قراءات نقدية

قراءات نقدية

ذياب مهدي محسن آل غلام، من مواليد العراق، الشامية 1952م، فنان تشكيلي وكاتب وشاعر، وعضو جماعة فنانين النجف 1970م، وعضو نقابة الفنانين العراقيين 1975م، وعضو جمعية التشكيليين العراقيين 1975م، عضو جماعة أدب في النجف 1975م، وعضو جمعية حقوق الانسان العراقية-الأردن2002م، وعضو اتحاد ادباء وكتّاب العراق، ومشارك في الكثير من المعارض التشكيلية داخل القطر وخارجه، وله ثمانية عشر معرضاً تشكيلي شخصي ما بين 1970 – 2009م، وعضو اتحاد شعراء ملبورن/استراليا، وحائز على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية؛ فنية وأدبية.

وله مجاميع شعرية صادرة، منها: (قطار الشوق (2ج) الصادر في عمان عام 2001م، حبايب ديوان شعر، حياة الأيام ديوان شعر، ليالي البنفسج الصادر في عمان عام 2002م، من سيرة الأيام الصادر في عمان عام 2004م، القرمطي لا يخلع صاحبة الصادر عن دار الفرات، سونيتة الغجر الصادر عن دار الفرات، المشي على أطراف الروح الصادر عن دار الفرات عام 2018م، عاشق مضرج بالنهد الصادر عن دار الفرات عام 2019م). فضلاً عن مؤلفاته (مقهى عبد ننه.. عن تاريخ النجف النضالي في الفكر الصادر عن دار الفرات في بابل عام 2018م، الإسلام والماركسية.. دراسة فكرية مقارنة الصادر عن دار الفرات عام 2017م، القرنفل الشقي.. أوراق من سيرة الأيام الصادر عن دار سما عام 2021م) وكتب العديد من الدراسات الفكرية والمقالات الأدبية والثقافية، ومقالاته التي تجاوزت (270) مقال على مواقع الكترونية وصحافة ورقية في مجالات متنوعة.

الحوار مع الشاعر ذياب مهدي آل غلاب يفسح المجال ويخصبه للنبش والحفر وتقليب أرضة القصيدة، لمعرفة عمقه بقصيدة النثر، وتجربة الشاعر ذياب تشكل بمجملها ظاهرة أدبية في حركة الشعر المعاصر في قصيدة الغزل، فديوانه الأخير (وشم على رئة التراتيل أناشيد تعتقها المنافي) الصادر هذا العام عن دار الفرات في بابل بالمشاركة مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع، وقد تضمن (59) قصيدة عشق للقرنفل الشقي ذياب آل غلام، جميعها تتحدث عن سيرة حياة عاشق، قرمطي النزعة والفكر، قديس اشبه بالملاك، يمتلك قلب طفل مدلل ومولع بالعشق الفطري. أول القصائد كانت بعنوان (استهلال)، تُشبه في اسلوبها تراتيل عاشق عاش أكثر من عقدين في الغربة وهو يحن إلى ظفائر حبيبته الأولى. وكانت مقدمة الديوان بقلم ابنته الدكتور (هلا) تحت عنوان (خطوة في الدرب... نحوك): قصيدة سومرية، أول معزوفةٍ سمعها البشر، زهرة رقيقة في قمة جبل، ماؤها ورحيقها... راهبة في محراب أنسها الوحيد أن تتلو ترانيم وتراتيل طفولتها وكأنها عزف منفرد على وتر اليقين)، ثم تختم الدكتورة المقدمة بكلمات رقيقة: (فلو كان للقلب فن يمارسه لكان الشعر والعزف... فكل قصائده وموسيقاه في صوتك وعينيك).

واللافت لمن يقرأ قصائده في ديوانه الأخير يجد أن قلب الشاعر يخفق بعشق المرأة، ويقترب في أكثر قصائده من قلب النساء. فهو المبدع الحقيقي، والشخص الحساس والمغترب برؤاه وأفكاره وطموحاته وأحاسيسه القرمطية، وله طقوسه الخاصة، وأحاسيسه المشبعة عشق وغربة، ووعياً وإدراكاً، وتوتراً واحتراقاً، وحرقة وتأمل، فهو الشاعر الذي يختلف في نص قصائده عن الآخرين في فاعلية تأثيره في وسطه الأدبي.

عرفته منذ عام 1988م من خلال الخدمة في العسكرية، انساناً شفافاً، مخزون بالإبداع والثقافة والموهبة، يمتلك ركيزة معرفية وثقافية حساسة، وهو الأكثر تأثراً وإحساساً، وبعد أن فرقتنا الأيام بعد الحروب والحصار الاقتصادي على العراق، كان لموقع (الحوار المتمدن) الفضل لإعادة علاقتنا الأخوية، بعد أن عرفت أنه مقيماً في استراليا، وقلبه ومشاعره ترنوا لأحداث بلده بعد الاحتلال الأمريكي، ومن ثم زياراته المتكررة للعراق، والإقامة لأكثر من ثلاثة أشهر في كل سفرة، فعاد تواصلنا وحواراتنا بين الاتفاق والاختلاف.

وهو المبدع المغترب المستمر في حركة دائبة من الحراك الشعوري، والصدام مع الواقع وتحديه، والتمسك والتسلح بكل ما يحمله من روح الجديّة المعاصرة، واللجوء إلى الموروث للإبتكار. وما من شك في أن للرموز الوجدانية نجدها في نصوص الشاعر بحركتها المؤثرة في لغة الحداثة النثرية في قصائده عموماً، وهو الشاعر الأكثر احتفاءً بالرموز في نصوصه، إذ يخلقها خلقاً جديداً، ويمنحها الشفافية والعمق، والحركة والإيقاع، وقد لا نذهب بعيداً في قولنا: إن ابتهاله الهادئ يميل فيه إلى عمق المكاشفة والتأمل، كما في قوله:

ها أنا في الغربةِ وحدي

تحتَ عبءِ الهمومِ

أتلمّسُ نبضَكِ،

ضفائركِ

يا لحظةً جميلةً في ذكرياتي

***

أبحث عن سماءٍ تسقيني

غيثَ السلوانِ لروحي

ثم أغمضُ عيني

لأعانقَ أحلامي

هنا يطالعنا الشاعر برموزه التي تكشف عن إيحاءاتٍ عميقة، من حيث الابتكار والشفافية والعمق، فهو يبتدع رموزه ودلالاته، ورؤاه الخاصة بعيداً عن مسالك السالفين، فهو الشاعر الذي يفاجئنا بأنساق تشي بالدلالة العميقة، والإيحاءات المبتكرة التي لم نعهدها من السابق عبر حركتها الرمزية المشتعلة قوة، وإيحاء وشفافية روحية وجمال روحي مفتوح الرؤى.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

25/11/2022

 

مبدئيا فالعنوان ليس خـدعة أو نوع من الإثارة؛ بل هو بمثابة مدخل لما أود خطه في هاته المقالة؛ التي تجنح تارة نحو الذكريات وتارة نحو النقد للمشهد عامة؛ وتارة هي هلوسات في أفق عوالم الرقمنة؛ إذ في لحظة النشوة تساءلت لماذا لم تحظ التمثيلية الإذاعية بالمتابعة والنقد والمتابعة عندنا؟ هل نقاد المسرح لا يعنيهم  الموضوع أم كانوا لا يتوفرون على مذياع؟ لكن ما هو مثبت تاريخيا ليس لدينا [نقاد] بالمعنى العلمي/ الأكاديمي/ الاحترافي/ وأبعَـد من هذا كنا ومازلنا لا نتوفر على صحف فنية (مختصة) ولا على ناقد فني؛ وإن حاول في زمان (ما) المرحوم علي الهواري وعبدالسلام السفياني ومحمد الطنجاوي و... لم يستطيعوا تأسيس نهج أوتوجه  كما هو الشأن في الشرق  سواء مصر/ سوريا/ العراق/... ومجلاته كالموعد/ روز اليوسف/ صباح الخير/المصور/ فنون/ الكواكب/ الإذاعة/ الشبكة/... -.../

ربما أحد جهابذة "اللغـْو" سينط  كالقرد ويشير بأننا (الآن) نتوفر على نقاد أكاديميين! ممكن؟ ولكن في المِشْمش؛ وحسب الأرصاد الفنية، ما أعتقد، والذي أعتقده أن بعضهم لم يستمع في أيامه ولو لتمثيلية إذاعية! (واحدة) والبعض الآخر لا يعرفها!  لماذا؟ آه: لماذا؟ فالذي لا يحضر للعروض المسرحية؛ ويكتب عنها عن طريق (السماع) أو من (تحْـتها) وينسب لنفسه صفة (ناقد) هل سيعرف ما هي التمثيلية الإذاعية؟ هل سيكتب عنها؟ إطلاقا. لأن لا ثم لا: وقت لديهم، لأنهم كانوا ولازالوا متفرغين للفراغ وللبحث عن منافـذ ومنابع للتعويضات بين الموائد أواللجن أودهاليز الصناديق السوداء! باسم الصفة (ناقد)؟

رب عالم في همسه سيقـول: كما يقولون دائما: في الكـَواليس ومن وراء جدران كهوف باخوس. ولما لا يمارس (هـو) ما يدعُـون إليه؟ هكذا يتكلمون! ولا يواجهون! ليس خجلا بل خوفا من ذيول تصرفاتهم ومسلكياتهم؛ إنهم واعون بما يمارسونه على حساب الفن الرابع؛ فن النبل وإنسانية الإنسان؛ بالنسبة لي لم ادخل غمار قراءة التمثيلية الإذاعية، لأنني كنت ضمن فريق إذاعي بمدينتي؛ إن قمت بما يسألون؟ عنه بالتحليل والقراءة لعمل إذاعي (ما) سيقول النمامون والوشاة؛ بأنني مأجور؛ من قلب البناية التي فتحت لي أبوابها للإنتاج منذ عقدين(..) إنها تهمة رخيصة، تلتصق بمن خارج الزمرة؛ أو يميل لاتجاه غير تجاههم، أو عازف عن متاع الدنيا في الحد الأدنى. وأفظع التهم التي كانت:(أنه) مؤسساتي مُمَخـزن، هكذا كان مشهدنا الثقافي/ الفني؛ ومن بين الطرائف التي حصلت ما مرة في زمن الإذاعة، أنني نسقت مع أحد (المثقفين) و(أكثرهم) تحَـدد ميعاد اللقاء والتسجيل؛ صبيحة ذاك (اليوم) اعتذر أنه يرفض الدخول لتلك المؤسسة بدعوى أنها (يمينية) فهل هناك مؤسسة(يسارية) ستقبله؟ والمضحك أنه موظف كان موظفا في أعلى الدرجات في قطاع (...) لن نقول أنه يميني، بل مصدرلرزقه!  مفارقات كنا نعيشها أبهى، وأروع من [التمثيليات الإذاعية] التي كان ينتجها الراحل عبدالله شقرون أوأحمد البصري أو الهاشمي بنعمرأو الطيب العلج عبدالرزاق حكم أوزهور المعمري أو فريد بن امبارك أوحمادي عمور أو حبيبة المذكوري أو محمد عاطفي وعبد الصمد دنيا أو شعيبية العذراوي أوالمحجوب الراجي أوحماد الأزرق أوعبد العظيم الشناوي أو وفاء الهراوي أوزكي الهواري أوحسن الجندي أوأحمد العلوي أوحمادي التونسي أو العربي الدغمي أو رشيدة الحراق أو محمد الرزين أو أحمد الناجي.. والقائمة أطول من عمر من ينسى أن هؤلاء تعلمنا منهم حسن الإصغاء وتوسيع مدارك التخييل وإنتاج الخيال الذي هو عُـصب الإبداع في فنون القول: مي رحمة أو رحلة بن شامة أو حكايات دادا سعادة أونهار الخميس أو الخيمة.. ومن الصعب أن ننسى مسلسل "الأزلية" فكل منا له ألف حكاية وحكاية مع ذاك المسلسل. وحكايتي كانت قبل المسلسل مع المذياع؛ بحيث اشترى والدي رحم الله الجميع. مذياعا من الصنف الكبير؛ زمن صولة المذياع (؟) وشبه انعـدام التلفاز(!) وكان مستحْـوذا عليه في غرفته؛ إنها عقلية الجندية في زمَـن الحَـرب العالمية الثانية؛ فكنت كل "خميس" أتحجج بزيارة جَـدتي في إحدى الأحياء الشعبية؛ ذات الطبيعة الحيوية بالهرج والمرج وطيبوبة ناسها، ولكي أسرق مذياعا صغيرا ل"خالي" الذي كان يأتي من العمل ليلا وفي حالة سكر طافح؛ يساهم في نومه نوما عميقا، تاركا لي فرصة الاستماع للتمثيلية الإذاعية أواسط الخمسينات من ذاك القرن؛ لأعيش منطق السعادة والعزة أمام صوت المذياع! بحيث كان ذهني ينغمس كليا في أجواء تلك الحلقة؛ وأهيم كما تهيمُ البهيمة في بَهـيم ِ الليل، حتى يغلبني النوم وتضيع شحنة البطارية التي كانت على ظهر المذياع، تستدرك جدتي الموقف؛ كل أسبوع. وتخبئ المذياع في مكانه، حتى لا يفطن إبنها بالأمر، وهكذا حتى أمسيت مدمنا كالبقية الباقية على التمثيلية الإذاعية؛ وخاصة الأزلية التي استلبت عقول كل الناس صغيرا وكبيرا؛ وأمست الألقاب والنعوت توزع إما بَسْطا أو مدحا أو ذما بين الشباب والنساء وأفراد العائلة والأسر:كعيروض/ عاقصة/ السقرديس/ قمرية / السقرديوس/ عاقلة / رعد/ قمرون/سعدون/ وحْـش الفلا/.../ وأحلى وأبهى لحظات الإستماع للتمثيلية الإذاعية في شهر رمضان؛ إما قبل آذان المغرب في الدكاكين والمحلات للصناعات التقليدية! وبعْـد الإفطار في الغرف والبيوتات! حيث كانت و(كنا) نجتمع للتمعُـن والاستفادة من الحكاية المسترسلة، تلك كانت حكايات واضحة المعاني وشديدة المباني؛ بثراء المؤثرات الصوتية وبأصوات متنوعة ومتلونة لمبدعين أفـذاذ. كأننا في مجالس البصرة أوفي جامعة الزيتونة أو سوق عكاظ أو في جامعة القرويين؛ نعم قرب المذياع! كانت الأسَـر كيفما كان شأنها، تجتمع للتسلية والترفيه أمام فرجة سماعية / بصرية عبر المخيلة؛ والتي كان يطلق عليها "الرواية" انتحالا من الشرق؛ علما أن العمل المسرحي في الأربعينات والخمسينات من الزمن الماضي كان يطلق عليه " الرواية " وليس " المسرحية " إسوة (ب): ألف ليلة وليلة وسيرة بني هلال والعنترية والأزلية  وسيرة بني هاشم والزمردة وهارون الرشيد.. أعمال خالِـدة، ثرية  بشموخ حضورها؛ تمثيليات بحق (كانت) ولازالت حاضرة؛ بطابعها الإذاعي وأجواء الأستوديو الذي يتحول برؤية (الأذن) إلى حمام أو مطبخ أو مخيم أو محكمة أو طريق سيار أو ساحة للوغى (...) عبر خيال مُـعِـد التمثيلية أو مخرجها معية الطاقم التمثيلي؛ الذي له قوى الحضور بالفعل وليس بالقوة. والعجيب أن أغلبها لم يضمحل أو يتلاشى عبر الزمان؛ فتقنية " اليوتوب" وانتشاره أعطى صولة أخـرى للتمثيلية الإذاعية؛ فالذي حيرني؛ في غضون انتشار الوباء وتوقف الحركية الفنية والإبداعية؛ وهنا قولي محصور في بلادي ومحيطي. فلماذا لم يستغل الفنانون والمبدعون تقنية اليوتوب لتمرير أعمالهم المسرحية بأسلوب التمثيلية الإذاعية؟ هل ينقصهم الخيال أم تنقصهم الإرادة أم تنقصهم الإمكانيات والإمكانات؟ سأحتفظ بالحيرة لنفسي: ونقول لا هَـذا ولا ذاك (..) بل كانوا ينتظرون الدعم من الجهة التي عودتهم (الدعم المسرحي) ووقع التهافت والتلاسن والوقفات والاحتجاجات والصَّهلـَلة والهَيْـلـَلة رغم أن فيروس "[كورونا]" كان يمنع التجمعات والتلاصق؛ فاجتمعُـوا على الصندوق (؟)هكذا حالنا! حتى اكتسحتنا على غفلة عـَوالم "الرقمنة" فالرقمنة (الآن) حققت ثورة عارمة عبر العالم الغربي والأمريكي؛ وعندنا تسير حثيتا إلى المؤسسات والإدارات والهيئات.. وإن كانت ظواهر رقمية جَـديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة  مع الحياة الرقمية، فالمسرح والتمثيلية الإذاعية تمركز وتوظف فيها أجواء " الرقمنة" فما السبيل ياترى؟ وكيف يا سادة؟ سيتم تعامل المبدعين؟ الفنانين؟ المسرحيين؟ مع عوالم الرقمنة؛ لتحقيق قفزات ما بعْـد الحَـداثة.....

***

نجيب طــلال

لم يكن هناك في الأدب القديم تركيز على العنوان، ولم يتحوّل إلى حساسية شعرية وجزءاً من بنية النص اللغوية والدلالية، فقد كان الاستهلال والمقدمة العنصرين اللذين يعتمد عليهما الشعراء في شدّ المتلقي، وخلق أفق معين للتوقع، فكانت المباغتة السمعية والدلالية السمة الأبرز للشعر القديم.

اختلف الأمر في الشعر الحديث والمعاصر، فقد استبدلت أو عوضت هذه المباغتة التي كنّا نتلقاها في الاستهلال أو في المقدمات الطللية أو الغزلية بالعنوان. إذ يزخر الشعر الحديث والمعاصر بعنوانات موحية جداً، تكاد تكون لوحة شعرية مستقلة بوحدها، وأصبح مفتاحاً للاستقراء والتأويل، لأنّه يحمل دلالات، ويستشف المتلقي منها إيحاءات، فقد أصبح علامات قادرة على إنتاج علامات جديدة، وتضيئ المناطق المعتمة. فبإمكان القارئ أن يستخلص فكرة القصيدة أو لبّها من العنوان. بمعنى أنّ العنوان يلخّص تجربة النص وعالمه. وتعود هذه الأهمية، وهذا الوعي الشديد باختيار العنوان في الأدب الحديث والمعاصر إلى طبيعة الكتابة ومتطلبات العصر والذائقة الأدبية، وهذا ما يجعل من الشعراء والأدباء على نحو عام أن يضعوا عنوانات لقصائدهم بعد الانتهاء من كتابة القصيدة، وليس قبل البدء بالكتابة، فبعد أن ينتهي الشاعر من كتابة القصيدة يبدأ التفكير باستخلاص عنوان من خلال أفكار القصيدة وبنيتها اللغوية.

في الشعر القديم؛ كان الشاعر يرتجل قول الشعر ارتجالاً، أو كانت العلاقة الحضورية بين الشاعر والجمهور، وبين الشاعر وراويه تلقي بظلالها على طبيعة الاستهلال، فكان التركيز فيه على المباغتة والإتيان بأسلوب بديع جديد يجبر المتلقي أو الجمهور على الإصغاء والوقوع في شَرَك القصيدة. ونجد هذا البعد في جميع الأغراض الشعرية القديمة، ولا سيما في الغزل والمديح والرثاء. لأنّ الشاعر كان يريد أن يستميل الجمهور، ويضعه تحت صدمة المباغتة ومن ثمّ إدخاله مباشرة في صلب الموضوع، نجد ذلك في الاستهلالات وفي المقدمات الطللية التي كان الشاعر يسعى إلى التأثير في وعي ولا وعي المتلقي، فيجعله شريكاً في الإحساس والمشاعر، كما نجد ذلك في معلقة امريء القيس؛ حيث الدخول مباشرة إلى الموضوع الأثير للأدب، أعني الفراق، من خلال البكاء:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

بإمكان القارئ من خلال الشطر الأول أو البيت الأول أن يتنبأ بمحاور القصيدة، فهناك حديث مباشر عن البكاء والافتراق والابتعاد والغربة والاغتراب. فهذه المحاور أو الموضوعات هي مغزى قصيدة امرئ القيس. وبإمكاننا تعميم هذا القول على معظم شعرنا القديم من العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي والأموي إلى العباسي والأندلسي.

وتتجلّى حيوية هذه المباغتة في القصائد التي قيلت في مناسبات سياسية أو اجتماعية مباشرة، كان للحضور فيها الدور البارز في إنتاج المباغتة، ويمكننا الاستدلال على هذا النوع من القصائد في تراثنا الأدبي بقصيدة الفرزدق في حق (زين العابدين علي بن الحسين) التي باغت الشاعر فيها هشام بن عبد الملك وأعيان الشام بقوله:

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ

وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

فالعلاقة الحضورية، والمقام الشعري الحيّ ألقت بظلالها على عملية الإنشاد التي كانت عملية مباغتة، احتفظت بحرارتها إلى يومنا هذا. من هنا يمكننا القول إنّ المباغتة كانت العنصر الأهم والأبرز في الشعر العربي القديم، وهي كانت أساس عملية التغريب (Estrangement) فيه، وفق مصطلح الشكلانيين الروس. بل امتدّ هذا الأسلوب الشعري المحكم إلى الشعر العربي العمودي الحديث والمعاصر، كما نجد ذلك بوضوح عند شعراء المدرسة الإحيائية، بشقيها المحافظ والمجدّد، ولا سيّما عند أحمد شوقي، في جميع قصائده، وقد تكون قصيدة (سلوا قلبي) أوضح مثال على هذا الموضوع:

سَلو قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا

لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا

*

وَيُسأَلُ في الحَوادِثِ ذو صَوابٍ

فَهَل تَرَكَ الجَمالُ لَهُ صَوابا

*

وَكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَوماً

تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا

*

وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ

هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا

*

تَسَرَّبَ في الدُموعِ فَقُلتُ وَلّى

وَصَفَّقَ في الضُلوعِ فَقُلتُ ثابا

*

وَلَو خُلِقَت قُلوبٌ مِن حَديدٍ

لَما حَمَلَت كَما حَمَلَ العَذابا

فقد باغت الشاعر المتلقي بالسؤال عن شيء يكون الحصول على الجواب مستحيلاً، فالقلب قلبه، فأنّى للقارئ الحاضر والغائب معرفة المشاعر والأحاسيس والرغبات التي تجيش فيه، ولم يترك الشاعر للمتلقي مجالاً يأخذ أنفاسه، فبادره بأسئلة أخرى، وبيّن له في الوقت نفسه، أنّ العقل فقد اتزانه وهام، لأنّه واقع تحت تأثير جمال باهر، ففقد القدرة على الكلام، وأصبحت العين المعبّرة – بدل اللسان - عن الحال والمقام.

استبدلت هذه المباغتة في الشعر الحديث بالعنوان، فقد أصبح العنوان العنصر الذي يشدّ القارئ ويبهره قبل الدخول إلى عالم النص. ويعود هذا التبديل والتغيير إلى التمدن، والحياة المدنية التي غيرت حياتنا في العصر الحديث والمعاصر، إذ يعيش معظم السكان بالعالم في المدن؛ يعيشون في عالم مكتظ بالناس والأشياء والمؤسسات والعلاقات المعقدة، وأصبحت المدن كبيرة وواسعة، تمتلك تخطيطاً دقيقاً وإدارة عالية الدقة لمحلاتها وشوارعها ودوائرها ومؤسساتها الكثيرة المتنوعة، ولا سيّما المدن الكبيرة التي يقطن فيها ملايين من السكان، فهذا العالم المكتظ والمتشعب يحتاج - في الوقت نفسه - إلى تنظيم، ويتمّ هذا التنظيم من خلال وضع عنوانات رئيسة وفرعية إلى أصغر فأصغر، لأمكنة المدينة وضواحيها، لكي نستدل الطريق ونعلم أين نبدأ وأين ننتهي. صرنا نستعين حتى في مدننا التي نعيش فيها ونسكن فيها منذ نعومة أظافرنا بخرائط – كانت ورقية وتحولت الآن إلى ألكترونية -.

تأثر الشعر الحديث بهذه الدقة في وضع العنوانات المكانية للشوارع والمحلات والبيوتات أي الأماكن العامة والخاصة، فأصبحت العنوانات عملية فنية دقيقة، يقصد من ورائها الشعراء إلى فتح آفاق أمام المتلقي للتخييل والتأويل، فعندما نرى هذا العنوان لـ(محمد الماغوط): (وجه بين حذائين) ستذهب أفكارنا مباشرة مذاهب شتى؛ نجد أنفسنا واقعين تحت تأثير مباغتة العنوان، فنسأل أنفسنا كيف يكون هذا الوجه محشوراً بين حذائين؟!. وقد نسأل أنفساً هل هذا النص نص سريالي؟ أم نص عبثي؟ أم هو نص ينطلق من واقع مجتمع يعاني من الاستعباد؟! ويتألم من الاستبداد، فأهدرت فيه كرامة الإنسان؟ إذ الرأس ومعه الوجه هو رمز لكرامة الإنسان، لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن ضربه، لكي لا يهان صاحبُه. فإذ أهين هذا الرمز فهذا يعني أنّ صاحبه قد أهين، وسحق وغمط الحق من مهده.

وهكذا نجد أمثلة عديدة لعنوانات موحية تباغت وعي المتلقي ولا وعيه للشاعر نفسه مثل: (كلّ العيون نحو الأفق) و (حزن في ضوء القمر) و(غرفة بملايين الجدران)، و(الفرح ليس مهنتي)، (البدوي الأحمر)، و(بدوي يبحث عن بلاد بدوية)، و(شرق عدن غرب الله).

 فعندما نعي أهمية العنوان، يجب أن يرافق وعينا هذا عند دراستنا للأدب وعي بطبيعة الجنس الأدبي. بعد ذلك نأتي إلى دراسة العنوان، وقد يكون المنهج السيميائي أنسب لهذا النوع من الدراسة، لأنّ هذا المنهج يتوافر على أدوات وإجراءات ورؤية واضحة تسعف المحلّل، وتفتح له أبواب القراءة الواعية.

***

الأستاذ الدكتور يادكار لطيف الشهرزوري

جامعة صلاح الدين – أربيل

قراءة سيمائية في رواية إبط السفينة لؤلفها أحمد ختاوي الإعلامي والروائي.. قراءة لمضامينها الجلية، وأنساقها المضمرة، المخفية داخل بنيتها اللغوية واصواتها السردية، يحتاج التشريح إلى آلة التفكيك ليبدو النص قطعا متجاورات بينها أسرار الربط والالتحام أو إن شئت فقل انت داخل النص تفتش في زواياه كأنك في حي تشابهت أزقته تنظر إلى الجدران مستمسكا بعلامات دلالية تسمح لك بالخروج والدخول دون تيه أو ضياع، وضع هذه الأجزاء المفككة على مجهر يبين الكتابة الظل الخفية تمثل اللاوعي الباطني للنص فيها بعد أن صار الوعي ظاهرا جليا في الكتابة الأولى   

عنوان الرواية إذا كان العنوان قد وضع كمدخل يستفز القارئ ليندفع إلى قراءته، أو أحيانا وضع لتسويق المنتوج، أو خدعة تجلب القارئ ليجد نفسه في غير ما طمح إليه وهذا ما أطلق عليه المنفلوطي بخداع العنوانين.

 الروائي أحمد ختاوي في إبط السفينة بدا عنده العنوان هو عمق النص هو القلب النابض لأحداث روايته. إن السفينة تقتضي البحر وتقتضي الإبحار ثم المسافرين على ظهرها وقد تتعرض للغرق أو الارتطام بالخلجان فيصير ركابها بين غارق مات، وناج سلم وبلغ غايته مبتهجا، ومفقودا يعيش أهله على بصيص من الأمل. لكنه هو هنا أضاف علامة غريبة جدا إبط، والإبط هو باطن المنكب والجناح وأضافه للسفينة كأن السفينة حيوان أسطوري يخرج من البحر لينتهي بمن يحملهم  إلى عوالم جديدة أم هي الوسيلة المثلى التي تغير من وجودية

كل من يعلو على ظهرها وهذا ما تغنى به في تلك الأيام (يا الرايح وين تروح تعيا وتولي) نفس الشيء اليوم رحلات إنتحارية تحت أهازيج باللهجة الجزائرية

(ياكلني الحوت وما ياكلنيش الدود أو يا لبابور يا مو نامور أي حبيبي بالفرنسية خرجني من لاميزار)

ما هي السفينة عند أحمد ختاوي؟

هل هي نفسية الكاتب؟ حيث تتعاقب أطياف ووميض أحداث مرت معه وهو يقرأ وجوده في هذا العالم الذي تتصارع فيه الافكار يمنة ويسرة، من ميراث اللوحة والصلصال إلى أفكار سارتر ونتشه، نوال السعداوي سيمون ديبوفوار.

هل هي بوسمغون التي نستشرف من دلالاتها الأنثروبولوجي وهي بلدية من ولاية البيض الجزائر يتحدث سكان بوسمغون بلهجة البربرية، يطلق عليها محليًا "شلحة" أو "تشلحيت"؛ إختلطت بقبائل عربية هلالية وهي مركز الطريقة التيجانية التي أسسها سيدي أحمد التيجاني عام 1782. فيها زاوية التجانية. وفيها المسكن القديم للأديب قبل النزوح إلى مشرية، ثم وهران التي كانت مسقط رأس الكاتب وفيها قضى فترة دراسته وهي ماتزال تحمل حنين الأديب، حيث النخيل شاهد على ما أصاب المنطقة خلال الغزو الإفرنجي من الفقر، المرض،غزو الجراد في أربعينيات القرن الماضي.

التجنيد القهري في صفوف الجيش الفرنسي الحرب العالمية الأولى والثانية ثم العودة بالجراح ولم يتغير شيء، المكافأة دماء خراطة، قالمة، سطيف، حيث الهجرة إلى ماوراء البحر بعد مباركة الكنيسة للقلوب التي تنصرت مقابل إسم وبيت في ليون أو مارساي أو باريس،حيث الجدة ،و الغراب يتابع المأساة ويسرد منعرجاتها وتناقضاتها البائسة، هل ..هل ..هل على وزن عاق عاق صوت الغراب أحد أبطال الرواية ،سيميائية هذا التحول جعل اختيار السارد يقع على شخصيات  خاصة ، لبُعْدها ومستواها الخاص، بغية تحقيقها لذلك البعد االجتماعي أو الفكري وبالأحرى الأنثروبولوجي، الذي وظفت من أجل تحقيقه، بصفتها تمثل المحمول الثقافي والتاريخي للمجتمع البوسمغوني كنموذج لباقي قرى ومداشر ومدن الجزائر المستعمرة وهذا ما يرمى إليه الروائي في توظيفه للشخصيات المشحونة بحمولة تراثية ثقافية ،إن سيميائية الزمن في رواية إبط السفينة جعلت المؤلف يستعمل قسمين من الزمن داخلي خاص بالرواية، وخارجي متعلق بالكاتب والمتلقي، فهناك زمن الشيء المروي وزمن الحكاية، الدال، وزمن المدلول كما هو عند جيرار جينيت في خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، د ط، د ت، ص21.

هذا التلاعب في الترتيب الزمني قد يكون لأغراض جمالية وفنية بحتة. كلما تعددت الحكايات داخل العمل الروائي تعقدت كذلك مشكلة الزمن. فلهذا قام المؤلف بكل جرأة يلعب بالزمن حيث يتحدث مع عمي الطاهر في أمر يعود لخمسينات القرن الماضي ثم يذكر دلالة من دليل عاشه المؤلف في شبابه أو مراهقته في وهران أو سعيدة ثم يعود إلى أبعد من ذلك إلى سارتر و سيمون ديبوفوار أو حتى إبن خلدون وهكذا بدون أن يشعرك بالملل بل يجعلك في أرجوحة زمنية حمل الكاتب هذا الخلق الذي تجري أحداثه فوق عاصفة زمنية تدور فيها السنين العجاف والأمكنة الموحشة والاجساد الموبوءة والأماني المذبوحة الكل مع بعض بما يشبه تورنادو وهو يقذف بقرى كاملة من الأبلاش إلى الروكي في السماء ثم تهوي إلى مستقر للفناء، هكذا فعل السارد أحمد ختاوي بأشيائه، بأفكاره، بحنينه، بمرابعه بالسعي نحو ما وراء بوسمغون.

تستقر الاشخاص أمام سفينة الروائي أحمد ختاوي بين من فضل البقاء في صومعته وصوفيتها وأعرض عن السفينة كالجدة ومشايخ التيجانية، ومنهم من يقوم بصيانة السفينة كعامل يحلم بركوبها والهجرة على متنها ليداوي جراحه مثل عمي الطاهر ومنهم من تجرأ وركبها وفتح بها عالم آخر خسر فيه إسمه ودينه وربح دنياه مثل رومان.

تنتهي الرواية في الاخير بسفينة تحمل من كل زوجين إثنين تجري بها البحر.

إن النضال والحركية تستمر من اتجاه السربون إلى جوامع قرانا ومداشرنا أو ينتقل عزمنا من بوسمغون إلى باريس وفيرساي ليحمل ثورة جديدة كلما تعبت قامت ثورة أخرى تساندهارغم كل هذا، تضل سفينة الرواية تجري إلى حيث لا ندري وتبقى ضفيرة حنان وجوكندا دفنشي والقرش والدلفين الوديع تلعب بهم الامواج، كما يلعب الحنين بالغياب والحضور، ويبقى ديغول يتمنى وعمي الطاهر يتمنى وكل العالم على نفس السفينة الهائمة على وجهها تبيت عند قالوا وتصبح عند قلنا ولله الأمر من قبل ومن بعد.

***

كتبها رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

 

دراسة في عالم روايات أحمد سعداوي،  الفصل الخامس ـ المبحث (2)

مهاد نظري: تعاين الحالات الأجرائية في مقاربات المنهج (السيميوطيقا) جملة من الحوادث والمواقف الزمكانية المحفوفة بالأبعاد الانفعالية والحسية المتعلقة بالذات الناظمة كمحددا منقسما بين (الفاعل المنفذ = العامل المتمثل) وصولا إلى أقصى المكونات في مدار المقاطع والوحدات في تراكيب السطوح والافضية الدلالية (الضمنية ـ الاظهارية) التي من شأنها استخلاص تداولية البنيات الشخوصية والحوادثية في سياقات أكثر تحليلا وتأويلا في العلاقة الدلالية الكامنة في الرصيد المقصدي من وظائف الفصول الروائية.

ـ الزمن تمفصلات وإحالات في مؤشرات المواقع

حاولنا في سياق مباحثنا السابقة في مواضع مختلفة من الفصول الأولى من الرواية، القول بأن خطاب الرواية موضع مبحثنا، تتلخصه العديد من المؤشرات الزمنية اللاخطية أو اللاتتابعية، لذا وجدنا خطاب السرد عبارة عن تبئيرات تبادلية في مشاغل مواقع شخوصية تربطها المواقع المتحولة والتمفصلات الاستباقية والاسترجاعية من معينات مختلفة من وقائع آليات (المتن = المبنى) ومن خلال مستوى ومعدلات العلاقات الوقائعية في زمن الرواية، عاينا بأن زمن الانجاز السردي في حدود تركيزات ذات أبعاد زمنية مقتطفاتية، أي إن العلاقة فيما بين مرحلة سردية وأخرى، تنتظمها مواقع استرجاعية أو استباق داخلي ما من دوافع معينات زمنية فاصلة وواصلة بين (زمن الحكاية ـ زمن الخطاب) امتدادا نحو إمكانية خاصة في تقانات (الصيغة ـ التبئير ـ المسافة ـ المنظور) أي أن جملة العلاقة بين حاضر الواقعة والشخصية بالماضي وحدوثها الدال، تشكل استكمالا في الوحدات اللاحقة المتآتية في أشكال ومواقع لزمن ضوابط أفعال السرد في النص.

1 ـ الأهواء العلائقية في نزوات الزمن المضطرب:

يمكننا الحديث في جملة تفرعات مبحثنا المركزي حول ملامح الامتداد الروائي، وذلك من خلال النهوض بالشخصية الروائية وسلوكياتها وأفعالها وصفاتها ونوازعها من جانب استثمار توجهات عدمية منكفئة على ذاتها بلواحق أفكار مستلبة وأكثر تجاوبا مع غرائبية العبث العدمي. نتعرف بموجب المعاينة القرائية على خطوات وأفعال الشخصية علي ناجي وهو يسعى إلى عملية الانتحار من فوق جسر الجمهورية غرقا في دجلة، وتضعنا هذه الوحدات من مواقف السرد إزاء خيارات عناصر جمعية المنتحرين التي يقوم برأستها الشخصية المحور ذاته. وفي غضون متباينات هذه العملية تواجهنا عدة دوافع كابحة من الداخل الذاتي للشخصية، أهمها (شاعرية اللحظة ـ القلق الاكتئابي ـ عدم الرغبة الجادة في الموت) والدليل على بروز عدم جدية خيارية الموت، إن علي ناجي كان المتواجد الوحيد فوق حاجز الجسر يعبر عن صراعاته الداخلية بالردود الكابحة في جدية الانتحار: (كان يفترض، وحسب الموعد الذي ضربه مع أصدقائه السبعة عشر في جمعية المنتحرين، أن يحضروا ها هنا في هذه الساعة تحديدا.. سيكونون معه ثمانية عشر منتحرا ينفذون غطسة جماعية وأخيرة مع ضربات الساعة الأولى في القرن الجديد. /ص47 الرواية) وضمن هذا السياق نعلم بأن مضمر عملية الانتحار جاءت تلاقيا مع مقتبسات روح الحياة وشاعرية اللعبة الفنية في موقف المنتحر، وليس في جدية أهوال الانتحار موتا حقيقيا. وبانتقالنا إلى مواقف أخرى من السرد، نلاحظ وجود الدكتور واصف أيضا هو ممن أنضم إلى هذه الجمعية الخائبة، حيث نعلم بأن الدكتور واصف كان كمن يقوم بدور المستشرف في دراسة سيكولوجية نوازع الانتحار لدى الشخوص التي تسعى إلى الموت حياتا بشرائط أولية. ولهذا الأمر لا يغدو الأمر شروعا جادا في الموت، بقدر ما يعني تصحيحا في بدء حياة جديدة لعلي ناجي وأولئك المتورطين معه في تجربة الموت الشفوي.

2ـ حدود شعرية الموت إحباط عبور الحدود الجغرافية:

أن طبيعة الكيفية الروائية المتعلقة في موضوعة روايات سعداوي دائما هي مثار نوازع عدمية شخصية أحادية في هدفها الدلالي وسطحية في مدلولها التأليفي. أن سعداوي في أحداث رواية (باب الطباشير) يمارس عبر لسان حال سارده حياة شخوصيه ذات الأشكال الشعبية المرجع والمصدر، لذا تبدو غير واعية بواظائفها الوقائعية:فما معنى أو قيمة شخصية علي ناجي من ناحية اعتبارية كشخصية روائية مثلا؟إذا نظرنا من حيث كونها شخصية تعلن عن ذاتها مرارة عيش الواقع فهذا بدوره ليس من الأهمية إطلاقا، خاصة وإن ثلث أرباع الشخوص في الرواية العراقية والعربية تحمل ذات المعنى المستخلص شكلا؟. هكذا لاحظنا إجمالا بأن أغلب حاصلية شخوص روايات سعداوي، تعبر عن (ذات أحادية؟!) مشغولة في شواغلها الذاتية الشعبية الضيقة والنزقة، لدرجة شعورنا بأن سعداوي غدا يكرر نسخة بطله الروائي في عدة رواياته التي غالبا ما لا تحمل سوى إرهاصات الذات الأحادية الغاطسة في قاع محيطها الشعبي:أنا شخصيا لا أهاجم سعداوي كونه روائيا أبدا، فهو عبر رواياته لا إشكالية ما على أدواته وعدته الروائية، ولكن من المؤسف أن لا ينظر الروائي سوى إلى حدود ذاته وحدها، فيقوم برسمها عبر وجوه أبطاله بألوان وإيقاعات لا تحمل سوى مطالب ذاتية قسرية واضحة في أبعادها الزمانية والمكانية ليس إلا؟. ولو حاولنا الرجوع حينا إلى الشخصية علي ناجي وفكرته في عملية الانتحار، لوجدناها سؤالا بسبب حرمانه العاطفي والجنسي حينا. وهذا الأمر بدوره ما كشف للشخصية ذاتها عن عدولها وتأسفها على نفسها عندما خطرة لها فكرة الانتحار مضضا ، خصوصا بعد ظهور الشخصية ليلى حميد مجددا في حياته: (الأفكار السيئة أحيانا تأتي من عضو ذكري معطل له صلة بالدماغ، قال عمار ذات مرة، ولم يرد عليه علي بشيء. /ص49 الرواية) فالسرد هنا جاء بما يقتضي وحدود ما قلناه قبل قليل. فحدود الشخصية علي ناجي كانت محكومة بوظيفة تعطل جهاز العاطفة الجنسية لديه، وهذا الأمر ما عثرنا على مثله في روايات علي بدر تقريبا، سوى أن الأخير كان أكثر إبداعا وتألقا في تنويع مشاغل شخوص روايته وموضوعاتها، ولا يقتصر على التركيز على شخصية محوره الروائي المتكرر ، وفرز كل تفاصيله بروح المغالاة والافراط غالبا، ولدرجة شعورنا بأن سعداوي يستنسخ نفسه في قوالب شخوصه. ولعل أهم خصيصة في جملة تحولات شخصية علي ناجي ، عثوره على ليلى حميد في منزل الدكتور واصف أخيرا: (حاول علي جاهدا أن يبدو طبيعيا، وأن يحذف من دماغة أي شيء يتعلق بالقبلة القديمة، وأيام التسكعات والنقاشات الحامية/حاول أن بدو منشغلا وغائصا في تفاصيل حياة صاخبة، وما ليلى وعالمها كله إلا صورة شاحبة لا يتذكر تفاصيلها جيدا، أوهكذا أحاول أن يوحي لليلى. /ص66 الرواية) وعلى الرغم مما تحدثنا به بصراحة قبل قليل، ولكن هذا الأمر لا يعفينا من الخوص في ثنائية (الموت ـ الحياة) لدى نوازع الشخصية علي ناجي. حاول الشخصية الدكتور واصف انتشال علي ناجي من محاولته الباهتة في قذف نفسه في أمواج النهر، بعد أن أقنعه بأن هذه الليلة لا تعد في حساب وتقويم القرن الجديد: (أنها ليست ليلة رأس القرن.. حساباتي الرياضية الدقيقة تشير إلى ذلك، وقد أخبرت البقية بالموضوع. ليلة رأس السنة الفعلية بعد ثلاثة أيام، لهذا هم لم يحضروا.. كانت تلك الكلمات القاضية، التي جعلت علي ساكنا وصامتا. /ص56. ص57 الرواية) في الواقع كما تخبرنا الرواية بأن الشخصية علي ناجي حاول سابقا في شتى الطرق أختراق الحدود بين العراق وسوريا ، وبعد فشل عملية التهريب، تمكنت دوريات الحرس الحدودية العراقية بإيداع علي ناجي (قضى ستة أشهر في سجن بادوش الموصل. /ص49 الرواية) وبعد إطرق سراح الشخصية ناجي، عادت إليه كل مظاهر حياة البؤس وكرنفالية الرقص في أدنى قعور الشظف في دركات الفقر والحرمان كحياة راح يصفها سعداوي بحياة الجرذان. أعود لأقول إن الشخصية واصف بعد أن أثنى علي ناجي من فكرة شروعه بالانتحار، أدلى إليه بأفكار غريبة جعلت من الناجي يستسلم كليا إلى مقترح الدكتور واصف بالموت حيا.

3ـ  خيارات الغياب موتا حيا:

وبما أن آلية خيارات الغياب للشخصية علي ناجي ذلك الانفصال المصحوب برغبة الحياة والموت معا، تواجهنا معادلة أن يكون الانسان (حي = ميت) معا، هذا ما جاءت به غواية أطروحة الدكتور واصف إلى إقناع علي ناجي بأن يصرف عنه فكرة الانتحار عوضا عنها بأن يظل بين طرفي المعادلة الضدية على حد سواء. إذا هو تدبرا من الشخصية واصف على حد ما، أو أنها الفكرة الفلسفية التي تذكرنا بمقولة أفلاطون بالموت الاختياري، على أن يبقى المرء حيا وهو في عين التسليم إلى الموت: (هناك أشكال متعددة من الحياة تشبه الموت تماما وربما أقسى. /ص63 الرواية) أو في ما تحدده هذه الوحدة من فرضية مؤثرة في إقناع الشخصية علي ناجي: (افترض منذ الليلة أن علي ألقى نفسه من الجسر، وعش منذ الليلة وكأنك ميت حي. /ص64 الرواية) هكذا تباعا ظل ناجي يواظب على زيارة مجلس حديقة الدكتور واصف، كي يتزود برؤى إضافية في تجربة العيش في جدل الضدين معا (الحياة ـ الموت) من خلال ما يتفضل به الدكتور واصف من أطروحات قيمة، تجد لها اهتماما واسعا لدى أعضاء جمعية المنتحرين. وليس الأمر يتوقف على حدود قناعة علي ناجي نفسه، بل صار يتعدى إلى درجة تخلي سنان ولد صديقه العجوز وجاره الذي كان أيضا من ذوي أعضاء الجمعية سابقا، وهو الآن متحررا من أفكار العدمية والشروع برغبة الموت إطلاقا. طبعا لاحظنا الحجم الذي بذله سعداوي في هذا الشأن من استطرادات أحيانا يتثاقف بها السارد نفسه، ولا تكشف بدورها إلا عن خلفية سعداوي الثقافية الملحوظة في مسار ملفوظات شخوصه فنيا ومعرفيا.

4 ـ من أشباح القبلة الصفراء إلى فضاء الإيروسية القاتلة:

من المؤكد أن سياق فصل (جمعية المنتحرين) له الأهمية في إبراز أوجه الإشكالية الخاصة في حياة الشخصية علي ناجي ، وتجاوزها بذات درجة القلق والضياع الذي كان يعيش تفاصيله من ذي قبل، أي بدءا بمرحلة شعارات الشروع بالموت ونوازعه إلى مرحلة ظهور ليلى حميد مجددا في حياته وما أظهره ظهورها من مأزومية عاطفية كبيرة في تمفصلات هذه العلاقة التي سرعان ما يختفي طرفها الآخر المتمثل بليلى فيعود الطرف الآخر علي ناجي في دوامة سحيقة من التيه والرغبة في الموت: (كانت تحب كعادتها الأجوبة غير المباشرة، واللف والدوران، وألا تنطق بشيء يشبه لغة الاعترافات ـ استمرا على هذا الحال عدة أسابيع، وغادر علي تحفظه السابق وخوفه من إزعاج ليلى ـ كان صوت في رأس علي يخبره أنه يندفع معها مثل فراشة العث التي تقترب من مصباح حارق ـ رافقها حتى شقة أختها ـ تذكر وهو يمسك يد ليلى ويرى إلتماعة عينيها وكأنها تكبت دموعا غامضة لا تريد سفحها في هذا اللقاء، كان أحمق حين فكر بالانتحار، وأن الدكتور واصف أنقذه وهو من قدم له بشكل غريب، هذه اللحظة المميزة. /ص68. ص69 الرواية) أن علامة رجوع ليلى إلى علاقتها بعلي ناجي لم تكن إمكانية دائمة في طبيعة الحد الأقصى من نضوج العلاقة في ذاتها، كما أن تحرر علي ناجي من الموت منتحرا لم تكن إلا فرصة نحو دخوله إلى تفاصيل جديدة من الموت الجديد. لذا فالمعنى في سابقية تلك القبلة الصفراء ما هي إلا تمهيدا في الدخول إلى آفاق مرحلة حميمية من ممارسة الجنس بين علي وليلى، في ظل هواجس قلقة من الطرف المتمثل بعلي بأن خلف هذه الاسترخائية ثمة فاجعة فاصلة من الغياب والفراق من الطرف المتمثل بليلى: (ظل علي ليومين وهو يشم في يديه وجسمه رائحة ليلى ـ تحطم علي تماما،  رغم أن صوت المنطق في عقله يخبره بإلحاح أن الارتفاع الشديد يؤدي إلى سقطة مؤلمة أكثر ـ تقطعت أقدامه من السير على غير هدى في شوارع حي الزعفرانية، يدقق في وجوه فتيات يبدين من بعيد بهيئة ليلى ـ في مزاجه الجديد لم يجد علي في كلام الدكتور واصف أي ترياق أو تعزية ـ كان قد قرر شيئا مع نفسه، فإن كان القدر يلعب معه لعبة ما، فعليه أن يظهر ليلى أمامه ثانية كي يمنعه من الموت هذه المرة. /ص70. ص71. ص72. ص73 الرواية). هكذا يظهر الشخصية علي ناجي داخل أهوال نوبات من الفقد لمحبوبته الزئبقية. فهو كما السابق عاد يفكر بطرائق جديدة لإنتزاع حياته تتمثل في أساليب حديثه في تحصيل موته ومرارته أثر فقده للشخصية ليلى، إذ صار يبتكر علاقات معمقة في وسائل إيجاد الموت، وما كان عليه سوى قيامه بعمليات شبه وهمية كمحاولة التفجير عند أبواب دوائر عسكرية أو رئاسية مثالا، حتى وصل به الأمر أنه غدا ثرثارا ضروسا: (أخذوه بالسيارة إلى مكان لم يكن يعرف ماهو، وابتداء من ليلة القبض عليه تعرف على عالم آخر. /ص75 الرواية).

ـ تعليق القراءة:

لعل من أكثر الأوجه الابداعية والاذحاقية في مفاصل وحدات السرد الفصولية في رواية (باب الطباشير) هو في كيفية الإمكانية على مخاتلة الزمن عبر مسافة (وقائع ـ متواترات ـ مؤثرات تقاطعية ـ إبدالات صيغة ـ الاستدعاء المطرد ـ النسيج المضمر من الداخل ـ نقطة إرتكاز ـالوهم والإمكان ـ الارتداد في الإمساك بعلائق منقطعة وواصلة) لعل ما واجهنا به فصل (المتجول بين العوالم) هو ما يجيز لنا تسميته (الخطاب من الداخل الزمني) أي رؤية العالم ضمن فاصلة من الغيبوبة ومعاودة سرد الأشياء في آفاق من اللاوعي والعشوائية بمجليات الحياة الداخلية المحكومة بزمن غيبوبة الشخصية، لذا بدا لنا هذا الفصل أكثر تأشيرا نحو الفلاش باك الذاكراتي ولكن عبر زمن من اللامعقول وشرود الذهن في نوبات الوقائع اللامؤطرة زمنيا. وهذا الأمر هو ما جعل بدروه أن تبقى مجمل (المحاور الإجرائية بين ـ الفاعل المنفذ ـ والعامل التمثل) أي في حدوث الفاعل المنفذ داخل مبنى من الأمكنة والأزمنة المتداعية في سياق الامتداد نحو الدخول في جولة غيبانية من الوعي الشخوصي الذي أقضى على الشخصية سمة التمثيل بين حقيقة السياق النصي في وجوده حينذاك ـ كفاعلا ـ وبين الواقع الاستيهامي الذي عاشه الجوال الشخوصي كحالة متمثلة في الأطياف الخارجة عن زمنها الحسي الكائن.

***

حيدر عبد الرضا

إرتطامٌ لم يُسمَع له دَويّ، رواية صدرت عن مكتبة أفاق للنشر والتوزيع في الكويت للكاتبة بثينة العيسى، رواية كُتِبَت بسلاسةٍ وبُلغةٍ بسيطة وبتناسقٍ تام بين مُجريات أحداثها، بحيث تجعل القارىء يتلهّف لقراءتها ومعرفة ما تُخفيهِ من تطوّرات. وهي أيضاً بمثابة رسالة من الطالبة الكويتيّة "فرح" بعد عودتها إلى وطنها تتوجّه بها إلى مُرشدها "ضاري" الذي لازمها كمُرافق مُنتدب خلال تواجدها في السويد. فوثّقت فيها يوميّاتها هناك وما شابها من أحداث إعترضتها.

تتطرّق الرواية بلسان "فرح" إلى ما يُمكن تسميتهُ بِصراع الحضارات ما بين الحضارة الغربيّة المُتَمثّلة بِمُشاهداتها في السويد، وما بين ما تكتنزهُ من عادات وتقاليد، وما نعيشه ليس في الكويت فحسب بل في مختلف أقطارنا العربيّة. مُشيرة إلى التفاوت الكبير والملحوظ خاصة في المجال التعليميّ والأكاديميّ والفروقات الشاسعة بين ما إكتشفته الطالبة فرح وبين ما هو قائم في موطنها. وهذا التمايز ولّدَ لديها شعوراً بالدونيّة وبأنها مختلفة عن بقيّة زملاء البعثة ، فشعرت وكأنها تبدو بينهم كعشبة ضارّة بين وفود الدول المُشاركة.وشعرت كأنّهم يرونها مُجرد برميل نفط وبلادة.4592 ارتطام بثينة العيسى

كما أشارت الرواية الى مسألة التباطؤ في تحديث المناهج التعليميّة  العربيّة إذ تقول "معيب أن أكون هنا من أجل مسابقة أحياء وأجهل هذا ال"لينيه" في إشارة منها إلى "كارل لينيه"مؤسّس علم تصنيف النبات وأشهرعالم في علم الأحياء. وتسأل "ما هذا الذي كنت أدرسه إذاً طوال عامين ؟ الجميع من الزملاء ينصتون الى المحاضرة ويهزون رؤوسهم، كأنهم يتلقّون معلوماتٍ يألفونها وأنا وحدي أضيع في اللاأدري" وفي موضع آخر عندما وزّعوا على الطلبة أوراق الإختبار تقول "هناك خلل ما ربما أخطأوا  في توزيع الأوراق، فمن غير الوارد أن يكون ما أقرأه هنا له علاقة بعلم الأحياء". منتقدة هذا التخلّف في تحديث المناهج بقولها "ما معنى أن نعتلف كتباً طوال عامين  ثم يتّضح أنّها تحمل معلومات أصابها العطب منذ عشرين عاماً". وفي هذا إشارة إلى الحشو الذي نلحظه في مناهجنا التعليميّة، والتي تحتوي على كمّيّة هائلة من المعلومات غير المُحدّثة لتواكب التطوّر العلمي، وبالتالي يصبح تلقّيها أوتلقينها بلا أي فائدة، لأنّها تكون قد أصبحت خارج الزمن بشكل أو بآخر. وهنا يتبادر للأذهان السؤال لماذا تتمّ مثل هذه المشاركات العربيّة في هكذا ندوات او مؤتمرات علميّة بالرغم من تواضع القدرات العلميّة إن لم نقل إنعدامها وسرعان ما يأتي الجواب على تساؤلنا هذا على لسان "فرح" عندما قالت " إيه يا وطني لم يكن مجيئك إلى هنا إلا روتينيّاً شكليّاً لكي تدوّن الصور الفوتوغرافية وجود ألوانك الأربعة بين كل هذه الأعلام".

 ولم تغفل الكاتبة الإشارة الى التفاوت في المستوى المعيشيّ والإجتماعيّ فيما خصَّ الإمتيازات والخدمات التي يحظى بها الفرد في الغرب وبين هزالة هذه الخدمات أو إنعدامها في أوطاننا، ففي الغرب الأمور متناهية المثاليّة في مختلف القطاعات الصحيّة، التعليميّة، وفي تسَيُّد العدالة في توزيع الدخول والثروات بحيث لا نجد القصور الفارهة بجانب عمارات تكاد تقع فوق رؤوس قاطنيها كما في بلداننا المُتخمة بالثروات، وهذه إشارة الى الهُوَّة الكبيرة في مستويات المعيشة والرفاهيّة بين شعوب منطقتنا، وإلى إنعدام التوزيع العادل للثروات.

وفي موضوع الهويّة والوطن تصف "فرح" الوطن، بأنه الحبّ بمعنى ان تحب شيئاً معيّناً ليس لأنّه الأجمل او الأفضل، ولكن لأنّك تحبّه يُصبح هو الأجمل والأفضل، وإذا كانت السويد جميلة والكويت لا تجاريها جمالاً، تبقى الكويت هي الأجمل لأنها وطني.

مسألة "البدون" كانت حاضرة في الرواية من خلال شخصيّة "ضاري"، والبدون هم تلك الفئة المُهمّشة التي حُرم أفرادها من الجنسيّة الكويتيّة رغم ولادة الكثير منهم على أرض الكويت، فأصبح الفرد منهم مجرّداً من أيّة أوراق ثبوتيّة رسميّة  تمنعه من الإلتحاق بأيّة وظيفة مهما كانت مرتبته التعليمية أو مكانته الأدبيّة والثقافيّة وليس أدلُّ على ذلك من والد ضاري نفسه، وهو الشاعر الكبير الذي تُرجمت قصائده إلى سبع لغات، ويعرفه العالم على أنّه شاعر كويتيّ ولكن في الكويت غير مُعترفٍ به فقط لأنّه من البدون.

وإذا ما حاولنا التطرّق إلى العلاقة بين فرح وضاري، فلا يمكن لنا الذهاب بإعتبارها علاقة حُب وليدة بين شخصين بقدر ما هي في الواقع علاقة إستطعنا من خلالها معرفة شعور ضاري الحقيقي تجاه  فرح التي رأى فيها صورة مصغرة عن "بلده" الكويت ذاك البلد الذي أحبه بجنون ولكن لم يلقَ منه غير الإهمال وعدم الإكتراث، وقد عبرت الكاتبة عن هذا عندما إعترف ضاري بحبه وبصوت عالٍ لفرح ولأكثر من مرّة ولكن فرح (الكويت) تجاهلت هذا الإعتراف وتظاهرت بعدم سماعها له. 

لذا وبما أن ضاري وجد في فرح نسخة عن الكويت بتفاصيلها مصبوبة في هيئة أنثى، فقد حاول بشتّى الطرق العمل على إيذائها عن طريق سعيه لتشويش أفكارها عن الوطن لتهتزّ صورة الكويت في نظرها، وهذا ما عبّرت عنه فرح عندما تساءلت في سرّها واصفةً ضاري بالقول:  "انت الذي ما فتئت تنتهز أيّة فرصة لتسدّد طعنة لقدسيّة الوطن ، تجيء بالشكوك لتتأمّل بتشفٍّ كافٍ مصرع ثوابتي، أتساءل أي شيء شنيع صنعه لك الوطن لكي تقابله بكل هذا الخمود؟"  . وعلى هذا التساؤل نذكر ما جاء على لسان ضاري قائلا لها:" هذا الذي أمارسه فيكِ الآن هو إنتقام طفيف ومؤذٍ، أنا أشوّه فرحكِ التافه بوطنٍ، وأستبسل لأجعلكِ تشبهينني". يمكن أن نستخلص مما سبق أن ما أراده ضاري من كل هذا هو التعبير عن حنقه وغضبه من وطنٍ يُحبّه ولكن للأسف هذا الوطن لا يكترث له. ولذا فإنّه يرفض أن تكون علاقته بالكويت علاقة حبّ من طرف واحد كما قال.

 أيضاً مسألة الحجر الذي يُمارس على الفتاة العربيّة، والموانع التي توضع أمامها للحدّ من طموحاتها وتحقيق ذاتها كان لها الحضور في هذه الرواية عندما أشارت "فرح" إلى أنّها أمضت تلك الليلة في طبع القبلات على رأس جدتها لكي تضغط على والدها ويوافق على سفرها، أيضا إستعطفت أمها مرّات عدة لكي تمنع أخوتها الذكور من محاولة عرقلة هذا السفر .

وفي سياق غير بعيد تُشيرالكاتبة ولو بشكلٍ عابر إلى مسألة تكاد تكون شائعة في مجتمعاتنا العربيّة وهي مسألة التحرّش فتقول فرح كيف كان أستاذها يخصّها بإهتمام مشبوه من بين الطلبة والجميع يلاحظ ذلك. وربّما إختيرت للبعثة ليس لأنها الأفضل بين الطلبة، بل لأنها الأثيرة لدى أستاذ مراهق. كما تطرّقت الرواية الى تقليد إجتماعيّ وهو الزيجات التقليديّة بين الأقارب، وفي هذا يقول ضاري " غالبا ما تجري الأمورهناك في الكويت هكذا، فلان لفلانة، وفلانة لفلان، هو زواج أشبه بسوق نخاسة  يجري بين الجدران بحجّة الزواج".

 لقد أصرّت الكاتبة على جعل نهاية الرواية مفتوحة تاركة للقارىء –أو للزمن- كتابتها سواء مستقبل العلاقة بين ضاري وفرح كشخصين، وأيضا - وهذا هو الأهم -  مستقبل علاقة ضاري بما يُمثل من فئة البدون وبين الكويت (فرح)، هذه النهاية المفتوحة ما هي سوى إقرار بأن مسألة البدون لم تحسم بعد وتركتها الكاتبة للقادم من الأيام.

أخيراً الرواية كما قلنا شيّقة وممتعة تجذب القارىْ بأسلوبها الرشيق ومصطلحاتها اللافتة وتعابيرها المسبوكة ومن بينها هذه الجملة التي تقول " أنا أتبرزخ بين الظاهر والباطن " فكلمة "أتبرزخ" ملفتة جدّاً وأجدها معبّرة بشكل لافت.

 وأختم مثنياً على الكاتبة ومهنّئاً لها على ما قدّمته لنا، وعلى هذا الإرتطام وإن كان لا يسمع له دويّ، لكنّه دون شكّ إرتطام سيحدث صدى في قلوب القُراء.

***

بقلم عفيف قاووق – لبنان

 

تبدو شخصيات الإنكليزية هيلاري مانتل مضطربة وقلقة، وفي حالة تناقض وصراع مع طبيعتها - الطبيعية والاجتماعية بنفس الوقت. وهذا يعني أنها تقاتل على جبهتين: داخلية غير منظورة، وخارجية. وقد تكلمت عن هذه المشكلة في أول سيرة روائية لها صدرت عام 2003 بعنوان غروتسكي وهو "الهرب من الأشباح". وحددت معنى كلمة شبح بواحد من ثلاثة.

الأول هو الأطياف المنزلية، ومن بينها خيال زوج الأم step father ص4، وصور ملائكة نورانية، سرعان ما تتحول إلى رهبان ورجال دين جوالين ص3. ويتخلل هذه التهيؤات وجبات وهمية، وبالأخص في وقت الجوع، كأن ترى أمامها كعكة محلاة تطير في الهواء كالبالون ص2. أو الأسوأ أنها تلتهم سربا من النحل ص3. وكانت هذه الولائم تجري في بيت  يحيط به جدار من الطوب الأحمر ص10. ولا شك أن التورية ليس بالسور ولكن بلونه. فهو إشارة لجناية يرافقها سفك الدم. واتسع نطاق هذه الأوهام وشمل أماكن السهر واللهو، مثل  بار جيش الملك King's Arms، والذي كان يحترق، في نظرها، بالضوء ص8، ولا يسبح في بركة أو هالة مباركة من النور. ويوجد طباق ملحوظ بين الاحتمالين: أن تحترق بالضياء وأن تسبح به (وهي عبارة توراتية مفضلة طالما اتكأ عليها لورنس). إلى جانب ذلك أبدت مانتل اهتماما غير مسبوق بالجغرافيا المتحولة والبديلة.  وهذا لا يشمل تبديل المكان فقط، ولكن أيضا المعنى المرتبط به. فقد كانت تهرب من مكان حاضر إلى مكان غائب. أو بتعبير آخر كانت تبحث عن مكان لها في زمن الآخرين. وأدى ذلك لاهتمام مماثل بأدوات قياس الوقت، ومنها الساعة.  وقد قالت عنها في آخر فصل من السيرة: إنها تتدلى على جدار بيتها بشكل قمر آخر مضيء - وهذا معيار للتنوير والمعرفة ص376.

وقد وجدت أفضل صيغة للتعبير عن هذه القضية في أهم عملين لها. الأول "تبدل في الطقس" 1994. وتدور أحداثه في جنوب إفريقيا حيث أن التاريخ يغدر بالجغرافيا. وكما توضح الرواية لا تتوقف علاقات الاستغلال عند حدود النهب للأرض ولكنها تتطور إلى نهب للذاكرة. وأهم ما يحسب للرواية أنها لا تتكلم عن إمبريالية ملونة، أبيض - مؤمن مقابل أسود - وثني أو كافر، إنما تتبع نفس المنطق الجدلي الذي بنى عليه العقل الرومنسي والتنويري أطروحته، وتقسم المجتمع الكولونيالي إلى ثلاث فئات: الأب الجلاد - ويمثله النظام. والعراب وتمثله البعثات التبشيرية. والأبناء وهم سكان الأرض الأصليون. وهذه بنية أوديببة معدلة تلغي الزواج الخارجي. وتحصر الجدل في توفير الغذاء للعقل أو للروح. ولذلك لا يوجد صراع أو دراما وإنما مجرد خصام.  واختارت مانتل أهون الشرين. أن تفرض رؤيتها على الطبيعة المحلية بالاستئناس أو بالترويض. وبالنتيجة كانت روايتها ذات توجه إمبريالي. وانصب الخلاف على الأساليب فقط. وربما يجوز أن نقول إنها شنت على إفريقيا حملة صليبية - ناعمة. السلاح فيها هو الجائزة الممنوحة بعد الاستسلام. وكما قالت ميرلي روبين: لقد قسمت العالم إلى "حالات محزنة" و"نفوس طيبة"، ولم تعمد إلى إنهاء قوة الشر الهدامة.

العمل الثاني "ثماني شهور في شارع غزة" 1988. ويبدو كأنه سيرة ذاتية لحياتها في العربية السعودية. وقد حرصت على ضمان نظافتها من أساطير الاستشراق، وصوره الجاهزة، التي تغذيها الفانتازيا والرومنسيات. فلا كلام عن النقاب وقصور الحريم، ولا أية إشارة عن الأنفاق التي تغرق بالنفط والحداثة السائلة، ولم تلجأ لفرز وتصنيف الأمكنة والشخصيات بالطريقة المعهودة: شرق مذكر بحالة انتصاب وغرب مؤنث يزخر بالمفاتن.  فالحضارات، في هذه الرواية، تتقاطع وتتجاور، والأعراق والثقافات تتداخل. واستعملت مانتل الحمية الغذائية لترمز لهذا التقابل. ودخلت لروح الحضارات من بوابة تعرفها السيدات بشكل أفضل وهو المطابخ. وابتعدت عن أي حزمة أو أجندا للتبشير، بعكس ما فعلته في روايتها الإفريقية، وأكدت على علاقات العمالة وتبادل المنافع. وبالنتيجة نجد أنفسنا في ميتروبول بديل، يدشن أول ظاهرة من نوعها، وهي تحويل الهجرات، من الشمال البارد إلى الجنوب المشمس. وعموما تؤكد مانتل في كل أعمالها على دور تنويري للريف الإنكليزي، وعلى دور تحديثي للمدينة الشرقية. وبهذا المنطق يمكن أن تجد أن الروح هي البطل في الشمال بينما العقل العملي هو البطل في الجنوب. وهذه مخالفة صريحة لأطروحة الإستشراق الأوروبي، وكل من يمثلها، وفي مقدمتهم لورنس العرب مؤلف "أعمدة الحكمة السبعة". وعلى ما أعتقد إن العناصر الحرجة في رواية لورنس - وهي الدين والحرب والجفاف موجودة في كلام مانتل عن إفريقيا وليس العرب. فكلاهما يبني فلسفته على رؤية واحدة للأحداث. وهو نقل الحداثة في أول حالة - فتح أسواق للسلع، والعمل على إنتاجها في ثاني حالة - بناء هياكل -  أو  معابد لدين عابر للقوميات والثقافات. والحقيقة إن هياكل لورنس لا تمنح الإنسان فرصة لتأسيس علاقة مع أرضه لأنها نقاط انطلاق، أو عروج من جغرافيا إلى جغرافيا مثل محطات قطار أو مضافات عشائر.  في حين أن معابد مانتل كانت بشكل أسواق وأبراج، تدخل فيها صور جزئية وتخرج منها صور كلية. وللتوضيح كان بطل لورنس بصورة نبي جاء للهداية والمؤازرة. بينما كان قوام المدينة، في رواية مانتل، مؤلفا من عدة أقليات، يفصل بينها  جدران التقاليد. وفي هذه الحالة يكون الثابت هو المعبد وإلهه المتخفي عن الأنظار، بينما المتبدل هو الإنسان الذي تحركه احتياجاته البسيطة واليومية. مع التأكيد على أبوة الإمبريالية الغربية للحضارة واستحالة المساكنة بين الأعراق والأديان. ولذلك فرضت مانتل على أبطال روايتيها فلسفة "الفجيعة". ويتضمن ذلك بالضرورة خيبة الرجاء بالمشروع الكولونيالي وبشقيه: التربوي والتجاري.  فلا إفريقيا جاهزة لتبديل وجهها، ولا العرب جاهزون لتغيير أقنعتهم. وقد تناول الكويتي سعود السنعوسي هذه المشكلة المحتدمة بين الوجه والقناع في روايته الهامة "ساق البامبو". وإن كانت المشكلة محصورة ضمن شعوب المشرق، يمكن بكل سهولة ملاحظة الجدل الدائر بين الطبع والتطبع، والتراجيديا المحتملة التي تنجم عن اتباع أنصاف حلول. 

الشبح الثاني هو الذات. ولا تخلو رواية لمانتل من شخصية تتطابق معها. ولكنها دائما بحالة سوء تفاهم مع هذه الشخصية. ومثلما أنها ترفض بإصرار وضعها الوجودي، وتأثير المعاناة في الاختلاف مع الواقع، تحاول أن تلجأ ليوتوبيا ذهنية. وقد تناولت هذا الإشكال في قصص كتابها "التعرف على الكلام" 1985 . وهي قصص من سيرتها، أو إنها زيارة للماضي. ولا يجوز أن ننظر لماضي مانتل على أنه مرحلة مرت من الحياة، بل هو ذاكرة محمولة. حتى أنها في أول قصة من المجموعة وهي بعنوان "كينغ بيللي رجل محترم" تعلن: عدم قدرتها على الخروج من ذهنها ص1. فالماضي بنظرها  خلاصة لحياة  الشخصيات التي تجتمع لتصنع ما يقول عنه لاكان الآخر الصغير والآخر الحقيقي. ويبدو لي أن مانتل  مؤمنة بفلسفة الشقاء المثالي، فكل إنسان غريب عندها هو جحيم نحترق به. ولكنه أيضا مصدر للمعرفة ولإدراك موضع الذات من الوجود. وتوجد إشارات واضحة في كل القصص على أن الأشباح التي تراها ما هي إلا خيال ظل للشخصيات ذاتها، أو هي عين ساحرة نرى من خلالها الجزء المغمور والمجهول من حياتنا. وكما تقول سارة موس**:  هذه القصص تنظر للطفولة على أنها مسرح لأحداث تساهم في بناء الإنسان البالغ ووعيه. وهي مكان دائم نحيا من خلاله وليست حقبة زمنية تنتهي وتموت. ثم تضيف: إن كل قصة في المجموعة عبارة عن لحظة غير مفهومة من حياة بلغت نقطة انعطاف وتبدل (وأضيف مني: هو تبدل يطال الصورة والوعي أو الإدراك).

أما الشبح الثالث والأخير فهو التاريخ. ولا تستطيع أن تبني قناعة ثابتة على هذا الموضوع. فمانتل تتعامل مع التاريخ الإنكليزي بطرق ملتوية. وغالبا ما تقف على طرفي الجدار العازل، تنظر من الخارج لما تحمله معها من معارف وخبرات، ثم تنظر لنفسها بالمرآة. ولذلك يمكن أن يكون التاريخ برأيها معرفة مكتسبة، أو تجربة شخصية. وقد اقتربت من هذا الموضوع في ثلاثيتها المعروفة: "قصر الذئب" 2009، "أحضر الجماعة"2012، و"النور والمرآة" 2020. وقد حملت هذه الثلاثية كل أعراض التقدم بالعمر.

أولا لجأت للمونولوجات والكلام بلسان صامت - وهو ما تسميه الفلسفة بالتفكير. لكن الحقيقة أنها كانت تكلم الآخر الذي يحمله الإنسان في لاشعوره أو صندوقه الأسود. وربما كان سلوكها أقرب إلى المونولوج الدرامي. فقد كانت تناور لتكتشف حقائق نفسها، ولحسن الحظ إن شخصيات مانتل بسيطة وغير مركبة. وإن كانت تعاني من خلل فهو عائد لخطأ بالتشخيص وليس لعطل حقيقي. وأعتقد أنها بهذا السياق تشير لمحنتها الشخصية. فقد شخص أطباؤها الألم الذي عانت منه على أنه ذهان، وتبين فيما بعد أنه نمو غير طبيعي في الرحم. وترتب على هذا الخطأ توقف القدرة على الإنجاب، وتبدل ملحوظ في الملامح. بتعبير آخر تكبدت خسارة مزدوجة.. في المحاكاة وفي التكاثر. وبالضرورة أنهى ذلك قدراتها على محاكاة نفسها بالسبل المعروفة، وهي الانعكاس والانقسام. وتجد صدى المشكلة في غموض كتاباتها الواضحة. فهي تلعب بالمعاني وتغنيها بعلاقات تصورية لا متناهية، لكن لا تحدد أي هدف أو وظيفة نهائية. حتى أن سيرتها لا تبدأ من الخاتمة ولا من البداية. وتقفز فورا لثاني محطة من حياتها. وتعلل هذا الفراغ بعجز في الذاكرة، وإن كنت أرى أنها لا تريد ذاكرة بيت الأب حصرا. وأكدت على ذلك في عدة مناسبات، فقد وضعت أمها في مركز الأحداث. ونادرا ما تكرمت على الرجل البالغ بدور رجولي، وغالبا صورته بشكل ابن كبير الحجم، وأبوه مقتول أو ميت. وهذا الانتقام من رب الأسرة - سواء هو أب أو زوج دعمه نفور واضح من بابا الفاتيكان. وقد رأى كل نقاد الثلاثية أن روايتها موجهة ضد الكنيسة البابوية، وتقف مع كنيسة الأم الناشئة.

ثانيا تخلت في ثلاثيتها عن الجرعة الدرامية لمصلحة الجدل النفسي كما هو الحال في "لعبة الكريات الزجاجية"، آخر وأضخم كتاب لهيرمان هيسة. وكانت مثله، عوضا عن أن تكتشف نفسها بأسلوب الإسقاط والملاحظة، لجأت للتكهن والتخمين.

ثالثا وهنا مربط الفرس. لم يخطر في ذهنها أن أوليفر كرومويل أهم من توماس كرومويل. وفوتت على نفسها هذه الفرصة الثمينة. لقد كانت الحبكة وبنية الخطاب تصلح لمتابعة مخاض كرومويل الأول - باعتبار أنه تتوفر لحكايته عناصر درامية في إطار تراجيدي وبطولي. كما أنه أقرب ببنيته الملحمية للملك لير (الأب المغدور به في مسرحية شكسبير)،  وللأخوة كرامازوف (الأشقاء الأوديب يين الذين تورطوا بصراع غاشم وسخيف مع الإرادة). لقد توفرت في حبكة أول كرومويل فكرة صراع الأجيال، وتناقض المصالح الطبقية، وأخيرا مشكلة المشيئة الطبيعية للقدر، أو بلغة أقرب للنقد الأدبي مشيئة البيئة والظروف. في حين أن كرومويل - توماس كان شخصية شيطانية، مجالها الغرف المغلقة والصالونات. وهو أشبه بأي شخصية تظهر لك في أحلامك. إنه أقرب لعالم الرموز وبعيد تماما عن مجال الاشتقاق والاستعارة. ولهذا السبب لم يكن إنسانا تجريديا، ولم يكن صالحا لأسلوب المحاكاة الذي خرجت أهم الأعمال الروائية من معطفه ابتداء من "قصة مدينتين" لديكنز وحتى "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي و"آناكارنينا" لتولستوي، انتهاء بــ"عشيق الليدي شاترلي" للورنس. والحقيقة إن آخر كلمة في الروايات التاريخية تكون للسيف. وهو سبب بقاء وشهرة أعمال مثل "السيف المعقوف" لهارولد لامب و"الفرسان الثلاثة لألكسندر دوما الكبير"، لكنها ليست لحكايات البلاط المسلية. ولذلك أرى أن هيلاري مانتل أعادت توطين أشباح الماضي القلق ونصف التراجيدي في ثلاثيتها، بعد أن تحررت منها في أعمالها السابقة.

***

د. صالح الرزوق

....................

*Merle Rubin. Wall Street Journal. 24-9-1997.

**Children Stories for Adult Audiences. Sarah Moss. The New York Times. 21 June 2022.

وقفة مع كتاب (غرناطة) أنموذجا.. المعينات الوظائفية في الضمائرية والزمكانية والشخوصية المتصلة، الفصل الأول ـ المبحث (2)

مهاد نظري:

لعل الغائية الروائية التي تسعى بدورها إلى توصيف وتصوير ومعالجة الممارسات المقامية بطرائق التشخيص المباشرة وغير المباشرة، في بنيات المادة المرجعية المحالة إلى دائرة التخييل السردي الروائي، هي من الآثار الأكثر أهمية وتندرا، خصوصا فيما يتعلق بنوعية وكيفية التعامل مع تلك الجملة من المقامات الأخبارية والمروية بطريقة (الحكي = الحكواتي) كما إن حالات المنظور الخطابي والحكائي في طبيعة هكذا روايات، لا تكتمل معيناتها إلا في حالات استيعاب هذه الجملة من التقانيات (المعينات ـ المقامية ـ المنظور الأداتي ـ المقاربة الاتصالية ـ ضمائرية الحضور ـ الوظائف المتصلة) وتبعا لهذه الاختزالية الوظائفية في تشريح المفاهيم المنجدلة في الفضاء النصي الخاص في محاور رواية (ليون الأفريقي) نعاين حدوث هذه الشبكة من مفاهيم الإجراءات على أسس بينية وغير ذلك من خصائص الأخبار والمسرود الصراعي المتشكل بين (الأنا الشاهدة) وتراجيديا التلاحم السيكولوجي المتبادل في تعددية الأصوات والوقائع ذات الطابع التأريخي المعزز بالاشتغالات الاستهوائية من بنيات خصوصية الفواعل المعينية في الذوات والمكان والزمن والمقامات السردية الناتجة من تقابلات الأشكال التمظهرية واللاتمظهرية في نماذج وحدات الخطاب والحكاية المرجعية.

ـ الفواعل الاستهوائية وسيطا بين المروى إليه والفاعل الذاتي.

قد لاحظنا في متواليات الفصول الروائية الأولى من النص الروائي، بأن هناك (سيميوطيقا) بين السيرة الذاتية للمكان والأحداث، قد جرت في ضوء الربط بين المعينات الاستهوائية ومستوى المحددات المرجعية الموظفة في التقاويم والتواريخ المؤشرة أعلى اليافطات العنوانية لكل فصل من الفصول.وهذا الأمر ما جعل من المادة المرجعية متراوحة في مسافة المروى إليه راويا، وكأنها حالات نابعة من حال لسان (الحكواتي؟) .ولكن لا يمكننا في الوقت نفسه تحديد زمن هذا الحكواتي، صحيح أن المرويات كانت قادمة من خلال أوضاع شخوصية متمثلة بشخص والدة ليون أو ذلك الأب الذي انقطع رويه على حين غرة، ولكن هل يمكننا تحديد الزمن الذي كانت تبث فيه هذه المرويات حول أخبار السلطان لغرناطة أو كم كان عمر ليون في غضون ذلك الزمن: (كنت في ذلك الحين طفلا بدينا، فلم أكن أجسر على إخراجك معي إلى الشارع خوفا من عيون السوء./ص59 الرواية) من هنا نعلم أن الرائي كانت هي الأم سلمى ذاتها، ولكن هل يعني أن ليون كان طفلا وهو يتلقى المروى إليه في حقيقة الاستطاعة العمرية له في ذلك الزمن؟ولعلنا نتابع في وحدات أخرى ما قاله ليون راويا عن ذاته: (وهكذا ذهبنا في أولى ساعات النهار تحملني أمي، وتحمل أختي مريم أمها، وكلتا الوالدتين تسيران الهويناء لتفادي الانزلاق على الثلج./ص74 الرواية) ويعني هذا أن الوحدات الكلامية قد لا تتقدم أو أنها تتأخر عن الوحدات (التمرسية ـ الاستهوائية) ذلك لأن التحويل بالعامل الزمني ما زال في حيز (المروى إليه راويا) أما حالات الحكي والمسرود فهي قائمة في مدار الاشتغال بالشاهد على المروي أو الاتصال بوسائط (المسرود إليه) كما قلنا سابقا.إذ أن مستوى بناء الأحداث والعلاقات الشخوصية لحد الآن هي تحت (حبكة المروى إليه) أما بما يتعلق بزمن الشخصية ليون، فهو كما نعلم طفلا لا يتجاوز أعوامه الثلاث كما أوردتنا به سياق الرواية.

1ـ الأحوال الاستهوائية في عام الشيخ ـ استغفر الله ـ:

ثمة دائما في طبيعة الأعمال الروائية المرجعية، ما نعثر على شخصية استهوائية، كحال الشخصية المتعلقة في الشيخ ـ استغفر الله ـ وهذا النمط الشخوصي هو من التعقيد والشكوكية في كل مجالات حياته المتوترة: (كانت عمامة الشيخ ـ استغفر الله ـ عريضة وكانت كتفاه ضيقتين وصوته أئمة الجوامع الأبح /وكان في كل صباح يركب ساعة الآذان سطح منزله، أحد أعلى منازل المدينة، لا لكي يدعو المؤمنين للصلاة كما يفعل سنوات طوالا، بل يحدق بعيدا إلى ما كان مثار حنقه.. وكان يصيح في جيرانه الذين لم يكونوا قد استيقظوا تماما بعد: انظروا، إنه قبركم ذاك الذي يشاد هناك على طريق ـ لوشة ـ وأنتم هنا راقدون منتظرين منتظرين قدومهم لدفنكم؟./ص45 الرواية) وبناء على ما جاءت به هذه الوحدات، يمكننا معاينة مستوى الدوافع الاستهوائية في مكنون سيكلوجية هذه الشخصية، وعند التركيز على محض أفعالها نستنتج بأنها الذات المستهواة، بأعتبارها تقدم ملفوظاتها الشعورية من جهة التمظهر فحسب ثم وبالاستعانة بالنية القولية من مقترحاتها الأهوائية.وهنا يمكننا معرفة آليات تخطيب الأهواء لدى هذه الشخصية المغالية في ملفوظها ومفرداتها النفسانية، خصوصا وإنها على مستوى من العاملية التي تستهوي لذاتها حالات بث الأخبار والمواجيد الفوضوية في أذهان الناس.وعلى ههذا النحو نعلم جيدا بأن ما كان يشير إليه هذا الشيخ هو الأشارة إلى (أسوار سانتافية) حيث كان الزعماء من الكاثوليك قد بدأوا بناءها في الربيع، وسرعان ما اتخذت في متوسط موسم الصيف مظهرا من مظاهر المدينة: (وباح لي أبي بأنه كان قبل مولدي بزمن كثيرا، ما يجتمع وعصبة من الأصحاب يوم الجمعة قبل صلاة الظهر الجامعة في دكان وراق لا يبعد كثيرا عن الجامع .. وأنهم كانوا يتراهنون فيما بينهم على عدة المرات التي سيتلفظ فيها الشيخ بعباراته المفضلة في أثناء خطبته./ص46 الرواية) قد لا تختلف الرواية السيرذاتية للزمن والواقعة المرجعية عن سائر أجناس الكتابة التاريخية ـ سيريا ـ فهناك أحوال تقترب من (السير ذاتي) ولا شك أن مستوى زمن الكتابة في رواية (ليون الأفريقي) مرحلة مرتبطة ب (الأنا الحكواتي) حتى وأن كان الغالب فيها هوالراوي نقلا عن مرويات الشخوص والشواهد الأخرى في الرواية.

2 ـ التبئير الداخلي المرتبط بوجهة نظر الراوي:

قد بدت لنا النتائج التي وصلتنا عن طريق الرواة بأن فاعل تلخيصها كان كافيا في مرسلات الاثبات العاملي الذي مصدره (التبئير الداخلي = ذاتية الراوي) فالمسرودات للأمكنة والأحوال الشخوصية قد تتاح من خلال نوع سردي مصدره أحد الشواهد الشخوصية، ولكن وعي الإيصال يتم من خلال ضمير المتكلم الذي هو المبأر والناقل بضمير ذاته الصفرية.ولكن هذا يظل في مجال النمط الداخلي من التبئير الذي يتخذه الراوي المشارك نفسه.فكلما غلب التبئير الصفر على مركزية وجهة نظر الذات الساردة، كلما تم الكشف الزمني عن أوليات (السير الذاتي) للأحداث وطابعها التخييلي المقرون بمنزلة مهمة من مستوى رؤية القارىء للأحداث والأفعال في زمن الحالات الصفرية من النواة الروائية الأولى: (عام السقوط:لم تكن أمي هي إياها عندما كانت تتحدث عن سقوط مدينتنا، وكان يصدر عنها حيال هذه المأساة صوت ونظرة وكلمات ودموع لم أكن أعرفها لها في أية مناسبة..وأما أنا فلم أكن قد بلغت الثالثة من عمري في تلك الأيام الصاخبة، ولست أدري إذا كانت الصيحات المزدحمة في مسمعي في هذه اللحظة تذكرة لما كنت قد سمعته حينذاك حقا أو أنها فقط صدى ألف حكاية حكيت لي مذاك./ص57 الرواية) هنا نعاين كيفية الإدلاء بواسطة الشخصية المحورية ـ ليون ساردا ومتمثلا ـ حول مواضعات الأصوات للرواة، والعلاقة ما بين صوت الفاعل إزاء تعاقبات الرواة ـ سببا في اكتمال مستويات المادة في المروى إليه.ولكن المتخيل لا يمنح نفسه عادة بالقول عن اللاكتمال في زمن المحور العاملي حينذاك، إلا في مؤشرات تقديم المحور ذاته شاهدا في ما مضى من الاستراتيجية في حكاية المروى إليه راويا.وإزاء بيان وضوح صوت المحور الشخوصي ـ ساردا ـ نلاحظ حجم التعاقب في المبنى الحكائي، بدءا من صوت سلمى وانتهاء بصوت ليون ذاته، الذي يمثل الانموذج الجامع في جل مستويات الاستغراق في التفاصيل الدقيقة ذات المنحى الميتاتاريخي والسيكولوجي الخاص بوصف أدق معاينات الملحمة الغرناطية عبر نمو زمنها الضاج بتواصل الأوضاع المسرودة من عبر ثقوب الوثيقة المرجعية.

ـ تشاكل المعينات في علاقات القرائن الواصلة.

هناك جملة واسعة من المسميات والوسائل الاصطلاحية التي تطلق على مفاهيم وخواص (المعينات) منها سبيلا:القرائن المدمجة أو الواصلات في وحدات المينولوفيجيا.غير أننا نود استخدام هذا الاصطلاح في مجال مباحث دراسة رواية (ليون الأفريقي) اعتمادا على مخصوصيات: (الإشارات ـ المحددات التمثيلية ـ العرض والتعيين ـ الإحالة ـ التأثير والمحاكاة) والمراد من وراء كل هذه المصطلحات هو الكشف عن الفحوى الإحالية في علامات وصور ومواقف المرجعية النصية المبنية على شروط وتوافقات الأداة التلفظية وعواملها الزمنية والمكانية والضمائرية والظرفية والسياقية.فالمعينات بوصفها العناصر الاسلوبية والبنائية والسيميائية التي تحيل على السياقات الخاصة بالزمكانية الجارية في صيغة المتكلمين في أوضاع التلفظ والتواصل الإطاري من الملفوظ الكتابي دلاليا وإحاليا.فإذا أخذنا على سبيل المثال بعض من وحدات التلفظ الواردة في سياق جملة مقامية أو احالية، فنلاحظ بأن أدوات التعيين فيها غدت تمثل صفات خاصة بالزمن السردي، ما يجعل تغيرات الأحوال والمقام من وحدة الانطباع المشهدي تبدو وكأنها مفضية إلى تصاعدية عدة مواقف أو أزمنة في الوقت الواحد أو المشهد المحدد في عدة جمل: (وهكذا فإنه كان يقص علي خبر سقوط غرناطة .. كان من المحتم أن تبدأ حكايته من قاعات ـ الحمراء ـ المنجدة) أو ما جاء مقتبسا في هذه الوحدة مثالا: (ولا يعرف أحد في المغرب أنني بالأفريقي: فهناك كنت الحسن بن محمد الوزان) وعلى هذا النحو من هذه الأمثلة وغيرها في موارد متعددة ومشتعبة من وحدات الرواية المسكوكة، نتابع ذلك الحجم من التلفظ في مواضع مقامية وإحالية مختلفة، بل إنها تبدو كما لو كانت علامات أو شيفرات يراد بها أغراض ووظائف مختزلة في عدة جهات من (التلفظ في عدة أوجه) أو الانطباع في عدة علاقات مختلفة في المظهر، غير إنها في مقاييس الأوضاع الدلالية تكشف لنا عن محصلات اتفاقية في الغاية والنتيجة: (وران صمت مطبق على الحضور الذين كانوا يكتفون بإرسال هدير بالموافقة بين الحين والحين..وفتح المليح فمه وكأنه يستعد لمتابعة حججه..ولكنه لم يقل شيئا./ص62 الرواية) وتتبدى العلاقة في الكلام هنا بين الحضور أو اللاحضور، ولكنها واقعة في مجال دلالة مقامية فعل الكلام والاتصال والاندماج، والموقف الإحالي هنا يعبر عن دينامية الاشتغال في فعل التكلم، لو لا إنه كان يقول شيئا لما توقف، فهناك في مسار آخر من الوحدات جعلته وبطريقة ضمنية يقوم بفعل التلفظ، إلا أنه اختار: (وخطا خطوة إلى الوراء، وجلس وبصره إلى الأرض./ص62 .ص63 الرواية) لعل هذا الفعل من المعينات العلامية التي تؤشر لنا دلالة إحالية في وصفها المقامي قد لا يحتاج الشخصية في حالته الوصفية إلى التلفظ بما لا يصح به المتلفظ من خطاب مباشر أوقسري .

1 ـ المعينات الزمكانية المتصلة والمنفصلة:

تواجهنا في هذا الباب الفرعي من مركز دراسة مبحثنا عدة تعالقات في العلاقة الزمانية والمكانية المزاحة عبر مظاهر التلفظ داخل تشكيلات ومتواليات الوحدات المسرودة من النص.ذلك بعد أن أدركنا كيفية قيام المعينات في الجوانب الاشارية والفعلية والاحوالية والمقامية من سياق النص.الآن سوف نتناول كيفية إجراء صيغة المعينات في المجالين (الزماني ـ المكاني) تبعا إلى العلاقة المخصوصة من وظائف النص في الرواية: (وظلت المدافع والمجانيق صامتة في الأيام التالية، وظل الثلج يتساقط على غرناطة موشحا إياها بالسلام وبدعة ما كان يبدو أن شيئا ينبغي أن يقطع معهما أوصالها.فلم تكن هناك معارك، وكانت بعض صيحات الأطفال وحدها تبعث الحياة في الشوارع./ص71 الرواية) قد تنكشف الصور المكانية والزمانية ، ضمن ثنائية تلفظية غالبا، وهذا ما يجعلها تبدو معينات في حضور (الذاتية ـ الموضوعية) فغالبا ما ترتبط الذاتية في حدود خطاب زماني أنفعالي، في حين ترتبط دلالات الموضوعية بالمكانية كظروف في أحوال الوجود والكلية في الأثر المكاني على مواجيد الذات.فالذات والموضوعة كلاهما يشكلان في الزمكانية علاقة حضورية وغيابية، تمتزج بعضهما مع بعض كوقائع اتصالية في الشكل والمضمون والبنية والفضاء والدلالة.

ـ تعليق القراءة:

لا شك في أن المعينات هوية تكوينية تأشيرية داخل النص الروائي، وما يلفت اهتمامنا حول هذه المعينات الاشارية والضمائرية والزمكانية في محاور الرواية، هو قدرتها على خلق القرائن والتوليفات بطرائق محددة وغير محددة.فضلا عن هذه الوظائف والأغراض التي امتاز بها الطابع الروائي، لعلنا نكشف للقارىء عن سقوط غرناطة بيد القائد الصليبي فرديناند، حيث نص بقطع العلاقة بين اليهود والمسيحيين، وهذا الأمر ما جعل أغلب اليهود يشارفون على مغادرة غرناطة: (وعلى هذا فقد مشت سارة وأهل بيتها من غير أن يلتفتوا خلفهم./ص83 الرواية) فيما ظلت سلمى تعاود مسرود غرناطة وسقوطها على أيدي المسيحيين على مسامع صغيرها ليون الأفريقي، وكأنها ذات الوسائل والتقانات من المعينات الحكواتية يحلو بها مقام القص عبر ضمير المروى إليه، وصولا بحضور ليون ذلك الشخصية الساردة في مدار الابعاد الزمكانية والشخوصية المتصلة عبر فضاءات مرجعية المخطوطة التأريخية وإعادة انتاجها في مستحدثات سلطة التخييل وأفعال المتخيل.

***

حيدر عبد الرضا

الوقائع المؤلمة للمجموعات المعزولة غالبا ما يكون رواتها مجهولين، وتتأخر قليلا الذّاكرة الاجتماعيّة في هضمها وتداولها، وسيُبذل الكثير من الجهد والوقت لتكون جزء من السياق التاريخيّ للبلد. وهذا التّضييق، الذي تُكره عليه الذّاكرات المعزولة، لا يعني ضياع الوقائع كليّا، أو تخلي المجموعات عن خصوصيتها وتاريخها، فللحوادث رواتها وللحركات الاجتماعيّة نشطاؤها وادباءُها ومفكروها. وحركة الانصار الشيوعيون التي جرت احداثها (1978-1988) في جبال كردستان العراق هي واحدة من تلك التجارب التي لا حظ كبير لها في الانتشار، رغم احتوائها وقائع مهمة، وتوثيقها من قبل روائيين وسينمائيين ومثقفين قاتلوا من اجل وطنهم. سبب ذلك ليس فقط عزلة الحركة القسريّة بالجبال وابتعادها عن حاضنتها الاجتماعيّة، فلقد ذهبت الأعوام وسأم الناس الحروب وقصص الأبطال، وتحوّل عالم الثوريّين المثير إلى عالمٍ ممل في ظروفٍ سياسيّة\اجتماعيّة معقدة.

روايات الأنصار الشيوعيون، على قلّة ما قدمته، كانت حقول كشف مغايرة لأدب الحرب بالعراق في ثمانينيّات القرن الفائت. مؤلفوها لم يؤرخوا ولم يبحثوا عن مخطوطات تدعم قصتهم، هم كتبوا عن احداث عاشوها، بأسلوب روائي يعكس المناخ العام للعيش بين السياسيّين والقتال بين الفلاحين الكورد. في رواياتهم لم يتبنوا خطابا سياسيّا مجردا ولم يدافعوا عن حزبٍ أو جنرال، وتجاوزوا في كثير من صفحاتهم مفهوم الثورة والعصيان والقتال، إلى حقول ومفاهيم عامة اكتسبت بعدا إنسانيّا من خلال تناولهم حياة الألاف من المقاتلين وفقراء الفلاحين والجنود المهزومين من جحيم الحروب. ومع ذلك سيكون من غير الواقعي إبعاد هذه الروايات عن السياسة، فالحروب والصراعات الاجتماعيّة غالبا ما تقف خلفها دوافع سياسيّة. أردنا القول ان الالتزام بقضايا الإنسان ومشكلاته في الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل أعمق من أي التزام، التقط مؤلفوها حالات الجوع والخوف والشجاعة والتوتر والنذالة، دون مواعظ ثورية أو وعود بالخلاص. بدتْ فيها كتاباتهم خالية من استمالة مزاج رفاق السلاح، وهو ما أدى إلى ان يتعامل معها البعض بجفاء، ويجدون فيها كتابات تسيء إلى تجربة عظيمة. الروائيون، موضوع مقالنا، لديهم قلقهم الابداعي والوجودي، فهم قاتلوا وفقدوا أحبة وتجمدت اطرافهم في مواقع الحراسة، وباتوا يكتبون عن موضوعٍ يمسهم شخصيا في المقام الأول، يبحثون فيه عن عزاء بحجم الخراب الذي عاشوه. خلت فيها كتاباتهم من مجاز الانتصار والفخر والتباهي، خلت كذلك من المواقف الرمادية ولفلفة الحقائق وتزْيين الشخوص، والأهم من كل ذلك لم يدعِ أيّا منهم رسم صورة كاملة لتجربة افترشت عشرة أعوام، وأكتفوا برواية المشهد كلٌّ من زاويته.

إنّ المسارعة إلى ربط النصوص التي تتناول الخصومات المسلحة بـــ "أدب الحرب" ليس ناجعا على الدوام، وقد تأخذ من النصوص أكثر مما تعطيها. فالروايات موضوع مقالنا، كصياغات نصْيّة لحركة مسلّحة، لا يمكن حصرها كليّا في هذا المصطلح. فهي توسلت الحرب للكشف عن الاستبداد السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الذي خيّم على البلد، للكشف عن هشاشة الإنسان وإنْ كان محقّا ومتعلّما ومسلّحا، للكشف عن أعراف وتقاليد ما زالت محمية بجبال بعيدة، للكشف عن أفكارٍ عظيمة ورومانسيّة يستحيل تحقيقها. صحيح إن النهاية غير المقنعة لتجربة الأنصار بالجبال، ومغادرة المقاتلين للمنفى، أنتج حالة تمرد عند الروائييّن، خرجوا فيها عن تقديس الشخوص والمؤسسات السياسيّة، ولكن هذا لا يقلل من حقيقة انهم عاشوا تجارب يومية بدّدت اوهامهم، وجعلتهم يشاهدون عن قرب ما يتركه حمل السلاح من خراب في النفوس. من جهة أخرى نجد ان الروايات التي تناولت ما للكفاح المسلح وما عليه، فضحت كذلك حروب الدولة وتداعياتها. فقبل ظهور كتاباتهم كان الروائيون، موضوع مقالنا، يدعون لإيقاف الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، وعندما ظهرت كتاباتهم على الورق كانت مشحونة بالتنديد والادانة لمشعليها، ولم يحدث إن تضمنت شعارا او دعوة للقتال. وهذا الذي نقول ليس حكرا على الروائي، فالمواطن البسيط الذي صعد الجبل يومذاك، هاربا من الجبهات، هو الآخر لم يضع القتل والقتال في سلّم أولوياته. ولا نفشي سرا بالقول انه حتى الحزب الشيوعيّ العراقيّ الذي تجمّع كلّ هؤلاء للقتال تحت رايته لم تكن سياسته تدعو للحرب، فالجميع هرب تحاشيا لخطر الموت المتفشي بالبلد، ثم حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم. ومَنْ يحمل السلاح في بلدٍ مضطرب فهو على الأغلب إمّا قاتل او مقتول (هذه الأرض مصنع تحول الإنسان إلى بقايا إنسان، وأنا مكثت هنا فأما سأكون قاتلا أو مقتولا.. صــ 321 رواية خلف الطواحين) 

إنّ الروايات التي سنتناولها هي ثمرة جهد مجموعة من الروائيّين الناجين من الموت، صدرت في فترات متباعدة، لتدوين حكاية مَن لجأوا للجبال هربا من بطش السلطة. روايات لا يمكنها لوحدها تشكيل هوية جماعيّة لآلاف المقاتلين الذين جاؤوا من أماكن مختلفة ومن خلفيّات ثقافيّة واجتماعيّة متباينة، ولكنها جزء من "سرديّة انصاريّة" شارك في توثيقها العديد من الروائيّين والسينمائيّين والسياسيّين والشعراء.. الذين امتلأت بهم المنافي. إنّ اختلاف موضوعات الروايات وأساليبها وتجارب مؤلفيها الحياتيّة لا ينقص من وجود فضاء روائي عام لأحداثها، محدّد مكانيّا بجبال كوردستان العراق، وبفترة زمنية محدّدة بأعوام (1978-1988) وبشخوصٍ يتحركون ويعانون وينشدون اهدافاً مشتركة. وهذا المناخ العام أنتج بدوره ثيمات مشتركة، واقعية، انتجتها مخيّلة مُحاصرة ومُهدّدة. وفي نظرة عامة على كلّ عناوين الروايات سنجد ان لها دلالات عنف وقعت في الجبال، تناولت فيها وقائع ذات طابع جمعيّ "مجزرة بشتاشان، الضربة الكيمياوية، عملية الأنفال" صار بعضها جزء من وثائق محكمة العدل الدوليّة، وما زال الكثير من ابطالها وضحاياه أحياء. المشترك أيضا بين الروايات وجود السلاح كثيمة رئيسية تلازم كلّ الشخوص. وحتى حين يعود المؤلف بذاكرته للمكان الأول ومقاعد الدراسة، او يتوقف عند هموم الانصار اليوميّة الباحثة عن الطعام والحب والكتاب، يبقى السلاح مكوما في خلفية المشهد. ثيمة أخرى مشتركة بين الروايات هو الغياب الملفت للعلاقات العاطفيّة في حياة المقاتلين، باستثناء ما تختزنه الذاكرة من حكايات حب قديمة، او لحظات تعلّق عابرة في الجبال، تحاكي حياة المقاتلين المرتبطة بالحرمان والتهديد. الغياب العاطفي يستدعي حضوره، نلمسه في محاولة المؤلفين إظهار لحظاته الجميلة، لترطيب الأجواء، ولكن المكان ليس مكانا للحب والعواطف، حتى للمتزوجين منهم. سبب ذلك ليس فقط العزلة وقلّة النساء، بل كذلك سببه أسلوب حياة المفارز القتالية المتنقلة والزاهدة، إضافة إلى تقاليد الفلاحين الكورد التي يسودها التحفظ والخوف من وجود المقاتلين العرب. ملمح آخر بين الروايات هو انها روايات تمرد وحزن وعناد وعتاب ولم تكن روايات هزيمة، بالمعنى العسكريّ للهزيمة. هم يروون معارك انتصار وهزيمة، ويردّدون أفكارا يائسة في مواجهة الديكتاتور، ويعانون انكسارات داخلية في ثقل أعوام العزلة التي أثرت على معنوياتهم كمقاتلين، ولكن على المستوى العام لم يترسخ عندهم مفهوم الهزيمة، على الرغم من النهاية الموجعة لتجربتهم. فكريم كطافة ينهي روايته "حصار العنكبوت" بجلوس القلّة الناجية من الحصار تفكر ببداية جديدة (بهذا الحزام نستطيع على الأقل البداية من جديد صــ 366). المشترك الآخر في الروايات موضع البحث هو أنها تضعنا تارة في التوثيق وتارة أخرى في الرواية وثالثة في السيرة الذاتيّة. وهذا الأمر المثير لفضول القراء الباحثين عن الحقائق والاسرار والأسماء، يعطي الانطباع أحيانا بالضعف الفني. على العموم احداث الروايات رويت بضمير الغائب، كنوع من الحياد الادبي، واستمرار للتواضع ونكران الذات الذي طبع حياة المقاتلين المهووسين بأحلام عظيمة. باستثناء كتابات "سلام إبراهيم" الذي اعتمد على سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، استخدم فيها ضمير المتكلم. إضافة لهذه الموضوعات المشتركة كان الجبل هو المفردة المركزيّة التي تحتضن أحداث الروايات فتميزت لغة السرد بحملها مفردات البيئة الحاضنة بجملة من الكلمات الدالة على حياة بشر تلك البيئة التي احتضنت الثوار مثل الثلج، ينابيع الماء، شجر الاسبندار، مواقع الحراسة، البندقية، الشروال، حذاء السمسون، الفانوس، الكتاب، العزلة، العدس، الجاجي، الباكَردان، البغل، القمل.. وغيرها من المفردات التي لها قرابة مع حياة المقاتلين الذين ينامون كل ليلة في قرية جبليّة مختلفة.

ينبغي الإشارة إلى ان بعض الموضوعات والمفردات المار ذكرها تُعتبر نمطيّة في حياة الفلاحين الاكراد، وهي ليست كذلك في بيئات أخرى.

4578 عامر حسين

"خلف الطواحين"

موت الوحش والإنسان

رواية "خلف الطواحين - عامر حسين - 500صفحة" هي من أولى الروايات التي ظهرت عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (الطبعة الأولى، 1991) وهذه المعلومة الأخيرة وضعناها بين قوسين لأنها الوحيدة التي ذكرتها دار النشر، بعد ان أغفلت اسم الدار وعنوانها. وهي إشارة مبكرة إلى إبقاء هذه الكتابة كصرخة في وادي، لا يسمعها إلا من كان هناك. تبدأ احداث الرواية بمفرزة مقاتلين تائهة في الجبال؛ ماء قليل وشمس حارقة، ومقاتل أناني يغسل مؤخرته بالماء المتبقي، لعدم وجود خرقة.

وسط بيئة ريفيّة قاسية، ومحيط اجتماعيّ يمتدح المقاتلين نهارا ويذمهم ليلا، استلهم المؤلف احداث روايته. بيئة لم يكن فيها السلاح والقتال فقط هما مقياس الشجاعة، فأسلوب التحطيب وربط البغل ومعرفة طرق الجبال وينابيع الماء كلها معايير شجاعة. شخوص الرواية، بأسماء مستعارة، يعانون عزلة مهلكة في الجبل، ويحملون أفكارا لا يمكن تحقيقها. يناضلون وسط خلافات داخلية مع قادتهم "الشيوخ" الذين فشلوا في أدارة الصراع الداخلي، ويعيشون صدامات متكررة مع الواقع السياسيّ القبليّ السائد بين القوى السياسيّة. هذه التراكمات مهدت لاقْتتال دموي بين ضحايا الديكتاتور، جرت تفاصيله في وادي "بشتاشان – خلف الطواحين عام 1983". احداث الرواية تتحرك ببطء اشبه بحياة المقاتلين بالجبل بعد هطول الثلوج، رويت بضمير الغائب، بلغة سهلة وغنية بتفاصيل الواقع. وحتى حين تشط المخيّلة قليلا لغرض التشويق، فإن المؤلف سرعان ما يعود للحفر في مشاعر العزلة والجوع والخراب العاطفي للمقاتلين. مفردات القتال والنضال والنزاع حاضرة في الرواية، تشير إلى خطر الافتتان بفكرة والتضحية من أجلها دون تفكير. فتحويل المبادئ والقناعات السياسيّة إلى عنف مسلّح فيه خطر بعيد على الذات الإنسانيّة وما تحمله من قيّم، لأن (ثقافة الموت التي تشيع الرعب والدم، تحول كل كائن هنا إلى ضحية وجلاد صـــ 96) تجلّى ذلك في اسئلة إشكالية على لسان شخوصه؛ ما جدوى ما نفعله بالجبل؟ لماذا يُقتل الأبرياء بشكل لا إنساني؟ لماذا يتقاتل الضحايا فيما بينهم؟ فالبطل الرئيسي (رحمن) لا يريد ان يكون وحشا، وقد عاش لحظات تردّد عندما فكر بأطلاق رصاصة الرحمة على رأس جندي جريح بعد انتهاء احدى المعارك. ينبغي الإشارة إلى معضلة شائكة تناولتها الرواية عن الجنود الذين ترسلهم الحكومة لقتال الثوار في الجبال، وهم في غالبيتهم من الفقراء الطيبين الأبرياء. هؤلاء الجنود هم ضحايا الحكومة والثوار على حد سواء، نلمسه في قول أب مكلوم على ابنه الجندي (أين سنولي بوجوهنا؟ إن نجونا من الشياطين قتلتنا الملائكة صــ 451) إلى جانب ذلك تجاوزت الرواية خطوطا حمر كان من الصعب التقرب منها في ظروف أخرى، من بينها؛ عدم الصمت على أخطاء القادة السياسيّين، فضح ممارسات الطعن في الظهر التي يمارسها الحلفاء، فضح الحماقات التي يرتكبها المقاتلون. المؤلف اعتمد الواقع للكشف عن هشاشة الذات الإنسانية وخستها، نلمسه في سلوك المقاتليّن "قاسم، عولا" اللذين قتلا اختيهما غسلا للعار، وهربا للجبال لارتداء ثوب الثورة. في إشارة ضمنية إلى ان الثورة ليست على الدوام ناصعة البياض، وليس بالضرورة ان ينتمي إليها فقط الانقياء والشجعان.

إن السواد الذي غطى لوحة حياة المقاتلين في "خلف الطواحين" لم يكن من صنع المخيّلة وحدها، فالمقاتلون في عزلتهم الجبليّة تحولوا بعد أعوام إلى بقايا بشر، يحسدون الخروف على نعجته والبغل على صبره، إذ لا دفء ولا طعام ولا أم ولا حبيبة يغنون لها. حتى (باب العواطف، أياً كان، مفرح أم محزن، لا بد أن يوصد في مثل تلك الظروف. صـــ11) في مثل هذه الظروف، التي لا يعرفها سوى من عاش تفاصيلها، يحضر الحب عنيفا ومشوها، اشبه بحياة الأنصار بالجبل. نلمس ذلك في فصلين حاول فيهما المؤلف رش الماء على قسوة الاحداث ودوي الرصاص، رواهما في الطريق إلى وادي "بشتاشان، خلف الطواحين" عندما كان ذاهبا للعلاج بعد اصابته بإحدى المعارك قرب جبل روست؛ فصلٌ عن الفتاة الجميلة التي جُدع انفها وقُطعت اذنها ليلة عرسها ومن ثم ربطها إلى عمودٍ لتموت وسط الثلوج، اختزل فيها المؤلف الكثير من العلاقات الاجتماعية في البيئة الكردية؛ الضيافة والطعام والحب والرقص والزواج وقيم الشرف. والفصل الآخر تحدث عن المعتوه الذي زوجوه الاخت التؤم للفتاة "المجمدة" تحدث فيه عن قسوة العلاقات العاطفية وعن نذالة السياسي "أبو جقارة" في ابتزازه للعوائل الفقيرة واعتدائه على الصبايا في بيئة محافظة.

احداث الرواية البطيئة تجري وسط سلاسل جبلية قاسية (يئست الغيوم من تسلقها) يتواجد بين أوديتها أسواق مليئة بالبضائع المهربة، يتبضع منها المثقف والفلاح والمهرب والمطلوب عشائريا والهارب من الجندية.. يتصافحون ويبتسمون ويساومون بعضهم البعض في خلطة من المشاعر المتناقضة بحضور الموت. من الحبكات الدالة على أزمة البطل "رحمن" تلك المرتبطة بظهور شخصية "سامان" الذكي واليائس، والهارب مع زوجته لا يدري إلى أين. سامان يتناول حياة الثوريين من الخارج، بمفاهيم إنسانيّة عامة، هي جزء من هذا الخليط الهارب من السلطة وحروبها. يرى زمن ثورات الشعوب قد ولى، وانه، حتى لو حدثت الثورة فأنها ستغير حاكم بحاكم آخر أكثر قسوة، وبالتالي لن يتغير شيء. شخصية سامان لا تتفاعل مع الاحداث الجارية في الجبل، لكنها تنمو مع تدهورها وتأزمها. والملفت ان المناضل الثوري "رحمن" يقف اعزلا امام المنطق اليائس لسامان، ويراه محقا بكلامه. إنّ التناقضات وحالات اليأس التي يعيشها "رحمن" هي جزء من نسيجه كمقاتل ومثقف، عاش اعوام في الجبل لم تمر كما أراد لها ان تمر، ولذلك نجده تارة يحمّل القادة "الشيوخ" وزر معاناته، وتارة أخرى يحمّل القيم الاجتماعيّة البالية ذلك الوزر، وثالثة يحمّل الديكتاتور، ورابعة يبحر بالثورة وما تتركه من امتهان لكرامة الإنسان. إنّ النهاية المأساوية التي وصل إليها البطل "الانتحار" تعكس شخصيته المضطربة؛ فهو (رحمن) مقاتل له تجارب سابقة مع المنظمات الفلسطينية، وفي ذات الوقت هو كتوم وحزين ومنغلق. يعاني خسارة الحلم وفقد الأحبة، إلى جانب ذكريات مريرة في سجون الديكتاتور، الأمر الذي يشير إلى ان مشكلته ليست فقط بالجبل..

4577 كريم كظافة

"حصار العنكبوت"

ما حدث أعمق مما أروي

رواية "حصار العنكبوت، كريم كطافة، 366 صفحة، دار نون الأردنية ـــ 2014" رواية معاناة من بدايتها وحتى نهايتها، مسرحها جبل كَارا" الرهيب. وثّقت لواقعة كبيرة دخلت التاريخ باسم عملية "الانفال" التي تعتبرها المؤسسات الدوليّة واحدة من اسوء عمليات الإبادة الجماعيّة التي تعرض لها الشعب الكردي. والمؤلف من عتبة الإهداء يضعنا في دوامة المعاناة بقوله (عشرون سنة وانا كالشاة المشدوهة امام رزمة أوراق قديمة، كتبتها حين كانت الاحداث لم تزل طازجة يتصاعد بخارها من اجسادنا).

تبدأ الرواية بخبر انتهاء الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، ومن ثم توجه الجيش العراقيّ للداخل لغرض اجتثاث القوى السياسيّة المعارضة في الجبال، والتي طالما اعتبرها الديكتاتور سكينا في خاصرته. وأمام هذا التطور الصادم يحار المقاتلون بردود أفعالهم، وما هي الخطوة القادمة؟ فبنادقهم القديمة لا تفيد كثيرا في مواجهة طائرات الجيش وعرباته المصفحة، الأمر الذي جعلهم يقلّبون الأسئلة فيما بينهم دون جواب، تجرأ أحدهم سؤال البغل المربوط قرب غرفة نومهم عند سفح الجبل (.. انت شنو رأيك؟) وتأويل همهمة البغل على انها حياد حيوانيّ. هكذا يبدأ المؤلف تصويره لخوف يتصاعد بمرور الساعات وبتكاثر الفلاحين الذين أُحرقت قراهم، وتجمعوا قرب قواعد الأنصار هربا من جحافل الجيش. سلط فيها الضوء على الاطفال والنساء والشيوخ الذين شكّلوا عبئا على حركة المقاتلين ودورهم بالجبال، وأدى إلى تحولهم ادلاء وبقالين، مهمتهم حماية النازحين وتوفير وسائل نقل الطعام لهم، وهي ليست من مهماتهم. وهو ما دفع أحد القادة الميدانيّين للقول (آني احتاج بغال، وليس رفاق صــ129).

"حصار العنكبوت" تجربة حيّة لعشرات الآلاف من الفلاحين المحاصرين في ظلمة الجبال، وهم يبحثون عن طعام ومكان ينامون فيه. حصارٌ كان سيضاف إلى قائمة الحصارات التي اشتهرت بها شعوب أخرى، لكنه أُغفل بتواطؤ من الجميع. السرد تناول تفاصيل نزوح جماعيّ غير منظم لمجموعات هاربة باتجاه القمم الجبليّة، وأخرى نازلة من تلك القمم، في مشهد رعب يعكس حالة المحاصرين. في هذه الفوضى تجمّد دور المقاتلين، وخلا السرد من البطولات والافكار والاحلام والموضوعات المثيرة، وحل محلها البحث عن الطرق العملية لإنقاذ الجموع المضطربة من هول الصدمة. إنّ الهروب الجماعي من قسوة النظام واسلحته الفتاكة هو المتن الذي يجمع حكايات ومخاوف القرويين من اصقاع مختلفة، كل ذلك حدّده المؤلف بزمن واقعيّ متسلسل بأيام وساعات، وبأمكنة واقعية وشخوص من لحم ودم. مزج فيها المؤلف بين التوثيق والسرد الروائي لرسم المشهد، مرد ذلك التداخل بين الهم السيرذاتي والهم الروائي، الذي طبع أغلب كتابات مَنْ عاشوا تلك الاحداث وكتبوا عنها. نلمس ذلك في بنية الاحداث وتشابكها وتسلسلها، وفي قلق المؤلف من هيمنة مخيلته على الاحداث الطازجة، فيتوقف المؤلف فجأة عن الاستطراد (موصيا نفسه وللمرة الألف أن يوثق، لا أن يتدخل في الاحداث، هدفي التوثيق وليس السرد صــ 249) ولكن يبدو ان الوصايا الألف لم تقلّل من كثافة السرد وتدفق اللغة وحضور المخيّلة، زيّن ذلك بلقطات سينمائيّة ومقاطع شعريّة وقصص حب عابرة ارتبطت ببناء المشهد الروائي.

الرواية متعددة الأصوات، لا وجود لبطلٍ واحد، رغم الحضور الواضح لـــ "حاتم". وفي نظرة تحليلية لطبيعة الشخوص سنجد ان حضور الذات الكاتبة ليس ضعيفا، وان المؤلف حاول التماهي مع "حاتم" الميّال للصمت وحب الأوراق والعودة للمكان الأول. المؤلف يروي بضمير الغائب إلا انه يكون مكشوفا أحيانا، وهذا ليس ضعفا فنيّا. فالتأثير السيّري على هذا النوع من الكتابة، ذكر أسماء وحوادث معروفة، هو الذي يجر الكاتب لبقعة الضوء. في قسم الرواية الأول اشتغل المؤلف بدأبٍ على رسم شخوصه في عزلتهم الجبليّة، وصفهم جسديّا وفكريّا وعاطفيّا. وفي القسم الآخر، عندما حاصرهم الجيش وبدأت الجموع بالنزوح هاربة صوب الحدود، حمل المؤلف كاميرته إلى تلة ليصور برؤية بانورامية عامة ملامح شخوصه؛ خدود ناشفة وعيون غائرة وخطى بطيئة لشيوخ ونساء حوامل وأطفال رضع. تتضح اللغة التسجيليّة أكثر في توثيق حركة النازحين ساعة بساعة ويوم بيوم، في أمكنة موحشة، تعكس معرفة المؤلف التفصيلية بالوديان والينابيع. إنّ من خصائص الواقعة الكبيرة احتضانها لكثير من الحوادث الصغيرة، التي تنفتح على أمكنة تعكس طبيعة التجمعات القبليّة والقروية للمحاصرين عند جبل "كَارا" كل مجموعة تبحث عن خيمتها، سفحها، شجرتها التي ستنام في ظلها. إنّ تجمّع آلاف العوائل وهم يجرجرون أطفالهم ومعاناتهم خلفهم من سفح إلى آخر، افسح المجال لظهور شخصيات وقصص فرعية تتقاطع وتلتقي في مكان ضيق ومحاصر. قصص حب ومرض وخوف واختفاء تدور حوّل كيفية الهروب من قطعات الجيش العراقيّ باتجاه الحدود التركية. السرد هنا لا يبني علاقات مسهبة بين الشخوص الذين قدموا بالآلاف من قرى مختلف، ومد بدلا عن ذلك خيوط علاقات عامة بين قرويين تتسم حياتهم بالألفة والبساطة والعمق، كان فيها للتكافل الاجتماعيّ دوره في استمرار الحياة. هنا تبدو حبكة الفلاح الذي جلب معه بقرته العزيزة على قلبه، بعد ان هرب من قريته وترك خلفه كل شيء يحترق، من الحبكات التي تجسد حال التكافل بين المحاصرين بالجبل. فعندما جاع المحاصرون قدّم بقرته للذبح، ثم هام المسكين على وجهه في الجبل، لا يستطيع رؤية دمّها وتذوق لحمها. وكل ذلك يمضي بلغة متدفقة وحيوية تصنع البسمة على وجه القارئ. ففي هذا الجمع الهائل، حين تركض عقارب الساعة دون حل يلوح في الأفق، سيكون من الطبيعي ظهور حوادث مضحكة\مؤلمة مصدرها قسوة الطبيعة، او سذاجة القروي، أو حصار الجيوش، او تفاهة المسؤول السياسي. يكون فيها الضحك متعدد الاستعمالات، ينفع للفرح وللحزن وللرفض وللسخرية من الذات.

تراجيديا "حصار العنكبوت" تنتهي مفتوحة الضفاف، بعد حصار دام فيها أيام. يُقتل فيها الكثير من الأنصار، وتضيع أخبار آخرين بحثا عن منافذ للنجاة، في حين يفضّل الناجون منهم بدء مرحلة جديدة من القتال (أكيد من سيقود المحاولة الجديدة غير هذه القيادة التي فشلت وانتهى أمرها... سيكونون هم والجبل وبنادقهم صــ 366) أما العوائل فقد امتثلت للأمر الواقع، وذهبت مستسلمة باتجاه القطعات العسكريّة الحكوميّة. هنا تنتهي الرواية، مع ملاحظة أخيرة من المؤلف تقول (حتى وقت كتابة هذه الشهادة، ورغم الحفريات الكثيرة التي نبشت في خارطة الدفن الجماعي بعد احتلال البلد في نيسان 2003 وسقوط النظام إلا ان أحدا لم يعثر بعد على رفاة تلك العوائل، وما زالت رفاتهم مجهولة صــ 367).

***

"في باطن الجحيم"

نشيد عزاء لضحايا الأسلحة الكيمياوية

للروائي سلام إبراهيم رواية تسجيليّة واحدة عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (في باطن الجحيم ـــ مجلة الكلمة ـــ العدد 48 أبريل .2011 وصدرت لاحقاً ورقياً عن وزارة الثقافة العراقية 2013 بـ 320 صفحة)  تناول فيها تعرضه، هو ورفاقه، للأسلحة المحرمة دوليّا، وما تبعه من أنفال وتهجير. ولكن "إبراهيم" يُعد الأكثر تناولا لتجربة الانصار من بين أقرانه الآخرين، بسبب اعتماده سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، والتي تُعتبر سجلا مهما لعنف الصراع بالعراق، في النصف الثاني من القرن الفائت.

تبدأ الرواية بمفارقة لا تحدث كثيرا في بلداننا؛ جلوس الضحيّة على كرسيّ في منفاه يتناول قهوة الصباح أمام شاشة التلفاز يشاهد بفرح، دهشة الجلاد في قفص الاتهام. ومع تكرار الجلوس قدام شاشة التلفاز تتبيّن لنا صورة البطل، وما كابده خلال عقود في مواجهة سلطة تتغذى على الخوف والقتل. المؤلف لم يقتنص لحظة ظهور الديكتاتور ليعيد تدويرها واللعب فيها، فهو عرف سجون الديكتاتور وحروبه وسمومه التي اعطبت رئته، إلا ان الكتابة هنا بدتْ اشبه بردةِ فعلٍ تلقائيّة لضحيّة يرى جلاده ذليلا. في الواقع هذه اللحظة التاريخيّة افسحت المجال لكثير من الضحايا ان يعودوا بذاكرتهم إلى جزء من تاريخهم المؤلم، وأن يتذكّروا رفاقهم الذين رحلوا، دون ان يروا ذل الديكتاتور وهو يعبث بلحيته في قفص الاتهام. يوهمنا مدخل الرواية بأن الضربة الكيمياوية التي تعرض لها المؤلف ورفاقه هي كلّ الموضوع، ولكننا سرعان ما نعرف ان تلك الجريمة البشعة ليس سوى جوّلة من جولات العنف التي حوّلت حياة أجيال إلى جحيم. المؤلف تناول في روايته ثلاثة وقائع؛ الأولى مع محقق الدولة الدنمركي عن الضربة الكيمياوية (عندما أدخلني الديكتاتور في الجحيم) والثانية عن واقعة الغازات السامة وعملية الأنفال (عندما أدخل الديكتاتور رفاقي في الجنون) والثالثة عن التشرد بالمنافي. إضافة إلى الكثير من حوادث السجون وجبهات الحرب العراقيّة الإيرانية، كان المؤلف قد مر عليها سريعا على أمل العودة إليها في مكان آخر. 

إنّ ملمحا مهما من فصول الرواية الثلاث يقوم على حقيقة ان حوادثها وقعت على الأرض، وأن بعضا من شهودها ما زالوا أحياء. وهو ما حيّد المخيّلة وقلّل من مساحة التلاعب بالتفاصيل الصغيرة للحوادث، ووضع المؤلف في منطقة التوثيق المحكومة بتسلسل الحوادث وإيقاع السرد. أردنا القول ان الكتابات التسجيليّة لا تنفق على الدوام جهدا في التزيين وفي نقل الحوادث من الواقع للمتخيل، فبعض الحوادث لا تحتمل التجريد واللعب عند التوثيق، ولا يمكن إخراجها عن سياقها دون ان يترك ذلك أثرا. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته بوثائق ورسائل محكمة العدل الدوليّة، وبشهادات أهالي الضحايا المفقودين "صباح كنجي" وبشهادة الجندي "يحيى غازي رمضان" الذي كان على الجهة الأخرى يقاتل في صفوف الجيش العراقي، حيث رأي بعينيه ما حدث للمدنيين، قبل ان يختفوا إلى الأبد في المقابر الجماعيّة. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته، ويتلاعب بالزمن، نجده ممسكا بخيط السرد امام شاشة التلفاز، تارة يغني للديكتاتور: اه يا أسمر اللون. وتارة أخرى يكتب شعرا له: ننصت أنا والطاغية.. هو في دهشة وامتعاض.. وأنا في نشوة وطرب. وفي تكرار جلسات المحاكمة على شاشة التلفاز تستعيد ذاكرة الراوي أسماء الاصدقاء والاخوة والاقرباء الذين غابوا دون قبور، تستعيد أعوام التعذيب في سجون الديكتاتور ورعب الموت في جبهات الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ثم يجمعها بخبرة السارد، لمقاربة آلام الحريق المشتعل في جسده جراء الضربة الكيمياوية. فلقد باتت المعاناة مفصلا في وجود المؤلف وذكرياته وكتاباته اللاحقة، ونجده في رواياته ونشاطاته الإعلامية دائما ما يخبرنا عن الظروف والأسباب التي دفعته للكتابة بعد تعرضه للإصابة بالسلاح الكيمياوي ويقول (لو كُتِبَ لي النجاة من هذه المحنة، فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي. صــ22)

ما يميز رواية (في باطن الجحيم) هو انها جاءت على لسان واحد، يروي بضمير المتكلم أحداثا سامة، يغمض فيها القارئ عينيه مرارا من قسوتها ومن بطء زمنها الذي تساوي دهرا كل ثانية فيه. فالزمن الذي يشعر به المصابون بالأسلحة الكيمياوية هو زمن داخلي احتفظت به ذاكراتهم واجسادهم المحروقة. نلمسه في ركض الراوي المعطوب الرئة بين النيران وهو يصف جثثا مكدسة وقرى مخربة وطائرات محلقة، ثم يتسع المشهد على حيوانات نافقة وامرأة حامل مات طفلها في بطنها، وفجأة يقطع علينا السرد ليقول (فالذي أسرده عليكم الآن جرى بدقائق معدودة. صــ12) وتساوقا مع ذلك لم يشغلنا المؤلف بزخرفات اللغة وصنع المشاهد الساخنة، وأدخلنا منذ سطوره الأولى إلى حوادث رعب خانقة. بدتْ فيها متعة القراءة مشدودة وضيقة، بالقياس إلى كمية الألم والمعلومات الصادمة عما تتركه الغازات السامة من أثر على جسد وعقل الإنسان. إنّ استخدام المؤلف لغة في متناول القارئ يعود لطبيعة الحوادث الواقعية من جهة، ومن جهة أخرى معرفة المؤلف المسبقة بعمق وغرابة ما يروي. ونجده من الطبيعي، في هذا النوع من الكتابات، ان تسقط اللغة بالمباشرة والتكرار والصراخ أحيانا (ليسمع من كان في المراكز العليا من بطانة الدكتاتور، ممن يقول في المحكمة بأنه لا يعلم ما يجري حوله، وخصوصا وزير الدفاع سلطان هاشم، الذي صور نفسه حملاً وديعاً، وهو المكلف بقيادة حملة الأنفال، صــ 60) إنّ الروايات التي توقفنا عندها ينبغي وضعها في سياقٍ تاريخيّ كان فيه العراق يخوض حروبا خارجيّة وداخليّة مستمرة، عمّت تأثيراتها البيوت والشوارع والمقاهي، ثم تسربت للأدب؛ وبالتالي لا يعيب  هذه الروايات اجواء القتال والدماء والغازات السامة، مثلما لا يعيبها البكاء والصراخ بصمت، أو حتى بصوتٍ عال.

احداث رواية (في باطن الجحيم) خالية تماما من الغموض. ابطالها قليلون، مشخصون بأسمائهم وبأساليب عيشهم وطرق موتهم. يستعيدهم الراوي من الماضي لتدعيم شهادته عن الغازات السامة والرئات المعطوبة. أغلب شخوص الرواية جاؤوا من خلفيات عمالية وطلابية، تارة يقدمهم المؤلف ضحايا لسلاح فتاك لا يستطيعون مواجهته، وتارة أخرى يقدمهم ابطالا في مواجهة الموت، لا يتخلون عن قيّمهم وعلاقاتهم الرفاقية حتى النفس الأخير (أمام غرفة الطبابة جلس الشهيد أبو رزكار متربعاً على الأرض واضعاً رأس أبو فؤاد في حضنه، ومنحنياً عليه، يهمس بشيء ما، كأمٍ تحنو على وليدها.. وقسمات أبو فؤاد بدأت تسّود شيئاً فشيئاً وكأنها حرقت بفرن صــ 10). المؤلف رسم سيّرا مختصرة لشخوصٍ يستمدون قوتهم من الجبل ومن قناعاتهم الفكريّة، واشار إلى بطولاتهم في مواجهة الموت دون تطبيل سياسيّ. فقد رسم لــ "أبو فؤاد" سيرة رائعة؛ تبيّن جهوده في استقبال الملتحقين الجدد، طيبة عائلته التي ستضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد، حادثة تسميمه المدبر من قبل عملاء السلطة، ذهابه للعلاج في إيران، وصولا إلى تفحم جسده وموته في الضربة الكيمياوية. هذه السيّر المختصرة غالبا ما ترتبط بأحداث فرعية وأسماء مستعارة لأفراد ما زالوا أحياء، وأخرى صريحة، كما نجده مع حادثة (جابر هادي هيجل صــ13) الذي قُطعت ساقه في احدى المعارك، سقوطه من البغل، انشغال الآخرين بطفلته الصغيرة. في خضم هذا الكابوس الخانق نتعرف على الشخصية الأكثر حضورا في الرواية، زوجة المؤلف "بهار_ ناهدة جابر جاسم" التي ملأت حياته بالدفء والأمل. نتعرف على دورها بعد الضربة الكيمياوية؛ كيف اعانته وذكّرته بمواقف الرجال، وكيف صارت دليله بعد ان افقدته الغازات الكيمياوية بصره. المؤلف نجح في ابراز دور المرأة، وحاول تسخين المناطق العاطفيّة، إلا ان الخراب والموت والاجساد المحترقة التي خيّمت على السرد حالت دون ذلك. ينبغي الإشارة هنا إلى ان المؤلف في ملاحقته للأحداث، متنقلا بين الماضي والحاضر، يتوقف ناقما على دور النشر التي لم توافق على طبع روايته، يتوقف عند دعاء أمه على الطاغية، عند أصدقائه الشعراء.. توقفات وتعقيبات تأتي سريعة، ترتبط بالشخوص والاحداث تارة، وتارة أخرى بلا سبب فني.

 لا نبالغ بالقول ان "الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل وثّقت لضحايا الأسلحة المحرمة دوليّا أكثر مما فعل المدون السياسي الذي عاش التجربة نفسها، أما المؤرخ فهو ما زال مشغولا بجمع أدواته عن حوادث وقعت خلف الجبال. الروائيون وثّقوا رؤيتهم عن احداثٍ عاشوها، رصد كل منهم زاوية منها. في سطور سابقة كنّا قد تحدثنا عن رواية (حصار العنكبوت ــ كريم كطافة) التي تناول فيها واقعة الانفال، وفي رواية "في باطن الجحيم" كذلك تناول سلام إبراهيم واقعة الانفال، لكنها بدتْ مختلفة في أكثر من موقع. فهذه الأخيرة رواية تسجيليّة، تناولت عدة وقائع، في فترات مختلفة من سيرة المؤلف. من جهة أخرى ظهرت هذه الاحداث في روايات عدة لسلام إبراهيم، ولكن بأسلوب مختلف، ومضامين لم تكن معنية فقط بالأسلحة الكيمياوية، وانشغلت بمعاناة الإنسان وبخيانة رفاق السلاح وبانسداد الأفق الذي عايشه في تنقلاته بين السجون والجبال والمنافي. روايات سلام إبراهيم الأخرى تناولت حياة الأنصار الشيوعيّين بالجبل، لكنها توقفت طويلا عند الجانب الهش في حياتهم، وخلت صفحاتها من المداراة والتفاؤل، فإصحاب القضايا الحقيقية لا يعيشون على الدوام حالات رضا وتفاؤل، خصوصا عندما يغيب المستقبل وتنقص نسبة الاوكسجين بالهواء.

هذا هو النسيان أن تتذكر الماضي ولما تتذكر الحكاية

***

نصير عواد

 

سوف أنطلق من تأثيثِ خطابٍ نقدي بخلقٍ بونٍ شاسعٍ مع مفهوم النتائج المعيارية (سيء رديء جيد) وأتحدث من زاوية منظورها العلائقي عن عرض مسرحية (ليلة ال (للمخرج (محسن حيدر) ومن تأليف الفنان (عمار سيف) خارج هيمنة (التقنين وألتسيس) التي انطلقت من عتبةِ عنونة المهرجان. نعم من المحلية نصل إلى العالمية، نعم واحدة من غاياتنا كمسرحيين تصدير ثقافتنا لا سيما الأطرس الدينية، هذه الفوارز الفارقة المحملة بالقيم الفكرية والجمالية لا بد من الالتفات لها لتأكيد الهوية بتعابر الثقافات، وهنا يتبادر في ذهني سؤال هو (كيفية؟) و(ما مدى اتساع الخطاب المسرح الحسيني؟) هذا السؤال لم نجد له اجابة وافية منذ عقوده متنافرة مروا بتمرحلات التاريخ، ربما أجد أن فكرة النص الاصل (ليلة التغسيل) كانت تحاكي القضية الحسينية ولكن بشكل مغاير (التعرية/ كشف المستور) اذ نجد ان هنالك كماً هائلاً من المحاولات التي اهتمت بتأصيل وتطريز شكل الثقافة الدينية والطقوسية لا سيما (القضية الحسينية)، ومحاولة تقنين التاريخ من دون التفكير بمفهومي (الجذر والأصل / الكل الجزء)، إذ هل يمكننا أن نفرق بين (المسرح، والقضية الحسينية)؟ كون المسرح هو (لعب / تمثيل) والدين بشكل عام هو (الامتثال)، وهنا نقع في إشكالية الوصف والتجريب، نعم هنالك مساهمات واضحة تناغمت مع القضية الدينية (الحسينية) لكن لا بد لنا ان لا نترك السمت الجمالي للمسرح، اذ ما هي السبل التي يجب ان نعتمدها في تأكد هذه الهوية (الدينية، الحسينية)؟، من خلال عدم صهر الافاق الثقافية بعيداً عن المنظومات السسيوثقافية الكبرى؟ ام من خلال التعامل مع القضية من جانب انساني عالمي بعيداً عن الكلائشيات؟. اذ ان هنالك فواصل كثيرة انا اجزم بان الاعم الاغلب لم ينظر اليها من زاوية جمالية لطرح الأسئلة المهجورة الساكنة كما طرحها(عمار سيف) بخجل وتحفظ عن الكثير من الامور التي تسمح له بطرحها لما للنص من بعد فكري وفلسفي يتحمل المزيد، وهذا ما جعل (عمار) يخرج عن هيمنة (الكلائشية)، اذ دائما ما نحبو صوب خطابات ذات اجوبة تعطل عقل المتلقي المتعطش للاثنوغرافيا والانثروبولوجيا والايقونولوجيا وتوظيف المحنة الاجتماعية وتحريك الساكن، ومن هذا المنبر الثقافي اوجه سؤالي ولكل القائمين على المهرجانات الحسينية (هل ان العرض  المسرحي الذي يناول القضية الدينية (الحسينة) بشكل واقعي او تجريبي لا يمكن ان يقدم في المهرجانات المسرحية الاخرى ام أنه مقتصر فقط لمثل هكذا مهرجانات تندرج تحت شعارات القضية الحسيني؟)، وهنا ندخل بقوقعة (التقنين، التسيس، البقاء في المحلية).

فما طرحه (عمار) في بنية النص الادبي اكد مفهوم الابسملوجي الفيلسوف (بشلار) في أن الموت ليس نهاية المطاف في حياة الفرد بل هو مرتبط بالوجود الزمني للانسان . فنحن نموت ونحيا في الزمن لان الزمن لحظات معلقة بين عدمين (الماضي والمستقبل) فتحديد الزمن يفترض الموت لان الزمن لا يستطيع ان ينقل كينونته من لحظة الى اخرى لكي يكون في ذلك ديمومة. فالموت ليس الطريقة الى التحرير من الزمن  بل هو عنصر محايث للزمن ذاته، وهذا ما خلدته القضية الحسينية وبنيت ثيمة النص عليه، الا أن المخرج (محسن علي) قد خانت التعبير في التعامل وبإسراف مع (سر الحياة / الماء) اذ ناغا (محسن) بلغة بصرية مفهوم اقصاء القضية الحسينية لكنه اخفق في هذه الصورة فكريا من خلال اشراك (الشمر) في هذا الاقصاء وكأنه امتزج فكريا مع المجسدين الاخرين (حيدر عنوز وعلي الجشعمي) واستخدامهم للماء في الاقصاء.

وبهذا ندخل الى نص العرض، ونحن والجميع يعلم أن (بوبوف) اكد على مفهوم التكاملية، وهذا ما لم اجده في هذا العرض، فما للمشهد الاستهلالي الا كم هائل من التنميط وعدم الدراية بتكاملية الموسيقى مع المؤدين وباقي عناصر العرض الاخرى، مشهد متشابك بين موسيقى واخرى بلا مبرر وبلا دراية واحساس من قبل الممثلين في التعامل حتى معا لغة الجسد، حسنن عمل المخرج الشاب في توظيفه للقطعة الديكورية كاهم علامة في هذا العرض لتعدد استخداماتها (مسطبة/ دكة تغسيل الموتى/ منبر ديني/ نافورة ماء) لكنها بقت ساكنة من دون روح او مهيمنة على جميع عناصر العرض الاخرى حتى على الممثلين، التكاملية التي وردت في سياق الورقة تشمل الممثل وتكاملية ادائه، اذ لا يمكن للمثل ان يصل ذروة الجمال ما لم ينسجم مع فضاء العرض يتحسس هواء القاعة ويتنفس ظلمت المكان ويبصر ذاته وذات الشخصية، فما الجسد الا لعنة ما لم تعي تفاصيله وتدرك تعويذته لا تقنع الاخر وهنا وقع المخرج في شباك هذه اللغة ودخل في عتمت القبح وسذاجة الطرح لا سيما مشهد الاستهلال ومشهد تغسيل الرجل، فما طرحه العرض المسرحي من شخصيات ابتعدت فكريا مع ما يطرحه النص الادبي، شخصيتين متناقضتين قدمها لنا العرض ليس بظاهرهما بل بالمحمول الفكري الباطن، فما الرجل السكير الا محب لآل البيت عكس رجل الدين المرابي الذي استلهم من الرجل السكير قيمة القضية الحسينية، هاتين الشخصيتين الغت فكرة الخطابات المحايدة المهيمنة في العروض الحسينية، لكن رغم هذه الحسنة الا ان العرض افتقد الى الحيوية على الرغم مغادرة مركزية الواقعة وهذا الاهم لكن المخرج ادخلنا في قعرها اذ كان بالإمكان خلق بؤر اخرى للصراع واستحداث مساحة انشائية للممثلين للخروج من شباك السطحية وهيمنت التشتت على الرؤية الجمالية.

على سبيل الاقتراح بعيدا عن التنظير كان من الافضل أن يعمد المخرج إلى تغييب القصائد والردات رغم ما تم تناوله من موضوعة تحسب للمخرج باختياره هكذا نص يحاول إيصال القضية عالميا بعيدا عن اللغة الجامدة، نعم هنالك انفتاح إلى اللغة الصورية هنالك همساً إخراجي

امامنا تجربة شبابية لا يمكن نكرانها او محوها

الملاحظات لا تثقل من جودة العرض المسرحي الا اني حاولت أن أمنح العرض المسرحي قراءة نقدية عن عرض قدمه لنا مخرج واعد عرفته ممثلا بصوته الراكز.

***

يوسف السياف

عام 1963

تدنو منه أمه في الغرفة الجديدة، ماذا تفعل هنا؟ أقرأ، يقول لها، ماذا تقرأ؟ تسأله، يرسل نظرة صامتة إليها، ويتابع القراءة. تسأله أمه وهي مولّية ألا تريد أن تتناول الطعام؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل.

تنصرف أمه، يواصل القراءة في كتاب " الأم" يطوي الصفحة تلو الصفحة، يتوقّف عند بعض الكلمات يعيد قراءتها لا سيما تلك التي تتحدث عن صمود الأم وثباتها على أرض لا تميد، أم مكسيم جوركي تشبه أمه من العديد من الجوانب، الاثنتان مناضلتان في هذه الحياة، الفرق بينهما أن المجال اتسع أمام أم جوركي وضاق أمام أمه، أمه جاءت مع أبيه وأخويه الأكبرين من قرية سيرين بعد أن طردهم منها اليهود، كم من مرة حكت له عن كفاحها من أجل أن تحافظ على ما تبقى من الحياة.

يواصل القراءة، كم هو معجب بما يقرؤه، يشعر بقدمي أمه تدبان بين الغرفتين، يفتعل عدم رؤيته لها، تدنو منه تضع يدها على رأسه بحنو لا حدود له، ألا تريد أن تتناول الطعام يا ولدي؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل. الساعة متأخرة يا ولدي أخشى أن أنام دون أن أضع لك الطعام، لا تخافي يا أمي لا تخافي، بعد قليل أعدك أن أفرغ من القراءة، وأن آتي إليك.

يبقى وحده في الغرفة لا يشعر إلا بحركة الحياة تنبعث من الكتاب بين يديه، المقارنات تتواصل، الناس عند جوركي يقاومون الظلم، الناس حوله مستسلمون له، لا حول بيدهم ولا قوة، أبوه يعمل بعيدًا عن البيت وأمه تحاول أن تسد الغيبة، أحيانًا تعمل في أراضي اليهود، اليهود أخذوا البلد وأخذوا معها راحة البال، لم يخلّفوا وراءهم سوى الشقاء.

الليل يمضي متقدمًا دون أن يشعر بأنه في ليل، الكائنات في كل مكان صامتة إلا هو هناك في غرفته هو يقرأ الصفحة تلو الصفحة، حالمًا بامتلاك عالم ما يقرؤه.

يواصل القراءة. تهل تباشير الفجر، تستيقظ أمه من نومها، يشعر من حركتها تدب في ساحة البيت، تدنو منه مرة أخرى، أما زلت تقرأ منذ مساء أمس؟ لماذا تفعل هذا كله؟ أريد أن أكون كاتبًا، يرد عليها بشمم، أريد أن أكتب القصص عنكم وعن عذابكم مع الأيام. تنظر إليه أمه كمن لم يفهم، ماذا تقول ستكتب القصص؟

عام 1968

يكتب قصته الحقيقية الأولى، قبلها كتب الكثير من القصص، ما إن كتب تلك القصة حتى شعر أنه وضع قدمه على بداية الطريق، ليس مُهمًا ما يقوله آخرون، المهم ما نقوله نحن عن أنفسنا، هو شعر بنفسه أصبح كاتبًا، أخيرًا تمكن من الكتابة عن أمه ومدينته، بل عن حبيبته المتخيّلة، لكن ماذا عليه أن يفعل كي يتأكد من أنه أصبح كاتبًا؟ الكثيرون من أصدقائه القلائل آمنوا به قالوا له أنك كاتب بالفطرة، قرؤوا كتاباته بانبهار، أنت مولود لتكون كاتبًا، هو يعرف أنه أصبح كاتبًا لكن كيف يتأكد؟ كيف يعرف أن ما يسمعه من أصدقائه لا يعدو كونه شفقة ورأفة بولد مهجّر ابن مهجّر؟

ظل يفكر إلى أن توصل إلى تحد ليس سهلًا، ما لبث أن بادر إلى خوضه، فإما يكون أو لا يكون، إما أن يواجه فشله وإما أن يضع قدمه في خطوتها الأولى على طريق المجد (كان متأثرًا فعلا بكتاب" طريق المجد للشباب لسلامة موسى).

طوى القصة عدة طيات وضعها في مغلف اشتراه من المكتبة خصيصًا، كتب عليه عنوان مجلة" الجديد" المجلة الأهم في بلاده تلك الفترة، وأودعها صندوق البريد الأحمر القريب جدًا من بناية البريد في الناصرة، أودعه هناك إبعادًا لأي سبب قد يحول دون وصول الرسالة إلى عنوانها.

في نهاية الشهر اشترى مجلته المقدسة، ليفاجأ بقصته منشورة فيها، حمل المجلة كأنما هو عرف أنه يمكنه أن يفعل شيئًا للمرة الأولى في حياته، وركض إلى بيته، كان فرحًا يريد أن يشارك الإنسان الأعز على قلبه فرحه بقصته.

اقترب من أمه احتضنها، لقد أصبحت كاتبًا، أصبحت كاتبًا يا أمي. أمه ترسل نظرة مستفسرة، ماذا تقول؟ أصبحت كاتبًا؟ يعني ستكتب الرسائل لمن لا يعرف كتابتها ستعمل قبالة المسكوبية؟ كلا يا أمي، انتظري ها هي أهم مجلة في البلاد نشرت واحدة من قصصي. ماذا يعني هذا يا ولدي أنا لا افهم عليك، هذا يعني أنني أصبحت كاتبًا يا أمي، سأملأ الدنيا قصصًا عنكم وعما ذقتموه من عذاب. لا أفهم لا أفهم يا ولدي، على كل حال " على الله يطلع من بيت هالمطبلين مزمر"، سأزمر يا أمي سأزمر، سأكون كاتبًا، سأكتب أجمل القصص.

عام2006

تأتيه أمه في منامه، تقترب منه، هو ما زال يقرأ الكتاب تلو الكتاب، أما زلت تقرأ الكتب يا ولدي؟ نعم يا أمي، الكُتّاب لا يتوقفون عن قراءة الكتب، إلا في واحد من أمرين حينما يرحلون من هذه الدنيا، أو حينما يفقدون أبصارهم، ويستدرك حتى حينما يفقدون أبصارهم فإنهم يبحثون عمن يقرأ لهم الكتب.

تتمعّن والدته في ملابسه، لماذا أراك تزداد فقرًا يا ولدي؟ لقد أصبحت كهلًا وبعد قليل تصبح رجلًا مُسنًا، وأنت كما أنت ما زلت فقيرًا، إلى متى ستبقى فقيرًا يا ولدي، ألا يفيدك أنك أصبحت كاتبًا؟ لست فقيرًا إلى هذا الحد يا أمي، ثم إنني لا أعرف ماذا يخبئ لي الغد، كم كنت أود لو أنك بقيت إلى جانبي في عالمي الفاني هذا لنقطف ثمرة أحببت أن نقطفها معًا. تتمعن أمه في ملابسه، لكن لماذا ترتدي هذه الملابس الرثة يا ولدي؟ يحاول أن يشرح لها أن يقول لها إن الإنسان الجميل يبدأ من الداخل إلى الخارج، وليس العكس، وإن من يبدؤون من الخارج إنما هم أناس تعساء، يشرح ويشرح ويشرح، إلى أن تستوقفه أمه بإشارة من يدها لا أفهم ما تقوله يا ولدي، أنت تعرف أنني أميّة لا اقرأ ولا اكتب، إلا أنني افهم أن الواحد منا نحن بني البشر إنما يحاول أن يحسّن حياته. أنا أحاول أن أحسن حياتي يا أمي، لا تقلقي، أرجوك لا تقلقي، طريق الكُتّاب كثيرًا ما تكون طويلة، أطول من أعمارهم، لهذا هم يعيشون أحيانا بعد رحيلهم، لا أفهم عليك يا ولدي، ما افهمه انك ينبغي أن تعيش حياة أفضل من هذه، وماذا تقترحين يا أمي؟ أقترح عليك أن تبحث عن عمل آخر يمكنك من أن ترتدي أفضل الملابس، لن ابحث يا أمي، قلت سأكون كاتبًا، يعني سأكون كاتبًا.. ولن أتنازل عن حلمي.

***

قصة: ناجي ظاهر

تقنية الإخراج الجمعوي:

بداهة ليست هنالك  وصفة جاهزة، لمنهج إخراجي معين؛ يمكن أن يتم تطبيقه بحذافيره، باعتبار أن الإخراج أساسا إبداع وخطاب بصري/ جمالي، وليس بمثابة معادلة رياضية أو تركيب كيماوي؛ لكن هنالك مبادئ أساس في عملية الإخراج لحظة التعامل مع توجه إخراجي (ما) لكن في حالة الإخراج الجماعي؛ فالمسالة جد مستعصية؛ نظرا لغياب شخص معين (مخرج) يستند على قدراته الذهنية  والتخيلية وتجاربه السالفة وموضعة خطط فنية وابداعية وفكرية في صناعة العرض المسرحي؛ باعتبارأن تنمية الرؤية الإخراجية عند المخرج تتطلب مجموعة أدوات تتيح له القدرة على صناعة العرض المسرحي . بحيث وإن كان هنالك شخص واحد هو المتحكم في العملية الإخراجية؛ جوانيا. فإنه ينصهر ضمن الجماعة برانيا، وذلك لتحقيق مفهوم الفعل الجمعوي؛ وتبديد سلطوية "المخرج" لكن الجمعيات التي انخرطت في عملية الإخراج الجمعوي؛ في الغالب انطلق أفرادها والذين كانوا يشكلون القاعدة التلامذية / الطلابية / أساتذة / من منظورين [السياسي/ الفني] ارتباطا بالتجارب التي لم تكن بمعْزل عما (كان) يقع في الساحة المسرحية العالمية، والتي رسختها الترجمة والتي: ترجمت أبرز أعمال كبار الكتاب والشعراء والفلاسفة الألمان إلى العربية؛ وفي مقدمة أولئك المترجمين يأتي غوتة وماركس ونيتشة وهيكل وبريخت...(1) وكذا بروز الفكر اليساري/ الاشتراكي في العالم العربي (وقتئذ) والمبشر بالحرية والعدالة الإجتماعية والتقدم، ليس في المغرب وحده بل في العديد من الأقطار العربية؛ باستثناء (الخليج) وهذا: في إطار الوعي بالتاريخ تأثر المثقفون والمفكرون بالأفكار الاشتراكية التي تدعو الأدباء إلى أن يضعوا أنفسهم ومواهبهم في خدمة المجتمع وهو ما سمى بالالتزام بمعنى أن يتحمل الأديب مسئوليته أمام المجتمع حتى لا يصبح الأدب والفن ترفا ينعم به الخواص ويدور في فراغ (2) مما أدى بالعَديد من المسرحيين/ المثقفين للبحث عن بدائل إبداعية وثقافية مواكبة للثورات الثقافية و الإجتماعية والاقتصادية، فلم يجدوا ضالتهم ومرتعهم إلا في مسرح بيسكاتور/ ستانسلافسكي/ مايرهولد/ برشت/...وخاصة هذا الأخير تم التركيز عليه بشدة مما: كانت فلسفة الدراما الملحمية وصنعتها كأسلوب مغاير؛ قد تركت ملامحها على مجمل النتاج المسرحي (نصاً وعرضاً) وفي ضوء حالة التجديد التي حققتها نظرية المسرح الملحمي، فقد أخذت تأثيرها على مسا رات المسرح العالمي والعربي (3) لإنجاز تصوراتهم الفنية المقرونة بالحماس والاندفاع عِند أغلبية شباب المسرح المغربي، بحكم أن بريشت :جعل مسرحه مدرسة للتنوير الفكري والعقلي، كما أن أحد أركان هذا التنوير الفكري هو الكفاح ضد الوعي الخاطئ وضد الإیدیولوجیة التي تستغلها السياسة. والتي تحدد مسار التاريخ لصالح البورجوازية (4) فمن هذا التصور النظري للمسرح الملحمي؛ الذي دخل حيز التجريب، انطلقت جملة من الجمعيات لتوظيف تقنية الإيهام/التغريب/ التكسير/ اللاندماج/ الارتجال/.../ وذلك من خلال إقامة شبه مختبر مسرحي فيما بينهم؛ لتفعيل تلك التقنيات ومحاولة تطويرها، عبر التدرب على العديد من عناصر العرض كتقنيات التمثيل والفنيات وأساليب الإخراج. انطلاقا من النص المسرحي المقترح. هنا الإشكالية تزيد تعقيدا؛ بحيث نجد العديد من النماذج التي جربت ومارست الإخراج الجمعوي. صيغتين هكذا = (تأليف: علال/ إخراج: جماعي) أو (تأليف وإخراج: جماعي)؟ ففي الصيغة الأولى :هل الذي ألف النص؛ هو مخرجه (عمليا) كما هو سائد في العديد من الأعمال؛ لكن تماشياً مع التيارات السياسية والأساليب الفنية ذات المنظور" الإشتراكي" يتنازل [المؤلف] للجماعة، وينصهر فيها لتصريف وتفعيل مفهوم " الإشتراكية "؟ أم بحكم أن المسرح عند بريشت، ليس خادما للمؤلف؟ أم إيمانا بعَدم قدرته على ممارسة الإخراج ؟ باعتبارأن الإخراج كيفما كانت نوعيته؛ فإنه يحتاج لضوابط تضبط إيقاع عمله وترسم حدوده الفنية /الجمالية، لتحقيق ماهية التلقي للفعل المسرحي، لكن بحكم المعايشة؛ فإن المسألة كانت رهينة؛بالمقام الأول: باختيار أبرز عضو في الجمعية أوأحسن ممثل له تأثير قوي في إدارة المجموعة وتسييرها. تسند له مهمة الإخراج (تنسيقيا) بالمجموعة؛ ليشغل أدواته الحسية والإبداعية لخلق مشاهد وصورة فنية / جمالية؛ تخدم تجربة الجمعية ابداعيا / سياسيا، وللقضاء على مفهوم النجم وسلطوية المخرج،علما أن العديد من أفراد الجمعية يتوفرون إما على موهبة، أوعلى مقومات لامحدودة من الأبتكاروالإبداع؛ وبالتالي يتأطر الإخراج في إطار" جمعوي" عمليا؛ ومن خلاله تتم ممارسة التسييس؛ والطموح لتحقيق رياح التغيير عبر المسرح كما بشر < بريشت >: كون مسرح بريخت مسرح تغيير ونضال يجعل منه أداة فعالة لمواجهة النفوذ الإمبريالي في العالم الثالث ومناهضة الاستعمار بأشكاله الإقتصادية والثقافية والسياسية (5) دونما إغفال ما طرحه المخرج اروين بيسكاتور/بيتر فايس/.../ في تقنيات ومفاهيم المسرح السياسي. على وجه التحديد، مِما تغذت الأجواء المسرحية بروافد جديدة . ارتباطا بالانفتاح الثقافي والإبداعي، على بلدان أوروبا الاشتراكية وتنوعت الثيمات والأشكال والصراعات والتجارب، بحيث تصدر الصراع الطبقي الأولوية، بوصفه عصب التحول الاشتراكي بكثير من اهتمام. وبالتالي فكان الفعل الجمعوي هو الأس في تلك الجمعيات؛ من هنا كانت الصيغة الثانية (تأليف وإخراج: جماعي) لها حضور قوي في المشهد المسرحي، فكان الارتجال/ التحاور/ النقاش/ من السمات الغالبة بين أفراد الجمعية؛ مما كان يستغرق العمل شهورا عدة. تجاه (فكرة) طارئة أو تم طرحها سلفا، وكثيرا ما كانت صياغة الإخراج تتعدل بين منسق ومنسق آخر. ومن هذا المنطلق نرى أن التغيرات في البنية المجتمعية والعلاقة المتبادلة بين الأفراد تؤثر على الإنتاج الفني بشكل عام. ولا غرابة بأن المسرح ألصق الفنون بالمجتمع؛ وحاضن  لروح الجماعة في بنيته . وتبدو ظاهرة الإخراج الجماعي أوضح ما تكون في هذا المضمار، لكن ليست كل الجمعيات مارست الإخراج الجماعي، لأسباب تتأطر فيما هُو سياسي صرف.

بين المشاهَدة والوثيقة:

كما أشرنا بأن الإخراج الجمعوي من الصعْب الإمساك به؛ لتحليل ميكنزماته ومدى المطابقة النسبية للاتجاه الإخراجي المعتمد عليه، نظرا أن الإخراج يرتبط بنسج خيوط الفرجة وعملية التمسرح؛ لكن انعدام التوثيق للحركة المسرحية في فعلها الجمعوي؛ يصبح تاريخا منسيا أو متناسيا، لما قام به بعض الشباب والفعاليات، باعتزاز دونما طمع في أي شيء . يعُوق البحث ومنهجية العمل؛ والتشكيك في بعض الإشارات الواردة هنا وهناك بحيث: والحال أن التزييف والتضليل الذي بدأ يطال الذاكرة الجماعية لتاريخ المغرب المستقل عموما، وتاريخ العمل الجمعوي خلال العقد الأخير من القرن الماضي، مع التكاثر العددي لمنظمات الشباب وتنوع تلاوينها؛ أوحى لأقلام متهافتة ومتجاهلة أوجاهلة بحقيقة الإرث الجماعي باستلهام الكتابة، في هَذا الشأن، بشكل تمخضت عنها صياغة تاريخ مشوه يلغي الحقائق ويعرض الأراجيف، ويهيل على منجزات الشباب (6) وخاصة الذين يتكلمون عن تاريخ الحركة المسرحية الهاوية ! يقفزون على ظاهِرة الإخراج الجمعوي، إما لجهلهم بها أوخوفا من ملامسة الواقع السياسي(السبعيني) بعلاقته بالمسرح؛ ولاسيما أن الظاهرة كانت انعكاسا موضوعيا لعناصر الحياة السياسية والابداعية والاجتماعية؛ للعَديد من التنظيمات السياسية ذات طابع يساري والتي كانت تشتغل في السر؛ لتحقيق رياح التغيير، حسب منطلقاتها. فاتخذت من المسرح واجهة نضالية لترسيخ مفهوم الصراع الطبقي؛ ومدخلا للاستقطاب الشبابي(آنذاك) ومن أهم المدن التي تمركز فيها الإخراج الجمعوي مراكش/ فاس/ الخميسات/ الدارالبيضاء/.../ لكن كما أشرنا؛ بأن المنطلق لتجربة الإخراج الجماعي ترتبط جدليا بالمسرح الملحمي وبالواقعية الاشتراكية؛ بعد [الهزيمة العربية  1967] نجد في مدينة وجدة ظهور الظاهرة من خلال نادي الكشفية الحسنية التابع مع لجمعية (سيدي بوبكر) والتي كانت تابعة لنقابة للاتحاد العام للشغالين ب: عمل مسرحي قصير بعنوان " بايزا" سنة1967 من تأليف ميري عزالدين واخراج جماعي (..) وفي سنة 1982 وقع سوء تفاهم بين أعضاء الجمعية بسبب انحياز بعْض أعضائها المطلق لحزب وطني كان من نتائجه ان تغير اسمها الى "جمعية الشعلة للمسرح والفن" بعْد ان انسحب منها ،بعض الأعضاء... واصل إبداعاته بإعْداد مسرحية " كوريولان" عن برتولد بريخت واخراج جماعي، في نفس السنة . وبفضل النجاح الذي لقيته انضم إلى الجمعَية؛ رواد آخرون من الشباب المتحمس وأغلبهم من الطلبة والتلاميذ (7) هنا يمكن أن نتساءل كيف اخترق الإخراج الجماعي الجمعية إلى نادي الكشفية؟ منطقيا أنه تسرب من الجزائر؛ بحكم الجولات التي كانت تقوم بها الجمعية هناك؛ علما أن الإخراج الثنائي والجمعوي مارسته أغلب الجمعيات المسرحية إبان الاستعمار وبعده؛ متبنية الواقعية الاشتراكية في أعمالها. فحتى المحترفين مارسوا الإخراج الجماعي نموذج مسرحية (المائدة) لعبد القادر علوله سنة 1972 .

إذن بحكم التقارب الحدودي؛ والتأثير والتأثر الإبداعي بين الأفراد، نجد جمعية برومثيوس  والطلائعي  للمسرح سنة 1976 يتعاملان مع الظاهرة: وكان العرض يحمل عنوان "الكراب والديمقراطية" وهو عمل جماعي ...والسنة الموالية قدمت الجمعية مسرحية " مأساة الأشباح الحية من تأليف ع العزيز بنيس وإخراج جماعي (8) والعجيب أن المسرح الأمازيغي؛ بمنطقة (الناضور) تبنى الظاهرة، ولكن بشكل محتشم؛ ومن خلال الأسطر التالية، يمكن للقارئ المفترض أن يستنتج بعض الخيوط المرتبطة بالإخراج الجماعي؛ في المنطقة بحيث تم تقديم: مسرحية (إیرحاگد أمیثناغ) [وصل ابننا] :عُرضت ھذه المسرحية سنة 1978 في میضار والعروي وزایو، وقدمت كذلك لصالح عمال مناجم الحَدید وعمال شركة السكة الحديدية " سیف ریف" بوكسان... من تأليف وإخراج جماعي، وقد أعِدت في إطارجمعیة " أھْل الدربالة". (...) ومسرحية (إیھواد أوكامپاوي غاپاساپورتي)[ذهب القروي إلى المدینة للحصول على جواز السفر] :عرضت سنة 1979 بقاعة العروض بمقر الاتحاد الاشتراكي و كذلك بسينما الریف بمدينة الناظور، من تأليف وإخراج جماعي. وقد تبنت جمعیة" زریاب للموسيقى والمسرح" (9) لكن الظاهرة تشعشعت وتقوت وتطورت في العديد من المدن؛ التي تمركز فيها اليسارالمحضور" آنذاك" لكن ما لفت انتباهي أنه بمدينة [العرائش] سنة 1969-1970 -  برزت الظاهرة مرة واحدة من طرف (جمعية شبيبة لوكوس للمسرح) بمسرحيتين " للاخيتي " و" للاشويكة " تأليف حسن لمراني/ إخراج جماعي (10) للعلم أن الجمعية كانت تابعة لحزب الاصلاح الوطني؛ ولازالت تلك النزعة حاضرة رغم اندماج الحزب بحزب الاستقلال سنة 1956؛ لأن الفنان لمراني أحيا الجمعية بعْد رجوعه من إسبانيا "الفرنكوية" فربما تأثر بالورشات المسرحية التي تدعو للعمل الجمعوي؟ أو ربما المسألة وردت عرضا وعفويا ؟...... [يتبع]

***

نجيب طلال

........................

الإستئناس:

1) صفحات خالدة من الأدب الألماني من البداية حتى العصر الحاضر- وخاصة (ص 623 إلى 680)

لمصطفى ماهر- دار صادر - بيروت /1970

2) المسرحية بين النظرية والتطبيق :لمحمد عبد الرحيم عنبر ص219- الدار القومية /القاهرة: 1966

3) ملامح الملحمية في النص المسرحي الأردني (نماذج مختارة)- (دراسة جماعية) في مجلة:

دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية- ص 281- المجلّد 48 / العدد 3- ملحق 1/2021 / الجامعة الأردنية.

4) نظریة المسرح الملحمي لبرتولد بریشت- ترجمة جميل نصیف،ص81 دار الحرية للطباعة بغداد 1973

5) آثر برتولد بريخت في مسرح المشرق العربي للطالب: الرشيد بوشعير ص64 أطروحة لنيل

الدكتورة من جامعة دمشق/1983

6) العمل الجمعوي بالمغرب التاريخ والهوية ص4/5 منشورات الجمعية المغربية لتربية الشبيبة

سنة 2004 أعدها للنشر حسن أميلي

7) الحركة المسرحية بوجدة: لمصطفى رمضاني (انظر- ص75- 79) منشورات كلية الآداب/ وجدة

رقم15/1996

8) نفسه – ص112

9) ببلیوغرافیا العروض المسرحية الأمازيغية المتعلقة بمنطقة الریف: لجمیل حمداوي صحيفة دنيا

الوطن في-  29  /  05 / 2007

10) انظر لكتاب: هذا الذي نسميه مسرحا لعبد المولى الزياتي ص132 مطبعة طوب بريس – الرباط

ط 1/ 2002

سنعالج في هذه الدراسة، صورة القهر في رواية "عروس الفرات" لكاتبها المفكر العراقي علي المؤمن، وسنعمد إلى تتبّع المواقف التي ظهرت فيها الشخصيات مقموعة. وهذا التوجّه له دوافعه الظاهرة والباطنة، وتصبح هنا وظيفة الكشف عن هذه التوجهات كامنةً في معرفة المحركات والمسوغات لظهور أشكال القمع وتقصّي تأثيراتها في الأفراد والجماعات وإظهار الموقف المعادي الذي أبدته الشخصيات تجاه السلطة القمعية.

القهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة والأخذ من فوق، ومن دون رضى الشخص الآخر، وتالياً؛ فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره الذي تعرّض لفرض السطوة من لدن المتسلِّط عنوة، وأما في تعريف التخلف الاجتماعي فيتمثل القهر في فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة واعتباطها وإزاء قوى التسلط في آنٍ معاً. ففي رحلة القهر تولد الأجناس الأدبية ومنها الروايات التي هي أيضاً وليدة المجتمع ونتاجه وصورته التي تعكس معاناته؛ لأنّ الأدب بشكل عام هو نشاط إنساني يعبّر عن صاحبه وعن المجتمع الذي نما وترعرع فيه، وللأدب وظائف شاملة ذاتية واجتماعية وسياسية ينتقد من خلالها أفعال البشر، ويعبّر عن مشاعرهم وعواطفهم ويعالج قضاياهم، كما أنه يتناول القضايا الوجودية ويبحث عن أجوبة تتعلق بالكون والمصير وقوانين الطبيعة ونواميسها(1).

وفي هذا السياق، تنقل رواية "عروس الفرات" في خطابها ذكريات الماضي في سرد واقعي ممزوج بالألم المستمد من أرض الرافدين، حيث يقدّم كاتبها الدكتور علي المؤمن مادّته السردية في مشاهد تطغى عليها الذاتية المنطلقة من الأنا مصدر الإلهام ومنبع التجربة، مروراً بالشخصيات وصولاً إلى ميناء المجتمع المقهور، حيث يحطّ الكاتب الرحال في نهر الفرات، ويرتبط اسم الفرات هنا بالعروس (عروس الفرات). والاسمان يوحيان بالفرح والابتهاج والسرور، إلّا أنّ حقيقة التسمية تحمل كل معاني التعثّر والخيبة والألم والتيه. والرواية هي حكاية شخصية يستخدم فيها الكاتب تقنية الاسترجاع، ويرسم بقلمه الصورة السوداوية القاتمة من أحداثٍ جرت على أرض العراق.

نقرأ رواية علي المؤمن، فنجد صوت الأنين يصدح من عمقها، ويُسمَعُ ذاك الأنين في أنحاء وطنٍ معذبٍ مقهورٍ عانى من ويلاتٍ وحروبٍ وتنكيلٍ بالفئات الضعيفة؛ وهذه الفئات هي وليدة أرحامٍ مجبولةٍ بالدمع والمشقّة؛ وهي تضم شخصيات قوية حتى في قهرها؛ لأنها ليست خاضعة، بل مجبَرة مسلوبة الرأي والقرار تؤمن بالحرية، ولكن طريقها طويل وصعب يحتاج إلى مغامرة موسومة بالتمرد، ولكن ما النفع من حياةٍ نسعى في رحلتها الشاقة إلى التحرر من الظلم والقهر ونفقد في مساراتها المتشعّبة أرواحنا التي خُلِقت لتكون حاضرة لا تائهة؟! فهل أضحى هنا البحث عن التحرر هو الحرب الوجودية ذاتها للبقاء؟

تحاكي الرواية الواقع وتنقل تنوّع الرؤى، والأصوات والأفكار فيه، وتصطبغ بمواصفات الشخصيات، وتفتح أُفق التخيل، والنقد، والتحليل، وتأسر القارئ، وتجذب الباحث، وتحتوي أيضاً طاقةً شعريةً مدهشةً. فانطلاقاً من الواقع المرير، كُتِبَت رواية "عروس الفرات" لتنقل المأساة الحقيقية التي عانتها عائلة الموسوي وغيرها من العائلات العراقية في حقبةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ بزمانٍ ومكانٍ، ولكنها مفتوحة الأفق متعاقبة متتالية تتكرر في كل الضواحي والأرجاء.

تصوّر رواية "عروس الفرات" الصراعات الحادة، وتختصر الواقع في سردٍ متخيّلٍ يحاكي الإشكاليات المتعددة برمزيةٍ تضاف إليها الواقعية المعبّر عنها بأسلوبٍ ينطوي على أشكالٍ شتى من المتناقضات مثل الحب والكره والوجود والعدم والموت والحياة، وفي هذا المجتمع العراقي هويات ضائعة ومصاير مضطربة.

تسلك الشخصيات في بنائها السردي منحىً أيديولوجياً، يختزن في تشعّباته حواراتٍ تكشف عن حالة القهر، فتظهر الشخصيات مُحاصرةً تبحث عن أجزائها في مجتمعٍ ممزقٍ مسلوب الحرية والقرار. ولهذا تتفرّع جملة تساؤلاتٍ يثيرها هذا الموضوع، نسعى إلى طرحها هادفين من ورائها إلى إيجاد الحلول الّتي تبحث عنها الدراسة بعد اعتمادنا على منهج يتناسب مع الموضوع المطروح:4571 عروس الفرات علي المؤمن

كيف تجلّت صورة القهر في هذه الرواية؟

ما الأسباب الكامنة وراء تخبّط الشخصيات ومعاناتها؟

هل تمردت الشخصيات على قهرها النابع من أعماق الذات؟

ما الأسباب الخفية وراء الممارسات القمعية التي تُمارس بحق الأبرياء؟

إنها تساؤلات تحتاج إلى التعمق في التحليل، وهذا بدوره يقتضي منّا اعتماد منهج نقدي، وذلك بغية الوصول إلى الخصوصية التشكيلية والدلالية التي يتميز بها النص. وعندما نعتمد هذه الطريقة، نترك جانباً المشاعر، والعواطف وتأثيرات الأهواء. ولأنّ النص (جهاز نقلٍ يُعيد توزيع اللغة، واضعاً الحديث التواصلي في علاقةٍ مع ملفوظاتٍ مختلِفةٍ، سابقةٍ أو متزامنةٍ)(2)، تصبح الرواية غاية الكتّاب الذين يُوصِلون من خلالها قضاياهم، ويكون المنهج الاجتماعي هو الوسيلة التي تكشف عن خبايا المجتمع الذي يُعَدُّ المنتِج الفعلي لهذه الرواية الإبداعية، وقراءتها وتحليلها من منظور (مدى تعبيرها عن الوسط الاجتماعي الذي أَنتجَها، وهو بذلك، يتعامل مع الظاهرة الأدبية ليس بوصفها ظاهرة مستقلة بذاتها، وبخصوصيتها، وبفرادتها الإبداعية، وإنما يعدّ النصوص الأدبية وسائر الفنون غير مستقلة عن شروط إنتاجها الاجتماعي)(3). وعندما تكون البنية (ترجمة لمجموعةٍ من العلاقات بين عناصر مختلفة، أو عمليات أولية)(4)، فمن الضروري أن ننظر في علاقة الأجزاء بعضها ببعض؛ لأنّ النص ليس تجميعاً لهذه الأجزاء، وإنما هو نتيجة تفاعُلها، والعلاقات التي تربط بينها. ولأنّ المشكلة الأولية التي (يتوجّب على سوسيولوجيا الرواية تناولها هي مشكلة العلاقة بين الشكل الروائي نفسِه، وبنية الوسط الاجتماعي الذي تطوّر هذا الشكل داخله)(5)؛ ينبغي أن نعتمد المنهج البنيوي السردي، كونه ينطلق من داخل النص، ويكشف عن مكونات الرواية، ووظائف كل مكوِّن تركيبي؛ لأنه يبحث عن البناء الداخلي، وعن البنية الشكلية التي أنتجت نصاً روائياً مُستنِداً إلى عناصر السرد الروائي.

والسردية تدرس وظائف كلٍّ من المنظور، والزمان والمكان؛ لذلك ينبغي لنا أن نتناول الرواية بمكوناتها الأساسية كافةً؛ لأن السردية تبحث عن أنظمة التشكُّل الداخلي في الرواية، وتهدف من خلال ذلك إلى دراسة الأشكال والقوانين التي تحيلنا بالضرورة إلى استيعاب الخصائص الداخلية، وتدرس الشخصيات وعلاقتها، ونوع الرؤية ودلالاتها، وترصد شبكة البناء الزمني ومفارقاته، وتشكُّل البناء المكاني. وهذا المنهج يدفعنا إلى (دراسة المتن الحكائي الذي يُعنى بالأحداث، ومن ثَمّ المعطى الدلالي الذي يتجلى في عالَم الرواية، من خلال الأحداث، والشخصيات، والفضاء)(6).

تظهر صورة القهر بداية في العنوان؛ لأنّ "عروس الفرات" لم تكن عروساً اعتيادية، بل فتاة أسطورية تحمل اسماً مقدّساً "زهراء"، يوحي بدلالته الدينية التي تحيلنا إلى تحديد هوية هذه الشخصية الروائية التي تنطق بمواصفات سردية واضحة المعالم والملامح والسمات؛ فلا تحتاج إلى استنباط وتأويل من القارئ. فهذه العروس مشت على درب الجلجلة، ورأت مشهد الصلب واقعاً مأساوياً؛ فهي شاهدة على صورة إعدام خطيبها "صلاح". وفي هذا الواقع تتجلّى صورة القهر والقدر المفروض في تحديد الموت والخلاص.

و"زهراء" هي نموذج عن فتياتٍ أخرياتٍ عانين فقداناً للالتحام الجسدي الروحي الذي نما في مخيلتهن؛ فصورة الحبيب والزوج والسند أُبعدت قسراً، وخلقت انعداماً بالتكافؤ لدى الذات الإنسانية الأنثوية، وأظهرت صراعاً نفسياً بين الأنا والآخر (الشريك)، وبرزت صورة المرأة المقهورة التي سُلِبَ حقها في خلق مصيرها وبناء جيلها التي رسمته في اللاوعي لديها. وهذا ما يسمى (الرغبةَ اللاواعية)(7)؛ فحينما تلاقي الأفكارُ مقاومةً تمنعها من الظهور في الوعي، تلجأ الطاقة النفسية المتصلة بها إلى النقل، أي الاتصال بمعانٍ أخرى بديلةٍ تكون عادة رموزاً للمعاني الأصلية. ولأنّ هذه الرموز مبهمة وغير صريحة لا تلاقي أيّ مقاومة، ما يعني أنّ المكبوت يُستبدَل به فكرةٌ بديلةٌ تكون بمنزلة مندوبٍ أو وكيلٍ، وهو محميّ من هجمات الأنا بسبب عذابات طويلة.

المرأة هي أفصح الأمثلة على وضعية القهر بكل أوجهها ودينامياتها في المجتمع المتسلط(8)؛ فهي رائدة الانكفاء على الذات والتمسك بالتقاليد، وضعيّتها تمثّل أقصى درجات التماهي بالمتسلِّط من خلال ما تعانيه من استلابٍ وجودي تتحكم فيه وسائل السيطرة على المصير. وشخصية "زهراء" بيّنت هذا التجاذب والتعرّض للتبخيس المفرط.

اعتمد علي المؤمن في روايته على سلسلةٍ مترابطةٍ متماسكةٍ من السرد المنطقي المتدرّج من بداية الرواية إلى نهايتها، وهنا تبرز جدلية القهر في العناوين الهادفة: "فرحتان"، "الجريمة"، "عروس الفرات"؛ ففي هذه العناوين الثلاثة، على سبيل المثال لا الحصر، تظهر الازدواجية في نقل صورة الفرح (العرس) والحزن (المأتم)، فتتعارض الحالات الشعورية وتتخبط الذات، وتعيش هيكلية المتناقضات في شكلها القمعي لا في ضروراتها الوجودية التي بنيت عليها في حقيقة نشأتها. فيستنبط الباحث من المشاهد الروائية ومن الوصف الدقيق الذي أتى على لسان راوٍ حذقٍ عارفٍ بكل شيء؛ الصورةَ المتبدّلةَ التي تغيّرت بفعل العدوانية والقمع الممارَسين بحق الأبرياء.

ففي مشاهد الوصف؛ تكاد تصل إلينا رائحة الأزهار في البيت القديم الذي تقطنه عائلة "عبد الرازق" في محلّة "الحويش" النجفية، ذلك البيت الذي (عشّشت في شقوق حجارته العتيقة طيور اليمام البني... قائم وسط حديقة، تناثرت في حوضها الأزاهير؛ فتناغمت فيها الألوان، وانصهرت الروائح لتنتشر في كل ناحية)(9)؛ إذ أتت وظيفة الوصف هنا دالّةً رمزيةً، الغرض منها هو تفسير (موقف معيّن في سياق الحكي)(10) لا يقتصر على أداء وظيفة جمالية تزيينية مجرّدة من المعنى)(11).

يُمثّل المكان مكوّناً محورياً في بنية السرد، فالبيت النجفي هو مكان واقعي يتحدّد بعلاقاته ومفاهيمه المكانية، ويُبرز الإحداثيات الأساسية التي تحدّد الأشياء الفيزيقية. وفي هذا السياق يؤدي الراوي دوراً رئيساً في نقل الصورة بدقةٍ ووضوحٍ، فتظهر قدسية المكان من خلال ذكر مدينة "النجف الأشرف" وأسماء الشخصيات التي تنتمي إلى سلالة الأنبياء؛ لأنّ العلاقة ما بين وصف المكان والدلالة أو (المعنى) ليست دائماً علاقة تبعيّة وخضوع؛ فالمكان ليس مسطّحاً أملس، أو بمعنى آخر ليس محايداً أو عارياً من أي دلالة محددة، وهذا ما حاول الروائي إظهاره في مشاهده السردية الأولى، حيث رسم معالم المكان المفعم بالإيجابية والقدسية والتبجيل والفرح والاحترام؛ فشخصياته وجدت بالضرورة كي تتبادل الملفوظات ومحكي الأقوال وتكشف عن اندفاعها العفوي، وانحازت لتشكّل بعداً دينياً وسياسياً يحويه الوعاء السردي.

وفي هذا الإطار؛ نعثر في الرواية على سجل مشوّق يعكس التقاليد والعادات النجفيّة في أوقات الفرح والحزن. والمتتبّع لحركة السرد في الرواية يُدرك أنّ الانتقال من مشهدية الفرح إلى مشهدية الحزن لم يكن انتقالاً اعتباطياً، بل كان انتقالاً مقصوداً يصوّر الأيادي التي عبثت بالكيان الآمن للأفراد، وشوّهت معالم المكان المليء بالحب والطمأنينة والسكينة والحماية، وحوّلت هذا المكان حسب (قيمه الأنطولوجية)(12) من مكانٍ أليفٍ إلى مكانٍ معادٍ يتّسم بالضيق والظلمة والأذية والشقاء والتهديد: (الثالث عشر من رجب، يوم ربيعي مشرق... اليوم هو عقد قران أخيكم!! (صلاح خطيب زهراء الذي أعدم) هيّا قوموا... نهض الجميع مستبشرين لكنّهم متهالكون؛ لأنّ حديث الفرح لم يترك لهم ليلة أمس سوى سويعاتٍ للنوم.. لبسوا أفخر الثياب... أكثر من لفت الأنظار "أبو عادل" وعصاه الخشبية الجديدة المرصّعة بالفيروز... بين الحين والآخر كانت تعلو زغاريد النساء وتوزّع الحلوى والفاكهة والعصير)(13).

الصور التذكارية، المدائح النبوية، لباس العروس، خواتم القران والعقد النفيس والأقراط والأساور الذهب، الزغاريد التي تطرق الآذان، صوت الضحكات، وغيرها من مظاهر الفرح في عائلة "عبد الرازق"؛ تبدّلت جميعها في صفحاتٍ معدودةٍ إلى مظاهر حزن، وعلا فيها صوت البكاء والأنين على استشهاد ابنها "صلاح". والتحوّل في مجرى الأحداث برز جلياً، فانتقل هذا العرس النجفي الذي يجمع التراث الشعبي والالتزام بالتقاليد الدينية، إلى مأتمٍ محزنٍ، مفارقتُهُ الوحيدة هي ارتباطه بعناصر الفرح التي سبقت مشهد الإعدام: (في الطريق إلى البيت سرح أحمد بخياله، ودموعه تنهمر ويقضم شفتيه، كان يفكّر في الطريقة التي يخبر بها الأهل باستشهاد صلاح... حلّت الكارثة "أم عادل" مغشيّ عليها، أبو عادل يذرف الدموع، ويندب حظّه، ويدندن باكياً: ليتك متّ قبل هذه المصيبة... ضجّت شيماء وياسمين بالبكاء، وهما تندبان صلاحاً، وترثيانه بتفجّع... كانت شيماء تولول، وقد اختنق صوتها، وبحّت نبراته الحزينة، وقد مَزقت ثيابها، وعثت شعرها، وازرّق خدّاها من شدة اللطم... أم عادل تولول وتتفوّه بكلماتٍ مبهمةٍ لا يفهم منها سوى... حبيبي صلاح... عرسك يا ولدي... قتلوك قبل زفافك)(14).

هذا الوصف الخلّاق سيطر على مجموع الحكي، ونقل حالاتٍ شعوريةً مأزقيةً مبنيةً على ثنائياتٍ ضدّيةٍ (فرح/ حزن)، وذلك على حساب السرد، فهو يشيّد المعنى وحده، أو على الأصح (يُشيّد معاني متعددةً ذات طبيعة رمزية)(15)، غير أنّ الوصف بكونه استراحة (pause) و(توقّفاً زمنياً قد لا يوقف سيرورة الحدث)(16) مثل الوصف هنا؛ لأنّ التوقف لم يكن من فعل الراوي وحده، ولكنه من فعل طبيعة القصة نفسها وحالات شخصياتها. فالراوي العالم بكل شيء أوقف السرد من دون أن يحدث فجوة في مسار الأحداث، بل جعل القارئ يتماهى مع عاطفة الشخصيات تجاه الأحداث المتعاقبة التي خلقتها يد النظام المتسلط، وعمّقت في ذهنه آثار الظلم الواقع على عائلة "الموسوي". وهنا يتّضح لنا تبلور حالةٍ قهريةٍ ناتجةٍ من العلاقة ما بين المتسلِّط والإنسان المقهور، والعلاقة تظهر نتيجة وجود طرفٍ قاسٍ مستبدٍ، يُنزل الأذى والعذاب بضحيته؛ ومن ثَمّ فهذا الطرف المتسلط لا يستقر له توازن إلّا حين يدفع بذلك المقهور إلى موقع الرضوخ والعجز والاستسلام. وهذا التسلط الأعمى ليس وليد اللحظة، بل هو صورة انعكاسية عن تراكماتٍ ذهنيةٍ متخلفةٍ أرادت التنكيل بالفئات الضعيفة، فعائلة "الموسوي" هي نموذج مصغّر عن عائلاتٍ عراقيةٍ كثيرةٍ عانت الاضطهاد والظلم.

وهنا نستنتج أنّ طبيعة العلاقة تتلخص بانعدام القيمة وبهدر الإنسانية؛ لأنّ الأشكال الدموية بكل جبروتها وسيطرتها فرضت واقعاً ومصيراً مجهولاً حافلاً بكل احتمالات القلق وانعدام الشعور بالطمأنينة، وهذا يعود إلى (بنية اجتماعية تنتج عدوانية متفجرة ومدمرة ناتجة عن سيطرة سلطةٍ فردية تحكميةٍ تفرض القمع والإرهاب والذعر في نفوس المواطنين)(17)، لأنّ الشخصية تشكل عنصراً مهماً من عناصر العمل الروائي، والبطل ما هو إلّا واحد من هذه الشخصيات، وأهمها. لذا؛ كان لا بد من التوقف عند شخصية "أحمد" الشخصية المحورية النامية في الرواية، واقترابنا من مفهوم البطولة لا يعني فقط (البطل الشجاع الذي يبطل العظائم بسيفه فيبهرجها، وتَبطلُ جراحه فلا يكترث لها)(18)، ولا يعني البطل الخارق الذي يمتلك صفاتٍ وملامح غير بشريةٍ، بل على العكس تماماً؛ ففي هذه الرواية وغيرها من الروايات العربية التي تنقل الاستبداد السلطوي الذي يُمارس بحق المواطنين؛ نجد بطلاً عانى، وقاوم، وقُهِر، وعُذِّبَ.. ولأنّ فكرة البطولة لا تلغي الملامح الإنسانية، بل على العكس؛ قد يكون البطل هو الشخصية المحورية التي تلقّت العذابات الكثيرة ومختلف صنوف الاضطهاد.

نستطيع أن نسمي "أحمد" بطلاً نتيجة تعرضّه للعنف، وتبنّيه رؤيةً وقضيةً ذاتيةً ومجتمعيةً؛ فـ"أحمد" حمل لواء تعطيل حكم إعدام شقيقه "صلاح"، ولواء منع جريمة قتل السيد محمد باقر الصدر، من خلال مشاركته في المسيرات المنددة بالنظام الفاسد والمطالِبة بإسقاطه، ودعوته إلى القيام بمظاهراتٍ علنيةٍ جريئةٍ في وجه القوات القمعية للنظام. وفي هذا الصدد، نجد أنّ الروائي أوكل إلى أحمد مهمة نقل الصورة القهرية والقمعية التي سيطر فعلها في المسار السردي، وهذا ما يسمّى التقديم غير المباشر أو تقديم الشخصية أحداثاً محوريةً؛ تقديماً يأتي على خلاف تقديم السارد الغائب العالم بكل شيء. ونقل الأحداث المفصلية على لسان الشخصية وليس على لسان السارد أو الرواي؛ يعكس منظوراً ذاتياً يتحدّد ويتأثّر بشكل العلاقة التي تجمع بين الشخصية الرئيسة والشخصيّات الأخرى، ومن شواهد ذلك على سبيل المثال: (ذات يوم ٍدلف أحمد إلى البيت قبيل الظهر على غير عادته، وكان في حالة سيئة جداً؛ شاحب الوجه، دامع العينين، وجسده يرتعد ارتعاد المقرور بدوار الحمّى الشديدة، إذ راح يجر قدميه بصعوبة، وقد بدا على ملامح وجهه الحزن الشديد... وبصوتٍ ضعيفٍ ومتقطّعٍ كأنّه الهمس)(19)، أخبر أسرته بمقتل السيد محمد باقر الصدر على يد البعثيين... حلّ الحزن على العائلة يرافقه اعتراض وسخط وغضب، اعترت الأب رعشة هائلة... وقعت الكلمات كالصاعقة على أبي عادل...إنّها القيامة... في حين هتفت أمّ عادل: يا لهول المصيبة... أما شيماء فقد عصر الخبر قلبها(20).

وفي أثناء نقل الخبرين (استشهاد صلاح واستشهاد السيد الصدر)، نلاحظ أنّ "أحمد" كان يترجّح بين عاطفته البارزة والجياشة تجاه أخيه وعاطفته الملتهبة تجاه قائده؛ إذ برزت هذه العاطفة واضحةً في سطور الرواية. وفي خضم هذا الواقع المتخبط الذي لا يحتمل اللطم والبكاء فحسب، بل يحتاج إلى سواعد تدحر العدو الداخلي الذي يعبث بالأمن والأمان، كان "أحمد" ينتصر دائماً على الظلم بالمقاومة والدفاع عن الذات؛ فقد كان يأبى الخضوع للمستبدّين، وقرارته كانت دائماً حاسمةً صارمةً جازمةً، على الرغم من حزنه الخفي الذي حُفر في أعماقه: (ما لبث أن اعتدل في جلسته، وضبط نبرات صوته، وبلع ريقه منفعلاً، وأتبع بالقول: أيام... ويبدأ الوفاء لدمائك يا سيد... ولدماء آلاف الشهداء)(21).

في السرد الواقعي يأتي الروائي عادةً بشخصياته من الواقع المرئي المادي، وينقل ما سُجّل في ذاكرته من أحداثٍ مؤثرةٍ، إيجابية كانت أم سلبية، كما ينقل تعدّد الرؤى والأفكار والمواقف. فشخصية أحمد في هذه الرواية هي من الشخصيات الهادفة المتمردة على الظلم والقهر؛ لأنها تحاكي تطلعات المجتمع العراقي وآماله في مجابهة السلطة الحاكمة في تلك الحقبة التاريخية. وهذه الشخصية إنما تمثّل فئةً عراقيةً جابهت وقاومت ولم ترضخ على الرغم من توالي المصائب الأليمة التي عصفت بكيانها ونفوسها الآمنة. فـ "أحمد" لم يأخذ حيّزاً واسعاً من صفحات الرواية وحسب، بل أخذ مساحةً واسعةً في أذهاننا، ووجدنا من خلاله بصيص أملٍ في ظل اسوداد الواقع وعتمته وانعكاسه على النتاج السردي الروائي. وتصبح هنا الشخصية في الرواية تركيباً جديداً يقوم به القارئ أكثر مما هي تركيب يقوم به النص(22). نستطيع في هذا الإطار إطلاق صفة "التفريد" على شخصية أحمد؛ فالكاتب يخص هذه الشخصية بمجموعة من الصفات لا تملكها الشخصيات الأخرى؛ إذ إنّ شخصية أحمد تتمتع بالعمق الذي يجعلها مثار اهتمام الشخصيات الأخرى، كما أنها شخصية معقّدة تجذب القارئ إلى تتبّع هذا التعقيد الهادف. فالباحث يكتشف رؤية النص السردي من خلال سيطرة الصفات الشخصية، ومن خلال الحوار الداخلي والخارجي الذي تجريه هذه الشخصية مع محيطها.

يُعدّ "أحمد" من الشخصيات التي يتوقّف عليها فهم العمل الروائي كلّه؛ لأنّه يتمتع بكثافة سيكولوجية، ويقوم بأدوارٍ رئيسةٍ في المسار الحكائي، وهو من أكثر الشخصيات التي تعرّضت للظلم والتعنيف، فقد طُرد من عمله بعد إعدام أخيه "صلاح"، وتعرّض للتعذيب الجسدي في المركز الأمني التابع للسلطة، بسبب عدم التحاقه بالجيش الذي يحارب الجارة ايران. وعلى الرغم من ذلك، لم تهدأ روحه ولم تخضع، فبقي يقاوم حتى الانتصار، وكان لديه قدرة كبيرة على إقناع المحققين الأمنيّين بأنّه بريء، ولا علاقة له بالمعارضين والثوار، وهذا ما جعله ينتصر بتمرّده الخفي المدروس، الذي اعتمده ليس بدافع الخوف، بل بكونه سبيلاً للنيل من جبروت الحكم الظالم. إذ إنّ ثمة نوعاً من التوازن يحتاج إليه الإنسان في علاقاته المجتمعية، خصوصاً في أثناء سعيه إلى تغيير الواقع المتأزم. وهذا ما فعله أحمد في الرواية للوصول إلى طريقٍ متوازنٍ يؤمّن الانسجام، والتآلف مع محيطه الاجتماعي بأقل الخسائر الممكنة. ويتجلى هذا التوازن من خلال لعبة التخفي التي مارسها، فأوهم من خلالها المحققين الأمنيّين بأنّه من الموالين للنظام.

لقد أراد الروائي - من خلال خلق شخصية "أحمد" التي تتماهى في دورها مع الراوي - القول إنّ التمرد لا بدّ من أن يُخلَق من صميم السطوة والتنكيل والوجع، وإنّ المحاولة التي وجدت في الرواية إنّما هي محاولة تمرّدٍ فردي لتغيير الواقع. وعلى الرغم من ارتباط اسم "أحمد" بعددٍ كبيرٍ من المعارضين، فإنّ محاولته التغييرية، بسبب فرديّتها، محكومٌ عليها بالإخفاق؛ ذلك أنّ تغيير الواقع يحتاج إلى ثورةٍ اجتماعيةٍ أو إلى مدى تاريخي، وفي هذه الحالة نرى أن لا خيار أمام الإنسان إلّا التمرد؛ لأنّ فعل التحدي (الذي يمارسه الفرد ضد قوى عاتيةٍ لا يستطيع إلحاق الهزيمة بها، لذلك عليه متابعة الصراع على الرغم من تكرار الفشل للوصول إلى ثورةٍ مجتمعيةٍ لا ترضى برؤية الظلم والسكوت عنه)(23).

وفي الإطار نفسه، تحضر في الرواية صورة أخرى من صور القهر ولكنها الأقسى والأقبح، وهي صورة القهر الجنسي، وذلك في مشهد اغتصاب الشابة الجميلة العفيفة "شيماء" التي كابدت كل أنواع القهر والاستلاب الفكري والجسدي، واللافت أنّ الروائي نأى عن طرح قضية الاغتصاب بأسلوبها الميكانيكي، وعالجها بكونها ظاهرةً اجتماعيةً مُظهِرًا أسبابَها وأبعادَها خلال السرد الروائي من دون أن يشوّه ذائقة القارئ، فكان تصويره هادفاً. وفي المقابل؛ لقد أشعل الروائي في القارئ من خلال مشاهد تعذيب "شيماء" واغتصابها؛ بركاناً من الغضب لم يهدأ حتى مع انطفاء الشهوة الشيطانية للضابط السفاح "فلاح"؛ فهذا الضابط ظهر غارقاً في عقده النفسية التي فرّغها في عائلة "السيد عبد الرزاق الموسوي"؛ ولذلك فشخصيته تمثّل وحشية النظام المتسلط المشحون بكل أنواع القمع. لقد اغتُصِبت "شيماء" أمام عيني والدها "أبي عادل"، الذي مات قهراً وحرقةً على فلذة كبده ابنته الشابة الجامعية المثقفة، بعدما شاهد العبث بجسدها، ولم يقوَ على تحمُّل أقسى أنواع الوجع الذي قد يفجع به المرء في حياته: (مات السيد الموسوي... أسلم الروح المتعبة. أغمض عينيه على صورة ابنته البائسة... العارية.. ينهش بها بواسل الحزب والثورة. رجعت روحه إلى ربّها.. وهي تنوء مثله... تحت عبء الشكوى)(24).

ولكن؛ على الرغم من قساوة مشهد الاستلاب الروحي، إلّا أنّ الروائي صوّر "شيماء" بمشهد القوّة، وكأنّه تمرّد على قلمه وصوره المرئية في أثناء الكتابة، فحاول أن يخلق مشهداً آخر ونهاية أخرى، ولكنّ الواقع الذي عكسه في سرده كان أقوى من نصرة المظلوم وأقسى من النهايات السعيدة التي نشهدها في الروايات الرومانسية الخيالية؛ فالتمنيات غلبتها شدّة القهر الناتج من مجتمعٍ يئنّ ويصرخ وجعاً وألماً. فبقيت "شيماء" تُصارع انتهاك حرمتها وسترها وجسدها النحيل حتى آخر رمقٍ، وفارقت الحياة بشموخٍ ممزوجٍ بتسليمٍ رباني لقدرها، وبإيمان أبدي بأنّ دماءها ستروي أرض العراق، وتصبح هي الأسطورة المخلّدة في عمق الذاكرة: (بعد قليل ستننعش هذه البقع بدمي الجديد... ابتسمت، وقالت هامسةً بلهفةٍ وارتجافٍ عظيمين بعدما قرأت الشّهادتين)(25). ولذا، فإنّ مشهد الاغتصاب ومشاهد تعذيب العائلة تُشبه مشهديةً ملحميةً تراجيديةً نهايتها كانت كارثية: (مقبرة جماعية تضم رفات مئات المعدومين... قذفوا بالجثث بما بقي عليها من ملابس مصبوغة بالدم... في حفرة أعدّت سلفاً.. كأنّهم يقذفون بأجساد حيوانات ماتت بوباء معدٍ...)(26).

ويُشكّل المكان الروائي أبعاداً ومفاهيم فكرية تعبيرية قبل تشكيل الكاتب معالمه الهندسية ورسمها؛ إذ يتميّز المكان الروائي باختلافه (عن الفضاءات الخاصة بالسينما والمسرح، أي كل الأماكن التي ندركها بالبصر أو السمع، إنّه فضاء لا يوجد سوى من خلال الكلمات المطبوعة في الكتاب، فهو يتشكّل كموضوعٍ للفكر الذي يخلقه الروائي بجميع أجزائه)(27). والمكان الأبرز في الرواية الذي أفرغت فيه كل صور القهر هو مركز التحقيق؛ إنّه مكان منغلق، مظلم، مهجور، يشبه القبر (لا مناظر في ذلك المكان، لا نبتة ولا زهرة، ولا طائر، لا مناظر سوى الوجوه الشاحبة ومناظر الأجساد الناحلة الضعيفة القوى، الزنزانة أشبه بالقبر، لا لون لها، ولا نافذة... توزّع على الجموع أكواب العدس المالح، لكلٍّ رغيفٌ مرَّ عليه الزمن مصبوغ ببقع من زرقة العفن... الحمامات قذرة، ضيقة يسمح بارتيادها... يستحمّون بماءٍ عفنٍ بلا صابون، ويعيدون ارتداء ثيابهم ذاتها، الثياب التي ارتدوها منذ أول دخولهم إلى ذلك العالم)(28). فالوصف هنا يمثّل مفاهيم أساسية في وصف الواقع الاجتماعي، وفي الأحكام الثقافية والأخلاقية، وفي التصنيفات الأيديولوجية؛ ففي هذا الوصف تكون الاستعارات المكانية حاضرةً بتقاطباتها في المجال السياسي، فنجد التقاطب ما بين اليمين واليسار، وفي المجال الاجتماعي نجد التقاطب ما بين الرفيع والوضيع. فهذا المكان بكل قذارته وضيقه وظلامه يشبه قاطنيه من مخابرات النظام، على عكس البيت النجفي الجميل برائحته العطرة واتساعه وعراقته. فالمكان يأخذ تارة شكل تدرّج هرمي سياسي ـــ اجتماعي يؤكّد تضاد السمات بين تلك التي تقع في قمة الهرم (الرفيع)، وتلك التي تقع في أسفله (الوضيع)، (وقد تتخذ هذه السمات شكل تضاد أخلاقي يقابل بين "اليمين واليسار"، وتنتظم في شكل نماذج للعالم تتسم بسماتٍ مكانيةٍ واضحةٍ.. (من قبيل) المهن أو الأنشطة "الدّنيئة" و"الرّفيعة")(29).

أُقفل ملف مقتل العائلة وتعذيبها الوحشي بكل برودةٍ في مركز التحقيق في ذاك النهار الأسود، إلّا أنّ هذا الملف أصبح وثيقةً دهريةً سجّلت بدماء الشهداء الأبرار الإجرام والهمجية والشّراسة عند مؤسسات النظام الأمنية، ولكنّ هذه الوثيقة ستُفتح مع كل بزوغٍ جديدٍ لشمسٍ غيّرت وجهة شروقها في البيت النجفي.

إذاً؛ برزت صورة القهر في هذه الرواية وتعددت أوجهها؛ فعكست وحشية رجال النظام البعثي تجاه هذه العائلة النجفية التي كابدت كل أنواع العذاب وهتك الحرمات، فعالجها الكاتب علي المؤمن بأسلوب روائي هادف، وقدّم طروحاته وانتقاها من الأحداث التي تنتاب المجتمع العراقي. وقد تتبّع في عرضه المآزم الإنسانية كلّها، لتصبح هذه الرواية جسر عبورٍ نحو عملٍ مكتملٍ يُصوّر الجراحات العراقية وتشظياتها المؤلمة، ويحمل في طياته دراما روائية نادرة تستحق الغوص في أغوارها الغنية بالدلالات، بالإضافة إلى تميّزها باللغة الشعرية الممتدة على مساحة السرد؛ وهي لغة لا تتكئ على الصور التقليدية الجامدة، بل لغة مبتكرة قادرة على الإيماء بعيداً من المباشرة والتكرار والابتذال؛ فلغة "عروس الفرات" راقية منمّقة، تأخذنا باتجاه الحيّز الزمكاني الذي يخدم الأحداث، وتنمو في ظله الشخصيات. لقد اجتمعت عناصر السرد جميعها وتآلفت منسجمةً لتأتي بهذا العمل المميّز الذي يأسر القارئ، ويأخذ به إلى مصافٍ من الدهشة والإعجاب.

***

د. رفاه معين دياب

(اكاديمية وأديبة لبنانية)

.................................

قائمة المصادر والمراجع:

أولاً: المصادر:

1-المؤمن، علي، عروس الفرات، مؤسسة الرسول الأعظم العلمية، النجف الأشرف، العراق، دار روافد، بيروت، لبنان، ط2، 2017.

ثانياً: المراجع:

1-أبو نضال، نزيه، تمرّد الأنثى في رواية المرأة العربية وبيبلوغرافيا الرواية النسوية العربية (2000-1885)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2004.

2- أيوب، نبيل، البنية الجمالية في القصيدة العربية الحديثة، المكتبة البولسية، جونية، ط1، 1991.

3- أيوب نبيل، نص القارئ المختلف وسيميائية الخطاب النقدي (2)، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011.

4- بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، (الفضاء- الزمن- الشخصية)، بيروت المركز الثقافي العربي، ط1، 1996.

5- بو عزّة، محمد، تحليل النص السردي، تقنيّات ومفاهيم، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ط1، 2020.

6- حجازي مصطفى، التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط13، 2018.

7- حمزة، مريم، الأدب بين الشرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، بيروت، لبنان، ط1، 2004.

8- فضل، صلاح، نظرية البنائية في النقد الأدبي، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط3، 1985.

9- الحمداني، حميد، بنية النص السردي، من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط3، 2000.

10- الموسى، أنور، عِلم الاجتماع الأدبي: منهج سوسيولوجي في القراءة والنقد، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط2011.

ثالثًا: المراجع المعرّبة:

1- باشلار، غاستون، جماليّات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1984.

2- جنيت، جرار، حدود السرد، ترجمة: بنعبسي بو حمالة، ضمن كتاب طرائق تحليل السرد الأدبي.

3-غرييه، آلان روب، نحو رواية جديدة، ترجمة: مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف بمصر، (دون سنة الطبع).

رابعاً: المراجع الأجنبية:

1-J. LDumortieret F.plasanet: Pour lire le récit.Ed.Duepot,1980.

2-Lucien Goldman: pour une sociologie du roman, idée/ Gallimard, 1973

3-M. Klein et Joan rivere, l’amour et la Heine, paris, P. B. Payot,1972.

خامساً :المعاجم اللغوية:

1-ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: معجم لسان العرب، المجلد الحادي عشر، بيروت، لبنان، دار صادر، بيروت، ط1، 2008.

سادساً: الدوريات:

1- لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفني، تقديم وترجمة: سيزا قاسم، مجلة عيون المقالات، العدد 8، 1987.

هوامش

(1) حمزة، مريم، الأدب بين الشّرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، بيروت، لبنان، ط1، 2004، ص:36.

(2) أيّوب، نبيل، البنية الجماليّة في القصيدة العربيّة الحديثة، المكتبة البولسيّة، جونية، ط1، 1991، ص: 23.

(3) الموسى، أنور، عِلم الاجتماع الأدبيّ، (منهج سوسيولوجيّ في القراءة والنّقد)، دار النّهضة العربيّة، بيروت، لبنان، ط2011، ص: 46.

(4) فضل، صلاح، نظريّة البنائيّة في النّقد الأدبيّ، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط3، 1985، ص: 177.

(5) Lucien Goldman: pour une sociologie du roman, idée/ Gallimard, 1973, p: 22.

(6) بحراوي، حسن، بنية الشّكل الرّوائيّ، (الفضاء- الزّمن- الشّخصيّة)، بيروت المركز الثّقافيّ العربيّ، ط1، 1996، ص: 34.

(7) أيّوب نبيل، نصّ القارئ المختلف وسيميائيّة الخطاب النّقديّ (2)، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011، ص:13.

(8) -حجازي مصطفى، التخلّف الاجتماعيّ، مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، ط13، 2018، ص:199.

(9) المؤمن، علي، عروس الفرات، مؤسّسة الرّسول الأعظم العلميّة، دار روافد النّجف الأشرف، العراق، ط2، 2017، ص:7.

(10) بوعزّة، محمّد، تحليل النّصّ السّرديّ، تقنيّات ومفاهيم، الدّار العربيّة للعلوم، بيروت، لبنان، ط1، 2020، ص:121.

(11) جنيت، جرار، حدود السّرد، ترجمة بنعبسي بو حمالة، ضمن كتاب طرائق تحليل السّرد الأدبيّ، ص: 75.

(12) باشلار، غاستون، جماليّات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، ط2، 1984، ص: 31.

(13) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:26.

(14) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص: 50-51.

(15) غرييه، آلان روب، نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف بمصر، (دون سنة الطّبع)، ص: 160.

(16) لحمداني، حميد، بنية النّصّ السّرديّ، من منظور النّقد الأدبيّ، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، ط3، 2000، ص: 77.

(17) M. Klein et Joan rivere, l’amour et la Heine, paris, P. B. Payot,1972,p:51.

(18) ابن منظور، جمال الدّين محمد بن مكرم: معجم لسان العرب، المجلّد الحادي عشر، بيروت، لبنان، دار صادر، بيروت، ط1، 2008، ص56.

(19) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:55-59.

(20) المصدر نفسه، ص: 57-58.

(21) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:60.

(22) -J. LDumortieret F.plasanet: Pour lire le récit.Ed.Duepot,1980.p:12.

(23) أبو نضال، نزيه، تمرّد الأنثى في رواية المرأة العربيّة وبيبلوغرافيا الرّواية النّسويّة العربيّة (2000-1885)، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، ط1، 2004، ص: 25.

(24) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص: 211-212.

(25) المصدر نفسه، ص:215

(26) -م. ن، ص: 217.

(27) بحراوي، حسن، بنية الشّكل الرّوائيّ ص: 27.

(28) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:197-198.

(29) لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفنّيّ، تقديم وترجمة سيزا قاسم، مجلّة عيون المقالات، العدد 8، 1987، ص:69.

استبدالات البناء القصصي وأسانيد الحبكة المخاتلة.. دراسة في تراث إدغار ألن بو القصصي

مهاد نظري: إن إمكانية التقانة الاستبدالية في استعمال سنن العوامل والصياغات في ممارسة التشكيل في منحنيات المتن القصصي، كانت من الوازم الدلالية والبؤروية التي من شأنها حفظ للنص بكامل أدواره الايحائية والقصدية، وصولا إلى ذلك الزمن المتماهي وحدود تقلبات الغاية الوظائفية المتعينة في واردات النص الحكائية والخطابية.لذا علينا ونحن نهم بقراءة نصوص (إدغار ألن بو ) تحديدا التريث في مجال تشوفاتنا التمهيدية لموضوعة النص السياقية وشواهدها الملتبسة في محاور الحكي.تواجهنا قصة (الصندوق المستطيل) بهذا وبذلك النحو من ملامسات مقدمتنا الاستهلالية في معرفات القيمة الجمالية والبنائية والدلالية في أدب بو القصصي. إذ ترانا نتعرف منها على ملامح خاصية إيحائية من منظومة (الاستبدال العاملي) وهذا النوع من خصوصية الاستبدال ذا أسلوبية مارسها بو في العديد من تجاربه القصصية السالفة، التي اتخذنا منها مواضعا للدراسة والمعاينة سابقة.غير إن الإمكانيات الوظائفية في كل حالة موضوعية جديدة، تفرض لذاتها شكلا خاصا من الأدوات الضمائرية والنحوية والاشارية والزمانية والمكانية والعاملية والتمثيلية إجمالا.لذا تجد أن المرحلة الأولى من بنية القص السارية على حال لسان السارد العليم، تنتج لذاتها ذلك الوازع الادواري المنقسم بين (شخصية ــ سارد) وبما ينسجم مع ملامح أوجه الأسباب التلفظية والتخاطبية من ردود وتوجهات خاصة في مسار الأفعال والصفات والزمن المحكي الممتد فوق أرضية متقلبة في سكناتها وتواتراتها المكانية.

ـ الزمن إيقاع تصاعدي في سياق الفعل الشخوصي

تبادرنا المؤشرات العتباتية من مبنى الاستهلال النصي، بذلك الصوت الرائي الذي راح يختزل المفكرة الزمنية ـ المكانية في ذاته، بالموازاة مع التوكيدية عبر رحلته على ظهر السفينة قبل موعدها بعدة أيام.وهذا الأمر ما جعله ذا صورة متوترة في موقفه من غرابة تأجيل موعد الرحلة على ظهر السفينة، كما أن موعدها من خلال ذلك القبطان المدعوـ هاردي ـ.وعلى هذا النحو الغريب من الشخصية العاملة هو على ما يبدو عليها أنها تتعجل حدوث الأمور، حتى وإن كانت أحيانا في غير ضرورتها، هكذا نعاين الوحدات قاب قوسين: (منذ سنوات خلت قمت برحلة بين شارلستون ومدينة نيويورك على ظهر سفينة أسمها ـ الاستقلال ـ بقيادة الكابتن هاردي.كان مقررا أن نبدأ رحلتنا في الخامس عشر من حزيران، إذا كانت حالة الطقس مؤاتية.. صعدت قبل موعد الرحلة بيوم واحد إلى السفينة لأتعرف على غرفتي أجري فيها بعض الترتيبات عرفت أنه سيكون على ظهر السفينة عدد كبير من الركاب بينهم كثير من السيدات خلافا للمعهود في أمثال هذه الرحلات. / ص105 النص القصصي) هناك ثمة بديهيات قد يظنها القارىء في بادىء النص، خصوصا وأنها تتعلق ببداية قصصية شكلية العرض ليس إلا:فما كان واردا في عتبة المستهل يبدو عليه بوضوح، أنه حالة نمطية من غاية استهوائية لدى ضمير السارد الشخصية الحاضرة واللاحاضرة في النص، غير إن مهام واصلات سردها المؤشري قد يعني لنا الكثير من الاعتبار والنمو والتلميح إلى ملامح حسية في مبنى المضمر من طبيعة السرد.الشخصية يتابع وجود قائمة أسماء المسافرين في رحلة السفينة، وقد لمح أسم الفنان ـ وياط ـ ذلك الرسام الشاب صديقه الأعز منذ عقود من زمن الدراسة: (وقد أسرني وجود أسم السيد كورنيلوس وياط على اللائحة./ص105 النص القصصي) كما أن جملة التفاتات الشخصية الساردة، يمكن ملاحظتها حول زخم وجود أسماء السيدات فوق مكتوب اللائحة، الأمر الذي لم يعتد لمثله في رحلاته السابقة.طبقا أن من ملامح الخيوط الأولى في النص ما جعلها ـ بو ـ محتكمة اتصالا ومحددات المتن النصي، أي كحال ما تعنيه كل هذه الحشود من النساء في هذه الرحلة تحديدا، كذلك ما صار معولا عليه من قبل الشخصية في ذكر أسم ذلك الفنان الشاب وسرد مزاياه وصفاته الخلقية ومدى نبوغه في فن الرسم.أعتقد من جهتي الشخصية أن ألن بو يسعى منذ أول بواكير نصه إلى فرز وشد خيوط علاقات نصه العاملية، حتى وأن كان أمرها لحد الآن محض آلية عرضية في غاية الاستعمال التقديمي.

1 ـ العلاقة المكانية وإشكالية المكان الإضافي:

تزعم لذاتها الجملة المكانية في فضاء النص، ذلك الوازع المأهول بأشد التساؤلات والقلق والحيرة، وأحيانا الترقب لذلك المكان الموصوف بـ (المكان الإضافية!) ومن ثم الإصرار من قبل الشخصية الساردة حول كهنها وما كيفية دورها في الإنابة العاملية من قبل ساكنيها.لقد حجز الفنان وياط وزوجته وأختيه ثلاث غرف: (كانت غرف السفينة واسعة، في كل منها سريران الواحد فوق الآخر.ومع أن أسرة السفن ضيقة عادة يستحيل أن الواحد منها لأكثر من شخص.فلم أفهم تماما حاجة الأشخاص الأربعة إلى ثلاث غرف./ص105 النص القصصي) ويتسع مسار (الإشكالية في ذلك المكان الإضافي؟) أو لربما هو حالة قد لا تستدعي من السارد الشخصية الاهتمام بها إلى هذا الحد، خصوصا وأن للرسام أعمالا مثيرة في فن الرسم، قد يكون مؤكدا بأن لهذه الغرفة خاصية ما لضم هذا النوع من أعمال الفنان، لذا راح يبقي لنفسه وزوجته غرفة لهما وإلى أختيه غرفة، قد تكون هذه بالضبط ما يود السارد الشخصية الوصول إليه من إجابة حاسمة حول مؤشر تساؤلاته الملحاحة حينذاك: (لم يكن الأمر يعنيني بالطبع..لكن ذلك لم يصرفني عن عزمي على إكتشاف اللغز..أخيرا توصلت إلى نتيجة جعلتني استغرب كيف لم أكتشف السر بسهولة ـ ترافقهم خادمة ولا شك ـ قلت مخاطبا نفسي./ص105 النص القصصي) ثمة أسانيد أخرى كانت تدعم حجج الشخصية الساردة بأفكار ناتجة عن مزاج مضطرب أو أنه غير مهيأ سببيا إلى معرفة حقيقة الأمر.لقد حاول إدغار أن يضع قارئه في الاتجاهات المخمنة من حاصلية النتيجة، ولكن فاعلية التمويه كانت أقدر على حجب جل الحلول المقترحة من قبل سارده العليم.هناك فئة من الكتاب ممن يمارسوا أفعالا غريبة في أبطال رواياتهم أو قصصهم، فعلى سبيل المثال كان (وليم فوكنر) ومن خلال رواياته وقصصه القصيرة، لاحظنا بأنه لا يثق برواة نصوصه، كحال قصة بطله توماس سوتبن، فقد كان فوكنر يدفع قراء نصه إلى إعادة تشكيل القصة بأنفسهم.وإن قصة سوتبن التي يمكن أن تكون أقرب إلى حقيقة شخصيته ووقائع حياته الفعلية ربما كانت هي التي يقوم برويها شخص غريب تماما لا يعرف سوتبن مطلقا./ المصدر: قراءة الرواية ـ روجر . ب .هينكل .وأنا أقول من جهتي مؤكدا لعل السارد الشخصية أحيانا لا يبدو أمينا في نقل كل تطلاعاته واتساق مشاهداته التصديقية والتخمينية، فلربما من جهة ما كان ذلك الفنان يحلو له الجلوس في أواخر الليل وحيدا مع لوحاته التي جلبها معه على ظهر تلك السفينة، أو لربما كانت تربطه علاقة حميمية مع الخادمة ذاتها بعيدا عن أنظار زوجته القادمة معه في الرحلة ذاتها وفي الغرفة التي تجمع الاثنان مع بعضهما البعض.لذا ليس من المؤكد أن يضع ذلك الفنان بعض من لوحاته التي لم ينتهي من رسمها داخل غرفة تدافعها الأمواج من كلا الجهتين، لأجل أتمامها على أحسن وجه؟: (كنت أعرف أختي وياط معرفة جيدة..كانتا فتاتين حلوتين ذكيتين:أما وياط فقد كان حديث العهد بالزواج ولهذا لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته.لكم تحدث في حضوري بطريقته الحماسية المعهودة.كان يصفها بالجمال الخارق وسرعة البديهة والمهارة، لهذا كنت شديد الرغبة في التعرف عليها./ص106 النص القصصي) .

2 - الوظيفة التكميلية في التركيز وجلب الأطراف النصية:

أن ما يمكننا ملاحظته في أسلوب القص لدى ألن بو، هو الشروع بعملية (الوظيفة التكميلية) تتبعها لاحقا المؤديات الاستخدامية في دلالة (التركيز) وصولا إلى زمن وحدات (جلب الأطراف النصية) بما معناه خلوصا، أن بو يستثمر جميع العلاقات الطرفية المخبوءة في خلفيات النص كحال الوحدة (كانت أختي وياط) أو وحدة (كان حديث العهد بالزواج) أو الأخرى (لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته) فمن شأن هذه الوحدات مثالا، هو التهيئة أو استكمال غائية التركيز حول الأسباب العلائقية التي توفر إلى زمن الحبكة ذلك الشد الذروي عندما تتوفر لاحقا الجملة النادرة من فعل التبئير أو العقدة النصية.إذن السارد كان يعلم بأن زوجة وياط على درجة كبيرة من الجمال وأيضا كانتا أختي وياط على درجة من الذكاء والفطنة، لهذا السبب فهو يبحث عن فرصة استكمالية تتيح إليه التركيز في جلب الأطراف المتكونة من وياط وأختيه مع ما قيل عن جمال زوجته من خلال وياط زوجها، وهكذا تتم عملية الربط والفرز والمقارنة والخلوص إلى النتيجة المقنعة بأن أسرة وياط متكاملة في مظهرها الخارجي والداخلي حتما: (بعد عشرة دقائق من وصولي أطل وياط وأهله ـ الأختان والعروس، وبدا لي أن وياط يجتاز إحدى نوبات تجنب الناس.كنت قد اعتدت مثل هذه الحالات من صديقي، لذا لم أعرها أي اهتمام.أما هو فلم يحاول أن يقدمني إلى زوجته ـ فاستدركت أخته ماريان الأمر، وكانت فتاة جميلة جدا وذكية ـ وقدمتنا الواحد إلى الآخر بكلمات سريعة ـ كانت السيدة وياط تضع على وجهها قناعا محكما./ص106النص القصصي) .

3 ـ مزايا حجب الهوية في مجريات أفعال القص:

يحاول القص إخفاء المؤديات السردية التي تتضمنها العوامل الشخوصية في زمن تماثلات الأحداث الفعلية.إي بمعنى ما هناك إشكالية ما في الأدوار العاملية تحديدا، خصوصا فيما يتعلق والشخصية وياط وسلوكياته المتغايرة إزاء نفسه وصديقه والناس، فهو على ما يبدو شخصية مأزومة في محدثات واقعها الجديد الذي يصبو على أنه ليس ذلك الشخص الذي يعرفه السارد المشارك:أهناك خطب ما في الأمر؟كان السارد الشخصية ممن يعرف وياط كونه مرحا وشفافا في كل أحواله الخاصة والعامة فماذا قد جرى؟.ومن أجل الإحاطة بمتغيرات هذا الفنان المرح من قبل أنا السارد المشارك.نتعرف في فقرة لاحقة على مواجهة السارد الشخصية لزوجة وياط وجها لوجه، الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة في نفسه، وذلك لكون ما تعرف عليه في وضع السيدة وياط، راح يخالف مزاعم زوجها الفنان الذي كان يزعم لها كل ملكية ذلك الجمال الآسر: (عندما رفعت القناع لترد، على تحيتي لم أتمالك نفسي من الدهشة ـ ولو لا أن تجاربي علمتني أنه ليس من الحكمة التسليم بآراء وياط في كل ما يتعلق بجمال النساء لكان تعجبي يفوق هذا الحد.كنت علم تام بأية حرارة يندفع صديقي في إغداق الأوصاف المثالية حين يكون الموضوع متعلقا بالجمال..في الحقيقة أنني رأيت السيدة وياط عادية جدا إن لم أقل بشعة أو على الأقل قريبة من البشاعة./ً106النص القصصي) وما يتكرر عادة في ذهن السارد المشارك هو عدم ملاحظته على وجود الخادمة مع قدوم الأسرة في رحلتها، وهذا الشك بدوره ضاعف من يقين الشخصية بأن هناك من إشكالية ما في علاقة وياط بزوجته هذه، وهذا الأمر ما قاد ظنه أيضا بعدم جدوى تلك الغرفة الإضافية: (بعد قليل وصلت إلى الميناء عربة تحمل صندوقا من خشب الصنوبر ذا شكل مستطيل.وبدا لي أن هذا الصندوق هو الشيء المنتظر..بعد وصوله أقلعنا فورا ولم يطل بنا الوقت حتى أصبحنا في عرض البحر./ص107 النص القصصي) .

4 ـ غيبانية محتوى الصندوق وتضاليل العنوان البريدي:

في مسار مركبات البناء القصصي يمكننا الوقوع على أساليب أكثر اختزالا فيما يتعلق وخصوصية المساحة الضيقة للقصة القصيرة.ولكننا لا يمكننا العثور على قصة قصيرة دون مضاعفة رمزية أو إيحائية أو حتى مونتاجية، لكن بشرط عدم الإخلال بضوابط الزمن المضغوط للنص نفسه، وما يتيحه هذا الضغط من خطية ملغزة في موضوعة القصة.قد تكون عوالم الروايات واسعة من حيث الانفلات الزمني والمكاني والشخوصي، ولكنها من ناحية الموضوعة وأبعادها الدلالي لا تقترب شبرا واحدا من صعوبة وعقدة الموضوعة القصصية القصيرة، ذلك لأن الخط السردي في القصة يحتمل ملازمات فجائية في أحوال التكوين النصي، إذ لا يمكننا قراءة قصة دون عملية التفكر والتوقف حيث تأملها الذي يتطلب زمنا يتعدى قراءة فصلا كاملا في رواية ذات القطع المتوسط.على أية حال نعود إلى موضوعة قصة (الصندوق المستطيل) لنفهم من وراءه بعض المؤشرات التقديرية في ما يحتويه من حالات فعلية وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تخمينات ـ السارد الشخصية ـ حيث ظن ما فيه حينا نسخة من لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو وحنيا آخر راح يفكر في سبب عدم وضع الصندوق في تلك الغرفة الإضافية: وأنما ويا للعجب أخذ ذلك الصندوق لنفسه مكانا في غرفة وياط: (أن الدهان الذي أستعمل لكتابة العنوان كان يشيع رائحة مزعجة، لا بل رائحة أحسست أنها كريهة.لقد كتب على الغطاء بحروف كبيرة الكلمات التالية: (السيدة ديليد كورتيس ـ الباني ـ نيويورك، بواسطة كورنيلوس وياط، هذا الوجه إلى فوق، الرجاء نقله بعناية؟./ص107 النص القصصي) ما ينبغي علينا ملاحظته هنا أن السارد الشخصية كان يعلم بأن السيدة كورتيس هي والدة زوجة وياط، ولهذا المعنى يتضح أن العنوان ليس تضليلا، وإنما كان مكتوبا بطريقة صحيحة ودالة.

5 ـ التعاقب الزمني وإبطاء صراع دائرة المحاور:

أن القارىء إلى مراحل الزمنية في النص، لربما سوف يلاحظ، بأن (الفضاء القصصي) يمر بدورة تعاقبية زمنية تتابعية بحتة، أي المحكي في النص مسبوغا بطرائق تتابعية خطية في التجسيد والتمثيل.أما فيما يتعلق و مسار النص فقد أضحى السارد المشارك وشخصية وياط في عملية صراعية دائبة.فالأول المتمثل بالسارد المشارك هو من يبحث عن حقيقة محتوى الصندوق، أما الثاني وهو وياط فهو المبتلى الأول والأخير بشعلة الصراع كله.وعلى الرغم من ظهور بعض الأعراض الغريبة على الشخصية وياط كحالات ضحكاته الهستيرية في أمسية ما مع شخص السارد، ما أدى الأمر به إلى السقوط أرضا مغشى عليه..وإمام كل هذا فلم يتوقف السارد المشارك عن محاولة البحث عن الأسباب التي تكمن وراء اعتزال الأختين وياط في غرفتهما دون الاختلاط بأحد من المسافرين، أو ذلك الخروج للسيدة وياط عند منتصف الليل: (بينما كنت مستيقظا في فراشي رأيت السيدة وياط بكل وضوح تخرج بحذر من غرفة زوجها حوالي الساعة الحادية عشرة، تسير ببطء وعلى رؤوس أصابعها ثم تدخل الغرفة الإضافية الفارغة حيث تبقى حتى طلوع الفجر، حين يذهب زوجها ويوقظها فتعود معه إلى غرفته./ص109 النص القصصي) قد يلوح لنا هذا التحول السردي المفصلي من أجزاء الوحدات السردية، بأن عملية إبطاء الصراع بصورة ضمنية، ما راح يخول مسار النص على استيعاب قيمة زمنية لا يمكن لنا سبر غورها، خاصة وأن تجليات المواقف غدت أكثر مأزومية وإلتباسا:فما وراء خروج الزوجة ليلا نحو تلك الغرفة التي كان الأحرى بالصندوق أخذ مكانه فيها طالما هو لا يحتوي سوى على لوحة العشاء الأخير ربما؟هل الزوجان منفصلان مثالا، وهذا ما يبدو ظاهرا ولو بشكل نسبي؟أليس وياط ذلك الفنان الذي عشق جمال الروح في المرأة لذا خليقا به أن يضحي بكفة عدم جمال زوجته الشكلي والرجحان إلى كفة كفة جمال روحها وأخلاقها على حد تقويم سكان السفينة؟.

6 ـ أسرار الصندوق ومصدر غرائبية الأصوات القادمة:

يمنحنا البعد الحبكوي في حكاية محتوى الصندوق ذلك التولد لمختلف الأسئلة والشكوك والدوافع التخييلية التي قد تجند لذاتها فضاءات رحبة من التوهم وإعادة التفكير بطريقة مريبة.غير أن آليات النص وفتنته بلغت حدا من التمويه والمخاتلة والانعطاف بحقيقة الدلالة إلى دائرة سجالية ظنية محتدمة في نفس السارد المشارك: (هناك شيء آخر أثار اهتمامي لدرجة كبيرة.وهو أنه خلال الليلتين المذكورتين وفور خروج السيدة وياط من غرفة زوجها إلى الغرفة الإضافية تناهت إلى سمعي ـ أصوات غريبة ـ حذرة مكبوتة صادرة من غرفة السيد وياط.بعد أن أنصت طويلا إلى هذه الأصوات وأنا غارق في التفكير فيها، نجحت أخيرا ولو جزئيا في معرفة طبيعتها.كانت ناجمة عن محاولات الفنان لفتح الصندوق بواسطة إزميل ومطرقة صغيرة ملفوفة كما يظهر بشيء ناعم كالقطن أو الصوف كي يختنق صوتها حين الاستعمال./ص110 النص القصصي) قد أبدو أني لم أتحدث عن وحدات (الزمن الترقبي؟) ذلك الزمن الخاص الذي يخول صاحبه إلى الانطلاق في مكونات تصورية هي مزيج من التوهم والتخييل واللهفة الاطلاعية الفضولية في الغريزة البشرية عامة.فحتما ما كان يتصوره هو شكلا من مصاحبة مرحلة طويلة من الانتظار والعيش في أدق دقائق التفحص لكل شاردة وواردة، فهذا النوع من زمن الفعل الترقبي يخلق لدى المرء حالة قريبة من حدوث الأشياء اللامحسوسة واللامرئية وكأنه يراها في محال من التصديق والقناعة.فالشخصية كان يتابع تلك الأصوات القادمة من غرفة الفنان، ولكنه كيف حدس بوجود هذه الوسائل (الأزميل ـ المطرقة) وللغرض التعيني ذاته في فتح غطاء الصندوق.هنا لا يبدو (ألن بو) دقيقا نوعا ما، خصوصا وأن السارد الشخصية لم يكن بجوار وياط في غرفته العلوية، حتى يتاح له التعرف على هذه الأدوات الملفوفة بالقطن أو الصوف، ثم كيف أتاح له تخمين استخدام هذه الأدوات في فتح الصندوق ذاته، وليس ربما أي شيء آخر في الغرفة يتطلب عمل ذلك.ربما أن مصدر الأصوات التي سمعها السارد المشارك هي من غواية ارتطام الرياح فوق أجزاء السفينة أو لربما هناك جرذان تتسلق أحد سقوف الغرف المبطنة؟كل هذا وذاك هي من محتملات مبحثنا النقدي، ولا يجوز إقناعنا بإختلاف حالة دخلية وحشوية لأجل تضييع الفرصة على القارىء بضرورة الفهم والتعيين على ماهية حقيقة تلك الأصوات في مصدرها الواقع.على أية حال أقول أن ورود هذه الوحدة من النص كان بالإمكان أن تتقدم عن موضعها الأخير إلى سابق البدء بالوحدة السابقة عندما بث السارد المشارك بهذا الكلام: (هذا إذا لم تكن الأصوات الأخيرة، ثمرات خيالي ـ أقول أنها أصوات تشبه النحيب أو التأوه ـ لكن بالطبع، لم تكن شيئا من هذا القبيل، أفضل أن أعتبرها أصواتا تخرج من أذني./ص110 النص القصصي) بهذا الشأن يمكننا تقبل معادلة التخمين أو التخييل للشخصية المشاركة، خصوصا وإنها دفعت عن ذاتها وساوس التوهم ورسم التصورات بطرائق أستهوائية عابثة.

- الرياح الاعصارية تغرق السفينة وتكشف سرانية محتوى الصندوق

تتداعى مبررات واسباب الشد الموضوعي في فواعل المتن القصصي، نحو حوادث قاهرة جعلت من سعادة الرحلة إلى مواجيد قلق وشجون وانتظارات إلى المزيد من الناجين من غرق السفينة، بعد أياما وليال من الاعصار والرياح البحرية المرتفعة بالأمواج السوداء.الأمر الذي جعل جميع ركاب السفينة شبه الغارقة تتلاقفهم أحواض قوارب النجاة بعيدا عن جسد السفينة الآيل إلى الغرق رويدا رويدا: (الصندوق !: صرخ وياط وهو ما يزال واقفا - لا يمكنك يا كابتن هاردي، يجب أن لا ترفض طلبي.سيكون ثقله شيئا بسيطا ـ لا شيء ـ مجرد لا شيء.بحق الأم التي حملتك ـ بحق السماء - بحق أمل نجاتك، أرجوك أن نعود للصندوق!.. بدا القبطان لبرهة وجيزة وكأنه تأثر من كلمات الفنان، لكنه استعاد ملامح الجد وقال: إنك مجنون يا سيد وياط..لا أقدر أن أستمع إليك.أجلس، أقول أجلس وإلا ستغرق القارب بنا.قف، أمسكوه ـ أقبضوا عليه ـ إنه على وشك أن يقفز إلى الماء، لقد توقعت..وفيما كان القبطان يقول هذا، قفز السيد وياط إلى الماء فعلا، وبما أننا كنا ما نزال قريبين من مكان الحطام، تمكن وياط بعد جهد من أن يمسك بجبل يتدلى من السلاسل الأمامية للسفينة./ص111.ص112 النص القصصي) من هنا نلاحظ بأن مستوى تضمينات النص قد أخذت طابع قويم من ظاهرة الرمزية المنقسمة إلى ثنائية (الملفوظ ـ تلفظ) وهذا الأخير يتفق ها هنا مع حالة الشخصية وياط التي جعلت منه يدفع نفسه نحو أعماق البحر للوصول إلى حطام السفينة، لأجل بلوغ تلك الغرفة المغمورة بالمياه، لغرض إخراج ذلك الصندوق.وهذه العملية بحد ذاتها تتوزع بين (إرادي ـ اللاإرادي ) أو حتى بين الوعي أو اللاوعي أو التعقل أو الجنون، فبماذا يمكننا تقويم سلوك هذه الشخصية ظاهرا يريد الانتحار في سبيل إخراج ذلك الصندوق ذا المحتوى الملغز..وما حدث فعلا يشبه ما قرأناه في حكايا الأساطير والفنتاستيك وقصص العجائب، عندما ظهر الاثنان (وياط = الصندوق) على حافة مقدمة السفينة ثم جعل وياط رابطا جسده بذلك الصندوق بطريقة محكمة، ثم راح يقذف بنفسه بصحبة الصندوق إلى عمق أمواج البحر غارقا.

ـ تعليق القراءة:

بهذا المنظور المرمز هل يمكننا عد قصة (الصندوق المستطيل) حكاية قصصية ذات فضاءات مغلقة ومحجوبة في نقطة الحسم الانفراجي للمضمون لها ؟أوهل حاول ألن بو على صعيد كل أحداث قصته أن يبلغنا أن قصته ذات النهاية المفتوحة لغزا ملغزا مكينا فيما يتعلق بمحتوى أسرار ذلك الصندوق؟وما مدى أوجه العلاقة المصيرية بين الشخصية وياط وذلك التابوت الخشبي؟أهي محض جملة طموحاته التي دنستها المياه فبعثرت ألوان كل لوحاته التي كان قد سلخ أياما وشهورا في نسيجها على شكل أحلام تجسد علاماته ورموزه الفنية، أيمكن أن يكون قد فضل الموت معها مصيرا؟في الواقع ربما النهاية لا تجانب أي واحدة من تساؤلاتنا بعد أن نعلم حقيقة ما قاله الكابتن هاردي إلى السارد المشارك بعد مرور فترة من زمن ممارسة حياتهما الطبيعية في المدينة: (التقيت الكابتن هاردي صدفة، وتطرق حديثنا طبعا إلى المأساة، وإلى المصير المؤلم الذي لاقاه المسكين وياط عندها عرفت التفاصيل التالية:كان الفنان قد حجز أمكنة لنفسه وزوجته وأختيه والخادمة.وكانت زوجته تماما كما كان يحكي عنها..سيدة رائعة الجمال عالية الإدراك.في صباح الرابع عشر من حزيران ـ اليوم الذي زرت فيه السفينة ـ مرضت السيدة فجأة وماتت.فجن الزوج المسكين من فرط الحزن.لكن الظروف لم تسمح له بأن يؤخر سفره إلى نيويورك.وكان من الضروري أن يحمل جثمان زوجته إلى أمها. والمعروف أنه يصعب على الركاب تقبل مثل هذا الأمر.إذ لو عرفوا بذلك لكان أكثرهم فضل مغادرة السفينة على السفر برفقة جثة./ص112 .ص113 النص القصصي) أن أهمية قصة إدغار ألن بو (الصندوق المستطيل) تمكن في إمكانية خلق الأسباب التمايزية في تغيرات الأحداث، إلى جانب فرادة الفكرة واشتغالات الموضوعة بوسائل محفزة وتشويقية، إذ لا تفارقها جدية تقانة الوصف وبلوغ الخطاب إلى أقصى مراحل الانسجام الدلالي والرمزي والكنائي والأغوائي والنفسي.فوظيفة استقصاء الأحوال من دقائق النفس والأشياء هي المفتاح إلى فتح كل أبواب الكتابة القصة القصيرة بنجاح وكفاءة لا نظير لها.وتبعا لهذا أضيف قائلا:أن عوالم قصص بو هي صياغات نوعية في الرؤية والأفعال الشخوصية ودورها في تحفيز منظور وتقانة (الاستبدال) في أشد اللحظات توصيلا مغايرا نحو قراءة تقتني كنوز النصوص من خلال انفعالات شخوصها مع الادوارالعاملية لها دخولا، بالصورة التي توفر للقارىء جملة ثابتة ومتغيرة من أسانيد الرؤية الحبكوية التي تأخذنا إلى مفاوز ظنونية وجملة تساؤلات مشتتة حول مدى احتمالية تلك الحبكة المخاتلة؟ في فضاء القص، التي راحت توفر لنا إمكانية راجحة من حسن اشتغالها بالبحث في المعنى المحتمل أو انتاج المعنى الآخر الذي هو الصورة المتعددة لأوجه مؤولات الدلالة المركبة في حاضنة النصوص الخالدة على صعيد تصاعد كل الأجيال والعقود الباحثة عن حقيقة ما عليه أدوات وآليات وموضوعة فن القصة القصيرة، التي لم نجد لها من نظير سوى في عوالم هذا العملاق الفذ إدغار ألن بو .

***

حيدر عبد الرضا

شهدت الساحة العربية أحداثا سياسية متعاقبة ومتسارعة أفرزت ما سمي بالربيع العربي والذي طال أكثر من بلد عربي ابتداء من تونس وانتهاء بسورية. حيث كان الشارع فيها نقطة انطلاق لثورات نادت بسقوط الأنظمة. فجاء القتل والتدمير والنزوح ولجوء الشعوب إلى بلدان أخرى وما رافق ذلك من مشاعر تمزق للهوية وفقدان الذات على أرض جديدة تنكرت لهم وتنازلت عن مخيمات حُشروا فيها تفتقر لأقل الحاجات الآدمية.

ومسألة الهوية من الموضوعات الهامة التي شغلت بال الروائيين. حيث أن الرواية هي الأقدر على التعبير عن الواقع المعيش في أوطاننا الممزقة والاقتراب من الذات العربية والوقوف على إشكالية الهوية.

ونحن أمام عمل جعل من الهوية مادة أساسية له حيث نجد الكاتبة براءة الأيوبي قد تفاعلت مع الواقع وجعلت عملها أرضا خصبة طرحت من خلالها موضوع الهوية والذات وتأثيرات الحرب واللجوء على الشعوب دون ذكر للبلد الذي دارت فيه أحداث الربيع العربي أو حتى ذكر للبلد المضيف.

والهوية في علم النفس صورة الشخص عن ذاته، كما تمثل التساؤلات التي يطرحها الشخص للبحث عن كينونته وهويته، ولا تحدد الهوية إلا من خلال البيئة والوسط الذي نشأ فيه من خلال الانتساب إلى مجموعة يتشارك معها الميول والتطلعات والأفكار والعادات والتقاليد. وتعتبر الهوية الفردية محور الدراسات في علم النفس بعكس علم الاجتماع الذي يهتم بالهوية الجماعية.

وبينما الذات وعي فردي فالهوية وعي جماعي والوعي بالذات يرتبط بالوعي بالهوية والانتماء، فنحن لا نعي ذواتنا إلا من خلال الهوية ولا تتكون الهوية إلا من خلال هذا الوعي.وكل اختلال في الذات يحدث إضطرابا في الهوية.

وقد جاءت رواية حياة ترف للكاتبة الأيوبي، الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون، لنقل الانكسارات النفسية لتلك الشريحة المهمشة من اللاجئين المنخرطة رغما عنها في تيه فقدان الوطن والذات وبالتالي الهوية، وسط رفض الواقع لهم في بلد يعاني أزمات اقتصادية ليجدوا الآفاق أمامهم مسدودة وبلا هوية.

صنعت الأيوبي من أسرة صقر والد ترف أنموذجا مصغرا ليمثل بمعاناته وانكساراته وصراعه النفسي آلاف النماذج التي مرت في الواقع بنفس الظروف وأكثر لشعوب عاشت مأساة الحرب وتيمة الحرب شوهت ذوات هذه الشعوب وجعلتها متشظية تائهة تشعر بالنقص وعدم الانتماء، ذوات متأزمة مشوشة الرؤية يئجعلها جحيم الحرب تبحث عن أوطان جديدة تحتويهم وترمم تصدع ذواتهم. ففي ص66على لسان ترف( يا إلهي كم هي بعيدة هذه الحدود، وكم هو كبير ذلك الحلم المعلق خلف عتباتها.. هناك سنستعيد ذاتنا التي كانت، سنرمم أمنياتنا).

وحيث أن الأسرة هي الوطن الأول الذي تنتمي له ذواتنا ونستمد منه هوياتنا فإن أي خلل في التنشئة تفرز عقدا وأزمات نفسية تبقى ملازمة لتلك الذوات وبالتالي تدخل الشخصية في حالة اغتراب وهو شعور نفسي وليس مادي يبعدها عن واقعها ويجعلها تائهة حائرة، دائمة العزلة حتى عن أقرب الأشخاص منها وهو أشد أنواع الاغتراب تأثيرا على الذات..  وهذا ما سيجده المتلقي لرواية حياة ترف حيث البادية هو المكان الأول الذي احتضن بداية الأحداث حيث الحياة البسيطة والسعيدة التي عاشتها بطلة العمل ترف في ظل والدها صقر ووالدتها نوف إلى أن يحل يوم الرحيل بعد أن فقد البلد أمنه بسبب انتشار عصابات مسلحة تقتل وتنهب وتغتصب ولا تعرف الرحمة طريقا إليها فيلجأ صقر والد ترف إلى اتخاذ قرارا صعبا وهو مغادرة الوطن وترك كل شيء إلى أرض جديدة نشدانا للآمان. ففي ص41 على لسان ترف تتحدث عما سمعته من رجال القرية الذين اجتمعوا في بيتهم (كلمات مبعثرة وسط أحاديث طويلة تمكنت من التسلل إلى مخدعي فدكت هدأتي وأوردتني في هلع: عمليات سلب..  مسلحون..  ارتحال). وفي ص68( مسلحون، عمليات خطف واعتقال .. منازل مدمرة، كلمات سمعتها تتردد مفادها أن ثمة مارد مجهول الهوية يتربص بالأهالي في كل مكان من أرض الوطن ولا وسيلة لصرفة أو التخلص منه سوى بالفرار السريع).

تتكرر إشكالية الهوية طيلة صفحات الرواية تعبيرا عن أزمة الذات والوطن وكانت هذه الإشكالية تتصل مع البطلة ترف التي تعيش حالة انفصال مع ذاتها وهويتها فوالدها المشلول الذي كان موضع ثقتها وتبعته دون خوف عند الرحيل أصبح اليوم عاجزا مشلولا على كرسي متحرك ينزوي عن العالم في زاوية منزل الصفيح كأنما يهرب من الواقع ففي ص205 تصور والدها وما أصبح عليه من لا مبالاة بسبب وضعه (ولكن ثمة أزمة نفسية سلبت منه وهج الحضور وجعلته يتوارى خلف جدار الصمت الثقيل.. بات يرى بؤس أمي.. فينغمس في عمق مأساته متناسيا أوضاعها). وقد أبرزت الكاتبة العلاقة بين الأبناء والأمهات التي كانت تتميز سابقا بالحب والاحترام والعطف وانقلبت بعد اللجوء إلى نفور وجلد للآخر لأقل زلة ففي ص156-157 على لسان ترف (هذا ليس صوت أمي ولا تلك نظراتها! حتى كلامها الثقيل بدا لي وكأنها استعارته.. وهي تلعن وتشتم .. بعد سطوة هذه الكلمات شعرت أني غريبة عن المكان بكل ما يحويه وحتى عن ذاتي). وهذا بحد ذاته اغتراب تحاول ترف البحث عمن يعوضها هذا الاغتراب فتجده بداية مع الحجي فنجدها في ص158 بعد كلمات أمها القاسية (غادرت مكاني دون أن أظهر أي احتجاج.. وسرت على غير إدراك.. وجدتني كعادتي في لحظات الضعف أقف أمام كشك الحجي والدموع ترسم.. غادرت مكاني وشكرته على سكينة انسربت إلي رغم صمت لقائنا).

ثم تجد الأمان عند العم عدي الذي التقت به يوما عند شاطئ البحر لكننا نكتشف في النهاية أنها شخصية ابتدعها خيالها للهرب إليها كلما عصفت بها الأيام ففي ص165 تقول عن هذه الشخصية التي صنعتها وتعلقت بها (برغم غموض استشرى بين كلماته إلا أن استجابته لسؤالي وعدم لجوئه إلى تجاهل استفهامي حمل إلي تفاؤلا بتقارب محتمل بيننا).

وتعيش ذات ترف كذات معزولة فاقدة للأمل ومعلنة عن وحدتها وغربتها وضياع هويتها ففي ص18 على لسانها (تسع سنوات منذ أن غادرتني الأحلام وغدرني الزمن وأنا أعاني شتات الروح وفقدان الهوية). وفي ص22 تقول (هذه أنا.. أفتقد الرضا عن الذات وواقعي يكبلني بألف عقدة ويحيلني ريشة في مهب الريح).

كما نجحت الكاتبة الأيوبي في طرح الهوية وإشكالية الاختلاف ابتداء باختلاف اللهجة وتتضح لنا هذه الإشكالية في كلمات ترف ص22( دائما ما أكون بسبب مظهري ولهجتي الريفية - البدوية محط استهزاء من زميلاتي في الصف).

أما إشكالية اللون فنجدها ص96 وما جاء على لسان ترف (أما عن لون البشرة فلا أحد يشبهنا مطلقا نحن كسوانا من أهل قريتنا ببشرة سمراء مع إحمرار يزيد من قتامتها.. ساكني هذه الأرض.. بشراتهم بيضاء وقمحية وسمراء.. فعلا نحن مختلفون).

أما إشكالية اللباس فنجد الكاتبة وقد طرحتها ص96( النساء عندنا مختلفات، وجميعهن كأمي يتنقلن ب الدفة وهي عبارة عن عباءة سوداء ومعها الشيلة كغطاء على الرأس.. حتى ملابسي لا تشبه ما عاينته في الفتيات الصغيرات).

وترف البطلة كانت شاهدة على مأساة من يقطنون المخيم فكان مشهد هذا المخيم هو المهيمن على السرد. حيث جاء وصف لأبشع مشاهد الحياة هناك حيث انعدمت الإنسانية ومما جاء على لسانها ص 24 (شوارع المخيم تنبض قذارة.. هي مكان للضياع والانغماس في كل أنواع الموبقات) وفي موضع آخر من نفس الصفحة (نحن اللاجئون نعيش هنا خارج مدار الإنسانية). وموضع آخر من نفس الصفحة تصف بيت خلاء منزلهم (أما عن بيت الخلاء فتستحيل إمكانية الاختلاء فيه.. هو جزء كبير من القاعة الكبيرة.. وفي كثير من الأحيان يحدث أن تتقيأ الحفرة كل ما فيها ويغرق المنزل في دنس ومأساة).

وبطلة الرواية ترف تضيع ذاتها في قذارة المخيم وهنا تكون قد فقدت الانتماء وهنا يبرز التصدع في الهوية ونستشعر هذا ص157من كلمات ترف (وخسرت ما تبقى منها في مخيم يضم بين أركانه جميع مقومات الدمار النفسي وتشتت الهوية والانتماء).

ونجد بأن مأساوية المخيم وعدم تقبل المجتمع لها كما بقية أبناء المخيم جعلها تتوق للرحيل والعودة إلى الوطن على امل استعادة الذات والهوية وهذه الخطوة نجدها في الفصل الموسوم ب العودة ففي ص241 نجد ما جاء على لسان ترف (فعلا نحتاج إلى عودة سريعة نلتئم بها مع جذورنا.. تفرغنا من هزائمنا النفسية وتجعلنا نستعيد ذاتنا الساكنة).

فالعودة هي الحل الذي تتوصل له ترف وان البعد عن الوطن لأوطان أخرى كارثة حقيقية فنجدها تركب البحر مع لوليه المرأة التي احتضنتها بعد موت والدها وعودة والدتها مع أخوتها إلى الوطن لتجد طمع سماسرة البشر وسط الأمواج التي لا ترحم في زورق غدار مع كتلة بشرية من أبناء وطنها ليكون مصيرهم واحدا مصير سوداوي لأناس خاضوا غمار الخطر لاستعادة جذورهم.

بقي أن نقول بأن الكاتبة اعتمدت تقنية الاسترجاع والتي مصدرها الذاكرة حيث تعود البطلة ترف إلى ماضيها وطفولتها وظلها الذي تركته هناك في باديتها التي تحب، ظلها الذي كان يؤنسها ولا يشبه تلك الظلال المزيفة في أرض اللجوء.

كما أن من أهم الظواهر الأسلوبية التي بنت عليها الكاتبة روايتها التكرار الذي كان الهدف منه التذكير بالأحداث مثل التذكير بحياة المخيم والتأكيد على تمزق الهوية وفقدان الذات والانتماء بسبب الظروف غير الإنسانية في جميع زواياه، شكله، بؤسه، ناسه.

***

قراءة بديعة النعيمي

بعد سلسلة المقالات التي ناقشنا فيها قضيَّة (الالتزام في الأدب)، بتنظيراتها وتطبيقاتها التي شاعت خلال القرن العشرين، يمكن استخلاص الآتي:

1- إنَّ المفهوم اللُّغويَّ للالتزام- في الأدب وفي غير الأدب- والدَّعوة إليه، قديمان، منذ فلاسفة (الإغريق).  أمَّا المصطلح الفلسفيُّ لهذا المفهوم، فحديث.

2- من أبرز المدارس التي تبنَّت الالتزامَ في الأدب خلال العصر الحديث مدرستان: (الاشتراكيَّة)، و(الوُجوديَّة).  على أنَّ الالتزام في المدرسة الاشتراكيَّة كان أشبه بالإلزام منه بالالتزام، على حين حرصت الوُجوديَّة على المناداة بحُريَّة الأديب الفرديَّة، في إطار الالتزام الإنسانيِّ العامِّ والقوميِّ الخاص.  وقد تنامت فلسفة الالتزام الوُجوديِّ في الأدب، حتى كان الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، 1905- 1980) هو مُروِّج مذهبها وناشره في العالم في القرن العشرين.

3- كان الوُجوديُّون، في ربطهم الإنسان بوجوده في العالم، لا يرون مفرًّا من التزام الأديب بقضيَّةٍ يُعالجها في أعماله.  ولا يكفي شعورُه بالتعاطف مع تلك القضيَّة، بل هو مطالبٌ بنقل شعوره ذاك إلى حيِّز التعبير، مهما واجه من المصاعب والمعوِّقات.

4- لم يكن (سارتر)، في كتابه «ما الأدب؟»، يرى وجوب الالتزام على الشاعر، بل يخصُّ الناثر الأدبيَّ فقط بوجوب الالتزام؛ لأنَّ طبيعة الشِّعر ولغته الفنِّـيَّة هما كطبيعة الموسيقى والرسم ولغتهما الفنِّيـَّة، إنْ أُخضِعتا لالتزاماتٍ خارجيَّةٍ، فسدتا، هويَّةً جماليَّةً ووظيفة.  أمَّا أصحاب المذهب الاشتراكي، فلا يُعْفُون الأديب من الالتزام، شاعرًا كان أو ناثرًا.

5- ليس من مفهوم الالتزام الوُجوديِّ في الأدب التحوُّل به إلى وَعْظٍ وإرشادٍ أو إلى توجيهٍ مباشر، بل إنَّ الالتزام مشروطٌ بالمحافظة على الأُسُس الجماليَّة والفنِّـيَّة في العمل الأدبي، بحيث يستطيع الأدب أن يكون فنًّا جميلًا، ذا طبيعةٍ خاصَّةٍ، مع القُدرة على أداء وظيفته في الحياة.

6- لعلَّ سيطرة السياسة في العصر الحديث على مجريات كثيرٍ من الأمور في الحياة، هو ما جعل الالتزام يكاد يكون التزامًا سياسيًّا مَحْضًا؛ لأنَّ المشكلات- وإنْ بدت اجتماعيَّةً أو اقتصاديَّةً أو حتى فكريَّةً في ظاهرها- تكمن السياسة من ورائها غالبًا، وتكون المحرِّك الأساس إلى اتجاهاتها.

7- إنَّ وظيفة الالتزام في الأدب وقيمته تكمنان في حُريَّة الأديب لاتخاذ مواقفه من قضايا عصره. وهي مواقف الرائد الصادق، الذي يتطلَّع إليه شَعبُه، مُذ أناط بنفسه عمليَّة التعبير؛ كي يكون النذير بالمخاطر، والهادي إلى كيفيَّة التغلُّب عليها.  بَيْدَ أنَّ الكاتب مطالبٌ قبل ذلك، ولتحقيق هذا الهدف النبيل، بتمهيد السُّبل.  ومن تلك السُّبل امتلاك وسائل الإعلام، بشتَّى أنواعها، للوصول إلى الجماهير، وبخاصَّةٍ أوساط الناس منهم.  ومن ثَمَّ التفكير في كيفيَّة توحيد عناصر الناس المتباعدة في مجتمعٍ موحَّدٍ متجانسٍ، يُشْبِه الجسد الواحد. وقد ناقش (سارتر) هذا الإشكال واقترح له الحلول في كتابه «ما الأدب؟».

8- كان من الشُّعراء المحْدثين الذين اعتنقوا المذهب الاشتراكيَّ الشاعر المصري (صلاح عبدالصَّبور، -1981).  صحيحٌ أنه تقلَّب في حياته بين اتِّجاهاتٍ عِدَّة، ولكنَّه بقي أخيرًا مخلصًا للمذهب الاشتراكي.  وقد تمثَّل اتجاهه هذا في مسرحيَّته الشِّعريَّة «مأساة الحلَّاج»، التي عبَّر فيها عن انتمائه الاشتراكي؛ مصوِّرًا الفقرَ والعَوَزَ ونتائجهما، في تشكيل الفرد والجماعة، عارضًا دَور الفنَّان في مجتمعه، عَبْرَ شخصيَّة (الحلَّاج، -309هـ= 922م)، الذي لا يكتفي بالتغيير بلسانه، بل يُكافِح بنفسه، ويُضحِّي بها في سبيل قضيَّته، التي نَذَرَ حياته من أجلها.

9- في ميدان (النَّثر الأدبي) جاءت مسرحيَّة (سارتر)- فيلسوف الوُجوديَّة ورافع شِعار الالتزام في الأدب- بعنوان «الشيطان والرحمن»، حاملةً وجهَين: أحدهما يمثِّل المبادئ الوُجوديَّة، والآخَر يمثِّل الالتزام الوُجودي في الأدب.  مع عَرْضٍ لصراعاتٍ مختلفةٍ حول قضايا السياسة والاجتماع والفكر، وكشفٍ لمعوِّقات الالتزام، وطُرُق الانتصار على تلك المعوِّقات.  لتنتهي المسرحيَّة بدعوةٍ صارخةٍ إلى الوُجوديَّة؛ بحُسبانها مُخَلِّصًا وحيدًا للإنسان في العصر الحديث.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

 

نَخبُ الأُلَى للكاتبة ليلى عامر بجوار خلوة عبد الرحمن بن خلدون بتيارت عاصمة الرستميين الجزائر اغترفنا من رواية.

 لم أكن أقصد في هذه القراءة النقد الثقافي أو النقد الأدبي إنما هي قراءة لبنيتها السيمائية وأنساقها المضمرة بعد تفكيك النص، أيضا على منوال ما ذكره عبد الله الغذامي في النقد الثقافي أن الكاتب له حضور مزدوج كاتب ينتج انساقا أدبية وجمالية بشكل واعي وكاتب ينتج انساقا ثقافية بشكل غير واعي.

من خلال الدراسة السيمائية لهذا المنتوج الجميل بدءًا من صورة الغلاف التي تحمل بعدا سرياليا لرجل وظل امرأة في ظل شجرة عراها الخريف وباغتها الشتاء تشعبت فروعها وعلى كل فرع ممطرة (تقلبات نفسية قاسية) يمكن تفسيرها بالأمال والألآم، كل المياه بلون الغرق عنوان كما ال إميل سيوران.

بدأت المؤلفة ليلى عامر سردها بوضع الحجر الأساسي للولوج في الحكاية بحبكة مركبة بدأت الأحداث من النهاية رجل فاقد الذاكرة، منهار، على سرير يريد استرجاع الذكريات فتذكر الشخصية المهمة في وعيه إمرأة جميلة تسمى مريم تعلق بها ذات مرة في ساحة الجامعة أيّما تعلق لكن سرعان ما تغير كل شيء، وضعت الأديبة هذه التغيرات تحت حبكات فرعية متعلقة بالحبكة الرئيسية ليتغذى عنصر الإبداع والتشويق كما يتغذى النهر من روافده.....

منها:

ذهاب عمر للخدمة العسكرية ومعاقرته للخمر والنساء ثم وقوعه في فخ النساء ليجد نفسه في السجن العسكري...... ...

زواج مريم من عبد الرحيم الذي تعرض لاغتيال إرهابي لتبقى أرملة وأما لبنتين.........

زواج عمر المنهك نفسيا من نبيلة فتكون بذلك ضحية إنسان مدمن على الخمر وعلى ذكريات عشيقته الأولى مريم.... .....

مريم تتعرض لمرض سرطان الثدي ويتم استئصاله ترك أثرا عميقا في مسار حياتها........

تعرضت نبيلة لابتعاد عن بيتها لتبقى في بيت أهلها، ولما تعود تحت إلحاح أبنائها وأثناء غياب الزوج في دوريات مجونه وسكره تتعرض العائلة لاعتداء إجرامي تموت نبيلة وهي تقاوم وتغتصب سعاد البنت التي لتزال في الإكمالية .

حمل سعاد واضطرارها تحت الضغط الاجتماعي والعائلي الزواج من مغتصبها.....

نأتي إلى السرد اعتمدت على السرد المتسلسل في شكل رسائل وأصوات تتناوب على المسرود عمر ثم مريم، نبيلة، سعاد *4567 ليلى عامر

الأنساق المضمرة في هذا النص الروائي

- الحب وبناء الأسرة

- هل ينتهي الحب بمتعة الجسد؟

- الشخصية السوية الصالحة لبناء الأسرة المثالية

- تدهور الظروف السياسية وانتشار الأفات الاجتماعية

- ضرورة بقاء الدولة مهما كان الخلاف

- تأثير الغزو الثقافي على البيئة العربية المسلمة

- الحب بين المتعة وتكوين الأسرة

دراسة أنثروبولوجي للمنطقة التي وقعت فيها أحداث الرواية

هي تيارت أو تهيرت سكنتها عدة قبائل عربية هلالية وغيرها شكلت وحدتها الثقافية والاجتماعية ومنها تنحدر قبيلة بني عامر والتي تنتسب إليها الكاتبة  ،كانت عاصمة للدولة  الرستمية  ،ألف فيها عبد الرحمن بن خلدون مقدمته فلسفة التاريخ ،انتشرت بها زوايا كثيرة رحمانية وتجانيه حافظت على بعدها العربي المسلم أمام الغزو الفرنسي وكانت ساحة للمقاومة والفروسية ،نجد الزواج فيها مبني على شروط منها الكفاءة فلو تزوجت المرأة بغير كفء فللأولياء أن يعترضوا ولا يقروه فلا تصيبهم معرة الصهر وبهذا تتحقق المصلحة,  هذا السلوك الذي تحمله متون المالكية التي هي مرجعية هذه الزوايا قبل أن يدب  إلى بعضها داء  الانحراف. فالبيوت لا تبنى دائما على هذا الحب والعشق الجنوني الذي يعمي البصيرة، ولا يراعي قيمه الاجتماعية بل تبنى كما جاء في كلام الله على المودة والرحمة.

كثير من قصص العشق تعثرت لمعارضة اجتماعية قبلية أو لمانع عند أحد الطرفين لما كانت مصلحتها في ذلك وإن كان فيها بعض الإجحاف كقصة عنترة، جميل، مجنون ليلى، ابن زيدون

بعد الاستقلال زادت حركية التعلم والتحضر لكن تبعها غزو ثقافي مفتوح على مصراعيه دست فيه حركات التحرر المنسلخ عن كل قيم شجعت على فكرة (دايها ولباس والله ويكون عليها الرصاص) و(توحمت في الغابة وولدت في البحر)

حب جنوني وصفته المؤلفة ليلى عامر بالآن أومن أن الحبّ ليس خرافة وليس بدعة أفلام السابعة كما كنت أومن قبل أن أرى عينيك،

 يقول المتنبي:

وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه

ولكن من يرى عينيك يعشق

هكذا آمن فرعون بربه وهو يغرق وأومن بك وأنا أغرق

هنا الشيء زاد عن حده فانقلب إلى ضده، فمعرفة الحالة النفسية والعقلية وأشياء أخرى لا أريد ذكرها ضروري في بناء الأسرة فالحب كما قيل أعمى حين لا ينظر إلى مآلات الأمور الأساسية لبناء الفرد والأسرة المتينة. .....

***

كتبه رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

إنَّ في الشعرموجودات تتبلور في وعي الشاعر من حيث كونها مفردات تفتح آفاق متعددة مع القارئ للنص، أو المستمع للألقاء، أو المتلقي للصور التي يريدها المرسل في رسائله المتعددة، وما بين المفردة الشعرية وتصوراتها في الوعي بعد أن اصبحت هذه التصورات ظهورات عقلية في الوجود الذهني، وما يتحتم على هذه الوجودات الذهنية من أعراض في العالم المعاش في تجربة الشاعر، سواء أكانت هذه التجربة ذات منحى مؤقت جاءت بها الظروف العرضية التي أصبحت لها أثر في نتاج الشاعر، أو كانت هذه التجربة متأصلة في وجدان الشاعر على مستوى الدلالات الفكرية وصياغة البنية المعرفية في أنتاج وعي ووجدان شعري ثر يرتكز عليه قاموس الشاعر الوجداني في استدعاء مفرداته الشعرية وجمالياتها وتشفيراتها التي يريد من خلالها إيجاد فعل أنطولوجي له أثر في الصورة المتلقاة من قبل متابعيه ومحبي قصائده ومفرداته التي تغازل أذهان المتلقين لشعره .

إنها أنطولوجيا مبنية على اعتبارات الماهيات المتشكلة في ذهن الشاعر، هذا العالم المواز للعالم المادي، وهذه الملكة القابلة لتصنيع مفردات يفارق بها الشاعر بين لغته الشعرية وما تنتجه من مفردات خاصة مميزة له، وبين اللغة الحياتية اليومية، على وفق هذه الجدلية بين الشعري المتعالي في الوعي وبين اليومي المقصود في أعادة أنتاجه يكمن الأبداع في صيغته الأنطولوجية، ودلالاته للمفردات في صيغها الحياتية المتحولة في بعدها الشعري . القارئ العادي ليس معني بهذا المصنع الجمالي الذي ينتجه الشاعر، بل هو معني بالبضاعة الجمالية التي يتلقاها وتحرك مشاعره من خلال الاقتران الواعي بين المفردة المتلقاة والأفق الخاص بالشاعر وتجربته الإبداعية .

في هذا المجال من الممكن أن نبحث عن مفردات كثيرة لدى الشعراء صاغوا تجربتهم الإبداعية قياساً لهذه الجدلية الانطولوجية بين الشعري والحياتي اليومي من جهة وبين الشعري في أطاره التاريخي الزمني في حياة الشاعر وبين التجارب التي صاغتها مديات حياة الشاعر في تأكيد الكثير من المفردات التي شكلت قاموساً دالاً عن الشاعر ذاته . ومن هذه المقدمة في المجال الجدلية الأنطولوجية بين الأفاق التي ذكرناها أعلاه نتناول تجربة الشاعر عبد الحسين بريسم الشعرية في (قرط النعاس) الصادر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لسنة 2022، هذه التجربة الشعرية التي حفلت بها مفردات عبرت عن المجال الأنطولوجي للشاعر ابتداءً من عنوانات قصائده، ومنها قصيدة (قال أبي)، و(قرط النعاس) وهي عنوان إصداره، وقصيدة (انت جداريات العالم وصهيل خيولي )، وقصيدة (الشعراء يتبعهم الغاوون)، وقصيدة (نزف الشجرة)، وقصيدة (أغزلك لغة وأصيغك كلمات)، وغيرها من القصائد التي قد لا نستطيع تقديم دراسة في بعدها الأنطولوجي وافية، كون هذا المقال يركز على هذه الجدلية في جانبها الأعم، وليس في جزئياتها والتي تتطلب بحثاً عميقاً في هذا الإطار، مما سنركز في هذا المقال على بحث ثلاثة من الصور التي تؤطر مفردات الشاعر في بعدها الأنطولوجي .

إنَّ في قصيدة قال أبي، الموت والرياح والأشجار والفوضى هي مفردات شكلت في اشتغالها اليومي مواز شعري أنتجه الشاعر في لغة شعرية من وصايا الأب وقوله الذي لا يفارق وعي الشاعر في تدويناته على ورق الذاكرة في الأنتظار والخوف من انفراط عقد المنتظر كي لا تعم الفوضى وتذهب كل ما اراده الأب عن لسان الشاعر بعيداَ عن ينابيع الأهوار، وهي الأصل الأنطولوجي في أصل الاباء والأجداد، وفي المقطع الثاني من القصيدة تأتي (اليابسة والماء والتراب والقميص والقمح)، لتعبر جسد الأب ووصاياه في لغة اليومي التشكل في تصورات الشاعر الذهنية وظهوراتها الواعية لغة شعرية غايتها الولادة بين اليابسة والماء والثمار في القمح والتمر)، لكن الموت يعود في ذاكرة الأب حين لا تمر العصافير ولا يستريح النهر ويبقى الأنتظار في باب الجنة وقمح الحياة . لغة الأب، يومياته، حياته، مفرداته أنتجت صور ذهنية مأخوذة من عالمها الأنطولوجي لي ينتج بها الشاعر فضاءات شعرية ترتبت على وفق بنى جمالية في ذاكرة القول عند الأب والشاعر معاً في آفاق متحدة بين الماضي / الأب، والحاضر / الشاعر.

إنَّ قصيدة (قرط النعاس)، قد حفلت أيضا بجدلية أنطولوجية بين الوعي اليومي والوعي الشعر، لكن من خلال الأم، وسرد الحياة اليومية من خلال لغة شعرية توزعت مفرداتها بين دال أنطولوجي متأصل في تجربة الشاعر الشعرية، ومدلول فيه أثر التجربة لكن في وجودها الاعتباري الذي أنتجت تصورات صاغ من خلالها الشاعر مفرداته من اليومي الى الشعر عبر متحول جمالي يسرد أنطولوجية الأم في بعدها ومرتكزها الإبداعي في التجربة الشعرية لدى الشاعر ، من الساحات القديمة والنخلة وشجرة السدر والجدران القديمة المنحنية مفردات يومية أعتادتها الأمهات في المحلات والازقة الضيقة، تصاغ في تجربة البريسم الشعرية هذه المفردات التي تتحول أثر أنطولوجي أعمق يربط بها بين إشراقة الشمس على الأزقة وظهورات والأمهات التي يوقظن الصباحات برائحة الخبز ليتحول أيقاد النار في التنور الى أيقاد للشعر في دفاتر الشاعر شعراً، وفي تكملة القصيدة يسوق الشاعر مفردات حياته اليومية من طيور الجنوب وشوارع المدينة وسياج البيت العتيق لتصبح هذه المفردات رسائل شعرية تحمل صور الأنتظار للأمهات وخطواتهن المتعبة ـ ليصور مرورهن في شوارع المدينة واسيجتها العتيق لتتمايل الأشجار في صور سجود لهذه الخطوات المحملة برائحة القصب والبردي وأضرحة الأئمة .

وفي قصيدة (أمة من الوجع) يعود فيها البريسم الى مفردات قد تختلف هذه المرة عن البدء بالموجودات التي اعتادها في ذاكرته من عالمه الأنطولوجي الذي شكلته ذاكرة الأيام المملوءة به الأزقة والحارات والجدران وقصص الآباء والأمهات، ليعطي سياقه الشعري أنطولوجيا أخرى ذات خيال كونها أرتبطت بوجدانية ذات بعد عاطفي، ففيها غابة مسحورة وفيها جدران قديمة يملأها القبح، ويحاول ترميمها بالحب، فيها حواجز تكشف طبيعة الجدران وفيها أسوار لغابة ذاكرته في ظهورها الأنطولوجي، وفيها قبلات طويلة تعتمد السحر، كلها في قلب شاعر حاول تجميع صوره النابعة بالحب من خلال وردة تضعها من أحب فوق قلبه، أنها وجودات يؤطرها عالم خال من مفرداته التي عودنا عليها في (قرط النعاس) و(قال أبي)، هي مفردات يحاول كسر قوالبه الأنطولوجية اليومية الظهور في وعيه من أجل سياق آخر يتنوع فيه الوجود الشعري لديه .

أما في قصيدة (أغزلك لغة وأصيغك كلمات) تنوعت لديه مفرداتها من مجال أنطولوجي آخر فيه صور تصف ما هو أبعد من محلياته اليومية، في لغة آخرى يحاول أن يصيغ فيها موجوداته الأبعد أفقاً، فمن وراء البحر من (الشموس، والأقمار) هذا الموجودات الكونية ذات الدلالات البعيدة، ويصور بعدها الحروب والمقابر ذات التصورات القريبة في عالم موجوداته المتناثرة، وأغنياته السوداء وبابه الذي هو كالبحر في السعة الذي يمثل نافذته على وجوداته الكونية التي يراها رغم الريح التي تحاول أن تغلق أبوابه ونوافذه، من ثم يأتي الى عالمه الصغير المحمل بالقلائد تحمل كلماته ومن الجسد الذي هو نافذته الأقرب المطلة على أحزانه ليسترق السمع من صوت الملائكة بداخله، هذه العوالم المختلفة وكأنه يحاول أن يثير الجدالية بين وجوداته الأقرب في التعامل اليومي وأخر ذات طابع شعري فيه الخيال الباحث عن آفاق كونية أبعد .

في قصائد البريسم التي رصدنا فيها بعض من مفرداته في بعدها الأنطولوجي التي تتجلى فيها جدليته، وهذه المفردات قد أتت في ثلاثة صور هي:

1. الصورة الأولى: أن الشاعر يحاول أن يكون قصائده من خلال التأثير المباشر لليومي في الشعري حتى يكون ما حصده عبر السنين من ذاكرة أبداعية لها من اليومي اثر كبير عبر آفاق حياته المستمرة بحالاته المختلفة، كما في قصيدتي (قال أبي و قرط النعاس).

2. الصورة الثانية: يقدم البريسم في كونه يعمل على استبدال ما في ذاكرته اليومية قائمة على الظهورات المباشرة في حياته بأخرى تغذيها مفردات قد أكتسبها من وجود آخر هو العاطفة وما فيها من ثراء في موجوداته وظهوراتها في قصائده المغايرة عن حياته اليومية المباشرة وتجلياتها في قصائده، كما في قصيدته (أمة من الوجع).

3. الصورة الثالثة: يقدم البريسم في صوره الشعرية مفردات أخرى فيها عوالم آخرى لا هي من مفرداته اليومية، ولا من مفرداته الوجدانية، بل هي مفردات فيها ظهورات كونية في الاستخدام، مما جعل مفرداته في تنوع آخر غير الذي في ما سبق الحديث عنه، وكما في قصيدة (أغزلك لغة وأصيغك كلمات).

إذن، للشاعر البريسم جدلية في البناء الأنطولوجي والتصورات الذهنية وظهوراتها الواعية التي يحاول من خلالها أنتاج لغة شعرية قائمة في بعدها الأنطولوجي على مفردات يتمظهر فيها هذا البعد في صور ثلاثة قائمة على جدلية مستمرة لها أبعادها العميقة في أنتاج المعنى في قصائده .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

يمكن النظر إلى الذات بوصفها منظومة من الأفكار والقيم والمبادئ والأحاسيس الإنسانية. ومعرفة الذات لهواجسها وفهم حيرتها وتأمل أفكارها العميقة هو إحدى السمات النوعية لطبيعة هذه الذات في السرد الروائي.

حيث يمكن القول بأن بطلة الرواية أميرة تسعى أن تخوض مغامرة فهم الذات من خلال السفر أو بالأحرى الهرب والكتابة.

والهرب ليس إلا الخروج من دائرة الواقع وصنع عالم مواز نقوم بترتيب ذواتنا فيه وفق رغباتنا واحتياجاتنا. وبطلة الرواية أميرة ذات متشظية بين الماضي والحاضر تعمل حال وصولها إلى تونس كدليل سياحي من أجل قتل الوقت ونسيان انتكاساتها وربما انتظار الآخر الذي سينتشلها من بئرها المظلم.

أميرة التي تجرعت مرارة الغياب عن أولادها وعن عُمان الذي تعلقت به أكثر من تونس بلد أمها وتمثل نصفها الثاني مما صنع لديها حالة من التناقض بينهما في رحلة الذات تلك التي سعت من خلالها إلى استعادة إنسانيتها بعد ثلاث صفعات تلقتها في بلد أبيها هي الأقوى في حياتها.

فهروب أميرة إلى تونس كان تحت وطأة الظروف النفسية وتبدد أحلامها في عُمان بسبب تلك الصفعات ابتداء من قيس حبيبها الذي هجرها بعد أن تخلى عنها ففي ص87 (هناك في إحدى الزوايا وقف قيس يخبرها أنه قرر التخلي عن فكرة الزواج بها) وغدر ابن عمتها إبراهيم وفسخ خطوبته منها في ص100 (وغدر إبراهيم لها وتركها بعد شهر من عقد قرانهما) إلى خيانة زوجها عبد الله مع زوجة صديقه ص109(كيف جاتك الجرأة تخون زوجتك بهذا الشكل وبهذي الطريقة).

حينما عزمت أميرة على السفر لم تكن تعرف ما تريد إنما هي الرغبة في الخلاص الذي كان الحافز نحو معرفة الذات ونشدان السكينة بالرغم من تركها لأطفالها الثلاثة خلفها ففي ص52 عن أميرة على لسان السارد (تعرف أنها اتخذت قرارا مؤلما بالهرب إلى تونس وترك ابنها قيس وابنتيها العنود والريم عند طليقها وجدتهم).

كما أن السفر مهم في تحقيق الذات إلا أنه قادر على الكشف عن التناقضات الداخلية والاضطرابات النفسية التي تحيط بشخصية أميرة، فقد كشف السفر أنها تعاني فقدان السلام الداخلي وتتضح لنا هذه الحقيقة وهي تخاطب شخصية إحدى بطلات رواية الطواف حيث الجمر ص13(نكست أميرة رأسها وهي تقول: لست وحدك الهاربة يا زهرة، لكني لم أهرب بحثا عن حبيب بل بحثا عن سلامي الداخلي).

كما أن هرب أميرة إلى تونس كان بمثابة منبها للذاكرة على الغوص في تفاصيلها وما تختزنه من ذكريات، إنها الذات التي تستعيد ماضيها وطفولتها وتجعل منهما رمزا لهويتها العُمانية المفقودة ففي ص148أثناء حديثها مع سعيد العماني ضيف تونس عن المنتخب العُماني (صمتت ووجهها يشع سعادة، ذكرياتها مع المنتخب كثيرة، تعد نفسها متعصبة في تشجيعها للمنتخب.. فكانت في 2009 بعد الفوز بأول كأس للخليج.. يومها شاركت في مسيرات الفرح) وهنا استعادت انتمائها لهويتها العُمانية من خلال تلك الذكريات والعودة إلى الماضي حين كانت متعصبة للمنتخب العِماني.

وبالإضافة إلى مغامرة السفر الذي هو نوع من الهروب حلمت أميرة بمغامرة أخرى هي أشد تأثيرا في الذات وهي مغامرة الكتابة وتحديدا كتابة رواية وهي التي كانت تعشق قراءة الروايات وخصوصاً العُمانية منها. ففي ص12 (الحلم الذي لا يزال يراودها أن تكون ذات يوم الكاتب الشره للكتابة.. الرف الأول وضعت فيه مجموعة من الروايات العُمانية مصفوفة بشكل مستقيم وكأنها توحي لمن يراها بأنها لا تزال تنتمي لذلك البلد). ومغامرة الكتابة هذه بالنسبة لها كانت محاولة للوصول إلى السكينة والسلام النفسي كما أنها تعكس توق الذات إلى إضاءة جوانبها الخفية المعقدة التي لا تستطيع أن تقولها إلا من خلال الكتابة ففي ص9 اقتباس لإميل سيوران (يفترض أن لا نؤلف الكتب إلا لنقول فيها ما لا نجرؤ على البوح به لأحد).

وقد سعت أميرة إلى تجاوز عللها الداخلية من خلال الكتابة ..وتُفَسَّر هذه التحولات في الذات الإنسانية التي كشفت عنها الرغبة في الكتابة تلك العلاقة المهمة بين الإبداع والحياة وعلى هذا النحو تمثل الكتابة حافزا يسهم في تحقيق الذات وفعلا خاصا يستطيع المرء من خلاله أن يدرك تناقضاته ففي ص143 أسرت إلى سعيد نيتها كتابة رواية تسرد فيها قصة حياتها (نفكر نكتب رواية ونحط فيها العبارات هذي وبعض الاقتباسات من الأفلام المترجمة.. إذا كتبت رواية نحب نسميها أميرة بنت تونس، بش نحكي فيها قصة حياتي).

وقد كانت تونس فضاء لتواصل ذاتيّ أميرة وسعيد اللتين عجزتا عن تحقيق أحلامهما في عُمان، ذوات حائرة وجدت في الحب خلاصا من المحن الداخلية وآلام الذاكرة. فكانت تونس المكان الذي فيه أدركت هذه الذوات جوهرها وحقيقتها التي هزمها الواقع هناك في عُمان ونجد ذلك في ص205 (في لحظة انسجام من الزمن وهما يتبادلان الضحك بينهما كانت على وشك أن تحتضنه ليعرف أنها في قمة السعادة وكاد...أن يقبلها ليخبرها أنها تستحق مثل هذا الفرح).

وفي ص221 عن ثريا طليقة سعيد (فحين ترحل واحدة دون ذنب منك تعوضك الدنيا غيرها مثلها أو افضل منها).

وقد كشفت أميرة ذاتها الحقيقية بواسطة الآخر (سعيد)، معه بدأت ذاتها تراجع نفسها وماضيها وتفهم بل وتبحث عن أحلامها ونلاحظ هذا الشيء بكل وضوح في ص219 وهي تفصح لسعيد عن حياتها السابقة (تجمعت الدموع في عينيها فجاة وكأنها تفاجات بلحظة كهذه تفتح فيها قلبها لنثر ما به من أوجاع ونفض ما علق فيه من هموم).

كما أن الذات كلما تقدمت في التجربة ازداد وعيها وإدراكها بماضيها.فالمراوحة بين الذاكرة والحاضر في تواز وتدرج مستمر هو ما يمنح هذه الذات نوعا من الإدراك والتقييم، ويظهر لنا هذا التغيير في ذات أميرة ووعيها عما كانت عليه في الماضي ص263 فعلى لسان أميرة حينما تقدم سعيد لخطبتها (أقدر على القول إن سعيد الخيار الأنسب لهذه المرحلة من عمري، نضحت بما فيه الكفاية لمعرفة ذلك).

وقد اعتمد الحمداني الاقتباسات كمفاتيح تُعدّ علامات يستدل بها القارئ لربط الدلالات التي يستهدفها من الأحداث والتعمق أكثر في شخصيات روايته كما الاقتباس الذي جاء باسم مجهول الذي جاء ص251 عندما حدث سعيد أميرة عن جدهما سعيد بن سالم ونجاحاته التي حققها بسبب أسفاره (السفر الشيء الوحيد الذي تشتريه فيجعلك أكثر ثراء).

بقي القول بأن الحمداني قد نجح في تسجيل شريط كامل وثق فيه للأماكن في عُمان وتونس كما وثق للأزياء الشعبية والأكلات المشهورة واللهجتين العُمانية والتونسية لكن كان لتونس النصيب الأكبر ومن هنا يتضح للقارئ إعجاب الكاتب بتونس كبلد صنع نفسه بأقل الإمكانيات. كما وثق لأحداث سياسية في كلا البلدين تونس وعُمان في حقب مختلفة من عمر البلدين.

***

قراءة: بديعة النعيمي

...........................

* الرواية من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/ 2022

 

تجربة التسلق على قمة الشعر العربي الحديث، لم تتوقف عند الشاعر السماوي الكبير، فهي عملية متواصلة في التكامل الخلاق وفي الابتكارات المتجددة، بأطر حديثة في الشكل والمضمون، بتطور نوعي في جمالية مكوناته، التي تستمد خاماتها الشعرية، من معطيات الواقع وافرازاته الدالة، في عمق الاحساس الصادق بكشف صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة، هذه الأسلوبية الشعرية تقدح الذهن بشحنات من التفكير والتأمل، ان يضع صورة مشاهد الواقع التصويرية على حقيقتها، دون رتوش تجميل، ولا مبالغة وتكلف في سبيل خداع القارئ والمستمع، يستمد المفردات من واقع الحال على عيوبها ومطباتها. من اجل تكوين المشهد التصويري المتكامل، وهذا يمثل تطور في الأدوات الشعرية، التي تملك إيحاءات عميقة وبليغة، في اكتشاف الظاهر والباطن، وهذه الصورة الشعرية هي حصيلة استلهام صور الواقع في مصداقية المضمون والمعنى الدال، فهي علاقة متبادلة بين التصوير الشعري، وإيحاءاته في الرؤية الفكرية، في تلمس المعنى ورؤيتها الخلفية، تحاكي هذه المنطلقات الأساسية (الأسلوب، والصياغة، والاستعارة والتشبيه والمجاز، والتخيل المدهش في الموهبة الشعرية) نتلمس قالب الفني الشعري يصب في قالب المضمون وتعبيراته الدالة، في ثنائية سيميائية متقابلة بين الطرفين، أي سيميائية الفعل الفني الشعري، تقابله سيميائية افعال الواقع، التي خرجت عن المعقول والمنطق. أي نحن أمام صراع متبادل بين صوتين متقابلين في المحاججة والمجادلة. الصوت الأول الذي تنكر وكفر بالعدل الإلهي، واستحوذ على كل شيء، الياقوت والذهب والدولار والجاه والنفوذ، اي باختصار شديد امتلك الجمل بما حمل. والصوت الثاني، صوت حرم من كل شيء سوى من الوجع والأنين والمعاناة، صوت المحرومين والمظلومين الذين لا يملكون حتى الكفاف العيش البسيط. أي أنه صراع شرس في جدليته، بين السارق والمسروق، بين الناهب والمنهوب. أي بين المتخم الى حد اللعنة والبطون الخاوية الى حد اللعنة. هذا الجرح العميق لا يتحمله جسد العراق، انه اكبر من طاقة تحمله، وهو الانزلاق الخطير نحو الانحدار الى الأسفل في سلم الحياة وسلم المعيشة. يصوغ هذا الصراع الذي شذ عن المعقول والمنطق، في جمالية والهام شعري متألق في إبداعاته وابتكاراته على خلفية مستجدات الواقع، في بلاغة لغوية وشعرية جذابة تتذوق فيها الاحساس الجمالي الشعري والتعبيري، توظف امكانية براعة التشبيه والمجاز في البنية الشعرية ومنطلقاتها الدالة، في الديوان الشعري (جرح اكبر من الجسد) يشتغل ببراعة في بشكل خاص بالهم الوطني والإنساني، ولكن يدلل بأنه لا يمكن الوقوف بين الجانبين، بموقف المتفرج والمحايد أو الوقوف على التل، وهو يجد أن العدل الإلهي يطمر في الوحل. يجد القيمة الإنسانية تتدهور الى الأسفل. ولابد من اتخاذ الموقف الحاسم بين قطبي الصراع. اما هذا، أو ذاك، ولا يمكن مسك العصا من المنتصف.4552 يحيى السماوي

1 - مفتاح الازمة:

 هو الانزلاق نحو البؤس والمعاناة، هو بداية الخداع والدجل والاحتيال، حين لبست الثعالب السياسية الماكرة ثوب الدين والتقوى والايمان والزهد، فصدقتها الرعية ووضعت سلة ثقتها بهم، ووضعت تحت تصرفهم بيت المال وميراث الأمة والبيعة. وكانت الطامة الكبرى حين نزعت جلد الحمل والنزاهة وبانت عوراتها للقاصي والداني، وكشفت وجه اللص الشيطاني المخادع.

 - من قصيدة: ربنا قد أظلم الصبحُ.

ربَّنا

إنا سمِعنا

هاتفاً يهتفُ بالعدلِ الالهيِ

فصدَّقنا كلامهْ

فمَحَضناهُ خُّطانا

ومفاتيحَ بيوت المالِ

بايَعناهُ للامرِ وليَّاً

وخصصناهُ بميراثِ الامامةْ

ثمَّ لما أكمَلَ البيعةَ

باعَ الصُّحفَ الاولى

وأرخى لليواقتِ والدولار والجاهِ

لجامَهْ

ربَّنا

قد أظلمَ الصبحُ

فلا نعرفُ

هل أنَّ ملاكَ العدلِ في القفطانِ ؟

أم أبليس أخفى في الجلابيبِ

غُلامهْ ؟

2 - مفتاح الاستغاثة بالرموز الدينية المقدسة: القرأن والانجيل والائمة المعصومين (الامام الحسين والامام المنتظر صاحب الزمان) في سبيل الإنقاذ والفرج من أزمة الواقع المخيب والمحبط. فالإمام الحسين نبراس الشعوب المظلومة في التحرر والخلاص من الظلم والطغيان.

 - من قصيدة: يا سيدي الحسين  

فدىً لتـرابِ نعلِكَ يا إمـامـي

أنا.. وأبي.. وأمي.. والبنونُ

أخفتَ الموتَ حتى خرَّ ذُعراً

فأ نتَ الحيُّ والموتُ الدَّفينُ

جهـادُكَ آخِرُ الآياتِ خُطّـتْ

بنور العرش سُورَتُها " حُسَينُ "

فأنتَ لكلِّ ذي عزمٍ حسامٌ

وأنتَ لكلِّ مذعورٍ حُصونُ

أبا الأحرار هلّا قمْتَ فينا

فقد عمَّ البلاءُ.. ولا مُعينُ

ولا "حـُرٌّ ريـاحيٌّ" فيُفدي

ولا العبّاسُ والقدّيسُ "جُونُ"

- الاستغاثة بصاحب الزمان الامام المهدي المنتظر (ع):

في بارقة أمل وانقاذ عند الناس، بأن هناك مقولة تقول: عندما يطمر العدل الالهي في التراب، ويصبح ناموس الحياة الظلم والطغيان والفساد، عندما تكون عقيدة أولياء الامر والجاه والنفوذ عقيدة السلب والنهب، عندها يظهر الامام المنتظر، ليعيد العدل الالهي الى استقامته، ويطمر الظلم الطغيان والفساد.

- من قصيدة يا صاحب الزمان.

ياصاحبَ الزّمانِ

لو يملكُ

أنْ يهربَ من ساستِهِ عراقُنا

أو

يطلبَ اللجوءَ في الأوطانْ

لفرَّ من ساستِهِ..

يا صاحبَ الزّمانْ

دمُ الحسين باتَ حِبراً

للشعاراتِ التي تخجلُ من ريائِها

الجدرانْ

يا صاحبَ الزّمانْ

أُخرجْ

فقد أوشكَ أنْ يكفرَ في عراقِنا

الإنسانْ

- الاستغاثة بالرموز التاريخية، ورموز عقلاء الحكمة (صوفائيل)، التي تركت بصماتها بحكمة العقل والصواب، او رموز الفعل الثوري الملتهبة بالاقدام والعزيمة والإرادة، التي أشعلت شعلة النهوض والاحتجاج والحماس في نفوس الجياع والمحرومين، أن يأخذوا الحق بأيديهم ولا ينتظرون منحة من السماء، في الهجوم على ناكري الحق وغاصبي اموال الفقراء. لا خلاص من العبودية إلا بالنهوض، ونهوضهم لا يخسروا شيئاً سوى كسر اغلالهم، لو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً، لما أقدم على الظلم. فلا يمكن ان يستقر الحال في ظل ناهبي الذهب والياقوت والدولار، ومغتصبي الجاه والنفوذ إلا بثورة ( ابا ذر الغفاري ) سيكون مصيرهم شذر مذر، ويتحولون الى فئران مذعورة تفتش عن جحور لسلامة جلدها.

- من قصيدة: رؤيا.

وأرى تنانيرَ الجياعِ

تكرُّ بالجمرالجحيمِ

على قصورالمُتخمينَ

أرى الذئابَ تفرُّ

تستجدي السلام من الظباء المستباحةِ..

والحمائم بعد غربتها تؤوبْ

وأرى طواويسَ المدينةِ

تخلعُ الريشَ الملون..

تستعيرُ من القنافذِ جلدَها..

ولحى الذقون المستعارةِ

من براميلِ القمامةْ

وأرى أبا ذر الغفاري

شاهراً سيفاً بوجه الاولياءِ الزورِ

تتبعهُ ملايينُ الجياعِ..

وعروة بن الورد ممتشقاً حسامهْ..

أهي القيامةُ ؟

قال عرافُ المدينةِ

أن للدنيا قيامتها التي تفضي

الى يوم القيامةْ

3 - العجب في عراق العجب:

كل شيءٍ مقلوب، الحق مكسور الظهر، والباطل منتصب القامة، والميزان مفقود في حقول الدهر المخيب. فلا عجب ان يكون النهب والسلب دين وعقيدة، فلا عجب في عراق العجب. الزفت يكون مسؤولاً عن الياقوت والذهب والدولار. واللص أمين الصندوق. والداعر أمين الشرف والنزاهة، وتاجر النخاسة الناطق بأسم الدين. ومجهول النسب مسؤولاً عن شؤون الناس، فما عجب في عراق العجب ؟.

- من قصيدة: ما العجبْ؟.

ما العجبْ

أن يكونَ الزفتُ

مسؤولاً عن الياقوتِ

في سوق الذهبْ؟

نحنُ في عصرٍ

به اللصُّ أمين المالِ

والناطقُ باسم الدينِ

مجهول النسبْ !

ما العجبْ

إنْ غدونا ورقاً

في موقدها

محض حطَبْ ؟

........

.......

لا عجبْ

نحنُ منْ جاء الى القصرِ بمنْ

هبَ ودبْ

فحصدنا من حقول الدَّهر

سوء المنقلبْ !

***

جمعة عبد الله

 

المعادلة الشعرية بين حجب الداخل الحسي وعدمية الخارج الأحوالي

مهاد نظري: من الأهمية أن ندرك إن بناء المعرفة في أبعاد وظائف النص الشعري، تمرر بمواقف انطلوجية ـ حسية، خاصة من مبعث حيثيات رؤية الشاعر ووسائل المعطى التصوري للأشياء المصورة انطباعا في مشخصات دقيقة من محاور الذات الشعرية التي ترتبط بالأحداث النفسية والحسية والشيئية بمحاور أكثر من محل ضرورة وأهمية ومقدرة وسعة في ذهن الشاعر ذاته من هنا قد يجوز لنا دراسة قصائد مجموعة (هاجس النجاة والأنا) للشاعرة الدكتورة سلاهب الغرابي في حدود ومواقع وحالات علامية دالة، تتضمنها غائية العنونة المركزية في المجموعة الشعرية، على كونها العلاقة الصورية المرمزة في مسافة الأفكار والرؤى والحلم التواصلي في مكونات النصوص الشعرية.لذا فإننا حيال حضور صوت الذات (الآنوية) كيانا متجسدا في وحدة مؤشرات علاماته كمناصات للنص المحيطة بهواجس ودلالات تغلب على أشد مؤشرات المقصدية في مشاغل (الذات ـ الهاجس ـ النجاة) ولهذا لاحظنا بأن أغلب أشكال النصوص في المجموعة تبدو لنا شبه منقطعة مع الحياة تارة ومع ذاتها الآنوية تارة عبر بينات متشكلة من أفضية من الفواصل الزمنية وجملة من الواصلات الحسية، وهي تمرر تشوفاتها اليقينية بالآخر المتوارى، كهوية مسكوت عنها في كينونة الذات المشروطة في تشظيات بوحها المنقسم في ثلاثية الأقطاب (هواجس + النجاة = الأنا) .

ـ الشعرية بعيدا في بؤرة استدراك الحال القصدي:

بوسعنا أن نتعرف على خلاصة الطاقة التعبيرية ـ الصورية، في لغة الحراك الواصف ـ أفعالا ـ ومسميات وإحالات في مشهدية العنونة المركزية الموسومة بـ (هواجس النجاة والأنا) لنواجه من خلالها ذلك الحجم الشاسع من (اللاجدوى ـ الخذلان ـ الرحيل ـ الاغتراب عن الذات) امتدادا إلى حالات تحاورية مع مساحة الأنا ذاتها وبذاتها، أي في مواجهة حضور أسئلة الفضاءات التشكيلية المراوية في معاينات مرآة النص:

يجلسُ الحُزنُ حيثما تكونُ يا أيُّها الغريبُ

لسْتَ بِمُسافرٍ أوبِمقيمٍ فإلى أينَ السَّبيل؟

ألم تكتفِ بحثاً في الفراغِ؟

بعدما خذلكَ الكثير ./ص6 قصيدة : هاجس النجاة والأنا

ترسم لنا قابلية التخييل ذلك الحضور المقصدي بمعنى البوح الاستعادي للذات ومراجعاتها لذاتها في ظل علامة المخاطبة (يا أيها الغريب) ولا تخلو هذه الجملة من مجالية ما تختص بها حساسية الرصد الفاعلة والمحددة بمعناها الوصفي المتابع لـ (يجلس ـ الحزن ـ حيثما) وبهذا تكون حساسية القراءة إلى الملفوظ قد حلت حلولا في صورة تجزيئية ما منا، لأجل الكشف عن وجه التضامن بين طرفي (الأنا ـ الذات ـ المرسلة) في الآن نفسه نلاحظ بأن الشاعرة قد استثمرت مرسلها بما يوازي عتبة القول الذاتي الصادرة عن (أنا الذات) فيما تنعكس علامة مرسلها أيضا بوساطة الذات الموصوفة المحددة بـ (يا أيها الغريب) وبهذا الأمر نواجه حالتين من الذات، الأولى ـ مركزا ـ والثانية ـ موصوفا ـ، ليتراءى للقارىء بأن هناك صعيدين من (فضاء آنوي = مرسل ذاتي موصوف) وهو ما يشكل القيمة الدلالية الاستفهامية في جملة (لست بمسافر أو بمقيم فإلى أين السبيل؟) وتتزامن مع هذا الخط المستفهم، العملية الأحوالية استنكارا ومباغتة، كما ولا يمكنها إعادة ذات الملفوظ إلا من جهة أداة وعلامة ونسق خاص، لتبدو من خلالها حركية كمساحة عزلوية من مجال تحققات القيمة الاستفهامية المستنكرة في دليلها (ألم تكتف بحثا في هذا الفراغ؟) ويمكن ملاحظة في إن أغلب مسميات الدوال في الملفوظ، هي قادمة ليس من وظائف وضعية، بقدر ما تحمل من أحوال قادمة كل شغلها الشاغل هو التواصل بين العلاقة الحسية من طرف حال وذلك الوجود اللحظوي المتمثل بهواجس الأنا .أي بمعنى ما أدق، أقول أن مجموعة وظائف القول في النص، هي مرسلات آنوية ولا يحكمها في ملامسة الخارج من الأشياء إلا بقدر متطلبات الذات الواصفة على نهوض موصوفها في مجال أدائي ما.

1ـ الدال الشعري بين المثال والأقاصي العدمية:

إن حالات التصدير في مجالات المتن النصي ظاهرا في أحوال القصدية، تتمظهر لذاتها تحولا نحو خلاصات ملتهبة من دلالات (المستحيل ـ تنتظر ـ خطى الرحيل ـ الشيء واللاشيء) تشعرنا الغرابي بأن ذاكرتها الشعرية تسعى من جهة ما للتمسك بخلاصات نوعية ما يكون مبعثها دلالات متشظية مركونة من زمن انكسارات الذات وخسائرها في جبة الانعزال في أسطورة الأنا وهواجسها الباحثة عن مواطن (الحلم ـ المأوى ـ المنفى الآخروي) وهذا ما غدا مضاعفا في هذه الجمل من النص :

لكن لم تتغيَّر رغم المُستحيل

ماذا تنتظر وظُلك ينثُ غُموضاً؟

على سبيلٍ اِنتحَب على خُطى الرَّحيل

في أقاصِي المَنطق

ألم تتشَظَّ أفكاركَ بين الشَّيء واللّاشيء؟

ولا شك من جهة ما هامة إن دوال الغرابي طاقة بلاغية عالية، تبدأ فيها مساحة التوظيف في مستويات تساؤلية واستفهامية، تأخذ لذاتها توكيدا محتملا، من إن الشاعرة تحاكي وترائي حالات ذاتها في مرآة ذاتها.أي إنها تكمن في رؤيتها ثمة مسارية خاصة من بداهة (السؤال ـ الإجابة) وكأنها تناظر لازمة مراوية لذاتها في مقابلات هواجس الأنا وصخب خوضها في حتمية رؤى مصيرية تتعلق أولا وأخيرا بذاتها وحدها، وذلك الواصل الآخر من صوت هواجسها المغيبة في أتون محرابها الآنوي.

2 ـ فعالية تقاطع المرسل بالآخر وبلوغات مقاصد الداخل النصي:

لا يمكن لأية قراءة للقصيدة أن تتجاوز مثولها في حدود ثنائيات (ذات ـ موضوع / مرسل ـ مرسل إليه / التقاط ـ شيفرة / أحوال ـ ظروف / داخل خارج / خطاب ـ نص) وعلى هذه الأصعدة الأدائية في مهام الغرض الشعري، نعاين بأن سلاهب الغرابي تسعى إلى محاورة الآخر من جهة أحادية داخل ذاتية، وعلى النحو الذي يجعل من كشوفاتها كقصدية خاصة في بناء مرسلها الممتد نحو موضع التأويل.نقرأ ما جاءت به هذه المقتبسات من أجزاء النص ذاته:

كنتُ جسداً والآن سَماوياً

هاهو زمنُكَ الصَّحيح

فمت أسمُكَ؟

ما عالمُكَ؟

وما التَّأويل؟

قاسمتني الأمسَ وسأقاسُمكَ الغَد

تحمَّلتُ ثورة تقلُّباتكَ واليوم تقبَّل مني

عفويَّتي وذُهولي دون ذمٍ أو تَبجيلٍ./ص8

على ما يبدو لي إن ذات الشاعرة تخاطب عمقها الآخر، أو إنها تحضى بكتابة مرثية إلى جهة قد سلبها منها روح الفقد: وإلا ما معنى ـ كنت جسدا والآن سماويا ـ أو جملة اللاحق ـ ها هو زمنك الصحيح / فما أسمك؟ ـ ما عالمك؟ ـ .قد تكون الشاعرة تستظهر نوعا ما من تمرئيها بأنا ذلك الآخر المفقود من حياتها، وهي بذلك تبدو وكأنها ترني بتعزيمة رثائية حول وازع ذلك المدثر بالفقد.يمكن للناقد سبر أغوار تحاليل النص إلى أقصى أوجه ما من المعنى المحتمل، ولكن ليس في الأمر من ملكية عائدة بصورتها المباشرة إلى جهة الذات الشاعرة، فهي مثلا في جملة (قاسمتني الأمس وسأقاسمك الغد) قد تعني في ما تعنيه منشطرة ما بين الماقبل والمابعد، ولا يخفى عن متبصرا ما بأن ما تلوح له الغرابي، لا يتم إلا في صورتين تعبران عن (العالم الأرضي ـ العالم البرزخي) إذا هناك دلالة على حالة مفقودة من حياة الشاعرة، لا بد لها من الالتحام بها سرا أو في العلن، وهذا بدوره ما يبدو واضحا في هذه الجملة (لا تتركني خذ بيدي للفردوس الأعلى) هنا تتضح الأستحالة في خيارات الذات الواصفة، خاصة وأنها تتحدث من منطلق لغة العوائق والتمني أو الانغراس المحتمل في تيه المحال، في ما يبدو الكمال الأوحد مجسدا في ماهوية اللاشيء أو اللاقدرة الذاتية في الإحاطة بمعاودة ذلك المفقود إلى حيز ذاتها الاستفهامية في الحد الواقع بين (الذات الآخر = علاقة اللاممكن) .

ـ جدلية الموت خلاصا للذات وقيدا للمرجعية الشعرية:

إن نوازع الذات الشعرية في مجموعة (هاجس النجاة والأنا) تؤسس إلى مواطن كينوناتها شرعية بلوغ دال الموت ومصافحته ضمن ثنائية دليل ( الموت : خلاصا ـ قيدا) وبما إن الموت قوة كونية الإرادة غاطسة في توطين مفردات الانقطاع والفقد والرحيل عن الحاضنة الأرضية الدنيوية، لذا بقية لغة الغرابي تتعامل مع هذا الدال تارة كمخلصا، وتارة كطاقة استلابية في نموذجها التحقيقي والتمثيلي.ومن هذا النوع وذاك نقرأ مداليل قصيدة (للموت صوت عال) :

"أنتَ الحُب المُطْلّق

تصالح الذَّات مع الرُّوح"

هكذا وصَفوك

لكنَّكَ يا أيُّها الموت

مبعث تساؤلاتي المُضنية

والحقيقة التي لا أزايد عليها

في لُجَّةِ معرفتي في صمتكَ المُطبق

سأتحرَّر من قُيودِ الجسد

وسَأنحر بمقدَّمك تساؤلات الحَياة الفانية ./ص17

إن مبعث الفاعلية هنا، سواء كانت انعكاسية أو معرفية أو زهدية أو شعرية أو خلجات نفسية، فر تبرر للشاعرة بأن مستوى درجات فهمها للموت واردة في حدود لغة عارية من المحمول الشعري المؤثر، فقد تبدو لغة النص وكأنها جاءت خاطرة نثرية في تجربة الكتابة عن الموت، وليس فيها أدنى درجة من الفراسة الشعرية الدالة والمؤثرة موضوعيا.على أية حال أقول إن دينماميكية (الذات ـ الموت) تصبان في شيئين من الإضافة والتعزية، لا إلى مستوى الحسية الكاملة المسكونة بآهلية شرائط وأشكال حقيقة فقه الموت، خاصة وإن علاقة موضوعة الموت بالذات الواصفة أخذت لها تسويقا مقاربا إلى وسيلة الانتقائية في اختيار الموضوعة.كما وأن حالة التحرر من الجسد، أي من منحة أهواء المادية الأرضية إلى الموت وصولا وتزهدا مرمزا، راح يعكس حالات عائدة للذات أولا وأخيرا كما يتضح في مقتبس هذه الجملة (يا ملاذ الأرواح يا من وجدت فيك حلا) أو جملة المقابل (أمامك اللحظية تنفى) تقودنا اعترفات الشاعرة عبر وحدات قصيدتها بأنها انصهرت كصوفية في مناشدة الموت تطهرا واحتسابا، ولكن قصيدتها لم تنفك من الإحالات والتمثيلات المرجعية للأساطير والملاحم وأبطالها المسكوكة، لذا ظلت قصيدتها منشطرة ما بين جدلية الموت خلاصا وقيدا، خلوصا للمرجعية الشواهدية  للأساطير والملاحم، وتجميل صرخة الانموذج المعرفي في فلسفة أفلاطون المثالية والألوهية .

1ـ فضاء التصدير الصوفي وقلق حالات الارتحال:

ينفتح المدى الزمني في فلسفة التصوف الشعري منذ بواكير الحلاج العرفانية وحتى محي الدين أبن عربي، وهذا الأسلوب الثلاثي الأقطاب هو الانموذج الأكثر أهمية عند أهل العرفان (التوحيد الفعلي ـ التوحيد العقلي ـ التوحيد الصفاتي) هذا الذي اندرج عليه أغلب أهل التصوف العرفاني النظري والتطبيقي، كما أن الوازع الشعري في منجاة الحلاج وباقي شعراء المتصوفة، قد أخذ لذاته الحركة التوحيدية النسبية، ذلك لأن المتصوفة قد ساروا في حدود ضيقة من أوهام المخيلة والتخييل في العبادة، وليس في آفاق تصديقية مبرهنة في إظهاراتها الكلية ولا حتى الجزئية.أو أن لا أكون قد سجلت على ذاتي خروجا من فروع قراءتنا لشعر الشاعرة سلاهب الغرابي، ولكن أحببت إعطاء فكرة وومضة حول شواهد من الشعراء المتصوفة اللذين كانوا يطلقون خيالاتهم في الغيب شططا.أقول أن تجربة الشاعرة في هذا النمط من الشعر، كان يرتدي هيئات من ألوان التصوف في ملبس دواله، ولكنه على أية حال لم يكن إلا عاطفة شعرية مضغوطة بقلم الموت تارة وحب الأنا وأهلها تارة، وهذا الأمر ما جعل من قصيدة (ارتحال) بمثابة الملاءات للحساسية الشعرية بذلك الموت تطهرا وخوفا معا:

تَصْهَلُ الذِكْرَيَاتُ

فِي الرُّوحِ كَّي لَا أَرْحل

وحنينيي يَشٌدُّنِي

أَنْ أُبْقى بِحُضن وَطَنِي الجَرِيحِ./ص21

وبهذا الشكل تكون قصيدة (ارتحال) ذات تلوينات مختلفة، فهي اختارت وظيفة البقاء في وطنها الذي هو في الواقع الموت أهون من العيش فيه فترة من الزمن!؟.

ـ تعليق القراءة:

من خلال خاتمة قراءتنا لبعض من نماذج قصائد مجموعة (هاجس النجاة والأنا) للشاعرة العزيزة الدكتورة سلاهب الغرابي، أجدني أقول وبكل أمانة: إن فضاءات قصائد المجموعة تجارب شعرية تستحق التقويم والإضاءة والتداول النقدي في مشروع دلالاتها الرصينة، وبالحجم ذاته هناك ذائقة وأداة شعرية موهوبة وثاقبة في رؤيتها ولغتها.فيما تبقى مفاصل قصيدة مطلعة ومتواصلة بين مسافة الذات الفاعلة وموضوعة حجب الداخل الحسي حيال عدمية الخارج الآنوي.

***

حيدر عبد الرضا

1- تقديم: إن مقاربة هذا العمل لا يمكن أن تتم إلا بوضعه ضمن السياق الرؤيوي الذي ينطلق منه المبدع، لأن اقتحام القاص رضوان بن يشرق مضمار الكتابة الأدبية كانت له مبرراته ودوافعه الذاتية والموضوعية. والقارئ المتأمل لهذا المنجز يدرك أن الكاتب استثمر تجاربه الحياتية باعتباره شابا حالما بالتغيير، شابا عاش كل الإحباطات المؤلمة التي تطارد الخريجين الجدد، وعانق الحياة البائسة في أبشع صورها. وفي النهاية قرر أن يطل علينا بهذا المنجز ليحمل صورة الهامش الذي يعيش جحيم الإقصاء، ولينوب عن كل المقيمين فيه. وقد ساعده احتكاكه اليومي بالناس في إسماع صوت البؤس، وفي رسم صور التعاسة، وترجمة التجاعيد الغائرة التي تسكن وجوه المهمشين.

ولتقديم هذا العمل الذي يطرح العديد من الأسئلة الكبرى، نجد أنفسنا مضطرين إلى تسجيل بعض الانطباعات الأولية حول هذا العمل بالعبارات التالية:

- لعنة طنجة عملية تشريح دقيق لأنسجة المجتمع الطنجي، وكشف حثيث عن الهم الكبير الذي يزداد عتوا وضخامة مادام الواقع يزداد ترديا، ومادامت القيم تزداد انقلابا وتحورا.

- لعنة طنجة جماع الإحباطات التي تغتال أحلام كل شاب حالم بالتغيير وتحقيق الذات وإيجاد المعنى لهذا الوجود بعد سنوات طويلة من الأمل والانتظار.

- لعنة طنجة استنطاق للمسكوت عنه، وتسلل نحو الأعماق المظلمة الصاخبة.

- لعنة طنجة مذكرات شاب محبط.  نبضات شاب عاشق للحياة الكريمة. صرخات شاب غاضب ثائر في زمن التهميش وأزمة القيم وضياع المعنى.4544 لعنة طنجة

2- لعنة طنجة وإشكالية التصنيف:

لعنة طنجة مجموعة قصصية حربائية، تتلون وتتشكل في أكثر من شكل مما يجعلها عصية على التصنيف. فهي تنتمي، في بعض محكياتها، إلى الأدب الواقعي الذي يكشف صورا من الواقع السياسي والاجتماعي والعاطفي.  ولكنها في جانب آخر تميل إلى الأدب الفنطازي الخرافي الذي تنزاح فيه الوقائع وتفقد هويتها الواقعية وتكتسي صفة النص الخرافي العجائبي. وأحيانا يتضمن هذا العمل كائنا سيريا مضمرا يطل علينا من بين بعض الفجوات والمحكيات. فهي إذن مزيج حكائي يجمع بين الرصد والخيال والبوح.

3- ظلال العنوان:

العنوان هو المعبر الأول الذي نمر من خلاله إلى أغوار المتن، وغالبا ما يكون منطقة دلالة حبلى بالإشارات التي تفيدنا في عملية القراءة. ولعنة طنجة عنوان مستفز للقارئ ومثير للفضول. كما هو الشأن حينما نقول لعنة الجوار/ لعنة الحب/ لعنة الوظيفة/ لعنة الشيخوخة... فهو، وإن كان عنوانا لإحدى قصص هذه المجموعة، فإنه المفتاح الذي يمهد الطريق لكل قارئ لهذا المنجز القصصي، ويسهل عليه الولوج إلى عالم مكتظ بالإحباطات المتلاحقة والإخفاقات المتتالية. فهذه العبارة تختزل كل المعاني التي تحيل على الخيبة والغربة والإخفاق والإحباط والمعاناة وسوء الحظ في مدينة عاقة لأهلها اسمها طنجة. طنجة المقنّعة بأقنعة دخيلة زائفة، جعلتها تختلف عن صورتها القديمة البهية الفاتنة ذات الخصوصية المعمارية والبشرية والخلقية. طنجة التي كانت.. طنجة التنوع والاندماج والتفتح والتمدن والأصالة والبساطة والطيبة والشهامة والنبل والسمو. طنجة القناعة والعفة والحياء....

لعنة طنجة هو تعريض صريح بهذه المدينة الساحرة التي ُمسخت تفاصيلها وصارت تتمرد على ذاتها، وتتنكر لماضيها، فأصابت أبناءها بالاغتراب وبلعنات يومية لا تنتهي. صارت تُعرض بكل قسوة عن أبنائها، وتسلمهم قرابين لنيران اليأس والبؤس، وتزرع في أعماقهم المرارة والرغبة في الانسحاب والهروب، فغرقوا في بحار التخدير والجريمة والهجرة والعدمية والاغتراب.

هذه الغربة القاسية التي تحيط بأهل طنجة في مدينتهم، جعلتهم يميلون إلى الاعتقاد بأنهم أصيبوا بلعنة حب غير متبادل.. لعنة حكمت عليهم بالانزواء والعزلة. ولذلك تجدهم يلوذون بالهامش وبالأحياء الفقيرة ويخفون أوجاعهم في المقاهي الشعبية. هناك يتحررون من سطوة الاغتراب ومن متاهة الضياع. هناك فقط يجدون الإحساس بشيء يشبه الحياة.

4- العوالم الجمالية في (لعنة طنجة):

قبل الخوض في عوالم هذا المنجز أشير إلى أنه منجز أفكار وأسئلة ورسائل قوية ومنبهة أكثر مما هو عمل فني معد للمتعة أو مقصود لذاته. فالكاتب يميل إلى فلسفة الفن من أجل الواقع وليس إلى تيار الفن من أجل الفن.

أولا: على مستوى المحكيات

عوالم لعنة طنجة كثيرة ومتنوعة. لأن هذا العمل يوجه رسائل كثيرة في قالب فني. وهي رسائل قوية تصل إلى مستوى الإدانة ومحاكمة مؤسسات الواقع.  كما نجد رسائل النقد الثائر ورسائل النقد الساخر. ففي هذا المنجز نجد المبدع يترافع بالورق والقلم والكلمة والخيال مناصرة للمظلومين والمسحوقين وسكان الهامش.

وفي عوالم لعنة طنجة نجد مزيجا من الأحاسيس المتناقضة التي تعكس وضع الإنسان المهزوز في هذه المدينة؛ مدينة المتناقضات. أحاسيس قوية غير ثابتة، يسيطر عليها اليأس والرغبة في الانسحاب تارة، وتارة أخرى يسيطر عليها إعلان التحدي والرغبة في المواجهة. يمكن تصنيفه في: الإحساس بالاغتراب في مدينة إسمنتية جاحدة. الإحساس بالظلم في وسط رأسمالي متغول محتكر للثروة والمناصب. الإحساس بالدونية في مجتمع مادي أناني لا يرحم الضعفاء. الإحساس بالإحباط والخيبة وسوء الحظ. الإحساس بضرورة مقاومة الواقع والتمرد على مؤسساته. التطلع إلى العدالة والديموقراطية وتكافؤ الفرص.

ثانيا: على مستوى الشخصيات

كان الكاتب ذكيا في اقتناص شخصيات قصصه لأنه لم يبحث عنهم بعيدا، لأنهم جزء من الصور الآدمية التي تؤثث الوسط الذي ينتمي إليه. فأغلب الشخوص في قصصه تنتمي إلى الشريحة المسحوقة التي تقاوم كثيرا لتعيش، تكد وتجد ليستمر نبض الحياة، ولكنها أحيانا تضعف وتنسحب وتستسلم لسطوة اليأس فتلجأ إلى الانتحار. يحضر رواد المقاهي الشعبية والسكارى والمنحرفون وتجار المخدرات وتجار البشر والطلبة وأصحاب المهن البسيطة. هذه الشريحة من النماذج البشرية تجمعها قواسم مشتركة عديدة، أهمها الخيبة والقهر والإقصاء.

ثالثا: المذهب القصصي

يهتم الكاتب كثيرا بالتنويع في بناء قصصه وصياغة عالمها الجمالي، وذلك بالتركيز على الواقعية تارة، والارتماء في ساحل النصوص الفانطستيكية والهتشكوكية والكتابة الساخرة وكأنه رأى في النص العجائبي الساخر والمشوق ملاذا آمنا يحتمي فيه كل من اكتوى بلهيب الحياة اليومية في ظل سيادة الظلم والتهميش والأنانية والمحسوبية والفساد.

رابعا: الفضاءات المكانية

الأمكنة تنتمي للهامش. تتقدمها المقاهي الشعبية وبعض الفضاءات التي يتردد عليها البسطاء. وهي شاهدة على تجارب حياتية مؤلمة وحكايات موجعة لشريحة اجتماعية مكتئبة حكمت عليها قوانين الرأسمالية المتغولة بالتواري طوال اليوم في الزوايا المظلمة وارتشاف كؤوس القهر بعيدا عن أعين المحظوظين الوافدين الذين استباحوا كل قطعة جميلة أو معلمة تاريخية في هذه المدينة، فأقاموا أبراجا إسمنتية باردة بلا ذاكرة ولا روح ولا حياة.

6- خاتمة:

هذه المجموعة القصصية الحاملة لهموم البسطاء والحالمة بالتغيير واستعادة الهوية، تقدم للقارئ المغربي وجها جديدا لمدينة طنجة. وجها مختلفا عما عهدناه في الأعمال الأدبية الأخرى. وجها لا يمكن أن يدرك بشاعته وقبحه إلا أبناء هذه المدينة المغتصبة. وجها مقنعا بألف قناع، وقد استطاعت هذه المجموعة أن تنزع بعض هذه الأقنعة لتظهر الصورة البشعة لمدينة صارت تفقد بهاءها يوما بعد يوم، وتتنكر لماضيها المجيد. مدينة جاحدة تنتحر فيها الفضيلة على مقصلة المال والثراء.

***

د.  محمد شداد الحراق

سأشتغل على قصيدة للمبدع رضى مريني، عَنْونها صاحبُها بعبارة خزّانة دلالياً، وبحمولات قوية مختزلة في مركب إسمي يعجن التعبير في مزيج اللغة والرقم والعجمية. والعنوان هو (دولوريس وقطار الساعة 25). لتنحسر الدهشة في هذه العتبة عن مقولات الكينونة والزمان والمكان.

1- في الصوغ الفنّي:

القصيدة في صوغها الفني جاءت عبارة عن مقاطع قصيرة، وكل مقطع يتناسل عن مقطع بحيث لا تكاد ترى خلالا بينها. إنها مشدودة إلى بعضها بذكاء الصوغ الشعري البعيد عن معانقة التكرار الجمالي، والذي يعتبره الشاعر درجة ثانية في شعرية القول بعد ذكاء التناسل الشعري.

والتناسل الشعري هنا مبني بقصدية دلالية مدهشة تستثمر آخر كلمة في المقطع لتنتج منها دلالة ثانية في المقطع الثاني، وتستثمر الكلمة الأخيرة في المقطع الثالث لتنتج منها دلالة ثالثة في المقطع الثالث وهكذا في تناغم إيقاعي أو في إيقاع تناغمي يتسم بقوة الصوغ ويفر من ارتجالية المعنى والمبنى. وإن الشاعر بذلك يقحم المتلقي في عملية البناء ويستدرجه في التفكير بمعيةٍ جمعية تتكهن بسيرورة وصيرورة المحكي الشعري داخل محطة القطار.

و إن المتتبع لعملية التناسل سينبهر بالحمولة المعجمية الموغلة في الاختلاف والتنوع والتشعب. وندرج هذا المعجم الخاص بين قوسين حتى يتمكن القارئ من ملامسة شعرية التناسل عند الشاعر رضى مريني الراغب في الصمت: (المحطة القطار الحلم اللامرئي الخيال الساعة المطر السماء السكة الحديدية الانتظار العد العكسي دولوريس الحمامة الرصيف الطريق الأثر) وهنا يتوقف التناسل والتوالد ليعلن الشاعر عن قرار شعرية الكينونة داخل المكان والزمان.

و يأتي المقطع الأخير ليكسر تجانس عملية التوليد الدلالي ويكسر معها انتظارات القارئ وهو يسقط في فخ ترقب تكرار المشهد. إلا أن الشاعر أبى إلا أن يتحول عن انسيابية التناسل الشعري إلى شعرية الدفقة الدلالية الأخيرة المختلفة في بنائها عمّا سبق. وهو المشهد الذي يسجل قمّة الإدهاش في سفر التجلي الذي ينسج ذاته في محاريب الحرف والكلمة وهما المقولتان الناقصتان في مفارقة الحضور والغياب والمكتملتان في المشترك القائم في شرط واحد هو شرط المعية (مع) والّتي أسميها (الكينونة الممتازة).

2 - هندسة البياض:

يرتّب الشاعر رضى مريني بصرَ القارئ وذهنه داخل هندسة البياض بذكاء نوعي، بحيث يسيّج بصره داخل رسمٍ كِتابيّ يطرح السطر الأول في مفردة ويليه سطر شعري في جملة إسمية أو فعلية واحدة لا غير حتى آخر القصيدة حيث تختفي هذه الهندسة ويتحول القصيد إلى انسياب شعري في أربعة أسطر شعرية مكسرةً الإيقاع السابق.

معنى ذلك أن الشاعر لا يتقيد بحدود المساحة البيضاء التقليدية التي تحدّ من حرية السواد والحبر. وبالتالي تحدّ من قوة التدفّق الشعري لديه. إن رضى مريني شاعر معاصر يهمه أن يبني قصيده وفق تصور بصري يمتد إلى دواخل المتلقي ليحدث بعض الخلخلة في نمطية استقباله لمفهوم الشعر على مستوى استثمار مساحة البياض على الأقل. وهو اختيار من الشاعر يحدد فيه مفهومه للبياض والسواد باعتبارهما جدلاً إبداعياً لا يُسيَّج في رؤية واحدة وأوحد. (الشاعر في اختياره لهذه المقاييس لا يصدر عن تفضيل عنصر على آخر، وإنما تتداخل في الاختبار الذاتي مجموع البنيات الجزئية التي يحكم وجودها ترابط جدلي وينتهي البيت عندما يلامسه البياض أو عندما يوقفه البياض فيحد من حريته في التدفق)1

ينزع الشاعر رضى مريني بالكتابة (الڭرافيك) منزعا ثنائيا يقوم على بنية تشعّب المقولتين ثم تجانسهما: الكلمة ثم السطر في توارد يتمظهر خمسة عشرة مرّة ولا ينحسر إلا في المقطع السادس عشر، وعياً منه بأن الكتابة عنصر فني جمالي لا ينفصل عن عمق الذات وهي تتفاعل في الصوغ الدلالي والنفسي للغة. حتى لا مسافة بين المحتوَى والمُحتوِي، بين المادة والوعاء. قال ابن خلدون (واعلم أن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلابد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة)2

و هذا النزوع من الشاعر لا يروم به تسجيل الاختلاف عن الرسم العمودي، بدعوى الاختلاف فقط، وإنما هو صيرورة تمتد من قرار الكتابة الشعرية في قلب النثيرة لا في قلب القصيدة الخليلية، ومن ثمّة كان الأمر أنطولوجيا أكثر منه شكليا يقيم في تخوم الـ (الڭرافيك) في بلاغة الزخرفة واستدعاء بصر المتلقي خارج بداهة القديم. إنه التماهي بين الذات المنفعلة والذات الراسمة، في قناعة تصورية تكسر تراتبية الفضاء النصي وحدوده التاريخية وهيمنته الكاسحة. ومن هنا تداعى في الرسم موضوع النبر، فنحن عندما نقرأ السطر المختزل في كلمة واحدة، نجلو صواتةً بالغة في التقصّي الدلالة البعيدة، ولنضرب على ذلك مثال ثلاثة مقاطع:

المحطة..

تنتظر حلول قطار س25.

القطار..

عابر سبيل ساحر وحالم.

الحلم..

مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية.

فالنبر على مفردة (المحطة) مثلا ينزل بحمولتيه الصوتية والدلالية في سؤال المتلقي عن هذه المحطة وبالتالي تتداعي في الذهن تمثلاته عن المكان وامتداده في وجدانه سواء على مستوى شكل المكان أو عناصره أو حركيته أو سكونه أو غير ذلك من تداعيات المكان الممكنة بسياق القصيد. وكذا ينسحب القول على نبر ألفاظ القطار والحلم وغيرها من مقاطع النص المفردة.

3 - شعرية الكينونة:

هي شعرية تمتح قوتها من قدرة الشاعر (ر م) على حشد ثلاثة أقانيم في متن العنوان ثم تحليلها داخل المتن الشعري في مكر أدبي مثير جمالياً ومستفز دلاليا. ونقصد بذلك:

- الإنسان: دولوريس

- المكان: القطار

- الزمان: الساعة 25

تتبدى هذه المقولة واضحة في الاسم العلمي العجمي (دولوريس) وهو علامة سيميائية مستفزة تطرح علينا أكثر من سؤال، على الأقل في تصورنا للشاعر وهو يزورّ عن تراثيات (هند وبثية وفاطمة وغيرهنّ...) ممّن ملأْنَ قصائد الشعراء وكما ملأن آذاننا ووجداننا.

و اللافت للنظر في هذه العلامة ليس العجمية فحسب، وإن دلّت في عرف الشاعر وفي عرفِ تأويلنا على اختيار المتكلم اسماً لا يرمي بنا في شوفينية القول العربي الرابض دائما في التغنّي بالاسم الأنثوي العربي، وذلك إيمانا من الشاعر بكونية التجربة الإنسانية في عمليات الانتظار أو في واقعة الانتظار. إنها النفس البشرية مقروءةً في صميمها الكوني الذي لا يتبدل من دولوريس إلى فاطمة.

وأنما الأمر متعلق في بعض تأويلنا بالاسم العجمي الموسوم بالإشارة إلى متعيّن غائب، ذلك أن اسم دولوريس مشتق إيثيمولوجياً من الأصل اللاتيني (dolor) والدال على الألم. 3

من هنا دقّة الاختيار في الاسم الشاعري والشعري الرامي بالقارئ في أتون القراءة الذكية والممتطية صهوة التأويل لا مطايا البحث عن المعنى القريب والمستسلم لأول تناول.

والمسألة تتيح لنا شيئاً من فائض المعنى ونحن نقرأ التوظيف داخل سيمياء التركيب بين الاسم وفعل الانتظار في المكان. إنها الكينونة المتميزة لا في الحضور الإنساني المكتظ، وإنما في الحضور الفنّي القارئ للذات البشرية في كينونةٍ شعرية تتسم بالعمار التأملي إن لم نقل الفلسفي، حيث الماهيةُ قضيةٌ، وحيث الوجود سؤال.

و الأمر لا يتعلق باسم مفرد هو دولوريس داخل مكان عابر هو المحطة في زمن متلاشٍ في السديم هو سحابة ساعة أو أقل. الأمر أكبر من ذلك، وأعمق، وأقوى من تحييزه داخل التشيؤ. وخاصّةً عندما ندرك استعمال الشاعر للساعة الخامسة والعشرين المترنحة خارج إمكان القبض. من هنا أيضاً شرط الكينونة في قراءة هذه القصيدة السائلة.

و في تشعب القصيدة بين مقولة المكان والزمان والإنسان تشعبت كثيرٌ من العناصر تتداعى فيها معانٍ مولّدة في صوغٍ شعري لا يبذخ في الفكرة وإنما يرسم الفكرة فلسفياً لتقول القصيدة شيئا في هذه الكينونة الظاهر بسطها والباطنِ عمقها. إذ في كل عنصر يتبدى الشعرُ مسافراً لا في تحديد ماهية العنصر بقدر ما هو انزياحٌ في شعرنة العنصر. فتتحول المحطة إلى كائن حيّ يمارس فعل الانتظار، والقطار إلى عابر سبيل، والحلم إلى مسافر، واللامرئي إلى خيال، والخيال إلى إيادٍ تتلاعب برقاص الساعة... وهكذا في توليدية عجيبة تؤثّت ذهن المتلقي وتدفع بمخياله إلى تخوم الذكاء في استنتاج الآتي والممكن والمحتمل.

وهو التشعب المنتهي بفكرة الانسجام على مستوى الخطاب الشعري الذي تتساءل فيه الكينونة أكثر من أي عنصر آخر. وفيه تبدو دولوريس حمامةً تميس على الرصيف وتغفو على كرسي الانتظار لتمسك بتلابيب القصيدة داخل فعل الانتظار الذي أعتبره صلب القصيد مشفوعاً برؤية فنية ووجودية للزمن خارج مسألة التحقيب، ونستفيد ذلك من اختيار الساعة الخامسة والعشرين في اخترام واضح لمفهوم الزمن. فالساعة الخامسة والعشرون ساعة مستحيلة في عرف إدراكنا البسيط ولكنها في عرف الشاعر ممكنة سيميائياً لأن الاستحضار هنا غير فيزيائي لا يقاس بدلالة مقدار حركة الموجودات داخل المحطة \ المكان وإنما بمقدار وجودها داخل الزمان النفسي كمطلق كوني لامتناه.

و فيه اعتمد الشاعر رضى مريني توظيف الزمان باعتباره مقولة نفسية معرفية يحدّها سلوك عاطفي وجداني وانفعالي يحتويه الشعور واللاشعور، كما وسمه في دواخل دولوريس الممتدة إلى روحها والهاربة من تخوم إحساسها البسيط بالوقت المتحيّز داخل المحطة. وبتعبير آخر فإن الشاعر اختار الزمن الممتلئ من منظور برجسوني (يفسح الزمان الممتلي والعميق والمتواصل والغني ليكون مكاناً للجوهر الروحي الذي لا تستطيع فيه النفس الانفصال عن الزمان)4

4 – ختمٌ:

ينتهي الدفق الدلالي في هذه القصيدة - التي لم نوفيها حقها في التحليل نظرا لعبقرية عمقها – بقرار شعري يعيد ترتيب تشعب العناصر الأولى المنسابة في إيقاع تناسلي عجيب، وهو قرار شعري يتناسل من مفردة الطريق بمنطق السبب والنتيجة مشيرا إلى تداعٍ انزياحي قوي هو (الأثر) الناجم عن مقولة الطريق، وهو الأثر المتحول إلى إمكان الاستمرار لتخرج معاناة الألم والانتظار من الحالة الخاصة إلى الحالة الكونية، فيتحول الأثر الناجمُ عن السَّفر سِفرا للتجلّي. وتتحول الكسرة من حركة مورفولوجية إلى حركة دلالية تحدث شرخا بين المعيش انتظاراً إلى المعيش كينونةً ووجودا. والسفر بكسر السين متعلق في استيعاب الشاعر بالتجلي. ذلك أن رؤيته الشعرية لم ترد أن تلقي بالانتظار في نهاية البداهة حيث يتحول المنتظر إلى استقرار في عربة من عربات القطار لتنتهي الرحلة من حيث بدأت... وإنما هي الرحلة الوجودية في قلب المعاناة الإنسانية الكونية الموسومة بالجوهر بقرينة لفظية هي الساعة الخامسة والعشرون التي رمى بها الشاعر في كتاب التجلي القائم على يناع الحروف والكلمات.

 ***

بقلم نورالدين حنيف

........................

1- بنيس محمد، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ص10

2 - عبد الرحمن بن خلدون، المقدّمة، دار ابن الجوز، القاهرة، مصر، ط1،2010،ص351

3- أنظر https://fr.wiktionary.org/wiki/dolor

4- جاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ترجمة خليل احمد خليل، الممؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2، ص16

.............................

أنظر نص القصيدة:

"دولوريس" وقطار الساعة 25

المحطة..

تنتظر حلول قطار س25.

القطار..

عابر سبيل ساحر وحالم.

الحلم..

مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية.

اللامرئي..

يرى مخلّفات الخيال.

الخيال..

أيادي تتلاعب برقّاص السّاعة.

السّاعة..

تعلن رحيل المطر.

المطر..

يراقب وِجْهة الريح في السماء.

السماء..

تعكس ظمأ حجارة السكة الحديدية.

السكة الحديدية..

تآكل صُلْبُها بفعل الانتظار.

الانتظار..

ينتظر على إيقاع العدّ العكسي.

العدّ العكسي..

يتلهّى في انتظار إطلالة " دولوريس ".

" دولوريس "..

تميس على الرصيف كحمامة.

الحمامة..

تغفو فوق آخر كراسي الرصيف.

الرصيف..

مفترق طُرُق.

الطريق..

اِقتفاء أثر.

الأثر..

سِفر التجلّي..

حيث زُرعتْ حروف..

أيْنَعتْ كلمات..

على إيقاع شِعريّة فنّ الغياب..

عن الحضور المشترك مع.

***

رضا مريني

 

إذا كان الشَّرُّ متأصِّلًا في البَشَر، والخير مستحيلًا- كما تُصوِّر مسرحيَّةُ (جان بول سارتر)، "الشيطان والرحمن"، في مَواطِن عديدة- فإنَّ من الخير، إنْ وُجِد، ما هو خيرٌ سلبيٌّ؛ يُعيق الالتزام بالحقِّ والواقعيَّة في النظر إلى الأمور، كموقف الفلَّاحين المتديِّنين الذين يقابلون الشَّرَّ القادم بالخير والحُبِّ(1)؛ ممَّا يفرض على الملتزِم توجيههم الوجهة الواقعيَّة، ولو استدعَى ذلك اللجوء إلى القوَّة.  والمعوِّق الآخَر: رجال الدِّين ودجَّالي الغيبيَّات؛ ممَّا يجعل مهمَّة الملتزِم صعبةً في إقناع أبناء الشَّعب بزيف ما تُحشَى به رؤوسهم، مثلما حدث عندما حاول (تيتزل)، الكاهن الدجَّال، أن يوزِّع صكوك الغُفران على أبناء الشَّعب ليَبْتَزَّ أموالهم.  وحين حاول بطل المسرحيَّة (كوتز) أن يُفهِّم الجمهور حقيقة لعبة تيتزل الدنيئة لم يُفلِح، بل لقد عاداه جمهور الشَّعب، على حين استطاع تيتزل أن يزيد حُبَّ الشَّعب إيَّاه وإطاعته.(2)  وقد يكون تضليل الشَّعب عن طريق السِّحر والشعوذة وما أشبه ذلك، مثلما نجِد في (اللوحة الحادية عشرة)، إذ تَحُكُّ السَّاحرة بِيَدٍ خشبيَّةٍ ظهور الفلَّاحين، زاعمةً أنَّهم بذلك سيُصبحون معصومين من التعرُّض للجراحات. حتى لقد استُغِلَّت هذه الطريقة لدفعهم إلى الحرب ومنعهم من الفرار. غير أنَّ (ناستي)، الذي يمثِّل قائد الثورة الشَّعبيَّة، وقف أمامهم، مخاطبًا أحد أبطال هذا الفصل من المسرحيَّة:

"ناستي: لقد جعلتُ منهم رجالًا وأنتَ تحوِّلهم إلى بهائم!

كارل: إنَّ البهائم التي تُقتَل وهي ثابتةٌ بمكانها أفضل من الرِّجال الذين يَفِرُّون."(3)

وماذا عن التعليم؟

من خلال دَور المعلِّمة التي تتولَّى تعليم الفلَّاحين، تُصوِّرُ المسرحيَّةُ التعليمَ- وكان المعوَّل عليه في تبصير البُسَطاء والجهلة بحقيقة الأمور ووظائف الإنسان في الحياة- على أنَّه لا يُعَلِّم إلَّا المثاليَّة الفارغة، وحُبَّ الخير العقيم، الذي لا يُشْبِعُ جائعًا، ولا يكسي عاريًا، ولا يشفي مريضًا، ولا يَدْرَأُ شَرًّا محدِقًا بالمجتمع.  وأنَّ تكريس تلك المثاليَّة تجعل الناس يقفون ضِدَّ من يُفتِّح عيونهم على أشعَّة الشمس الساطعة.(4)

 وهكذا فإنَّ مسرحيَّة (سارتر) تُقدِّم عرضًا لمختلف جوانب المشكلة الوُجوديَّة، وتصويرًا للصراعات بين عواملها المتباينة المركَّبة.  صراع الفقر مع الغِنَى، وصراع الواقعيَّة مع المثاليَّة، وصراع الخير مع الشَّر، وصراع الوُجوديَّة مع الدِّين، وصولًا إلى النهاية التي جاءت دعوةً إلى تحقيق وجود الإنسان.  أمَّا الوسيلة، فهي باعتماد الإنسان على نفسه في تحقيق ذلك الوجود، وبالواقعيَّة الوُجوديَّة، التي تجاهد الفساد في كلِّ صُوَره، وإنْ استدعَى الأمر العنف والإرهاب! 

أَ فيتَّفق هذا الالتزام الذي يطرحه (سارتر) في مسرحيَّته هذه مع ما دعا إليه الوُجوديُّون، وفي مقدمتهم سارتر نفسه، من أن يقدِّم الكاتب رأيه الالتزاميَّ بهدوءٍ، وبلا عنفٍ أو تَشَنُّج، بل من دون أنْ يُشْعِرَ القارئَ بفرض شيءٍ عليه، وإنَّما تُقَدَّم إليه الحقائق والاقتناعات ليُكْسَب تعاطفُه على الأقل؟ 

تلك مسألةٌ نقديَّةٌ تتطلَّب استطرادًا جانبيًّا، ليس هذا بمجاله.  ومهما يكن من أمرٍ، فلعلَّه قد اتَّضح- من خلال سلسلة المقالات في هذا الموضوع- ما جاءت تُمثِّله مسرحيَّة (سارتر) من نظرةٍ وجوديَّةٍ إلى علاقة الأدب بالسُّلْطة، وما عبَّرت عنه من التزامٍ وُجوديٍّ عميق، لا يخلو من تطرُّف.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) سارتر، (د.ت)، الشيطان والرحمن، ترجمة: سامي الجندي، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع)، 186- 188.

(2) انظر: م.ن، 136- 144.

(3) م.ن، 248.

(4) انظر: م.ن، 181- 190.

 

في خضم صراع الايدلوجيات وتشابك الأفكار وارتباك أو اهتزاز في بعض الانتماءات في العراق لاسيما أثناء وبعد تظاهرات تشرين 2019،التي خرجت وعلى الرغم من كل الملاحظات عليها لكنها خرجت بمسوغات حقيقية ناتجة عن فشل المنظومة السياسية الحاكمة بعد 2003بقيادة الاسلام السياسي، يصدر لنا أحد الشباب كتابا بعنوان (تحرر من القيود) وللوهلة الأولى يظن من يقرأ إنه يدعو الى كسر كافة القيود بما فيها الضوابط الشرعية والقانوية لكن عندما نسترسل بقراءة الكتاب نجده إنه ضد القوالب التي اختلقتها العادات ووبعض الطقوس المبتدعة التي تحولت إلى مقدسة يصعب التقرب منها هي من صنع ذوات المصالح وبعد ذلك تصبح قيودا وأثقالا على كاهل الفرد والمجتمع ولما نقرأ مقطوعة من الكتاب سيتبين لنا أن الكاتب محمد كريم الكلابي يدعو الى تنظيم الحياة لا انفلاتها فالتمسك بالشرع والقانون ما هو إلا تمسكا بنظم الحياة وهذه قضية يدعو أو دعا اليها  الامام علي عليه السلام إذ قال (عليكم بنظم أموركم) ونظم الأمور في واقع الحال  يعد مفتاحا لتقدم المجتمعات ورقيها ومن نافلة القول إن التقدم الذي يشهده العالم الأول جاء بعد أن أصبح القانون القوة الفاعلة هناك وخرقه مهما كان صغيرا يواجه بعقوبات رادعة عكس المجتمعات في العالم الثالث ومنها العراق الذي يطبق القانون بصورة مراعاة المصالح لا لبناء المجتمع ولابد لنا من القول إن القيود التي فرضها الانسان على نفسه لا تقتصر على من يؤمن بالأفكار الدينية أو المنحدر من التقاليد العشائرية أو القبلية بل إن الجماعات التي تقف بالضد من هاذين المفهومين أيضا طوقت نفسها بقوالب فكرية تحولت بمرور الزمن إلى قيود لا يمكنهم أن يتحرروا منهم ولذلك يصعب عليهم التحرر منها وبالتالي صعوبة مد جسور التفاهم معهم بالنسبة للجماعات الاسلامية أو العشائرية وحتى مع اللامنتمين ولو نقرأ المقطع التعريفي لكتاب محمد كريم الكلابي اللذي ينص على "إن القيود التي يفرضها الانسان على نفسه إنما هي سجن داخلي للذات يثقلها ويقيدها عن التلذذ بمتع الحياة . وتلك القيود وليدة من الانسان نفسه فهو من يخلقها ويحتضنها وينميها لتكبر فوق أكتافه متحكمة فيه ومتشعبة في أدق تفاصيله" على الرغم من سهولة المفردات لكنها دقيقة جدا فقد حمل الانسان بخلق القيود ولم يذكر أمرا آخر بل استخدم مفردة الانسان ذاتها بدلا عن مفردة الفرد لأنها أشمل وأدق في هذا المفهوم أن هذا الكتاب ينبئنا بولادة كاتب دقيق في اختياراته وكلماته وستكون لنا وقفة حوارية معه ليبين لنا كيف فكر في هذا الكتاب وما هي مشاريعه.

***

رائد عبد الحسين السوداني

كان الدافع الرئيس للقيام بهذه الدراسة حول الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير) ملاحظة بعض الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة، خاصَّةً القُرآنيَّة، أو التي قد تعود إلى حكايات "ألف ليلةٍ وليلة". فجاءت بهدف استقصاء تلك الآثار، وإرجاعها إلى أصولها. وازداد الاهتمام بالموضوع بمعرفة علاقة (فولتير، -1787) الوثيقة بالشَّرق. وأبرز دليلٍ على تلك العلاقة قِصَّة "صادق" نفسها؛ إذ كانت قِصَّةً بابليَّةً شرقيَّةً قديمة، أعاد فولتير طرحها على نحوٍ آخَر.

ولأنَّ قِصَّة "صادق" قِصَّةٌ بابليَّةٌ قديمة- نُقِلت إلى العَرَبيَّة في الفترة نفسها التي أُلِّفت فيها مجموعة "ألف ليلة وليلة"- فإنَّه يبدو من المهمِّ أن تُدرَس القِصَّة البابليَّة القديمة، أو المترجمة إلى العَرَبيَّة؛ لمعرفة ما أخذ (فولتير) منها وما ترك. غير أنَّ هذا مشروعٌ آخَر لعلَّه يتحقَّق مستقبلًا. أمَّا هذه المقاربة، فتُعنَى باستقراء الآثار الفنِّـيَّة المقارنة، اعتمادًا على الترجمة العَرَبيَّة التي أنجزها (طه حسين) لقِصَّة "صادق".

وبناءً على هذا قُسِّم الموضوع إلى ثلاثة أجزاء: جُعِل الأوَّل للمَحاور الرئيسة في قِصَّة "صادق" لـ(فولتير)؛ لأنَّ في ذلك مفتاحًا لما سيكون بعد ذلك من دراسة. أمَّا الجزء الثاني، فكان عن العلاقات التاريخيَّة، وقد انشعب هذا الجزء إلى شُعبتين: واحدة أُفرِدت لحياة فولتير، والأخرى لصِلاته بالشَّرق الإسلامي. والجزء الثالث للمقارنة، عُرِضت فيه الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة وأُصولها، مبيَّنةً وجوه التشابه أو الاختلاف بين المؤثِّر والمتأثِّر. وانقسم هذا الجزء إلى قِسمين: الأوَّل "بين القُرآن الكريم وقِصَّة صادق"، والآخَر "بين ألف ليلة وليلة وقِصَّة صادق".

وقد كنتُ كتبتُ هذه الدراسة قبل أكثر من ثلاثة عقود من السنين، خلال الفصل الجامعيِّ الأوَّل لعام 1405هـ= 1985م، ضِمن متطلباتٍ فصليَّةٍ لمقرر (الأدب المقارن)، في مرحلة الماجستير، تحت إشراف (أ.د. أحمد كمال زكي، رحمه الله). ومرَّت السنون، ولم يتسنَّ لي أن أنشر منها إلَّا مقدِّمتها في صحيفة «الرياض»، خلال ثمانينيَّات القرن الماضي، ولم تشأ الصحيفة أن تستكمل نشر بقيَّتها، ربما بسبب السمعة الفولتيريَّة غير المقبولة إذ ذاك.

ويسجِّل لنا هذا العمل مرحلة من مراحل تطوُّر المصطلح الأجناسي في الأدب، ولاسيما في العالم العَرَبي. فالمتلقِّي اليوم سيسأل: أهذا النصُّ "قِصَّة"، ذات صبغة تاريخيَّة، كما سمَّاه كاتبه: Histoire، وكما وافقه مترجمه؟ أم هو "رواية" تاريخيَّة، كما يمكن أن نفهم مصطلح (رواية) اليوم؟ إنَّه رواية، حجمًا وبناءً، غير أنَّه كان يُسمَّى "قِصَّة"، في ستينيَّات القرن الماضي، وما قبلها. وربما مُيِّز بإضافة صفة "طويلة"؛ فسُمِّي: "قِصَّة طويلة"، بعد ظهور "القِصَّة القصيرة". غير أنَّنا هنا سنلتزم بالمصطلح المستعمل مع النصِّ، بالفرنسيَّة والعَرَبيَّة.

كما أنَّ هذا العمل يسجِّل مرحلةً من مراحل تطوُّر الباحِث، بل من مراحل تطوُّر مناهج الأدب المقارن في العالم. فليس ما يجده القارئ في هذا الفصل من انطلاق المقارنة من شرطَي (العلاقات التاريخيَّة) و(التأثُّر والتأثير) هو لأنَّ موضوع الدراسة كان يستدعيه بالضرورة، لكنَّه تبنٍّ لمعايير المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الأدب المقارن، المنحدرة من القرن التاسع عشر؛ التي تشترط ذلك، والتي ما زالت عقابيلها مسيطرةً إلى اليوم على غير قليلٍ من المهتمِّين بالأدب المقارن. وكان ذلك بالطبع هو مذهب أستاذي (أحمد كمال زكي)(1)، ومذهب جيله من المقارنيِّين العَرَب، تلاميذ المدرسة الفرنسيَّة العتيقة. على حين لم تَعُد المدرسة الأميركيَّة في الأدب المقارن تُقِرُّ بمعيارَي العلاقات التاريخيَّة والتأثُّر والتأثير ولا تأخُذ بهما، منذ الثورة على المدرسة الفرنسيَّة- في المؤتمر الثاني للرابطة العالميَّة للأدب المقارن، عام 1958- على يد (رينيه ويليك، -1995). وإنَّما تتبنَّى، عِوَض مفهوم التأثُّر والتأثير، مفهوم (التوازي) بين الأعمال قَيْدَ المقارنة. غير أنَّ عدم اشتراط التأثُّر والتأثير في الدرس المقارن لا يعني إنكار وجوده، إنْ وُجِد، كما في حالتنا هذه.(2)

وللموضوع بقايا.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.....................

(1) وفي كتابه «الأدب المقارن»، (الرياض: دار العلوم، 1984)، نموذج من ذلك المنهاج الفرنسي.

(2) حول هذا طالع مثلًا كتاب: علوش، سعيد، مدارس الأدب المقارن، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987).

"كلما عشت حياتك بشكل كامل كلما كان موتك أقل مأساوية"

ايرفين دي يالوم.

العام 1973 سيشهد حدثا مهما في مجال علم النفس، حيث اصدرت المطابع كتاب " إنكار الموت " لعالم النفس الامريكي إرنست بيكر – ترجمة سارة ازهر واحمد عزيز -، وسرعان ما يحصل الكتاب على جائزة بوليترز، لكن المثير ان الجائزة لم يستلمها المؤلف الذي توفي قبل اعلان الجائزة بشهرين.. والمثير ايضا ان " إرنست بيكر " ظل طوال عمله يخبرنا ان " الدافع الحقيقي خلف سلوك الإنسان هو الخوف من الموت " اثناء تاليفه لكتابه " إنكار الموت " كان بيكر يعاني من سرطان القولون، كان في عمر التاسعة والأربعين، والمرض الذي اصيب به لا أمل في الشفاء منه. تم نقله للمستشفى حتى يقضي أيامه الأخيرة. كان يشعر بالحزن على هذا المواجهة المبكرة للموت الذي سعى الى إنكاره.ولهذا قرر ان يقدم كتابا وصفه بانه أنضج ما قدمه، يريح من خلاله الظلال الثقيلة التي تنعكس على حياته والقلق الوجودي الذي يعيشه والعدم التي يحيط به وبنا جميعا والذي اشار اليها كيركغارد قبل ما يقارب المئتين عام عندما قال ان المشلكة ليست هى" الموت"، بل المشكلة الحقة هى" أني أنا أموت"..ولهذا اصر بيكر وهو يجد الموت يزحف باتجاهه ان يحلل شخصية الإنسان الهارب من فكرة الموت، من اجل ان يمنح هذا الإنسان الفرصة لمواجهة هذه الحقيقة، أو ليرى كيف لعبت به فكرة الموت ودفعته ليشكل العالم الاجتماعي والثقافي الذي منحه الإحساس بالقيمة وساعده لكي ينسى قليلا مصيره المحتوم. لكن ماذا على الانسان ان يفعل لكي يواجه هذا المصير المحتوم ؟ يحيلنا بيكر الى كيركغارد الذي عاش ممارسة فكرية صعبة وخطيرة لكي يصل إلى فهم حقيقة الإنسان من دون أن يكذب على نفسه. هل يطلب منا إرنست بيكر ان نواجه الموت وجها لوجه؟، انه ينتظره بالخارج وسيطرق الباب عليه في أية لحظة، يحيلنا في " إنكار الموت " الى آدم وقصة خروجه من الجنة، حيث يرى بيكر إن اعتراف آدم بالخطيئة واكله من شجرة المعرفة، هذه الافعال احتوت على حقيقة الموت، حيث إن قمة معرفة الذات هي إدراك الإنسان لحتمية زوال كل شيء.ولهذا يؤكد بيكر ان الإنسان هو الكائن الوحيد بين الكائنات الحية الذي يعرف جيدا أنه سيموت، وبسبب هذه المعرفة تطور لديه الوعي والضمير، ولذلك اضطر الإنسان على مدى الأجيال للتعلم واكتساب الحكمة حتى يتمكن من تجنب الموت والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.

لكن هنا تواجهنا اعمق مشكلة وجودية حيث يتساءل الانسان: لماذا أولد وأتعلم واعمل، ثم بعد كل هذا يكون مصيري الموت؟. عند هذه اللحظة تنشأ عند الانسان الرغبة في الاستسلام للحياة، فبرغم الموت والعدم، فان الانسان ما يزال يعمل ويتعلم ويتألم ويتأمل ويكافح من اجل تغيير واقعه، وكان الموت قد تحول الى خرافة، لهذا يرى بيكر ان الموت عندما يقترب منا يحدث في دواخلنا رعب رهيب، حيث تستيقظ تلك المنطقة العميقة داخل النفس البشرية التي حاولنا ان نتجاهلها من خلال مشاغل الحياة اليومية، ومثلما حاول فرويد في كتابه الشهير – ثلاث مقالات في نظرية الجنس " – ترجمة سامي محمد علي – ان يتعامل مع مشاكلنا على انها مشاكل جنسية نشأت من رفضنا لاجسادنا وكبتنا لرغباتنا. فان إرنست بيكر يطور تلك النظرية ليخبرنا ان كل ما فعله فرويد هو محاولة لانكار حقيقة الموت.

عام 2018 اكتشف الاطباء اصابة الباحثة في علم النفس والجنس مارلين يالوم بسرطان في النخاع، وستقرر مع زوجها عالم النفس الوجودي إيرفين دي يالوم تاليف كتاب بعنوان " مسألة موت وحياة " – ترجمة خالد الجبيلي، حيث يبدا الاثنان في كيفية العيش من دون ندم، برغم ان الموت يتربص بالزوجة.

كان هدف الكتاب أن تموت مارلين موتا جيدا، وان يتمكن إيرفين العيش بدونها. في الاشهر الاخيرة من حياة مارلين حاول الزوجان ان ينظرا الى الوراء لسنوات قاربت الـ " 65 " عاما من زواج بهيج، ونجد الزوج يشعر بالقلق حيال فقدان "أهم شخص في حياتي "، فهو يخشى أن يضيع الكثير من ماضيه

عالم النفس الذي كرس حياته لمعاجة المرضى وكشف وساوسهم وخوفهم، يجد نفسه لأول مرة في حياته في مواجهة "حتمية الموت" ولهذا يتساءل مع زوجته: "كيف يمكننا أن نترك هذا العالم برشاقة للجيل القادم؟".

يتذكر إيرفين ذلك الصبي البالغ من العمر خمسة عشر عاما وهو يقع في حب فتاة في عمره. هذا الرجل يبلغ الآن 91 عاما ؛ كانت مارلين تبلغ من العمر 88 عاما عندما رحلت عن عام 2019. كانت مارلين هي التي اقترحت على زوجها أن يقوما بكتابة كتاب يوثق وفاتها من منظور الزوجين اللذين كانا معا سعداء لأكثر من 60 عاما، ولهذا ارادت مارلين من خلال الكتاب ان يكون لديها ما تقدمه "للأزواج الآخرين من أفراد عائلتها الذين ربما يواجهون مرضا مميتا". فهي منذ ان علمت باصابتها بالسرطان اخذت تتبع نصيحة نيتشه "الموت في الوقت المناسب".

يقدم لنا كتاب " مسألة موت وحياة " دروسا في كيفية التعامل مع تقدمنا في السن والذي يجلب منظورا جديدًا لاشياء مثل الحب والمرض والموت. يكتب كل من إرفين ومارلين فصولا متتالية يستكشفان فيها مشاعرهما، وكيف يواجه كل منهما مسألة فقدان شريك حياته الى الابد ولأن مارلين لا تملك وقتا طويلاً لتعيش تخطط لما يجب أن تفعله بممتلكاتها، وكتبها، وكيف تقول وداعا للعائلة والأصدقاء. من خلال القيام بذلك، تقوم بتقييم ما هو مهم بالنسبة لها، وما الذي يمنحها الفرح، وما الذي يمكنها تحقيقه بين مرحلة المرض وانتظار شبح الموت.

تظهر مارلين كشخص لطالما عرف كيف يعيش والآن تريد ان تعرف كيف يجب ان تموت.تحب مارلين إيرفين بعمق، وهي في سن الثامنة والثمانين من عمرها سعيدة بالحياة التي عاشتها، هناك شعور حقيقي بأنها وان تخلت عنها لكنها تشعر بالثراء مما حققته، وما ستتركه من ارث الحب لزوجها وعائلتها وأصدقائها.في العشرين من تشرين الثاني عام 2019 ينشر يالوم خبر نعي زوجته التي توفيت في ساعة مبكرة من الصباح.

بعد الكتابة في الطب النفسي، يجرب ان يُدخل التحليل النفسي في صلب الرواية، كان يريد ان يتفوق على سيجموند فرويد الذي فشل في بداية شبابه ان يصبح روائيا، فوجد ضالته عند دستويفيسكي وراح يعطي نصائح لفرجينيا وولف، ويسخر من الصفحات المملة في " يوليسيس " جيميس جويس، ويفضل عليه عبقرية مارسيل بروست. إرفين د. يالوم المولود في في الثالث عشر من حزيران عام 1931، في واشنطن لوالدين هاجرا من روسيا، أفتتح الأب بقالة صغيرة، فوق الشقة الصغيرة التي سكنتها العائلة، لم يحب والداه الكتب، وكان اهتمام ابنهما الصغير بالذهاب على دراجته الى المكتبة العامة يثير استغرابهما:" كانت القراءة ملجأ لي، اذهب الى المكتبة مرتين في الأسبوع، لامارس هواية تخزين الإمدادات "

 يجد في الروايات ضالته، عالم من الخيال يحاول ان ينسج منه عالما بديلا يتحول شيئا فشيئا الى مصدر إلهام وحكمة: " في وقت مبكر من العمر طورت الفكرة - التي لم أتخلى عنها أبداً - أن كتابة الرواية هي أفضل شيء يمكن أن يفعله الشخص ".لكنه وجد نفسه مضطرا إلى ان يدرس الطب تلبية لرغبة امه التي كانت تتباهى بان ابنها سيصبح طبيبا مشهورا، يختار الطب النفسي، فهو الاقرب الى الادب، هناك سيتمكن من الاستمرار في قراءة دستويفيسكي وان يجد الجواب على سؤال: اي عقار مهدئ كان يتناوله تولستوي ؟، ويرافق كافكا في متاهة البحث عن المصير.

كتابه الاول " العلاج النفسي الجماعي " صدر عام 1970 فلفت الانظار اليه، حتى ان البعض وضع مقارنات بينه وبين فرويد، باع الكتاب اكثر من مليون نسخة وترجم الى العديد من اللغات، واصبح من الكتب الاساسية التي تدرس في كليات الطب النفسي،بعدها يصدر كتابه الشهير " معنى الحياة " والذي يحقق نجاحا كبيرا في المبيعات، يقول لمراسل النييويورك تايمز حين يسأله عن سر اقبال القراء على كتبه:" أنها تدين ببعض نجاحها الى عشقي للرواية، وقدرتي على الإستفادة من فن القص. لقد سمعت منذ عشرين عاماً أن الطلاب يقولون لي إن كتبي تقرا كأنها روايات "، يؤمن ان الكتب الجافة – هكذا يسمي المؤلفات العلمية – ستحقق رواجا كبيرا لو ان اصحابها قرأوا بانتباه وصايا فلوبير لكتاب الرواية:" سيعرفون حينها ان في كل كتاب يجب ان تكون هناك قصة تبقي القارئ مشدودا إلى الصفحات ".

تستهويه الفلسفة فيتعمق في قراءة اعمال افلاطون وابيقور، وهيوم ولوك واسبينوزا، وشوبنهاور ونيتشه وسارتر وكامو:" كانوا في الجامعة يقولون لنا ان علم النفس موجود في اعمال فرويد ويونغ، لكن بدا لي ان في الامر خطأ كبيراً، لان الفلاسفة منذ عهد افلاطون وحتى يومنا هذا كانوا يتعاملون مع قضايا ذات علاقة بمجال الطب النفسي".

في أوائل التسعينيات يقرر نشر روايته " عندما بكى نيتشه – صدرت عام 1992- صدرت ترجمتها العربية عام 2016 للمترجم خالد الجبيلي - قال لزوجته بعد ان قدم الرواية للناشر: "مرحبا بالخيال ".

في رواية " هكذا بكى نيتشه " نجد سالومي تطلب من عالم النفس الشهير جوزف بروير أن يتولى علاج نيتشه الذي يعاني من الكآبة وشعور بالقهر، وتخاف عليه ان ينتحر، وبهذا ستضيع امال الفلسفة بالبقاء طويلا، هكذا تخبر الطبيب عن هواجسها..ومثلما وجد فيها الفيلسوف باول ري ومن بعده نيتشه والشاعر ريلكه ومعهم فرويد نموذجا للجمال الساحر، فان اللقاء الاول الذي يحدث بين الطبيب وسالومي، ينذر بان الطبيب في طريقه ان يصبح تحت رحمة هذا الحضور الانثوي الطاغي، ورغم ان سالومي لا تعود إلى لقاء بروير سوى مرة واحدة، إلا أنها تضع امامه عددا من المفاتيح التي تتعلق بشخصية نيتشه الذي يرفض ان يسلم امره بيد شخص آخر حتى لو كان الطبيب المعالج، فهو يؤمن ان الناس لاترغب " إلا في الهيمنة على الآخرين لزيادة قوتهم. "

في العام 2005 يصدر يالوم روايته الثانية " علاج شوبنهاور" - صدرت بالعربية عام 2018 بترجمة خالد الجبيلي – حيث نجد انفسنا هذه المرة مع المعالج النفسي جوليوس، الذي يعاني من الكابة والاحباط بسبب إصابته بمرض السرطان، فهو يدرك ان الموت صار قريباً منه، وعليه ان يتامل حياته الماضية، وهذا ما يفعله، حيت نجده يتذكر أحد مرضاه المصابين بالإدمان، وهو الطبيب فيليب، الذي تحولت حياته الى جحيم لايطاق بسبب تأثير الإدمان عليه، يقوم جوليوس بالسؤال عنه ويبدأ بالبحث عن اخباره ؟ ليكتشف أن مريضه السابق قد شفي من الادمان، وأصبح استاذا جامعيا يلقي محاضرات في الفلسفة،، وكان الامر بمثابة المفاجأة لجوليوس، حيث أخذ يسأل: كيف يمكن للانسان ان يتعالج من الإدمان؟ و كيف يستأنف حياته بسهولة وبساطة وكأن شيئاً لم يكن؟.

 يكتشف جوليوس أن مريضه السابق عالج نفسه بنفسه، من خلال قراءة كتب شوبنهاور، حيث وجد في حياة الفيلسوف الالماني المتشائم تشابهاً كبيراً بمعاناته مع الحياة والمرض، فوالد فيليب انتحر مثلما انتحر والد شوبنهاور، وهو ايضا مثل الفيلسوف العدمي يكره امه و يحب العزلة ويرى في العلاقات الإنسانية مزيدا من الأوجاع، وهوايضا كارها للجنس، الذي يراه مثل السرطان يفسد كل شيء، ويحطم العلاقات الانسانية بين البشر، ويسلب الضمائر شرفها، وهكذا تعلم فيليب من شوبنهاور ضرورة حفظ المسافة بين كل شخص وآخر نفسياً وجسدياً، فسار على تلك التعاليم واعتزل الحياة، وانقطع للتفكير والتأمل، فكان ذلك بمثابة العلاج له من الإدمان، لكنه يقع في إدمان آخر، وهو التعلق بشوبنهاور، وهو الأمر الذي سيعمل الطبيب جوليوس على مساعدته للتخلص منه.

يرى يالوم، أن نظرتنا للعالم، تتشكل في سنوات الطفولة، ثم تتطور وتكتمل، لكنها لا تتبدل من حيث الجوهر، وفي الرواية نجده يتتبع حياة شوبنهاور وعلاقته بوالده ووالدته حيث يرى ان تلك العلاقة هي التي اسهمت تشكيل نظرته التشاؤميه، فقد كان والده قاسيا ً، بينما كانت والدته رقيقه، وكان زواجها بوالده اشبه بالمأساة بالنسبة لها، فهي من طبقة فقيرة تنظر إلى عائلة شوبنهاورالغنية بخوف، وتندم على تركها حياتها البسيطة وحبيبها الاول الذي لم يفارقها لحظة واحدة. في هذا الجو النفسي المتازم تشكلت اراء شوبنهاور عن الحياة.

قال يلوم إنه يقرأ كثيرا في الفلسفة والادب لكي تزداد أفكاره عن الحياة. " نحن فنّانون بالطريقة التي نرى بها العالم ونفسّره ونبنيه. فنّانون كل يوم باللعب، الحديث، المشي، الطعام، والحب. "، وهو يتذكر مقولة أندريه جيد: "إن التاريخ خيال لم يحدث. فالخيال هو التاريخ الذي ربما حدث." وهذا هو بالضبط ما أنتجته يالوم: أكثر من مجرد اجتماع افتراضي لعقول مهمة تاريخياً، " عندما يبكي نيتشه، وعلاج شوبنهاور، و " مشكلة سبينوزا " ان سرد جذاب وواضح لظروف الحياة الواقعية لثلاثة من الفلاسفة الكبار عاشوا حياة غريبة ومثيرة.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

توطئة: تشكل الدراسات المقارنة صورة العلاقات الثقافية والتراثية بين الأمم ولحضارات البشرية، ومن أهم هذه الدراسات في خزانة السفر الثقافي العالمي هي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والكوميديا الألهية لدانتي الأيطالي بدلالة مشتركات اللقاء بينهما. ولا أخفي رغبتي في البحث في مثل هذا الموضوع الخصب والثري هو تحديث التراث الثقافي العربي والأطلاع على حضارة الغرب الأوربي ومدى التلاقح الفكري والثقافي بين الحضارتين .

الفنتازيا: وسر حضور الرحلات الفنتازيا الخيالية في مجمل الحضارات هي تلك الفكرة (الأنسانية) المشتركة الكامنة في جينات الحضارات البشرية في تلك الحكايات الأسطورية الأفتراضية التي نطالعها اليوم في رسالتي المعري ودانتي، وإن هاتين الجوهرتين النفيستين تعتبران من أبدع روائع الأدب العالمي ومن أهم الذخائر التراثية الثرة والثرية التي توجت ورصعت خزانة الفكرالأنساني وأبدعت في الخيال الأفتراضي للبحث عن المدينة الفاضلة والتي يقودها الأنسان النموذجي المصلح الكامل، ولغرض الأرتقاء بالذات البشرية إلى الكمال الروحي والعقلي وأيجاد الأنسان النموذجي السوي بعد تعميدهِ من خطاياه بالتوبة الأزلية وخضاعهِ لدفع فاتورة الجلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في محطات الرحلات الفنتازية الخيالية التي تبدو لنا بشكل أساطير، ليس غريباً أن نرى اليوم شيوع (الأساطير) في زمن التكنلوجيا الرقمية وفضاءاتها الحداثوية نرى كل جامعات العالم تحتوي على "قسم علم الأساطير" Mythology وكما أرى: (إن الأساطير حضارة والحضارة أساطير) أذ لاتوجد حضارة عبر زمكنة التأريخ دون أساطير مخالفة للعقل البشري، فالمجنون يعتبرها حقيقة والعاقل يعتبرها وسيلة للتسلية والعبرة .

(يلومون الأديان لأنّها مليئة بالأساطير، وماذا تكون الدنيا بلا أساطير؟ أعطوني حضارة دون أساطير، إن الأنسان نفسهُ أسطوري بالفطرة، قيل إن ألأنسان حيوان عاقل، أبحث طيلة حياتي عن أدلة يمكنها تأكيد ذلك) الفيلسوف البريطاني / برنت راند رسل(كتاب الكوميديا الألهية/ دانتي .

الكوميديا الآلهية لدانتي

الكوميديا اللإلهّية --- الملهاة – للشاعرالإيطالي " دانتي"، 1265م – 1321م، الكوميديا تدور في أطار جديد من القيّمّ الروحية (اللوثرية) لأصلاح رجال الدين الذين يمارسون أساليب تعسفية في تغيير أتجاهات البشر في السياسة والأصلاح حسب أهوائهم وأستغلال سلطاتهم الكنسية الكاثوليكية في عصرهِ، ونسجَ أفكارهُ بشعرٍ ملحمّي تحتوي على نظرةٍ خياليةٍ في الإِستعانةِ بالعناصر المجازية حول الآخرة- حسبَ الديانة المسيحية- وتخيلَ عالماً أبدّعهُ من خياله فيه مكانٌ للخير وكذلك للشر- عندما تمرد أولُ ملاكٍ على الّرب، لسريان الشر في الأنسان نفسه، فهو يصبوا في قرارة نفسهِ ألى رحلةِ أرتقاءٍ روحي نحو الكمال، وأيجاد الأنسان النموذجي المُصلِحْ بعد تعميدِه من خطاياه بالتوبة الأزلية بعد معاناة الجَلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في مرحلتي رحلة (الجحيم والمُطّهر)، وبذلك غاصَ الشاعر الإيطالي دانتي في أعماق هذا الكائن العجيب المتمرد والمتعجرف تارةً بجبروت وخيلاء، وواهن ومتمسكن تارةً اُخرى، غايتهُ الصعود في السماوات العلا لمشاهدة الأنوار السماوية الساطعة بنور الرب أو لنقل: إنهُ يصبو إلى رحلة أرتقاء روحي نحو الكمال لأيجاد الأنسان النموذجي المصلح بعد تعميده من خطاياه وأعطائهِ فرصة التوبة الأزلية، وربما أعتقد أن هناك ثمة (فلترة) بين مرحلتي الجحيم والمطهر لأيجاد هذا الأنسان المنشود .

رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

أبو العلاء المعري شاعرٌ وفيلسوفٌ من العصر العباسي 363 -449 هجري---- 973 -1057 م،هاجم عقائد الدين، رفضَ أن الأديان تمتلك الحقائق التي يزعمها، أعتبرمقال الرسل مزورا لذا أتُهمَ بالزندقة لأنّهُ أعلن آراءهُ بأن الدين خرافة أبتدعها القدماء لاقيمة لها ألا لأُلئك الذين يستغفلون السُذّج من الناس، وكان نباتيا لدعم حقوق الحيوان .(اقتباس من كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)

وأن رسالة الغفران أثمن روائع الأدب النثري العربي، وهي من سلسلة ذخائر الأدب العربي أو أسطورة اللغة العربية قبل دانتي ب—280 سنة .

وجد الباحثون تشابهاً كبيراً بين الكوميديا الألهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وأُثيَر(بضم الأف) جدلٌ واسع في هذا المجال وأول من أثارَ هذا الجدل هو المستشرق الأسباني الكاهن *بالاثيوس*1919 أكّدَ فيها أثر رسالة الغفران بالكوميديا وأيدتها الأقلام العربية ومنهم من قال (أعمى المعّرةِ كان معلماً لنابغة ايطاليا في الشعر والخيال)، وآخر:أن الشاعر الأيطالي قد نسخ خطة الملهاة عن رسالة الغفران، مستدلين من أوجُه الشبه بين الرسالتين.

أوجه الشبه بين الرسالتين

أثار هذا الموضوع جدلاً بين أوساط النقاد، والذي وجدته الأكثرية تؤكد وجود تشابه بين النصين وحسب قناعتي نعم هناك تشابه ورد في الرسالتين وصف أحوال الجحيم والفردوس وكان كلّ منهما قديساً في وجدانهِ وشاعراً في روحهِ والرسالتان متفقتان في رحلتهما السماوية الخيالية للوصول إلى شجرة المنتهى حيث النور الألهي .

وعلى هذا أُثيرجدلٌ كبيرٌ في أوساط النُخبْ المثقفة منهم من يؤيد وآخر ينفي ويعارض، وللحقيقة وجدتُ كفةَ النافين-في التأثر والأستنساخ- أقوى من حيث قوة المنطق و حجج التباين المكاني والزماني.، ليس هناك ما يدعوالى التشكيك في أستنساخ دانتي لرسالة الغفران من المعري، صحيح أن هناك تشابها في بعض الحوانب -مثل ماعرض في المقال -ولكن هناك شواهد تأريخية ومكانية تثبت بأن الرحلات السماوية (الخيالية) كانت شائعة في تلك الفترة الزمنية مثل الرحلة النبوية: "الأسراء والمعراج"التي فيها وصفا عميقا للجحيم والفردوس و حدثت قبل أن يولد المعري، وهي الأخرى رحلة سماوية للقاء الرب والوصول الى سدرة المنتهى التي هي غاية وأمل جميع الرحلات الخيالية .

وأن الشام ومعرة النعمان تعرضتا للغزو التتري والروماني ونهبت خزائن الكتب والمخطوطات، وأن الملك الأسباني (الفونسو) ملك قشتالة أمر بترجمة رسالة الغفران الى الأسبانية اللغة القشتالية بالذات قبل ولادة دانتي بعام 1264 م، من الجائز والمحتمل أن يطلع هذا الروائي والشاعروالفيلسوف على جميع المخطوطات والكتب المتاحة في عصره، وليس من الضروري أن يستنسخ عمل غيره، وذلك لوجود تباين وأختلاف في العقلية والعقيدة والمضمون والأهداف والغايات والمشاهد والأساليب والتخيلات وذكر الأساطير، وأن التفاعل بين ثقافات الأمم والشعوب هو مؤشر صحيح لبناء الحضارة الأنسانية ----- لا يمكن لأيةِ أمةٍ من الأممْ أن تبني حضارتها بمعزل عن حضارات الأمم الأخرى، لأنّ الأنسانية جمعاء قد تتلاقى في بعض أفكارٍ وتختلف في أخرى --- تتأثر وتؤثرمن خلال عملية التلاقح الفكري يمكن أن تولد أبداعات عظيمة تُسّخَرْ من أجل خدمة البشرية، لهذا كلُه إني من المؤيدين لفكرة ما يدعو أليهِ البعض من أنّ الكوميديا الألهية غيرمستوحات من رسالة الغفران لأن لكلٍ من الرسالتين شخصيتها المستقلة، وذلك كلٌ منهما تحكي معاناة ما حولها--- الكوميديا الالهية تحكي تسلط الكنيسة وخطايا الصراع المجتمعي الروماني والأغريقي، ورسالة الغفران تحكي ظروف مجتمعية أسلامية بين التشظي المذهبي والعرقي التى أُدلجتْ بمدارس فكرية كالجبرية والقدرية والمعتزلة وتيار الزندقة --- وغيرها من المذاهب الفكرية .

الفروقات بين الرسالتين

توضحت لديي قناعة أدبية وثيقة بذكر بعض الفروق المهمة يمكنها دحض فكرة (الأقتباس) لدانتي الأيطالي:

عند وصول الرحلة إلى الأنوار الألهية كانت تمنيات وطلبات المعري (مادية) أما أحلام دانتي عند النور الألهي تؤكد على (الوصايا السبع للمسيحية)، بدأ المعري رحلتهُ السماوية يالفردوس ثُم الجحيم أما دانتي بدأ رحلتهُ بالجحيم ثم الفردوس، أن حراس الجحيم عند المعري ملائكة وعند دانتي شياطين وعصاة، والرواة عند المعري شعراء وعند دانتي رجال دين وعصاة أفاقين، والجنة عند المعري ثلاثة أقسام وعند دانتي تسعة أقسام.

***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث أدب عراقي مقيم في السويد

في تشرين الثاني2022

...................

مصادر البحث

-الكوميديا الألهية، ترجمة المؤرخ المصري، حسن عثمان، القاهرة

- رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري

- رسالة الغفران، تحقيق فوزي عطوي بيروت 1968

- قصة الحضارة – ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود1988 بيروت

حينما أثار الشعراء العرب مسألة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، على إثر نشر نازك الملائكة لقصيدتها "الكوليرا"، كان ذلك تأثرا بالشعر الغربي. إلا أن مفهوم "الحر" يختلف من ثقافة إلى أخرى، وبطبيعة الحال الاختلاف هنا بين الثقافة العربية والغربية، تماما كما تختلف "ع" عن "غ" بزيادة النقطة أو حذفها. فمثلا الشعر الفرنسي تحدث عن الشعر الحر أو البيت المحرر مع بليز دو فيجينير Blaise De Vigenère الذي كان يشغل منصب كاتب لدى الملك هنري 3، سنة 1588. إلا أن البيت المحرر لم يتم الاهتمام به فعليا إلا في القرن التاسع عشر مع كل من موريس دو كًران Maurice De Guérin بديوانيه "الباخوسية La bacchante و القنطور Le Centaure، وألوسيوس برتراند Aloysius Bertrand بديوانه "كاسبار الليل" (Gaspard de la nuit 1842) ثم مع رامبو Rimbaud بديوانه "إضاءات" (Illuminations). يهدف إذن البيت المحرر vers libéré أو البيت الحر vers libre إلى تحرير القصيدة من ضغوطات الأوزان التقليدية المحسوبة والمنغلقة بعددها ومن ضغط القافية، مكتفيا بالايقاع الداخلي والقوافي الداخلية وما يمكن ترجمته تجاوزا بالسجع والجناس (allitérations, assonances)، وبطبيعة الحال بالصور الشعرية. في هذا الصدد يقول الشاعر البلجيكي إميل فيرهايرن Émile Verhaeren:"الإيقاع هو حركة الفكرة نفسها [...]. الشعرية الجديدة تحذف الأشكال الثابتة وتمنح الفكرة-الصورة الحق في خلق شكلها من خلال تطورها، تماما كما يخلق النهر مجراه."

وللتذكير فإن الكلمات الفرنسية مكونة من مجموعات صوتية syllabes يُعتمد عليها لتقطيع الكلمات بالبيت الشعري، و تتشكل أنواع البحور أو الأوزان حسب عدد هذه المجموعات الصوتية. فيكون البيت الأسكندري مثلا، مشكلا من 12 مقطعا صوتيا. وهكذا حينما تتحرر القصيدة، سوف تتشكل من فسيفساء من المجموعات الصوتية، حيث قد نجد بيتا مثلا من 12مقطعا وآخر من 2 أو 3 إلخ... وهكذا يتضح أن القصيدة الحرة لا تحترم مقطع انطلاق القصيدة، بل وفيما بعد أصبحت القصيدة لا تحتوي حتى على علامات الترقيم.

كيف إذن يفهم الشعر الحر العربي في تفاعله وتثاقفه بالشعر الغربي؟

ينعت الشعر حرا مقارنة بالشعر العمودي او التقليدي. بمعنى أنه يتحرر من أشكاله المعروفة، أي من البناء حيث كل بيت مكون من شطرين افقيا، صدر وعجز، وينتهي بقافية تتكرر في نهاية كل بيت، وخاضع لقوانين العروض الخاصة ببحوره وزحافاته وعلله الخ... وهكذا، بتحرره من التقليدي، يصبح شعرا حرا مكونا من أبيات توزع عموديا من غير تشدد في نفس القافية. لكن هناك من يقول بتعدد التفعيلات، وبطبيعة الحال سوف يحترم أيضا ما تفرضه الضرورة العروضية كالزحاف والعلل إلخ... وهناك من يقول بأنه يحافظ على نفس التفعيلة، حيث يجب على الشاعر أن يلتزم بنفس البحر فيما يخص الوزن، وغالبا ما تكون الأوزان حسب البحور البسيطة او الصافية.

نلاحظ إذن أن الشعر الحر في الثقافة الغربية، هو فعلا حر بمعنى الكلمة ولا يخضع لأي ضغط تقليدي، وفي المقابل فإن الشعر العربي لم يتحرر بالكامل، بل يحمل معه جينات من تقنينات الشعر التقليدي حينما يُفرض عليه، في الغالب، الالتزام بنفس التفعيلة وبنفس البحر الذي بدأ به الشاعر قصيدته، وهكذا لا تتحقق تلك الحرية التي نودِي بها. بل وحتى في حالة ما إذا تعددت التفعيلات فإنها تبقى خاضعة لما قننه العروضيون.

هل ذلك مرجعه إلى كون القصيدة العربية، حتى و كونها تُقطع حسب الحركة والسكون، ما يشكل مجموعة صوتية، تخضع في الأخير إلى "ميزان ذهبي" وهو نظام التفعيلة الذي يمر حتما بما يسمى بالميزان الصرفي، خلافا للقصيدة الغربية والفرنسية بالتحديد التي تقطع حسب المجموعات الصوتية فقط كما سبق الذكر؟ أم ذلك راجع إلى طغيان الإيقاع الخارجي المفصل حسب الوزن؟ او نكتفي بترديد ما قاله الناقد عباس محمود العقاد في إحدى حواراته المسجلة صوتا:"الشعر الحر؟ مُحرر مماذا... ليس هناك شعر حر...لا يمكن للشعر أن يتحرر من نفسه"، بمعنى أن الشعر العربي شعر بقوانينه التي استخرجها الخليل من القصائد الأولى وقننها، وما عدا ذلك، ليس شعرا.

ربما هذا هو السبب الرئيسي، المشبع بالحرية الكاملة، الذي أدى إلى ما ينعت بشكل هجين : قصيدة النثر. هذه القصيدة التي تحررت لتسقط هي نفسها مع تضخم الأنا لدى شيوخها، في سجن الرؤى والفتاوي... فهل هناك من يدعو إلى تحرر القصيدة من هذه الفتاوي؟

***

محمد العرجوني

 

 

فقدان فلسطين أكبر مأساة عرفها التاريخ العربي وقد عرفت القضية الفلسطينية أكثر من حرب بين العرب "وإسرائيل" أكثرها هزائم للعرب. لذلك فقد تركت أثرا كبيرا داخل النفوس وأصبحت محور اهتمام الأدب بفنونه المتنوعة والرواية أحد هذه الفنون للكون الرواية حقل خصب لسرد الأحداث ونقل الوقائع وتصوير النفسيات والمشاعر. ومن هنا جاءت نصوص د. غبيش التي تنوعت بين الروايات القصيرة والقصص والقصص القصيرة جدا، بمثابة مرآة لحياة الفلسطيني وبيئاته الثقافية والاجتماعية والسياسية وطرح معاناة الفلسطيني في ضياع أرضه وإقامته في مكان كان يظن بأنه طارئ وهو المخيم الذي يعتبر مكان لا بصلح للسكن الآدمي، وقد عبر عنها الكاتب تارة بالتصريح وأخرى بالتلميح كما لجأ أحيانا إلى استخدام الرمز في أكثر من موقع. وكان لهذا المكان/ المخيم معرض كامل من الصور داخل مجموعة غبيش، غربة، زواج، انفصال،حب، خيانة، فقر، برد، جوع.

وجاءت معظم روايات المجموعة لتغوص في أعماق النفسيات ومحاولة لاستكشاف الذات وتجسيد الانتماء الحقيقي لفلسطين.  وقد عمد د. غبيش إلى استخدام أبطاله لاجئين من أبناء المخيمات المعذبين المسحوقين الذين يحملون جراحات فلسطين وهم وقود الثورة والنضال ومنها أبطال رواية بيت رحيم التي تعتبر العمود الفقري لمجموعة غبيش.4535 ابراهيم خبيش

حيث ترصد هذه المجموعة التي هي من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/ 2022، قصة شعب وهو الشعب الفلسطيني وشخصياتها ترسم لنا صورته. حيث رحيمة/ ذيبة الأم الفلسطينية التي تشبه الفلسطينيات الصابرات ففي ص71 (اسمها رحيمة..هكذا أسماها الأب..الأم والحارة ينادونها ذيبة) وفي نفس الصفحة (رحيمة سمت ولدها رحيم والاب أسماه ذيب) ورحيم/ ذيب يجسد معاني البطولة الحقيقية ولا يخشى الموت في سبيل تحرير أرضه.رحيم الفدائي الأمل الذي يعيش خارج أرضه ولا سبيل لارتباطه بها إلا بالبندقية.

يستعرض الدكتور غبيش قصة التهجير الأولى قصة رحيمة هجرة كل فلسطيني ففي ص72 (تشرد وهجرة ،فلاحة تحمل طفلا في قدح قش يعلو رأسها ،في يدها بقجة تسير وتسير).

ويخبرنا د.غبيش في رواية بيت رحيم ما حدث مع المهجرين من التسلل والعودة إلى الارض والبيت لإحضار بعض المتاع ففي ص 73 (تسلل عبد الكريم زوج رحيمة مع بعض سكان القرية كي يحضروا بعضا من متاع أو مدخرات نسوها..عادوا جميعا ولم يعد عبد الكريم.. أطلقوا رصاصا عليهم).

أما في ص74 من رواية بيت رحيم يصف لنا غبيش خيمة اللاجئ بأسلوب ساخر (بيت سقف حيطان عزلة عن الآخر ..كون أكوان... سماء.. فضاء مفتوح؟ أصبح لنا بيت..خيمة قريبة من شجرة التوت). فالخيمة لا جدار لها ولا سقف تلهو بها الريح من كل جانب فلا أمان لها مع ذلك الذي تمنحه الغرفة ذات الجدران والسقف.

واعتمد د غبيش على تصوير الحركات الخارجية لتصوير الأعماق النفسية للشخصية ففي ص82 صور لنا حركات رحيمة/ ذيبة حينما عرفها المهندس خالد حنا نجار عن نفسه (بدأ صدرها يعلو ويهبط). وعندما ذكر المهندس حنا أمامها اسم رحيم/ ذيب ص 83 (اهتز جسد رحيمة). وهذه الحركات تعطينا عدة دلالات على الوضع النفسي لرحيمة وهي تتقصى أخبار ابنها رحيم الذي ترك جامعة القاهرة والتحق بالفدائيين في أحراش وأغوار الأردن. ويصف لنا د غبيش صمود أمهات الشهداء ومشاعرهن من خلال رحيمة/ ذيبة حينما أشار المحامي هايدر لها إلى قبر رحيم/ذيب ص93 (أشار بيده..شاهدة حديدية " 2393"). فكانت ردة فعلها كما وصفها د غبيش ص94 (جثت رحيمة على ركبتيها وبدون توقع منها أخرجت الكريك وأخذت تحثو التراب عن القبر..ظهرت جمجمة، عظم الكتفين..والذراعين.. والحوض والساقين..شهقت رحيمة..لم تبك).

فأي بيت هو بيت رحيم/ ذيب؟ هل هو ذلك البيت عند التوتة؟ أم هو بيته/ قبره الذي امتلك رقما؟ أم هو بيته الأول الرحم الذي احتضنه جنينا وبحث عنه كبيرا، رحم أمه رحيمة/ ذيبة.

وجاءت بعض شخصيات روايات د غبيش لتعالج الواقع المأساوي بأسلوب ساخر ومنها ما جاء ص116 من رواية "ملذات غانم الشهير بشقروق" عن شقروق بعد أن وجد فرصة لجمع العلب الفارغة أثناء مظاهرات واعتصامات في الميدان فقبضت عليه الشرطة (معظم علبه كانت ملأى بالبول واحدة فقط بها بنزين زجاجية..اعتقدت الشرطة أنها زجاجة مولوتوف).

ومعظم أبطال دغبيش لا يجدون وجهتهم ،تائهون ،فوضويون،يهربون من الواقع نحو انتحار وعلاقات غرامية ففي ص131 عن عامر الخلعي في رواية " صحبة وأنا معهم أهل الهوى" (تنوعت علاقاته، أغلبها مع عاهرات ،بائعات هوى لم تكن لتدوم) وفي نفس الصفحة (لم يكترث يوما لتلك الفوضى التي يحياها).

وفي رواية الشتاء غواية ص47 (انتحار مهندس 53 عاما في مكتبه).

وفي رحلة المخاض التي عاشها الفلسطيني في روايات د غبيش فهو ما زال يحلم بفسخة من فرح ومنها ما جاء في رواية بيت رحيم عن خالدة (تغسل أشجارها ،نباتاتها الخضراء والملونة) مشهد يشي للمتلقي بالفرح والأمل. والأشخاص في معظم روايات د غبيش ليسوا مجرد أناس يعيشون ويتحركون في إطار الزمن والمكان والحدث الروائي بل هم رموز لقطاعات فكرية وإنسانية فعلى لسان علي زعتر من رواية فؤاد مطر ص204 (نكنس الاحتلال أولا) ومن نفس الرواية ص205( قال خليل الشيخ: تأبين المرض أم تأبيده؟ واصلنا توزيع الجرائد كل شهر).

كما واعتمد دغبيش على استخدام الرموز فمن رواية عالم قديم ص175 على لسان نور الدين عن ليلى (كانت عارية تماما) والعري هنا ليس عريا ماديا لجسد بل عري وطن واغتصاب أرض.

كما واتصفت بعض شخصيات د غبيش بالثنائية الضدية من حيث القبول والرفض، الظلم والإذعان، وغيرها.

بقي أن نقول بأن د غبيش اعتمد العبارات المركزة لطرح أفكار نصوصه. واستخدم بعض الدلالات الرمزية كما أسلفنا سابقا.

***

قراءة بديعة النعيمي

 

 

يعتبر الادب هو أحد اشكال التعبير الإنساني الذي تُسَيرهُ مؤثرات زمنية مختلفة الى جانب موروثات تاريخية واجتماعية وبيئية وثقافية... كونه ينقل او يعكس العوامل النفسية بشكل عناوين او صور مختلفة اللغات، فاللغة حال لسان، أما الكتابة فهي تشير الى النص، كما أن الأدب يشير الى دلالات اللسان والرسم.... لذا وفي نظرة الى بدايات الكتابة التي لا يجهلها احد من الباحثين في الادب إنها كانت على شكل صور على جدران الكهوف وذلك ما كشفه الباحثين عن الحضارات كحضارة المايا والحضارة المصرية والاقدم الحضارة السومرية حيث أنها تترجم بمعاني المراد منها فهمه.. فالقارب يعني ان هناك أنهار ووسيلة نقل، الخيم يعني ان المنطقة آهلة بالسكان والاستقرار، الشجر يعني ان هناك ارض زراعية أو بستان او غابة للغذاء والعمل الزراعي، كذلك ينطبق على انواع صور الحيوانات، كلها تصب على ان هناك بيئة للسكن وللغذاء وهكذا... لقد أورث الخالق عز وجل عندما خلق الإنسان بمخزون إدراك حسي للأشياء مخزون في الذاكرة متوارث فحين خلق آدم علمه الاسماء كلها... نلاحظ ان الخالق قال اسماء وليس صور.. وهذا هو المعنى العام للصور فلا يمكن ان تكون كلمة ذات معنى إن لم يكن لها صورة مخزونة، كما الحروف فالهاء تمثل دورة الهواء في الحلق وحين اللفظ، الكاف مثل كف اليد للعمل، الصاد كما هي الصنارة تستخدم للصيد وهكذا دواليك بقية الحروف التي اخذت عن الحضارة الاكدية التي جاءت بها وعددها إثنان وعشرون حرفا ثم بعدها اضيف إليها الحروف الست اخرى فصارت ثمانية وعشرون حرفا... فالسين اضيفت النقاط فاصبحت شين والصاد لها الضاد والحاء جيم وخاء الخ.. وهذه الحروف وما يمثله شكلها إنما هي صور أبدع في استحضارها الانسان، تماما مثل مخرجات الحاسوب بعد ان يكون قد ملئت ذاكرته بمدخلات للتعامل معها... فكل شيء خلقه الله تحت مسمى ذريعة فالماء ذريعة الحياة والنور ذريعة للنهار والظلمة ذريعة لليل وهكذا جميع الموجودات... يبقى على الإنسان الذي يريد أن يدخل عالم الأدب أن يتلمس كل هذه المكنونات والموجودات خلال منظار مختلف عن الانسان العادي مثل المتلقي القارئ، فالإنسان خلق بمستويات ثقافية مختلفة كما هو اختلاف المستويات الاجتماعية او البيئية... وأعني البيئة والتي اعتبرها المؤرخ الاول والاساس في إنماء العقل الباطن عندما يكون غض لم يعبئ بعد... فالعقل الباطن يسمى بمنطوق الذرائعي (الملاك الحارس) أي انه المراقب الأول للتعامل سواء بالنصوص او الصور أو الابعاد الإيحائية التي يرمز إليها الأدييب او الكاتب، فالنص كالإنسان علينا ان نتعامل معه بنفس المشاعر والأحاسيس التي تجعل من المتلقي في الكثير من الاحيان بأن يتفاعل مع النص الادبي بمشاعر قد تسبب له الحزن، الفرح، البهجة، وللبعض الآخر تسبب الكآبة أو الحقد على احد شخصيات الرواية... خاصة إذا كان التعامل النفسي باديا عند البعض من المتلقين... فهناك حالات يتعامل معها المتلقي حين يقرأها كأنها تصفه او كُتِبت لشخصه وهذا واقع لا يمكن ان ننكره... يبقى اننا عندما نعمل على نقد أي نص أدبي أن نركب قارب الحياد ونتوشح بمعنى الجراح الذي يريد ان يحيي النص بحيادية ومن خلال تشريج جسد لديمومة حياة كي يكون عامل إيجابيا مساندا للإبداع... فليس كل من قرأ نص لرواية او قصيدة شعر جعل من نفسه ناقدا حصيفا يمكنه ان يُقَيم العمل بالشكل الصحيح، إلا عندما يقرأ العنوان او النص بشكل يرقى الى ان يجعل منه موروثا أدبيا.. فَقُرّاء الرتم السريع الذي يشرحون النص بسطحية على أنه نقد لا يمكن ان يقيموا العمل الادبي كون له مقاييس ومعايير  يتضمن دخوله الى عوالم وابواب، فالقص القصير ليس مثل الشعر والشعر ليس مثل الرواية...  (إن الرواية كما يعرفها ميلان كونديرا: " ليست الرواية اعترافًا من اعترافات المؤلف، بل هي سبر ماهية الحياة الإنسانية في الفخ الذي استحاله العالم) انتهى

وهنا اقتبس من كتاب الذرائعية والنقد العلمي الادبي للاستاذ عبد الرزاق الغالي قوله:

(تعتبر من أصعب الفنون الأدبية على الإطلاق، وذلك لنفس الأسباب التي تبدو سهلة، وهى غياب الضوابط الشكلية أو التقاليد الثابتة التي تسهل على الكاتب مهمته، فهي لا تكتب نظمًا مثل الشعر، بل هي مقسمة إلى فصول ومشاهد تخضع لأعراف سائدة ومتأثرة بالظروف المحيطة، كما في المسرح، فالكاتب يسرد الأحداث دون أن يقيّده زمان أو مكان، ودون أن تحدّه حدود الطول ولا القصر، كما أنه ليس مقيّد اليدين إزاء الوصف والاستطراد، أو عدد الشخصيات، فهو يستطيع أن يقدم أي عدد من الشخصيات، وأن يتعدّى وحدة الانطباع فيخلق العديد من الانطباعات، أي أن الرواية الحديثة هي الفن الأدبي المنثور الذى حلّ محل القصة الشعرية الطويلة الملحمة وتحوّل هذا الفن من الشكل المسموع إلى الشكل المقروء، ومع أن الرواية  طويلة، لكن لها خصائص مثل القصة القصيرة، أي تشترك مع القص القصر بنفس الخصائص  والبناء... فالرواية لها القدرة على التكيف والتطوع والتطور، وقادرة على معالجة أي موضوع، وأثبتت قدرتها على البقاء في العالم رغم التنافس القوي من السينما والمسلسلات التي تمثل صورة للفن الروائي). انتهى

فالرواية تعتمد على السارد والمسرود له بما تحتوية من صور بلاغية ومحاكاة إنسانية تسمو بالتعبير لتجعل من العمل بناء متكاملا يرقى لأن يكون ابداعا... ولا يمكن بأي حال من الاحوال ان يبدع الاديب مالم يمتلك هبة الملكة الادبية فهي نفحة إلهية ليس كل من كتب صار اديبا او كاتبا فالشاعر لا يمكن ان يبدع بكتابة رواية كما يبدع في كتابة الشعر... وهكذا دواليك إن مجالات الكتابة كثيرة والاقلام التي تحترف قليلة فرواية الشيخ والبحر لهمنغواي من الادب الانجليزي او البؤساء وروايات غابريل غارسيا وشارل ديكنيز أو تولستوي في آنا كارنينا وغيرهم من المبدعين يعتبرون طفرات زمنية لعصرهم ولازل الى الان لا احد يستطيع ان يكتب بنفس المستوى والنفس وذلك لإختلاف المعاناة والحالات النفسية التي انخرطت الى عمق نفسه الروائي ليسردها مع اختلاطه مع البئة والعصر محاط بالضغوطات السياسية فالعصر الذي كتبت فيه للثقافة موروثها الخاص حينها مستحضرين الجانب النفسي والاخلاقي، هناك كتاب وأدباء كتبوا الكثير لكنهم ابدعوا في رواية او أثنتين ومن العرب يعتبر عبد الرحمن منيف من الادباء الذين اتقنوا الكتابة بجدارة وابدعوا بالعديد من كتابة الروايات مثل (الآن هنا، الشرق المتوسط ، الاشجار واغتيال مرزوق الى جانب سلسلته الابداعية التيه والاخدود.. الخ مثله مثل الكتاب العالميين.. نعم هناك غيره من مصر ومن العراق ومن السودان كما رواية الطيب عرس الزين وغيرهم بالطبع لايوجد مجال لذكرهم...

وسؤال... لم انتشرت النظرية الذراعية؟ فمن خلال حوارات مع بعض الادباء العرب والنقاد من مصر والمغرب وتونس ولبنان وكندا اعتبروا النظرية الذرائعية مدخل جديد الى عالم النقد العلمي الادبي الذي استشرى مثل وباء محمود الجانب في الوطن العربي وحتى الاوربي... فالتجدد حالة صحية فيما إذا وجدت القلوب النيرة والعقول المنفتحة... إن النظرية الذرائعية عائلة تمتلك الادوات الصحيحة لتشريح النص الادبي فحين يقرأ الناقد الذرائعي نص ما يعيش حالة من حالات التفؤد أي أنه يجعل من نفسه صورة قارئة لكل حرف من حروف الرواية وجعل قراءتها تتطلب استخدام الادوات اللازمة لإبداء المعنى بعيدا عن القراءات الأدبية السطحية، فالناقد الذرائعي يبحث عن الرسائل الخفية في النص ينظر إليها بمنظور جمالي إيحائي سيمانتيكي براغماتيكي يختلف عمن يقرأها بشكل عام، اي انه سؤال وجواب (لم، لماذا، كيف، والغرض من) مع استحضار الزمكانية التي تشغل حيز الرواية الماضي الحاضر أو المستقبل، كما ان خلفية الراوي الاجتماعية والمؤثرات التي يعيشها تصنع منه أداة ناقلة للواقع او تجعل من عقله انسانا يهرب الى الفنتازيا والخيال،  او كما  يقول باختين  (أن الروائي قد ينطلق من خلفية لسانية سيميائية، متخليًا عن ذلك الربط بين الرواية والطبقة البرجوازية، وتبنى معطيات التحليل التاريخي للمجتمع، معتبرًا الرواية مجالًا لتوليد المعاني الجديدة).

علينا ان لا ننسى ان الرواية قد وصلت للوطن العربي متأخرة في مطلع القرن العشرين عن طرق مختلفة منها التبادل المعرفي والاختلاط بين الثقافات من خلال نقل السير او ترجمة الكتب... ولا ننسى أيضا ان جميع الرويات العربية في بداياتها كانت قصصا قصيرة.. تنشر في المجلات العربية لترويجها..

و هنا اقتبس عن الدكتور عبير خالد يحيي الناقدة الذرائعية قولها:

1- للرواية في العالمين العربي والغربي نفس الأغراض والأهداف التي يبتغي الكاتب تحقيقها، ومنها:

- نقل تجربة عاشها الكاتب أو عايشها أو تلقاها محكية (ثلاثية التناص الذرائعية) 

- تصوير ظاهرة ما، سيئة أو جيدة، في مجتمع معين، وبذلك تغدو الرواية مرآة للواقع الاجتماعي.

- إعادة تقديم التاريخ بسرده في شكل قصصي بغية ترسيخ أحداثه وأهم التطورات التي عرفتها البشرية ، كالتاريخ الوطني مثلًا.

- تسليط الضوء على حالة نفسية ما، قد يمر بها الإنسان وتغير من طبائعه وتوجهاته، بل ونظرته إلى الحياة.

2- ينظر النقد إلى الرواية على أنها جنس أدبي مستقل بذاته،  سواء النقد العربي لرواياتنا، أو نقد الآخر لرواياته.

3- كل من الروايتين العربية والغربية يلجأ فيها الكاتب إلى توظيف الرمز والأسطورة، والانزياح نحو الخيال والجمال لإعطاء حرفية وجمالية أكثر للصناعة الروائية.

4- تشترط كتابة الرواية في كلا البيئتين، العربية والغربية، توافر مجموعة من الميكانيزمات الضرورية لاستقامة السرد، وهي:  الفكرة، الشخصيات، الزمكانية.  وما يفرز عنها من عناصر سردية:  كالحوار  والوصف والتشابك السردي،  فلا تبنى رواية بمعزل عن هذه الآليات.

5- إن جنس الرواية يخضع للتطور ليواكب روح العصر، وتغيرات الحياة وتحولات ظروفها، وهذا ملموس عند كل من يمتهن ويحترف الفن الروائي سواء كان عربيًا أو غربيًا.

6- تأثرت الرواية بجملة المذاهب والتيارات التي عرفها الفكر البشري بالعموم، والأدب بالخصوص، كالواقعية على سبيل المثال، هذا عند الغرب،  ومادامت الرواية جنسًا قدم إلينا من هناك_ أي من العالم الغربي_ فلا عجب أن تتأثر الرواية العربية عندنا بتلك المذاهب التي جاءتنا على نفس المركب. ألا وهو الترجمة. (إنتهى)..

فالناقد الذرائعي يوحى إليه من خلال مكامن نفسية وسيكلوجية وابعاد تراكمات قراءات متعددة مثل المحور البصري أو المحور الاستراتيجي الديناميكي او من خلال المحور الفني التقني، تقنية التدوير السردي والخطف الخلفي كأن يبدأ الرواية من نهايتها، تقنية التمازج بين السرد والحوار الى جانب العديد من التقنيات التي على الاديب ان يمتلكها مثل...

1. تقنية التضاد

2. تقنية زر الحذف

3. تقنية الرغبة الملتهبة

4. تقنية حرق الجسر

5. تقنية الفوز الصغيرة

6. تقنية التحفيز

7. تقنية الإيمان والمحبة

8. تقنية التصور

9. تقنية التحضير الفيزيائي

10. تقنية الانفصال

11. تقنية المانترا (الوساوس المرضية)

12. تقنية القراءة الجهرية

13. تقنية الإيحاء

14. تقنية تلقي الاتصالات

والناقد العالم فيها كي يسبر غور تشريح العمل بالنص الادبي  ومن خلال دراسات كثيرة للنصوص الادبية وبمنطور الناقد ان العصا تمثل الظلم او إنها تمثل الاستبداد... او السلطة او الجبروت...

لذا ومن خلال ما يمتلكه الاديب من امكانيات وتقنيات لا يسطيع إظهار جماليتها إلا الناقد البارع وبشكل نقد علمي شرط ان يكون العمل الادبي يسير على المحور الاخلاقي وكما يقال الادب عراب المجتمع أي انه يحمل دروع اخلاقية تحميه من التسفه او الاتيان بخط غير اخلاقي يؤثر في المجتمع الذي تربى ورضع العادات والتقاليد... الى جانب الخط الموازي له وهو العامل النفسي السيكولوجي... قد يكون هناك طفرات لكنها بالتأكيد هدفها العام انن تستحوذ على فكرة ما سائدة لا يرام لها التفشي او الشيوع...

لذا وعندما نتحدث عن النقد الادبي العلمي بطريقة الذرائعية علينا ان ندرك أننا أمام علمية جديدة تسهم بالتأكيد بأن تعيد صياغة النقد الادبي السائد وهذا ليس تحيزا لكن لعلمية النظرية الذرائعية ومكانتها في نفوس الكثير من النقاد والادباء... والتي قد يقول البعض انها ليست جديدة لكنها صارت الان فمن له احقية الكشف عنها والبحث والدراسة في تطويرها كعلم بات كشجرة يستورف في ظلها الكثير من النقاد والادباء سواء في المغرب العربي او مصر او لبنان أو كندا وغيرها من الدول.. لا اظهر حقيقة خافية حين اقول ان العديد من الكتاب يتسارعون الى نقد اعمالهم من خلال النظرية الذرائعية البعض قد يفشل والبعض قد ينجح... إنها عالم متطور ومستحدث كما اللغة فمن يعني بتغير اللغة من حيث استخدام المفردات ذات الخصوصية العربية يعلم ويدرك انها متغير فلازالت هناك صعوبة في معرفة معاني لمفردات ذكرت في الشعر الجاهلي وإن كنت لا احبذ كلمة الجاهلي فمن يوجد لغة كرمها الله بأن تكون لغة قرآنه الكريم وعن لسانه لا تحمل صفة الجهل... إن الامتداد التأريخي لمتغيرات اللغة يجعل من الباب مفتوحا امام الروائيين والشعراء وادباء السير او المدونات ان تتغير اللغة بمفهوم التكنلوجيا الحديثة... إن العالم يتغير بشكل مستمر ودائم ونحن بحاجة الى هذا التطور سواء في الكتابة او النقد مثلما هناك اوجه للتشابه ايضا هناك اوجه للإختلاف من ناحية عصرنة الرواية وأدواتها النقدية والبعض يرى ان التجدد يلغي حضوره فيعمد الى مناطحة التجديد في النقد رغم أن بداخله قناعة يؤمن ان ذلك لابد حدوثة فالعالم كل لحظة في تغيير كما هو النظام الانواء الجوية والبيئي الذي بات مؤثرا على الكثير من الدول التي يقطنها الإنسان ويتعامل معها آنيا بما لديه من إمكانيات... وهكذا النقد الذرائعي يصنع عالمه بأدواته كي يثبت لنفسه أولا بأن التجدد لابد حاصل وإن الموروثات والتعامل بالادوات القديمة لا يمكنها ان تواكب حداثة العامل الجديد بما يحمله من مصفوفات أتقنت فن النقد العلمي للأدب بشكل عام.

***

القاص والكاتب عبد الجبار الحمدي

- معاني مترادفة وتكريس التشبيه والإسقاط للدلالة اللفظية

 - تداخل الزمن وعدم استقراره مابين اللغة وواقعية المعنى الرمزي

 التاريخ يتدلى شعراً عند جواد الحطاب والذي أفرد  له مساحة عريضة في مقتبل إكليل موسيقاه، جاء بها على ذكر اسماء الخلفاء حتى تراقصت حروف سلمه الموسيقي لتهزء من تلك الأسماء  التي تعلقت باسم الله كما قال (أرب هذا أم شماعة أخطاء) .

الاسقاط الذي بدء به الحطاب نصه الشعري ليلج من خلاله باب الذكرى بتأويل (الشباك)، وظف فيه الخِطاب الديني عبر رموز واسماء جاء بها للدلالة ثم للتمني قاصداً منها التداخل السمعي البصري للصورة التي يريد تجسيدها متكاملة أمام مخيلة القارئ.

قيل أن الأخذ ب (لو) يفتح أبواب الفتنة، فأي فتنة في شعر الحطاب أراد لها أن تكشف خبايا التاريخ بتضمينه (لو) استفتاحا لأبياته، هي لم تحدث،لكن التمني يؤدلج عقل القارئ على تخيلات ما كان لو إنها حدثت، والفتنة تكمن في ثنايا التساؤل، كما يكمن الشيطان في التفاصيل.

لو كان أبن ابي طالب قد مد يديه إلى العباس

لو أن الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل

لو أن سليمان تجاهل أمر أبي هاشم

لو صدق السفاح

لو تمت بيعة ابن عبيد الله محمد

ولو أن المنصور

... هل كنت ستنشد من أجل إمارة؟!!

 التساؤل في ختام الأبيات، فتح الأفق على مضمون قضية تاريخية، تناولها الحطاب عبر أدواته الموسيقية التي عزفت لحن كلماته على "جثة البيانو" (اكليل موسيقى على جثة بيانو)، استبدال رائع لمعاني مترادفة، هي شائعة في مخيلة القارئ، (أكليل، جثة) كلاهما قبل أن يستخدم (جواد الحطاب) مفهوم الإسقاط والتشبيه، كانتا كلمتان دالتان تعبران عن مفاهيم مختلفة لأشياء على نقيض بعضهما، لكن أن يتم توظيفهما بهذا المعنى فذاك شيئ مختلف بل قمة في الإختلاف والروعة في الاستبدال والإسقاط.

هل تكون الأكاليل الموسيقية بدلاً عن (المقطوعات) عن (الوصلات الموسيقية، المعزوفات)، وكيف لذاك الإكليل أن يكون على جثة من خشب تتداخل فيها الأوتار بآلة المفاتيح، ذلك التشبيه الذي جاء به الحطاب في قصيدته استخدمه للتأويل، ومن يجيد التأويل أكثر من جواد الحطاب.

المتوكل بالله

المنتصر بالله

المستعين بالله

المعز بالله

المهتدي بالله

المعتضد بالله

المعتمد بالله

المكتفي  بالله

المقتدر بالله

القاهر بالله

الراضي بالله

المتقي بالله

المستكفي بالله

المطيع لله

التوظيف العام لمطلع القصيدة بدلالة الاسماء المذكورة، هو عبارة عن تأويل لحقب زمنية تعاقب فيها هؤلاء على الحكم، وهنا أورد الحطاب اسماءهم كيصغة استهجان تصف تلك الفترات التي كان طابعها لايتوافق مع تلك الصفات التي خلعها هؤلاء الحكام على ذواتهم، أو أنهم نسبوا أنفسهم لصفات تغلف توصيفات ممارساتهم للحكم وتنسب تلك الصفات إلى الله سبحانه، تلك السمة، وذلك التوصيف هو الذي استهجنه الحطاب مقارنة بتناقضات ما طغت عليه صفات تلك الفترات من حكم هؤلاء (الخلفاء) الذي حملوا أنفسهم تلك الصفات التي تستعين غالبيتها بالله، وتلك هي التورية التي كانت تميز تلك الفترة من عصر الخلفاء، أو ما يطلق عليه (تغليف السياسي بالطابع الديني)، وربما هي مرحلة يعيدها التاريخ اليوم باسم "علي بن أبي طالب" الذي رفع اسمه شعاراً لمرحلة الحكم الحالية التي حرقت الأخضر واليابس لكنها بقيت شعارات خلت من مبادئ "علي" الزاهد العابد المؤتمن، وأراد منها جواد الحطاب بتوظيفه (التشبيه) اسقاط تبعاتها على مايعيشه العراقيون من مآسي وويلات جَرت عليهم وعلى العراق مزيداً من الآسى والدمار و(شماعة الأخطاء جاهزة)، سيما وأن جواد شاعر مقاوم لايختلف على أداءه في معترك المقاومة أثنان.

المقتدي بالله

المستظهر المستنجد بالله

المسترشد بالله

المستنصر المعتصم بالله

ياآه ه ه ه

تضحكني هذي الاسماء

أرب هذا

ام شماعة أخطاء؟!

 في الليل  تدلهم الخطوب على النفوس، تثار المواجع، يعمل التفكير أعماله، ويأخذ الشجن مأخذه منهم، في الليل ينتظر الشارد بفكره أملاً، عله يأتي بعد انبلاج وشاح السواد، لينشر الصباح خيوط النور ويعم على الجميع، وقد قال في توصيف تلك الصورة " المتنبي" (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي ....وما الاصباح منك بأمثل).

في ذاك المعنى كتب الحطاب بتداخل الزمن وعدم استقراره مابين لغة الدلالة وواقعية المعنى الرمزي واتساع الرؤيا  فجاءت كلماته تحمل إشارات الإمتداد الزمني الذي سعى إليه الحطاب  ليغلفه بنور الأمل المنتظر والذي مثله ب(الشباك المفتوح) على ظلام الليل.

نص حمل من الرمزية التي تشير لواقع دلالي قد يتغير مع مرور الوقت، والتغيير ميزة الأشياء والأزمان، فلا الحال يبقى، ولا الزمان يثبت،صورة معبرة أختزل من خلالها  جواد الحطاب مشهد الحياة دون حاجة لتوظيف التكرار الذي نعهده عند كثير من الشعراء.

توظيف الرموز في النص الشعري  دالة التشبيه، وهو في نفس الوقت دلالة رمزية تعمل على تقوية الصورة التي يرسمها الشاعر، فيما تعد مقاربة ضمنية لتذليل الصعوبة التي قد تكتنف الكلمات التي يوظفها في أبياته، لكن إن تم توظيفها بتراتبية تستند للتبسيط، وذلك ما ندعوا له في كل كتاباتنا، وهي تعتمد على مخيلة الشاعر وسعة أفقه اللغوي، فإنأمتلكها نجحت تشبيهاته، ونجح أسلوبه في التوظيف . وقد أبدع الحطاب في ذلك فصاغ نصاً رائعاً ما كان أن يكون بهذا الوصف الدقيق لو أن غير الحطاب سعى لنظمه.

شباك مفتوح في الليل على الذكرى

.....................

لو كان ابن أبي طالب قد مد يديه على العباس

لو أن الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل

لو أن سليمان تجاهل أمر أبي هاشم

لو أن أبا مسلم لم يتشيع لإبراهيم

لو صدق السفاح.....

لو تمت بيعة ابن عبد الله محمد

ولو أن المنصور

... هل كنت ستنشد من اجل إمارة؟!

؟؟؟؟؟؟؟؟

؟؟؟؟؟؟؟؟

؟؟؟؟؟؟؟؟

تقلبات استعمال اللغة وتكريس النص في مجموعة من الصور هو أقرب لذهن القارئ من تباعد المعنى عبر توظيف أفكار متباينة للوصول إلى الصورة التي نريد، فكم من شاعر حاول أن يبتعد عن تثبيت الصورة عبر النص، والمحاولة لولوج القصدية الشعرية من باب تشتيت الصور في القصيدة ومن ثم جمعها،فضاعت محاولاته وضاعت صوره.

وفي هذا جاء الحطاب بالاختزال اللفظي كمنهج يعتمد عليه في رسم صوره الشعرية بسردية موجزة، أفادت القارئ وسهلت عليه عملية اقتناص المعنى الضمني، ودلت على عمق التوظيف واستخلاص المعنى، فكان الإيجاز بدلالة تنوع الإيقاع وتعدد الوظائف الشعرية والغايات الرمزية أن شكل البنية التشكيلية للقصيدة بتنوع البنى الرمزية لشعره ببناء سردي متقن، مما أثرى الحبكة التي عمل عليها وليوظفها بشكل قابل للدلالة على التحول في الفهم حسب تحول الزمن.

تناول الحطاب الرموز بدلالالتها الدينية والإنسانية، وبدلالة السلطة، ووظف الرمز ا(ديني أو سياسي) توظيفاً دقيقاً ليلج من خلاله اللاشعور ويعكسه على الواقع باستعمالات لغوية فريدة حملت افكاراً مغايرة للصور الشعرية التي نراها ونلمسها عند الشعراء، فخرجت من ثنايا قصيدته (اكليل من الزهور على جثة بيانو) رؤية واقعية لواقع مأزوم قد لانراه في أفق قصائد أخرى.

الايجاز الذي يحتكم على رؤية بأفاق وليس أفق، تمنح ما يكتب الشاعر بعداً لا متناهي من الصور الشعرية، ذلك ما ضمنه "جواد الحطاب " أكليله الرائع، ليحتفي ونحن معه بجثة بيانو طالما طربنا على ترنيمات أوتاره، لكننا نستعيض عنها اليوم بكلمات الرثاء الضمني للجثة المسجاة أمامنا (البيانو) الذي فقد إرث موسيقاه على صفحات الشجن التي خلفها التمني ب (لو)، حتى أحيا الحطاب خطاب الأمل فينا عبر شباكه المفتوح على ليل العراق الذي طال سواده،فكان كما قال:

الشٍعر في زمن القواد

دعاره.

***

سعد الدغمان

 

إن علاقة الشاعر بالألوان كرموز فنية / إيحائية لا تقوم على النقل المباشر أو محاكاة أشكالها كما هي في الطبيعة، وإنما تمثل الألوان ـ مع غيرها من عناصر البنية الشعرية ـ أدوات من خلالها يشكل أبعاد تجربته، إذ يعيد النظر في علاقتها ببعضها من جهة، وعلاقته بها في إطار التعبير عن رؤيته وتجسيد دلالتها من جهة أخرى، وذلك بكشف إيحاءاتها لا برصد أشكالها، ومن ثم يكون استخدامه لها بقدر تحسبه عبقريته، ومن زوايا يختارها لتكون في النهاية لبنة فنية في تشكيل رؤية شعورية متميزة.

" فاللون يثير لدى الشاعر طائفة من الذكريات، مما يجعله مسوقاً إلى ابتكار رمز موائم لدلالات تلك الذكريات المستمدة من اللون الذي يستمده من الطبيعة رابطاً إياه بحالته النفسية، بذلك يتجاوز الشاعر الواقع إلى نوع من التجريد في الشعرية الرمزية، إذ يؤدى اللون دوراً يفوق دلالته الوضعية، حيث صار عضواً حياً في وحدة النص، لاسيما إذا اجتمع مع اللون صوت وحركة، فلا تتحقق للرمز فائدة في مفردات معزولة، بل في شكل كلي تتآزر فيه الرموز الجزئية “. (1)

و تعامل "حسن فتح الباب" مع الألوان بكل دلالاتها الإيحائية وإمكاناتها التعبيرية قد ساعد على ثراء جوانب الشعرية في تجربته من ناحية ، فضلاً عن توسيع دائرة الفضاء النصي من ناحية أخرى ، وذلك باستعمال دوال متعددة المراجع الدلالية نتيجة للرموز و الإشارات الصادرة منها " ومتابعة الظاهرة يمكن أن يكشف عن نواتج دلالية لا يمكن لغير الألوان أن تنتجها ، وهو ما يحتاج عند القراءة إلى قدر واسع من الرؤية الإدراكية التي تتمكن من استيعاب الظواهر في كليتها أو جزئيتها ، ومتابعة خطوطها الممتدة أو المتقاطعة ، ومدى توافقها مع المردود المعجمي أو العرفي ، ومدى انتقالها إلى دائرة الإسقاطات الرامزة " . (2)

هذا ، وتشكل مفردات اللون جزءاً كبيراً من معجم "حسن فتح الباب" الشعري  ،  و النظر في أعماله الشعرية يكشف عن الغلبة التعبيرية للون الأسود ، إذ يعد أكثر الألوان تردداً في شعره ، إلا أن دلالات  اللون تتغير تبعاً لمقتضيات التجربة ومدارات السياق وإشعاعات الأثر النفسي التي " تحدث توتراً في الأعصاب وحركة في المشاعر تدفعها الحاجة إلى استكشاف الصورة أولاً ، ثم إثارة المتلقي ثانياً ، فالشعر ـ إذن ـ  ينبت ويترعرع في أحضان الأشكال والألوان ، سواء كانت منظورة أم مستحضرة في الذهن في نسق خاص تستمتع الحواس باستحضاره " . (3)

* وصدارة " اللون الأسود " لقائمة الألوان في شعر" حسن فتح الباب" تشير من زاوية ما إلى أبعاد علاقة الشاعر بالواقع المادي أو المعنوي الذي يعيشه إذ امتد " السواد " إلى جانب كبير منه، وصبغه بلون الحزن واليأس، وأضفي عليه مسحة من الكآبة والتشاؤم، ومن ذلك قوله:

لم تتشح لمزارها غير السواد

فرداؤها أبداً سواد

من قبل أن تمتد ألسنة الحريق

ومن الشروق إلى الشروق

أبداً سواد   (4)

إن الوقوف على دلالة اللون في هذه الدفقة الشعرية يمنح التجربة ثراء ً إيحائياً باشتمالها أفكاراً ورؤى أعمق من الدلالة اللغوية ، إذ تؤدى وظيفة نفسية تزيد الصورة جلاء بالنفاذ من التشابه الحسي " الرداء الأسود " إلى الإيحاء بالبعد النفسي أو الشعوري الحزين الذى يغمر الكون كله " من الشروق إلى الشروق " وإن كان الشاعر لا يقف أمام هذا التماثل الخارجي إلا بمقدار ما يعقد الصلة بين الطرفين ، لتؤول العلاقة بينهما إلى اتصال نفسي ينفذ من خلاله إلى الإفضاء بمكنون الذات ، حيث الحزن الضارب جذوره في الأعماق " أبداً سواد " .

فالسواد نقطة الثقل في هذا التحول وقد أدى دوره الدلالي بأصل المواضعة، أو بما فيه من هوامش إضافية أضفت على السياق كله لوناً من الحزن والكآبة، وإذا كان اللون قد انصب أساساً على واقع خارجي مادي هو " الثياب"، فإن بعده التأثيري قد امتد إلى الداخل أيضاً؛ على معنى أن الذات والموضوع قد اجتمعا في منطقة واحدة هي (السواد).

أما عن علاقة اللون الأسود بالمعنويات الداخلية فتصدر عن ارتباط اللون بالتجربة الشعرية نفسياً ودلالياً، ذلك أن لكل لون تردد خاص به، وكل تردد له تأثير حيوي على معنويات الإنسان.

أطوف بين القلوب الخواء المضاءات

بالنفط والشبق الأسود المتواري

وراء البطون التي انتفخت

بالحوانيت والبنك والإفك    (5)

في إطار تجربه حية أسيانة كابدها الشاعر إزاء اغترابه عن مجتمعه ومقاومة استلاب الروح وتشيئها، لا يجد أمامه إلا الرحيل، لكن المؤسف أنه رحل عن واقع منبوذ مرفوض إلى واقع أشد استحقاقاً للرفض حيث الخوض في الوحول والآثام، ويعد " الشبق الأسود " بؤرة استقطاب الدلالة ومحور تمركزها، فالقلوب المظلمة مضاءة بالنفط والشبق الأسودين، والنفوس الخواء منتفخة بالإفك، والشاعر يعمد إلى هذه الازدواجية قصدا ً إلى التمايز وبيان المتناقضات.

ومن ثم فإن الوطن هو المنفي والمأوى، فنحن مقاومون شهداء، ووطننا منفانا في الإقامة والرحيل، والأنا هو أنت ونحن هو الوطن ظلم وعدل، قهر وملاذ، وهو مرفأ وجحيم، وبهذه المفارقة تتضح أبعاد الرؤية المفعمة بالأسى الناتج عن تردى أخلاقيات البشر مجسداً في ضياع القيم والمبادئ استجابة لنزق الشهوة الرخيصة.

***

دكتور/جمال فودة

عضو الاتحاد الدولي للغة العربية

كاتب وناقد وأكاديمي مصري

........................

(1) مصطفي السعدني: قراءة المعنى الشعري / 31

(2)  يوسف نوفل: الصورة الشعرية والرمز اللوني / 53

(3) محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية / 42

(4) من وحى بور سعيد / 41

(5) الأعمال الكاملة: المجلد الثاني / 35

صدرت عن دار لندن للطباعة والنشر في العاصمة البريطانية السيرة الذاتية المعنونة بـ " الزنزانة رقم 7.. مذكرات سجين سياسي" للشاعر والروائي الأحوازي محمد عامر الذي سبق له أن أصدر أربع روايات وهي على التوالي: "الاغتيال"، "طيور الأحواز تحلّق عاليًا"، "سبعة أيام حُب"، و"ملحمة عِشق أحوازية". وتأتي هذه السيرة الذاتية بمثابة تتويج لجهده السردي الذي يتطوّر سنة بعد أخرى ليصل إلى هذا المستوى الاحترافي الذي يأخذ بتلابيب القارئ سواء أكان متعاطفًا مع القضية الأحوازية أو مُناهضًا لتوجهاتها ونبرتها التحررية، وسعي أبنائها المشروع لحق تقرير المصير.

يمكن قراءة هذه السيرة الذاتية كسيرة روائية أيضًا لما تنطوي عليه من ثيمة رئيسة وأفكار مؤازرة تصبُّ في النهر السردي الكبير وترفده بالكثير من الموضوعات السياسية والاجتماعية والعاطفية. كما تحتفي هذه السيرة بالعديد من الشخصيات المساندة لشخصية البطل كراويةٍ وكائن سردي في الوقت ذاته، وطبيعة تعالقه مع الحبيبة والأهل والأصدقاء والأقارب الذين يروون قصصهم وحكاياتهم الفردية والجماعية في آنٍ معًا. وقد وصل عدد الشخصيات إلى أكثر من 40 شخصية تدور في فلك البطل أو تحاذيه أو تتعاطى معه مُستجوبة أو مُقاصِصة أو مُحاورة؛ بعضهم  يؤازره وينتصر له، وبعضهم الآخر يُبغضه ويناصبه العداء حينما يكون في بيئة عنصرية وشوفينية حاقدة.

تنقسم السيرة إلى 12 فصلاً تختلف أحجامها بحسب الأحداث والظروف المأساوية التي يمرّ بها البطل الذي يتبنى الفعل السردي الذي تشاركه فيه الأم تارة، وبعض الشخصيات الأخرى التي تدخل في حوارات مباشرة معه بوصفه الشخصية المحورية في النص السردي والعصب النابض فيه.

أدب السجون.. ثنائية الضحيّة والجلاّد

تنتمي هذه السيرة إلى أدب السجون تحديدًا الذي لا يختلف كثيرًا عن البلدان المجاورة التي تشترك مع إيران في ثنائية الضحية والجلاد وإن اختلفت درجات القمع والتعذيب ومصادرة الحقوق الفردية والجماعية.

يستطيع الناقد الحصيف أن يؤشّر بسهولة الثيمة الرئيسة لهذا النص السيري وهي التشبث بالمبادئ الوطنية والأخلاقية التي تحث صاحبها على التضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن والشرف والكرامة الإنسانية حيث يقول الراوية:"لابدّ من الاعتراف أنّ المبادئ التي اعتنقتها وانغرست في خلايا دمي وجوارحي هي التي دفعتني إلى هذا المكان". ويقصد به السجن بزنزاناته الفردية والجماعية التي تضعه أمام خيارين لا ثالث لهما "إمّا الموت، أو الخروج سالمًا"، ولا مجال للتأرجح أو المراوغة التي لا يسمح بها القائمون على السجون القمعية بعد أن أيقظوا الوحوش النائمة في أعماقهم وأشرفوا بأنفسهم على قتل ضمائرهم ومشاعرهم الإنسانية المُرهفة.

قبل الخوض في تفاصيل هذه السيرة لابد من الإشارة إلى أنّ قساوة بعض الضباط الأحوازيين من أصول عربية هي أكثر بكثير من فظاظة ووحشية الضباط الإيرانيين سواء من الفرس أو من بقية القوميات الأخرى التي تعيش ضمن حدود "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" الحالية ويمكن الإشارة إلى عنجهية ووحشية الضابط الأحوازي عيسى عبيات الذي يصفه الإيرانيون بأنه كلب من كلاب رئيس إدارة السجون ينقل له أخبار الضباط والمراتب وكل ما يدور في أروقة السجن من حوادث مهما كانت صغيرة أو كبيرة.

من يقرأ روايتي "سبعة أيام حُب" و "ملحمة عِشق أحوازية" لمحمد عامر سيكتشف جانبًا من سيرته الذاتية المشرِّفة التي وصف فيها بصدق معاناته الشخصية في السجون الإيرانية ولكنه لم يرد الإشارة إليها كي لا يقع في "مطبّ" التكرار. ومن يعرف محمد عامر على الصعيد الشخصي سيكتشف من دون لأيٍ وعناء حُبّه للعراق والعراقيين، وربما للنَفَس العروبي الذي يكتنف هذه البقعة الجغرافية من العالم العربي، ولكن هذه المحبة العميقة سوف تهتز ما إن يُقدم النظام العراقي السابق على غزو الكويت واحتلالها للأسباب الاقتصادية والأخلاقية المعروفة التي برّر فيها هذا الاجتياح وأعاد العراق مئة سنة إلى الوراء في أقل تقدير.

إذا كانت الثيمة المركزية الأولى هي المبادئ التي اعتنقها الكائن السيري فإن الثيمة المؤازرة التي تأتي بعدها مباشرة هي مهنة الراوي وطبيعة عمله كمترجم من اللغة الفارسية إلى العربية، فهو من جهته يدّعي بأنه يعمل في دائرة التوجيه السياسي التابعة للاستخبارات العسكرية العراقية حيث يترجم نشرات الأخبار التي تبثّها محطات الإذاعة الإيرانية، والبرقيات المهمة والعاجلة، وخُطب الجمعة، وتصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين، وأحيانًا الترجمة الفورية للاجئين والأسرى الإيرانيين الذين تمّ جلبهم إلى بعض معسكرات الأسْر العراقية. وقد ظلّ مواظبًا على المهنة طوال سنوات الحرب العراقية- الإيرانية حتى غزو الجيش العراقي للكويت في 2 أغسطس / آب 1990م واحتلالها كليًا خلال يومين حيث اشتركت قوات النخبة من الحرس الجمهوري وبسطت نفوذها على كامل التراب الكويتي وبحره وسمائه. هنا تتشكّل العقدة الثانية، أو الثيمة الموازية للقيم والمبادئ الوطنية التي يؤمن بها الكائن السيري وراوية النص حيث يرفض المشاركة بأي شكل من الأشكال في احتلال الكويت حتى وإن دخل إليها بصيغة مترجم بعد أن تسلّم كتاب الإيفاد ولم ينفّذه فعدّته السلطات الأمنية العراقية هاربًا وأخذت تطارده في منطقة الدجيلي التي يقيم بها الأحوازيون في مدينة "واسط" ويستجوبون شقيقته بوصفه مطلوبًا للعدالة وخارقًا للقوانين المرعيّة الأمر الذي يدفعه لأن يستجير من الرمضاء بالنار فيقرر الهروب من العراق والعودة إلى الأحواز ثانية حيث يُقبض عليه ويودع في سجون متعددة تبدأ بعبادان وتمر بسجن "القدس" في الأحواز وتنتهي بسجن كارون وما يتخللها من زنزانات وكرنتينات انفرادية منعزلة. وقد صدر عليه الحُكم بالسجن لمدة 13 عامًا وسوف يقضي ثلثي عقوبته في السجن ويُخلى سبيله بعد سبع سنوات عجاف وبضعة أشهر مليئة بالقسوة والمرارة والقرف.

في كلٍ منّا لسانَ لهيب وعمود دخان

هذا هو العمود الفقري للسيرة الذاتية المكتوبة بأسلوب تعبيري صادق وشديد التأثير لكنّ أهميتها كنص سردي تكمن في التفاصيل التي توزعت على 12 فصلاً قال فيها كاتب النص وبطله كل ما يعتمل في نفسه ويدور في خاطره، ولكن القرّاء كعادتهم قد يتفقون معه أو يختلفون مع آرائه وخاصة الإشكالية منها، ويستطيع كل قارئ أن يختبر الآراء الواردة في النص السردي على انفراد ويتوصل إلى النتائج المنطقية بعيدًا عن تأثيرات الكاتب وهيمنته اللغوية والأسلوبية إذا ما أعتبرنا هذا المتلقي قارئًا عضويًا يتفاعل مع النص السردي تفاعلاً حيويًا ولا يقبل بآلية التلقي السلبي ففي كل منّا، كُتابًا ومتلقين، لسان لهيب وعمود دخان.

على الرغم من الأجواء الإشكالية التي كان يعيشها الراوية في طفولته ويفاعته ومرحلة نضجه الفكري والنضالي إلاّ أنه لم ينسَ الحُب بوصفه إكسيرًا  للحياة، ولم يتخلَ عن فكرته الرومانسية التي تتوهج في أعماقه، وتتلألأ في تلافيف دماغه فلا غرابة أن يحتضن هذا النص السيري قصتيّ حُب شهيرتين وإن لم ينتهيا نهاية سعيدة، وكلاهما ضمن الإطار الأُسَري، فالأولى هي قصة حُب والده، الشيخ عامر الذي كان في سن الخامسة عشرة ووالدته التي كانت تصغره بعامين لا غير. وسوف تنتهي هذه القصة، مع الأسف الشديد، بالانفصال والقطيعة رغم إنجابها لولد واحد وأربع فتيات. كما تنتهي قصة الراوية، وهو الذي يصف نفسه بالموظّف البسيط الذي أحبّ "حنانًا" وهي ابنة ضابط ركن كبير في الجيش العراقي يتوفر على غلاظة في السلوك وقسوة ملحوظة سواء في التعامل مع أفراد أسرته أو الناس الآخرين الذين يعملون تحت أمرته العسكرية. ورغم توافق المُحبَّين وانسجامهما في جوانب إبداعية وثقافية وفنية عديدة إلاّ أنّ رفضه المشاركة في غزو الكويت تحتّم عليه الهروب من جحيم العراق، كما يصفه، إلى ظلم الحكومة الإيرانية التي لا تجد ضيرًا في احتجازه وتغييبه لسنوات طوالا في سجونها ومعتقلاتها السرّية والعلنية.

يسلّط الروائي محمد عامر الضوء على عقلية السلطة الحاكمة وطريقة تعاطيها مع المعارضين لها والمناوئين لتوجهاتها السياسية والفكرية سواء من الفرس أنفسهم، أو من القوميات الأخرى التي تعيش ضمن حدود الجمهورية الإسلامية في إيران وخاصة العرب والكورد والبلوش والأذريين وغيرهم من القوميات التي تبحث عن مساحة أوسع من الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. فثمة أناس فرس مغضوب عليهم ولا يختلفون كثيرًا عن الشخصيات المعارضة من القوميات غير الفارسية الذين تبتلعهم السجون وتنهال عليهم الهراوات والعصيّ المكهربة صباح مساء. كما يغيب القضاة المدنيون ليحلّ محلهم رجال الدين الذين ينفِّذون الأحكام الصادرة من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني "إطلاعات" ولا يفعلون شيئًا سوى قراءتها على المُتهمين ولكن ذلك لا يمنع بعضهم من أصحاب الضمائر أن ينتصروا للحق في بعض المواقف الإنسانية التي لا يمكن نسيانها أو تفاديها كما حصل مع الراوية الذي زُجّ به في الكرنتينة لمدة عام وثلاثة أهشر حيث انتشله قاضٍ معمّم من شدق الموت وأعاده إلى زنزانة جماعية يقضي فيها ما تبقّى من عقوبته التي شارفت على الانتهاء.

يتعرّف قارئ هذا النص على طرق وأساليب التعذيب في السجون الإيرانية وخاصة المخابراتية منها. ففي الفصل الأول يتم اقتياد الراوية مع شخص آخر يُدعى مهدي العسكري من عبادان إلى سجن دائرة المخابرات في الأحواز وقد تعمّد القائمون على السجن ترك مكيّف الهواء مفتوحًا في شهر ديسمبر البارد. لا تزيد وجبة الطعام عن كسرة خبز يابسة، وبيضة مسلوقة، وكأس بلاستيكي فيه ما يشبه الماء. تداعت إلى ذهن الراوية أساليب التعذيب الرائجة في سورية والعراق وهي الجلد، والحرق، والفلقة، والتعليق، والخلع، والسلخ وكل ما من شأنه أن يحطّ من كرامة الإنسان ويقلل من قدره ككائن بشري. وبعد ستة أيام يُنقل الراوية إلى زنزانة أخرى وسوف يعترف عليه مهدي العسكري ويدلي بمعلومات لا يعرفها سواه وخاصة فيما يتعلق بهوية الاستخبارات الحقيقية، وهوية الجهاز الأمني الخاص المزيفة التي أصدرها له ضابط صديق مقابل أن يعلّمه اللغة الفارسية. وسوف تكون هذه الهوية المزيفة سببًا في الإيغال بتعذيبه.

مساهمة الشعب الأحوازي في إسقاط نظام الشاه

يتضمن الفصل الثاني بعض الحوادث المهمة من بينها القبض على والده الشيخ عامر من قِبل عشرة جنود على خلفية مشاركته في ثورة المحمّرة ودوره الريادي فيها بعد انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979م، ومساهمة الشعب الأحوازي مساهمة فعّالة في إسقاط نظام الشاه في إيران، وسوف يُحكم عليه بخمس سنوات سجن، ويُنفى إلى مدينة "هاني" التي تبعد عن الأحواز 304كم، وتُفرض عليه الإقامة الجبرية مدى الحياة. كما تأتي مجموعة من العساكر للقبض على السيد حسن طاهر الغرابي لكنّ حسّه الأمني كان يقظًا جدًا حيث أطلق ساقيه للريح وفرّ هاربًا قبل مداهمة المنزل لكنهم سوف يقتلون زوجته العلوية حسنة أم ناجي. وبالتزامن مع هذه الأحداث يصل الشيخ صدّام الحامد من العراق، وهو من أهم المطلوبين للسلطات الإيرانية إثر مشاركته في الانتفاضة ودفاعه المسلّح عن مقر المنظمة السياسية. وحينما يشتد القصف على قرية "الغجرية" يقترح عليهم الدخول إلى العراق مع عوائل تسع قرى أحوازية أخرى.

ما يميز الفصل الثالث هو حديث السجناء عبر فتحة التهوية وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة للتغلّب العزلة والضجر. كما نتعرّف في هذا الفصل على قصة الحب التي نشأت بين الراوية وحنان التي يعشقها كما يعشق الأحواز لكن ثمة أوامر مشددة تمنع زواج الأحوازي من عراقية إلاّ بعد موافقات متعسفة لا يمكن الحصول عليها في أغلب الأحيان. ومع ذلك فهو يقول:"كانت حنان تُحبني من دون أسئلة، فيما أحبّها من دون أجوبة". فهي أشبه "بقطعة السُكّر الوحيدة في أيامه المرُّة".

على الرغم من مرارة غالبية أحداث هذه السيرة الذاتية إلاّ أنها لا تخلو من مفارقات عديدة تمنح النص نكهة كوميدية ساخرة. فقد سُجن ذات مرة أستاذ من جامعة "جندي سابور" في الأحواز لأن طالبًا ضعيف البصر يجلس في نهاية الصف سأله عن شكل الجهاز التناسلي للجنين الأنثوي فرد عليه الأستاذ بأنه يُشبه الشعار الموجود على علم الجمهورية الإسلامية الإيرانية فصدر عليه الحكم بالسجن لمدة عام واحد، وفُصل من وظيفته، ونُقل إلى السجن المركزي. تبدأ أولى التحقيقات مع الراوية في هذا الفصل، وقد أشرنا إلى بعضها سلفًا، وقلنا بأنّ مهدي العسكري هو من وشى به، وهو الوحيد الذي يعرف معلومة الهُويتين الأمنيتين اللتين كانتا بحوزته.

ينفِّذ المهرّب رزّاق كريم عملية الدخول إلى الأحواز لكنهم ما إن يقعوا في حقل كبير للألغام حتى يتبنى الراوية مهمة القيادة والعبور الآمن إلى الضفة الأحوازية فهو يفضِّل الموت على ثرى وطنه وبين أهله وذويه.

يشتد التحقيق في الفصل الخامس وتحتدم فيه الاتهامات الموجهة إلى الراوية الذي لا يريد المُشاركة في غزو الكويت؛ البلد الذي ساند العراق في حربه ضد إيران بينما يشارك في الهجوم على الجمهورية الإسلامية كلما تهيأت له الفرصة وتوفرت سانحة الحظ. وحينما يفقد الراوية أعصابه ويتهمهم باحتلال بلده، ونهب ثرواته، ومصادرة حقوق شعبه العربي، يتعرض لنوع غريب من التعذيب حيث يمسك الجلاد قدمه اليسرى ويغرز إبرة طويلة تحت أظفره بينما يطفئ الجلاد الواقف خلفه سيجارته في قفا الضحية. ثم يعاود الكَرّة فيغرز الإبرة تحت ظفر قدمه اليمنى فيُغمى عليه.

العجز عن اجتراح الحلول

يقدّم الراوية مبرراته التي تمنعه من المشاركة في غزو الكويت تحت أي حجة أو ذريعة مُبينًا تناقضات السياسة العراقية، فتصريحات صدّام حسين تنصّ على عدم استخدام أي جيش عربي ضد دولة عربية أخرى فكيف قام باجتياح الكويت التي ناصرته ودعمته في حربه مع إيران؟ كما يعزّز وجهة نظره بأنّ الكويت  هي من بين الدول العربية القليلة التي منحت الأحوازيين حق العمل والإقامة على أراضيها فليس من العدل والإنصاف والمروءة أن يساهم بأي شكل من الأشكال في احتلالها. ثمة موقف لا يخلو من النفس الكوميدي الساخر الذي يحدث في أثناء مطاردة الراوية من قبل ضابط المخابرات حامد المشهداني حيث دلف في بيت أحد الأصدقاء وخبأته زوجة صديقه تحت سرير النوم ولمّا عاد زوجها محمد قال له:"اطمئن لن أدعهم يقبضون عليك، أنا من سيسلّمك لهم". يشهد هذا الفصل اللقاء الأخير بينه الكائن السردي وحبيبته حنان حيث يلتقي بها في فندق "الخيام" في الديوانية بعد أن صار مشرّدًا ومُطارَدًا وغريبًا ويعترف لها بأنه عاجز عن اجتراح الحلول ومع ذلك فإنّ حبها راسخ في القلب وأنها معه في كل رمشة عين، وفي كل نبضة قلب.

يمكن إيجاز الفصل الثامن بسادية الجلاد حينما يتهمون السارد بالتجسس والتعاون مع "المنافقين" ويأخذونه إلى البرية مع مجموعة من المتهمين الذين يتعرضون لإطلاق النار غير أنّ الأوامر تأتي فجأة وتأمرهم بالتوقف عن الإعدام لكن أحد الحرّاس الذي بدا متعاطفًا معه يقدّم له كأسًا من الماء البارد فيشربه دفعة واحدة ثم يغيب عن الوعي، وحينما يفيق يجد سبّابته ملطخة باللون الأزرق الذي يوحي بأنه قد بصم على شيء لا يعرف كنهه.

تنضاف في محكمة الثورة في الأحواز التُهم الغريبة للراوية وهي محاربة الله ورسولة، والإفساد في الأرض، والتعاون مع النظام البعثي المعادي للجمهورية الإسلامية، ورغم الحيرة الكبيرة التي وقع فيها إلاّ أنه وقّع على هذه التُهم خشية من العودة إلى الجلاد الأحمق. وبعد صدور الحكم على الراوية بـ 13 سنة وبضعة أشهر سمحوا له بزيارة الأقرباء من الدرجة الأولى، فزاره الأب أول مرة واطمئن عليه لمدة 45 دقيقة ثم ستزوره الأم التي لم يرَها منذ 17 سنة في الأسبوع الذي يليه. وقد نجح محمد عامر في تصوير المشاعر المرهفة لهذه الأم التي حُرمت من فلذة كبدها قرابة عقدين من الزمان. وسوف يروي الكائن السيري القصة المؤلمة لتعنيف الأب لزوجته التي رفضت بشكل قاطع أن يقترن بامرأة ثانية ووافقت على الطلاق بالتراضي شرط أن تتخلّص من نظرات الزوج المتخمة بالكراهية. تقول والدة الراوي في هذا الصدد:"لم يُوجعني ضربه المبرّح بقدر ما أوجعتني نظرات الكراهية التي لمحتها في عينيه". ثم تتساءل مستغربة:"كيف تحوّل هذا المخلوق اللطيف الذي كان يتنفس الحُب والغرام إلى وحشٍ يتلذّذ بالعذاب؟".

استنشاق عبير الحرية

بعد صدور الحكم النهائي على الراوية وتحسن علاقته بصالحي، الضابط الرفيع في الحرس الثوري، يُنقل إلى العنبر السابع الذي يتسيّد فيه ضابط أحوازي يُدعى قاسم جاسم مدلول الذي تربطه علاقة جيدة بعيسى عبيات، أحد ضباط السجن المتنفذين الذي يغلق باب العنبر في الساعة العاشرة الأمر الذي سيدفع بالراوية إلى تحريض السجناء عليه لكنه في النهاية يعصب عينيّ السارد وينهال عليه بالضرب المبرح بما في ذلك المنطقة الحساسة فيصيب فحولته ثم يقرر إيداعه في زنزانة انفرادية معزولة لمدة 15 شهرًا يرى فيها ما يشيب له الوِلدان لكن أحد القضاة ينتصف له ويعيده إلى الزنزانة الجماعية ويظل منتظرًا قرار العفو العام الذي يشمله ضمن 135 سجينًا. وبما أنه لم يكن مطلوبًا لقضية أخرى يختم الضابط على يده ختم الإفراج ويأمره بالتوجه إلى باب الخروج لينهي محمد عامر سيرته الذاتية بجملة ختامية شديدة الدلالة حيث يقول:"استنشقتُ عبير الحرية، فهل ستتنفس الأحواز عبير حريتها؟".

كثيرة هي الملحوظات والظواهر التي يدوّنها كاتب النص السيري محمد عامر من بينها ظاهرة التبعيّة الإيرانية الذين ارتكبوا جرائم النصب والتزوير والاحتيال وأودِعوا على إثرها في السجون والمعتقلات، وهؤلاء الناس تمّ ترحيلهم من العراق في أواخر سبعينات القرن الماضي عبر الحدود البريّة إلى إيران فتحاملوا على كل ما هو عراقي وعربي حيث يقول المؤلف عن تجربة ملموسة: "أنّ هؤلاء يحقدون على العرب حقدًا عجيبًا لا حدود له، مُدّعين بأنهم ليسوا عربًا وإنما من القومية الفارسية، في حين كان الفرس ينظرون إليهم باحتقار ويزدرونهم واصفين إيّاهم بالعرب الحُفاة". وهذه الملحوظة الدقيقة تستحق الانتباه والدراسة المختبرية المتفحصة مع العلم أن قضية الترحيل القسري قد قام بها النظام البائد وحزبه الحاكم ولم يكن للشعب العراقي بكل مكوناته أي دخل فيها على الإطلاق.

مَنْ يقرأ هذه السيرة بعمق ويتأملها جيدًا سيكتشف من دون عناء ظاهرة العمالة أو التواطؤ مع المحتل، فبعض الضباط الأحوازيين في السجون والمعتقلات الإيرانية لا يجدون ضيرًا في خيانة وطنهم وقيمهم الأخلاقية والاجتماعية ويتحولوا بين ليلة وضحاها إلى مرتزقة ومأجورين يشكلون خطرًا كبيرًا على أبناء جلدتهم ولعل الضابط عيسى عبيات هو أنموذج لهذا النمط الخائن من البشر. وقد سبق لنا أن كتبنا عن هذه الظاهرة اللافتة للانتباه في رواية "الاغتيال" لمحمد عامر نفسه ودعونا فيها إلى تنظيف البيت الأحوازي أو العربستاني من هؤلاء الخونة والمتواطئين الذين يشكِّلون خطرًا، في بعض الحالات، أكثر من جنود الاحتلال أنفسهم.

وفي الختام لابد من القول بأنّ هذه الدراسة النقدية تتصدى للجوانب الفنية والتقنية التي نجح فيها كاتب النص السيري ومُبدعه ولكنها لا تهمل، في الوقت ذاته، الجوانب السياسية والفكرية والنفسية التي عالجها الروائي محمد عامر وبرع في تقديمها بغض النظر عن درجة اتفاقنا معه أو اختلافنا مع آرائه ووجهات نظره الخاصة التي تبلورت في هذه السيرة الذاتية التي تبقى مُشعّة في ذاكرة القرّاء لأمدٍ طويل.

***

عدنان حسين أحمد

 

 

في المجموعة القصصية (باستيل) للقاصّة رانيا ثروت.. دراسة ذرائعية

إغناء: في كتابه" العجائبية الواقعية" وضع فرانز هلنس وجهتَين للأدب العجائبي، الأولى خارجية، والثانية داخلية، والفرق بينهما أن الكاتب في الأولى- الخارجية- يستمد شخصياته من " الكائنات الوسيطة " كالأشباح، والبيوت المسكونة، والأرواح، والتنبؤات....الخ، بينما في الفانتازيا الداخلية، والتي هي نتاج روح شعرية، تكون الشخصيات هي الكاتب نفسه، فشخصيته تتعدّد وتتضاعف، تتحوّل، تمتزج مع المادة أوالعنصر...

إذن، الفانتازيا الداخلية، أو الأدب العجائبي الواقعي، وهو أدب شاعري في الأساس، وهو مصدر الإلهام في الخيال العاطفي الانفعالي، الشخصيات المبتكرة من قِبل الكاتب في هذه الفئة هي ابتكارات وجدانية خالصة، وهذه الشخصيات هي الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة، فهو لم ينقل الواقع مع عناصره المرئية والطبيعية إلى مستوى فوق الطبيعي، لكنه يجعل هذا الواقع يتحوّل ويندمج مع الفوق طبيعي ...[1]

المستوى الفكري (الثيمة):

الأديبة رانيا ثروت، هي قاصّة تكتب رسائل للمجتمع بطريقة عجائبية، فتخلط الخيال والميثولوجية في الواقع بطريقة راقية، مستغلة أدق الظواهر، في الحقائق العلمية، والغيبيّات الثيولوجية (الدينية)، فتنحصر كتاباتها بين علمَي:

الكوزمولوجي Cosmology:علم الجمال الكوني، أو الكونيات، الذي يهتم بدراسة الكون، الأصل والتطوّر والمصير الحتمي لكل شيْ.

والثيولوجي Theology: علم اللاهوت الذي يهتم بدراسة الدين وتأثيره على المجتمع، حيث يدرس التجربة الإنسانية للإيمان.

ف رانيا ثروت، في هذه العمل، المجموعة القصصية (باستيل)، تتناص دائمًا مع الكتب السماوية، وهي ثيمتها الرئيسية في معظم نصوص المجموعة التي ضمّنتها رسائلها الموجّهة للمجتمع باستراتيجية غرائبية.

أمّا عن التكنيك النصّي فهي قاصّة تحمّل كلماتها ومفرداتها، زيادة عن الحمولة السيمانتيكية المرئية، حمولات إيحائية متعدّدة بترتيب درجات جوانب العمق النصّي من رمزي وسيكولوجي وفلسفي وأخلاقي واجتماعي، فهي تكتب نصوصها برموز مغلقة ومفتوحة وعامة بدرجة تؤهّلها لأن نعتبرها قاصّة رمزية بدرجة راقية.

المستوى البصري واللساني الجمالي:

الجانب البصري:

العنوان: باستيل

وهو أول دلالة إيحائية صدّرتها القاصّة إلى المتلقي، وقد استلّته القاصّة من عنوان إحدى القصص في المجموعة، لأنها وجدته مكوّنًّا نصّيًّا مكثّفًّا وإيحائيًّا عن الثيمة الرئيسية لعموم النصوص في المجموعة. باستيل بالمعنى السيمانتيكي القاموسي: جاءت من كلمة باستيل أو باستل من الإيطالية pastello والتي تعني لفافة خبز صغيرة، وهي إحدى أدوات الرسم على هيئة أصابع تلوين لها عدة أنواع منها الزيتي وأقلام الباستيل والباستيل الناعم والخشن والقابل للذوبان في الماء، وهي تصنع من الطباشير البيضاء اللون وألوان مسحوقة.

 بينما إيحائيًّا: أصبح رمزًا تقنيًّا للطغيان والظلم وانطلاق شرارة الثورة، عندما أضيف إلى مفردة سجن، فأصبح سجن الباستيل: الذي أنشئ في فرنسا بين عامي 1370- 1383 كسجن للمعارضين السياسيين والمسجونين الدينيين والمحرضين ضد الدولة.

تكشف القاصّة إيحائية هذا الرمز بتقنية التوازي الدلالي، وبإيحائية متدرّجة، حين تطرح في معرض كشفها عنه دلالات إيحائية أخرى تتوالد وتتناسل بشكل تبرعم فرعي، كل ماتحته خط هو دلالة إيحائية فرعية تسند إيحائية الرمز التقني باستيل) المكثفة والمختزلة في المعاني الرئيسية الظلم والطغيان والأسر والثورة:

فكّرت أن أهرب وأبصق أفكاري في وجه العالم، لعلّه يستفيق، أتذكّر أنني فعلت ذلك مرة، هربت من مكان اسمه كاسم حشرة سامة يذكّرني بكلمة " باستيل" وبعدها رأيت ما يعجز عن وصفه فكري ولساني، كنت إنسانًا ثم حيوانًا، ثم تحوّلت لحشرة تركلها الأقدام، وتقوقعت في شرنقة نسجتها من جلدي وعظامي، متّ ثم بعثت فراشة تكشّفت أمامها الحجب، وعندما أخبرتهم بالحقائق أحضروني إلى هنا ......

الغلاف:

نجد الغلاف عبارة عن لوحة من الفن التجريدي، تمّ تكوينها من (موتيفات) عديدة، وخلافًا للمألوف، يحتل اسم القاصّة (رانيا ثروت) ببنط متوسط وباللون الأبيض على شريط بني أعلى اللوحة، بينما أسفل اللوحة من نصيب عنوان المجموعة (باستيل) بالبنط العريض واللون الأبيض، ودون أي تجنيس للكتاب...! من يقرأ نصوص المجموعة، سيجد أن الكاتبة ألقت على لوحة الغلاف دلالات بصرية للعديد من النصوص، كآلة العود التي تكرّرت في عدّة موتيفات في اللوحة من نص (مكاوي السلكاوي) بطل القصة الذي كان عوّدًا، قضبان النافدة التي تسجن خلفها فتاة بثوب مقلّم كزي السجناء، تعكس دلالات مشهدية وسيكولوجية لمعظم الشخصيات الأنثوية المسجونة داخل شقائها الاجتماعي والحياتي وخذلانها العاطفي، على سبيل المثال لا الحصر نص (الحب ... حرام).

اختيار موفق للون البني ومشتقاته، على اعتباره لون التراب، واحد من مكوّنَين رئيسيين لأصل الخلق الإنساني والكوني، مع إغفال متعمّد للمكوّن الثاني (الماء)، وهذا رمز غائب عن الطرف الحيوي في عملية الخلق لإنتاج الحياة، تسنده القاصة ضمنيًّا على استراتيجيتها المتناصة ثيولوجيًا مع الآية الكريمة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فغياب اللون المائي في صورة الغلاف هو رمز لجفاف الحياة في الكون والإنسان على حدّ سواء، وحتى إن افترضنا أن ثوب الفتاة المقلم بالأبيض والأزرق قد يكون حضورًا شحيحًا للماء لكنه مسجون ومنزوعة منه خاصيته الفيزيائية الطبيعية في الجريان والتدفّق...!

الغلاف الخلفي، لوحة باهتة اخضرّت فيها الألوان قليلًا، وتكشّفت عن مجموعة من الرجال يمشون في رتل، واضح أنهم في باحة سجن، ويد تلوّح أمام نوافذ، ووجه فتاة لم يكتمل بالعينين، فقط أصبع السبابة ينتصب أمام الفم بإشارة تطلب أو تأمر بالصمت، وإلى يسارها صورة شخصية ل(رانيا ثروت) الجميلة تبتسم، وقد اختارت مقطوعة سردية من أحد نصوص المجموعة تختزل فيها فلسفة الوجودية، وثيمة الثيولوجية، تقول:

بعض الأشياء مبعثرة، أوراق وأقلام وسماعة أذن انقطع عنها الصوت فتوسدت الطاولة صامتة كالموت، وأسئلة تعبث بعقلي الأجوف، البعض يأكل الشوكولاتة والبعض تأكله الشوكولاتة فأيهما أنت؟ لم تعد هناك حقيقة مؤكدة، فهل المؤكد ما نراه أم ما يحدث فعلًا؟

الإهداء:

 نوعان من الإهداء:

خاص: لأشخاص بعينهم، الأم والأب والزوج والأولاد والعم، والصديق الأديب أحمد قاصد، والفنانة والأديبة سهير شكري، والأديب منير عتيبة والأستاذ محمد عبد الوارث.

عام: لأشخاص هم بالمجمل شخصيات قصصها المأزومة بثيمة الفقد والحرمان العاطفي والظلم الاجتماعي والخذلان النفسي، وعندما تهديهم بعضًا منها فهي تؤكّد أنها كل هذه الشخصيات باستراتيجيتها الغرائبية:

إلى الأرواح المعذّبة والمقيدة، والذين تهدّمت جدُرهم

إلى كل من فقد حلمه

إلى من قهرهم الخذلان والفقد

إلى من بكوا سرًّا وضحكوا جهرًا

إلى من تمنّوا غدًا أفضل ... ورحلوا دون رؤيته

إليكم أهدي بعضًا مني

35 نصًّا، من جنس القصّ القصير، قسّمتها القاصة إلى قسمين، الأول انضوى تحت خيمة (عنه) إشارة إلى سارد رجل، هو الشخصية البطلة في القصة، تضمن هذا القسم القصص التالية:

صلاة الإخلاص- كفر الكنبة- باستيل- دون أن يدري- عبور- منتظرون – وطن آخر- شكوك مؤكدة – نجم الشمال- عيون ملؤها الرماد.

القسم الثاني يتبع (عنهم) غلب فيها السرد عن شخصيات رئيسية مهمشة من الجنسين، والغلبة للجنس الأنثوي، عناوينها إما أسماء علم أنثوية، أو أسماء أوجمل اسمية نكرة، يضمّ هذا القسم القصص التالية:

فطيمة- مشجب- كسور- توحيدة- فصام- مكرّر- مكاوي السلكاوي- حبر- ورد وأشواك- سقف- شهامة- انعكاس- لحظات حرجة- الوشم- ندوب- مفترق- اغتراب- الحب ...حرام- جبن تركي- ليالي مقمرة- مد...مدد- السيد (س)- مساحة بيضاء- وجد- حلم أبتر.

امتدت القصص على بياض 112 صفحة من الحجم المألوف حاليًّا للمجموعة القصصية، بتنسيق مطبعي جيد، لكنه لم يخلُ من الأخطاء المطبعية والإملائية.

الجانب اللساني:

سأكتفي في الجانب اللغوي اللساني بدراسة حمولة الكلمة (سلّم الكلمة)، أي النقلة التعبيرية من المفردة باتجاه الدلالة، وهذه حالة تشكّل تمييزًا للنص الأدبي من النص التقريري.

فمثلًا، في قصتها (كفر الكنبة)، استخدمت مفردة) الكنبة (كرمز مغلق بالبداية، وهو دلالة لأشياء إيحائية سنقف عليها بالتدريج، وقدّمت عليها كل الشروحات القاموسية، ابتداءً من تأصيل وجود تلك الكنبة، بطرح دلالة العمق التراثي لها بطريقة غرائبية، والتي ستكشف فيها عن دلالة الإيحائية باتجاه موروث العادات والتقاليد القديمة، تقول:

قريتنا قرية غريبة.. أهلها يحتفظون في كل بيت من بيوتها بكنبة قديمة، يتوارثونها جيلًا بعد جيل، يحرصون عليها أشد الحرص، حتى أن اسم قريتنا اشتقّ منها....ص 13

تتابع طرح دلالات إيحائية لبناء غرائبية في الإيحاء عن التصرّف الثيولوجي لأبناء القرية حيالها، وهي دلالات ملحقة بالدلالة الأساسية (الكنبة)، فيكون التلفاز دلالة سيميائية بظاهر المعنى الإيحائي المخفي، وهو الدور الإعلامي المقابل للكنبة، الذي يتّسم بخصائص تستعرضها بدقّة، تقول:

يقبع أمام الكنبة تلفاز، يظلّون جالسين عليها يشاهدونه طوال الليل وبعض النهار تبعًا للمواعيد المقدّسة، يتابعون القناة الوحيدة صاحبة البرنامج الواحد....

وقد أرادت القاصة بتلك الثنائية الغرائبية(الكنبة والتلفاز) أن تثبت أهل البلد يؤمنون ثيولوجيًّا(طوال الليل وبعض النهار- المواعيد المقدّسة) بأن تلك الثنائية(الكنبة والتلفاز) قد تحوّلت إلى تعويذة تحميهم من الشر، وهذا إيمان ميثولوجي تطرحه الكاتبة عن طيبة وبساطة أهل القرية، وهل يعد ذلك تخلّفًا برأي الكاتبة ؟

لم تعتبر الكاتبة هذه الحالة تخلفًا بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الناس القرويين البسطاء يؤمنون بالتعويذات التي تنهي الصراع بين الخير والشر لصالح الخير، تقول:

يؤكّد أهالي الكفر أن الكنبة تحميهم، وتوفّر لهم الراحة والأمان، كما أنها تجمع العائلة بصورة مثالية... ص13

ثمَّ تنتقل فجأة إلى معنى إيحائي سياسي، ارتبط بلفظ (الكنبة) ارتباطًا مباشرًا في مرحلة قيام ثورة يناير، حيث تمّ تصنيف أفراد المجتمع بحسب آرائهم السياسية وموقفهم من الثورة إلى عدة مجموعات، وبعضها ارتقى أيضًا بشكل رمزي إلى لفظ أحزاب، منها حزب الكنبة، وإلى هذا المعنى تتحوّل القاصّة، لتبيّن هذا المعنى الإيحائي السياسي، بأسلوب لا يخلو من التهكم والسخرية، تقول:

.... أنها تجمع العائلة بصورة مثالية، لم يفكّر أحد في الخروج على القانون، ربّما خوفًا، وربّما عن إيمان حقيقي بأهميّتها المقدّسة.. يجلسون فاغري أفواههم، عيونهم جاحظة مفتوحة على آخرها، لا ترمش ولا ترف بشكل غريب!. ص14

وهنا نقلة تعبيرية إلى ثيمة القاصّة رانيا ثروت في الكتابة في هذا النص، بعد أن استخدمت الغرائبية والثيولوجية والميثولوجية بارتباط أهل القرية بالكنبة والتلفاز، نقلتنا إلى ظهور جيل الصغار الذين أرادوا فك الارتباط بين الدلالَتين بتحطيمها، فأرادت أن تقول: بأن الحياة عبارة عن أجيال متعاقبة، جيل يعقب جيلًا، فيظهر درجة التفاوت بين الجيل الجديد وبين الجيل القديم السابق، وكاتبتنا المثقفة تحاول أن توظّف هذه الثيمة لإظهار الرفض العلني للجيل الجديد لتفاهات وخرافات الجيل السابق، وهنا نحتاج إلى ذرائع ومبررّات تمتثلها الكاتب لإثبات الفرق بين الجيلين وأيّهما الأصح، من هذه المبررات:

1- الكنبة والتلفاز جعلت أفراد الجيل السابق يسمنون جسديًا،

2- كما أنهما أوقفا التفكير في عقولهم،

3- وجعلاهم مسلوبي العقل ك (الربوتات) إحساسًا وسلوكًا.

أمّا عن النتائج: فقد حاولت الكاتبة معالجة هذا الأمر بطريقة ذكية لتخليص أبناء القرية من هذا المرض الغريب، وأتت بالنتائج التالية:

1- جعلت أفراد الجيل الجديد يفكرون بتخريب جهاز التلفاز مجتمعين:

اتفقت وبعض أصدقائي على أن نخربّ الجهاز، الذي يستعبدنا، ويستعبد أهلنا ولو بالقوة، نوقظهم من هذا الروتين القاتل والنظام القاسي...ص 14

2- إن تخريب الجهاز سينتج عنه معالجة للجيل القديم من داء السمنة الذي أصاب عقولهم وأجسادهم، ليستعيدوا البصيرة وقدرة على المحاكمة العقلية، ورؤية الحقائق كما يراها الجيل الجديد، في محاولة لهدم الفجوة بين جيلين فقد القديم منهم اتجاه البوصلة، بذلك تكون قد خلّصتهم من هذا الموقف الغريب:

... ونعالجهم من الشحوم التي تراكمت على عقولهم وأجسادهم، لعلّهم يرون الحقيقة الغائبة عنهم، مثلما نراها نحن....ص 14

3- وعندما حاول الجيل الجديد التخلّص من التلفاز ظهرت مخلوقات غرائبية، وقامت بسجنهم داخل الكنبة (هنا تحوّلت الدلالة الرئيسية إيحائيًّا إلى معتقل)، وبقي أهاليهم يجلسون على الكنبة دون أن يدروا أن أبناءهم مسجونون داخلها، يتألّمون من ثقلهم وخنوعهم على سقف معتقلهم:

تشكّل (السلويت)[2] رجالًا غلاظ الملامح، يمسكون هراوات شائكة، قادونا إلى غرفة غريبة مملوءة بأنابيت أسطوانية تشبه " السوست"، سجنوا كل واحد منا في " سوستة"[3]، مازال أهلنا جالسين فوقنا، مع كل حركة منهم نتألّم.. نصرخ.. وما من مجيب، منّا من أعلن توبته، وتوسّل للرجوع إلى حياته؛ مؤكّدًا أن الكنبة هي الأمان، وأنّه استُدرج... ص15

4- النجاة جاءت بحدث حتمي، طرحته القاصّة إيحائيًّا (ثورة) بدلالة إيحائية جديدة(طوفان):

حتى جاء يوم سمعنا فيه الحرّاس يهرولون ويصرخون يتحدّثون عن طوفان اجتاح البيوت، وسوف يغرق الكفر، بعض الحرّس أشفقوا علينا، فأخرجوا بعضنا، ليريحوا ما تبقّى من ضمائرهم، فأخذنا نخرج من السوَست، والماء يغرق أرضية الكنبة، وأهلنا لا يشعرون...ص16

5- هنا تريد الكاتبة أن تختم كل ما قيل مسبقًا عن الكنبة رمزًا عامًا مفتوحًا يشير بأصبعه الغليظ إلى الصراع بين التخلّف والوعي، بين الحاكم والمحكوم، فإمّا أن يتفوّق الحاكم والتخلّف بالضغط على الوعي والمحكوم حينما يكون الاثنين في حالة سلبية، أو العكس حينما تكون الحالة إيجابية، بمعنى، أن القاصّة استخدمت رمزًا مفتوحًا لدلالة مشهورة هي الحاكم والمحكوم، الوعي والتخلف، ... وهو صراع دائم، ويعاني فيه الصح والحق كثيرًا حتى ينتصر...

فاض الطوفان، هدم البيوت، طاف الكنب متجهًا إلى المصرف، حتى سدّهوتراكمت جبال المياه فوقه، حتى أهلكته إلى غير رجعة، وبعد سبعة أيام، ابتلعت الأرضُ الماءَ وجفّت بعض المناطق، فنزلنا من أعالي الشجر، متخذين قرارًا في البدء ببناء كفرنا الجديد. واتفقنا على أن نسمّيه " كفر أبو سوستة"

طبعًا القاصّة بهذه النهاية تقودنا إلى المستوى العقلاني مدخل التناص الثيولوجي مع النص القرآني في قصة الطوفان وسيدنا نوح عليه السلام.

 المستوى المتحرك:

سأجمل في هذا المستوى التجربة الإبداعية للقاصّة، بالنقاط التالية:

1- تجربتها السردية راقية جدًّا لأنها تكتب تحت خيمة الإيحاء والغرائبية

2- استخدمت الرمزية المفتوحة والرمزية العامة

3- استخدمت حمولة الكلمة بشكل فلسفي جميل، فمكّنتها فلسفتها من النفاذ من الأزمة إلى الحل بطريق عبّدته بالغرائبية.

4- الاستراتيجية المستخدمة في كتابة معظم القصص تكوّنت من العجائبية والخيال والإيحاء، وهذا الخليط خليط غير متجانس، لكن الكاتبة استطاعت الجمع بينهم بمهارة وذكاء سردي.

في قصّة (مفترق) أقامت البناء السردي على تخييل مخاتل، البطلة تخاطب حبيبها، تعلن له بكل حزم إصرارها على أن يبقى حبيبها رغمًا عن كل الحيل المخادعة التي يشقيها بها، فهي تحبّه بالصورة التي تراه هي بها:

أنا لا أراك، وإنما أرى الصورة التي ولدت في خيالي منذ زمن بعيد، الصورة التي طالما كنت وفيّة لها، والتي كانت دائمًا وفية لي.... ص87

ثم تفاجئنا القاصّة أن البطلة تتحدّث إلى ميت في قبر! تطلب منه بكل جدّية وغضب ووعيد قائلة:

" أتمنى أن أجدك في انتظاري المرة القادمة، فلن أغفر لك كل هذا الإهمال، ولن أسمح بأي أعذار للغياب". ص 87

5- للميثولوجيا مساحة واسعة في هذا العمل، نجحت الكاتبة في تضفيرها مع الواقع، فكان النسيج السردي بروكارًا متجانسًا جميلًا من متنافِرَين، على سبيل المثال في قصة (سقف)، حاكت لنا لوحة فيها نار من الواقع ونار من الأسطورة:

نار المدفأة تتوهّج، تسترجع أسطورة " بروميثيوس" .. من وُهِب قبسًا من نار ليضيء العالم، أحبّ البشر ففقد حريته، وعاش مقيّدًا على صخرة.... ص70

 بطلتها مسكونة بالشخصيات الأسطورية، لذلك تقابل القاصّة صندوق البطلة المركون قبالة المدفأة، والحاوي على ذكريات الماضي، بصندوق باندورا الذي تضمّن كل شرور البشرية، وكلا الصندوقين استفزّا نارالنفس المتأجّجة بغريزة الفضول لفتح مغاليقهما، ليغدو الشرّ طليقًا:

ظلال النار تداعب صندوقًا في ركن قبالة المدفأة، كان هدية من زمن ولّى، فكّرت في لمسه وفتح مغاليقه، لكنها تذكّرت باندورا التي قتلها الفضول، فأطلقت عذابات العالم، وتراجعت. ص 70

وفي قصة (عيون ملؤها الرماد) توظيف لافت لأسطورة (خطف حادس ل بيرسيفوني) في المتن القصصي، وتحويل المتن الحكائي للأسطورة الأصلية إلى بنية حكّائية متفلّتة من القرائن الزمنية والمنطقية للأحداث، وتوظيفها في بناء المتن القصصي المعاصر بأسلوب إيحائي، يسقط فيه القاص الزمن الماضي على الواقع الحاضر في محاولة لاستنباط حلول أو كشف لمشاكل الحاضر على ضوء النهايات المعلومة لمتن الأسطورة.

6- في بعض القصص تنطلق القاصّة من اللاوعي، لكنها تسرد بمنتهى الوعي، في قصة (عبور) تنطلق بالسرد من بعد غيبي ميتافيزيقي، وهي حالة الاحتضار أو معبر الموت، تقول:

... عندما همّ بالاتجاه ناحية الظل القابع في ركن الغرفة وجده .. باب

الباب فُتح... ولج في فرجته، وكأنه انتقل إلأى عالم آخر ... إلى بعدآخر.... ص21

نفس الاستراتيجية نجدها في نص (دون أن يدري)، حيث كان مسرح الحدث قبر وعالم برزخي وبطل ميت دُفِن حديثًا:

في غرفة مظلمة أقف وحيدًا أبحث عن اتجاه صائب للخروج.....أصرخ ويزيد طرقي، والأمل يتضاءل في نفسي، يتشقق الحائط .. لكن يظل صامدًا بظلمته الكالحة، يزيد طرقي وتنطفئ عزيمتي رويدًا رويدًا حتى أسقط خائر الأمل ممزق الأحلام، أغيب عن الوعي، فقد سقط على رأسي حجر. ص 19

7- تستخدم تقنية تيار الوعي السردية بشكل لافت، ففي قصّة (المشجب) عتبة واقعية هي صورة الأب تثير تيار الوعي عند الساردة فتنطلق بالكشف عبر طرح تدريجي لدلالات إيحائية، وهذه، كما أسلفنا، استراتيجية عند رانيا، لنكتشف، بعد ضمّ الدلالات إلى بعضها البعض، أن الساردة تعرّضت لحادثة اغتصاب من قبل والدها(زنا محارم)، فقامت بقتله، وتشرنقت بحقد ثأر لم يكتمل، ولم تستطع التحرّر من تلك الشرنقة إلّا بتمزيق صورة الأب، انعكاسه الذي بقي حيًّا في مرمى نظرها على الجدار:

" انتهى الأمر، ستظل هناك مهما فعلت، ولن تتمكّن مني أبدًا، مثلما فعلت ذات مرة في الماضي، كنت صغيرة ضعيفة مطمئنة إليك، لم أعلم أن الذئب يتخفّى في ثوب الحمل... الأب ...أخذت ثأري منك مرّة، والآن أتخلّص من بقاياك نهائيًّا". ص48

وأرى أن القصة كان ينبغي أن تقف أو أن تنتهي هنا، وأن الفقرة التالية هي فقرة زائدة أو حدث نهاية مفتعل وزائد يمكن الاستغناء عنه، لأن القاصّة خرجت به عن زمكانية القص المعاصر.

8- النهايات في قصص رانيا ثروت نهايات مدهشة، مباغتة ومفارقة: ففي قصة السيد (س) خط سير السرد هوخط وصفي بصري من البداية، ولكن النهاية تنسف ذلك الوصف البصري حين نُفاجأ من دلالات رمزية وإيحائية بأن البطلة عمياء:

خرجت من ساحة السيرك، وهي سعيدة محلّقة..... تعدّل نظارتها السوداء التي ترتديها في عتمة الليل، وترفع عصاها لتشير لعل سيارة أجرة تلتفت إليها تقلّها إلى منزلها.

9- الأسلوب: أدبي إنشائي، مطعّم بالصور الجمالية، فيه حس الفكاهة من النوع التهكّمي، بعض القصص كانت تحمل وعظ وعبر، فكان السرد التقريري ضرورة بين فراغات السرد الأدبي (الوشم- ندوب- شهامة- توحيدة- الحب .. حرام- جبن تركي).

10-  الجمال: استخدمت الجمال النصّي بنوعيه، البلاغي وعلم الجمال، أختار بعض الصور الجمالية التي وجدتها متوفرة بكثرة في قصّة (اغتراب):

- أرتشفُ بعض الحنين الملغّز من الكابتشينو الدافئ (استعارة)

- أذوب في خفقات الكريمة وفي قطرات الكحل السائل على وجنات الغجرية المليحة

- ماضيك مرّ كقهوتك (تشبيه)

- أمامك طريق طويل يمتصّه الضباب في أحشائه مخلّفًا وهمه الأبيض، تبدّده أشعة شمس هاربة ضلّت طريقها، أشعة ذابلة تصارع من أجل الحياة (علم جمال)

- فنجانك ملئ بالرموز والصور وأكثر ما يدهشني فيه كتلة السكرالتي تجمّعت حول صورة وجه وعلم وبعض قطرات تشبه قطرات الدماء التي تقطر من قلب ممزق يقبع في قاع الفنجان (علم جمال - تشبيه)

- أحيانًا يتركنا الكلام، ويرحل عندما ييأس من جدواه (استعارة)

- يغترب في غيرنا تاركًا لنا عجز الأسرار وحيرة القرار (استعارة)

- أوراق تاريخنا المصفرة تتساقط كأوراق الشجر في خريف العمر (تشبيه) 

انتهينا من الدرجة الأولى (الجانب الرمزي) من درجات حمولة الكلمة على سلّم العمق النصّي عند رانيا ثروت في نصوص هذه المجموعة، وسننتقل إلى الدرجة الثانية وهي:

المستوى أو الجانب السيكولوجي:

ونميّز فيه المداخل التالية:

1- المدخل العقلاني:

ندرس فيه أشكال التناص وأنواعه، تبعًل لثلاثية التناص الذرائعية التي تبحث عن:

- تناص الكاتب مع تجربته الحياتية الذاتية: فشخصيات الفانتازيا الداخلية هي شخصية الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة، وهي نابعة من وجدانه. ورانيا تنطلق من ذاتها بكل ما تكتب، من وجدانها حينما تطرح قضايا الإنسان في صراعه في مسرح الحياة بين خيرها وشرّها، بين الشقاء والسعادة، بين الأمل واليأس، بين النجاح والفشل، تنطلق من ذاتها المتألّمة وهي تشق طريقها باتجاه التشافي، من عاطفتها الجياشة قبالة انكسار قلب طفل أو فتاة أو شيخ، من غضبها حيال مظاهر التخلف والظلم بأنواعه، من ثقافتها المختزنة في هوة الإدراك، فتجيد قراءة كل الدلالات الواردة إليها، تتفاعل مع أدق الظواهر وتصيغ منها قصصًا مفعمة بالجمال الرمزي، تحترم عقل القارئ فلا تبخسه حقّه من الفهم، وتنأى عن العبث فلا تلغز ولا تبهم ...

- التناص مع التجارب النصّية السابقة: رانيا ثروت متناصة مع الأديب الدكتور شريف عابدين تناصًا ميثولوجيًّا، في إحلال الأسطورة على أرض الواقع، وتحويل المتن الحكائي للأسطورة إلى بنى حكائية تقيم عليها معمارها القصصي الفني، شغوفة مثله بحل مشاكل الحاضر بالاعتماد على نتائج وحلول الماضي.

وهي متناصة ثيولوجيًّا مع نصوص الكتب السماوية.

في قصة كفر الكنبة تناصت مع (قصة الطوفان) في القرآن الكريم، في قصة باستيل تناصت مع قصة السحرة من قوم موسى، في نص (دون أن يدري) تحاكي حال الميت ما بعد الدفن، وفي نص (عبور) تحاكي حالة الاحتضار، وتتناص مع قصة أم موسى وفرعون واليم:

الموت يدق...لا تفكر مرتين... اقفز في اليمولا تنتظر.. ذراع فرعون سكين.. ودموع فرعون سموم... والأم المغلوبة تلعن في صمت.... ص 22

 في قصة شكوك مؤكدة: نتخذ من الجبال بيوتًا ص 31 تناص بلاغي مع النص القرآني في سورة النحل، وتناص قصصي مع قصة أهل الكهف

2- المدخل التقمصي:

بعض الحكم والمواعظ والعبر التي تطرحها القاصة رانيا ثروت في نصوصه:

- ويل لأصحاب العقول الرحبة من أصحاب العقول الضيقة

- في بقعة الضوء تنكشف ألاعيب الحواة كلها

- عند النهاية تتساوى كل الأشياء

- الكبار يعرفون ما يفعلون .. هم على حق دائمًا.

- المحراب الذي ينام فيه النسّاك يصبح مدنّسًا، لايصلح مكانًا للصلاة.

أمّا الدرجة الثالثة في سلّم العمق النصي فهي الجانب الفلسفي، ونجدها في التساؤلات والجدليات الفلسفية المثارة في:

3- المدخل السلوكي:

لرانيا ثروت فلسفتها في الحياة وأصل الوجود وأصل الأشياء فهي دائمة التساؤل عن ذلك، وأيضًا هي دائمة البحث عن إجابات ترتاح إليها نفسها، لكن طبيعتها القلقة والحريصة على تحرّي الحقيقة تجعلها لا تقرّ على قرار، بل تبقى لاهثة وراء صرخات الأسئلة عن جدوى الحياة في عالم مسكون بالظلم والطغيان والمعايير المقلوبة، حين يسكن إنسان بطيبة الملائكة على أرض يحكمها الأباليس، من الطيبعي أن يصبح مسكونًا بالخوف من كل شيء، ومن المعقول أن ينبت له جناح يطير فيه إلى عالم الملائكة، من قصة (كسور):

أجنحة نبتت لي أجنحة ... لم أعد أسمع زملائيولا رئيسي ولا أي صوت، وجدتني أبتسم وأضحك، أنا سعيد لأول مرة، إنها السعادة بالتأكيد، فهو شعور لم أخبره من قبل. ص 52

رانيا ثروت ممسوسة بفلسفة الموت، لذلك نراها دائمًا تحاول التسلّل إلى غيبيّاته، فتخترق الجدر الفاصلة بينه وبين الحياة، قد تقف في المعبر، وقد تتابع إلى القبر، لكنها بكل الأحوال لا تعتبر غولًا ابتلع ميت، بل تبقى على تواصل مع انعكاس ذاك الميت على صفحة الحياة، فالموت عندها، كما الحياة، ظواهر ينبغي الاستقصاء عنها للوقوف على حقائقها ودراسة الجدوى المتوخاة من وجود الإنسان فيها، وما هو دوره المنتظر الذي ينبغي أن يمثّله على مسرحها حتى ينال تصفيق الملائكة؟!.

الجانب الأخلاقي: الدرجة الرابعة في سلّم العمق النصّي.

التزمت الكاتبة بالجانب الأخلاقي العربي فلم أجد اي تجاوز سيمانتيكي أو إيحائي في حمولة مفرداتها المكثفة، بل التزمت في كل القصص الدعوة إلى الارتقاء والسمو الأخلاقي بالتزام قيم الخير وقلع عين الشر والرذائل.

الجانب الاجتماعي: الدرجة الخامسة في سلّم العمق النصيّ، تناولت القاصّة العديد من الموضوعات الملقية على أرصفة المجتمع، يتعثر بها المهمشون من النساء والأطفال والكهول، بعضها قضايا كبرى بحجم وطن، وبعضها مسكوت عنه كزنا المحارم، والعديد من الموضوعات اترك للنقد الثقافي الخوض في هذا السياق الخارجي باستفاضة، فاهتمامي ينصبّ حسب المنهج الذرائعي على النص الوليد بدلالاته الإيحائية المنبثقة من شكله الجمالي الخارجي ومضمونه المخبوء، أي أن النص بكيانه هو الأساس والجوهر الذي يهتم به النقد الذرائعي بمستوياته التحليلية العميقة.

 ***

بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

........................

[1] تحليل نقدي في أدب الفانتازيا والخيال العلمي – دراسات ذرائعية للناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي- دار المفكر العربي للنشر والتوزيع - القاهرة ط1 -2020 -ص14

[2] فن السلويت هو فن الظل أو فن الصورة الظلية وهو أحد أنواع الفنون التشكيلية التي تعنى بانتاج اللوحات الفنية على هيئة ظلال الأشياء دون وجود تفاصيل وصفية تدل على الملامح الحقيقية لها- مجلة سطور 2019ديسمبر 23

[3] السوستة هو السحّاب الذي يستعمل من أجل ضم قضعتين من القماش بشكل مؤقت، ويأتي أيضًا بمعنى النابض، النوابض التي تستمل في صنع مراتب الأسرّة والكنب

 

مهما حاولنا طمس ذاكرتنا فلا بد دائما من جمار تتقد أسفل رمادها تدفعنا للبحث عن ذواتنا المفقودة بينها..

كشفت دينا المعلوف في تقديمها للرواية ص7 (عندما يهطل المطر الماضي يعود يوما) الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون، عن المحور الرئيسي الذي ستدور حوله أحداث عملها. فالماضي ما هو إلا تلك الذكريات التي تختزنها ذاكرتنا المراوغة التي ستفعّلها متى رغبت بذلك وبطلة رواية المعلوف فعّلت ذاكرتها وما تحمله من ذكريات للبحث عن ذاتها في واقعها المتناقض.

لذلك جاءت رواية عندما يهطل المطر تجسيدا لأحداث الماضي وقد حرصت المعلوف على استذكار بطلتها حنين حياتها الضائعة وصراعها الداخلي اليومي للتأقلم مع واقعها الذي يتمثل بالشطر الأول زوجها مروان الطبيب النفسي الذي حاول علاجها من ماضيها فأحبها وطلبها للزواج فوافقت هروبا من هذا الماضي وظنا منها بأنها ستنجح في التخلص منه بهذا الزواج ففي ص15على لسان حنين (كنت مرتدية فستاني الأبيض..امشي بخطوات بطيئة كأن شيئا في داخلي يقاوم ويرفض هذا الزواج..) والشطر الثاني حبيبها الأول زياد.

لكن مروان وعلى مر السنين لم يكن سوى ذلك الأمان الذي تلجأ إليه كلما زارها طيف زياد ففي ص24 على لسان حنين (أصابني ذلك الوقت شعور بالألم يمتزج بالخجل والندم....ودون وعي وجدت نفسي أذهب إليه كأني أبحث عن الإحساس بالأمان والطمأنينة التي طالما منحني إياها) .

والمتتبع لأحداث عندما يهطل المطر سوف يلاحظ بأن تقنية الاسترجاع هي عنصر أساسي ساهم في بناء ديناميكية العمل وجماليته اللغوية. وقد أحسنت المعلوف توظيف هذه التقنية بدءا من حياتها مع مروان والزواج به ثم العودة إلى سنوات بعيدة والطواف بين أروقتها حيث شقة زياد رجلها الأوحد كما كانت تسميه والحنين إليه ففي ص32 على لسان حنين (ففي كل يوم تمر أشياء توقظ في قلبي الذكريات وتعيدني إلى ذلك الزمن حيث كنت طفلة وكان زياد رجلي الأوحد).

وقد احتفظت حنين بصور ماضيها بل وأطرتها على جدران ذاكرتها بأطر صلبة صعبة الكسر ففي ص68 على لسان حنين (حملتني تلك الصور معها إلى ذلك اليوم وذلك الباب الذي أغلقته خلفي.. تلك الحالة التي خرجت بها من بيت زياد حاملة معي حقيبة من الفرح).

ومع مرور الزمن تزداد الجمار اتقادا ،إنها ذاكرة حنين التي تأبى إلا أن تصمد في وجه الزمن وترفض الاندثار بالرغم من كل محاولاتها الكاذبة للنسيان فمهما سعينا لقتل الماضي ونسيانه إلا أنه باق فينا حيّ جزء منا لا نستطيع اجتثاثه ففي ص33 على لسان حنين (ورغم معرفتي بأن قصتي مع زياد قد انتهت قبل أن تبدأ إلا أن شيئا بداخلي يبقى متمسكا بها). وفي ص11 (لم أفهم حينها أن ما أقوم به ليس إلا محاولة يائسة مني لأنسى وأمضي في حياتي).

واستعادة الماضي هو فعل لجأت حنين إلى استخدامه للتلذذ به ففي ص 29(تذكرت كيف هطل المطر بغزارة في لحظة مجنونة فأسرع زياد ليغلق نافذة البيت ورآني هناك أختبئ تحت شرفة أحد البيوت...فسمعت صوتا يناديني..حنين.حنين ركضت بسرعة في اتجاه مدخل البناية) فبالرغم من هذا الماضي المؤلم إلا أنها كانت تطرب له لما يحمل لها بين ثناياه المتعة والسعادة.

وحنين ما هي إلا ذات عليلة تبحث عن السعادة في ماضيها.

وذات حنين تخوض صراعا وجوديا مع نفسها وتواجه عللها بمفردها محاولة فهم ذلك الخوف الساكن بأعماقها ،خوف من الزمن ومن الحب ،من المجتمع ونظرته. ذات عجزت عن التكيف مع واقعها مما دفعها إلى الماضي في رحلة بحث عن السكينة. ذات هشة لا تكف عن تأمل هواجسها وتناقضاتها سعيا إلى إثبات وجودها وإعطاء معنى لحياتها سواء تمسكها بالإرادة أو بقيم الحب ونبذ نظرة من حولها ففي ص25 (بدأت ألملم الأخزان التي تشوه روحي وأستعيد من الماضي ذاتي).

وقد صورت لنا المعلوف ذاتا إنسانية تعاني إحباطا ويأسا سببه التمزق والصراع بين الماضي والحاضر بين حب زياد وأمان مروان وعبرت الكاتبة عنه على لسان حنين عن مروان ص13 (كانت كلماته دوما تأتيني كالسحر.. فأخرج بعد لقائنا كأنني ولدت من جديد ! لكن بعد مرور بعض الوقت أعود لحزني كأن شيئا لم يتغير).

إن الخوف الساكن في الأعماق والتناقضات الدائمة والرغبة في انطلاق المشاعر والإفصاح عنها علانية وتحقيق الذات، جميعها قيم سعت المعلوف إلى بثها في شخصية بطلة عملها حنين حيث أرادت أن تجعل هذه الذات صوتا يصدح في الكون ووعيا يعكس موقفها نحو المجتمع.

 وقد سعت المعلوف إلى التغلغل في أعماق هذه الذات الإنسانية والغوص في أفكارها وتأملاتها لتمنح المتلقي القدرة على فهم طبيعتها.

وما بين الحنين الجسر الصلب الذي يفضي إلى ذلك العالم الملموس ،والأحلام الجسر الهش الذي يؤدي إلى عالم الأوهام هل وجدت حنين ذاتها أم أنها أضاعتها بين كلمات رسالة مروان التي عثرت عليها في إحدى صفحات كتاب خواطرها القديم؟

***

قراءة: بديعة النعيمي

 

كتب الكاتب الرِّوائي (جيلالي خلاص) على ظهر غلافها: (كتب بوجدرة بالفرنسية فأبدع، حتى اعتبره الكثير من النُّقاد من أكبر المجددين في الأدب الجزائري المعاصر (المكتوب بالفرنسية)، بيد أن جمهرة من النُّقاد ظَلُّوا واثقين أن قوة بوجدرة الإبداعية تكمن في إطّلاعه الواسع على التُّراث العربي ودرايته المتينة بأساليب اللغة العربية. ولا ريب أنهم لم يخطئوا. هذه روايته (التّفكك) الأولى التي يكتبها بالعربية مباشرة، فذّة، جريئة. ثورة في الأسلوب، قوة في الطّرح، وتفجيرٍ لواقعٍ طالما أرهب طَرّقه الكثيرين من مبدعينا. رواية (التّفكك) كاسرةَ جليدٍ أسطورية تشق كتلاً من الصّخر الأصم في بحر الصّحراء القاحلة التي تحاصر واقعنا المرير.)

(التفكك) هي أول رواية لرشيد بوجدرة كتبها باللغة العربية، النُّسخة التي بين يدي هي الطّبعة الثّانية الصّادرة عن الشّركة الوطنية للنشر والتّوزيع بالجزائر عام 1982. جاءت الرِّواية في حجم متوسط في مائتين وتسع وسبعين (279) صفحة موزعة على إحدى عشر (11) فصلاً دون عناوين فرعية ولا ترقيم، وقد اعتمدت في الفصلِ بينها على البياض الذي يفصل بين كُلّ فصل وآخر كالأتي: (ف 1 ص 05، ف 2 ص 21، ف 3 ص 47، ف 4 ص 71، ف 5 ص 97، ف 6 ص 125، ف 7 ص 151، ف 8 ص 177، ف 9 ص 203، ف 10 ص 229، ف 11 ص 257.).

(التّفكك) رواية تُقرأ (تحت تأثير خميرة الكلمات المتحطِّمة المفسوخة المشطّبة المتفكِّكة المتميّعة بحيث تبقى معانيها غامضة) ص 56. (فتختلط الأمور - بصفة تناوبية - والأماكن والأزمنة والإيماءات والحركات والعمليات والعهود..) (التّفكك) ص 57.

في سردية (التّفكك) (المرآة تتقشر وتفقد قصديرها أما الأيام فيغطيها قلح التّاريخ المتعشب.) ص 58.

حال قارئ (التّفكك) كحال مَن (استدرك ودخل في وجومه العادي، متربعاً لا يتحرك وكأنه الوتد المغروس في الأرض الثابتة.) ص 58.

الفضاء السّردي في (التّفكك) هو (عبارة عن متاهات ضخمة مُكتظّة بالرُّموز والإشارات والعلامات والتّخمات والشّواخص بتعرجاتها ومنعرجاتها وطياتها وشريحاتها وكأنها تنفلت وتتراكض من خلال شبكة دقيقة تشكلها الخطوط المتقاطعة والكسور المتصلة والفلق المتتابعة والسِّهام المتبرجة والرُّسوم المتكسرة، وكُلها أخذت طريقها الخاصة وكأنها مستغنية عن الأخرى، مستقلة تمام الاستقلال، رغم وجودها داخل بوتقة عامة من الرُّموز، إلى أن ينتهي به الأمر أخيراً إلى وضع اسم لها): (التّفكك)  ص 92.

في (التّفكك)، (يمكن البدء بالحكاية انطلاقاً من الوسط أو من النِّهاية، ثم الانتهاء منها انطلاقاً من أولها وهكذا كُلّ الطُّرُق تؤدي إلى عُمقِ الواقع والكتابة.) ص 109.

بين جملة البداية: (لم يكن ليحمل بطاقة تعريف ولا أي شيءٍ آخر يُعرِّف إلى هويته فكان يشعر بنوع من الخفة تصعد من جيوبه الخاوية متناسياً تلك الصُّورة الشّمسية التي كانت في جيبه. لا يحسب لها بالاً ولا حساباً وفجأةً..) ص 05، وجملة النِّهاية: (كان يقصر حديثه عن أصدقائه في الكفاح ورفقائه في الحزب وإخوانه في الثّورة ويبذل ما في استطاعته لإعطاء فكرة موضوعية عن التّاريخ وبلورتها..أما عن طفولته وعن حياته الخاصة فلم ينبس يوماً ببنت شفة، بل كان يكتب ويكتب.. وصريف القلم.) ص 279. يتمدد متن (التّفكك) في سرد لولبي دوراني للزمان والمكان والشخصيات.

* ملخص الرواية:

تدور أحداث الرِّواية حول شخصيتين مركزيتين هما (سالمة) من جهة و(الطّاهر الغمري) من جهة أخرى، (سالمة) فتاة في عمر الخامسة والعشرين تتذكر طفولتها وعلاقتها الحميمية مع أخيها الأكبر الذي خطفته المنية وترك في نفسها فراغاً رهيباً. ويحدث أن تدخل حياة (الطّاهر الغمري) كهل خاض العمل المسلح في الثّورة التّحريرية الجزائرية، ينتمي إلى الحزب الشّيوعي الجزائري، نشأ في بيئة ريفية، كان مُعلماً للقرآن ثم انخرط في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قبل أن يتركها وينخرط في الحزب الشّيوعي الجزائري. فَقَدَ أفراد عائلته في مجازر الثامن ماي 1945 التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي في الجزائر. شارك في الثّورة التّحريرية رُفقة رفاقه الذين يشاركونه صورة فوتوغرافية هي كُلّ ما بقى له من الماضي الذي تقوقع فيه دون تطلع للمستقبل. مثل تقوقعه في بيته القصديري الذي ركنه في أعالي العاصمة اختباءً وهروباً من رفاق الحرب من الاتجاه الأخر الذين قَتَلوا رفاقه في تلك الصُّورة الواحد تلو الأخر ذبحاً وإعداماً ولم ينجو منهم إلاّ هو فاقداً لأي وثيقة تثبت هويته الشخصية. عاش على هامش المدينة مابين بيته القصديري وميناء المدينة وزيارات ضريح سيدي عبد الرّحمان الثّعالبي كل جُمُعة للتّزود بالشُّموع التي تُضيء ليلياته وروحه لكتابة تاريخ هذا الوطن خِلاف الشّكل الرّسمي الذي أخفى الكثير من الأخطاء والمذابح والانتقامات بين ثوار الأمس أثرياء اليوم. تدخل (سالمة) مع (الطّاهر الغمري) في جدل فلسفي تاريخي واعي حول ماهية التّاريخ، وماهية صناعته، وكتابته كتابةً صادقة دون تزييف للحقائق يُذهِبُ البريق، أو تكليف لما لا يُطيق فينكشف ويتصدّع الإناء وإن تعاقب الزّمن و(لا يستقيم الظِّلّ والعود أعوج).

وبالعودة إلى بدايات الرِّواية (التّفكك) نجدها تنفتح على شخص لا يحمل شيئاً في جيوبه الخاوية إلّا صورة شمسية شكلت الذّاكرة في هذه الرِّواية، فَتَذَكُر الحوادث الماضية كان باستنطاق هذه الصُّورة والوقوف على من هم مُصَوَرون فيها. (يحدق فيها برهة. أهو هو؟ أم لا. وهذا الذي بجانبه؟ وذاك الذي على يساره؟ فمن هما يا ترى؟ وأولئك من ورائه وكأن المُصَوِّر اِلتقطهم وقد أصابتهم نوبة من الضّحك لا يمكن كبتها فقطَّبُوا لها جَبَهَاتهم أمام الآلة فظهروا وكأنَّهُم مبهورون مشدوهون مذهولون ومعتوهون معاً وفي آنٍ واحد ثم يُعيدها بِسرعة إلى الجيب الأيسر من سترته الرّثّة فتُخلِّف في قلبه بصمة ذات الخطوط الملتوية ويشعر بخفة ووداعة لا مثيل لهما). (التّفكك) ص 6 ، ص 7. هذا الشّخص هو بطل الرِّواية (الطّاهر الغمري)، (وهو يجوب المدينة طولاً وعرضاً عاملاً على محو ماضيه خائفاً من حاضره، ضارباً مستقبله بتأشيرة اللامبالاة). ص 06. ويتجلى في التّداعي اعتزال (الطّاهر الغمري) العالم بما فيه ويقبع في بيته المنفرد المعزول والمشرف على المدينة وعلى الميناء، فكان القفز على الذِّكريات سبيله، قبل أن تدخل (سالمة) حياته فجأة وتحاول إخراجه من هذا العالم الدَّاخلي (ولا يعتم أن يرجع صاحبنا إلى بيته المنفرد المعزول والمشرف على المدينة وعلى الميناء وعلى السّيلان البشري المتدفق على قوافل السّيارات المنسابة على اختلاف أنواعها وطرازها..) ص 08. ومن ثم ينطلق (الطّاهر الغمري) كل مرة مسترسلاً من تلقاء نفسه في ماضيه الذي يريد إخفاءه عن الجميع وحتى على (سالمة) التي كثيراً ما كانت وراء استفزاز هذه الذِّكريات التي لا تتوقف. (أراد أيضاً ترك الذِّكريات المؤلمة جانباً ومذبحة ماي 1945 وبقر عائلته بكاملها بما فيها زوجته وابنتيه، فيتخلص أيضاً من شحابة الماضي ومن الهواجس الرّثّة والأحقاد البالية ومن غيرها من الأمور التي تعوّد على وتيرتها كالصُّورة التي أصبحت عبارة عن عقدة تربط أحشائه وتسيطر على تصوراته للتاريخ وعلى تصرفاته الفطرية أراد أن ينطلق نحو ميادين أفسح وأوسع وآفاق تنضج حياة وحيوية ومستقبلات مرصوصة بالغيب..) ص 243.

(أما سالمة فتشرف وهي في الخامسة والعشرين على تسيير المكتبة الوطنية وتدخن علبتين من السّجائر في اليوم وتُطالع العديد من الكتب والمجلات وتحمل في حقيبتها اليدوية صفيحة من أقراص منع الحمل وتعشق ثم تندم وتقطع العلاقة كلما شعرت بأن صاحبها بدأ يتعلق بها فتشمئز وتتركه لتوه من دون إنذار أو إرسال كلمة قصيرة لتبرير موقفها. ومنذ أن تعرفت على الطّاهر الغمري قطعت كل علاقاتها، وفقدت الصّديقات القليلات اللائي تعتز بهن، حُرّة طليقة، لا تعرف ماذا تفعل بحريتها، ترجع إلى البيت في ساعة متأخرة، لا تبالي بالصّعاليك الذين يجوبون الطُّرق..) ص 118. (سالمة تعيش بين مكتبتها في الخزانة العامة التي تشرف عليها بإحكام وضمير مهني نادر وبين دار الطّاهر الغمري القصديري ومنزل أبويها.) ص 168. (وتقضي أيامها بين العمل والعلاقتين اللتين كونتهما مع الطّاهر الغمري من جهة ومع أخيها لطيف من جهة أخرى تكتشفه وكأنه بعث عليه لتعويض تلك الرّزية التي لم يبرأ جرحها ولم تلتئم لحمتها وهي تعاني منها بصمود وسرية وكتمان منذ سنتها التّاسعة، أي منذ وفاة أخيها البكر..) ص 208.

وكان أن موت الأخ الأكبر لـ (سالمة) الذي كان يُحِبُّها ويحميها يجعلها تتذكر سن التّاسعة من عمرها إذ يوافق حدث وفاته فتسترسل في سرد الأحداث التي أحاطت بجنازته (لم أنس يوم الجنازة وإن كُنتُ لم أر شيئاً، مضغة من الانطباعات الموسيقية فقط، بين عويل وترتيل وجذام الباب الحديدي الذي لا ينقطع عن الصّرير على فردتيه وكأنه يئنُ تحت ضغط الألم، وتختلط الرّنات والتّرنيمات والموسيقى والصّدى في ذهني والمأتم مفتوح لِكُلِّ النّاس كباب الدّار، واخترق عتبته القضّ والقضيض ومن لا يُحِبُّهم أخي، لم أر أحداً أو حاجةً ولا يبقى من تلك الأيام سوى وتريات حزينة، وقد اُحتُجِزنا نحن الصِّغار في قعر البُستان. مهدي يتسلق شجرة التُّوت ويُحاول أن ينظر إلى داخل الدّار، لكنه لا يرى ما فيها.. تضحك سعيدة. تنظر إليّ لاستفزازي. تُريد أن أضحك معها ولكنها لا تُحرك ساكناً وأتجاهلها لا أعرف معنى الموت. ولكني أعلم أني فقدته نهائياً..) ص 41. وهكذا تسترسل في أحداث الجنازة وكيف عُزِلت في الحديقة مع سعيدة ومهدي إخوتها الصِّغار وقد أدركت يومها أنها فقدته دون عودة.

وبالعودة إلى جنازة أخيها في مكان أخر، نجدها (تترك المدرسة والجوائز والغوغاء والضجيج وتهرع إلى المنزل فتفتح على البق وتفرز الميت من الحي، وتبكي !.. وتتذكر يوم جنازة أخيها الأكبر.. فتعوي كالحيوان المجروح الباحث عن جيفة يستأصل منها استيهاماته.) ص 60.

أما بطل (التّفكك) (الطّاهر الغمري) فكان (يُدرِّس القُرآن ثم يُفلِّح الأرض البور، ثم ينخرط في جمعية العلماء، ثم يتركها ويدخل في الحزب، فيُرسله ليعمل بين الفلاحين الفقراء أمثاله ولبثِّ الدّعوة والقيام بالعمل السِّياسي.) ص 57. وتسأله (سالمة): (كيف لمدرس القرآن أن ينخرط في الحزب؟) ص 58. ويجيبها (الطّاهر الغمري): (أرفض أن أُتاجر بلغة القرآن.. يأتون بالدّجاج والسّمن والشّعير. قبلت في أول الأمر ثم شعرت بأعينهم تحن إلى عطياتهم. يموتون شرّاً ويُغدقون عليّ كُلّ ما لديهم. هذا هو الاستغلال بعينه! رفضتُ.. تركتُ القرية! انخرطت في جمعية العلماء والقرآن يسيل من مسام بشرتي مع العرق، تنضح الآيات من لحمي وأشكو من حالة الفلاحين الفقراء. يرفعون أيديهم سخطاً ثم الفاتحة.. وعسى أن.. أكره الاستغلال ولكن لا أفهم كيف يمكن التّخلص منه. قالوا. هذا كفر يا راجل.. تعقّل.. استغفر.. مسحتُ عن قلبي دموعي وبقيتُ حزيناً بينهم. الخطب والهتافات والتّراويح والتّسبيح وغلق.. لنبلاء القوم وبعض المشائخ ويبقى الشّعب أمام الباب يسترق السّمع للهاث.. وعويل الثيران يحرثونهن.. أركض.. أطوف البلاد.. أحوم في المدن.. أتعلم أسلوب الطّرق (الزّوافرية).. أُلقح بصمات إبهامي وأطبعها على رئتاي.. لا أنام. لا أجف. ألعن الشّيطان. لا أنام.) ص 65، ص 66. (وتعود سالمة إلى وشائجها: نابزني أبي بعد موت أخي: الطائشة!.. أستيقظ: أي حزب، يعني؟ لماذا لا يقول صراحةً؟ بقي يختفي وراء الأثير، وراء خيط الهاتف. ثم يقص الصِّلة..) ص 66. ثم وفي تداخل نصي، تنتقل سالمة للحديث عن علاقتها بأخيها الأكبر (كنتُ لا أفتح له الباب إلاّ بعد رناتٍ عديدة للجرس يلدغ بصداه جوَّ الدّار، ثم أختفي وراء الباب ويدق قلبي طبلاً وأنا كالنّجمة وراء الغيم داخل أزمنة التّفكير الخاسر، أخاف أن يُدخل ذراعه من خلال القضبان هو من خلف الباب وأنا من ورائه وبيننا سياج العشب والحديد المتقشِّر تحت وطأة الصّدأ والقلح.. ثم أفتح ويدخل، هزيع، برق، صقر. ينقضُ عليّ، يحملني على كتفيه. ثم كبرنا هو في شبابه، تاركاً من ورائه سنّ المراهقة، وأنا في بداية المراهقة تاركة أعوام الطُّفولة الصَّغيرة.) ص 66.

ثم تصف (سالمة) بدقة متناهية الغرفة القصديرية التي يعيش فيها (الطّاهر الغمري)، الغرفة التي استحوذت على النِّسبة الأغلب للنّص الرِّوائي، واستوعبت المجال المكاني في سردية (التّفكك)، (كانت نواة الغرفة القصديرية تحوي سريراً صغيراً، ومنضدة من الخشب القديم يُقضقض طوال الليل، وضع عليها كأس من الماء لا يجف أبداً، ووردة صفراء مزروعة زرعاً في حفرة صغيرة تتوسط المائدة المرقوشة ببق الأعوام وبموسٍ حافية نحتت جملة لا تخلو من الغرابة، لِيَضُمنِي ظِلَّهُمْ ! كما وضِعت عليها كراسات ومقلمة وعلبة من المعدن تحتوي على صمغ بين الوردي والصّدأ وكتب قديمة وصفراء، ثم موقد نسي حتى لونه يحمل غلاية مبعجة بأورام الأصفار والتِّرحال ومسخمة بطلاء بلاد السُّودان الأبدي، ثم لوحة قرآنية مزخرفة ومكتوبة {تبّت يدا أبي لهب..} عُلِّقتْ على أحد الجدران المشبوة بمسمار ناتئ وكأنه مصمم على الدّوام طيلة قرون عديدة، ثم أيقنة من الأواني الأشياء تزحف شتاتاً وسط الحجرة الصّغيرة حيث يبعثرها ويتركها بدون موضوعية، فتتشرب كُلّ يوم مزيداً من القلح والدّردى والسّحالة، تزحف كالبزاق تاركة ورائها آثاراً مشكوكاً فيها يُلطِّخها زنجار الأعوام المالحة وهي تُكركر من ورائها الثّواني شَذرة شَذرة، فتترك صاحب المكان يشتط في كتابته على أوراق المصائب والأزرار فلا ينبس بكلمة ولا ينبض بحركة، وباستثناء صريف القلم على الورق يجري حثيثاً فإنه يحوم على الحُجرة صمت رهيب صمت ما بعد التّاريخ.) ص 71. ثم نتابع بعض ما يشغل (الطّاهر الغمري) في غرفته تلك (يكتب الرّجُل ليلياته ويندم على استعمال الورق، ومن حين إلى آخر ينظر إلى اللّوحة المعلقة على الحائط المطلية بغضار الماضي، فتتصاعد إلى منخريه رائحة المستنقعات المُعشوشبة المحاطة بسياج من القصب، إذ يذكر أنه اعتاد وهو يُدرِّس القُرآن، الذّهاب مرة في الأسبوع إلى بُحيرة ملحية ليقص أحسن القصب ويبحث عن عشبة خاصة تُعطي للصّمغ كثافته ولزقته، ويكتب ويده كالكمّاشة العظيمة تضغط على قلم القصب ولا ينقطع عن الكتابة إلاّ لتنجيره بموسٍ صغيرة وكأنه بستاني يزبر الأشجار بجدّيةٍ وحماس ودِقّة وإتقان.. لا يُبالي ويزاول كتاباته، يُطوِّقُ إطار الكراس بخطه القرآني، يغترف التّاريخ اغترافاً يكتب حول المشاكل التي عاشها والمشاكل التي يعيشها، يمزج بين الأمس واليوم، في بعض الحالات، يعبر بلا جسرٍ نحو المستقبل..) ص 72. (يُكرِّس وقته في تدّبيج هذه اللّيلات مِن خلال جولاته عبر البِلاد نَاجَ نفسه بعد أن اغتيل الآخرون وتدّبيجها مِن خلال تجواله عبر المدينة والميناء المكتظّ بالسِّلع والبضائع والبقر المستورد.) ص 73. (ويحدث أن تدخل سالمة بيته القصديري ذات مساء وهو نائم بعد أن غيل صبرها ويأكلها حُبّ الإطلاع وقد جاهدت عبثاً في تملك على شعورها الذي كان يرميها رمياً نحو علبة القصدير الموضوعة هكذا على الرّبوة الخالية، لا حركة فيها ولا حسّ، فيستيقظ ويجدها جالسة وراء المنضدة على كرسيه الأعرج وكأنها لم تفارقه أبداً، يخالها إحدى ابنتيه حليمة أو جميلة (يامنة / ياسمينة) ثم يهرع نحو ثيابه يلبسها وهو يرتعد من فرط الخوف وتأثير المفاجأة. أما هي فتنظر إليه بكل براءة. وبعد أن ينتهي من ارتداء ملابسه، يقبع أمامها لا يدري ما يفعل ويشعر بأنه لا زال عاري العورة وهو حليق الجمجمة فيحاول تغطيتها بشاش قديم لم يعد يعتمر به منذ زمن طويل، منذ أن هرب وهم يترصدون أسماله كداء الحفر الذي ينقط معدته ببراغي الآلام والضغينة. لكنه لا يكره أحدا. يكتب إذن (يا لك من مدرس غريب؟ علّمت القرآن واستعملت الفلقة وضربت ضرباً مبرحاً على مثل دأب معلمي القرآن الآخرين.. ثم تترك الكُتّاب وتنخرط في جمعية العلماء!) ويكتب دون مسودة ودون أدنى تشطيب، وغمره وهو على هذه الحال نوع من الغبطة، حتى تدخل عليه سالمة وفي يدها دجاجة مربوءة شمطاء، تُطلق سراحها قبل أن تجلس على الكرسي الفريد وهو جالس على فراشه والمنضدة أمامه حيث الكُرّاس مفتوحٌ كقلبٍ مشرّح إلى شطرين  والوردة مزروعة في سُرّتِها العادية لا تفتقر إلى الماء والكتب مبعثرة على السّرير وتحت المائدة. يُغلقُ كُرّاسه بسرعة، وتعربد الدّجاجة على السّاحة. لا يفهم وسالمة تضحك وتقول: (كُلّ الدّواجن حلال إلّا الخنزير!) ويبقى باهتاً خامداً ومبهوراً، وسالمة ترقبه في رجاء بريء وعفوي فتحسّ بشيء من الشّفقة عليه وهي تراه من وراء منضدته يمضغ أحلام التِّرحال والعبور والتّنقل يوم كان لا يعرف للاستقرار معنى وقد كان يذهب من مشتةٍ إلى مشتة ومن دوارٍ إلى دوار ومن قريةٍ إلى قرية، وعلايته على ظهره تتأرجح وقد ربطها بخيط اللامبالاة..) ص 73. ص 74. (وسالمة تضحك.. والدّجاجة تهدُّ الأرض وتمخرها جيئةً وذهاباً، طولاً وعرضاً، فتسود سريرة الطّاهر الغمري وهو يُعاني من صخب الدّجاجة ومن ضحك الفتاة معاً، لا يعرف كيف يفعل وماذا يفعل فيغلق دفتره، يتأبطه وينهض خارجاً نحو الباب بينما تبقى هي جالسة والدّجاجة من حولها مقرقأة النقنقة هي الأخرى. ينحدر نحو المدينة ونحو الميناء في وجه النّهار وكُرّاسه تحت إبطه كأنه سبيكة ذهبية لا سعر لها ولا معيار.. وفهم أن هروبه هذا كلما جاءت سالمة بشطحة جنونية، إنما يرمي إلى تحاشيها، وهو في الواقع يود لو يبقى قريباً من هذه البشرة الزّنبقية ومن هاتين العينين الخضراوين، ومن رنة صوتها قد غمرته بلة وبحة وعذوبة وموج وسمك ونرد وشبق قد خلى جسمه منذ زمن طويل، رغم عشيات يوم الجمعة التي قضاها في زاوية سيدي عبد الرّحمان حيث تَعَوَدَ الذّهاب لشمِّ رائحة الأُنوثة وسرقة الشّمع الذي لا يصلح لأي شيء إلى أن يذوب من فرط الحرارة في الصّيف، على الضّريح، وعلى الضّريح تتراكم القرابين والشُّموع والنُّقود والأقمشة والزّرابي، لا يعرف ما هو مصيرها ولمن تُعطى.) ص 74. (يريد الرُّجوع إلى البيت، يخاف قوقآت الدّجاجة ويخاف من العطر المنبثق من بشرتها. هي سالمة. بنيتي! لا يمكن.. يسمعها ترد عليه: عم الطّاهر. لكنه يحلم. (أضرب خمسة!) لم يعد له مكانٌ يستقر فيه ولا مأوى يركن إليه ما عدا الزّريبة التي بناها للبقر..) ص 75. يصف الطّاهر الغمري جمال وتمرد سالمة (إنها جميلة. بل أكثر، إنها آية في الجمال. بشرتها زنبقية وعيناها خضراوان ورائحتها عنبرية ولكن فضيلتها الأساسية كامنة في قوة طاقاتها المتمردية. تعمل في الخزانة الوطنية. تعيش بين الكتب.. تهزأ بي لكنها تُحِبُّني.. (عم الطّاهر) تقولها وفي صوتها نبرة استهزاء..) ص77. يُحاور نفسه وكراسه تحت إبطه. (مدرس قرآن بسيط. بطاقة هويتي عبارة عن صورة. فقط. أحملها كدرعٍ يصونني أو حرزٍ يقيني من شرِّ النّاس ومن السّاسة.) ص 78. وتستطرد سالمة (أخاف الانفجار وهو آتٍ عما قريب. عيل صبري. أنا أُحِبُّه وهو لا يُحِبُّني. إنه يشتم رائحة الأنوثة وكفى.لا يحمد الله فهو مُلحد. لا يُثرثر في هذا الموضوع. كيف أنتَ مُلحد؟ لقد علّمتَ القُرآن. وبعد؟ يغضب عليّ يثور. يهيج.. ويقول كفى بنيتي..) ص 79. (انخرط الطّاهر الغمري في جمعية العلماء سنة 1945 ولم يبق فيها إلّا مدة عامين. ثُم انسحب ولم يعد يطيق سماع قهقهة المشايخ عندما يقول أن الفلاحين الفقراء يفتقرون إلى الأرض الخصبة. تعبت أيديهم وتعبت شفرة المحراث البالي بين أذرعهم. أخذ الشّك يدب في جفنيه وهو يسعل ويسعل. اتقِ الله يا رجُل! ارتبك، خشخش ويسعل مرةً أخرى. لم يقُل الفحشاء ولم يدمن على أي مكروه، بل هو يُرتل القُرآن ويؤذن بباب المسجد. لا منارة له ولا صومعة ولا مضخمات الصّوت، كبلال. بين الرّبِّ وبين السّماء. يرفض كُلّ وساطة. وتفاقم سُلّه وعسف الاستعمار. واحتشد الفلاحون فنظّمهم هو وابتعد عن المدن. قفل راجعاً يبثُّ الدّعوة فيهم. أتاه الحزب. قال أُصلي. قالوا ولو لا؟. انخرط في الحزب سنة 1947.. هذا ليس ديانة، إنما حزب.. دخل المعمعة بسلاح آخر ولم يقهقه أحد يوم راح يُطالب بأرضٍ خصبة لِكُلِّ فلاح. استقر في القرية هناك على رأس الجبل. وأصبح الجبل عرينه ومأواه وملجأه ومكان عمله.. وهو في تجوال مستمر لا انقطاع له. تعرف عليه الفلاحون وأخذوا يسترقون السّمع إلى سُعاله. يعرفون من بعيد أنه آتٍ وسُعاله يموج الأثير فيقولون: سي الطّاهر جاء يزورنا اليوم.. فيحضر عند دشرة وكأنه شيخ تفسخ جلده وأخاديد الجوع رسمت بصماتها على وجهه. ترك الكُتّاب وجمعية العلماء وجاء إلى الحزب.. يشرح ولا يترك الضّباب يتراكم في جماجمهم رغم السُّلّ الذي يسمه بميسمه ويُثقل عليه وزره وقد تقرمط وتزنج وراح يقرأ كتب التّاريخ وكتب النّظريات الفلسفية فلا يسفسف عليه أحد.. وأخذ يلتهم الكُتُب ليعرف ما حدث في العهود البعيدة أيضاً ما في وراء الجُدران من أسرار تتعاقب داخل عقلية الفلاحين الذين يموتون فاقةً ووباءً وتعذيباً وكدّاً.) ص 80. ص 81.

سالمة (تتذكر الصُّورة والرّجُل الذي يتوسطها. تقول: المسكين، لم يبق إلاّ هو. ماتوا كُلّهم وكُلّ واحد على طريقته الخاصة، إلاّ هو نجا من الموت أو أفلت منهم وهو على شعر شفرة منها، يهرب ويأخذ في عبور البلاد واكتساحها شرقاً وغرباً بحراً وصحراء، يختفي عند الفلاحين الفقراء أمثاله وينظم العمليات معهم وينصب الكمائن ويعود مكراراً، من عرينٍ إلى عرين ومن رأس جبل إلى رأس جبل... وقد تعلم كُلّ المنعطفات وكُلّ المنعرجات وسلك كُلّ الطُّرُق المختصرة والدروس الوعرة، ماحياً كُلّ سفسة، ضارباً سهمه في صميم الموضوع فيقاوم ويقاتل ريثما.) ص 83. (بعدما اعتصم في الجبل بسلاحه رفقة سيدي أحمد وأبو علي والألماني والحكيم والآخرين. المقهقهين على الصُّورة الذين يفتعلون الضّحك أمام عدسة المُصوِّر.) ص 90.

(لم يكن يحمل معه بطاقة تعريف ولا شيئاً آخر فيشعر بنوعٍ من الخِفة تصعد من جيوبه الخاوية وهو يتناسى تلك الصُّورة الشّمسية ولا يحسب لها حساباً وفجأةً تسقط أمامه حمامة سمينة تسترق حركة بطيئة فينسى الصُّورة التي لا يحمل سواها ويتساءل عن الصُّورة؟ ماتوا كُلّهم حتى آخرهم، مَن قال أن الألماني مات في فراشه؟ إنها أسطورة! لقد مات مذبوحاً! مات ويا لها من ميتة! والآن وقد أخذت تشك في أقواله ومزاعمه، آثر الصّمت! ويتركها تتلو الأحداث السِّياسية كأنما الأمر يتعلق بقراءة أدبيات حزبية أو روايات تاريخية شُوِّهَتْ كُلّ أحداثها عن قصد.. ) ص 97. (وكلما ازدادت سالمة تمسكاً بتلك الفترة التي عاشها هو وصوَّرها بشخوص لا يفتأ يتحدث عنها: 1945، 1954، 1962، 1965، 1978، كلما انزلقت من عصر إلى آخر وحاولت تحديد وجهة الزمن والفضاء،.. فتضيع وتتيه وتدوخ وتشحذ نفسها في آنٍ واحد، لكنه سرعان ما يعود فيتحدث عن الصُّورة بعد أن رفض حتى ذكرها مدة طويلة من الزّمن، ويتحدث عن الأشخاص الماثلين فيها،.. وهو عاجزٌ كُلّ العجز عن التّخلص من ذكرياته،.. وقد قُدر له أن ينجو من الموت هو لوحده، فيتوغل في عزلةٍ مقيتة تزيدها سالمة حدةً ومرارة، فتأتي عليه وتقتحم أيامه تلك التي كان نظمها تنظيماً وسطرها تسطيراً،.. يتقوقع ويضم الصُّورة بين ذراعيه ويبقى على هذه الحالة أياماً كاملة شاخصاً بعينيه إلى سقف الكوخ..) ص 98. (وهو تحت الكابوس مثلوماً للتاريخ أو اقتصاراً عليه وعلى ما فيه من مجازر وحروب وإبادات على أنواعها، فيتذكر السّنة الملعونة، 1945، يوم دخل الجنود إلى كوخه في غيابه وقتلوا كُلّ أفراد عائلته بما فيهم زوجته وابنتيه الصّغيرتين..) ص 99.

تجادله سالمة وتفكك هويته التي لم يبق منها إلاّ تلك الصُّورة التي يحملها معه ولا يكاد يتخلى عنها فهي شخصيته وذاكرته: (أراك تتجول في الطُّرُقات لا تحمل بطاقة هوية ولا أية ورقة مطبوعة بخاتم الحاكم ولا تحمل إلاّ صورة رثّة قرضها العثّ ولا تحمل إلاّ خفقان قلبك.. لماذا تحملهم هؤلاء في الصُّورة وقد ماتوا كُلّهم، فكأنك بحملك إياهم تقتلهم ثانية وثالثة، فسيد أحمد أُحرِق حيّاً بدون أن ينبس بحرفٍ واحد يفرج به كربه، لقد مقتهم واحتقرهم.. لقد مات اللّحام أيضاً، بوعلي بوطالب مات باهتاً والضوء الأزرق يتلوع في صنع قنبلة زمنية في ورشته ولكن وجوده على الصُّورة فما معناه؟ كان يأتي إلى الجبل من حينٍ لآخر لتصليح آلات الإرسال والاستقبال، أما الحكيم فقد مات، هو أيضاً، مات مذبوحاً بسكينٍ حافية، والألماني؟ ماذا عنه؟ ما هي قصته؟ هل مات في فراشه أم مات مقاتلاً وماذا عن وجوده في الصُّورة؟ لم يكن ألمانياً بل لقب هكذا لكونه أشقر الشَّعر، أبيض البشرة، أزرق العينين، طويل القامة وقد أُسِر في ألمانيا أثناء الحرب لعالمية الثانية وقد كان يُحارب في صفوف الجيش الفرنسي، أرغموه على التّجنيد في الجيش الفرنسي فتعلم الألمانية وقرأ كُتُباً كثيرة. لا لم يمت في فراشه! لقد مات مذبوحاً بموسٍ حادة قاطعة.) ص 108، ص 109.

تأخذ الصُّورة، صورة المقاتلين الخمسة حيّزاً زمانياً ومكانياً من (التّفكك)، تسرد سالمة: (فهمت كُلّ شيء عن الأشخاص الموجودين على الصُّورة وعرفت عنهم الكثير. كان عملي يُساعدني على جمع الوثائق والبيانات والبراهين والمعلومات. دونت حياة كُلّ واحد منهم، فتحت ملفات أربعة وملأتها بالأوراق والملاحظات والوثائق: أولاً: بوعلي طالب. ثانياً: أحمد اينال الملقب بسيد أحمد. ثالثاً: الدكتور كنيون الملقب بالحكيم. رابعاً: محمد بودربالة الملقب بالألماني. يبقى ملفه هو فارغاً. ملف الخامس: الطّاهر الغمري. كانوا كُلهم أعضاء اللجنة المركزية. كانت اهتماماتي تدور حول الثُّلاثي المتكون من بوعلي بوطالب (عامل) وأحمد اينال (مثقف) والطّاهر الغمري (فلاح فقير). مثل رائع لتحالف الطبقات التي فهمت أن الثّورة شيء حتمي وطبيعي لا يكون إلاّ لصالحها.) ص 172.

يسكت ثم يسكت الطّاهر الغمري، ثم يأخذ في الحديث ثانيةً ويستطرق: (يبقى أننا كافحنا وتمردنا وأخذنا السِّلاح، قاتلنا، صنعنا القنابل، نظمنا شبكات المقاومة المسلحة في المدن، كان من بيننا المسلمون المسيحيون اليهود الملحدون.. لنا أبطال أُعدم البعض منهم رمياً بالرصاص وأنزلوا المقصلة على رؤوس البعض.. أتينا بكميات هائلة من السِّلاح.. نصبنا الكمائن.. دفعنا ضريبية الدّم.. صحيح ترك البعض صفوفنا، خانوا والخونة في كُلِّ مكان وفي كُلِّ الثّورات.. في الأول كنا نخاف وشاية الفلاحين الفقراء أكثر من قوة الجيش الفرنسي وبطشه..ذبحنا الكلاب وبعض الأئمة.. أعدمنا بعض الفلاحين الفقراء هذه هي الثّورة.. يُزنى فيها.. يُخان فيها، يُذبح فيها..كان لنا نقائص.. لا أنكر هذا.. لكن المُهم: دفعنا جزية الدّم وضريبة الالتزام. لا يمكن تجاهل الظُّروف التّاريخية..) ص 148. ثم يُضيف: (ننطلق فجأةً نلهث في ظِلِّ المقابر حيث ندفن من سقط منا وبين أيدينا ونُطلق الرّصاص ونرش العدو رشاً ونترك جروحنا الحيّة المتفتحة تُغطيها النّدبات العميقة ولا يبقى لنا إلاّ شق ضيق نملأه احتضارا ونحشوه نزعاً ونعمره كرباً وكرزاً، فتتحول آنذاك كل الثّلمات الدّقيقة إلى هاويات لا قعر لها جنونية المنطلق والمنطق تبرق داخل أذهاننا بوميض مستميت، لا هدنة فيه ولا هوادة.) ص 154. (مات العديد من المقاتلين ليس برصاص العدو، بل بسكاكين الثُّوار أنفسهم، هم أنفسهم وحتى في بعض الأحيان بأيديهم.. منهم من مات مذبوحاً ومنهم من مات مخنوقاً ومنهم من مات رمياً بالرّصاص وكلها تصفيات حسابات.) ص 160. وكان قد (فقد كُلّ الأوراق الرّسمية ولم يحتفظ إلاّ بتلك الصُّورة التي لا تفارقه منذ أن هرب وهو مسجل في قائمة الاغتيالات السّوداء.) ص 193.

ويُجادلها محاولاً إقناعها (أين أنتِ والتّاريخ وما ذُقنا من عذابات التّعاسة والتّشريد والمشي على الأقدام أشهراً وأعواماً! قلتُ لكِ التّاريخ لا يصنعه أحد كالعشب ينبت ولا تراه ينبت ولا كيف ينمو.. قالوا لا بطل غير الشّعب.. كُلّ ذلك استفزاز! دعاية! تصفية حسابات وخوف من الموتى.. الشّعب بلا طليعة لا شيء هذه هي الحقيقة..) ص 178. (في أماكن أخرى كان التّاريخ يفتقد إلى الوضوح وازدهرت المدن السُّفلى وتكاثرت، متجاهلة الدّم وموقع المسالخ. كذلك الأمر في هذا الوطن وفي هذه المدينة بالذّات حيث رمم الطّاهر الغمري عرينه على ربوة تشرف على الميناء وأخذ يكتب التّاريخ بكُلِّ نزاهةٍ وشجاعة، يُعطي للذّاتية قيمتها وللموضوعية نصيبها وينتهي به الأمر إلى التّفجر وهو يُعاني من سلِّ الرئتين واختفاء االرِّفاق وقلّة المصادر وتحذر الشُّهود، فيكفر ويجلجل ويقول أن التّاريخ لا يصنعه أحد لأننا لا نراه ينسج خيوطه إنه كالشّرنق يتكوم تدريجياً وهو كالعشب لا نراه ينبت. لكن الرّجُل مُصر على كتابة التّاريخ، يريد أن يترك شهادة عن موقف فئة من الشّعب وعن أعمال رِفاقه الذين ماتوا وطُوِّقُوا بكتانِ النّسيان. في كُلِّ مكانٍ يفتقر التّاريخ إلى الوضوح والظِّلُّ لا يكفي ليحفظ الأحياء من تُجار الموت وطحلب العتمة والظُّلمات.) ص 182. وأما سالمة (هي الأخرى لقد فكرت أكثر من مرة في معنى التّاريخ واتفقت أكثر من مرة على أنه مصيدة ومصفاة وأنه قرح لا يكف أبداً عن التّعفن.) ص 185.

جدلية التّاريخ تؤسس علاقة الشخصيتين المحوريتين في سردية (التّفكك) سالمة والطّاهر الغمري إذ (كانت العلاقة تتمتن بينهما حتى ذلك العهد الذي جاء فيه يفاجئها أن التّاريخ لا يصنعه أحد وكالعشب لا يزرعه أحد. فتدهش في أول الأمر وتظن أنه يمزح، لكن الرّجُل يُصرُّ ويعيد الكرّة ويغضب، فتقاطعه وهي على يقين من أن التّاريخ تصنعه البشرية من شعوب وأُمم وأفراد وهو كذلك عبارة عن تطاحن مستميت بين المغلوب والغالب وبين المقهور والقاهر وبين المُستَغَل والمُستَغِل..) ص 185. (وهكذا وصل إلى هذه النتيجة أن التّاريخ لا يصنعه الرِّجال كما قيل له وكما قرأه في الكتب، وإنما هو أيضاً نتيجة ردود الأفعال والإستثارات.) ص 193.

وفي صورة أخرى ينتقد الرَّاوي على لسان الطّاهر الغمري الثُّوار الانتهازيين بعد الاستقلال الذين نسوا وتناسوا المبادئ الثّورية التي قامت عليها الثّورة التّحريرية وانغمسوا في وحل الماديات الباذخة على حساب الشّعب البائس (لقد راح أثرياء الثّورة يُخزنون ثرواتهم داخل صوف المطارح التي ينامون عليها ويحتالون ويتضخمون. جُعنا طويلاً والآن قتلتنا التُّخمة والسُّكر والمذلّة وأصبح أبو نواس مجرد علامة بيرة رديئة.) ص 190.

(أصبح الطّاهر الغمري يُعاني من عواقب معركة مميتة تدور رحاها بين طيات جسمه الهزيل وتتلخص في تواجد نزعتين متناقضتين: الأولى تحمل حُبّاً لا حدود له والثّانية جُبناً لا يستطيع التّفوق عليه وهو الذي اشتهر سابقاً بشجاعته وبطشه وانتهى به الأمر إلى أن انتصر على خوفٍ غير معقول، كان مصدره سالمة ثُمّ سالمة. فكانت الزّوبعة التي أنهكت قواه وتركته على شاطئ الأوراق البيضاء، محكوماً عليه بأن يملأها قبل أن يملأ القيح رئتيه، فيموت من غير أن يفهم مسيرته الشّخصية، وبداخله الشّك فيدمدم ويبصق ويصفر كالأفعى ويهيج ويغضب ويكتب، يكتب، لا يأكل ولا يشرب ولا يغتسل ولا يُغير ثوبه.. وهو أن لحيته طالت إلى حد غير معقول ورائحته أصبحت كريهة لا تُطاق وعيناه ضعفت قوتهما فيشعر أنه يتدلج في الظُّلمات حتى أنه أصبح لا يلم إلماماً كاملاً باختراعه الجديد حول التّاريخ..) ص 193.

(وأخيراً تأتي سالمة. تُزيح الغُبار وبيوت العنكبوت وتوبخه وتأمره بالذّهاب إلى الحَمَّام وإلى الحلاق وتُعِيره مالاً لشراء ثيابٍ جديدة من السُّوق السوداء.. بينما هو منصرف إلى المدينة تَفتح الباب على مصراعيه وتُخرِج كُلّ الأثاث وتُنظف أرضية الحجرة.. ثُم تُرتب البيت من جديد.. وما أسرع ما شعرت بالنّدم يغمرها تجاه الرّجُل المسكين الذي تركته لحاله وهذيانه وعماه لمجرد جملة قالها حول التّاريخ ما كانت لتقتنع وتتناقض ربما وما تعلمته في المدرسة السِّياسية اليومية ومِن خلال الكُتُب..) ص 195. (يرجع عم الطّاهر بعد ساعات. فيلمع وجهه الأملس مِن فرط الحكِّ والدّلك، استبدل ثيابه القذرة بأخرى تكاد تكون أنيقة، سرح شعره بطريقة جديدة. لقد تغير تماماً. لقد صغر وشبّ وربح هكذا عشر سنوات. يترك ابتسامة خجولة تموت على فمه.) ص 199. ص 200. وتقترح عليه سالمة برغبة (أنتزوج عم الطّاهر؟ يلتفت نحوي.. يضحك.. يُقهقه.. بنيتي.. لا تمزحي.. وأنا متزوج.. أعني.. أرمل. يضحك وتمر عليه سحابة الحزن والكآبة وكأنه تركها في الحمّام مع الأوساخ والقذارة تتزحلق نحو البالوعات تحملها ‘إلى البحر ومِن هناك إلى السّماء مِن حيثُ تُمطر مطراً فاتراً.. عينا الكآبة مِن جديد.) ص 200.

(تغير الطّاهر الغمري. لم يعد نفس الرّجُل. أصبح منزله نظيفاً وقد ألصق الصُّورة التي ما كانت لِتُفارق جيب سترته الأيسر ولا يحمل سواها، على الجِدار المقابل، بعد أن طلى الحُجرة بالجير الأبيض وغير موضع الأثاث والأشياء، بين عشية وضحاها.. حتّى إذا ما عادت قطنته على هواها. وأخذ، وكأنه ألمّتْ به حُمّى سالمة المُعدية وحركتها العصبية وضوضاؤها المعتادة أخذ يرصف الكُتُب ويُصفصف الأواني ويحك الغلاية المبعجة ويُزيل عنها سناج الأعوام السّوداء وسخام البلبلة الذّهنية.. ويُنظم الفضاء الشّحيح بكُلِّ مهارة ودقة ويوزع المكان بلا حرج ولا مبالاة غير مبالٍ بحدود المساحة، ويفتح نافذة في الحائط حيث كان الرّسم الوهمي الذي سقطتْ في شبوهته سالمة لأول وهلة، فاتسعت الحجرة وتبلور جوها وتشفف مناخها وكأن جدرانها قد أُزيحت مِن مكانها العادي وَوُضِعتْ بِضعة أمتار أبعد مما كانت عليه، لتوسيعها وتجميلها وتفخيمها. وكأن الطّاهر الغمري قام بهذه التّغيرات الجذرية وأشرف عليها رغبة منه في أن يكون له مكان مناسب لاستقلال سالمة وقد أفزعه غيابها، فقرر أن يُرتب البيت بطريقة محكمة فَيُبَوِّب ذِهنه بكيفية دقيقة ويتجنب إذاك بينه وبينها كُلّ الحزازات وسوء التّفاهم، تأهباً منه للتّراجع تدريجياً وبِكُلِّ أناة في ما صدمها به في تحديد التّاريخ.. وعاد إلى كتاباته بعد أن فرغ مِن قلب الأوضاع وتغيير المجاري العادية للأمور.. وهو ينظر مِن حين إلى آخر إلى الصُّورة المُعلقة على الحائط نظرة تعبِّر عن عرفان بالجميل نهائي وغير مشروط وأبدي وكأنه يُطالب رفاقه الذين ماتوا كُلّهُم أن يغفروا له زلّته وهو يعترف الآن وقد عاد إلى حاله الطبيعي وبدأ يمحو الذِّكريات المحمومة، أن الكلام تجاوز مفهومه للتّاريخ (التّاريخ لا يصنعه أحد، إنه كالعُشُب لا نراه ينبت ساعة ينبت..) بل وإعادة النّظر أيضاً في أجزاء حياته وتفاصيل معاشه وكيفية عزلته. وهو يعلم أن عليه الآن ترميم الأحداث مِن جديد وأن يُشكلها بطريقة أخرى وأن يتصورها ببرودة دمّ وأن ينفض عنه غبار الموت والانتحار والزّولان والخوف وأن يستخلص مِن كوابيس الدّم والأمعاء والمجاري المسدودة بروث التّاريخ وأزبال البشرية وجنون الإنسانية. فهم حتمية مراجعة كُلّ النّتائج التي توصل إليها واستعمال تلك القُدرة الخارقة التي يمتلكها الإنسان على النّسيان وقد تعنّت منذ هروبه عبر الجبال والأودية والفيافي والقُرى وحتّى المُدن وقد علم أنه حُكِم عليه بالموتِ ذبحاً لأنه يعتزّ بعقيدته فالّتزم النّزاهة مع نفسه، فاعتزم على الرّفض والحقد والتّمرد ليس فقط على مَن خانوا ثقته والعشرة والمصير المشترك بل وعلى شقاء الإنسان عامة وعلى تلك الحتمية الكريهة التي تَفرِض عليه أن يُمارس الشّرّ فينتقم ويحقد.) ص 216. ص 217. ص 218. (قرر أن يترك على الهامش مشكل تحديد التّاريخ، حتى يُناقشها في الأمر بتعقلٍ وسكينة، ثُم يتخذ قراراً نهائياً بالنِّسبة لهذه المسألة التي أصبحت رُمانة الشِّقاق بينه وبينها ويحدث أن كُلّ ما في الأمر أنه مجرد سوء تفاهم وكيفية طرح المشاكل وإشكال لِساني لا أكثر ولا أقل.. ويتساءل وهو يكتب عن الأسباب التي تضغط على المرء فتجبره على الكتابة وعلى سرد الأحداث وعلى التّكلم لنفسه وللنّاس عن مسائل تكاد تكون تافهة خاصة وأنها لا تهم في الحقيقة أحداً، ولكنها ضرورية يفتقر إليها كُلّ مجتمع بحيث أنه ما لم تتوفر له فَقَدَ شخصيته وجذوره معها.. يتساءل ويُحاول تركيب الأحداث مِن جديد (كُلّ الأحداث التي عاشها منذ شهر ماي 1945) ويحاول العثور على معادلات لفظية تواكبها وتعبِّر عنها بوضوح ورزانة وأوزار، وهو لا يرضى أن يترك ما فعله مدة خمسة وثلاثين عاماً ولو أثراً بسيطاً ويموت هكذا كما ينفذ الحلم في النّوم ويهترئ في اليقظة، ينساه المرء ولا يتذكر منه متى يذكر إلاّ القليل القليل..) ص 219. (لكنه.. لم يتراجع بِصفة نهائية عن فكرته حول التّاريخ، إنما يترك الباب مفتوحاً للنِّقاش والإمكانيات حُبلى بالافتراضات والمفاهيم محشوة بالتّفاصيل. ) ص 220. (هل يستقيم العود والظِّلُّ أعوج؟ لا. طبعاً لا.. لكن التّاريخ يصنعه الرِّجال بعملهم وكدِّهم ونضالهم ودمائهم وأعمالهم وأيديهم.. وإلاّ فاستقامة الظِّلِّ تُصبح قهرية وحتمية ويستقيم العود إذاك ويُصبح الخطُّ باستقامته واضحاً. فأين الوضوح ونحن نرى الشُّعوب المقهورة تمشي وتتحسس طريقها بعصيها البيضاء، على غير هُدى، فلا تعرف أين الخطّ الواصل وأين وضوحه؟) ص 229.

وها هي سالمة (تعود في يومٍ مِن الأيام إلى الطّاهر الغمري فتجدهُ ميتاً ومضرجاً بدمه الذي تقيأه مِن فمه وقد تهرأت رئتاه نهائياً. لقد كان يعلم هو بذلك وأبى أن يُعالجه أحد بعد أن عالجه الحكيم فلا يريد طبيباً غيره يُعالجه.. ولكن ما الحيلة وقد مات الحكيم منذ زمنٍ طويل كما مات بوعلي طالب وسيد أحمد ومليون شخص آخر..) ص 265. (تأتي – سالمة - فتجده سابحاً في دمه.. ((مات عم الطّاهر)).. مات وترك لها يومياته وليلياته.. وها هي الآن مكبة عليها تقرأها وتعيد قرأتها. وترك لها.. وترك لها.. وترك لها ذكرياته التي تَمُت كُلّها إلى الصِّراع القائم بين الفقراء والأغنياء، بين المُستَغِلين والمُستَغَلين..) ص 267. (وقَبِلَ بالتوصل معها إلى حلٍّ وسط حول تحديد التّاريخ وكثيراً ما كان قد صدمها بتصريحاته الاستفزازية يوم كان يذهب إلى أن التّاريخ لا يُصنع بل أنه كالطُّحلب لا ينبته أحد.. وقد كان يغضب مِن رفضها ومِن عدم موافقتها أقواله فكان يعتمد المُغالاة في الرّأي فيذهب إلى أن التّاريخ مخرأة..) ص 268. (ويموت عم الطّاهر ويترك لها يومياته ولا يوصيها بشيء ولا يترك لها أية وصية..) ص 268. (لقد عاش وكأن حياته كُلّها ما كانت سوى هذه الأوراق المتراكمة التي قضى في كتابتها الليالي تلو الأخرى، محاولاً حشو فجوة التّاريخ الهائلة وذلك ليس بقطن الصّمت وسبيخ النّسيان وصوف الخفية وكتان الكذب والتّزوير، بل بفيض من الجرأة ومن تفاصيل الأمواج المتعاقبة فتكون أنهاراً وبحاراً وطوفاناً ويتّضح هكذا التّاريخ على ما فيه مِن شحنة الرُّموز والألغاز المتراكمة بين طياتها، وتبقى الأسئلة مطروحة ونقاط الاستفهام قائمة تجرح الورق وتحرقه.) ص 269. (ألم يلعب هذا الرّجُل في حياتها دور الأب والعشيق والرّائد والثّوري ذاك الذي أبى أن يخون قضية وأن يجحد بصديق، فترك نفسه يتآكله سرطان السُّلّ وفاءً منه للحكيم الذي عالجه في أيامه وينال منه الموت وقد كان وفياً للأفكار التي كان يحملها في صدره فلم يرض التّراجع عنها.) ص 273. تلك كانت النِّهاية وهكذا كان الأمر.

* نقاط على هامش قراءة رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة:

- تشير الرِّواية إلى صراع الأجيال، يتجسد ذلك في الاختلاف الجذري في مفهوم التّاريخ بين سالمة التي تمثل جيل الاستقلال والطّاهر الغمري الذي يمثل جيل الثّورة وما قبل الثّورة في الجزائر. الطّاهر الغمري الذي يؤمن بنظرية الصُّدفة في التّاريخ، وبأن التّاريخ يصنع نفسه بنفسه دون تدخل يد الإنسان فيه. بينما سالمة تؤمن بأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه.

- تمتاز رواية (التّفكك) بأنّها رواية إيديولوجية بامتياز، إذ تظهر فيها إيديولوجية الكاتب رشيد بوجدرة التي تتجذر في جسد النّص تطغى على المتن. فالفكر الأيديولوجي للكاتب يتضح عبر (التّفكك) كصراع واضح بين الرّأسمالية والبرجوازية من جهة والشُّيوعية من جهة أخرى فالطّاهر الغمري يحتاط من سالمة ويظن (أنها من البرجوازية الصّغيرة، الصّغيرة، الصّغيرة، لكن أعلم أنها قصرية الرّأسمالية.) ص 116. بل وتتعمق هذه النّظرة الإيديولوجية بشكل لافت تجاه الدِّين من خلال صورة الطّاهر الغمري حين كان معلماً للقرآن. فكثيراً ما ترددت الآيات القرآنية بشكل أو بآخر لكن بما يوحي بالاستهزاء وخاصة سورة المسد. فالرِّواية تكشف عن نظرة غير موضوعية للدِّين، فتكتفي بطرح الشّخصية الدِّينية كنموذج متواطئ، ولا تقدم صورة مقابلة تطرح بديلاً إيجابياً يمكن تقبله أو الرِّضى عنه. والواضح كذلك أن الكاتب له موقف سلبي تجاه الأصولية (الشّعب بلا طليعة لا شيء والطّليعة بلا شعب صفر مثقوب.) ص 189. (هل هذا رمز الأصولية؟ الشّعب بلا طليعة.. الأصولية ضربت أطنابها وتوغلت فينا وحتى الفقراء يظنُّون أن لهم قسمة ونصيباً فيها.) ص 190.

إن الوظيفة الإيديولوجية هي السِّمة التي تطغى على عمل الرَّاوي في (التّفكك) خاصة فيما له علاقة بالمعتقد من خلال توظيف بعض الرُّموز الدِّينية بشكل يقترب من التّهكم (أين الطّليعة وأين الشّعب؟ لا جسر بينهما بل هناك هاوية. الإقطاع العربي الإسلامي كان خلاقاً مبدعاً، مغامراً، متاجراً، أما الآن فأصبح حذراً، لا يوظف أمواله إلاّ فيما لا يُغني، ويترك للدولة الأوزار الأخرى. قتلتنا المقاولة والمقاولون والدّجالة والدّجالون.. أين الشّعب وأين الطّليعة؟ الحزب ليس في المستوى والمرحلة دقيقة. هرع النّاس إلى المساجد وسئموا الوقوف أمام دكاكين التّهريب وحوانيت السّلب وأروقة الزُّور والغِشّ. الطّليعة ليست في المستوى.) ص 191. وفي مقطع واضح يحمل دلالة إيديولوجية تجاه الدِّين بتهكم: (غصّت المساجد بالتّائهين في القرن العشرين. وأُمورنا تُدبر بعيداً عنا ونحن هزلى وصدورنا ضيّقة ومسلولة. أصواتنا بحة رهيفة لا يسمعها أحد ولم تفلح إلاّ في تشييد المآذن على شكل صواريخ تفتقر للطّاقة النّووية لتقلع نحو القمر والنّجوم والكواكب.) ص 191.

- رواية (التّفكك) تقوم على وجود شخصيتين بطلتين هما الطّاهر الغمري وسالمة، فكلاهما كشف عن حقيقته، وكلاهما جرى الكلام عنه ورويت قصته. لقد كانت شخصية الطّاهر الغمري وسالمة الصّوتان المسموعان في رواية (التّفكك) وتكشفت لنا تدريجياً بمرور الحوادث والأحداث أما باقي الشّخصيات المذكورة في الرِّواية فكانت ثابتة لم تقدم الكثير للرواية. لقد استخدم رشيد بوجدرة الأسلوب الحُرّ المباشر في روايته التّفكك ليمنح شخصياته حرّية التّعبير والإفصاح عما في داخلها.

- جاء إختيار رشيد بوجدرة لأسماء بطلي روايته (التّفكك) (الطّاهر الغمري وسالمة) يحمل رمزية ودلالة تأويلية، فـ (الطّاهر) رمز لطُهر الرّجُل الذي قاتل الاستعمار الفرنسي، وعدم انغماسه في مكاسب ما بعد الثّورة كثمنٍ لنضاله وكفاحه لتحرير الجزائر مثلما قد فعل الكثير من المجاهدين الذين حازوا امتيازات مادية ومالية ونفعية ميّزتهم عن بقية المواطنين البُسطاء. و(الغُمري) في الجزائر هو اسم ذكر الحَمَام الذي يعيش في أعالي الأشجار قرب الماء - كحال بطل الرِّواية الذي يعيش في أعالي العاصمة قرب الميناء - والذي يُحلِّق عالياً مرتحلاً في الأجواء - كما كان الحال مع البطل - ليستقطب أُنثاه المميزة دون غيرها من الحَمَائِم. وكأن الكاتب يريد أن يرسل بمعنى يخص بطله ويُمكن إسقاطه على من هم أمثاله في الجزائر المستقلة، وهو أنه لن تكون طاهراً إلاّ إذا حلقت عالياً فالقاع قد طمّ. أما اسم الفتاة (سالمة) ففيه دلالة ورمزية على السِّلم والمُسَالِمَة التي يمكنها التّعايش والمعايشة مع أفراد عائلتها ومحيطها رغم اختلاف طباعهم ومشاربهم وأفكارهم وحيواتهم. كما أن اسم (سالمة) فيه إشارة رمزية إلى الجزائر المُستقلة الرّاغبة في التّعايش مع محيطها الإقليمي والدُّولي في سِلم وسلام.

- تقوم رواية (التّفكك) على المونولوج الدّاخلي في غياب حوار صريح وواضح بين شّخصياتها. حيث يتقمص الكاتب وعي الشّخصيات بأسلوب المونولوج المروي، ويعرضه بضمير الغائب دون أن يقطع الخيط السّردي، وفيه يتوارى زمن القصة وزمن الكتابة وهو يقترب من أسلوب المونولوج الدَّاخلي، حيث تقدم الشّخصية وعيها بنفسها لحظة بلحظة بحيث لا يشعر القارئ بالرَّاوي.

- سلك رشيد بوجدرة مسلكاً مختلفاً في الإبداع السّردي إشارته الأولى الكتابة دون حدود خارج سلطة الرّقابة  الفنية والسِّياسية والدِّينية. فهو يحاور في جرأة كبيرة كل المحرمات والمقدسات التي كرستها الكتابة المنحنية. فرواية (التّفكك)غارقة في اللامسموح به في) الجنس والدِّين والسِّياسة(.

- الكتابة السّردية عند رشيد بوجدرة تتميز بأنها كتابة عقوق وانحراف عن الطُّرق المعهودة، فهي كتابة تمرد على تاريخ الكتابة العربية إنها كتابة السُّفلي (الجسد) لكشف العلوي (الفكر). إن التّعامل مع كتابات رشيد بوجدرة مخاطرة لأنه يقدم أساليب قد لا تتلاءم مع ذائقة القارئ العربي الذي ظلّ إلى وقت قريب سجين نمط كتابي معين.

- تتكون رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة من الحكايات الدّائرية اللّولبية التي تخلق عند القارئ في تطورها ودورانها الذّاتي انطباعاً بكابوسية الانزلاق والانغماس والغرق في خثارة البطل وشقائه.

- من أهم ما ركزت عليه رواية (التّفكك) في جل فصولها هو عنصر تكسير خطية السّرد، إن قارئ هذه الرِّواية يحسّ بالخلط والتِّكرار واللّف والدّوران في نقطة واحدة أو العودة فجأة إلى نقطة انطلاق سبق الإشارة إليها. يقول الرَّاوي على لسان سالمة: (اسمع، يمكن البدء بالحكاية انطلاقاً من الوسط أو من النهاية ثم الانتهاء، منها انطلاقاً من أولها وهكذا كل الطُّرق تؤدي إلى عمق الواقع والكتابة.) ص 109.

- يعتمد البناء الزّمني في رواية (التفكك) على الدّيمومة باعتبارها زمناً نفسياً وتياراً متدفقاً يكشف عن أعماق الشّخصية من الدّاخل. كما أن اعتمادها على الذّاكرة يجعل الماضي فيها يظهر غير منتظم وغير مرتب. وهذا ما يعرف بالبناء المتشظي للزمن، حيث يفقد المتلقي القدرة على جمع خيوط النّص أثناء القراءة، وربما يحتاج إلى قراءة ثانية تجعله قادراً على استجماع هذه الخيوط ونسجها. تقول سالمة: (جاءتني تلك الأيام والأسابيع التي إذا قستها بالثّواني والدّقائق وتعاقبها المطرد، كانت تومض لي بهشاشة العالم ولوعته، فبدأت أشعر أن الأيام السّابقة التهمت نصف حياتي وأضافت ألف عام على قدر عمري إلى حياتي، لقد أصبح كل موقف تحدياً وكل ساعة محنة، كل يوم أصبح قرحاً.) ص 177.

- يبدو أن الكاتب رشيد بوجدرة في رواية (التّفكك) يريد الكشف عن بعض الأمور التي جرت أثناء الثّورة التّحريرية خاصة التّصفيات الجسدية التي لاحقت حتى  بعض من صعد الجبال لأجل تحرير البلاد، يخاطب الطّاهر الغمري سالمة (دعيني وخرافاتك وموت أخيك وهلوسة عمتك فاطمة ودروشة أبيك وزواج أخواتك وورشة الخياطة وموقف حميد بالنسبة للإشاعات التي يتناقلها الحي حول حياتك الشّخصية وموسيقى ماهلر وأغاني المواخير.. دعيني.. أقول أنهم ذبحوا الكثير منا وخططوا لاغتيال.. فهربت.. لا أُصدق.. إلى يومنا هذا لا أُريد أن أثق في أحد.. ) ص 186. كما ينتقد الظّواهر الجديدة التي طفت على سطح البلاد بعد الاستقلال من أثرياء الثّورة (لقد راح أثرياء الثّورة يُخزنون ثرواتهم داخل صوف المطارح التي ينامون عليها ويحتالون ويتضخمون. جُعنا طويلاً والآن قتلتنا التُّخمة والسُّكر والمذلّة.) ص 190.

- تواتر تكراري للعبارة اللازمة (هل يستقيم الظِلّ والعود أعوج) في العديد من صفحات رواية (التّفكك) يعطيها بُعداً رمزياً يتجه تأويله إلى كُلِّ ما يتعلق بالثّورة وما بعد الثّورة.

- في (التّفكك) نجد رشيد بوجدرة يعتني باللّفظة التي تؤدي وظيفتها في السِّياق الرِّوائي داخل الفضاء الزّماني والمكاني، وهذا ما يُعطي لخطابه السَّردي متانة فنّية. فهو يمتاز بثروة أسلوبية ولغوية في كتاباته، حيث نجد الجمل تمتاز بمعجمها الفصيح. كما أن رشيد بوجدرة لا يكتب للقارئ العادي بل يكتب للنُّخبة والقارئ الذي يبذل جهداً في عملية القراءة لهذا فهو يستعين بلغة حوشية مليئة بالألفاظ الغريبة القليلة التّداول في الأدب الحديث.

- ما لم يعجبني في رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة، هو استعماله لبعض الألفاظ القبيحة الفاحشة التي يتعفف القارئ عن سماعها أو قرأتها. أنا شخصياً أضطر إلى استعمال القلم الأسود لمحوي كلمات الفُحش في الرواية.

* اقتباسات من رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة:

- (سوقي كسدت منذ زمن طويل وأنا لا أعلم أن العالم تغير. لم أتغير. أنا الوتد الثّابت.. العالم تغير وامتلأ بضوضاء العظام البشرية تتبعه أينما ذهب وأينما صد.) ص 75.

- (دهاليز التّاريخ وأروقته الحالكة دهاليز لا حدّ لها ولا منطق والتّاريخ يدور ولم ينته بعد من الدّوران يدور حول معطياته نفسها التي لا تتغير.) ص 88.

-  (التّاريخ ليس مادة آلية ركبت على مبادئ عالية رسامية فقط بل هو يهتم أيضاً بالأشياء التي تظهر تافهة.. هذا هو التّاريخ.. بلا زخرفة ولا تأمثل ولا تجميل.) ص 94.

- (لقد جرفت البلاد تلك الغزوة التي كانت قد تمت ذات صباح 1830 فتجعل من البلاد منفىً رهيباً سوف يحفل بالجرائم والمجازر والتّخريبات والحرائق والتّجويع والتّقتيل والتّمسيخ على أنواعها فيسجل فيه أصحاب تلك الغزوة جميع الأسباب التّاريخية والقوانين العلمية التي كان لا بُد منها لتغيير وجه البلاد ومحو ذاكرتها وخصي شخصيتها.) ص 101.

- (هل التّاريخ عبارة عن خرقة تستخدم لتشرب هدر حيض الإنسانية وهذيانها؟ أليس التّاريخ شيئاً آخر لا يمكن تحديده بدقة وانضباط وصرامة.) ص 103.

- (الكِتابة عبارة عن آنية مستطرفة.. كُلّ جزءٍ يصب في الآخر حتى يملأ العَالَمَ بِضجةٍ لا مثيل لها، الكِتابة تفتح كُلّ الأبواب لذا تكتب.) ص 109.

- (يا لرهبة الصّمت ويا لصريف القلم وهو يخدش الورق فيخيل إليه وكأنه يكتب بريشة حديدية، صريف القلم هو أحمل موسيقى يعرفها، والكِتابة سياج مطاطي يلولب العزلة ويقولبها حسب حسب الوتيرة التي يختارها.) ص 136.

- (العَلَم ليس بخُرقة وإنما رمز يُمكن فكّه وحله والبحث عما وراءه.) ص 159.

- (والآن. تضخمت المدن وكادت تموت تحت شحمتها وسمنتها والأرض المخضبة بالدِّماء لا تستغل كما يجب وتنبت المساجد كالفطور ويزنى في الدِّين وتكتظ الشّوارع بالانتهازيين وتكثر الرّشوة..) ص 160.

- (التّاريخ قاطرة خارقة للزمن والفضاء، التّاريخ يُصنع بالدّم والوحل.. لكنه يُصنع، الإنسان يصنعه والمجموعات والأمم والشُّعوب تُصنفه.) ص 165.

- (قالوا لا بطل غير الشّعب.. كل ذلك استفزاز. دعاية. تصفية حسابات وخوف من الموتى. الشّعب بلا طليعة لا شيء هذه هي الحقيقة..) ص 178.

- (والتّاريخ يشهد أننا رجعنا إلى الوراء حضرياً. تقهقرنا ولم نتبع لا الكتب القديمة ولا الكلمات الرّثّة ولا الأفكار المسبقة ولا حتى أحذيتنا المثقوبة. لم يبق لنا إلاّ العنتريات وحتى الرّباب مات، قتلته الطّقطوقة الشّرقية والغربية. لا بد من نكش التّاريخ من جذوره..) ص 180.

- (غابت الشّمس منذ أيام وألعق أنا شعور الوحدة وما زال أخي الميت واقفاً على أجفاني وكأنه على عتبة الدّار وشعره أسيل وقد صقله المطر وفي عينيه مياه الموت الرّاكدة تعوم والصُّداع لا يُفارقني..) ص 181.

- (في كُلِّ مكانٍ يفتقر التّاريخ إلى الوضوح والظِّلُّ لا يكفي ليحفظ الأحياء من تُجار الموت وطحلب العتمة والظُّلمات.) ص 182.

- (الشّعب بلا طليعة لا شيء والطّليعة بلا شعب صفر مثقوب.) ص 189.

- (لقد راح أثرياء الثّورة يُخزنون ثرواتهم داخل صوف المطارح التي ينامون عليها ويحتالون ويتضخمون. جُعنا طويلاً والآن قتلتنا التُّخمة والسُّكر والمذلّة.) ص 190.

- (لا الشّعب بطل ولا الطّليعة بطلة ولا رجُل واحد يقدر وحده على قلب الأوضاع واقتحام الواقع. هذا الجيل يفقد صبره بسرعة والتّاريخ لا يُعد بالأعوام ولا بالقرون. الإنسانية كُلّها مازالت تحبو، فما بالك بِنا؟ تنقصنا الجرأة وينقصنا الذّكاء وينقصنا الخيال وتنقصنا النّزاهة.) ص 191.

- (السِّياسة نوع من المخدر لا يمكن لمن يمارسها عن نزاهة وإخلاص من تركها هكذا.. يمكنه التّخلي عنها مدة زمنية بسبب أزمة شخصية أو استيلاء ذاتي أو حتى معطيات موضوعية أخرى..) ص 196.

- (اللغة اقتصاد وسياسة. كلّ طبقة تصنف اللغات حسب مصالحها.) ص 197.

- (العنجهية يُمكن تحديدها في إصرار المرء على متابعة وحي الموهبة وغموضها مهما كلفه ذلك من عناء ومشقة.) ص 203.

- (كأن أمه كانت بالمرصاد وراء الباب، تتجسس أنفاسه وشخيره، وفور توقفها، هرعت إليه حاملة طبق الفطور مرصعاً بفنجان القهوة تُضيف إليها حباتٌ قليلة من القرنفل وصحناً فيه فطائر تسبح في عسل الأمومة والحنان، وكأن رائحة القرنفل تزيد بهجة الصّباح عُمقاً وشفافية فيحتسي وهو يشرب القهوة بها الكون كله ورونقه وسطوعه وسناه، فيقبِّل أُمه تقبيلاً شيقاً ويُداعبها ويمازحها ويمرر يده تحت ذقنها حيث البشرة رخوة وطرية وقطيفية النسيج) ص 205.

- (رفضاً من الجنين أن يقطع صِلة الرّحم فيُلفظ هكذا في الفضاء البشري فيتيه على وجه الأرض ويكبر ويشيخ ويموت فيما تروح المشاكل الحياتية والعائلية والاقتصادية تلاحقه حتى فراش الموت، وأوقات القلق والسَّأم والغثيان، تُطارده حتّى سرير الاحتضار والغيبوبة العضوية، وقد علم - قبل خروجه من دهليز أمه الدَّافئ الفاتر الطّري الهشّ - أن حياته سوف تكون لا محالة ومَهما فعل وما قام به من أعمال جدِّية وثرية ومبدعة وبطولية، فشلاً ذريعاً، كَكُلِّ حياة وكُلِّ ممات.) ص 206.

- (عندها نزعة تيمية بالورق وبكُلِّ ما هو مصنوع منه.) ص 207.

- (الشّاعر – والقُرآن يشهد على ذلك – هو الشّخص الذي لا يملك البراءة فقط بل ويُمارسها تلقائياً وفي حياته اليومية، فهو رجُلُ التّجلي، لأنه قادرٌ على استعمال وعيِّه ووضوحه وتعبئة كُلّ طاقاه الإبداعية في ملاحقة القضاء والقدر وحتمية التّاريخ عبر فيافي المخيلة، وهو يشعر بأنه قادرٌ على الخلق لأنه يعلم علم الحدس واليقين أنه غير قادر على ترويض وتليين حوافي العالم وحواشي الكون وتخوم الأشياء.) ص 211.

- (يتساءل عن معنى الكتابة ومغزاها وعن أهدافها وواعزها وسببيتها ومبرراتها فيقول في قرارة نفسه: لعلّ الأحداث والوقائع والحوادث تأخذ في الوجود بطريقة ذاتية ومستقلّة عمّن يعيشونها وما أن تُصنف في قالب الكلمات وتبوب في إطار الجمل وتصاغ في لحمة الأسلوب والاستطراد والبنية الكلامية والهيكلة اللسانية.. حتى تسلك طريقها بنفسها فلا تحتاج وقد رصفت كلمة كلمة، وسطراً سطراً، ودونتْ كُتُباً كُتُباً، إلى شهادة شاهد عامة ولا إلى شهادته.. فتستغني هكذا عن كُلِّ مساندة بشرية ودعامة إنسانية وكُلّ المشاحب مهما كانت نوعيتها ومهما كان مصدرها..) ص 220.

- (للتاريخ مجرى وتياراً جارفاً، يهزُّ الطّبقات كُلّها عند الإعصار ويُحطم الحواجز كُلّها عند الحاجة وعند الضّرورة.) ص 220.

- (الكتابة بإمكانها تصريف الخوف البشري وتفريغ الأفكار الثّابتة المتراكمة في جُبِّ كُلِّ إنسان.) ص 221.

- (هل يستقيم الظِّل والعود أعوج؟ لا، طبعاً لا.. لكن التّاريخ يصنعه الرِّجال بعملهم وكدهم ونضالهم ودمائهم وأعمالهم وأيديهم.. وإلاّ فاستقامة الظِّل تصبح قهرية وحتمية ويستقيم العود إذاك ويُصبح الخط باستقامته واضحاً، فأين الوضوح ونحن نرى الشُّعوب المقهورة تمشي وتتحسس طريقها بعصيها البيضاء على غير هدى، فلا تعرف أين الخط الواصل وأين وضوحه؟.) ص 229.

- (هل الأشخاص يصنعون التّاريخ بأيديهم أم هو التّاريخ يصنع الأشخاص بحذافيرهم؟ فالمسألة لا تتعلق بإشكالية فلسفية بل الأمر منوط بالمصير الحياتي..) ص 230.

- (الفقير يُصوت بفخرٍ واعتزاز يوم الانتخابات، اعتقاداً منه أنه أن له دوراً يلعبه ولو مرة.. ولا يتركه يفلت من يديه وهو يعلم علم اليقين أن الانتخابات في وطنه لا تتجاوز الشّكليات وهي مجرد تمظهر بالدِّيمقراطية.. هنا نجد التّاريخ.. وكل الشُّعوب في هذا الميدان سواسية.. إن التّاريخ لا يُصنع وكالحزاز لا نراه ينمو.. التّاريخ مبني على تناقض أساسي. لا نفهمه إلاّ بعد مروره.. ولا يمكن استيعابه على الفور..) ص 232.

- (ماذا يفعل المعذبون؟ إنهم بأمس الحاجة إلى الطّليعة. وهيهات أن تعرف الطّليعة الفقر أو الجوع.. في الأمر أيضاً تناقص فادح. ما العمل؟ وماذا يمكن للطليعة أن تعمل؟ هي بأمس الحاجة إلى من يحركها ويدعمها ويشهر السِّلاح بأيديها.. الكادحون لا يفقهون من السياسة شيئاً وإن فهموا فعن حدس مستتر في تلافيف أجسامهم الهزيلة، فيهومون على وجوههم سكارى في فجاج الأرض يسبحون في الأجواء بقوة خيالهم وفكاهتهم النّاضجة وعبقريتهم الفذّة ويأتي الزِّلزال..) ص 233.

- (التّاريخ مزيج من الصّدفة والإرادة البشرية.) ص 234.

- (ولا أحد يعرف أين المفتاح وحتى لا يعرف أين الباب.. كلنا مسؤول عن هذه الحالة وحتى الأموات مسؤولون.. هل من محاسبة تجري للأموات يوماً؟ لنفتح ملف التّاريخ والتّواريخ كُلّها متشابهة بطبيعة الحال. مسكين المثقف في بلادنا ومسكين الواعي.. يتلوع ويعجز هو أيضاً بدوره. أين البوصلة؟ أين الخرائط البحرية؟ أين المناخاتّ؟ أين الرُّزنامات؟ هل نحن محكوم علينا بالضّيق مدى الأزمان..) ص 241.

- (التّاريخ هو عبارة عن سيل جارف متواصل لا يتوقف عن الدوران ولا يكف عن السَّير واللّف بل يمضي في سيلانه فيمر في أروقة العَالَم وفي دهاليز الأشخاص وتعرجاتها الدّاخلية حيث يمطر في القلوب مطراً فاتراً رزازاً.) ص 270.

- (تأتي التّجاعيد الرّخوة فتغطي وجوه أولئك الذين يدّعون بأنهم يصنعون التّاريخ فيما التّاريخ صانعهم، التّاريخ بما فيه من أحداث وحوادث وصدفة وحتميات، ناهيك عمّا في الحُكم من متاهات وما تحمل السُّلطة من إغراءات فيتعلمون مذاق العُزّلة المُرّة ووحشة الوحدة وانطواءها على نفسها مما يُغذي عنجهيتهم وما فيهم من جموح إلى العظمة والفخفخة والغطّرسة المشحونة بالجنون، وما أن يَرمِي بهم الـتّاريخ في مزابل النّسيان حتى يتسارع النّاس إليهم ولا يتورع الأعداء والأصدقاء على السّواء عن الانتقام منهم مظهرين ما كانوا عليه من علّات وعيوب وآفات ونقائص وقد كانوا في الأمس ينزلون أحكامهم تنزيلاً فتهبط كالصّاعقة من السّماء ذاهبة بكُلّ خلق ووجود.) ص 270.

- (لقد حسبوا أنفسهم - صانعوا التّاريخ أولئك – خالدين ملهمين أو مبعوثين  لبثِّ رسالة ما والمناداة بها ويذهب بهم الأمر إلى النِّهاية فيعتبرون أنفسهم من جبلة الرُّسُل وما بُعثُوا إلاّ لإنقاذ الإنسانية جمعاء فيتباهون وينتفخون ولا يجعلون لغرورهم حداً فيما يمضي التّاريخ ويقف لهم بالمرصاد يترقبهم على أرصفة المستقبل ويحطمهم شر تحطيم ويغطيهم مأموروهم بغطاء الفناء وبطبقات كثيفة من دخان النّسيان الأزرق فتكون عاقبتهم عاقبة مَن ظنُّوا أنفسهم خالدين لا أثر لموت فيهم  ولا للمرض أو الخطأ وهم عن ذلك واقون وإذا بالتّاريخ يترصدهم فيغرقهم في أوحال بولهم وغائطهم في دمهم ودموعهم. يا لها من سقطة رهيبة.. إنها سقطة من حسبوا أنفسهم على كُلِّ شيءٍ قادرين  وعلى استقامة الظِّلِّ على هواهم وكما يشاؤون عازمين يقررون وهم في الحقيقة معوجون يقررون تكييف معدن التّاريخ على هويتهم وهم إلى تحديد هويتهم مفتقرون..) ص 271.

- (قاطرة التّاريخ تخرق فيافي العقائد وتفتت الآراء وتبعثر الاعتقادات.) ص 273.

- (يرصد ما يقع تحت أنظاره من ظاهرات اجتماعية تَمُت إلى النِّساء بِصِلة، لكي يفهم من خلال ما يلاحظه في وضعية المرأة اليومية ما هي وضعية البلاد وكأن تصرفات المرأة إنما تعكس المآسي التي يعيشها الوطن على اختلاف أنواعها.) ص 279.

***

أ. السعيد بوشلالق

..............

* رشيد بوجدرة: روائي جزائري ذو توجه يساري ماركسي، يكتب باللغتين الفرنسية والعربية، ولد في عين البيضاء في 05 سبتمبر 1941. له العديد من الرِّويات، منها: ألف عام وعام من الحنين. التطليق. الإنكار. الحلزون العنيد. المرث. الرعن. معركة الزُّقاق. ضربة جزاء. تيميمون. التفكك..

 

محمد المحسن"القصيدة تكتب شاعرها" (موريس بلانشو)

“طقطقة كعب “إبحار في سراديب الذات، ومصباح في زجاجة من الأرق والألم، والقلق، والسؤال، إنّه ايغال في -الغرام النبيل-لا يملأه إلا الفضاء، وهو أيضا بحث عن دفء الرغبة في ظل سكون، وصمت، رهيبين يقلان صخب الرعشة والحلم..

تطلّ علينا هذه النفس المتشظية والهادرة من عتبة هذه القصيدة، وعتبتها عنوانها، وعنوانها يؤجج الإحساس فينا- بشوق صاخب لأب رحيم- يهجع خلف الشغاف..

إنّ صيغة عنوان هذه القراءة النقدية لقصيدة هادية آمنة مستوحاة في جوهرها ممّا تتأسّس علي تلك النصوص الشعرية من مرجعيات كتابة وأسئلة متن ومستويات كلام تُسهم مجتمعة في تشكيل الكون الشعري وتحديد المفيد من سماته الفكرية وخصائصه الجمالية.. فالذاكرة حاضرة بكثافة في تشكيل مُجمل نصوص الشاعرة التونسية هادية آمنة.. نصوص تستعيد الذاكرة أفق خلاص من حرائق الراهن، ترتحل عبرها إلى زمن ماض يبدو أرحم وأرحب.. هي ذاكرة فرد: الذات الشاعر، وهي ذاكرة جمع: مجتمعة، وهي ذاكرة الإنسان: الإنسانية فالشعر خطاب يتجاوز حدود الذات الضيّقة، ليعبّر عن هموم الجماعة قبل أن يصوغ أوجاع الإنسان في المطلق.. ويبقى الشعر رسما بالحروف والكلمات.. ينفتح على الرسم التشكيلي فيستعير بعض ألوانه وأشكاله ورؤاه الجمالية تشكيلا بصريا للكتابة الشعرية على بياض ورقة الكتابة.. بعد أن تداعت الحدود بين الفنون فتداخلت التخوم..

تتثاءب الحروف.. وتتململ الكلمات كي تتشكّل ابداعا شعريا يلامس نرجس القلب، وذلك في شكل فضاءات دالة على ما يشكل هذا العمل الشعري من عوالم إبداع.. يتقاطع فيها وَجِدُ العشق بوجَع الحصار…

تتعدد المداخل إلى النص الشعري المعاصر وتتنوع، بحكم أنّه يبقى قابلا لأكثر من صورة تأويل، ومنفتحا على أكثر من شكل احتمال للمُمكن والتوقع للكامن.. فمدار الإبداع عامة والشعر منه خاصة، بحث يسكنه الإرتحال إلى المجهول من الآفاق، والقصي من جماليات الكتابة ودلالات الفكر.. توقا لتحقيق المغايرة للسائد الشعري..

وتبدو ملامسة تخوم الكون الشعري الذي تنحته نصوص الشاعرة التونسية هادية آمنة مدعاة للتأمّل عبر عناوينها: طقطقة كعب”، بإعتبار أنّ مثل هذا العنوان قد يختزل مُجمل العلامات الدالة على أسئلة متنه الشعري وجماليات صياغتها.. فالعنوان، رغم ما يشي به-بعده المجازي-، إلاّ أنّه يُضمر كتابة دلالية تجعل منه أحد المفاتيح الأساس لفتح مغالق النّص الشعري، والكشف عمّا تبطنه من دلائل لا تخلو من علامات غموض وتعتيم، وتتوسّل به من أدوات كتابة سحرية، تبقى دوما متغيرة، ومتحوّلة من تجربة إلى أخرى، وحتى من نص إلى آخر داخل التجربة الشعرية الواحدة.. فجوهر الإبداع تجاوز ينبغي دوما أن يدرك المدى الذي لا يُدرك، للكائن من الأشكال، والراهن من أسئلة الشعر..

أما المتن الشعري الذي ترسم معالمه نصوص هذا العمل الإبداعي وتحدّد المفيد من سماته الفكرية والجمالية في آن، فإنّه يقوم على تيمتين أساسيتين تشكّلان محوري القول الشعري، وهما الوفاء للأب الراحل وعطر الأنوثة، محوران يتنوّع حضورهما داخل القصيدة، إذ تأخذ علاقتهما أشكال التوازي أو التحاور أو التقاطع.. وقد وزّعت الشاعرة-ببراعة واقتدار-قصيدتها المدهشة بينهما..

للشاعرة التونسية هادية آمنة قدرة على استبطان اللغة وتشكيلها بحيث تعطي أقصى طاقتها في الدلالة على ما تريده وكأنما قد ألينت لها العربية .. واللغة ليست صماء بكماء إلا حال استخدامها من قبل أصم أبكم أعمى فساعتها تجدها جامدة ..

وتظهر اللغة أسرارها حال الاجتماع والبناء إذ اللفظ في ذاته مجرد أداة ولا يظهر مكنونه ومعناه بغير اجتماع لذا كان اللفظ في مبني بحيث يكون لبنة من لبنات هذا البناء غيره في معجم ..

ولنرى معا مدى توفيق الشاعرة وقدرتها على جعل الحرف يبوح بمكنونه وسره بين يديها :  قول الشاعرة :  بكعبها العالي جاءته تُطقطق

بمساحيق الغواية وجهها يغرق

بالعطور الباريسية أعطافها تعبق

براءة المكر من عيونها تُدهق

قبلات الورود على خدودها تُشرق

فاتنة في حبّها الكثير يغرق

على نخبها طهر السلسبيل يُهرق

بيادر الرياحين من مجالها تعبق

حروف الأبجديّة بالكاد تنطق

حرف الراء بلكنة عسل

غاء تُطلق

ينظر إليها الزيتونيّ و يضحك

شهد فيها ضياء سناها

وهام أبوها بطلق هواها

ظرف القطط في رسم خطاها

هويدتي

أخاف عليك مجون السنون

وعبث الدنيا فأنتِ فُتون

طوّقتِ العيون وأنتِ صغيرة

فكيف الحال إن صرتِ كبيرة ؟

سكبتُ فيك من روحي شِعري

منهل للحرف في لحظة التجلّي

علقتِ خواطري أمانة

احكيها

ترانيم شوق على أهداب قصيدة

غّنيها

من الجدير –في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة، وفي تحقيق قدرتها التأثيرية، فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)، والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية، تضيف بعضا من الإيقاع، أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر، بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري، تنفر منه، وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما، وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف، فبالأصوات يستطيع الشاعر أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة، واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث، وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2)..

وإذا كان الأمر كذلك فليس بوسع الدارس أن يتجاهل ظاهرة أسلوبية لافتة ساهمت في إنجاز جمالية التجربة عند الشاعرة هادية آمنة كما ساهمت في تحديد معالم رؤاها وهذه الظاهرة هي تعويلها على المدود أو الصوائت الطوال، وهو ما يلمسه المرء في الخطاب الشعري على مستوى المفردة، وعلى مستوى التركيب، إذ تتجلى هذه الظاهرة الصوتية في هيمنة مفردات حافلات بالمدود الطوال على هذا الخطاب، وذلك من قبيل: هواها-خطاها-سناها-.. إلخ

ومن هنا، يبدو واضحا أنّ التعويل على الصوائت الطوال ظاهرة أسلوبية صبغت الخطاب الشعري عند هادية آمنة التي حمّلت هذه الصوائت عميق أحاسيسها وانفعالاتها مما يجعل خطابها في كثير من الأحيان قائما على ما يسميه جان كوهن بالكلمة الصرخة، ويذكر أنّ العلاقة وثيقة بين الصُّراخ والشعر، فالصراخ حالة هيولية من حالات الشعر، وفي ذلك يقول جان كوهن: ”الشعر يتميّز عن الصّراخ، لأنّ الصراخ يستخدم جسدنا على النحو الذي أعطتنا إيّاه الطبيعة، أما القصيدة فتستخدم اللغة، إنّ الشعر يستخدم المسند الذي تستخدمه اللغة غير الشعرية، إنّه يقول كما تقول: إنّ الأشياء كبيرة أو صغيرة…حارة أو باردة لكنّه يصنع من كلّ واحد من هذه الألفاظ الكلمة الصرخة، إنّ الشعر ذو جوهر تعجبي”(3)

على سبيل الخاتمة:

قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر، إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها، مما يشجع على المزيد من التفاعل، ومعاودة القراءة والقول، فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها..

والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:

هل لامست كلمات الشاعرة شيئا ما في دواخلنا وحركت بحور شوق لأبائنا ساكن فينا ؟ وهل هزت وتراً ما من مشاعرنا وألهبت حماسنا لأخذ زمام المبادرة لصياغة قصيدة تهدى لأب حنون كان بالأمس وسادة ريش لنا حين يداهمنا السقوط.. ؟

ويظل الجواب.. عاريا.. حافيا.. ينخر شفيف الروح..

 

محمد المحس- ناقد تونسي

.............................

الهوامش:

1-اللغة العليا ص: 116جون كوبن.. ترجمة أحمد درويش.. ط2 القاهرة 2000

2-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص: 38-ط-الإسكندرية 19903-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص: 74

3-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص: 74..

 

قصي الشيخ عسكرتمهيد: الدكتور علي القاسمي لغويّ وباحث متمرس وأديب يتعامل مع الكلمة بإحساس مرهف وخيال عميق أضف إلى ذلك كونه يجيد عدة لغات حيث اطلع من خلال الدراسة الأكاديمية على الأدبين الإنكليزي والفرنسي، واستوعب عبر المطالعة والبحث النظريات والتيارات الأوروبية الأجبية والفلسفيّة ممّا ترك ذلك أثرا إيحابيا على ماكتبه من بحوث وماصجر عنه من إبداع أدبيّ.

وكان من حسن حظّي أن أطّلع على كتابه الأخير الذي يختوي عدة قصص منها قصة <الآنسة جميلة> التي نشرها في إحدى الصحف الألترونيّة فلفتت نظري فكتبت عنها ثلاث مقالات نشرتها في الصحيفة نفسها.

والحق إنّي أدركت بعد قراءتي لقصة <الآنسة جميلة> والقصص المنشورة معها في هذا الكتاب أنّ الدكتور القاسميّ أبدع فنّا جديدا يمكن أن نطلق عليه <قصص السيرة> إلّا إني في هذا البحث لم أعالج حميع موضوعات قصص الكتاب بل تناولت جانبا منها ألا وهو موضوع الاغتراب آمل أن يدرس مجالاتها الجمالية والفكرية النقاد والأدباء ويوفوها جقها من البجث والتحليل.

تعريف الاغتراب:

الاغتراب: alienation، في اللغة الإنكليزية مشتقّ من اللغة اللاتينيّة وهو نفسه اعتمدته الفرنسية، ويعني تجريد الفرد من ممتلكاته وبيئته [i] والمعنى ذاته نجده في قاموس الهجين الدنماركي[ii] أمّا في اللغة العربيّة فالاغتراب مشتقّ من الفعل أو المصدر <غرب> ومعناه غاب وبعد[iii] أو غاب وبعد واسودّ وجهه وغمض وخفي[iv] وإذا انتقلنا من المعنى اللغوي إلى المصطلح نجد أنّ الغربة تعني اصطلاحا العجز والاستسلام والهراء وفقدان المعنى [v].

وعلى الرغم من المعنى السلبيّ الذي تتضمنه كلمة اغتراب وغربة في اللغة العربيّة إلّا أنّ هناك معنى إيجابيا ورثناه عن تراثنا الشرقي القديم بصفة عامة والعربي الإسلامي على الأخصّ، ففي الفكر الشرقيّ الروحيّ نطالع قول النبيّ يعقوب <ايّام سني غربتي مائة وثلاثون سنة قليلة وردية كانت أيام سني حياتي ولم تبلغ إلى أيام سني حياة آبائي في أيام غربتهم>[vi] إنه يحد حياة اغتراب آبائه الطويلة مدى إيجابيا لأنّ الاغتراب بنظره يحمل الإنسان بعيدا عن كدر الدنيا فيجعل حياته قريبة من الصفو والتأمّل، ولنا عبرة أيضا في التراث الإسلاميّ حيث الحديث النبوي الذي يؤكد المعنى الإيجابيّ للاغتراب <بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا طوبى للغرباء>[vii]

على وفق المفهومين السلبي والإيجابي المذكورين آنفا سندرس في الصفحات التالية مفهوم الاغتراب وفلسفته في قصص السيرة عند الأديب الدكتور علي القاسمي حسب العنوانات التالية:

1 - السرد الوصفي

2- شخصيات الاغتراب

3- الحيوانات والطيور

4 - أدوات الاغتراب

السرد

يستند السرد الاغترابي عند القاسمي إما إلى الاستناد للتاريخ بتفصيلات مهمة تنقل القارئ من لحظة الحاضر إلى الماضي فيضعنا في اللحظة التاريخية كما لو كنا نحن الذين نعيشها عبر معايشتنا لأهل ذلك الزمان في قصة الآنسة حميلة نقرأ النص الآتي الذي اقتطعناه من قصة الآنسة حميلة:مدينة شفشاون التي تُلقَّب بـ &quot;الجوهرة الزرقاء لروعة طبيعتها الجبلية الخلابة، تأسَّست سنة 1472 لإيواء مسلمي الأندلس الذين طردهم الإسبان، فحملوا شيئاً من ثقافتهم الأندلسية معهم إلى البلدان المغاربية التي لجأوا إليها. ولم يكُن أولئك اللاجئون من أصول مغاربية إسلامية فحسب، بل تعود أصول معظمهم كذلك إلى جميع أصقاع الإمبراطورية الرومانية النصرانية القديمة. وقد أسلموا إبّان الحكم الإسلامي المتسامح لإسبانيا الذي دام ما يقرب من ثمانية قرون. وعندما أمشي في أزقة شفشاون، أرى الأطفال بعيونٍ خضرٍ وزرق وشهلٍ وسودٍ وبنيةٍ وعسليةٍ، وبشعرهم الأسود والبني والبني الدافئ والأشقر والأشقر الذهبي وغيرها من الألوان. وقد تحوّلت هذه المدينة إلى قلعة لمقاومة الاستعمار الأوربي في القرن السادس عشر وما بعده. ويمتزج جمالُ أهلِها بشموخِ التحدي والإباء.

فالقاص بهذا الوصف جعلنا نعيش أجواء الماضي كأننا ضمن المجموعة التي طردها الأسبان وهو وصف دقيق استند إلى ثقافتين واسعتين ثقافة أدبية وتاريخيّة.

وهناك أيضا وصف الطبيعة الساكنة والمتحركة الذي يزيد قصص السيرة حيوية ويبعدها عن الرتابة والملل.قصة الصديقة الفرنسية:

وأخيراً وصلنا جبل سان ميشيل وهو جزيرة صغيرة تبعد حوالي كيلومتر واحد عن ساحل منطقة النورماندي في الشمال الغربي من باريس. وترتفع هذه الجزيرة التي على شكل جبل من صخور الغرانيت حوالي 80 متراً عن سطح البحر. وخلال القرون الوسطى بُني عليها ديرٌ وحديقة يعدان من روائع العمارة القروسطية. ونشأت حول الدير قرية سياحية تكثر فيها الفنادق والمطاعم.

أو أن يستند الوصف الاغترابي عنده إلى وصف المكان الحالي الذي نجده غامضا بنظرنا ولا نعرف كيف نتعامل معه وربما نتردد في التعامل معه حتى نكتشف سرّه .نقرأ في قصة ذكرى:

تردَّدتُ وهلةً قبل أَنْ أجتاز عَتبةَ الدار بِوَجَلٍ، لأُلفي نفسي في جُنينةٍ واسعة لم تُشذّب نباتاتُها منذ مدَّةٍ طويلة، فَنَمَتْ أعشابُها وتشابكتْ شجيراتُها مكوِّنةً عدَّة أجمات، فاستحال العثور على كُرتي. وأخذتُ أفتِّش عنها بين الأعشاب وخلف جذوع الأشجار بإحدى عينَيَّ، في حين ظلَّتْ عيني الأخرى ملتصقةً بالمرأة تراقبها وتُحصي حركاتها.

وفي طرفِ الجُنينة القريب من باب الدار الداخلي أُقيمتْ طاولةٌ مغطّاةٌ بغطاءٍ حريريٍّ مزخرفٍ تحيط بها أربعة كراسٍ، وعليها إبريق شاي وعددٌ من الفناجين وقالب حلوى كبير.

وجلستِ السيدة إلى المائدة، وقد صبّتْ لنفسها فنجانَ شاي، ولكنَّها لا ترتشفه، وأمامها قطعة حلوى في صحن صغير، ولكنَّها لم تأكل منها.

الوصف آنفا لحديقة امرأة تعيش وحدها في عزلة عن الناس ولم تكن هي التي اختارت العلة أو الغربة تلك بل المجتمع الذي ظنها جنية وتحاشاها لنجد فيما بعد أن الرعب الذي عشناه هو في الحقيقة وهم زرعناه في نفوسنا لأسباب متباينة منها نفسية واجتماعية وسواهما من التأويلات الأخرى.

إنّ الوصف الاغترابي في قصص السيرة عند القاسمي قد يهاجر في الزمان فيتداخل بالحاضر أو أن يتناول المكان والمكان يمكن أن يتوزّع بالشكل التالي:

1- المكان المحلي مكان ولادة الشاعر على وفق ماوصفه في إحدى قصصه لمدرسته ومعلميه وورفاقه الصغار ونهر بلدته والناس المحيطين به.

2- المكان العربي وهو العراق ولبنان وبعض الدول الىآسيوية وأوروبا وأمريكا وأفريقيا بخاصة المغرب والحق إن القاسمي سافر إلى كثير من البلدان فالتقطت عينه المتأملة الخبيرة كثيرا من المشاهد فهو رسام بالوصف نقل لنا في قصصه مشاهد عالمية كثيرة لطبيعة تلك البلدان مثل نهر السين في فرنسا وغابة بولونيا والقلاع والحصون الأثرية والمعالم الحديثة وأناس تلك البلدان وعاداتهم وتقاليدهم وطرق تعاملهم.

إنّ وصف الشاعر في قصصه يتعزز للاستناد إلى موضوع الاغتراب باختيارات دينيّة وأدبية وفلسفية منها:

أولا: الاستشهاد بالقرآن الكريم ومافيه من قصص يعززبها الكاتب أسلوبه ونفسية شخوصه:

وفي اللحظة نفسها، تمثَّلَ لي أبي وهو يفسِّر لي سورة يوسف في القرآن. يعقوب يحبّ كثيراً أصغر أولاده، يوسف. إخوة يوسف يغارون منه، لأنهّ يحرمهم من حبّ أبيهم، أو هكذا يتوهّمون. يتآمرون على يوسف. يأخذونه معهم إلى البادية للَّعب، على الرغم من اعتراض أبيهم. يذهبون به بعيداً عن القرية. يلقونه في بئرٍ للتخلُّص منه.

إذن سيتأكَّد لأبي أنَّني أغرقتُ أخي حسن عمداً. قد لا يفعل شيئاً، تماماً مثل يعقوب. ولكنَّ قلبه سيظلُّ حزيناً مكلوماً، ولا مكان لي فيه.

ثانيا: الاستناد إلى الشعر العربي القديم والحديث:

قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا

وهو في هذا الموضع يبين منزلة المعلم عند التلاميذ والمحتمع في ذلك الزمان.

ثالثا: الاقتباس من النصوص الإنكليزية أو الفرنسية ليجعلنا نعيش أجواءها من خلال ترجمته القصة رقم 8 أستاذتي الدكتورة سيرين ديلي:

في مجرى الذكريات، وقفَ أخي ينتظرني، ويداهُ مملوءتانِ بالتوت:

أختاه! هذه حبّاتُ جسدي، خُذيها وكُليها!"

رابعا: الهوامش التي يستعين بها الكاتب لتوضيح فكرة أو استطراد أو استدراك وهو أسلوب تستخدمه القصة والرواية الحديثة واستخدمته في روايتي التوثيقية قصة عائلة فنحن نحتاح الهوامش حين ناحدث عن وقائع وتواريخ مما يضفي على القصص أو الرواية بعدا فنيا وجماليا مؤثرين.

خامسا: إيراد بعض المصطلحات والعبارات الأحنبية كما هي في لغتها الأصلية وبالحرف اللاتيني إما لانتفاء معادل عربي لها أو قصد أن يحعلنا الكاتب نعيش أجواء قصصه وعوالمها.

سادسا: الحكمة والأمثال مثل المثل المشهور : لِكلِّ فتاةٍ خاطبٌ، ولِكلِ مرعى طالبٌ".[viii]

وكلّ ذلك جاء بإطار عبرت عنه الألوان فاكتمل بها، ولو تتبعنا قضية السرد المذكورة آنفا لوجدنا أنها اتخذت بعدا فلسفيا في الاغتراب بشقيه السلبي والإيجابي لأن الالوان تحمل مدلولات عالمية وفق ثقافات الشعوب وأديانها فقد أصبحت الالوان شعارا للأجناس وفق رأي دارون[ix] حسب الألوان:

الأبيض: رمز السلام باقة ورد من الطلاب بيضاء للأستاذة المهاحرة إلى لبنان قصة رقم 8 أستاذتي الدكتورة.

الأبيض للنقاء والزينة بنت الحيران التي كانت ترتدي فستانا أبيض قصة وفاء، وقصة غزال يستجير بفلاح رقم 5 مرتجيا ثوبه الأبيض.

العنف: السلاح الأبيض قصة الجرس الأول.

السواج: الحزن والكآبة:

اصطدم بصري بحسم متلفع بالسواد قصة الذكرى رقم3

الشؤم: سرب من البط البري تتقدمه بطة كبيرة قاتمة اللون كالبجعة السوداء[x]

الازرق: قصة رقم 8

باقة ورد من عصافير الجنة الزرقاء التي ترمز إلى الفرح.

الأصفر: الخوف

قصة السباح أصبح وجهي أكثر اصفرارا.

ولا نفغل أيضا ورود الألوان في وصف الطبيعة وحمال الآثار التي حفلت بها قصصه وحاءت ضمن الوصف في السرد في مواضع كثيرة.

الشخصية المغتربة

تعبّر عن شخصية البطل في قصص السيرة عند القاسميّ الضمائر التالية:

ضمير المتكلم: الأنا

الغائب: هو هي

التداخل بين ضمير المتكلم والغائب.

أن تكون أنت القاص عن نفسك سواء في قصص السيرة أم غيرها يعني أن عينك تراقب وتدور وأنك تصبح حرا من قيود الصنعة والمباشر إن القص بضمير الأنا يعطيك مساحة أكبر في التعبير عن نفسك ومساحة أوسع في الوصف والشمولية، وابطال قصص القاسمي في ضمير الأنا ينضوون على وفق القائمة الآتية:

أبطال أطفال صغار أو صبيان

أبطال كبار مثل البطل الحامعي أو الموظف.

في الأبطال الصغار نجد المؤلف يتحدث في بعض القصص عن طفولته فيرسم صورة ناصعة لبطل مغترب إيحابي صغير بطل يتغلب على الخوف الذي اختلقه المحتمع وعاش فيه فلم يجرؤ أحد من الكبار على اقتحامه أما البطل الصغير <الأنا> فيصبح مكتشفا ينهي عقدة المحتمع تلك كأنه يقول لنا نحن حيل المستقبل نحن أصحاب العلم والمعرفة ونحن المكتشفون.إنّ الطفل البطل في القصة هو تجديد لحياة المجتمع وتصجيج لمعتقداته فقد فكّ حلقة العزلة عن امرأة ظلمها المجتمع الذي يظنها ساجرة أو حنية بينما تعيش هي على ذكريات الماضي وصور تختفظ بها لأحبة فقدتهز.إنها تعيش اغترابا سلبيا واقتحام الطفل لبيتها بصورة جريئة على وفق القانون كونه طرق الباب بصبر بعد أن نفد صبره ولم يحاول أن يقفز أو يتسلل إلى البيت فقد دخل عالما جديدا بحياة اغترابية إيجابية حصل منها على معرفة جديدة.البطل بضمير الأنا يصف ما اكتشفه في قصة الذكرى:

ووضعتْ يدَها على رأسي برفق، وقبّلتْ وجنتي بحنان، وأَوصدتْ الباب خلفي في تُؤدة.

وفي الزقاق، شاهدني أَحدُ الرفاق من الأطفال، وأنا أخرج من دارها، فقال لي بدهشة:

ـ هل رأيت الجِنِّيّة؟!

أجبتهُ باقتضاب:

ـ إنَّها على غير ما كنّا نظنّ.

ومضيتُ إلى منزلي بصمت.

فلماذا لا يكون دخول البيت الغامض لنا هو قراءة تاريخنا الذي فهمناه خطأ وما الطفل إلا رمز للجيل الجديد الذي عليه أن يبر أغوار الماضي ليعرف الحقيقة ويدرك نفسه جيدا؟

أما البطل الطفل الثاني فتجسده قصة <السباح> البطل يتحجث بضمير الأنا وشخصية الغائب هو موازية له من حيث الأهميّة البطل عمره أثنا عشر عاما وأخوه ستة أعوام الكبير سباح ماهر يروم أن يعلّم أخاه الصغير السباحة فيغتنم فرصة سفر الاب في شغل ليقنع أمه أن تسمح له باصطحاب أخيه إلى النهر، وهنا يبدو لنا زمن مستقطع هو زمن السفر الاغترابي للأب الذي يستغله البطل من أجل فعل يظنه منفعة أو خيرا يذهب مع أخيه إلى النهر ومن المدهش أنه يمارس تمرين أخيه فيغفل عنه دقائق ولم يعد يراه أما الأخ ذو الأعوام الستة قيغط غطة طويلة.هنا لدينا زمن اغترابي قصير يستغله الشخص الثاني في القصة يريد أن يصادق الماء فيبقى داخله أطول فترة ممكنة إلى درجة أنّه يظنّ نفسه غرق.وهنا نصل إلى ذروة الاغتراب الإيجابي الصغير البرئ يتطهر يمنحه أخوه درهما شرط الا يقول للأمّ أنّه غرق لكن من خلال الحوار الآتي نجد أن الطفل يرفض أي عرض مقابل أن ينكر الحقيقة:

ولكي أبرهن له على صدق وعدي. أخرجتُ آخر درهم لدي ودسَستُه في يده، قائلاً له وأنا أفتح باب المنزل:

ـ على شرط أن لا تُخبِر أُمّك ولا أختك بتلك الغطسة.

ما إنْ دخلنا المنزل، واستقبلتنا أُمنا باسِمةً فرِحةً بعودتنا، حتّى صرخ حسن بأعلى صوته قائلاً:

ـ ماما، أنا غرقتُ في النهر. أتعرفين؟ أنا غرقتُ.

عند ذلك أمسى وجهي أكثرَ اصفراراً، وقلتُ لأُمّي بعينيْن مُنكسرتَيْن وبنبرةِ اعتذار:

ـ صدّقيني، يا أُمّي، أنَّني قرَّرتُ إذا غرق حسن، فإنَّني سأُغرِق نفسي معه، ولن أعود إليك.

قالت أمّي:

ـ يا لِخيبتي! يا لِلذَّكاء! لكي تنكبني بولدَيَّ كليهما، بدلاً من ولدٍ واحد.

إن ّ صبيّا بعمر 12 سنة يفكر بالإقدام على الموت فيما لو حدث مكروه لأخيه بسببه وهو تفكير بمسألة عظيمة لأنّ الموت لا يخص البشر وحدهم بل ايشمل المخلوقات كلها[xi] وقد ورد التفكير في سره ومعناه منذ ملحمة جلجامش مرورا بالعهد القديم أو كما يقول النصّ الدنماركي إن حهود الأطباء تنحصر فقط في تأجيله لكنّ بطل القصة يختصره في لحظات فلو مات أخوه لانتحر غرقا هو موقف اغترابي سلبي أمّا الزمن القصير جدا الذي مارسه الصغير تحت الماء فهو بالتأكيد أقلّ من دقيقة، وهو زمن الاغتراب الإيجابي حين اختفى الصغير في النهر تلك اللحظات التي تداخلت بطفولته فانطبعت بسلوكه وتقدمت به خطوة أخرى نحو الرجولة.أي مايشبه غيبة النبي يوسف في الجب التي توافقت مع نبؤته فتغلبت على اغتراب إخوته السلبيّ وتجدر الإشارة إلى أن التبي يوسف الذي مارس العلاقة مع الماء في الخب هو الشخصيّة الأولى في القصة أما الصغير الذي مارس الغوص في الماء فهو الشخصية الثانية.

إنّ فلسفة الموت في قصص الأخوة تتخذ في أغلب الأحيان وحهة اغترابية سلبيّة سواء أكانوا أكثر من أخ أم أخوين فمنذ قتل ثابيل أخاه هابيل احهت بنا القصص نحو التناقض، فيما بعج ظهر أخوة يوسف، وفي الآداب الأوروبية نقرأ الكتب ونسمع الموسيقى عن أخوة الدم وهي قصة عن أخوين يولدان في عائلة فقيرة تتبنى أحدهما عائلة غنية والآخر يبقى مع أمه يعيش فقيرا فيتحرف وأخيرا يتنافسان على حب افتاة فيقتل الأخ أخاه[xii] وقد اسنوعبت السينما العربية الفكرة ذاتها فقدمتها في أكثر من شريط، أما القاسمي الذي استوعب درس الأخوين فإنه نآى بهما عن العنف وجعلهما ينسجمان باغتراب آخر إيحابي لايتحكّم فيه الموت بل خاطر الموت البعيد فيما لو أخفق الأخ الصغير في تحربته الجديدة ولم يخفق لكنه انتقل إلى حالة أخرى من الوعي والتطهير.

وتتمثل شخصية الأنا والهو أي المتكلم والغائب في قصة < لقد سقاني القهوة> في انسجام تام فتبدو الشخصيتان على اختلاف من الناحية الفكرية.الابن واقعي لايؤمن بالأحلام ونتائحها كونه متعلما ذا ثقافة والأب يؤمن الأحلام والغيبيات إنه ليس شخصية سلبية تمارس الاغتراب وتتخذه نهحا سلبيا فتنحو به منحى التشاؤم بل الهو شخصية تتخذ من الحلم وهو اغتراب زمني داخلي منهحا للتفاؤل

" لا تخَفْ، يا ولدي، فقد رأيتُ حُلُماً الليلةَ البارحة. رأيتُ نفسي واقفاً أمام لوحة الإعلانات في مدرستكَ، وقد علّقوا عليها قائمةً بأسماء الناجحين، واسمكَ الأوََّل في القائمة."

تهلّلَ وجهُ أُمّي بالفرح، وارتفعتْ أصوات أخوتي بالتهنئة، إذ كانت لهم ثقةٌ مطلقةٌ بأقوال والدي وأفعاله. أمّا أنا فقد أخذتُ قوله على سبيل الشفقة عليَّ، والتسكين والطمأنة لي، لئلا تسوء صحّتي بسبب القلق والتوجُّس.

وقد تطالعنا شخصية الغائبة مع الأنا في منهج اغترابي يتحول من السلب إلى الإيجاب مثل شخصية جميلة التي تخطئ عن عمد لكنها تصحح خطأها فتتعايش مع الموسيقى الأندلسية والموسيقى الأندلسية موضوع اغترابي قوّمت به البطلة مسارها فاندمجت بعالمه، وهناك البطلة في قصة< > التي حملت في فترة الخطبة ونخلى عنها خطيبها كونها فقيرة في القصة انتقل البطل من اغتراب إيجابي إذ كان يحاول العمل والسعي في المجتمع الجديد وعندما تحقق له ماأراد تخلى عن خطيبته الفقيرة ولم يشفع لها أنها حامل منه فبدت خلال كفاحها المسنمر أنها تعايش في محتمعها اغترابا إيجابيا على الرغم مما مرت به من مأساة.

وقد نحج في قصة من قصصه شخصيّة موازية في موقفها الإيجابي من شخصية تاريخية مثل قصة <غزال يستجير بفلاح> وتعنى القصة بغزال طارده إبان احتلال الإنكليز للعراق ضابط إنكليزي فلجأ إلى خيمة بدوي فمنع الضابط الإنكليزي من أن يقتل الغزال وحدثت مشادة بينهما فقتل البدوي الضابط وتذكّرنا هذه القصة الحقيقة التي عايشها أشخاص معاصرون للسارد بشخصيّة مجير الجراد الذي ضرب المثل به <أحمى من مجير الجراد> وهو مدلج بن سويد الطائي الذي طارد قوم سرب جراد فحط على خيمته وحين جاء الصيادون ليلتقطوه قال لهم لقد استجار بي وستتحول الشمس ‘لى ناحيته بعد ساعة فإذا طار وابتعد عن خيمتي لكم الحق في صيده[xiii] وللموازنة بين القديم والحديث نقول إنّ الشخصية الجاهليّة لم تعش حالة الاغتراب لكن الشخصية المعاصرة وعت العادة القديمة في حماية الحار ومارست الجفاع عن النفس ثم قُدِّمت إلى المحاكمة وعاشت اغترابا حقيقيا بعد المحاكمة لتواحه بعج سنوات الاغتراب الحكم بالموت من جديد.

علينا أن ندرك إذن أن هانك شخصية رئيسية بضمير الأنا الذي إما يكون بطلا أو مراقبا ساردا للحدث وشخصية الهو التي تكون إما سلبية أو شخصية شريرة مثل الضابط الإنكليزي أو شخصية سلبية مثل شخصية مزيد العلوان في قصة <حسناء وأختاها> القصة رقم 12 حيث يمارس كريم وهو شخصية ثانوية اغترابا إيجابيا في بداية قدومه إلى المغرب ثم يتخلى عن كل ذلك ويوغل في اغتراب سلبي بعد أن يصبح ذال مال، ومن الشخصيات السلبية الرئيسية مثل شخصية جانيت الباريسية التي يكتشف البطل أنها رغبت في عرضه الصداقة للانتقام من حبيبها والحبيب السابق نفسه يمارس اغترابا سلبيا حين يتخلى عنها ويصادق عربية لبنانية وينتبه البطل في النهاية لكل ذلك فيرفض أن تذهب معه إلى شقته<القصة رقم 13> الخيانة والانتقام.

في قصة الشخصيّات تبقى إشارة مهمة إلا وهي إن بعض الشخصيات التي تحدث عنها السارد بضمير الغائب المؤنّث<هي>قج لا تكون تمارس اغترابا إيحابيا أو سلبيا بل هي شخصيات مهاجرة تركت أوروبا للعمل في الشرق مثل السيدة سيرليان دولي ومادموزيل كوليت حيث تعمل الأولى أستاذة للغة الإنكليزية في الجامعة الأمريكية ببيروت والأخرى لها في العاصمة اللبنانية محل وكلتلهما مهاحرتان وللثانية تاريخ عريق في الأدب والفكر ورثته من حدها الكاتب المشهور وقد عادت بعد هجرتها إلى باريس وتوفيت هناك.

الأدوات

هناك رموز للطبيعة المتحركة مثل الطيور والحيوانات والطبيعة الحية الساكنة كالنبات استخدمها الكاتب لتعزيز قصص السيرة ومنحها افقا فلسفيا واغترابيا من هذه الأدوات:

البط:

أعطى الكاتب الشخصيّة الثانية في قصة<وفاء> الرقم 2 فهي توازي بطل القصة الطفل الذي يتعلق ببطة اشتراها له أبوه فأصبحت صديقة التي تودعه حين يذهب إلى المدرسة وتنتظره حين يعودـأ أود الإشارة إلى أن البط على وفق التصوّر العالمي يرمز إذا ما ظهر في الحلم إلى التفاؤل ابطة التي تمشي أو تطير فإن خبرا يصل إليك بالبريد والبط الذي يسبج يشير إلى حالة صحية حيدة وعلامة على أنك تتغلب على مناوئيك[xiv] والبط في قصة السيرة وفاء يحقق لللبطل سعادته على حساب اغترابه هو ذلك الاغتراب الذي لا نحس به إلا في النهاية فالبط يسبح ويطير ويتعايش مع البطل الطفل لكنه في الأخير يطير مبتعدا حين يرى سربا من طيور البطل مهاحرة في السماء فيلتحق بها عندئذ نشعر أنه كان يعاني من اغتراب نفسي بل هو اغتراب إيجابيّ كونه أضفى على البطل الصغير سعادة غير متناهية.قصة البط تذكرني بشريط سينمائي شاهدته في كوبنهاغن عام 1989 يحكي قصة شاب يربي حيوانا يسمى ثعلب الماء

Otter

لا أتذكر اسم الشريط ولا تفاصيل القصة غير أن مابقي منها في ملامحي أن ثعلب الماء يترك البطل الشاب حالما يرى ثالب الماء في النهر فينضمّ إليها وقد تلخص ما نحن بصدده القصة القديمة الطبع غلب التطبّع.

الغزال

تأخذنا قصة غزال يستجير بفلاح إلى قدسية الغزال في فكرنا العربي القديم لارتباط الغزال بمسألة العبادة فقد كانت الشمس تسمى عند العرب بالغزالة، والغزالة كانت موحودة على ظهر الكعبة، ويقال إنّ الحارث بن عمرو جد الشاعر امرئ الفيس طارد غزالة فصادها وأكل منها فمات.وحدث أن هلكت أمة من الامم لأنها لأنها طاردت غزالة لحأت إلى الكعبة فرمتها بسهم[xv]

إن الحيوان نفسه حين يمارس الهرب إلى مكان مقدس يمارس اغترابا إيحابيا لحماية نفسه فالكعبة تؤوي الحيوان وخيمة الفلاح أو البدوي تؤوي الطائر إن المادة أو الأداة هي بنظر البنيويين واحدة وإن تغيرت المسميات.

القهوة

بالرجوع إلى تراثنا العربي حقبة ما قبل الإسلام التي أطلقنا عليها العصر الجاهليّ نحج أن كلمة قهوة تعني الخمر ورد في المعاجم اللغويّة :قهوة من قهو وهو فعل يجل على الخصب ورجل قاه كثير الخصب وسميت الخمرة بالقهوة لأنها تغني شاربها عن الطعام والخمرة ما أسكر من عصير العنب [xvi] يقول الأعشى في معلقته الشهيرة

وفتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى ةينتعل

نازعتهم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل[xvii]

ويمكن أيضا في عصر متأخ مراحعة ديواني أبي نواس وابن المعتز في التغزل بالقهوة الخمرة، ويبدو أن القهوة بمفهومها المعاصر تتخذ موضعين في قصصه الأول ذكرها بصفتها عادة يتناولها المرء في المقهى أو عند الصباح وفي أوقات معينة أو تقديمها للضيوف، بصفتها علامة ترحيب ولكونها تدل على الراحة وحبة لها نحده يترحم لنا قصيدة في القهوة لشاعر فرنسي قصة الصجيقة الفرنسية رقم14

صبَّ القهوة

في الفنجان،

وصبَّ الحليبَ

في فنجان القهوة،

ووضع السكر

في القهوة بالحليب،

وبالملعقة الصغيرة

خلطها..

شربَ القهوة بالحليب،

وحط الفنجان

والموضع الآخر علاقة القهوة بالأصالة والمستقبل فقد أصبحت القهوة مرادفة لكلمة عربي نقول القهوة العربية أو القومية التركية كما يصفها الغرب بكلمة قهوة تركية على الرغم من أنها قدمت إلى البلاد العربية من أثيوبيا في القرن 16 وجخلت إنكلترة في القرن 17 عبر الرحالة الذين كانوا يصفون ذلك الشراب الذي يتناوله المسلمون في مقاهيهم[xviii]، وقد خصص الكاتب عنوانا لقصة من قصص السيرة هي قصة لقد سقاني القهوة فحاءت تعبر عن الأصالة العربية والمستقبل معا.لقد قلنا إن معنى القهوة القلب من السلب إلى الإيحاب فالكلمة التي كانت تدل على معنى سلبيا يجعلنا نغترب معنه الإسلام فحاءت مادة أخرى غير الخمرة حعلناها تحمل معنى الخمرة[xix] فدلت على الخير في القصة البطل الشاب ينهي دراسته الثانوية لكنه شارك في مظاهرات تشحب بعض سلبيات الحكومة وخشي ألا تمنحه الدائرة الأمنية نصريحا بالدخول إلى الجامعة فيصحب أباه معه إلى تلك الدائرة وفي بابها يلتقيهما رجل يسقي القهوة ويختفي وعندما يدخلان يسألان عنه فينكر الموظفون أن هناك شخصا بهذه المواصفات يعمل معهم ويحصلان على التصريح.لقد قرأت القهوة مستقبل ذلك الشاب الذي أصبح فيما بعد

يحتل مركزا مهما ورحلا مشهورا.والعحيب أن القهوة الغريبة عنا المنبهة أساسا مسحا فعل القهوة الخمر فأصبجت تدل على أصالتنا ومستقبلنا.

على وفق هذا المنظور كان من المفروض أن تسير الحياة برمزها الإنساني القهوة نحو الممارسة للاغتراب الإيجابي لكن هناك بعض المظاهر التي تشذّ عن القاعدة فقج كان السارد يتناول القهوة في مقهى فيصل مع الشاعر اللبناني المرموق خليل حاوي الذي انتحر فيما بعد بسبب غزو إسرائيل للبنان وأثر هذا التغرب والاغتراب السلبي في نفس القاص قصة رقم 8 أستاذني الدكتورة سيرلين ديلي.

النهر

النهر يمثل الطبيعة الحيوية المتحركة وفي فلسفة اليونان ورد أنك لا تدخل النهر الواحد مرتين لأن مياها جديدة تجري من حولك أبدا[xx] بإمكاننا أن نبدل كلمة النهر فنضع مكانها البحيرة أو البئر على وفق رأي البنيويين الذي يرون أن الكلمة المرادف يمكن أن تحل بصفتها بديلا يؤدي المعنى نفسه[xxi] واللافت للنظر أن الكاتب في قصص السيرة تحدث عن نهر بلدته في قصتين من قصصه هما الدرس الأول وقصة وفاء بصفة النهر تطهيرا ووسيلة معرفة لاغتراب إيحابي جديد، إن النهر أو الماء بلا شك وسيلة تطهير في كل الثقافات والأديان[xxii]، في التطهير يمثل النهر غرق الأخ ورحوعه إلى الحياة وهو اغتراب إيجابي.قصة السباح.

المعرفة: الأب يصطاد السمك من النهر ويعيده إليه والسمك يرتبط بالمعرفة قصة وفاء، وفي قصة الصديقة الفرنسية نجد الكتب حنب النهر:

 

وبعد درس يوم الأربعاء، اختارت جولييت أن نسير إلى الضفة اليسرى لنهر السين التي لا تبعد كثيراً عن السوربون، وذلك لنعبر إلى الضفة اليمنى ونجلس في أحد المقاهي في ساحة كاتدرائية نوتردام دي باريس. وفيما كنا نسير مستمتعين بمنظر النهر الذي كانت تمخر فيه أنواع مختلفة من القوراب والسفن، توقفتْ عند أحد أكشاك بيع الكتب القديمة المنتشرة على الضفة اليسرى من النهر، وسألت صاحب الكشك عن الطبعة الأولى لديوان " كلمات " للشاعر جاك بريفير، فأخرج الرجل الكتاب واقتنته جولييت.

الكرة:

وردت الكرة في قصة ذكرى وهي الأداة الوحيدة التي سقطت في منزل المرأة المعتزلة التي يظنها الأطفال جنية ونظن أن الكرة ترمز هنا إلى اغتراب العالم وحهلنا بالآخرين الذين يمارسون غربة إيجابية مقابل اغترابنا السلبي عنهم.

 

د. قصي الشيخ عسكر

..............................

[i] Etymology on line dictionary(alienation)

[ii] Fremmed ord I danske

[iii] ابن منظور لسان العرب، مادة غرب

[iv] الفيروزآبادي، المثلث المختلف المعنى، منشورات جامعة سبها، 1988، مادة غرب ص 287

[v] الفلاحي، الدكتور علي إبراهيم، الاغتراب في الشعر العربيّ في القرن السادس الهجريّ، ط 1، 2013 عمان الأردن، ص15.

[vi] تكوين 47\9

[vii] صحيح مسلم، رقم الحديث، 2145، ابن ماجة 3986، بحار الأنوار 52\191.

[viii] لسان العرب مادة رعي

[ix] Faber Birren، the symbolism of color، Citadel press1988 p7.

[x] يراجع كتاب الدكتور حسين سرمك، رسالة وجودنا الخطيرة، 2020 ص 34، كذلك قصي الشيخ عسكر رواية رسالة.

[xi]Bent A.Koch، Den sidste Fjende، København، 1969.p14، 59

[xii]Blood brothers، Willy Russel، Samuel French، London، 1985

[xiii] راجع بصدد القصّة : الميداني، مجمع الأمثال، المثل أحمى من مجير الجراد

[xiv] Edwin Raphael، The complete book of dreams، foulsham، Great Britain p120

[xv] راحع كتابنا معجم الاساطير والحكايات الخرافية الجاهلية نشر دار الوراق عمان الأردن، 2014، مادة غزال، غزال الكعبة

إضافة إلى كتب التراث مثل الأغاني معحم مقاييس اللغة مادة عفر، جيوان حسان بن ثابت ص26 – 30.

[xvi] لسان العرب مادتي قهوة وخمرة

[xvii] الشنقيطي، شرح المعلقات العشر، حققه محمد عبد القادر الفاضلي، بيروت المكتبة العصرية، 1426 للهحرة 2095 م، ص207-208

[xviii]Phil Withington، Puplic and Private Pleasures، history today، vol70، Issue6June2020، p16-17

[xix] المنقلب والمتحول من الكلمات مخطوط مادة قهوة

[xx] د جعفر آال ياسين، فلاسفة يونانيون، طبيروت، 1972 ص18

[xxi] D.W Fokkema، theores of literature in the tweneeth century، 197926.

[xxii] فيليب سيرنج، الرموز، ترحمة عبد الهادي عباس، دار أمل، جمشق، 1992، ص353

 

 

في المثقف اليوم