آراء
الطيب النقر: ألق الماضي وقتامة الحاضر

في أوقات الوحشة، ليس لديك مناص سوى أن تعبر بحر الذكرى، وتقطع فجاج السنين، فهناك معاني وأحداث تشع عند الاجترار، ولذة ومتاع يحلو عند الاعادة، ليذهب عنك هذه الرتابة التي أمست ثاوية مقيمة، وليست مجرد طور خاطف لا يلبث أن يزول، ستظهر اغتباطك إذن، وأنت تمضي في هذا السفر الطويل اللذيذ، سفر لا خطر فيه، أو لا يكاد يوجد فيه شيء من الخطر، إنها رحلة طويلة بلا شك، ستعرف معناها، وتستبين غايتها، و تصل بها إلى نهايتها، وستدرك حينها وأنت تمعن في ظرفها، وكياستها، وبساطتها، أن قدرتك على الثبات، ومقاومة الأحداث، واهية ضعيفة، وانك وأنت غارقاً في لججها و زخمها، لا تسمع مطلقاً اصطخاب موجها، ولا هدير بحرها، ولا عصف ريحها، كلا لن تسمع شيئاً من كل هذا، فعقلك وحواسك كلها، قد استرعى اهتمامها سائر تفاصيلها المثيرة، التي تملك عليك سمعك ونفسك، وتجعلك لا تبتغي شيئاً غير أن تقف عندها، وتحكم عليها.
ونفسك التي هي حتماً لم تكن الوحيدة التي تستقي من يم الذكريات، ولكننا نظن ونغالي في الظن، بأنها في طليعة المهج التي تأنس منها الميل إلى سجية الماضي، والاعجاب به، فهي تخضع له، ولا تجد عنه غنى ولا منصرف، هي إذن تصغي لتفاصيل أيامها الخوالي، وترتمي في أحضانها الدافئة، لأن أيامها التليدة تلك، ليست مثل حاضرها القاحل، حاضرها في الحق قاتم، موحش كئيب، تهيم فيه هذه النفس مجهولة وحيدة، حتى وهي وسط أهلها وعترتها، ويضنيها خمول اسمها، وبطلان مساعيها، ففي أيامها المنصرمة ما يحملها على الاعجاب بها، والتفكير فيها، أنس النفوس، وتعاطف القلوب، وائتلاف الأرواح، في تلك الحقب التي قضت واندثرت، الاشتمال والرعاية، والصون والعناية، كان قاصراً على اللهو الساذج، والعبث البريء، وآمالها التي لم يكن هاجسها قط تمكين يد، أو ترسيخ قدم، أو نصرة راية، أو تنضيد لفظ، أو إعلاء كلمة، مبلغ خواطرها، ومنتهى تجاربها، أن تلط بالمال، وتخيس بالعهد، وتذهب قليلاً عن الرشاد، ويضرب بينه وبينها الأسداد، لأجل ذلك كانت تعود أدراجها إلى غابر عهدها، وتلتفت كثيراً إلى عقودها التي مٌحقت وتلاشت.
كانت نفسك حقاً تكبر سابق أيامها، وتذعن لها، وتمتثل لأوامرها ونواهيها، لأنها خلت من تلك الأحزان التي تحر الصدور، وتنكى القلوب، وتبكي العيون، وتصدع الأكباد، كان ماضياً واضحاً جلياً، لا تستتر وراءه لوعة أدهشت الناس بأحاديثها، ومقالاتها، وصورها، ماضي لم تقبع فيه روحك حزينة كاسفة، يجثم بجانبها الأمل الذي أصابته جروحاً غائرة، يشكو شكاتها، ويتألم بآلامها، روحك التي تنتظر أن تتحفها الأقدار بمنن وعطايا، تبعث فيها ضروب الاحساس والشعور، احتشدت فيها، أوجاع راهنة، خلفت لها هذه القروح جوى واصب، وأسى مستقر، ما زالت هي غارقة في موسيقاه الشاجنة، وأناته الشجية.
حاضرنا إذن موسيقاه شاحبة، وأنغامها حزينة، موسيقاه نشاز لا يحتمل، ولا ينتظر أن يستجيب لها الناس، ويهرولوا إليها، لأنها ليست عامرة ولا مزدهرة، أو حتى آخذة في استكمال ازدهارها باتخاذ الوسائل التي تقيلنا من هذا العذاب الخالد، والعناء المقيم، ايقاع حاضرنا -أيها السادة- الذي لا يذوب رقة، أو يفيض حناناً، هو شدة تسحق أرواحنا، وصخب تصطك منه أسماعنا، ودوي يضعضع ببهرجه، وضجيجه، صلات الحب، والعطف، والمودة بين البشر، نحن باختصار، في حاجة لأن نقرر لجاناً كثيرة، في مواضع مختلفة، فئات تتقن هذه الموسيقى، وتلم بأصولها، تصحح هذه اللجان، الفوضى التي تملأ أرجاء حياتنا، تصحيحاً علمياً دقيقا، هذه الطوائف المستنيرة، بعد أن تصحح نصوصها، وتقوم ما فيها من اضطراب، وتحريف، وخطل، عليها ألا تتباطأ في تمزيق أوصال هذه الموسيقى البغيضة التي راجت واتسعت، موسيقى الصراع والحروب، والملاطم، وتستعيض عنها بموسيقى قديمة، عذبة، سائغة، تشعرنا بما كان لنا من إلفة، وبما حباه الزمان لنا من انسجام.
***
د. الطيب النقر