الموت.
لقد رأينا كيف انتفضت الشعوب في فيتنام ضد أعتى قوة عسكرية في العالم، وكيف خرجت الجزائر من تحت نير الاستعمار الفرنسي، وكيف تقاوم فلسطين منذ عقود رغم كل الدعم الغربي للمحتل. هذه الأمثلة تثبت أن الظلم لا يدوم، وأن الأمل لا يموت ما دام هناك بشر يؤمنون بعدالة قضيتهم.
هل من سبيل للخلاص؟
إن خلاص العالم من هذا النموذج الغربي المتوحش لن يأتي إلا بصحوة إنسانية حقيقية، تعيد الاعتبار للعدل والمساواة، وتنزع عن الغرب هالة الزيف التي صنعها لنفسه. فإما أن يعيد الغرب النظر في سياسته، ويعترف بحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وإما أن يستعد لمواجهة عواصف الغضب التي ستجتاح عواصمه يوماً ما.
أما نحن، فلا خيار لنا إلا أن نواصل الكفاح، بالكلمة والسلاح، بالفكر والمقاومة، حتى نسترد كرامتنا، ونحفظ لأجيالنا القادمة حقها في عالم أكثر عدلاً وإنسانية. فكما قال الشاعر:
وإذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياةَ
فلا بُدَّ أن يستجيبَ القدرْ
فهل نستطيع أن نكون نحن ذلك الشعب؟ الجواب بين أيدينا.
***
د. عبد السلام فاروق