آراء

عبد الأمير الركابي: الجهالة الغربية والازدواج المجتمعي المتوسطي (1-2)

مع بدء امكان تجاوز القصورية العقلية التاريخية المرتبطة بالطور اليدوي والموصولة به، جاء الغرب المسمى ب "الحديث" وعصره ليكرس المفهوم القصوري ذاته عن الظاهرة المجتمعية، مع فارق هام تمثل في اعلان الغرب ان الكائن البشري ظل قاصرا عن وعي الحقيقة المجتمعية، وانه هو، واليوم قد سد هذه النقيصة الاساسية في الوعي، وفي علاقة الانسان بذاته وبالوجود، وبالفعل فلقد طرق  من تصدوا لهذا المجال باب الظاهرة المجتمعية وصاروا يعالجونها، وذهب البعض منهم الى  التعرف على خاصية مهمه للغاية كانت مغفلة وغائبة، هي الطبقية والصراع الطبقي، الامر الذي  شجع على الاعتقاد بان المجتمعات محكومة لقانون تاريخي تحولي، ماخوذ بالعودة على بدء، من "الشيوعية" البدائية الاولى كمرحلة تاريخيه الى "الشيوعية الاخيرة " العليا، وان هذا السياق محكوم لحتمية تاريخية لاخروج عنها. لكل هذا فقد كان من البديهي ان يقع الكائن البشري تحت طائلة الانبهار بالمنجز غير العادي، مقارنه بالمتعارف عليه ابان الطور اليدوي المنقضي من تاريخ المجتمعات البشرية ومستوى ادراكيتها.

ولم يكن واردا على العموم ولاكان من الممكن ان يخطر على البال، احتمال من نوع  ان يكون ماقد حصل في هذا المجال  وقتها وحتى الان، من قبيل الافتتاح بعد طول غلبة لنوع من التفكير، وانه بالاحرى خطوة اولى، ليس من المستبعد انطوائها على شيء من النقص وعدم الكمال، بالاخص بما يتعلق بميدان المجتمعية بالذات، مع الانتقالة الالية الفجائية وانعكاساتها على الاليات المجتمعية في اللحظة الواقعه، مع الاخذ بالاعتبار طريقة عمل العقل واشترطات انتقالاته بحسب المتغيرات الفاصلة، علما بان اهم النواقص الادراكية بما يخص الجانب المجتمعي كما تتكرس يدويا، تلك التي تعود الى الجزم الراسخ باحادية النمطية المجتمعية كما يتلقاها الكائن البشري عيشا وتلمسا، بظل الاشتراطات اليدوية الجسدية على مدى القرون من تاريخ التبلور المجتمعي.

والملفت هنا والجدير بالنظر، كون الانتباهة الغربية الحديثة للظاهرة المجتمعية لم تتعرض لهذه الناحية الاساسية بالذات، وحين اسس مايعرف ب "علم الاجتماع" اخر العلوم، فان ماظل طاغيا عليه وعلى منجزه حكم المجتمعية الاحادية المطلق، في الوقت الذي كان المطلوب اولا وقبل كل شيء، وحتى يصير "علم الاجتماع" علما، وليس محاولة تجريبية ابتدائية، ان توضع مسالة النوع المجتمعي في راس الاهتمام البحثي، بحيث يتم التساؤل: "هل المجتمعات احادية ام ازدواج؟" الامر الذي لم تكن بعض الدالات عليه معدومة كليا، او من الصعب او المستحيل العثور على مامن شانه لفت الانتباه اليها، لو ترفر مستوى اخر من الحساسية الادراكية.

من المنطقي بعد هذا ان نميز بين "علم اجتماع" ارضوي احادي، و"علم اجتماع" هو "علم الاجتماع" المقصود والضرورة التاريخيه العقلية الكبرى، تلك التي عندها يكون الانقلاب الالي قد اكتملت عناصره فعلا، مايعني افتراض حلول فترة انتقالية وسطية، بين الطور اليدوي والالي على مستوى الادراكية العقلية، الامر الاقرب للبداهة بعد الزمن اليدوي واثره، وتغلبه الكاسح، مع مايتميز به الكائن البشري كينونة  وطبيعه من خضوع للاعتياد، عدا عما يترتب على عدم اكتمال الاسباب المادية الضرورية للانتقال العقلي المطلوب، في الساعة والاوان الانقلابي المادي بصيغته الاولى، قبل اكتمال  باقي صيغه  مابعد الالية المصنعية.

والظاهرة الابرز الحرية بالتوقف، ان "علم الاجتماع" الاوربي  اخر العلوم  قد نظر الى الظاهرة الدينيه بذات الطريقة التي ظل ينظر لها بها ابان الطور اليدوي، فلم يجر البحث في اصولها ومايقف خلفها من اسباب ومحركات وكينونة مجتمعية، ويصل الامر هنا الى ابتداع مايعرف ب "علم الاجتماع الديني" من دون اية بادرة دالة على احالة الى الظاهرة المجتمعية اللاارضوية، والى الازدواج المجتمعي مافوق الكيانوي المحلي،  بما ياخذ الى الاصل، والى الحقيقة الكبرى الاساس التي من دونها لن يكون للمجتمعية تعريف، ولا ادراك لازم  يخص طبيعة وجودها،  ومقاصدها  كحقيقة انتقالية تحولية.

مجتمعيتان، اولى هي اللاارضوية، وهي محددة الوجود في موضع بذاته من الكرة الارضية مع مجاله التشكلي الاوسع الشرق متوسطي، واخرى غالبة لغلبة الوسيلة الانتاجية الاولى اليدوية الجسدية ومواكبها العضوي، المجتمعية الارضوية، المحكومة للقصورية الادراكية على مدى وجودها، برغم كونها الغالب الكاسح نوعا ومفاهيما ودرجه ادراكية، مايضعها لاسباب عقلية تشكلية بموقع البداهة كنموذج احادي، علما بان النموذجية الاخرى اللاارضوية اعلى  بما لايقاس تحققا وكينونه واليات، تظل تنكر وتستمر مزاحة من عالم المجتمعية والوعي بها، مادام بالامكان بحكم طبيعتها وسبل وجودها، طردها خارج الحقيقة المجتمعية الملموسة الى الماوراء والغيب، زيادة في تكريس الاحادية واطلاقيتها النموذجية.

ومن الغريب ان لا يقف الغرب بحداثته وعصرنته مع ماقد حققه من قفزة في المجالات المختلفة عند الشرق المتوسطي، برغم تفاعله التاريخي معه، على سبيل التوقف عند ظواهر بارزة واوليه، من نوع مصدر" الدين" الذي يخترق الغرب،ولماذا جاء من موضع بعينه، اذا كان هو كما يتعمد تعميميه مع نكران منطقة انبثاقه والبنية التي نجم عنها نبويا تتابعيا محددة مكانيا، فلا يسال لماذا في هذا الموضع بالذات،  بحثا عن الظاهرة الاكثر كمالا في التاريخ على الصعيد اللاارضوي ابراهيميا، مايتعارض مع رغبة الغرب الحديث في الحاق العالم بالموضع المتمتع اليوم بقوة مفعول الاله بصيغتها الاولى، وجعله بالتقصد الخارج عن "العلمية" و "العقلانية" المدعاة،  قوة وموضعا  للمركزية الاوربيه التي تصادر الراهن والتاريخ، بتكريسها رؤية للوجود والاليات المجتمعية البشرية، احادية، خارجه عن الحاصل تاريخيا، بحيث لم يحصل ان طرح في الغرب الحديث سؤال عن لماذا  الشرق المتوسط موجود في الغرب وبين تضاعيفه المجتمعية مسيحيا وليس العكس، والامر هنا  يتعدى الدلالات المجتمعية الى مايعرف ب "الدين" كما جار النظر اليه،  لتسقط ضرورة السؤال الصريح، لماذا ياتي الدين من الشرق المتوسطي وليس العكس.

والاهم من كل هذا ومايعين نطاق وحدود "العلمية" الغربية المقصودة كون   الغرب لم تخطر له اليوم وفي غمرة الانقلاب الكبير الشامل، فكرة من نوع "احتمالية مابعد الابراهيمة"  مع افتراض  ان تنتمي لما يعتبر "علموية لاارضوية"، بما يضعها بموقع الطور التحققي  المرتهن لمفعول تبدل الاشتراتطات بما انها ظاهرة تاريخانيه، لم تنشا جاهزة ولا جامده بالاصل، وكما  الحاصل وقتها ضمن اشتراطات اليدوية التي كانت مفروضه على الغرب نفسه ومفاهيمه، وكيفيات تعامله مع ذاته والوجود، ومثل السؤال المشار اليه كان خارج العقل الغربي كليا وبالمطلق طبعا، مادامت ايه فكرة تخص الظاهرة المجتمعية اللاارضوية الابراهيمه لم ترد على البال كي تبرر، او تشجع على مابعدها، ومامن شانه تكملتها.

***

عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم