آراء

محمد عمارة تقي الدين: ترامب وحافة الهاوية

تذهب نظرية (حافة الهاوية) تلك التي يجري توظيفها في الحقل السياسي والصراعات الدولية إلى أنه عليك التمترس إلى أقصى درجة، ورفع سقف مطالبك إلى حدود غير مقبولة، وجعل الأمر وكأن حرباً كبيرة ستقوم. في تلك اللحظة سيفقد الجميع الأمل مطلقاً في إمكانية الوصول الى أي حل سلمي، هنا يكون الجميع قد وقف على حافة الهاوية.

ومن ثم حين تُقدِّم تنازلاً بسيطاً جداً سيهرع الجميع للقبول بباقي مطالبك، اعتقاداً منهم أنهم أحرزوا نصراً، ونزعوا فتيل التوتر، وتجنبوا سيناريو الحرب.

فهي إذن استراتيجية التصعيد لأزمة دولية ما إلى قمة الصراع، ودفعها إلى حافة الهاوية من أجل إخضاع الطرف الآخر عبر استدعاء الخوف، وهواجس النهاية المأساوية الكامنة داخله.

ونظرية حافة الهاوية (Brinkmanship) تلك كان قد نظَّر لها وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس، في خمسينيات القرن المنصرم، وتم تطبيقها بالفعل إبان الصراع الكبير بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي فيما يعرف بالحرب الباردة، والحرب الكورية عام1953م وكذلك وقت الأزمة الكوبية عام 1962م.

من هنا يمكننا أن نفهم الاجراءات التي شرع ترامب في اتخاذها في الآونة الأخيرة ضد كثير من بلدان العالم، والتي وضعت الاستقرار الدولي على الحافة، إذ تدور في سياق ما تطرحه تلك النظرية السياسية.

كذلك التصريحات المتعلقة بالشأن الفلسطيني، فما أعلنه ترامب من مخططات تهجير للفلسطينيين والقضاء على مشروع الدولة الفلسطينية لصالح الصهيونية العالمية هي الأخرى، في اعتقادنا، تندفع وفق مقتضيات تلك الرؤية.

فهي إجراءات في اعتقادي سيتراجع ترامب وحلفاؤه عن بعضها لكنهم لن يكفّوا عن الضغط لمرات عديدة في سبيل تحقيقها طالما أن الظرف الدولي يسمح بذلك ولم يجدوا تكتلاً دولياً حقيقياً يتصدى لهم.

غير أن حافة الهاوية الحقيقة التي يأخذ ترامب أمريكا والغرب إليها، والتي نقصدها في هذا المقال، هي حافة هاوية الحضارة الغربية واقتراب انهيارها، إيذاناً بحتمية تشكُّل نسق حضاري جديد، وربما تكون تلك هي الحسنة الوحيدة من وراء وجود ترامب وحلفائه في السلطة.

حقيقة أن الرجل الفائق لدى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، أو السوبرمان الذي بشر به، نجده وقد تجسَّد في شخص (دونالد ترامب)، هذا الرجل الجسماني النفعي، ذو النزعة البراجماتية الانتهازية، والخالي من أية مشاعر إنسانية، الذي لا يعرف مقتضيات الرحمة الإنسانية ولا يفهم إلا مصالحه وفقط ودون أن يعبأ بأية قيم إنسانية.

ربما لو عاش نيتشه حتى رأى ترامب لعدل عن كثير من أطروحاته، أو لانهار مغشيًا عليه من رداءة وكارثية تفسيرها.

تنصيب ترامب هو إذن علامة على بداية دخول الحضارة الغربية والأمريكية تحديداً طور الانهيار، ومن ثم سيتذكر التاريخ تلك اللحظة جيداً.

ونلمح هنا توافق الرؤية الترامبية التام مع النظرة ما بعد الحداثية، فكل شيء قابل للبيع بما فيها الكرامة الإنسانية، والقيم، والمبادئ الخالدة، والتاريخ، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.

وأنه لا أحد يمكنه مقاومة الإغراءات المادية في عصر ما بعد الحداثة، إنها، وفقًا للقناعة الترامبية، تجعل الشعوب تُسقِط من ذاكرتها تاريخها، تُثملها وتضعها في حالة سكر ونشوة بفعل المتع المادية الآنية الكاذبة.

فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذاته هو أحد أحدث منتجات ما بعد الحداثة في طورها الأكثر رداءة، هو تعبير عن بلوغها أقصى درجات الانحطاط الإنساني، ذلك الجسماني الخاوي والمُفرغ من الداخل، ورجل المصارعة الذي يُمجِّد القوة كقيمة مركزية ولا يعبأ بالقيم الإنسانية، رجل البيزنس والمقاولات حيث قيم الربح والخسارة هي الحاكمة وأن كل شيء قابل للمساومة ومن ثم البيع والشراء، كما يتم استدعاء المُتع الجنسية والدفع بها لأقصى حد، الاستهلاك المفرط، الحياة المنزوعة من أي غائية حقيقية، العمل الفاقد للقيمة كعروض الأزياء ومستحضرات التجميل والمضاربات وسمسرة العقارات، المهم لديه هو تحقيق أعلى ربح بأقل جهد.

كذلك النظرة الدونية للآخر، غير الغربي تحديدًا، ذلك الذي هو ما دون الإنسان ومِن ثَمَّ فحياته وممتلكاته وثرواته مباحة طالما أن ذلك سيحقق السعادة والرفاهية القصوى للإنسان الغربي، فهو حقًا (الكائن المستباح)، إذا جاز لنا أن نستعير من المفكر الإيطالي جورجيو أجامبين.

كذلك الإيمان بمقدرة المال على شراء كل شيء، فهو، أي ترامب، يعتقد أنه اشترى الكرسي الرئاسي بأمواله وأموال حلفائه، وهو مُحِقّ في ذلك إلى حد كبير.

رغم علمانيته نجده وقد تحالف مع التيارات الدينية المتطرفة (كالصهيونية الدينية أو المسيحية الصهيونية) فهي بمقدورها تثبيت أركان دولته والغاية حتماً تبرر الوسيلة.

وإذا ما كان مفكرنا العظيم ديستوفيسكي يردد أن الحضارة الغربية قد اتسمت بسمات ثلاث رئيسية هي (النفعية المادية، ضمور الحس الخلقي، التمركز حول الذات) فإن ترامب وأعوانه قد دفعوا بتلك الخصائص والسمات إلى حدودها القصوى.

في يقيني أن لحظة جلوسه على كرسي الرئاسة هي تدشين لعصر دخول الحضارة الغربية والأمريكية تحديدًا في طور الانهيار التام بعد فترة سبقتها من الاضمحلال الأخلاقي والقيمي، فهي إذن حافة الهاوية.

فترامب هو هتلر الجديد لكن في نسخته الأكثر رداءة ودموية والذي سيقود أمريكا والنظام العالمي معها إلى حافة الجنون.

***

دكتور محمد عمارة تقي الدين

في المثقف اليوم