آراء
عبد الحسين شعبان: لا تتركوا الأمازيغ...!
"احضنوهم، لنساهم جميعًا في بناء أوطاننا ونُشيد صرح علاقات متكافئة وسوية...". كان ذلك ما أرسله لي صديقي بعتب مملّح ، بعد أن استمع إلى حوار تلفزيوني لي جئت فيه على ذكر الأمم الأربعة دون أن أدرج معهم الأمازيغ، كما قرأ ملخّص محاضرة كنت قد ألقيتها بعنوان "نحو ويستفاليا مشرقية" دعوت فيها إلى علاقات متكافئة بين أمم المشرق، لتلمّسي حاجة دول الإقليم وأممه الماسة إليها، نظرًا لما أصابها من اضطرابات وصراعات ونزاعات وحروب، سالت فيها دماء كثيرة وأزهقت فيها أرواح الملايين من البشر، وهُدرت أموال طائلة جرّاء عدم الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول الآخر واحترام سيادته وحقّه في تقرير المصير.
ولم أكن أقصد بالطبع استعارة نصيّة لمعاهدة ويستفاليا أو اقتباس حرفي لما عُرف بصلح ويستفاليا أو تقليد ساذج لظروف مختلفة وأوضاع متباينة، وإنما الاسترشاد بالقواعد والمبادئ العامة التي حكمت الاتفاق لوقف النزاعات المسلحة والحروب الدموية التي شهدتها أوروبا لأسباب دينية وطائفية وإثنية، مع التأكيد على خصوصية دول الإقليم على مستوى كلّ بلد وعلى مستوى الإقليم، ناهيك عن اختلاف الوضع الدولي.
ولكن تجربة ويستفاليا "الناجحة" تدعونا مثل أية تجربة عالمية للتأمّل والتفكير وإعمال العقل لابتداع نموذجنا الخاص، آخذين بنظر الاعتبار المشتركات الكثيرة التي تجمع شعوب الإقليم وأممه، التي تنتمي في الغالب إلى دين واحد، وإن تعدّدت لغاتها وقومياتها وعاداتها وتقاليدها، لكن ثمة مصالح مشتركة وتاريخ مشترك وعلاقات ثقافية واجتماعية واقتصادية وتجارية على جميع المستويات، بل وحتى مصائر مشتركة يكمّل بعضها بعضًا، تقتضي التوقّف عندها في الحديث عن ويستفاليا مشرقية.
وكنت أقصد بوستفاليا مشرقية التفاهم بين أمم وشعوب ودول الإقليم، ولاسيّما في المشرق، وأعني بذلك الترك والفرس والكرد والعرب، وهو ما سبق أن أدرنا حوارات متعدّدة بشأنه في تونس ولبنان والأردن والعراق، بما فيها في أربيل، على أساس التكامل الإقليمي، الذي يمكن أن يكون محور استقطاب جاذب للاستثمار والتنمية والتفاهم والسلام بعد أن كان بؤرة للتعصّب والتطرّف والعنف والنزاعات والحروب.
وكان سمو الأمير الحسن بن طلال قد تبنى فكرة حوار أعمدة الأمة الاربعة، ودعا إلى حوار معمّق حضره عدد من الشخصيات الثقافية والفكرية في الأمم المذكورة، وذلك في العام 2018 بعد حوار ناجح عربي – كردي سبقه بنحو 5 أشهر، وقد تأسست لجنة متابعة بالتعاون مع منتدى الفكر العربي.
أعادني سؤال صديقي الذي طرحه عليّ في أربيل خلال زيارته الأخيرة (17 كانون الأول / ديسمبر 2024) إلى نقاش دار على هامش جلسة في مكناس بينه وبيني، فقد سبق أن ناقشني بصيغة استفهام، وماذا عن الأمازيغ؟
ولأنه يعرف موقفي المبدئي في تأييد حقوق جميع المظلومين ورفضي أي تمييز بين البشر على أساس عرقي أو ديني أو لغوي أو جنسي أو لأي سبب آخر، ناهيك عن دعوتي إلى المواطنة المتساوية، التي تقوم على الحريّة والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، لذلك كان السؤال عن الأمازيغ هو بمثابة تذكير وتفكير وتأمل وتحفيز، لإعادة طرح موضوع الحق في التنوّع والحق في التعددية والدعوة إلى إدارة متفهمة وواعية لإعادة النظر فيما اعتادت عليه الدولة العربية، ناهيك عن دول الإقليم في موقفها من الحقوق، لاسيّما حقوق الأمازيغ، خصوصًا في بلدانهم التي يعيشون فيها، فضلًا عن رأي عام عربي سلبي أحيانًا في الموقف من التنوّع الثقافي الذي يُطلق عليه مجازًا ﺑ "الأقليات".
ويختلف الأمازيغ عن العرب في اللغة والتاريخ والثقافة، وتلك أساسات الهويّة الخاصة، ذات المواصفات الخصوصية، سواءً كانت "كبرى" أم "صغرى"، والمقصود عدديًا، علمًا بأن الأمر لا يتعلّق بالأغلبية والأقلية، التي تستبطن التسيّد والهيمنة من جهة، ومن الجهة الثانية الخضوع والتبعية تحت مبررات مختلفة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الأمازيغ ليسوا أقلية.
ودون الدخول في جدل تاريخي وقانوني حول هل الأمازيغ قوميّة أو أمة يمكن أن تندرج في حوار الامم الأربعة أو أعمدتها؟ إلّا أنهم يشكّلون مجموعة ثقافية متميّزة ولها خصوصيتها التي تتمثّل في هويّتها الخاصة خارج النطاق العددي، سواءً كانت أغلبية أم أقلية بالمصطلح السائد، ووفقًا لإعلان حقوق الأقليات لعام 1992 الصادر عن الأمم المتحدة والمتضمّن 9 مواد.
واستلهامًا من ويستفاليا والتجربة التاريخية الكونية عمومًا، فإن أية مجموعة ثقافية دينية أم قومية أم سلالية أم لغوية لها كامل الحق في التمتّع بحريّتها ومنع أي اضطّهاد أو تمييز يقع عليها، الأمر الذي يقتضي إبرام عقد اجتماعي – قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء أو تمييز.
وإذا كانت دول المشرق تكاد تخلو من الأمازيغ، فإن الأمازيغ في دول المغرب العربي، ولاسيّما المغرب والجزائر، يكادون يمثلون "أغلبية" دون أن تكون لهم "حقوقها"، ودون أن يعني ذلك الرغبة في تغيير هويّة الدولة، والمقصود هويّة مواطنيها العرب، ولكن لا بدّ من الإقرار بحقوقهم كاملة وغير منقوصة، وإلغاء التمييز بحقّهم، القانوني وغير القانوني، المعلن والمضمر.
ويحقّ لصديقي المغربي الحقوقي البارز والروائي والكاتب عبد السلام بو طيب رئيس مركز الذاكرة المشتركة أن يطلب مني عدم نسيان الأمازيغ، وبطريقته الصداقية يكتب لي "أنا أعرفهم جيدًا وأعرف ردود أفعالهم العنيفة عندما يشعرون بالتمييز" وبأسلوبه الشائق والمهذب، فإنه يستدرك بالقول من باب الصداقة والمحبة والرغبة في التواصل الإنساني، لاسيّما مع دعاة الحق ورواده.
إذا كان يصحّ الأمر في المشرق الدعوة إلى "ويستفاليا مشرقية"، فيصحّ عند الحديث عن المشرق والمغرب، الحديث عن ويستفاليا لأعمدة الأمة، والأمازيغ هم من أعمدتها التاريخية أيضًا.
إن أسباب دعوتنا وانسجامنا مع دعوة سمو الأمير الحسن بن طلال تصدر عن قناعة بأهمية القيم والمبادئ المشتركة التي جاءت بها ويستفاليا بعد حروب دامت 30 عامًا وقبلها 100 عام، الأمر الذي تبلور في مصالحة شاملة، وهو ما يحتاجه العرب والكرد والفرس والترك والأمازيغ وأعمدة أخرى على صعيد كل بلد وعلى الصعيد الإقليمي.
وبالطبع فإن ثمة أسباب موجبة للدعوة إلى ويستفاليا تكمن في استمرار التنكّر للحقوق العادلة والمشروعة، وأهمها الحق في تقرير المصير، واستمرار الصراعات اللاعقلانية الداخلية والخارجية، وغياب مبادئ المساواة واستمرار استغلال الثغرات في إدارة التنوع من جانب القوى الغربية والقوى الطامعة ببلادنا، حيث يتم العزف على أوتار الهويّات الخاصة، الفرعية، ناهيك عن التعامل مع دول الإقليم كجزئيات وليس إقليمًا متكاملًا، على الرغم من المشتركات التي تجمع بين أممه وشعوبه ودوله.
هكذا تصبح الدعوة إلى وستفاليا فرض عين وليس فرض كفاية، وهي ضرورة واختيار في الآن لحماية الأوطان وتحقيق التنمية والتكامل والسلام على صعيد كلّ بلد وعلى الصعيد الإقليمي.
ولا شكّ أن الحوار ليس ترفًا وإنما لمعالجة المشاكل ومواجهة التحديّات، كما يُعتبر مسؤولية على هذا الصعيد، خصوصًا بالنسبة للنخب الثقافية والفكرية والسياسية، بهدف تنقية الذاكرة المشتركة مما علق بها من كراهيات ومرارات تكدّست على مرّ السنين، والانطلاق من مفهوم التقارب والتشارك دون نسيان الماضي، مع الأخذ بنظر الاعتبار مبادئ التسامح. وحتى لو استغرق الحوار زمنًا طويلًا، فحوار سنة أفضل من قتال ساعة كما يُقال، وقد استمرّ الحوار اللوثري – الكاثوليكي 50 عامًا حتى تم تسويته في العام 2016 بعد أن دام الصراع نحو 500 عام.
ولعلّ هذه المقالة هي من وحي حواري مع صديقي مثلما هي بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة، التي سبق لي أن احتفلت بها أكثر من مرّة مع أصدقائي الأمازيغ، الذين أشعر بسعادة غامرة بالتواصل معهم.
وكان العاهل المغربي الملك محمد السادس قد أصدر قرارًا في أيار / مايو 2023 يقضي باعتبار رأس السنة الأمازيغية الذي يوافق 13 كانون الثاني / يناير من كل عام يوم "عطلة وطنية" على غرار رأس السنة الهجرية ورأس السنة الميلادية. وحسب التاريخ الأمازيغي نحن نحتفل بالعام الأمازيغي الجديد 2975، ولعل ذلك جزءًا من توسيع دائرة الحقوق للأمازيغ، والتي تكرّس بعضها دستوريًا، لاسيما في اللغة، حيث اعتبرت الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية.
وكانت المغرب قد اعترفت بالحقوق الثقافية للأمازيغ عبر خطوات متدرجة، حيث أقرّ قانون كتابة الأمازيغية بحروفها الخاصة المعروفة "تيفيناغ".
ومن تجارب الشعوب والأمم فإن مشكلة المجموعات الثقافية وإشكالياتها متعددة في البلدان المتعددة الثقافات، حيث يتطلّب الأمر معالجات استثنائية لأوضاع إستثنائية على أساس مبادئ المواطنة والمساواة، فالكل شركاء في الوطن، وينبغي أن يكونوا شركاء في اتخاذ القرار.
نعم لا ينبغي نسيان الأمازيغ في المستقبل، فدول الإقليم التي تكالبت عليها القوى المستعمرة والطامعة، أورثتنا "الجهل المقدّس" و"الجهل المدنّس" تحت عناوين الأيديولوجيا وادعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، وإذا ما أردنا تجاوز ذلك واللحاق بالعالم المتقدّم، فلا بدّ من إحداث تغيير في الوعي والتربية على قيم جديدة أساسها احترام الإنسان وكرامته وحقوقه، وذلك سبيلًا للتنمية المستدامة بجميع أركانها.
يبقى الأمازيغ مع العرب في مركب واحد وبوصلة واحدة ومستقبل واحد، الأمر الذي يتطلّب تعزيز التفاهم وتوسيع دائرة الحقوق وتعميق المشترك الإنساني.
***
عبد الحسين شعبان - أكاديمي ومفكّر عربي من العراق