آراء

صائب المختار: أهل الشقاق والنفاق

هي مقولة مشهورة في الثقافة العربية، قالها الحجاج ابن يوسف الثقفي عندما اسند له الخليفة عبد الملك بن مروان ولاية الكوفة في عام 694 ميلادي (75 هجري). قال مقولته هذه وهو يصف ويذم أهل العراق. وهي جزء من خطبته المشهورة التي بدأها بقول:

أنا ابن جلّا وطلّاع الثنايا  

متى أضع العمامة تعرفوني

وقد اعتُبرت هذه المقولة صحيحة، وصدقها المجتمع العربي وآمن بها. والعجيب، والمحزن المضحك، أن العراقيين صدّقوها أيضاً، وآمنوا بها، ومازالوا يرددونها بدون إحساس بالذنب أو الخجل كونها تصفهم بالخباثة وسوء الخُلُق. ولقد أصبحت هذه الصفة ملازمة للعراقيين منذ أن قيلت، قبل ثلاثة عشر قرناً، وإلى اليوم. قَبِلها الجميع، ويرددها الجميع، كأنها توصيف حقيقي لهذا الشعب العربي المسلم، الذي هو جزء من الأمة العربية والإسلامية.

فهل صحيح أن أهل العراق هم أهل شقاق ونفاق؟ سؤال اطرحه على القارئ الكريم، لأوضح له كذب هذه المقولة، وأشرح الأحداث والملابسات التي رافقت قولها، ليعلم الجميع أنها مقولة باطلة، قالها شخص غير مؤهل لها.

ولنبدأ بحثنا هذا بكلمة أهل العراق

هل أن الحجاج، عندما قال خطبته المشهورة، كان يستهدف فعلاً أهل العراق؟ أم أنه كان يستهدف أهل الكوفة تحديداً؟ علماً أن أهل الكوفة لا يمثلون كل العراقيين بل هم جزء من أهل العراق، وهم يمثلون أنفسهم بالتحديد. خصوصاً إذا ما علمنا أن العراق يحوي مدناً عديدة غير الكوفة، وكل منها لها سكّانها وعاداتها وتقاليدها وطباعها. فهناك البصرة، التي كانت أكبر من الكوفة وارفع شأناً في ذلك الزمن البعيد. وهناك أيضاً مدن الأنبار والموصل واربيل والسليمانية والمدائن والحيرة، وغيرها الكثير من المدن الأخرى. فهل كان الحجاج يقصد جميع أهل هذه المدن في خطبته المشهورة؟ الجواب، بالتأكيد، كلا. فهو قد نُصِّب واليا على الكوفة، لأنها تعتبر في ذلك الوقت مصدر فتن وشغب بالنسبة للدولة الأموية، الدولة التي كان الحجاج يتفانى في خدمتها. ولذلك، فإن المنطق والعقل يستدل على أن المقصودين هم أهل الكوفة وليس العراق. أمّا لماذا استبدل الحجاج كلمة الكوفة بالعراق؟ من الواضح أن ذلك كان لضرورات أدبية وشعرية تتناسب مع كلمات الشقاق والنفاق، فيتحقق السجع والقافية بكلمة العراق أهل الشقاق والنفاق، وإن كلمة الكوفة لا تحقق هذا الهدف، وليس لغرض المعنى العام أو الخاص كما هو واضح.

أهل الكوفة

إذا كان المقصود هم أهل الكوفة، فمن هم أهل الكوفة؟ هل هم عراقيون فعلاً، أم أن معظمهم من غير العراقيين، أقصد أنهم خليط من العراقيين ومن عرب اليمن والجزيرة، الذين هاجروا إلى الكوفة منذ تأسيسها؟ نجد الجواب على هذا السؤال في كتاب "الفتنة الكبرى" للدكتور طه حسين وكتاب "الكوفة نشأة المدينة العربية الإسلامية" للدكتور هشام جعيط (وهو مؤرخ ومفكر إسلامي تونسي مشهود له بالكفاءة العلمية).

تأسست مدينة الكوفة في عام 638 م بعد معركة القادسية. أسسها سعد ابن ابي وقّاص لتكون مركزاً لتجمع جنوده، ينطلق منها لقتال الفرس. ومعلوم أيضاً أن هذا الجيش يتألف من آلاف المقاتلين من عرب الجزيرة واليمن، شاركوا في المعارك طلباً للغنائم والحصول على أجر الجهاد في سبيل الله. ومعظمهم نزحوا من جزيرة العرب واليمن مع عوائلهم واستقروا في الكوفة التي أصبحت داراً لهم. وفي خلافة الإمام علي بن أبي طالب (رض)، عام 656 م، اتُخِذت الكوفة عاصمة لدولة الخلافة، فهاجر إليها آلاف من الصحابة، من أصحاب الامام على وانصاره، وغيرهم ممن هاجروا كذلك طلباً للغنائم وأجر الجهاد في سبيل الله. ولكونها عاصمة الخلافة الإسلامية، اكتسبت الكوفة مكانة متميزة في العالم الاسلامي، وأصبحت من أهم المدن الإسلامية في ذلك الزمان، مركزا للعلم وللسياسة والتجارة والحرب. ولأن الحياة لم تكن سهلة في مكة والمدينة والطائف، لشحة موارد الرزق فيها، ولم يكن العيش فيها والرخاء كما هو في مدن العراق والشام، مما جعل سكان الجزيرة يميلون إلى ترك هذه المدن والهجرة إلى الكوفة والبصرة ودمشق بحثاً عن حياة أفضل.

ويتفق الدكتور طه حسين والدكتور هشام جعيط على أن، معظم أهل الكوفة هم من عرب اليمن، وفيهم القليل من العرب من قبائل مضر وربيعة (عرب مكة). وأمّا أهل البصرة فأكثرهم مُضَريون وفيهم ربيعيون كثيرون، وقلة من اليمنيون.

من معرفة أصول التجمع السكاني في تلك الفترة الزمنية في مدينة الكوفة، يمكننا أن نستنتج، أن المقصود هنا ليس عموم أهل العراق، بل هم أهل الكوفة تحديداً، وأكثرهم من غير العراقيين (أصلهم مهاجرين من اليمن وعرب الجزيرة). وهذا يثبت، بحد ذاته، خطأ نسَب المقولة إلى أهل العراق، كون المقصودين هم أهل الكوفة وليس أهل العراق، وأن أهل الكوفة في ذلك الزمن هم خليط من أهل الكوفة وعرب الجزيرة المهاجرين، وهم أغلبية السكان، كما تذكر المصادر التاريخية والثقافية.

معرفة الحجاج بأهل الكوفة

كيف يمكن لشخص أن يحكم على شعب أو مجتمع بكامله دون أن يكون على دراية تامة بهم، خصوصاً إذا أراد أن يصفهم بصفات ذميمة، إن عليه أن يتأكد ويتأكد بدقة قبل أن يصدر الحكم.   إن المنطق والعقل يخبرنا، إذا أراد شخص أن يقيّم شخصاً أو مجموعة من الناس، فعليه أن يتحدّث معهم ويخالطهم ويتعايش معهم، لكي يتعرّف على أفكارهم وعاداتهم وسلوكهم، وبعدها يستطيع أن يبدي رأيه فيهم بصدق وأمانة، ويكون رأيه موضع ثقة عند الآخرين. وبخلاف ذلك فأنه سيفتقر إلى المصداقية وصحة الرأي. ونتساءل، هل أن الحجاج، عندما قال خطبته الشهيرة هذه، كانت له خبرة بأهل الكوفة من خلال مخالطتهم والتعايش معهم، أم لا؟

المصادر التاريخية لا تذكر أن الحجاج كان قد زار الكوفة أو خالط أهلها أو سكن فيها قبل أن يتولى الولاية على الكوفة أو قبل أن يبدي رأيه فيهم. تقول المصادر التاريخية، أن الحجاج، بعد أن أسندت له ولاية الكوفة، توجّه إليها مباشرة لممارسة مهامه. وقبيل وصوله للمدينة، بعث رسولاً لأهل الكوفة يأمرهم بالتجمع في المسجد الكبير لملاقاته هناك. عندما دخل الحجاج المسجد كان متخفياً بعباءة وغطاء رأس أخفى كل معالمه، فلم يعرفه أحد من جموع الكوفيين المتواجدين في المسجد ينتظرون حضوره. ثم ارتقى الحجاج المنبر وكشف عن وجهه وعرّفهم بنفسه. كان هذا أول لقاء بينه وبين أهل الكوفة، ثم بدأ خطبته العاصفة المشهورة، هددهم فيها وأنذرهم وتوعد بالقتل كل من يخالف أو يخرج على سلطان الخليفة أو يتقاعس عن القتال تحت إمرته. وقال في خطبته " إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها" وفعلاً نفّذ الحجاج وعيده بقتل واحد ممن تقاعس في الخروج للقتال فخافه الناس وهابوه تجنباً لشرّوره.

مما تقدم، يتبين لنا أن الحجاج لم يعرف أهل الكوفة معرفة شخصية كافية ليحكم عليهم كما قال. وإنما استند فيما قال في خطبته، عن أهل الكوفة، على ما سمعه عن الكوفيين من الأمويين عندما سكن دمشق خلال خدمته الدولة الاموية، التي تَعتَبر الكوفة مصدر شغب وفتن، وهذا ما جعله يقول كلماته الهجائية بسليقة الشعراء لا بسليقة النبلاء الذين لا يلقون الكلام جزافاً.

شهادات آخرين

لم يكن الحجاج الوالي الوحيد الذي حكم الكوفة، بل حكم الكوفة أكثر من ثلاثين شخصية إسلامية وصحابية، أذكر منهم على سبيل المثال، سعد ابن ابي وقاص (أول من تولى الكوفة سنة 15 هجري)، وعبد الله ابن مسعود وعمار ابن ياسر وابي موسى الاشعري ومالك الاشتر والمغيرة بن شعبة وغيرهم من الصحابة والشخصيات المعروفة والمرموقة. ولما كانت الكوفة مركز الخلافة الإسلامية، وبعدها أصبحت أكبر مركزاً للعلم والثقافة والتجارة في ذلك الزمان، فقد سكنها أيضاً الكثير من كبار العلماء والفقهاء ورجال الدين والتجار وغيرهم من أخيار الناس. والملاحظة الجليّة، أن الحجاج هو الشخص الوحيد من بين هؤلاء الأشخاص الذي وصف أهل الكوفة بتلك الكلمات، ولم ينعتهم غيره ببذيء الكلام، بشكل مشابه أو قريب لما ادّعاه الحجاج في خطبته المشهورة. ولو كان أهل الكوفة يتمتعون فعلا بصفة الشقاق والنفاق، ألم يكن من المنطق والمعقول، أن نسمعها من غيره ممن عاش معهم وعاشرهم؟

يعتقد البعض أن الإمام على (رض) قال بحق العراقيين " قاتلكم الله لقد ملئتم قلبي قيحا ً". وحاشا للإمام أن ينتقص أو يذم قوماً مسلمين، فإن هذه ليست من مكارم الأخلاق، وهل هناك شك في مكارم اخلاق الإمام؟ وللعلم، فإن هذه المقولة ليس لها ذكر في كتب التاريخ والتراث الإسلامي.  هذه الخطبة ذكرت فقط في كتاب نهج البلاغة وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه الاندلسي، ولم تُذكر في مصادر أخري. وتقول التفاسير، أن الخطبة كانت بمثابة عتاب موّجَه للرجال المقاتلين الذين تقاعسوا عن الاشتراك في المعارك، بحجج شدة الحر في الصيف وشدة البرد في الشتاء، مما أدى إلى سقوط الانبار بيد الامويين وعجزهم عن الدفاع عنها. ولم يُذكر في الخطبة أهل العراق أو الكوفة بالتحديد، ولم يكونوا هم المقصودين بذلك العتاب.

سُئل الجاحظ (عاش في القرن التاسع ميلادي) عن رأيه في أهل العراق فقال في كتابه البيان والتبين " إن العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء مقابل الطاعة لدى أهل الشام، هي أنهم أهل نظر وفطنة ثاقبة، ومع النظر والفطنة يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال والتمييز بين الرؤساء وإظهار عيوب الأمراء. وأهل الشام ذوو جمود على رأي واحد، لا يرون النظر ولا يسألون عن مغيب الأحوال. وما زال العراق موصوفاً بقلة الطاعة وبالانشقاق على أولي الرئاسة."

يُذكر أن العلاّمة الشيخ محمد رضا الشبيبي التقى الدكتور طه حسين أثناء حضورهم مؤتمر للّغة العربية، فسأله الدكتور طه حسين قائلاً " لماذا كان العراقيون ثائرون دائماً، لا يستقرون على حال، ولا يرتضون حاكماً، فقد قرأت تاريخ العراق منذ الفتح الإسلامي لحد الآن وقلما وجدت حقبة خالية من الفتن والقلاقل"  ، فأجابه الشبيبي " أتسمح لي أن أسألك أنا أيضاً، لماذا كان المصريون دائماً خائفين خاضعين، لقد قرأت تاريخ مصر منذ الفتح الإسلامي وقبله أيضاً، فوجدت المصريين دائماً يسترضون حكامهم مهما جاروا وطغوا، ويخضعون لكل متحكم فيهم حتى لشجرة الدر "  فسكت الدكتور طه حسين وضحك الاثنان.

ويقول ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ " لما مرض معاوية مرضه الذي مات فيه، دعا ابنه يزيد وقال له: أنظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملاً فافعل، فإن عزل عامل أيسر من أن تُشهَر عليك مائة ألف سيف".

الخلاصة

من كل ما تقدم، يمكن الاستنتاج إن وصف الحجاج أهل العراق، أهل شقاق ونفاق، لم يكن مبنياً على أسس معرفية أو منطقية وعقلية، إنما هو كذب وافتراء. فهو لم يعرفهم معرفة كافية ليصدر مثل هذا الوصف بحقهم. إن المنطق والعقل يقول، أنه لا يمكن لشخص ما الحكم على شعب أو مجتمع بكامله، أنه بليد أو جامد أو خانع أو مطيع دون أن يكون مُؤهلاً لمثل هذا الحكم، وهو غير مؤهل. إن الحجاج قالها ليخيف ويرهب أهل الكوفة ليس عن دراية ومعرفة بأحوالهم وطبائعهم. وهذه دعوة لكل من يعتقد بصحة المقولة، أن يعرف أنها محض كذب وافتراء بحق أهل العراق، وهي مجحفة بحق العراقيين. وهذا المقال هو دعوة لنبذ هذه المقولة واهمالها تماماً كونها لا تليق بالعراقيين وهي محض كذب وافتراء.

***

د. صائب المختار

 

في المثقف اليوم