آراء

عبد الأمير الركابي: الرؤية الكونية العراقية ما بعد الابراهيميه (3)

تظل المجتمعية الازدواجية اللاارضوية الرافدينه المفردة نوعا على مستوى المعمورة محكومة لقانون الفنائية الانبعاثية الذاتيه، الامر المستمر تكرارا مع تغير الظروف وعناصر واشكال الاصطراعية الازدواجية وخواتمها، كمثال اختفاء وزوال بابل في حين ظلت بغداد بعد الفناء حاضرة، لتتحول من مركز امبراطوري كوني، الى منصة تكريس للبرانيه والتعاقبية اليدوية الشرقية، ابتداء من القرن الثالث عشر الى السادس عشر، من دون "عراق" او ارض مابين النهرين وبغيابها، قبل الانبعاث الحالي الاخير، الثالث الذي لاحت علائمه مع " اتحاد قبائل المنتفك" عام 1530 في ارض سومر، مكررة ذات القانون الناظم للوجود الازدواجي من الاسفل ابتداء، قبل ان تحضر الانصبابات المستمرة، وتصبح عنصرا متفاعلا بالاصراع مع الكينونة النمطية الاخرى اللاارضوية السفلى، الى ان تضطر هذه للتحول امبراطوريا بعد ان تتوضع خارج المجتمعية اللاارضوية،في مدن امبراطورية معزوله ومحصنه اعلى تحصين، ليس لها غير ممارسة الغزوات الداخلية المكلفة للغاية، لحلب الريع الزراعي الى ان تتوفر امبراطوريا اسباب الاستغناء عن حاصل الارض السفلى، بينما يبقى الاصطراع ساريا ويتخذ اشكالا اخرى نموذجية تشبهيه مجتمعية كوسيلة افناء نمطي.

فالمجتمعية هنا لاتقوم لكي تتحقق كيانا كما الحال في مصر او غيرها من الكيانات، وهي بالاحرى حالة التحقق النهائي الكوني غير القابل للتحقق يدويا، ومادامت اليدوية الانتاجوية الجسدية هي الغالبة والسائده، فاللاارضوية هي حالة تفارق مع اليدوية، ذاهبة الى مابعدها، والى حيث المجتمعية مصممة لكي تذهب خارج الجسدية، وهي موضع وحيد، كانها العقل في الجسد الحي، مصادرة مثله و محجوبة غير حاضرة كينونه وفعالية، وسط الغلبة المطلقة للنموذجية المهيمنه ابان الزمن اليدوي ومفاهيمه، ومنها تلك التي تقصي الدلالات المتضمنه في التكرارية الفنائية بداهة.

ويحضر مثل هذا الانكار البداهي من جهه بما يخص الفنائية نفسها كظاهرة ومدلولاتها، فلا تاتي على البال، مع مايترتب على الانكار المذكور من استحالة تصور احتمالية انطواء التعاقبية الفنائية على "تحققية"، تبقى اليوم مضمرة بحيث يصبح تكرار الفنائية مرتهنا لنتيجه ومآل لايكون ممكنا ابتداء خلال دورتين، اولى وثانيه، ذهابا الى الثالثة الراهنه المتواقته مع انقلابية نوعية تحل على البنية والكينونة المجتمعية، هي الالية ومساراتها، والتحورات الناجمة عنها، والتي هي موجوده لكي تبلغها، مابين الالية المصنعية، والتكنولوجيا بطوريها الانتاجي والعقلي.

تتبلور اللاارضوية اصلا وتفردا، لايدوية بحال تصادم مع اليدوية فتظل بلا حضور ذاتي وبلا تشكل كيانوي، مادامت الاخيرة غالبة وسائدة بانتظار انتهاء اجلها، وحضور مايتضمن توفر الوسيلة المادية الضرورية والتي لاانقلاب لاارضوي من دونها، ووقتها تصبح اللاارضوية هي النمط والصنف المجتمعي المتوافق مع المتغير الانقلابي، من اليدوية الى التكنولوجية العقلية، لا الالية كما هو شائع، في الوقت الذي تكون فيه المجتمعات الاخرى الارضوية نتاج اليدوية قد شارفت على انتهاء الصلاحية والزوال، مايعني بكلمه ان المجتمعات تكون ارضوية يدوية، تنتهي صلاحيتها مع الانتقال الى الالة والتكنولوجيا لصالح المجتمعية اللاارضوية، وهذا هو التوصيف المطابق المتناسب مع الانقلابية الالية اللاارضوية، بدل المصادرة التوهمية المسبغة عليها حتى اليوم، باعتبارها مجرد انتقال تعاقبي روتيني من وسيلة انتاج الى اخرى.

تتغير نوعيا التصارعية الافنائية في الطور الاول المصنعي التوهيمي من الانقلاب الالي/ العقلي فتحل الصيغه الاعلى والارفع كيانويا "وطنيا/ قوميا"، مع نموذج الممارسة الموافق لصيغتها العليا الاكمل "الديمقراطية"، مع كل مقومات القوة والفعل التدميري الناتجه عن تحفيز الالة للاليات المجتمعية، مايجعل من التدميرية الاحترابيه وقتل عشرات الملايين مظهرا اساسيا من مظاهر الحياة في الموضع الذي انبجست فيه الاله، بينما وسائل التدمير تتعاظم بالاكتشافات والرغبات المحمومه التغلبية، والمصالح الجشعه، لدرجة بلوغ السلاح مستوى من الكوارثية العامة الممكن وقوعها على الكوكب ككل، درجه لم يكن بالمقدور تخيلها، وكل هذا يجري تحت دعوى العلم والعقلانيه وحقوق الانسان والحريات العامة، ومعه الاستعمار والتسلط، والنزوع للهيمنه الغاشمه الاجرامية، وهي دلالات تبقى غير منظورة بما يخص حقيقة الفعالية الالية جوهرا في التكوينات المجتمعية الطبقية بالدرجة الاساس، ذهابا بالكيانات مدعية التقدم الاستثنائي الى الافول والاندحار الذي لم يبق حاضرا وفعالا منه سوى غيره، المتحجدث باسمه، والذي لا ينتمي له، منذ تسيدت البؤرة التكنولوجية الانتاجية للمجتمعية التي بلا طبقات، الامريكية، والمرتكزه وجودا الى " الفكرة" ككيان، والحاضرة امبراطوريا خارج الرحم التاريخي.

وسط كل هذا ومترتباته تقع اللاارضوية غير الناطقة اليوم، ومنذ الاحتلال البريطاني للعراق مع العقد الثاني من القرن العشرين، تحت وطاة افنائية مختلفة غير تلك اليدوية التي مرت على هذا المكان كتفاعل ذاتي، انتهى لمرتين للفنائية غير النطقية، ومع الركام الهائل من الوقائع الراهنه المضادة المسلطة على المكان من خارجة، كما من الداخل، مايجعل المتابع يعجز وهو يحصي مظاهر واشكال الوطاة الافنائية الواقعة على العراق، مع تميزها النوعي فوق اليدوي،  بما يجيز القول بان الحاصل هنا منطقيا جدير بالغاء هذا الموضع من الخارطة المجتمعية والوجود، فاذا دققنا في المشهد الاجمالي على مستوى المعمورة، فسنجد هذا الموضع على العكس، حائز على، وتعززت اسبا بحضوره من نواحي حاسمه، تجعل منه الطرف الاكثر جدارة بالفوز عند الحصيلة والنهاية، بناء على ناحيتين اساسيتين: الاولى تبلور وسيلة الانتاج اللاارضوية العقلية التكنولوجية العليا، غير المتلائمه مع كينونه وبنية المجتمعات الاحادية الارضوية، واولها الطبقية الاوربية،بما يعني قرب انتهاء فعالية واستمرارية المجتمعات الغربية، ومعها تلك المفقسة خارج الرحم التاريخي، وهذا الحال الموضوعي التاريخي، يمنع اليوم تحقق الفنائية المعروفة تاريخيا في هذا المكان، في حين تتبلور اسباب النطقية الكونية بظل تحول اللاارضوية الى نواة واساس التحولية الانتقالية المجتمعية، من الجسدية الى العقلية، وهنا ندخل عالم التفاعلية النهائية الاخذه الى النطقية، اي الحضور الكوني المتعدي للكيانيه، والذاهب كونيا وعالميا، مذكرا بصيغته الاولى الحدسية الابراهيمية، واختراقيتها للبنى المجتمعية على مستوى المعمورة بدون حاجة الى الارض، أو لاية مقومات كيانيه من الصنف التقليدي.

ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم