آراء
عبد الحسين شعبان: تحديات بناء الدولة

أثارت التغييرات المفاجئة التي حصلت في سوريا على نحو سريع إشكاليات ومشكلات بناء الدولة أو إعادة البناء، باستعادة مصطلح غورباتشوف "بريسترويكا"، خصوصًا ما أعقبها من تطوّرات في الملف الكردي بإعلان عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمّال الكردستاني (المحكوم مدى الحياة) منذ العام 1999 في سجن إمرالي، الطلب من أنصاره إلقاء السلاح وحل الحزب، الأمر الذي يطرح مجددًا مسألة إعادة بناء الدولة في ظل تحديات المواطنة ونظام الحكم ومشكلة المجموعات الثقافية والعلاقة بين الهويّة العامة والهويّات الفرعية، وهو ما واجه الدولة العراقية منذ تأسيسها وإلى اليوم، والتي تعمّقت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003.
وإذا كان توصيف الدولة التركية كدولة بسيطة تقوم على نظام مركزي يعتمد على القومية الأكثر عددًا، وهو ما كان سائدًا في سوريا والعراق، وكذلك إيران، إلّا أن العراق بعد الإطاحة بالنظام السابق وقيام نظام جديد، انتقل من الدولة البسيطة إلى الدولة المركبة، ومن النظام المركزي إلى النظام اللّامركزي "الاتحادي – الفيدرالي"، وهو ما تسعى المجموعات الثقافية الكردية – السورية إلى ما يماثله من خلال الإدارة الذاتية التي تشكّلت بعد الانتفاضات التي عمّت البلاد منذ العام 2011 فيما يسمّى ﺑ "الربيع العربي".
وكان عبد الله أوجلان قد طرح مشروع "الأمة الديمقراطية"، الذي يعتبره مبادرة ترتقي بالطموح إلى تحقيق دولة تقوم على المواطنة، وأساسها المساواة والعدالة والشراكة والمشاركة، وبالطبع فإن ذلك يحتاج إلى أجواء من الحريّة، وهو ما يعتبره أوجلان مدخلًا مناسبًا لحلّ المسألة الكردية في تركيا، بل لمشكلة التنوّع الثقافي في المنطقة. ويحتاج الأمر إلى اعتراف بالتعددية والتنوّع، وبالتالي إدارة حوار سلمي حول سُبل الحل المناسب في الوضع الملموس وفي الظرف الملموس.
وعلى الرغم من توقيع رئيس الجمهورية أحمد الشرع اتفاقًا مع مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وإعلان الدستور السوري المؤقت الذي حدّدت فيه فترة الانتقال ﺑ 5 سنوات، ومنحت رئيس الجمهورية صلاحيات تكاد تكون غير مسبوقة، باستثناء الأنظمة التي شهدت انقلابات عسكرية، إلّا أن الإشكاليات الإثنية – القومية ستظلّ تطلّ برأسها بين الفينة والأخرى، ما لم تجد حلًّا مقبولًا يقود إلى تسوية تاريخية بالاعتراف بها على أساس حق تقرير المصير، واختيار الصيغة المناسبة للعلاقات العربية – الكردية، علمًا بأن الكرد شهدوا حالات تهميش وإقصاء ومحاولات صهر وحرمان من الجنسية لأعداد كبيرة منهم والذين يسمون بالمكتومين، وتشييد ما سمّي ﺑ "الحزام العربي" ، تلك التي خطط لها النظام السابق منذ العام 1964، وشملت نحو عقد كامل من التغيير الديمغرافي، وقام بتنفيذها بقسوة محمد طلبة هلال، الضابط السابق في جهاز الأمن السوري.
أما بالنسبة للعراق، فعلى الرغم من إقرار الدستور بالنظام الفيدرالي، فحتى الآن لا تزال هويّة النظام غير محدّدة، وصعوبة تصنيفه بسبب تعويم سيادته وعدم فاعليته بفعل هيمنة العامل الخارجي، سواء كان دوليًا، والمقصود بذلك الولايات المتحدة، أو الفاعل الإقليمي المؤثر في الداخل، والمقصود بذلك إيران، علمًا بأن للولايات المتحدة ولتركيا قواعد عسكرية في العراق، في حين أن إيران تمتلك علاقات وطيدة مع فصائل مسلحة في الحشد الشعبي وعبر أذرع مؤثرة من خارجه.
ولعلّ ازدواجية نماذج التدخّل الخارجي الدولي والإقليمي، أثرتا بشكل خاص على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية للنظام، ارتباطًا بقضايا التنمية التي تحتاج إلى الأمن ومكافحة الإرهاب والمخدرات، فضلًا عن تداخلات السياسة مع السلاح والدين والمال.
وإذا كانت صيغة النظام المركزي الشمولي قد جرّت البلاد إلى حروب ودمار واستبداد، فإن صيغة ما بعد العام 2003 لم تسهم في لحمة الدولة العراقية، على الرغم من رواج دعوات إلى المحاصصة الإثنية - الطائفية باعتبارها هي الحل، لأن البلد عانى من المركزية الشديدة والصارمة التي أنتجت ديكتاتورية منفلتة من عقالها، ولكي يُصار إلى تنظيم العلاقة بين الفرقاء والفاعلين السياسيين، كان لا بدّ من وضع حلّ لمشكلة الحكم المعتقة، فاختُرعت مسألة ما يسمّي ﺑ "المكونات" التي وردت في الدستور7 مرّات، ثم جاء بايدن، الذي أصبح رئيسًا، بمشروعه الثلاثي القاضي بتقسيم العراق إلى ثلاث فدراليات شيعية، كردية وسنية، ووضع نقاط تفتيش وإصدار هويّات خاصة وجيش لحماية حدود هذه الفيدراليات، وكان الأمر يعني مستقبلًا تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق، حيث يصبح التقسيم كواقع أمرًا واقعًا.
وعلى أساس هذه الصيغة الثلاثية ابتُدع العرف الذي قُسّمت به الرئاسات الثلاث، فللشيعية السياسية (رئاسة الوزراء)، وللسنية السياسية (رئاسة البرلمان)، وللكردية السياسية (رئاسة الجمهورية)، دون اعتبار للكفاءة بقدر الولاء والزبائنية السياسية، لكنها لم تؤدّ إلى حل مشكلة الحكم بل زادتها تعقيدًا، وكانت بداية نزاع جديد ومركّب.
ويعرف العراق اليوم كيانيتين دستوريتين وإن كانتا متحدتين، لكنهما شبه منفصلتين أو مستقلتين من الناحية الفعلية، ولم يتكوّن فهم مشترك للفيدرالية ومضامينها والتجربة العراقية وخصوصيتها، وحسب وصف رئيس إقليم كردستان نجرفان البارزاني، فإن الدولة تترنّح بين: مركزية شديدة وفقًا لمنظور بغداد، ولا مركزية فيدرالية تتجاوز الحدود.
أعتقد أن النظام الفيدرالي الحالي كصيغة راهنة، لم يعد فعّالًا، والدليل على ذلك تفاقم المشكلات وتراكمها وصعوبة إيجاد حلول لها، فالمجلس الاتحادي الذي أقرّه الدستور في المادة 65، وكان يمكن أن يشكّل العامود الفقري للنظام السياسي في العراق، ظلّ معطلًا منذ 20 عامًا (أي منذ الاستفتاء على الدستور في 15 تشرين الأول / أكتوبر 2005) وإلى اليوم، والمشاكل عالقة مثل المادة 140 والاختلاف حول عائدية كركوك والمناطق المتنازع عليها وقانون النفط والغاز وصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، التي غالبًا ما نرى التنازع بينهما، إضافة إلى الاختلاف الشديد في تفسير بعض مواد الدستور، حتى أن المحكمة الاتحادية، بدت متناقضة أحيانًا، فاليوم تعطي تفسيرًا وغدًا يكون تفسيرًا آخر مختلفًا، بسبب التداخلات السياسية والضغوط التي تمارسها القوى المتنفّذة.
ليس من باب التشاؤم القول أن الصيغة الراهنة وصلت إلى طريق مسدود، إذْ تقضي المسؤولية البحث عن صيغ جديدة بوضع معالجات وإصلاحات واتفاقات عملية من شأنها انتشال الدولة العراقية من واقعها الهش والمتفتّت، وصولًا إلى دولة أكثر تماسكًا وانسجامًا، دون أن يعني ذلك العودة إلى الدولة المركزية، بقدر ما هو إشباع صلاحيات الدولة الاتحادية والإقليم والمحافظات، وفقًا لما ورد في الدستور النافذ، والأمر يقتضي استبدال صيغة المحاصصة بالمواطنة.
الجدير بالذكر أن نظام المحاصصة الذي قاد إلى تعويم الدولة، وأصبح عقبة كأداء أمام تطورها، هو ذاته الذي كان وراء إغراق الدولة اللبنانية حتى أذنيها منذ العام 1943 بالمشاكل العويصة، والتي ما تزال، على الرغم من مرور ثمانية عقود من الزمن، بعيدة كل البعد عن الوصول إلى شاطئ الأمان، وإذا كان التوازن مسألة أساسية في الأنظمة الاتحادية، فإنه يقوم على الثقة أولًا، وتلبية الحقوق واحترام مبادئ المواطنة دون الإخلال بصلاحيات الحكومة الاتحادية أو صلاحيات إقليم كردستان. والتوازن لا يعني العودة إلى المركزية المفرطة التي أصبحت من الماضي، ولا التحلّل من الالتزامات التي يفرضها الدستور على الإقليم فيما يتعلّق بصلاحيات الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم.
إن إدارة التنوّع في مجتمع متعدّد الثقافات مسألة ضرورية، وهي مسألة تواجه العراق اليوم، مثلما تواجه سوريا، كما أنها إن عاجلًا أم آجلًا ستكون ملحةً وأساسيةً بالنسبة لتركيا وإيران، طالما بقت المسألة القومية دون حل مقبول يستطيع فيه الكرد أن يعبّروا عن أنفسهم باعتبارهم قومية متميزة وجزء من أمة عريقة، مثلما هي الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية، والكل له الحق في تقرير المصير وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، بما يعزّز من سبل التقدّم والتنمية والمشترك الإنساني، الذي يقوم على تعظيم الجوامع وتقليص الفوارق واحترامها.
إن المشاركة الإيجابية في الحياة العامة عنصر لا غنى عنه لأي مجتمع ذي طبيعة تعدّدية مثل مجتمعات الشرق الأوسط وأممه الأربعة، وحماية التنوّع وحُسن إدارته ومنع ذوبان الهويّات الفرعية مسألة أساسية. ولعلّ المشاركة هي الدرس الأول في التربية على المواطنة، تلك التي تكون حاضنة للثقافات على أساس العيش المشترك أو العيش معًا، بغض النظر عن الدين والقومية واللغة أو غيرها، وذلك عبر حوار فعّال ومستمر لبناء هويّة موحّدة تعترف بالخصوصية وتعتبرها مادة غنية لإثراء الهويّة العامة.
***
د. عبد الحسين شعبان