قراءات نقدية

قراءات نقدية

التبئير الصفري وتمثيلات ما وراء المفترض العجائبي

الفصل الأول ـ المبحث (1)

توطئة:

أن آليات الحد الفاصل ما بين المتخيل المفرط والواقع المتخيل عن طريق وسائل المحاكاة لأجل بلوغ علاقات الأحوال الذاتية والموضوعية بوسائط مقاربة في مشتركات دينامية وتواترية وتمثيلية على نوح ما من جوهر المنظور التقاربي ما بين ثنائية (المتخيل المفرط ـ الواقع المتخيل) قد تبدو لنا من المحفزات الموضوعية والوظائفية الجادة التي تصب في حصيلة الإمكان المفترض بطريقة ما يمكننا عدها مسافة متسعة من إحالة الأحوال الموضوعية إلى أوضاع عكسية من الرؤية والمنظور المتخيل الذي يهم لذاته قراءة ورسم عوامل وعناصر الواقع المتخيل الذي إلى نزعة ترفارقية وغرائبية من معالم رؤية وثيقة الصلة بنزعة الأشكال المتخيلة المتخيلة في الإقرار العجائبي في اللامعقول أو اللامحسوس.تواجهنا وقائع رواية (انقطاعات الموت) للروائي البرتغالي القدير جوزيه ساراماغو ـ ترجمة صالح علماني، بذلك النوع من الاختلاف المتخيل، وإذا أردنا تصنيف هذا النوع من الروايات، فحتما سوف نضعها في قائمة (المتخيل: المفرط ـــ العجائبي ــ ما وراء المفترض) ولعل من أكثر السمات الجمالية اقترانا بهذه الرواية، هو ذلك الفضاء وقدراته على تكثيف المساحات من اللازمن في تفاصيل مكوناته التراتيبية المنقادة نحو خلق الأسباب والعلل المفترضة من خلال درجات متماهية بالدقة والانتقاء بمثيرات البناء والأسلوب ذات البعد التمثيلي المحبوك.

ـ التبئير الصفري والارتداد بالزمن ما قبل النص:

منذ بداية المستهل السردي، ونحن نعاين بأن هناك حالة من الاشارة إلى (السابق الزمني) أي بما يعادل وجود السرد في درجة صفرية من قبل بدء الأحداث في الرواية: (في اليوم التالي لم يمت أحد./ص9 الرواية) هذه الوحدة من شأنها الإحالة إلى ذلك الزمن الدائر خارج حدود مؤشرات وتعيينات تمثيلات المشاهد والوحدات في الزمن الروائي، فلا أدري هل كان شريط الذاكرة الحكائية هو من التداخل في سابقية النص باللاحق منه أم أنها حالة من حالات التبئير الصفرية في مستعاد ذاكرة الراوي.نفهم من ذلك ربما أن ساراماغو أراد من خلفيات زمن نصه، خلق حالة الامتداد الموضوعي للظاهرة الروائية في محددات نصه، وما قصدية الاسترجاع الزمني بالملفوظ، إلا كعلامة أو إحالة ظرفية تحقق للنمو الحدثي ــ شكلا وإطارا - من الإسناد الموضوعي، الذي كان يوضح لمركزية العلاقة بين السابق واللاحق من حكاية غياب الموت دليلا.

1 - الفناء العضوي للموت: رؤى مقترنة بالزمن والفضاء:

ان حالات موضوعة (غياب الموت) في دلالات رواية ساراماغو، هي من الإثارة اللاذعة في معايير المنطق للوحدة الوجودية، فما دام هناك ولادة فلابد من أن تكون بالمقابل منها حالة موت. طبعا لا نود هنا إثارة حزمة من المغالطات الموضوعية في حق الرواية ودلالاتها التي كان الغرض من ورائها هو التجربة الفنية الجمالية ومعانيها التي تلتقي مع فردية الفكرة والتجربة معا.خصوصا وان حال لسان السارد العليم كان بمثابة الحاكي والراوي لجل أحداث البدايات في النص الروائي. أردت أن أقول ان حالات (الفناء العضوي للموت) في دالات المساحة النصية، هي جملة مقومات صورية ـ شكلية، وليس لها من علاقة سياقية ثابتة في حدوث انقطاعات الموت، أي بمعنى ما ليس هناك معايير استثنائية في حصيلة الحياة دون حلول الموت فيها، خاصة وأن الأمر كان متعلقا بأرض دون سواها.إذن الفكرة هنا جاءت في حدود نسبية وغير مستقرة على كافة الأمكنة في وجه العالم، وبما أن حدود المنظور نسبيا، فلا يمكننا عد الفكرة كرواية بمثابة الولادة التفردية في خلق حياة دون موتا ما، حتى وان كانت مجرد حالة انطباعية الغرض منها تجديد ممارسة خاصة في الرؤية الروائية.وعلى هذا النحو جاءتنا الأحداث السردية من خلال صوت ضمير السارد العليم، كوجهة نظر مبأرة تسعى إلى خلق إمكانية ما في استحداث جملة تمثيلات في الصور والمكونات والأطر التأملية في حالة غياب الموت وانقطاعاته عن بيئة تلك المدينة: (إذ يكفي تذكر أنه لا وجود في مجلدات التاريخ الكوني الأربعين لخبر واحد، ولو عن حالة واحدة، بأن ظاهرة مشابهة قد وقعت ذات مرة، وأن يوما كاملا قد انقضى، بساعاته الأربع والعشرين العجيبة كلها، محسوبة بين نهارية وليلية، صباحية ومسائية، دون أن تحدث وفاة واحدة بمرض، أو سقطة قاتلة، أو انتحار مكتمل حتى النهاية./ص9 الرواية) يتضافر مع صوت مسرودات السارد العليم، ذلك التوتر المفترض على مستوى البحث والتقصي على مواقف مشابهة في بطون مجلدات التاريخ، وهذا الأمر حل بصورة جعلت تستنطق حتى أرباب الأساطير اليونانية القديمة، التي كانت الإلهة الوثنية مسؤولة عنها في الممارسة واللإثبات المفترضان.قلنا سابقا أن حالات انقطاعات الموت، هي بمثابة الرؤية المخالفة للرواية النمطية في أسلوبها الموضوعي السائد، لذا فإن مؤشرات دلالات رواية ساراماغو جاءت في حدود قولية مستحدثة في ابتكار الموضوعة الروائية المتفردة، وهذا الأمر لا يخولنا إلى الاعتقاد من أن مشاهد الرواية قد لا تصل إلى الحدود القصوى من تعليل هذه الظاهرة الكونية الملفتة، بقدر ما جاءت المشاهد الشخوصية تعبر عن أحوال تنقلاتها وكيفية إخفاء ترحيل المرضى نهائيين عبر الحدود الدولية، حتى يشملهم الموت هناك بحسن أخذه إلى أرواحهم المعذبة: (كانت الأسرة المالكة تقف بتراتيبها حول السرير منتظرة باستسلام إطلاق الأم الكبيرة زفرتها الأخيرة، ربما بضع كلمات ــ فالملكة الأم لم تتحسن ولم تزدد سوءا بل ظلت كالمعلقة، جسدها الهش يتأرجح على حافة الحياة./ص11 الرواية) .

2 ــ رؤية الأشياء من منظور الراوي المضطرب:

يعتقد الروائي أن بمقدور سارده العليم، من خلق الحساسية والانطباعية، مقابل ما يجري من تصوير المروي عنه بالملاحظة والتعقيب وإبداء وجهة النظر.ولكننا لاحظنا بأن أغلب مسرودات السارد قد غلبت عليها مظاهر القسرية والاضطراب في بعض مواقف الوحدات، فهو مقيدا بوسائل الإيصال من خلال حالات الملكة المشارفة بمرضها إلى حافة آمنة من اللاموت، وثمة أخبار راح يتندر بكشفها حول هيئات حكومية تسعى إلى الأخذ بزمام شواذ ظاهرة انقطاع الموت عن الناس.أقول أن الوقائع في الرواية تحدث على مسرح من المباغتة والغبطة، كما وتتميز بالطابع المباشر للعرض المسرودي.إذ إن الحكاية الروائية هي تمثل خلاصة عجائبية من فكرة تذكرنا بأدب الملاحم و الأساطير والفنتازيا، لذا فإن المسند الواقعي لها يكمن في إشكالية خاصة من الإيهام الكثيف بالواقع اللامصدق دلاليا.

3 ـ عزوف الموتى وعطل آلية الموت:

تتميز مشاهد وأخبار وأوصاف رواية (انقطاعات الموت) بأسبابها اللامعللة، أو تلك الأحداث الممسرحة ـ إخبارا ـ دون مواجهة حقيقية من ذلك الحدث الكوني المفترض ومبرراته الفجائية.تطالعنا أغلب مشاهد الرواية بنقل جملة التوترات الحاصلة في دائرة الطبقة السياسية من درجة الوزراء وحتى رئيس الوزراء، وكيفية تداولهم لهذا الأمر الشائك، الذي أصبح يشكل هزة اقتصادية قبل أن نقول أزمة سياسية ما نادرة من نوعها: (في البيان الرسمي الذي بث أخيرا، بعد أن تقدم الليل، أقر رئيس الحكومة بأنه لم تسجل حالة وفاة واحدة في كل أنحاء البلاد منذ بدء السنة الجديدة، وطالب بالاتزان والاحساس بالمسؤولية في التحاليل والتفسيرات./ص16 الرواية) هكذا تبعا تحيلنا وحدات المسرود إلى مشاهد غاية في التضعيف والآهلية إلى أن أمر هذه الانقطاعات للموت، قد أحدثت بلبلة سياسية واقتصادية ساحقة، ولكن يبقى السؤال مطروحا حول مدى مسببات انقاطع الموت هذا؟فهل أراد ساراماغو من خلال عقدة هذا الموت الكشف عن درجات سياسية ما قد اشتد لغطها في عدم حدوث الموت لأفراد البلاد مثلا؟أم أن الروائي أراد اقتناص لنفسه تفاصيل حركة موضوعة عجائبية تتصل بأقصى مستويات المصير الجماهيري مثلا؟.نلاحظ أن هناك ثيمات خاصة تتعلق بالجانب السياسي بأمتياز ومنها ما يتعلق بالجانب الديني للكنيسة: (فبدون انبعاث لا وجود للكنيسة ــ تأكيد ذلك فكرة مدنسة للمقدسات - تقبلت إمكانية أن يكون خلود الجسد مشيئة من الرب ./ص17 الرواية) ان عملية تعقب وتفحص وملاحقة مثل هذه الواردات، يعكس لدينا شعورا بأن الحكاية الروائية تتقصى حقائق عديدة وجهات مختلفة فيما تعنيه ذلك الإقرار الاعتقادي من رئيس الحكومة بأن توقف الموت له عدة مآخذ في سقوط العديد من قيم الكنيسة والحكومة في ذاتها أيضا.إذا نكتشف من وراء هذا أن عملية توقف الموت هي عملية تصب في الخسران الاعتقادي لأولئك الساسة في الحكومة، وهذا الأمر بدوره ما سوف يلحق الدولة أجلا.

4 - أطروحة الموت المؤجل وفرضية الحياة إلى الجسد مدادا:

اللافت للنظر في مداليل بنية رواية (انقطاعات الموت) أن الرواية تكشف المخارج التي تتعلق بالطبقة السياسية، وذلك ما يكشفها لنا حال وأحوال الحوارات المطولة بين رئيس الحكومة وذلك الوزير للصحة.حوارات على مستوى استحالة أن يكون الموت مؤجلا أو معطلا حتى، وما يهمنا أكثر هو الغائية التي نستشفها من فحوى هذا النوع الجدلي من الحوارية.فالاستباقات في أغلب تحفظات النوع الحواري بين طرفي (رئيس الحكومة ـ الوزير) يكشفان لنا النوايا والمقصديات السياسية في حسابات الدولة لو قدر أن الموت قد توقف فعلا عن هذه البلاد فما حال مصيرنا الاقتصادي؟ببساطة شديدة أن هذا النوع من الأسئلة والمداخلات تسلط الضوء على حقيقة أن الساسة في الدولة لا تعنيهم مقدرات المشاعر والاحساس بفقد الأحبة من الناس، بقدر ما تتكاثر لديهم مقادير الخسران والربح: (لاحظ كيف يكون لأسئلتنا في آن واحد، هدف ظاهر للعيان ونية مخبأة في الخلف./ص19) وعلى هذا النحو وغيره، تنكشف لنا ثمة علامات حماسية مبعثها الأول الصوت السياسي في أحسن الأحوال، كما اعتبرها البعض الآخر من أفراد الشعب صيحة وطنية في نحو الاستقامة مع طول الحياة دون موت، الأمر الذي جعل العديد من شرفات ونوافذ البيوت مزحومة برفع الرايات الوطنية عاليا، وكأن الأمر أضحى متعلقا بحرب ضد خصم سياسي، وهذا ما لم أجد له أدنى تفسيرا أو تأويلا في بعض الأحداث الروائية، لعل الروائي كان يتقصد عملية انتقال الفرد من مخاوفه للموت الطويلة إلى أحياء حياة منتصرة على ذلك الموت المؤجل في البلاد، ودون معرفة الأسباب الكونية حتى.

5ـ نسبة المصنف الشخوصي في عوالم خلود الحياة:

إن من الحالات الأشد التفاتا وملحوظية في مسار التكوين الروائي، هو عدم وجود العناصر الشخوصية المحورية في خط بدايات النص الروائي، كما أنه ليس هناك أية إشارة واضحة تتعلق بأفعال شخوصية لها من العلاقة السردية في مكونات زمن الحكاية وزمن الخطاب، فقط هناك اقتصارا على بعض من الشخوص القائمين في سياق عابر ونسبي، كحال الأشارة حول نقل المرضى النهائيين إلى المواطن الحدودية لأجل اكتسابهم علاقة تنفيذية مع الموت، وعندما ازدادت الأمورأكثر تعقيدا أمام الوكالات الخاصة بالجنائز ودفن الموتى، توصلوا بعض القائمين عليها بعد فقدانهم أجساد الموتى الآدميين بـ (اجبارية دفن أو إحراق جثث كافة الحيوانات المنزلية التي تموت موتا طبيعيا أو بحادث، وأن يكون انجاز أعمال الدفن تلك إجباريا./ص26 الرواية) كما ولم يختلف الأمر مع مصالح إدارات المستشفيات فقد أصبحوا يضعون في الأماكن المكشوفة في ردهات وممرات المستشفيات بعض المرضى، نظرا إلى تضخم أعداد المرضى ودون إمكانية معافاتهم أو موتهم، لذا قررت الجهات الوزارية إلى نقل كبار السن إلى ذويهم: (ما الذي سنفعله بالمسنين إذا لم يعد الموت موجودا ليقطع عليهم ولعهم المفرط بالحياة المديدة./ص29 الرواية) .

6 ـ بيوت الأفول المديدة:

لعل أهم ما يمكننا إعادة ذكره، حتى لا نكرر كل ما قلناه في مباحثنا الفرعية السابقة، هو أن ما دار بين رئيس الحكومة وذلك الوزير حول شركات التأمين التي تتقاضى بدورها أجورا في رعاية كبار السن: (الوصول إلى اتفاق بالتراضي، اتفاق جنتلمان،  يتمثل في تضمين البوالص بندا موجزا، يقر فيه سن الثمانين للموت الإجباري، بالمعنى المجازي طبعا./ص34 الرواية) من اللافت أن الروائي كان يسعى إلى تقديم حقيقة مرة حول مصائد الحكومات وحتى في أشد الظروف عسرا، فهو من خلال ثيمة انقطاعات الموت، راح يكشف لنا عن أقنعة الحكومات ولسانها المعسول بالسم.ومن شأن مثل هذا التصور تنقلنا تصورات أخرى في مجلس اللجنة المختلفة التي تضم جل الأديان والمذاهب والفلسفات المتشائمة والمتفائلة وحقيقة ما دار من الجدل والشجب في مجلس هذه اللجنة بين الآراء المتضادة في بعضها البعض،  ما هو خلاصته بأن الموت أفضل من هذا المصير الذي عليه حال مناقشات هذه اللجنة.

ـ الموت ومرسلات الأمكنة بإرادة الأداء المفترض:

تتخذ الأسلبة التثاقفية في مسار الفصول الأولية من رواية (انقطاعات الموت) ذلك اللبوس الحجاجي المموه بأشد مؤثرات الحوارية الشكلانية التي تتم من فوق طاولتها مستويات عسيرة من المقادير المتصلة بشتى آفاق استراتيجية الخطابات الحوارية الانجذابية في الملفوظ والتلفظ.ومن بين كل الأطر والتأشيرات في مسار الزمن الروائي، تبرز لنا تلك الأسرة الفلاحية التي أختارها الروائي لأجل أن تكون بمثابة الواقعة المحفوفة بضمائر المتكلم والمفرد والمخاطب: (ففي قرية لا على التعيين، على بعد كيلو مترات قليلة من الحدود مع أحد البلدان المجاورة، كانت تعيش أسرة فلاحين فقراء، لديهم لسوء خطاياهم، ليس قريبا واحدا، وأنما قريبان أثنان./ص39 الرواية) لا يحاول الاسلوب الروائي أن يفرض ثمة محددات من التوصيف الفردي حول عوامل ومصنفات الوحدات الشخوصية في السرد، بل أن أوجه التبئيرات حلت في احياز جزئية، يخال لمن يتعرف عليها وكأنها جملة صور عابرة ومبعثرة في زوايا تفاصيل هامشية ونسبية، هذا حتى وأن يتسع أمر التوصيف في بعض الذوات الشخوصية نجدها لا تشكل أكثر من وقفات إحالية نحو مسألة خاضعة للضمير الجمعي اللامحدد في الكينونة والمكان والزمن.

-الملامح الشخوصية ومصيرها في فضاء المدافن الحدودية:

يبدو أن آليات توظيف العوامل الشخوصية عبر أبعادها التفعيلية (الفاعل المنفذ ـ فاعل حالة ـ فاعل مرسل) تعد من الأسس في بنية محاور الأداء السيميائي، غير أننا واجهنا في متون الفصول الأولى للرواية (انقطاعات الموت) ذلك التخصيص النسبي أن لن نقل الهامشي إلى دور الأفعال الشخوصية.فالروائي ساراماغو يعول على ضمير المتكلم للراوي في متونه السردية، وإلى درجة إشكالية من وحدات العلاقة بين خصائص البنية الشكلية في النص، فهو يتبع صوت السارد في التدرج في أعماق الأحداث وعرضها المتواشج بروح وجهة النظر لذلك السارد، وصولا إلى تشييد الأحداث ضمن حدود متقاربة ومتباعدة عن نقطة وقائع النص نفسه: (رفع عينيه إلى السماء، ولم يجد كلمات يرد بها إلا القول أننا جميعنا بين يدي الرب وإن الرحمة الإلهية لا متناهية:أجل، يمكن لها أن تكون لا متناهية، ولكن ليس بما يكفي لمساعدة أبينا وجدنا على الموت بسلام ولا لإنقاذ الطفل البريء المسكين./ص39 الرواية) .

1ـ تبئير داخلي معدول بصيغة الخارج الخطابي:

أن الملاحظ في هذا النوع من وحدات الرواية، عندما ينفصل صوت الشخصية إتصالا بصوت الراوي، يلتفت إلى صوت الخطاب الذي بدا منقولا عن حضور مستوى المسافة الواقعة بين وعي (السارد ـ الشخصية) وقد ينوب صوت الخطاب عن الشخصية ذاتها في نقل تصوراتها وملفوظها الموصول بمنطوق صوت الخطاب على نحو غير مباشر وصولا به بالواقع والاقتناع بأنه صادرا عن صيغة مضارع الشخصية وليس بضمير المتكلم عبر زمن الشخصية.ومن الجدير بالذكر أن نوعية مثل هكذا خطاب يكون في مجمله قصيرا يقتصد فيه الكلام على سمات قولية واحدة في الوحدة والعلاقة والدلالة.وبما أن الزمن الشخوصية في سياق الرواية مشكلا في منطوق وحدة معبرة عن حركية محددة، وجدنا تسلسل الأحداث الزمنية كحالة متداعية في التركيز والأرتكاز، أي بمعنى ما فعالية العامل الشخوصي تشكل معلما في ترتيب الصيغة الجمعية للزمن والمكان واحساس الراوي، وبسبب هذا وذاك عاينا طبيعة التوظيف للشخوص في الفصول الأولى من الرواية حيث بدت وكأنها ملامح مطموسة في بيئة مشخصات الراوي وسلطته الكلية.

ـ تعليق القراءة:

أن القارىء إلى مداليل وآليات وثيمات وحبكة ودلالات رواية (انقطاعات الموت) عبر فصولها الأولى ربما يترسخ لديه الاعتقاد الأولي بأن الراوي جوزيه ساراماغو يوغل ذاته التأليفية في نمط موضوعة متصلة إلى حيز الأدب العجائبي أو الفنتازيا المستحدثة في أطر مفتوحة من التصورات والتخييل المتجذر بمحاولة الكشف أو التمويه عن منظومة سياسية أخذت تمارس أفعالا برغماتية في ظل خرافة مضللة من مفهوم ودلالة انقطاع الموت. طبعا أن الروائي يمتلك حرية اختيار موضوعته الفنية متى شاء لذلك مرادا، ولكن الحلم بالموت لا يؤهل أحداثا روائية في حضورها الإمكاني كتجربة خاصة ومتميزة، وذلك لأن دال الموت لا يمكن الفسح إليه بمساحات موحدة من الظروف والأوضاع الزمنية والمكانية والذواتية حتى وإن كان الأمر في صناعة رواية، بل بالعكس لو كان الأمر في بناء قصة قصيرة لكان الأمر قد هان نظرا لسقفها الزمني المضغوط بالإيجاز والإيحاء.ولكن عندما تكون فكرة الموت وعبر زمنها اللامعلوم دليلا على ثيمات الحكي في مجال الرواية، فلا أتصور من جهتي أن تكون هذه الرواية إلا محض كابوس للراوي وصوته الجماعي المقرون بمصادفات العجائبي.

***

حيدر عبد الرضا

الرواية توثّق ما جرى من أحداثٍ ومعاناة داخل فلسطين ومخيمات اللجوء، بدءاً من زمن النكبة وبداية الإحتلال والتهجير، وصولاً الى زمن نكسة العام 67، فأتت على شكل بقايا صور عالقة في الذاكرة، أوردها الكاتب على لسان عدّة رواة بدءاً من الجدّ والجدّة مروراً بالأب والأم وإنتهاءً بما عايشه الراوي الشاب، والمُلفت في هذه الرواية أنّ الكاتب تَفَلتَ من ذكر الأسماء لهؤلاء الرواة، وكأنه بذلك يقول أن ما ورد على ألسنتهم هو لسان حال كلّ فلسطينيّ وفلسطينيّة عايش تلك المرحلة، فالمعاناة واحدة، وقد طالت شظاياها كلّ نسيج المجتمع الفلسطينيّ آنذاك..

"مفاتيح البهجة" وإن كانت تشير إلى الواقع الفلسطيني إبّان النكبة وما تلاها، إلّا أنّ ما يُسجّل للكاتب، أنّه بالرغم من تلك المآسي والعذابات التي وقعت على الشعب الفلسطيني، فقد جاءت كتابته لها بأسلوبٍ ولغةٍ رصينةٍ هادئةٍ وهادفة في آنٍ معاً،ّ بحيث تستفزّ القارىء وتحثّه على الإيمان بالأمل وبغدٍ أفضل، وتدعو الى ضرورة التمسّك بحقّ العودة مهما طال الزمن ومهما أُسيء التعامل مع تداعيات الأزمة. فقد تضمّنت فيما تضمّنت ما يشبه القراءة الموضوعيّة وشبه السياسيّة لمُسبِبَات هذهِ النكبّة وما تمّ التعامل مع تداعياتها بما هو دون المرتجى.

من المسلّم به أنّ الأدب هو وليد بيئته أو هكذا يجب أن يكون، فللأدباء والمثقّفين دورٌ مهم وأساسيّ في الإضاءة على قضايا المجتمع، وهذا حال معظم الأدباء الفلسطينين الذين كتبوا عن الحرب والنزوح وآلام اللجوء والشتات،وأيضاً عن الأمل والصمود والوعد بانتصارٍ قادم. وبهذا يكون الأديب محارباً ومناضلاً ثقافيّاً يعمل على نشر الأفكار الإيجابيّة والبنّاءة، وتكون الأعمال الروائيّة والأدبيّة الفلسطينيّة عبارةً عن ما يُسمّى "النضال بالأدب"، ورزاية مفاتيح البهجة تندرج ضمن هذا الإطار.

هي ليست مجرّد رواية تضيء على الهَمّ المجتمعيّ المقهور، وألم المعاناة في مخيمات التهجير، بل إنّها روايةٌ تناضل بالكلمة، وتواجه بالأدب. وإن كان القلم والخيال يبدوان أسلحةً ضعيفةً وهشَّةً في مواجهة آلات التدمير ووسائل الفتك، إلّا أنّهما حتماً سيكونان الأصلبُ والأقوى، ففي البدء كانت الكلمة والبقاء حتماً سيكون لها.

بإستذكار الماضي الجميل قبل النكبة، تبدأ الرواية لتصف لنا الأمّ مواسم الزرع في مجدل عسقلان، حيث المواسم كانت تُفرح الكبيرَ قبل الصغير، وكيف أن من بين الطقوس والعادات في عسقلان  تسمية أسابيع شهر نيسان الأربعة بأسماء ودلالات معينة، فالجمعة الأولى منه  تُسمّى التائهة، كونها تمثل بداية الشهر، والثانية النبات، وفيها تكون الأرض قد استكملت زينتها، والثالثة مُخصّصة لزيارة القبور والتّرحُم على ألأموات، واستجداء عطف الخالق في شأن مخلوقاته، أما الرابعة والأخيرة فسُمّيت بالحلوات، نسبة لما يجري من ابتهاج، ولما يُصرف فيه على صناعة الحلويّات.

كثيرةٌ هي المحاور والمفاصل التي تطرّق إليها الكاتب، ولو بإشاراتٍ مختصرةٍ أو عابرة، فقد تحدّث عن مسألة النزوح واللجوء وعمليّات التهجير، وكيف لم يغِب عن الفلسطينيّ الشعور بالأمل، وأنّه سيعود يوماً إلى موطنه، لذا فقد كان حريصاً على الإحتفاظ بأوراق الطابو ومفاتيح البيوت. وأيضاً كان للمجازر والإنتهاكات التي مارسها المحتّل حيّزا لا بأس به، ولكي لا ننسى ما تعرّض له شعب فلسطين من نكبات، يُعيدنا الكاتب إلى وصف بعض ما جرى وما ارتكبَهُ المُحتلّ من مجازر، ففي مجزرة خان يونس مثلاً كانوا يدفعون الأبواب ويُسمَع صوت الرصاص، وصراخ من يهوون خلف الجدار لتنجلي هذه المجزرة عن أكوام من الشهداء والجرحى.

هذه النكبة التي تعرّض لها الشعب كان لها تداعياتها المُرّة على ظروف حياته اليوميّة والمعيشيّة اضطرّته للإنتظام في طوابيرَ أمام مكاتب الاونروا طلباً للحصص الغذائيّة وبطاقات التموين، وقد إستفاض الكاتب في توثيق عذابات العيش في مخيّمات اللجوء، والفُتات الذي تقدّمه وكالة الاونروا المعنيّة ببرنامج غوث وتشغيل اللاجئين التابع للامم المتحدة، فتحدّث عن الطوابير التي تنتظر أن يُكال لها الإعاشات، أو أن تُمنح صُرّة من صُرر الملابس المستعملة.

لقد أثبتت الأيّام ماضياً وحاضراً، أنّه عند تفلّت الأوضاع وانعدام الأمن والطمأنينة، عادةً ما نجد بروز ظاهرة الإنتهازيّين والمستفيدين، الذين يخفون حقيقة وضاعَتهم خلف قناع الثورة والإدّعاء بمساندة القضية، كما تبرز ظاهرة الخيانة والتعامل مع المحتلّ وإستغلال الظروف، وهذا ما جسّده الهوّاري الذي نعم بظروفٍ معيشيّةٍ أفضل من بقية جيرانه، وما حفلة طهور ولده ومظاهر البذخ والترف، سوى دليل على ذلك، وقد إستطاع هذا الهوّاري أن يُقنع الجميع ويوهمَهم بأنه الفدائيّ المغوار، وما هو بالحقيقة سوى سارق البرتقال الذي  يبيعه من خلال شبكة توزيع متمثّلة بكمال الخبّاز والمرأة ربيحة، هذا الهوّاري مع رفقته، كانوا أول الذين إرتموا في الماء وتعلّقوا بحافّة المركب للهرب من المواجهة، وأيضا نجد السلّال المغربيّ الفقير الذي زرعه المحتلّ ليكون عيناً له لمراقبة سكان الحيّ، عاش وسطهم، وبعد دخول المحتلّ وإقتياد الشباب وإعتقالهم، إختفى ولم يُعرف مكانه، هذه النماذج التي يمثّلها الهوّاري والسلّال وممارساتهم هي التي أدخلت الشكّ قي نفوس الناس وجعلت والدة الحنتوت تُمسك بخصلةٍ بيضاء من مقدّمة شعرها وتهزّها، وتصيح: - أقصّ شيبتي إن رجعتوا للبلاد.

غالبا ما نجد أن  معظم الكتابات الفلسطينيّة تقارب بشكل أو بآخر ظاهرة العمل الفدائيّ، وفي روايتنا هذه إشارة ولو بشكلٍ عابرٍ إلى بداية العمل الفدائيّ الذي جسّده كلٌّ من الفدائيّ سرحان الذي أستشهد وهو يقاوم، وأيضاً معلّم اللّغة العربيّة الذي أسس لبداية التظاهرات وواجه المُحتلّ وإستطاع النجاة من قبضته، ولم يجد الإحتلال وسيلةً للإنتقام منه سوى بهدم كوخه وتشريد عائلته، أضف إلى هذا، الإعلان عن تأسيس جيش التحرير وتدريب الأفراد وتوزيعهم إلى كتائب، لكن غياب التنظيم وسوء التواصل بين المجموعات كان ظاهراً للعيان وهذا ما عبّر عنه الضابط وهو ينادي يا قيادة يا قيادة ولا من مجيب، فألقى بالهاتف أرضاً، هذا الضابط الذي إستشهد لاحقاً بعد أن نصب وسط الشارع رشاشه، وهو يُقسِم  ألا يمّروا، ولما جاءت الدبابات ظلَّ يُطلق النار حتى اخترقت القذيفةُ صدرَه.

ويبقى الأمل والإتّكال على الذات هو الدافع والمُحفِّز للبقاء والتشبّث بالحقوق، ووحده والد الراوي الشاب من كان يملك رؤيةً ثاقبة وواضحة لما يجري، ولم تكن تقنعه الظواهر والبيانات الإعلاميّة الآتية من صوت العرب، حيث كان المذيع  يفاخر بأنّ طائرات العدّو تتساقط كالذباب، أخفض صوته ونكّس رأسه  وقال إنتهينا، وأكملَ عندما هجّرونا كانت ذات اللّغة، لتلتقط زوجته  جهاز الراديو متوجهةً إلى ابنها قائلة: خذه إلى مُجَمّع الزبالة.

أمام هذا التخاذل الذي ظهر في عدم النصرة الحقيقيّة للفلسطينيّ، يبقى الأمل معقوداً على هذا الشعب نفسه، فما حكَّ جلدك مثل ضفرك، ولذا فإنّ والد الراوي يدعو للإعتماد على النفس وعدم انتظار المعونة من أحد، يقول:" لا تنتظروا أحداً خارج حدودنا .. تناسلوا فقط .. املؤوها من البحر إلى النهر .. زوّجوا بناتِكم بصبيانِكم ،وسلّموهم الطابو والمفاتيح، إلى يوٍم يقضي فيه الله بيننا".

لم يغفل الكاتب عن ذكر بعض مشاهد الحرب، وكيف أن كلّ طائرات مصر قد دُمّرت وهي على مدارجها، ووصل جيش الإحتلال إلى قناة السويس. أمّا في الأراضي الفلسطينيّة فقد  جاءت الطائرات وألقَت براميلها  وقتلَت الكثيرين، حتى أنّهم استهدفوا الجنازات فوق القبور، وتشتّت عسكر مصر بعد محاصرته في الفالوجا؛ فسارعتْ الناسُ للهرب وكلّ ما أخذوه شهادات الطابو، ومفاتيح بيوتهم، والتحقوا بالعسكر الهاربة غرباً، ومن على تلال الشاطئ، كان الكبار يحملون الصغار والعجائز، ويتوجهون جنوباّ إلى غزّة.

وينتقل الكاتب بعد ذلك لوصف ممارسات الإحتلال وكيف أنّ من بقي من السكان، إرتضوا بالعيش داخل السياج، وقبلوا أن يكونوا عمال قطافٍ في بساتينهم المصادرة، ناهيك عن عمليّات الدهم والإعتقال، فكان المحتلّ يتوجّه بالنداء لأهالي المخيّم : على الرجال  من سنّ ١٤ إلى سنّ ٦٠ الخروج إلى ساحة بركة المجاري، أو " يا أهالي مخيّم جباليا  إنذار، إنذار .. الجيش يُفتّش بيوتكم، وسيقتل كلّ من تخلّف فيه".

كذلك وفي سبيل محاولة  طمس الهويّة الفلسطينيّة، يورد الكاتب كيف أنّ المحتلّ يأمر كل من تجاوز عمره الستّة عشر بالتوجّه إلى مبنى الجوازات في غزّة  ليغيّر بطاقته، بأخرى جديدة، تتوسّطها نجمة داوود.

ختاماً، مفاتيح البهجة رواية جديرة بالقراءة، وإن كانت قد وصفت الواقع كما هو، إلّا أنّ الكاتب ترك للقارىء مهمّة وضع النهاية المرتجاة والتي تتناسب وحجم القضيّة وقدسيّتها.

***

عفيف قاووق – لبنان

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّ الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، في عمله القصصي، المعنون بـ"صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، كان يردِّد- كغيره من قَبله ومن بَعده- ثقافة المَثَل الفرنسيِّ «فتِّشْ عن المرأة Cherchez la femme».  وهو مَثَلٌ ينحدر من ثقافةٍ عالميَّةٍ قديمةٍ جِدًّا، تَنسِب كلَّ الخطايا إلى (حوَّاء).  تعود إلى القِصَّة التوراتيَّة العتيقة حول حكاية (حوَّاء وآدم) في الفردوس، كما وردت في «العهد القديم»، وقبل ذلك في الأساطير السومريَّة.(1)  ويظلُّ آدم- وَفق صورته في تلك الثقافة الذكوريَّة الظالمة- حمَلًا بريئًا، وغبيًّا في الوقت نفسه، تعبث به المرأة، إنْ في الأرض أو حتى في السماء!

في تلك القِصَّة الطويلة تَرِد حكاية الفتاة الزاهرة الشباب المشرقة الجمال في (سرنديب)، التي اختارها الملِك، بمساعدة (صادق)؛ وذلك بعد أن دبَّر حيلةً اكتشف بها مدَى وفاء نسائه، فلم يجد وفيَّة إلَّا هذه الفتاة، المسمَّاة (فاليد)، ذات العينين الزرقاوين، التي أمست مليكة الملِك.  إلَّا أنَّ زعيم الكهنة هناك كان قد شرَّع قانونًا يحظر على الملِك أن يُحِبُّ امرأةً من ذوات عيون المها الزُّرق؛ ليستأثر بهنَّ هو!  فحيكت مؤامرة ضِدَّ صادق؛ الأمر الذي دفعه إلى الهرب.(2)

ثمَّ يُقابل (صادقًا)، في الفصل السابع عشر من القِصَّة، صائدٌ بائس، كان زوجًا لامرأة: «لم يكن إشراق الأرجوان الذي تُصدره مدينة (صُوْر) أشدَّ بهجةً ممَّا كان يشرب بياضها من الحُمرة»(3)، وقد اختطفها راضيةً (أوركانُ)، الذي اختطف من قبل (سميرًا)، زوجَ صادق، راضيةً أيضًا.

وفي (سُوريَّة) يلتقي (صادق) في مرجٍ جميلٍ بأولئك النِّسوة اللاتي يبحثن للأمير (أوجول) عن (الباسليك) ليتداوى به من عِلَّةٍ أصابته.  وكانت أولاء النِّسوةُ إماءَ الأمير، كما أفهمتْ السُّوريَّةُ منهنَّ صادقًا.  وثَمَّةَ التقَى صادق المَلِكةَ (أستارتيه)، وقد أصبحت أَمَةً من أولئك الإماء.  ودارَ بينهما حديث الحنان والدهش والفرح، لتعود إليه السيِّدة التي قاسَى في ذِكراها آلام البَين والأشواق.  فحكَتْ ملِكة (بابل) لصادق ما حدث لها من بَعده، وكيف أنَّ الملِك، زوجها، جُنَّ من غيرته، ولولا مساعدة (القزم الأخرس) ما نجت من قتلها بسُمِّ الملِك، ولا نجا صادقٌ من شنقه، وكيف ساعدها (كادور)، صديق صادق، على الذهاب إلى معبد (أورزماد) لتختبئ فيه، حتى أخذها جند (أركانيا)، مع (ميسوف) المِصْريَّة المختطفة، لكنَّه لم يُنَل منها.  وأخبرته بقِصَّة هربها، حتى وقعت في يد الأمير أوجول.  عندها حاول صادق أن يتقرَّب إلى الأمير بعلاجه من مرضه، مقابل عِتق أستارتيه، فكان له ذلك.  وتطوَّرت الأحداث حتى اختير صادق ملِكًا لبابل وزوجًا لأستارتيه.(4)

وإلى هٰذه المواقف العاطفيَّة، تبرز في القِصَّة بعض الهفوات الأخلاقيَّة، كتلك الهفوة التي هفاها (صادق) مع إحدى وصيفات الملِكة (أستارتيه)(5)، وكالحيلة التي قامت بها الأرملة العَرَبيَّة مع رئيس كهنة النجوم؛ في سعيها لإمضائه على عفوٍ عن صادق، الذي كان قد حَرَّض نساء العَرَب على عصيان قانون التحريق المفروض عليهن.(6)  وكذاك الاختبار الذي أعدَّه ملِك (سرنديب) لأزواجه بمساعدة صادق؛ لتتعرَّى أمامه خياناتُهن، إلَّا واحدة منهنَّ أثبتت وفاءها وإخلاصها له، فاصطفاها لنفسه من دونهن.(7)

إنَّها قِصَّةٌ مليئةٌ بسلسلةٍ من الخيانات، تؤدِّي بالقارئ إلى انطباعٍ عامٍّ حول المرأة، هو أنَّها قليلة الوفاء، سريعة الغدر بالرَّجُل، تضعف أمام المغريات بسهولة.  وما علينا، إذن، سوى أن "نُفَتِّشْ عن المرأة"، حسب المَثَل الفرنسيِّ الجاهلي المشار إليه!

وهذا ما سنزيده نقاشًا في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.......................

(1) يُنظَر: سِفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ وكريمر، صمويل نوح، (1980)، من ألواح سُومَر، ترجمة: طه باقر، مراجعة: أحمد فخري (بغداد: مكتبة المثنَّى)، 242- 249.

(2) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)،  القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 86- 90.

(3)  يُنظَر: م.ن، 98.

(4) يُنظَر: م.ن، 102- 000.

(5) يُنظَر: م.ن، 48.

(6) يُنظَر: م.ن، 79. سبق، في المقال الماضي، تفنيد هذا الزعم، من رجلٍ غربيٍّ اختلطت عليه جغرافيا الثقافات، بين بلاد (العَرَب) وبلاد البراهمة الهندوس في (الهند)!

(7) يُنظَر: م.ن، 87- 88.

النزعة الإنسانية هي تلك المنتزعة من التجربة الإنسانية من أجل إقامة علاقات تقوم على العدل والتآلف وقيل أيضا في تعريفها بأنها الفلسفة التي تؤكد قيمة الإنسان وقدرته على تحقيق ذاته بالاعتماد على الفعل. وأهم ما يميز النزعة الإنسانية سمو القيمة الروحية والنفسية على القيمة البيولوجية وتسعى دائما إلى إعلاء الفكر الإنساني والذي يُعدّ جزءا من تلك النزعة.

وقد عملت رواية سافوي، الصادرة عن دار اليازوري العلمية/عمان/2022، على استكناه وحدة الجوهر الإنساني الثابتة عبر التاريخ من أجل التقاط الإنساني والأصيل في أعماق النفس البشرية من خلال علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة وعلم النفس. ويبدو بأن مهند الأخرس كأنه عاش التجربة وعمّر نفسه بأحداثها فامتلأت مشاعره واندفعت للتعبير عن أحاسيسه ورؤاه بصورة صادقة. وقد استطاع ترتيب خيوط الحقيقي مع المتخيل ليضع عملية سافوي تكون نواتها التجربة الإنسانية.

وقد جاء عنوان الرواية الموسوم ب سافوي دلالة على عملية قامت بها مجموعة فدائية بتاريخ 6/آذار/1975 مكانها العمق (الإسرائيلي) / تل الربيع في فندق سافوي الذي يحمل رمزية بالنسبة للقائد المسؤول عن العملية أبو جهاد كما ذكر مهند الأخرس ص143 من الرواية وهي أن الفندق كان خلال فترة الانتداب مقرا للزعيم الإرهابي والمجرم مناحم بيغن مرتكب عدة مجازر في حق الشعب الفلسطيني أشهرها مجزرة دير ياسين. ومن هنا نرى بأن رواية سافوي عالجت هذه العملية بكل تفاصيلها بدقة لكن هناك حبال قد تخفى على المتلقي وهي النزعة الإنسانية التي ساهمت بقدر كبير في شد أركان هذه العملية فتداخل العمل الفدائي وأهدافه النبيلة مع تلك الحبال في خلطة طفى فيها العمل الفدائي على السطح بحيث كان سهل الالتقاط ولكن بقيت تلك النزعة التي يتطلب وجودها من الروائي لتكتمل الرواية مغمورة في الأسفل تنتظر من المتلقي أن يخرجها ليدرك حنكة الكاتب بهذا التلاعب المقصود الذي يسجل له ،ذلك لأن الكاتب ليس ملزما بأن يجهز وجبته في الملعقة للمتلقي بل يجب على المتلقي أن يبحث ويستشكف ما أخفاه الكاتب من إبداع أسفل الظاهر من الفكرة.وأبطال سافوي هم أبطال حقيقيون حملوا مشاعل الحرية على رؤوس بنادقهم وقنابلهم الموقوتة ،خاضوا البحر وتجاهلوا غدره، قطعوا ظهره بمشاعرهم وإنسانيتهم لا بهدف القتل بل بهدف الحصول على رهائن من الآخر ومبادلتهم بأخوة لهم وأخوات في معتقلات خلت من الإنسانية.

وصلوا فلسطينهم والتي طالما تخيلوها أمامهم كعروس أسطورية يسعى إليها الجميع ،يذيلوا رسالة عشقهم لها بدمائهم وهي بدورها تحجز لهم مكانا في السماء.

إذن لقد أوصل مهند الأخرس رسالة مزدوجة إلى المتلقي بأن الهدف الأساسي من عملية سافوي هو الحصول على رهائن والتفاوض مع العدو لإتمام عملية المبادلة برهائن فلسطينيين في سجون الاحتلال بحضور الصليب الأحمر والسفير الفرنسي والفاتيكان وهذا الشق الأول من أهداف الرسالة وهو الشق الفدائي. أما الشق الثاني فهو عدم التعرض للرهائن بالقتل أو امتهان إنسانيتهم بأي شكل من الأشكال لأن الفدائيين ليسوا بإرهابيين ولا قتلة ويتمثل لنا هذا ص140 بما جاء على لسان أبو جهاد للفدائيين قبل العملية (يا خضر ،تلك الرسالة عندما يحتجز الرهائن وتبدأ عملية التفاوض..اطلبوا مندوب الصليب الأحمر وسفيري فرنسا والفاتيكان...) هذا هو الشق الفدائي.

أما الشق الإنساني فجاء في نفس الصفحة على لسان أبو جهاد أيضا (نحن لا نقاتل لأجل الدم أو العبث، نحن مناضلون من أجل الحرية). وهنا يكمن الشق الإنساني.

جميعنا يعلم بأن كرامة الأسير في سجون الاحتلال منتهكة ومعاملتهم له لا إنسانية. لذلك كثيرا ما كان هدف العمليات الفدائية سابقا سواء في الداخل أو في الخارج هو مبادلة الرهائن وقد تطرق مهند الأخرس إلى إحدى هذه العمليات بقيادة محمد مصالحة وهي عملية ميونخ عام 1972 ص20 (فمصالحة هذا كان قائد مجموعة الكوماندوز الثمانية في عملية ميونخ).

ومن الأمور التي تلفت النظر في رواية سافوي من حضور النزعة الإنسانية استحضار الكاتب لنماذج قديمة عبر ما يسمى توظيفا أو تناصا كاستحضاره لشخصيات كان لها أثرا كبيرا في قضية فلسطين مثل شخصية باجس أبو عطوان الشهيرة تلك الشخصية التي شكلت رعبا للاحتلال ومنه ما جاء ص62 (ذاك الباجس المتجدد دوما فينا ذلك الباجس الذي شكل رعبا للاحتلال وهاجسا يقض مضاجعه بالليل والنهار ذلك الباجس).

ومن الأمور التي تلفت انتباه المتلقي إلى حضور النزعة الإنسانية في الرواية السعي إلى ترسيخ القيم التي تصب في خدمة الإنسان مثل نبذ الظلم والسعي إلى لفت العالم لقضية فلسطين ففي ص139 ما جاء على لسان أبو جهاد (يجب مخاطبة العالم ودق الأجراس إلى أن تستفيق ضمائرهم).

كما نتلمس خيوط النزعة الإنسانية في رواية سافوي من خلال الحديث عن التهميش الذي حصل مع الشعب الفلسطيني ففي ص179 على لسان موسى (أصبحنا لاجئين مشردين في مدن الدنيا..).

وفي ص68 نلحظ وجود النزعة الإنسانية من خلال إشادة أبو جهاد بشخصيات أخذت مواقف معلنة من القضية الفلسطينية وهي من القضايا الإنسانية العامة (تلك التجربة التي تشرفنا بها وبروادها باكرا كماو تسي تونغ وشوإن لاي وكذلك الأمر مع هوشي منه وكذلك الحال مع جيفارا وزيارته الشهيرة لغزة).

كذلك امتزجت النزعة الإنسانية عند أبطال مهند الأخرس بمرارة الحرمان وعذاب المنفى والحنين للوطن وقد تجلى بالشوق لفلسطين ففي ص31 (في المعسكر وأثناء التدريبات تقترب منك فلسطين كل يوم أكثر). وتظهر النزعة الإنسانية بكل معانيها عندما تخلى أبو جهاد عن أحد مقاتليه ذيب وقدمه لأمه الحاجة سرحانة التي جاءت باحثة عنه وكانت قد فقدت زوجها في حرب الكرامة وابنها البكر في أحداث أيلول واعتقل الآخر ولم يتبقى لها سوى ذيب وأخواته ..ففي غرفة الميس وجه كلاما لذيب يحمل من معاني الإنسانية الشيء الكثير ص46 (أمك وأخواتك أولى بك يا ذيب، بهما فجاهد).

وقد تمتع مهند الأخرس بمعرفة تحريضية تكشف المفارقة بين الظالم والمظلوم، القاتل والمقتول وذلك عندما رسم لنا مشهد مجموعة الفدائيين في الفندق فعلى لسان خديجة الفتاة التي رافقتهم من شارع جؤولة بعد أن تركها صديقها هناك فكانت المتحدثة بلسانهم مع العدو (نحن مناضلون من أجل الحرية، لسنا قتلة،نحن حريصون على سلامة الرهائن ،نريد مبادلة سريعة).

ثم ص200 (الأمور لا تبشر بالخير.. وهؤلاء لا يسعون إلى التفاوض فالقوات والحشود تزداد). وهنا يتضح الفرق بين الفدائيين وأهدافهم والعدو وأهدافه الدموية حيث أنهم لم يهتموا لرهائنهم مقابل القضاء على مجموعة الفدائيين فركلوا بذلك إنسانيتهم حتى مع بني جلدتهم.

بقي أن نقول وانتهينا حيث بدأنا فقد جمعت الرواية بين السيرة الذاتية والحكاية التاريخية والحوارات والحلم، ذلك الحلم الذي يكسر البناء المنطقي ويضفي على النص نوعا من الحوار الداخلي قوامه التأويل كحلم الغضنفر الذي ورد في بداية أحداث الرواية وهو في المعتقل ص 6(حلم واحد اختلف فيه أبو جهاد عن البقية ،حرت كثيرا في تفسيرة). هذا الحلم الذي يفسر لا شعور الغضنفر ،ففي لا وعيه سكن البدر (أبو جهاد) الذي ظل يوصيه بأن يواصل العمل الفدائي ولا يتوقف.

***

قراءة بديعة النعيمي

 

عندما اقرأ للكاتب والباحث باسم عبد الحميد حمودي في مجال الفولكلور والتراث الشعبي؛ أجد في جميع كتاباته الخصوبة في التنوع بسبب التنقل في معيشته مع عائلته في مناطق الفرات الأوسط، وهي رحلة صولاته وجولاته في المدن العراقية التي زادته خبرة في مجال التاريخ والتراث، ودراسة المجتمع العراقي وحقول البحث الإنساني، وقد نشر حمودي تلك الخبرة العديد من الدراسات في المجلات العراقية والعربية في هذا المجال.

وقبل عدة سنوات قرأت مؤلفه الأخير (سحر الحقيقة... شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي)، إلاّ أن ما صدر لهُ أخيراً من رواية تحمل عنوانها الموسوم (الباشا وفيصل والزعيم) قد سرق انتباهي بعد وصوله هدية لي عن طريق الأديب شكر حاجم الصالحي، والرواية صادرة عن دار دجلة في عمان وتقع بواقع (104) صفحات من الحجم المتوسط، ذات غلاف جميل تحمل صور الباشا، وفيصل الثاني ملك العراق، والزعيم عبد الكريم قاسم.

كان إهداء الكاتب للرواية إلى روح الأستاذ الدكتور (نجم عبد الله كاظم اعترافاً بفضله)، والرواية تتحدث عن أحداث يوم 14 تموز 1958م، التي اطاحت بالعهد الملكي وكانت بداية لعهد الجمهورية الأولى، والرواية عبارة عن محاكمة تاريخية في ملكوت العالم الآخر وبحراسة (الحرس السماوي) لزعماء العهد الملكي والجمهوري بالتغيير الذي حدث يوم 14 تموز وهما عبد الكرم قاسم وعبد السلام عارف، وذكر مأساة ما حَلَّ بالعائلة المالكة من قتل وسحل وتقطيع وتعليق على واجهات المحال التجارية.mde

وتأتي الرواية بروح فنتازيا التاريخ الحديث، وأحداث تلك الحقبة الزمنية تحليلاً واستنتاجاً بمهارة الكاتب من حبك الأحداث وتسلسلها وجمع ابطالها وكُتّاب التاريخ وأعلامهم في حنكة السرد من خلال تقنية المخيال الواسع في أهم مواقع بغداد التاريخية (باب وزارة الدفاع، شارع الرشيد، قاعة الشعب)، فقد جمع الكاتب والروائي حمودي قائدا التغيير للعهد الجمهوري الزعيم عبد الكريم قاسم والعقيد عبد السلام عارف مع رجال العهد الملكي (الملك فيصل الثاني، الباشا نوري السعيد، الأمير عبد الإله، نعيمة العسكري)، ومن وثّقَ تلك الحقبة الزمنية وهم: (حنا بطاطو، السيد عبد الرزاق الحسني، الإعلامية نعيمة الوكيل، الأديب مهدي عيسى الصقر، الروائي فؤاد التكرلي، الروائي عبد الملك نوي).

وتبدأ محاكمة التاريخ لقادة العهدين (الملكي والجمهوري) في قاعة العرش عندما يوجه الملك فيصل الثاني كلامه للزعيم عبد الكريم قاسم في ص11: (لماذا فعلت ذلك؟ هل نستحق ميتة كالتي حدثت؟)، فكان جواب قاسم بعد جدال على المحاكمات الوجاهية في العهد الملكي والجمهوري (ألست الملك؟ أم ما زال خالك يحكم بمجرى الأحداث حتى ونحن في الآخرة؟)، وهو جواب شافي لتدخل الأمير عبد الإله في حكم العهد الملكي كونه الوصي على العرش بسبب صغر عمر فيصل الثاني.

ثم يبدأ الكاتب حمودي بسرد الأحداث قبل يوم 14 تموز 1958 بأشهر من خلال الأمير عبد الإله المتحدث قائلاً: (قبل أشهر من يوم الإنقلاب أرسل شاه إيران محمد رضا بهلوي صحفياً سورياً يعمل في طهران اسمه نذير فنصة، كان يعمل لدى الشاه محمد رضا بهلوي)، وكان جواب عبد السلام: (ماذا أتى بهذا الشاه) ويرد عليه عبد الإله (اسكتوه فهو لا يعرف إلاّ الصراخ والقتل). من خلال هذا الحوار يدلل على تحليل الكاتب لشخصية عبد السلام عارف وكل من ورد اسمه في جريدة إطلاعات والمخابرات الإيرانية أيامها وتحذير الصحفي فنصة لعبد الإله من أن إنقلاباً سيحدث ضد العرش في العراق، واعطاه اسماء الضباط وفي مقدمتهم رفعت الحاج سري وعبد الكريم قاسم وآخرين، ومن هذا يستدل القارئ من خلال الرواية أن زعماء العهد الملكي كانوا يعلمون بالإنقلاب والقائمين عليه، إلاّ أن رئيس الأركان محمد رفيق عارف والباشا نوري السعيد رئيس الوزراء قد انكرا ذلك، فضلاً عن تقرير بهجت العطية مدير الأمن العام وقتذاك كان قد أخبرهم بالتحرك للإنقلاب.

ويحضّر الكاتب في المشهد الروائي الكاتب حنا بطاطو، والأخير يوجه سؤاله الأول لعبد السلام محمد عارف قائلاً: (ألمّ تصبح رئيساً للجمهورية بفضل شعار الوحدة العربية الذي رفعته دوماً؟)، وكان جواب عبد السلام (نعم ولكن لم يتم الأمر بمجرد رفع الشعار)، ويرد عليه بطاطو (أعلم ذلك فقد اخترت أن تنقلب على عبد الكريم ثم على البعثيين الذين أتوا بكَ إلى كرسي الرئاسة). ويستمر الحوار حتى يتدخل الأمير عبد الإله قائلاً في ص21: (الواضح أن أحلام السيد عبد الناصر التي كان العقيد يتبناها لم تتحقق في العراق بعد قتلنا وإعدام عبد الكريم لسبب بسيط... الجميع يكذبون... عبد السلام يكذب على عبد الكريم وقتلهُ، وكذب على عبد الناصر ولم يسلمه أرض العراق، وعبد الكريم كذب على الناس عندما أدّعى الديمقراطية وأعدم الضباط المعارضين لحكمه، ومنع من أدعى الديمقراطية من العمل السياسي)، وهكذا يستمر الجدال والحوار بين بطاطو وعبد الإله وعبد السلام وعبد الكريم قاسم ليوضح لنا الكاتب أن زعماء العهد الجمهوري الأول هم قد كذّبوا على بعضهم البعض وعلى الشعب العراقي لمكاسبهم الخاصة.

ثم يستحضر الكاتب في ص23 المؤرخ السيد عبد الرزاق الحسني كشاهد على التاريخ وحواره مع قادة العهد الملكي والعهد الجمهوري قرب قاعة الشعب، ويشير الحسني من خلال اللقاء إلى بوابة وزارة الدفاع وقوسها العالي قائلاً (هنا وضعوا جثة صلاح الدين الصباغ بعد إعدامه ليشاهدها عبد الإله، وهنا علق رجالكم ما تبقى من جسد الوصي)، لكن عبد الكريم قاسم يرد على الحسني في ص26 قائلاً (لم نكن نريد أن يمثل أحد بجثث القتلى لكنها إرادة الجماهير). ويستمر السجاال بين الحسني وقاسم بين مدافع ومتهم عن ما حصلت من أحداث صباح 14 تموز 1958 وما بعده، حتى يستدل الحسني في بداية باب المعظم (تكون قاعة الملك فيصل التي سميتموها قاعة الشعب، بعدها يبدأ سور جامع الأزبك وبوابته، ولم تبقيا للجامع سوى بوابة صغيرة... هنا قبل أن نصل إلى بوابة وزارة الدفاع كانت هناك عدة دكاكين للباعة ومنها دكان للمصور عباس القمري)، والذي يؤكد الحسني أنه المنسب للقوة الجوية ويدعى (عباس جميل) اشهر مطرب وعازف وملحن فيما بعد.

ويتسابق عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف في الحوار للرد على الحسني الذي اسكتهما موضحاً لهما بالوثائق خونة الشعب أمثال طارق عزيز الذي سمح لمؤرخ أمريكي (حنا بطاطو) بنبش سجلات الأمن العام، وذكر مرافق الزعيم جبار حمزة، وتستمر محاكمة التاريخ بحضور (الحرس السماوي)، واحضار الصحفية نعيمة الوكيل والروائي فؤاد التكرلي، والأخير يؤكد أيام الانقلاب في 8 شباط 1963 الحزينة التي قادها قادة حزب البعث وعبد السلام عارف والمعارضين لحكومة الزعيم قاسم في ص42 قائلاً (أيام 8 شباط 1963 الحزينة التي قتلوا فيها آلاف العراقيين بطريقة وحشية غريبة، وما حدث بعد إنقلاب 17 تموز لا يقل وحشية أيضاً). وتلك فقرة في الرواية لإدانة نظام البعث في الجمهورية الثانية والرابعة.

ويستذكر الروائي حمودي عن لسان الحسني تاريخ شارع الرشيد والعلامات الدالة على أهمية هذا الشارع ورمزيته للعاصمة بغداد واعلامها، منها (الخط الجميل للراحل هاشم محمد البغدادي الذي يعلوا جامع الحيدر خانة، ومحل شربت الحاج زبالة، ومقهى حسن عجمي ورواده من الأدباء والمؤرخين والاعلاميين، ومقهى البرلمان ورواده الشعراء: كالشاعر الجواهري، وعبد القادر البراك، وسليم البصون، وشاكر الجاكري ومنير رزوق وحميد رشيد)، وعشرات الأدباء والصحفيين... ويستمر الروائي ينقلنا عبر سياحته اليقظة لأستذكار جريدتا اليقظة والحرية، وأحداث الموصل عام 1959م، والصراع بين القوميين والبعثيين والشيوعيين، وسرد الأحداث التاريخية في عهد الجمهورية الأولى حتى يصل إلى الموقف الدولي من الجمهورية وعلاقة الزعيم عبد الكريم قاسم بالجانب البريطاني ودور الأخير في دعم ومساندة الانقلاب ودعم الزعيم في تحرك قواته لاحتلال الكويت عام 1960م وتراجعه عن موقفه هذا حتى يكون جواب نوري السعيد للسفير البريطاني هنري تريفليان في ص59 قائلاً: (الذي فهمته وأنا في دار الخلود بعد الإنقلاب، أن الأصدقاء البريطانيين قد تنكروا للصداقة معي ومع الهاشميين وبنوا علاقة سرية مع الضباط المتمردين قبل قيامهم بانقلابهم)، فكان جواب عبد السلام عارف والزعيم قاسم في ص60 : (هذا كذب).

فمن خلال السرد الجميل والمتسلسل والسلس للأحداث وما مرَّ به العراق من مآسي وويلات وكوارث أستدل كقارئ أن جميع الثورات والإنقلابات التي حدثت في العراق والوطن العربي تتم بدعم ومساندة الأجنبي لغرض تغيير أعوان النظام بعملاء آخرين لتنفيذ مطالبهم وفق إرادتهم ومصالحهم.

لذلك يدعونا الروائي باسم عبد الحميد حمودي من خلال هذه الرواية وسرد أحداثها الواقعية إلى أن ظاهرة إعادة انتاج مقدمات اسباب الفشل التاريخي الهائل الذي حدث في العراق على مر العصور، منذُ أن ظهر العراق بصورته وكيانه الجديد الفاشل في بداية القرن العشرين، هو بدعم أجنبي، وأكثر الداعمين هم البريطانيين للنظام الملكي ونظام الزعيم قاسم أثر إنقلاب 14 تموز 1958، ونظام عبد السلام عارف ونظام البعث في 17 تموز 1968، وإلى منظومته المتراكمة في انتاج الأحداث وإعادة إنتاج هذا الخلل الجوهري في استمرار الإنقلابات و(الثورات) وما يسمى (التحرير) البريطاني والأمريكي الأخير 2003م، واستمرار عدم الثبات والاستقرار.

فقد كان إنقلاب 14 تموز بداية الإنحراف التاريخي الكبير عن المجرى الطبيعي والشرعي لتطور الدولة ومؤسساتها، وتناقض المصطلحات (التحرير) و(الاحتلال) للعراق، فقد كان (تحريره) و(احتلاله) وجهان لعملة واحدة هي انهيار الدولة العراقية، ولم يكن التحرير سوى استبدال نخبة بأخرى، أي استبدال نخبة تقتل الهوية العراقية بأخرى مقتولة الهوية. أما الاحتلال الأمريكي للعراق فقد كان مجرد استبدال نخبة خارجة عن التاريخ بأخرى لا تاريخ لها ن احزاب وحركات اسلامية وقومية وعلمانية.

وهي فكرة سبق وأن صورها (ابن عربي) قبل قرون عديدة عندما قال بأن (ما يجري هو استعداد لما فينا، فما أثّر فينا غيرّنا)، أي ما حدث بداية القرن الحادي والعشرين هو (استعدادنا لما فينا)، ومن ثم (فما أثّرَ فينا غيّرنا). بعبارة أخرى، إن الأحداث الدامية والمأساة الذي اصابت نوعية ابتعاد العراق عن مرجعياته الذاتية الكبرى، فـ(التحرير) البريطاني لم يكن سوى (تحريره) من السيطرة التركية ووقوعه تحت (الانتداب) البريطاني في بداية القرن العشرين، ثم (تحريره) من السيطرة الصدامية ووقوعه تحت (الاحتلال) الأمريكي. فكل ما جرى ويجري في العراق هو نتاج لما فيه وفينا.

مع هذا وكل ما ذكره المؤرخين والكتّاب والأدباء عن تاريخ العراق وأحداثه أجد أن العراق لا يسقط ولن يسقط، بل تنهار فيه السلطات حالما تخرج عن منطق إرادته المتراكمة في الذاتية الكبرى، وتشكل هذه الذاتية العصب الروحي لوجوده التاريخي وكينوته الثقافية، أي لمضمون هويته العامة والخاصة. فالأمم الكبرى تكبو! وفي كبوتها عادة ما تثير غبار الزمن وتستفز الإرادة من أجل امتطاء جوادها من جديد. وليس هناك من جواد عراقي أصيل غير ما تجود به مكوناته الذاتية. فالخلل التاريخي الهائل الذي مسّ مختلف جوانبه بحيث تحول (الاحتلال) إلى (تحرير)، والذي أدخل في دهاليزه مختلف القوى السياسية المنتفعة وهو خلل تتحمل مسؤوليته جميع القوى السياسية في العراق، كلٌ بمقدار ما فيه من استعداد للخيانة والإنحراف، مما أدى الرجوع القهقري إلى مختلف نماذج وأشكال البنية التقليدية إلى تنظيم البؤس والانحطاط والتخلف في مقدمتها انهيار الدولة ومؤسساتها ومنظومة المجتمع وقواه الحَيّة، والثقافة ورصيدها العقلاني والإنساني، وبهذا المعنى لم يكن خراب وانهيار الدولة العراقية إلا بسبب التدخل الأجنبي ولغاية هذا اليوم، وهذا ما اعتقد ما يرغب الروائي أن يوضحه للقارئ من خلال روايته (الباشا وفيصل والزعيم).

فقد رمت القوى السياسية المجتمع في أتون المغامرات والانقلابات والخيانة وغيرها من الأساليب أموراً مقبولة ومعقولة للشرعية الثورية، حيث حولت العراق إلى كيان رثّ، واسلوباً لتصنيع، شامل للرثّاثة الاجتماعية.

ولا ننسى أن مؤلفات الكاتب والأديب باسم عبد الحميد حمودي، فمن أبرزها:

- عادات وتقاليد الحياة الشعبية العراقية (إعداد وتقديم).

- كتاب التراث الشعبي. دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1986م.

- الزير سالم. سلسلة الموسوعة الصغيرة. بغداد 1989م.

- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. دار الشؤون الثقافية. بغداد 1989 (الطبعة الأولى)

- التراث الشعبي والرواية العربية الحديثة. الموسوعة الصغيرة. بغداد 1998م.

- تغريبة الخفاجي عامر العراقي. هيئة قصور الثقافة. القاهرة عام 2000م. (الطبعة الثانية).

أما الكتب المشتركة:

- أبحاث في التراث الشعبي. كتاب التراث الشعبي رقم 2. بالاشتراك مع د. أحمد مرسي/ د. حصة الرفاعي/ د. محمد رجب النجار وغيرهم عام 1986م. بغداد.

- سحر الحقيقة. شخصيات وكتب ودراسات في التراث الشعبي. دار ميزوبوتاميا. بغداد. الطبعة الثانية عام 2014م.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

عرفنا الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي ناقدا وباحثا في حقل التراث قدم عددا كبيرا من الدراسات والكتب التراثية والنقدية ورأس تحرير مجلات ثقافية وصفحات للتراث الشعبي في عدد من الصحف العراقية ولكن اليوم يفاجئنا بالانتقال من حقل النقد الى الابداع في مجال السرد التاريخي وذلك بروايته (الباشا وفيصل والزعيم) الصادرة عن دار دجلة في عمان 2022 الذي تناول فيها حدثا عراقيا اشكاليا اذ تعددت الآراء وانقسم الجمهور العراقي بشأن ما حدث صبيحة الرابع عشر من تموز عام 1958، فريق اعتبر ما قام به العسكر صباح ذلك اليوم هو ثورة تحررية أطاحت بالحكم الملكي وارتباطه بالاستعمار البريطاني واعادت للعراق سيادته وتخلصه من قيود حلف بغداد المشبوه، بينما فريق اخر رأى الحدث انقلابا فتح بوابة الدم على العراق وعصف باستقراره وجريمة بحق الاسرة الهاشمية المسالمة وكان صدى هذين الرأيين صدور كم كبير من الدراسات والمقالات والكتب جسدت اتساع الفجوة بين مؤيد ومبرر وبين ورافض وساخط على أحداث وتداعيات ذلك اليوم .

بعد اكثر من ستة عقود مرت على ذلك الحدث يعود الناقد باسم عبد الحميد حمودي ليذكي جمرة الاختلاف القابعة تحت رماد الحرائق التي تلاحقت على العراق بعد احداث الرابع عشر من تموز 1958 ويسترجع في روايته احداث ذلك اليوم الدامي حيث يستحضر من خارج الحياة الدنيا شخوص ذلك الحدث (الباشا نوري السعيد رئيس الوزراء آنذاك ومهندس السياسة الملكية والملك فيصل الثاني ملك العراق الذي قضى نحبه صبيحة ذلك اليوم وكذلك الزعيم عبد الكريم قاسم قائد الضباط الاحرار والعقيد عبد السلام عارف الرجل الثاني المساعد للزعيم) ليجعل منهم متهمين وقضاة وشهودا في آن واحد، فعبر ثمانية فصول اشتملت عليها الرواية حاول المؤلف ببناء درامي جديد اعادة محكمة التاريخ والكشف عن اسرار وتفاصيل لم يسبق لمن كتب عن ذلك الحدث ان تناولها او أشار اليها ولكن المؤلف حرص على تسريبها وتأكيدها على لسان ابطال روايته وفي مواقع متعددة من الرواية .mde

يستهل الكاتب روايته بفصل (قاعة العرش) التي اراد لها ان تكون بمثابة قاعة لمحاكمة الأطراف المشاركة فيأتي بأطراف الصراع من الدنيا الاخرة بملابسهم التي كانوا عليها صبيحة يوم الحادث لكي يلغي المسافة الزمنية في ذهن القارئ ويزيد من واقعية الجلسة ويبدأ بنشر غسيل الاطراف من خلال حواراتهم وتراشقهم بالاتهامات والتنصل عن المسؤوليات جاعلا من شخصية المؤرخ " عبد الرزاق الحسني " التاريخ الشاهد على اقوالهم وبحضور المؤرخ (حنا بطاطو) صاحب كتاب تاريخ العراق الذي جاء تعريف المؤلف له (مؤرخ امريكي سمح له طارق عزيز بنبش سجلات الأمن العام ص 22) واخطر ما تضمنه هذا الفصل من اتهامات هو تعاون الزعيم قاسم مع الحكومة البريطانية ودعم بريطانيا للثورة وهذا أمر لا يخلو من مفارقة ويزيد من تأكيد هذه المعلومة في ما أورده على لسان الباشا نوري السعيد مخاطبا الحسني ومشيرا الى علاقة الزعيم بالسفير تريفليان سفير بريطانيا في العراق عام 1958 بقوله (اسمع سيدنا الحسني وانت يا استاذ حنا ان الرجل تريفليان سفير بريطانيا ببغداد أيامها كان شخصية متآمرة على العرش الهاشمي ويتمتع بصداقة قديمة مع عبد الكريم ص 56) و(ان عبد الكريم كان مرتبطا بالسفارة البريطانية في بغداد قبل قيامه بحركته ص61) وهي اشارة يراد منها التشكيك بنزاهة واستقلالية ما حدث صبيحة 14 تموز كما انها مفارقة اخرى يصعب تصديقها فمجريات الاحداث بعد الرابع عشر من تموز تقول غير ذلك، كما نخرج من هذا الفصل بمعلومة جديدة اخرى هي ان شاه ايران كان على علم بالحدث وقد ارسل مبعوثه الصحفي السوري والمبعد ايامها في ايران " نذير فنصة " الى النظام الملكي يعلمه ان انقلابا سيحدث ضد العرش .

جاء الفصل الثاني (شارع الرشيد) ليكون بمثابة كشف دلالة حيث تخرج اطراف الحدث وهي مطوقة برجال الحرس السماوي في جولة شملت الاماكن التي لها علاقة بأحداث الرابع عشر من تموز ومن بينها بناية وزارة الدفاع وكذلك قاعة الشعب التي شهدت محاكمة اقطاب النظام الملكي وكعادته حرص المؤلف على تمرير عدد من المعلومات التي لم يسبق الاشارة اليها من قبل المؤرخين ومنها شخصية الفنان عباس جميل الذي كان من منتسبي القوة الجوية العراقية باختصاص التصوير الجوي وكذلك شخصية القاص عبد الملك نوري الذي شارك والده في انقلاب بكر صدقي وقتل في الموصل والصحفية المقربة من الزعيم نعيمة الوكيل ومحاكمة الجواهري خلال عهد الزعيم واطلاق سراحه بكفالة مهينة كما انه رفع غطاء الحياد عن المؤرخ الحسني وجعله من المنحازين لأحد اطراف الصراع من خلال توجيه الاتهامات للزعيم والعقيد في مواضع عدة من الحوارات ومنها رده على الزعيم في وصف احداث الموصل عام 1959 بانها (كانت فوضى مجنونة وانتما من شجعها ص26) او رأيه في سياسة الزعيم (الزعيم والعقيد لم يتركا للناس حرية الابداع ص 45) اوفي رده على العقيد (كان عبد الكريم سقيفة الحكم التي انهارت مع صورة ديمقراطية كاذبة ص 47)

لقد اظهر المؤلف صورة الزعيم والعقيد مهزومين امام خصومهم وعاجزين عن الرد على كيل الاتهامات الموجهة اليهما سواء من الذين صورهم ضحايا او من المثقفين الذين مثلهم التكرلي وعبد الملك والصقر والذي استحضرهم في المشهد ليزيد من اظهار سلبيات الشخصيتين وليبرئ النظام الملكي من اية سيئة رافقت اداءه واقتصرت ــ على لسان ابطال روايته ــ مسؤولية ما حدث صبيحة ذلك اليوم على الزعيم لوحده .

في الفصل الرابع من الرواية نتعرف على شخصيتين جديدتين هما نعيمة العسكري شقيقة جعفر العسكري وحرم الباشا نوري السعيد والملكة نفيسة والدة الوصي عبد الاله وجدة الملك فيصل ويبدو ان المؤلف زج بهما في مجريات الاحداث لزيادة التنكيل بالضباط الاحرار ولزيادة شعبية المتعاطفين مع ضحايا الاسرة الهاشمية حيث يخلق المؤلف جواً دراميا عندما يترك الملكة نفيسة تروي للجالسين (لم اكن اصدق انهم سيقومون بقتلنا .. وضعت القران الكريم على رأس فيصل وانا امشي خلفه مرددة آيات من الذكر الحكيم وكل ظني انهم سينقلوننا بسيارات الى خارج العراق .. تماما مثلما فعل المصريون مع فاروق ص 88) .

وجاء الفصل قبل الاخير من الرواية الذي اطلق عليه المؤلف عنوان " المواجهة " ليكون الجلسة الاخيرة للمحاكمة واطلاق قرار الحكم عندما يجمع الاطراف في صالة فندق بغداد وتتولى الملكة عالية والدة الملك بتوجيه السؤال الى الزعيم عن الاسباب الذي دعته لقتل الملك فيجيبها الزعيم بكلمات لا تخلو من اعتراف وندم (يا سيدتي .. ما حدث قد حدث .. انها مشيئة الله ص 99) ويقر عبد السلام بعذاب الضمير الذي نالاه جراء جريمتهما (ولم نهنئ لا بقتل من قتل ولا بحياة آمنة ص 100) ويختتم المؤلف روايته بمشهد خروج موكب الضحايا وقاتليهم من بوابة فندق بابل في اشارة الى نهاية عهد دامي وكان في توديع الموكب عهد دامي جديد يمثل صدام حسين وسلام عادل وكامل الجادرجي وصولا الى عهد دامي اخر ابطاله عمائم مختلفة الالوان .

لقد حاول المؤلف ان يقف على الحياد والنأي بنفسه عن الانحياز الى احد اطراف ذلك اليوم الدامي الا انه لم يتمكن من اخفاء تعاطفه مع محنة الاسرة الهاشمية عندما لم يتعرض الى سيرتها السياسية ولم ُيظهر من خلال حوارات ابطال روايته الاسباب والتراكمات التي ادت الى احداث صبيحة يوم الرابع عشر تموز لذا ظهر المؤلف في روايته ناقدا اكثر منه روائيا .

***

ثامر الحاج امين

جواد غلوم شاعر لا يكشف عن هويته العمرية لكي يُفلت من سجن التجييل، لاسيما أنّ النقاد والكتبة درجوا على اعتبار سنوات العمر هي أبعاد هذا السجن وقضبانه، وقلما كان للملامح الجمالية والإبداعية أثر في تحديد تلك الأبعاد. إنّ إفلات جواد غلوم من قيود التجييل مكّن قصائده من أن تمتح من أجيال الشعر في كلّ عصوره بحرية شاعر لا يتبنى مدرسة، أو اتجاهاً شعرياً محدداً، ولا يقيّد انتماءه سوى للشعر بمفهومه الذاتي النقي المتجرّد من أية مؤثرات موضوعية مفروضة عليه من خارجه، تُعقلنه، وتُحرّفه عن عفويته الغنائية. أما (سهول وتضاريس شعرية) فهي مطوّلة جواد غلوم، وهي بيانه الشعري الذي على خلاف البيانات الشعرية المعهودة أصرّ على صياغته شعراً. فبالرغم من قدرته على تطويع النثر في معالجاته التي لا تغلب عليها في العادة قضايا الشعر وإشكاليات صراعاته المزمنة، بل تغلب عليها قضايا الشأن العام، إلا أنّ معالجات الشأن الخاص تفرض عليه آليه تعبيرية تتوافق مع صوته الداخلي، وتضمن لذلك الصوت محاوراً مفترضاً يُكمل معه متطلبات مونولوجاته الذاتية، إنها آلية الشعر.

لقد رسم جواد غلوم بهذا البيان الإستثنائي اللغة ظروف تشكل تجربته الشعرية، والعوامل الخارجية – تحديداً – التي أثّرتْ فيها، وساهمت في نموّها، مع ملاحظة أنه في رصده لتلك التأثيرات عادة ما يتناولها من جانبها الحياتي كموجّه لحياة الشاعر - الإنسان، وليس كمفتاح لتجربة الشاعر - اللغة، مما يوحي بأنّ هناك حالة تماهي ما بين خارج القصيدة وداخلها ربما نجم عن عفوية النظر لتحولات كليهما (الخارج – الحياة)  و(الداخل – الشعر) من قبل الشاعر بدليل أنّ الوقوف على محطات مسيرة الشاعر المثقلة بتجارب الألم والمعاناة لم تكتنفه أية محاولة لتبيان مدى انعكاسها جمالياً على مغامراته التجريبية في الكتابة الشعرية، ولم تخض في تحديد أبعاد طموحات التجديد والابتكار، فهو يكتفي بتناول خريطته الحياتية ببعدها الإنساني، وليس ببعدها الجمالي، رابطاً ما بين التأثيرات التي طرأت عليها وبين الشعر دون أن يكون لهذا الربط من تفسير.

ربما يفترض المنطق الجمالي أن يكون اتجاه التأثير الإبداعي من الشاعر على الشعر، وليس من الحياة على الشعر، وذلك من أجل أن تتحدد أبعاد التجربة بقصديتها وبوعيها، أما أن تكون الحياة، أو الشعر - بمفهومه الذوقي المجرّد والمكتفي بعفوية السليقة  هما محركا التجربة، ففي الحالين سيبقى الشاعر يدور حول خلية العسل، مستمتعاً بمذاقه الذي سيصرفه عن التفكير في تنقيته وتحسينه. ومهما كانت التخريجات المنطقية والجمالية للعلاقة ما بين أطراف ثلاثية الشاعر والحياة والشعر، أو مهما كانت اتجاهات التأثر والتأثير بين تلك الأطراف فجواد غلوم ما زال يُصغي لصوته الداخلي، مشغولاً بعذوبته عما تدور في الوسط الثقافي من جدالات المتحاورين والمتخاصمين حول تحولات الشعر، فصوته الداخلي هو خلاصة إرثه القديم، يحرص على إبقائه نقياً، صافياً من التزويقات اللفظية، والشكلانيات الحداثية. إنه يعود بشعره إلى مرحلة الرواد، بل إنه ينزلق أحياناً حتى إلى ما قبل تلك المرحلة مازجاً في بوتقة واحدة ما بين آليات الكتابة الجديدة، وطرائق التعبير التقليدية، متمسكاً بتقاليد القصيدة العربية في رصانتها الأولى، ليُبقي لها روحها الغنائية ذات الصوت الواحد، مكتفياً باستبدال الثوب الإيقاعي القديم بثوب إيقاعيّ جديد، هذه الطريقة الإنتقائية توفر للشاعر من الجدّة حرية اللعب بالإيقاعات الوزنية، وعدا ذلك ستبقى اللغة مرهونة بمحدداتها البلاغية، ولغتها الوصفية المتماسكة ذات الطبقات المتراكبة على وفق علاقات سببية، يؤدي ضمنها السابق منطقياً إلى اللاحق، بحيث أنّ إيّ إخلال بهذه الهندسة يُربك معادلة المعنى، وهي معادلة تتوخى الفهم قبل كلّ شيء على طريقة التطابق القاموسي ما بين الكلمة ومعناها، أو ما بين الدال والمدلول.

هذه الطريقة في الكتابة الشعرية تمثل القالب الشعري الثابت لجواد غلوم حتى فيما يكتب من قصائد النثر، حيث أن ما يطرأ عندئذ على هذه الخرسانة البنائية هو التخلي عن قشرة الإيقاعات الوزنية، وعدا ذلك فاللغة الوصفية الرصينة ذات الطبقات المتراكبة سببيّاً هي التي تحكم بنائية القصيدة، وهي التي توجه القراءة توجيهاً تسلسلياً من السابق إلى اللاحق، وتنازلياً من الأعلى إلى الأسفل من دون انحراف أو تقطّع.

تتكون قصيدة (سهول وتضاريس شعرية) من خمسة مقاطع، ويمكن عدّ المفردات الثلاث التي تتشكّل منها العنونة هي المفاتيح لكل مقطع من المقاطع الخمسة، فالظل الذي تلقيه بعدّها تركيبة نصية متجانسة واحدة يغطّي كلّ القصيدة، على الرغم من أن كل واحد من تلك المقاطع يمكن عدّه قصيدة مكتملة ومنفصلة بذاتها عن الأخريات، فهو يمثّل نموذجاً إنعكاسياً جزئياً للموضوع العام، إضافة لذلك ليس هناك من مفصل تصوري ناقص في مقطع ما ويُرجأ اكتماله إلى المقطع التالي، وليس هناك من رابط محدد يشدّ المقاطع إلى بعضها، وأن الروابط التي تشكلها أضلاع المثلث البنائي (الجغرافيا / الشعر / المرأة) التي سنأتي عليها لاحقاً، لا تساهم في توحيد بنية القصيدة بقدر ما تساهم في بناء مقاطع متماسكة بشكل انفرادي بحيث يمكن عدّ كل مقطع جملة شعرية مكتملة بحدّ ذاتها.

إنّ حصر العنونة للشعر بهذين البعدين الجغرافيين (ألسهول والتضاريس) جعل منها تركيب استعارية من مجالين متقابلين مجازياً ومتباعدين واقعياً، ومهّد للانفتاح داخل القصيدة على أبعاد جغرافية أخرى، وكل بعد منها غير مقصور على حدود جغرافيته الأرضية، بل يمتد على وفق متطلبات التشبيه أو الإستعارة أو المجاز ليقترن بأبعاد أخرى تمتدّ إلى مجالين من عالمين آخرين هما (الشعر) و (المرأة). وبذلك يكتمل مثلث الدلالة بأبعاده البنائية الثلاثة التي يحيل كل منها إلى عالم مستقل ومنفصل عن العالمين الآخرين، ولكنها تتّحد معاً في مثلث واحد يمثل الوحدة البنائية للقصيدة:

- ضلع المثلث البنائي الأول = ألجغرافيا مجازاً

- ضلع المثلث البنائي الثاني = ألشعر

- ضلع المثلث البنائي الثالث = ألمرأة

وسيتمخض كل ضلع من الأضلاع الثلاثة عن مجموعة من الإشارات، تترابط مع بعضها سيميولوجياً لتشكّل معاً بنية القصيدة، وليس من العسير تبيّن العلاقات ما بين الدوال والمدلولات ضمن عناصر تلك المنظومة، والتي تغلب عليها العلاقة السببية، كما في النموذج المثالي التالي من المقطع الأول:

- (ألوسادة × ألنوم):

  (يستلّ مني الوسادة كي لا أنام)

- (ألعوم × " ألثلج والزمهرير "):

  (أعوم مع الثلج والزمهرير)

- (ألجمال × ألشهوات):

-  (يُريني من الشقر والبيض والسمر والسود

  كي يُشعل القلب جمراً من الشهوات)

وتلك العلاقات ما بين الدوال تؤدي لتشكيل مجموعة من الثنائيات الضدية التي قد لا يقتصر  الكشف أحياناً عن ضديتها البحث داخل اللغة، بل يتجاوزه إلى خارجها كالثنائية ما بين (صدور العذارى)، أو ما يمكن أن نطلق عليه إغراء الجمال من جهة، وما بين (العجز) أو العجز عن تلبية دعوة الشهوة التي يُحفّزها أو يُهيّجها هذا الإغراء من جهة أخرى. فبدون البحث داخل وخارج اللغة لن نتبيّن دواعي هذه العلاقة ما بين طرفي الثنائية، فالداخل اقتصر على التلميح بالعجز والهوان، أما الخارج فيقودنا إلى شعاب أخرى ليس من الضروري الكشف عن تفاصيليها الدقيقة، ولكن لا بدّ من الوقوف على أطرافها البعيدة، أو التلميح لها بعمر الشاعر والذي يمكن تخمينه من سيرة حياة الشاعر، ومن الواضح أن التخمين هو أحد معطيات القراءة الخارجية، ولكنه اضطر للإشارة إليه:

(غدونا كبارا

أحسّ الحياة مزارا

والأماني صخوراً عثارا)

أما القراءة الداخلية الممكنة لتبيّن سر العلاقة الضدية لثنائية (الإغراء × العجز) فتقدمه تجربتة الشاعر الإغترابية خارج الوطن (مبطئاً طاعناً مزقته المنافي)، وكذلك تجربة  الإغتراب الأقسى داخل الوطن:

(هنا عثرتي عند باب الأغا

هروباً من الأمن والسافلين)

وفيما يلي ما يرشح عن العلاقة ما بين الدوال في المقطع الأول من ثنائيات ضدية:

- صدور العذارى (الإغراء) × ألعجز

 (يُريني صدور العذارى

  أقول له: إنني قد عجزتُ، وهنتُ)

- (ألارتقاء × ألجبال):

  (فيرقى أعالي الجبال)

- (ألدحرجة × ألسفوح):

  (يُدحرجني مرّة إثر أخرى

  لمرعى السهول وسفح التلال)

- (ألعهر × ألرعشة):

  (فأغرق في عهر غانية علّمتني

  رعاشَ الغرام ووهج الوصال)

تتشكّل بنية القصيدة من التداعيات الصورية التي تتمخض عن كل ضلع من أضلاع المثلث البنائي المشار إليها سابقاً، ولنبدأ بالعنونة التي تحدد ثنائية الضلع الأول من كيانين ماديين مستلين مجازاً من الفضاء الجغرافي  (سهول + تضاريس) وكلا الكيانين منسوبان وبصيغة استعارية إلى فضاء الشعر (سهول وتضاريس شعرية). وما تلك الثنائية إلا من قبيل القصر اضطراراً، لأن إطلاق كامل المفردات القاموسية لمكونات هذا الضلع سيُخرج العنونة من مقطعيتها اللغوية المكثفة كنص موازٍ يُدلل ولا يُفصّل، ولكنه سيُمهّد للمتلقي تلقي ما تطلقه القصيدة من بقية تجليات هذا الضلع والتي سنأتي عليها فيما بعد.

قد يبدو الضلع البنائي الأول خروجاً عن الشعرية وشروطها الجمالية باعتبار أن الجغرافيا فضاء مستقلاً ومغايراً عن فضاءاتها المفتوحة، بحكم انغلاقه على نظامه المعرفي غير اللغوي، وعدم تقبله لتعدد المعاني والتأويلات. وقد أدرك الشاعر ما يمكن أن يوحيه ذلك للمتلقي، ولذلك جاء الربط ما بين المعاني الغائبة للضلعين الأول والثاني بعد تحرير القاموس الجغرافي من انغلاقه، وتمكين مفرداته من تلبس طاقة الإيحاء، ومن ثمّ الإنحراف أو التفجر ضمن حركة إبداعية شاملة لاستبدال دلالاته الموضعية المقيدة بمدلولات مفتوحة على معان متغيرة ومفاجئة. وستمتد آلية الربط ما بين المعاني الغائبة إلى مكونات الأضلاع الثلاثة مع بعضها على امتداد القصيدة بما يُخرج كل ضلع منها عن استقلاليته الدلالية مولداً نوعاً من الإستعارات المفتوحة التي تنبسط لتشمل جملاً شعرية بكاملها، ولتفارق بهذه الآلية نمطية الإستعارات  التقليدية المقصورة عادة على مفردتين تمثل كل منهما مجالاً تصورياً مقابلاً ومستقلاً عن الآخر.

تجليات أضلاع المثلث البنائي:

ألضلع البنائي الأول – ألجغرافيا مجازاً لغوياً:

تتجلى أضلاع هذا المثلث البنائي من خلال عدة مظاهر، فالضلع الجغرافي ألمحرف معرفياً سواء بالانزياح أو بالإيحاء ليتواءم مع مقصديات الشاعر وغائية الشعر يتجلى:

1 - من خلال المظاهر المناخية (ألجغرافيا المناخية):

   - (ألثلج والزمهرير): (أعوم مع الثلج والزمهرير)

   - الهجير: (أحتمي هرباً من هجير)

   - ألصيف: (عرق الصيف والحيف والمنهكات)

   - ألغيم: (أمتطي غيمة من دخان السكائر)

   - ألفصول: (... وترجع مثل الفصول)

2 - من خلال التضاريس الطبوغرافية:

   - ألجبال: (... فيرقى أعالي الجبال)

   - ألسهول وألسفوح والتلال: (... لمرعى السهول وسفح التلال)

   - البيد والشِعاب: (إلى أين تزحف بي أيها الشعر؟ / في السهل والبيد بين الشِعاب)

   - ألوديان: (وتخشى سقوط الصخور / بين واد وواد)

   - البحار: (بين بحر العيون)

   - ألانهار: (سِدارته أبحرت عبرَ دجلة) أو (ما بين دجلة والكرخ...) أو (هنا كبوتي / على سفح دجلة لما سبحتُ بها)

   - الموانيء: (بميناء قلبي شراعاً عتيق)

   - ألشواطيء: (لعلي أحطّ على شاطيء) أو (وتلك القباب على شاطيء النهر)

   - ألقفار: (أبوسُ القفار)

3 - من خلال الأماكن:

  - ألعراق: (... أو أرى محفلاً ضائعاً للعراق) أو (سأبقى مكبّاً أديم صلاة العراق)

  - بغداد: (وتعشق بغداد منذ المهاد لحد الرقاد) أو (وبغداد كرخانة للزناة)

  - ألمسيّب: (فجسر المسيب أضحى خيالاً بعيد المنال)

  - شارع الرشيد: (إلى حانة في الرشيد)

  - باب الأغا: (هنا عثرتي عند باب الأغا)

  - ألأزقة: (لساني مذاق الأزقة)

  - ألكرخ: (ما بين دجلة والكرخ والقشلة الصامتة)

  - عقد النصارى: (أدخل عقد النصارى)

  - ألبصرة: (من بصرة الشوق).

  - خان مرجان: (إلى خان مرجان حيث المقامات دانية)

  - شارع النهر: (إلى شارع النهر والسحر والعطر والغانيات)

ألضلع البنائي الثاني – ألشعر:

هذا الضلع لا يتجلى سوى بذاته، والقصيدة – البيان بأغلبها تقريباً هي خطاب موجه إليه، ولذلك ينفتح على خبايا التجربة الحياتية للشاعر، ولكنه، وتلك مفارقة لا ينفتح على نظامه الداخلي، والمقاطع (1، 3، 4، 5) تستهلّ به، باستثناء المقطع الثاني فهو موجه عبر الإستهلال إلى الذات من خلال قرينها الزمني العمر (أيها العُمر، مرماكَ أقربُ مما تظنّ) وهو مقطع استذكاري لمسيرة حياتية خالصة، ولكنه سرعان ما يعدل عن انحرافه الإستهلالي بمخاطبة الذات – العُمر وذلك بالعودة بدءاً من السطر الخامس لهذا المقطع إلى مخاطبة الشعر عبر الإستفهام المكاني مقروناً بالنداء (إلى أين تزحف بي أيها الشعر).

وقبل إكمال الخوض في أثر هذا الضلع البنائي – ألشعر في توجيه المعنى العام للقصيدة، لا بدّ من الإقرار بأهمية المقطع الثاني في فتح خزانة التاريخ الشخصي للشاعر، وهي خزانة متخمة بإرث غني بالأصوات والمذاقات والروائح وطُرُز الأزياء والألوان والعلاقات الإنسانية، تمثل باجتماعها معاً فردوساً مفقوداً في الواقع، لكنه ما زال حيّاً باقياً في ذاكرة من عاش فيه، ويتجلى هذا البقاء في الحنين والشوق إليه، لكنه ليس كما يبدو على سطح التداعيات حنيناً لماضي المدينة بقدر ما هو حنين الذات إلى المراحل الأولى لتشكل وعيها بنفسها، وبما حولها، بدليل أنّ تاريخ الأمكنة المُستَذكرة لا يمتدّ إلى مرحلة أبعد من طفولة وفتوة وشباب الشاعر، أي أن الماضي لديه لم يعد رمزاً كونياً أو قناعاً أسطورياً كما كان يراه جيل الرواد، بل أنّ الماضي توحّد بالشاعر حتى صارا كياناً واحداً من الصعب إعادة فصلهما عن بعضهما. وأنّ حنين الشاعر لماضيه هو حنينه إلى طفولة الذات وبراءتها.  

هذا، ويمكن القول أنّ كل المقاطع الخمسة موجهة إلى  الشعر سواء بصيغته كمخاطب أو بصيغته كغائب، مع ملاحظة أن حضوره في المقاطع (1، 2، 3، 4) جاء مقروناً باستفهام مكاني تدليلاً على ضياع الشاعر، وفقدانه الإتجاه، باستثناء المقطع الأخير الخامس حيث جاء حضور الشعر مبدوءاً بأداة نداء مقرونة بالاستعطاف والتوسل:

 - المقطع الأول: إلى أين يأخذني الشعر؟

- ألمقطع الثاني: إلى أين تزحف بي أيها الشعر؟

- ألمقطع الثالث: إلى أين يدفعني الشعر؟

- ألمقطع الرابع: إلى أين يركلني الشعر في رجله؟

- ألمقطع الخامس: أيها الشعر هوناً على شيخك المستكين

ألضلع البنائي الثالث – ألمرأة:

تقدم القصيدة أربعة مظاهر واضحة للمرأة، وعداها فيمكن تبيّن أثرها في طيف واسع من التداعيات التي يستحضرها إلى ذهن المتلقي حديث الشاعر عن الجمال أو (إشعال القلب بجمر الشهوات) أو (الرغبة الماجنة)، أو من خلال التشبيه البعيد الذي يشدّه إلى عالم المرأة فيقرن انزواءَها بحانة في الرشيد (إلى حانة في الرشيد انزوت مثل بلهاء ساكنة). أو حتى من خلال تلمّس أثر المرأة في التناص الذي يُقارب ما بين قول شاعرنا (أمرّغ هذا الجدار وذاك المزار) وما بين قول الشاعر قيس بن الملوّح:

أمرّ على الديار ديارِ ليلى      أقبّلُ ذا الجدارَ وذا الجدارا

أما المظاهر الجلية لهذا الضلع البنائي فيمكن تبينها من خلال: 

1 - تتجلى المرأة في القصيدة بلوازمها، وتلك اللوازم قد تكون أعضاء الجسم:

  - ألصدور: (يُريني صدور العذارى)

  - ألعيون: (بين بحر العيون)

  - ألجفون: (بين نعس الجفون)

  - ألغدائر: (أنفثها خصلة من غدائر محبوبتي)

  - ألخصور: (ونقذف شهوتنا حول تلك الخصور)

2 - وقد تكون تلك اللوازم الجسدية عبارة عن إسقاطات لونية تحيل إلى المرأة :

  - (يُريني من الشُقر والبيض والسُمر والسود).

3 – أما المرأة بكيانها الإنساني، فقد جاء حضورها سلبياً عبر مظهرها الشهواني كمصدر للرغبات المحرمة من خلال الغواني والعواهر:

  - (فأغرق في عري غانية علمتني

     رعاش الغرام ووهج الوصال)

  - (... إلى " شارع النهر " والسحر والعطر والغانيات

     إلى غرفة

    في " جبهة النهر "

    نعرى مع الموبقات

    تجيءُ العواهر تقتاتُ أرواحنا علكة بين أسنانهنّ

    ونقذفُ شهوتنا حول تلك الخصور)

4 – وعدا تلك الصورة السلبية، فالصورة الإيجابية الوحيدة للمرأة هي صورة في غاية القتامة، وهي صورة مزدوجة، إحداهما للحبيبة، والثانية للأم، وقد اقترنتا معاً من خلال الموت، فالأولى ماتت في ربيع عمرها، بينما الثانية ليست سوى أطلال قبر، وإنه لمن المفارقة أن يرسم الشاعر الصورة الإيجابية للمرأة بهذه الصورة المزدوجة، والمعتمة الألوان. 

وبالعودة إلى العنونة، فأن ألمثلث البنائي الناقص الذي تمثله لا يخلو من التلميح إلى الضلع الناقص / المرأة، إذ أن المظهرين الطبوغرافيين مجازاً اللذين نُسبا في صيغة إستعارية للشعر يعودان في متن القصيدة ليُلمّحا إلى علاقة تشبيهية مع جسد المرأة، أي إلى جسد الضلع الغائب:

(يدحرجني مرة إثر أخرى

لمرعى السهول، وسفح الجبال

فأغرق في عهر غانية...)

لكننا لن نضطر دائماً لهذا التأويل بحثاً عن الضلع الغائب، حيث يتجلى المثلث البنائي بكامل أضلاعه بدءاً من المقطع الأول من دون أن يكون لتداخل الأضلاع ببعضها، وتكررها أثر في الإخلال بالبنية الثلاثية. فمع الاستهلال بالشعر يكون هذا المقطع قد أحضر ضلع بنيته الثلاثية الأول، ويبدو حضوره أستفهامياً مقروناً بفعلين ذواتي دلالتين متقاربتين تدل كلتيهما على الإنتزاع، وقد يكون المعنى المجاور الآخر هو الخُسران، وهذان الفعلان هما فعل الأخذ (يأخذني) وفعل الإستلال (يستلّ) وفي الحالتين فالفاعل هو الغائب، بينما الخاسر أو المُستلب هو المتكلم:

(إلى أين يأخذني الشعر

يستلّ مني الوسادة كي لا أنام)

إلا أن الطبقة العميقة من البوح والتي يمكن تبينها من رضا المشتكي المُستَلَب (بفتح التاء) – المتكلّم عن المستِلب (بكسر التاء) الغائب يوحي بأنّ هذا الأخير يُعطي بقدر ما يأخذ، بل إنّ ما يُعطيه لا يقلّ جمالاً ووفرة عما ينتزعه، وحسب عطاياه أنها تخنق الشاعر المشتكي من فرط وفرتها (إنه يخنقني بالجمال) أو بمعنى آخر أنّ ما يرشح عن هذا الضلع البنائي من العطايا تترك المشتكي غارقاً إلى درجة الإختناق في محمولات ضلع مثلث البناء الثالث / المرأة  في تدرجية بنائية توصل الأخير بالضلع التالي، أي الجغرافيا بتضاريسها المجازية.

ألمرفق

(سهول وتضاريس شعرية)

الى أين يأخذني الشعرُ

يستلّ مني الوسادةَ كي لا أنام

أعومُ مع الثلج والزمهرير

يُريني صدورَ العذارى

أقول لهُ: إنني قد عجزتُ، وهنْتُ

يسامرني ضاحكا هازئا

ويخنقني بالجمال.

يُريني من الشقر والبيض والسمرِ والسودِ

كي يشعلَ القلبَ جمرا من الشهَوات

فيرقى أعالي الجبال

يدحرجني مرةً إثر أخرى

لمرعى السهول وسفح التلال

فأغرق في عهْرِ غانيةٍ علّمتني

رعاشَ الغرام ووهج الوصال

***

أيها العمر، مرماك أقربُ مما تظنّ

غدونا كبارا

أحسُّ الحياة مزارا

والطريق حصىً راجما

والأماني صخورا عثارا

الى اين تزحف بي أيّها الشعرُ؟

في السهل والبيد بين الشِعاب

وتخشى سقوط الصخور

بين وادٍ ووَاد

تمهّلْ ؛ خطاي ارتعاش السقامِ المرير

لساني مذاق الازقّـة في حيِّنا

حين كنّا حفاةً صغار

حين نلتمّ بيتا فبيتا

نكاد نلامس كل القلوب التي عايشتنا

فتعصرني رعْدةٌ ماجنة

تعيد رفات حياتي

مُبْطئاً طاعناً مزّقته المنافي

أعودُ بحنّاء أهلي

أمرّغ هذا الجدار وذاك المزار

وتلك القباب على شاطئ النهرِ

مابين دجلة والكرخ و" القشلة " الصامتة

أعود وأنهك من تعبٍ يستريح بعظميَ

أدخل " عقد النصارى "

وأرشيف أهلي الغيارى

أرى محفلا ضائعاً للعراق

قلنسوة الراهب الموصليّ يقبّل وجهي

وكوفيّةً تحتمي بالعقال تؤازرني

وسروال جدّي من الكرد أمسحُ في ثوبهِ

عرَقَ الصيفِ والحيفِ والمنهكات

أحتمي، هرَبا من هجير

فألمحُ عمّي الافنديَّ " صبري "

"سدارتهُ" أبحرتْ عبر دجلة

من بصرة الشوقِ حتى رستْ

بميناء قلبي، شراعا عتيق

يميل كأعوامنا الماسخات

أمتطي غيمةً من دخان السجائرِ

أنفثها خصْلةً من غدائرِ محبوبتي

يومَ قبّلْتها في الوداع الاخير

وأقبرتها جنب أمي الرؤوم

أناشدُ ذاكرتي ان تحلّق في جنحها

لعلّي أحطّ على شاطئٍ

بين بحر العيون

بين نعْس الجفون

أنام هنيئا وأصطاد رؤياك في الحلْمِ كي أستريح

فهيهات هيهات ان أستريح

***

الى اين يدفعني الشعرُ!؟

خارت قواي

أريد الوصول الى غايتي ومناي

الى "خان مرجان " حيث المقامات دانيةٌ

لِنقطفَ ألحانها في النهاوند والرسْت حتى السحور

الى " شارع النهر" والسحر والعطر والغانيات

الى غرفةٍ

في "جبهة النهرِ"

نعْرى مع الموبقات

تجيء العواهر تقتاتُ أرواحنا علكةً بين أسنانهن

ونقذفُ شهواتنا حول تلك الخصورْ

وترجع مثل الفصول

كأيامنا الحالكات

***

الى أين يركلني الشعر في رِجْلهِ

الى حانةٍ في "الرشيد" انزوتْ مثل بلهاء ساكنة

تستحي أن تعبئ من خمرة الأمس دِنّاً وزِقَّا

تخاف اللحى الخادعة

عاقرت قتل من يحتسي لذّةً

حرّم الله نشوتها هاهنا

أباح لنا نهرَها في الجنان

هكذا دخلوا عقلنا

وسّخوا باحةَ البيت والروحِ

بأحذيةٍ قَــذْرةٍ موحلة

{جوادٌ جوادْ

أمازلت تسبي الهوى والجوى

وتبكي النوى والبعاد؟؟!

أجبني، كفاك العناد

كفاك تبوس تراب البلاد

وتعشقُ بغداد منذ المهادِ لحدّ الرقاد

كفاك بكاءً على الرائحين

كفاك كلاما على اللائمين

فجِـسْرُ " المسيّبِ " أضحى خيالاً بعيد المنال

خراباً يداسُ بهذا المداسِ وذاك النعال

نطاردهُ في أغاني الزمان المحال

وهشَّ الحديد بأركانهِ ناخراً

بقايا الجمال

وبغداد " كرخانةٌ " للزناةِ شبيه الرجال

وناعورةٌ تحتويها البغال

علامَ تدور، وتهوى الوصال؟

إلامَ تغني وتشدو: " أمانٌ..أمانْ "؟!

فهلاّ سكَـتَّ، خرسْتَ اللسان

فما من مجيبٍ وما من أذانْ

أإنصافُ منك تطيلُ الغياب؟!

وتنسى المباهج وسط الصحاب

فماذا أقول لمن شاقني في السؤال؟

وكيف أردّ الجواب؟

***

أيها الشِّعرُ هونا على شيخِك المستكين

هنا عثرتي عند " باب الأغا " أثقلت مشيتي

هنا كبوتي

على سفح دجلةَ لمّا سبحتُ بها

هروباً من الأمن والسافلين

سأبقى مكبّاً أديمُ صلاة العراق

وأصدحُ بين الركام

أبوسُ القفارْ

الى أنْ تلوّحَ كفيَّ يوم الغياب

***

ليث الصندوق

 

يأتي مصطلح الأنطولوجيا بِعدَّة معانٍ ، والذي يهمنا منها هنا هو معنى الوجود بوصفه فعل الظهور وخروج الذات أو ما فيها إلى العالم، ويبدو أنَّ معجم لالاند يرى أنَّ كلمة الوجود مشتقة من وجد يجد وجوداً بمعنى ظهر للعيان، أي أنَّها مقولة ظواهرية، وعليه، فإنَّ الوجود يرتبط بحسب دلالته اللغوية بما بدا في الخارج للعيان، وهناك من يرى أنَّ الوجود ينقسم على قسمين "وجود خارجي، ووجود ذهني، فالوجود الخارجي عبارة عن كون الشيء في الأعيان وهو الوجود المادي، أما الوجود الذهني، فهو عبارة عن كون الشيء في الأذهان، وهو الوجود يقابل الماهية" (1) ، ولعلِّي أجد في النتاجات الأدبية ما يمكن أنْ أعدّه من الوجود، ولما كان الإنسان هو مصدر من مصادر الكون، وهو المُنتج والباعث لإبراز ماهية هذا الكون، فهو موجد أشياءً جمَّة، لذا يمكن عدُّ النتاجات الفكرية والأدبية هي من  الوجود الخارجي.

وحين نقرأ مجموعة الدكتور صالح الطائي (تنهّدات على عتبة السبعين) التي صدرت في بداية عام 2023م ، وقد بلغ من العمر بضعة وسبعين عاماً نجده جسَّد فيها حنيناً لما يضمره قلبه من مشاعر دافئة، فبرَقَ بعضَها وفاءً لرفيقة عمره، إذ عبَّر عن شعوره تجاهها أنقى الكلام وأورف الصور، علماً أنَّ القصائد التي وجهها للمرأة بصورة عامة حملت في نسيجها عاطفةً جياشة على الرغم من أنها صدرت من مفكِّر أفنى عمره في التأليف، ولم نر له نتاجات رومانسية كما في مجموعته التي بين أيدينا، إذ كان جُلّ اهتمامه بالبحث والنتاجات العلمية، فقد ألَّف كتباً بعدد سني عمره أو يزيد، لكننا نراه في نصوصه الشعرية يفيض إحساساً دافئاً للحبيبة، فمن قوله في ذلك من قصيدته (يا ابنة السبعين): ص9

امسحي فوقَ تجاعيد المشــيبِ

وجراح القلبِ والأمـــسِ وأوبي

*

قبلةٌ منكِ تعيـــد الحبَّ لحنـــــاً

مثلما الفجرُ يُعتَّقُ بالغــــــروبِ

*

يا ابنةَ السبعين ما زالَ الهـوى

رعشةً والقلبُ يعلــــو بالوجيبِ

*

يا ابنةَ السـبعين يا طيف المُنى

يزدهي بالحبِّ والعيشِ الرغيبِ

*

أنا أشــــــريكِ بعمري كلِّـــــهِ

لثــــوانٍ كي أناديـــــــكِ حبيبي4674 صالح الطائي

فهو، ولكونه بعمر الشيخوخة، يظنُّ أنَّه يعيش مرحلة الذبول، ما يجعله يستعيد الحياة بحبٍّ أظهره وبكل عنف تجاه الحبيبة (الزوجة) التي سَقت هذا الحب منذ شبابه حتى هذه الأيام، فهو يلتمسها أن تمسح فوق تجاعيد المشيب؛ كون أصابعها هي ما تحمل الحنان، فحريّ بها أن تطفئ تلك التجاعيد؛ لتبحر به إلى أيام الشباب حيث الهوى والأحلام المفاضة بالجمال والحياة السعيدة. كما أنَّه يرى أنَّ قُبلةً منها يمكِّنها أن تجعل من الحبِّ لحناً، واللحن رمز الطرب والهيام، مشبهاً حاله في ذلك مثلما الفجر حين يُعتَّق بالغروب، مومئاً إلى العيش بين الواقع والخيال، ممازجاً بين الضياء والظلام، ليعبِّر عن اختطاط ثمالته بنشوة الغرام.

أما البيت الثالث، فيصف فيه أنه يعيش الهوى، والمُحبُّ عادة حين يلتقي الحبيب تتسارع نبضات قلبه، ما يجعله لا يستطيع أن يسيطر على ثبات جوارحه، لكن في الوقت ذاته أنَّ قلبه يعيش الحزن؛ لما بلغَ من خواتيم عمره.

والبيت الخامس ولشدة وفائه للحبيبة والتمسك بها، نراه مستعداً للتضحية بعمره كلِّه من أجلها - والجود بالنفس أقصى غاية الجود - فهو الباذل العمر من أجل أن يناديها بالحبيبة. وهذا البوح العاطفي يمثل نتاجاً وجودياً فاحتْ به قريحته، مختاراً صومعة الحُبِّ حين ضاقت به سني العمر؛ فاستأسدَ؛ ليقول مالم يقله لو كان في وضعه النفسي الطبيعي، هكذا هو بناء الوجود ونفحاته التي تظهرها القوى الخارقة من دواخل الذوات الإنسانية؛ ولكون الإنسان مثل الجوهر الخالق فهو خالق لوجود عَرَضي اسمه الإبداع، ممثلاً للنفحات الإنسانية الصادرة من الشعور والعقل الإنساني معاً.

إنَّ "فقدان الحياة لضيائها وحرارتها ودفئها يعني انعدام القيمة الإنسانية المثلى، والمعنى الإنساني العظيم، وتحول العالم الى خيبة كبرى تجر في إثرها وجعاً كالموت ثقلا وبشاعة، وكالغربة تشردا ويتما " (2)، ولعل الطائي ليس كغيره، فهو يحاول التمسك بصور الحياة المفعمة بالأمل؛ ما يجعله يطلب الحُبَّ؛ لإنارة دروبه المدلهمة التي لو تركها من دون أمل لصار الروح والجسد عليلين.

أما في قصيدته (شيخ وصبيَّة)، فنراه يعبِّر أصدق تعبير عن خلجات قلبه المفعم بالحُبِّ؛ نتيجة اغترابه واختناقاته من الروتين المُمل الذي يكاد يقضي عليه، فيهرب حيث لمسات الحنين والعواطف التي تمنحه الهدوء والسكينة فيقول:

لا أجيدُ نظم الشعر، فأنا لستُ بشاعر

لا أحسن السبك أو رصف القوافي

والقوافي، هي أيضاً قد تثور، وقد تجافي

لكنني يا حلوتي أملكُ قلباً عاشقاً

والعشق في بعض النفوس نهرٌ صافٍ

قد دلني الشوقُ إليكِ غيلةً.

سأسرقُ بعضاً من قصائد الغزل

وقصص العشاق والآهات والقُبل

وأحفظها على ظهر قلبي

وأنسبها لنفسي، ثم أقرؤها حينما تمرِّين بقربي

علَّكِ يا حلوتي ستشعرين فقري وتنظرين جدبي

علَّكِ أن تعشقي شيخاً تصابى

ولا في ركام عمري بعدٌ يريني القهر والحرمان

حبِّيني أيا مهجة عمري. (ص 97)

يبدو أنَّ الشعر "ليس زينة وتجسيماً للحياة، وإنما هو كشف عن عالمٍ مجهول" (3) ما نراه في هذا النص محاولته تقمص روح الشباب للعودة إلى يوتوبيا تجعله يتجاوز حالة اليأس والقلق، ونهاية المطاف، فنراه يطمح للعيش مع ترف الحياة، فهو يأمل أن يعيش مع شابَّة تخرجه من هذا السجن الذي أثقل كاهله، وكأنه في النص يحاول أن لايلتزم بالبديهية التي يحملها قول الشاعر:

ذهب الشباب فمـــا له من عودةٍ

وأتى المشيب فأين منه المهربُ

مسلياً نفسه بهذا الوهم؛ كي يسلو القهر والحرمان، طالباً الحُبَّ من فتاته التي يحفظ الأشعار لأجلها؛ ليلفت انتباهها إليه، متوسلاً بها أن تمنحه رشفات حُبِّ هو بحاجةٍ لها؛ ما يدعونا أن نستشعر الحالة التي يعيشها، ومثلما قلنا سلفاً أنَّه يتهرب مما يعانيه من قلق تجاه واقع مأزوم وخوفٍ من النهاية الحتمية التي يخشاها معظم البشر.

***

بقلم: د. رحيم الغرباوي

.................

الهوامش:

(1) الأنطولوجيا في المصطلح والمفهوم، ياسين حسين الويسي، العتبة العباسية المقدسة، بيروت، ط1، 2019م: 17

(2) معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، د. عبد القادر فيدوح، دار الزمان للدراسات والنشر، سورية، ط1، 2012م: 175

(3) آليات الشعرية الحداثية عند أدونيس، د. بشير تاوريريت، عالم الكتب، القاهرة، 2009م.

 

مقدمة: لعل رواية عروس الفرات انعطافة مميزة في نمط مؤلفات المؤرخ والباحث الكبير الدكتور علي المؤمن، ذلك أننا تعودنا منه البحث في طيات التاريخ السياسي، وفي الفكر الإسلامي والفكر السياسي، وهو ما أعطى لمؤلفاته سمة البحث العقلائي المدعم بالأسانيد من جهة، ومن جهة أخرى عدّت مصدراً موثوقاً لمن يقتفي المعلومة النقية والتحليل الموضوعي.

وبذات النكهة الجميلة كانت روايته هذه؛ فأنت حين تقرأ، تتنقل بهدوء بين مشاهدها، غير مرتاب من مبالغة أو اختلاق لما لم يكن، سيما وأنه يتحدث عن بيئة نشأ وترعرع فيها، وأبدع في أن يجعل حواسنا تسمع وتشم وتعيش نفحات مشاهدها السعيدة، ونحزن وتنقبض قلوبنا وهو ينقلنا الى مشاهد الهمجية البعثية، وقد عشناها لحظة بلحظة، نعم؛ وصلتنا في هذه الرواية رسائل عديدة، ستبقى تتنقل من جيل الى جيل دون عناء، ممتطية صهوة قلمه المبدع في هذا النوع من التأليف غير النمطي للدكتور علي المؤمن، الباحث في شؤون الدين والسياسة.

رأت رواية "عروس الفرات" النور في العام 2016، بعد عقود مرّت على أحداثها، وطبعت في مرحلة مهمة من تاريخ المجتمع العراقي، حيث غابت أو غيبت تلك الحقائق، بكل ما فيها من ألم وتحد، وآيات من صمود لشبيبة متعلمة قل نظيرها، سلاحهم العلم ومدادهم الأدب وقدوتهم نبيهم وأئمتهم من ولده، فتحوا قلوبهم لكل إنسان عايشهم، حاملين شعاراً مقولة مولاهم أمير المؤمنين (عليه السلام): (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)؛ فما أحوجنا لمثل هذه النماذج الفريدة من نوعها لجيل جديد كاد أن يفقد قدوات حسنة، وتجذبه وسائل التواصل؛ لتحرف مساره بعيد عن إرثه الديني والحضاري.

لقد اعتمدت في دراستي هذه بتناول رواية "عروس الفرات" من محاور عديدة، أزعم أني تصفحت عبرها أغلب ما جرى من أحداث ومشاهد اجتماعية سياسية عراقية خلال الأعوام 1979 ـــ 1982. وعلى الرغم من أنني سبق أن قرأت الرواية، إلّا أن القراءة بقصد الدراسة البحثية هي شيئ مختلف، فتح لي آفاقا لم ألتفت اليها من قبل.

المحور الاجتماعي في رواية عروس الفرات

جسّد علي المؤمن في روايته تفاصيل دقيقة لحياة الأسر العراقية الأصيلة، ووصفتها وصفاً جميلاً يجعل المرء يستشعر المكان استشعاراً حياً، ويكاد يشم عبق زهوره عند الحديقة، ويدخل الدفء الى نفسه عندما يصف اجتماع أفراد عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي حول المدفأة تجنباً لبرد الشتاء القارص في تلك السنوات، وتكاد رائحة الشاي وراتنجات قشور البرتقال تلامس أنف القارئ لهذا المشهد، ومن هنا يمكننا القول:

1- إن الرواية تعد مصدراً يؤرخ للتراث الشعبي السائد في القرن العشرين، وخاصة عقود الستينات وحتى التسعينات، حيث عرضت البيئة عراقية، بما فيها سلوك العائلة اليومي، عبر قيم متوارثة من الآباء الى الأبناء، بكل مصداقية وحرفية، وبينت كيف كان المجتمع العراقي مجتمعاً متماسكاً، انطلاقاً من الأسرة ذات العلاقات الحميمة، ونقول بحق: إن ما وصفته الرواية هو عراق ما قبل الغزو الفكري العلماني المتجسد بسلطة البعث وماتلاها.

2- أبدع المؤلف في مشهد عقد القران، والتمازج الاجتماعي بين عائلتين، يرأس إحداهما  سيدٌ معممٌ وأخرى يرأسها رجلٌ معّقلٌ، وما بينهما رجال من مختلف الأزياء السائدة آنذاك. وحفظ المؤلف الذاكرة الاجتماعية عندما وصف لحظات عقد القران، وما جرت عليه عادات الأسر الكريمة من حشمة ووقار، ونمط الأفراح المحافظة، حيث فصلت تواجد الحاضرين الرجال في حديقة الدار، بينما النساء يحطن بالعروس، يزغردن ويهزجن من مورثات شعبية جميلة، نكاد نفتقدها، عبر ما يحدث في حفلات زواج مختلطة تأثراً بثقافة دخيلة على العراق، مهد الحضارات ومهبط الرسالات ومثوى الأنبياء والأئمة الأطهار.

3- وثق لنا المؤلف ظاهرة الأسر المركبة في بيت واحد، مهما كانت مساحته، حين يتزوج الأبناء الذكور ويبقون في ذات مسكنهم الأصلي، ويعيشون بسلام ومحبة، ويتربى الأحفاد في أحضان الأجداد، هذه الظاهرة كانت سبباً رئيساً في توارث القيم النبيلة والسلوك الصالح، فضلاً عن فيض من الحنان الذي يناله الأطفال من الأجداد كل يوم ولحظة، بينما نرى اليوم الأمهات يعانين من صعوبة التربية والعصبية، وقلة الخبرة في التعاطي مع الأطفال، في حياة تزيد من ضغوطها عليهن، ولا سيما بالنسبة للمرأة العاملة، حيث يفتقر الأبناء الى مصدر نقي للتربية وإثراء الروح بتلك القيم، ولعل أحب طريقة لزرعها وانجحها هي قصة ما قبل النوم أو جلسات الليل في الشتاء، وهم يحيطون بالمدفأة النفطية وابريق الشاي يعتليها. كما أن المعيشة المشتركة تجعل الجميع يعيش بقواسم المصير الواحد والهدف المشترك وتتوحد التربية وتتوطد علاقاتهم مع الأقارب وليس كأيامنا صار الجيل الجديد يجد ضالته في الغرباء ولا يمت بصلة حميمة لأقاربه من أبناء الأعمام والأخوال.

المحور السياسي

أبدع المؤلف علي المؤمن في إيصال رسائل متعددة عن الواقع السياسي في العراق آنذاك، فضلاً عن الاجتماع السياسي للنجف الأشرف مدينة إمام المتقين؛ فعلى الرغم من أن يوم  17 تموز 1968 يعد يوماً اسوداً في تاريخ العراق لوصول البعثيين لسدة الحكم، إلّا أن الرواية بيّنت أن صدام حسين كان أشد إجراماً من سابقه أحمد حسن البكر، إذ كان صدام هو الجانب المنفذ لكل مخططات الاستكبار بكل طواعية، ولكونه مدعوماً منهم؛ فقد كان القرار بيده حتى حين كان نائباً للبكر. أما تاريخ 17 تموز 1979 فهو بداية علنية لسلطة الفرد الواحد المستبد، والمواجهه الحقيقية بين "الدعاة" والبعثيين ورئيسهم المحب للدماء صدام:

1- سلطت الرواية الضوء على العمل التنظيمي لحزب الدعوة الإسلامية، حيث أبدع المؤلف في وصف مشاهد عاشها "الدعاة" في العمل الحزبي السري، حيث كانت الأنفاس تعد من قبل أزلام البعث، وتكاد تطبق على كيان الفرد العراقي من خلال إشاعة (للحيطان آذان)، هذه العبارة التي جعلت المواطن العراقي في حالة اغتراب نفسي واجتماعي، واستلاب لكل معنى للحرية، كما أبدع الكاتب في التعريف بالعمل التنظيمي من خلال السرد السلس الممتع، وليس الشرح المباشر، وبيّن حقيقة أن خيرة الشباب المتعلم والمتدين ومن ينتمي لأصول اجتماعية عريقة، هو "الداعية" المتفاني في خدمة عيال الله، فضلاً عن الإقدام والشجاعة وحصافة الرأي في اتخاذ القرار الشرعي، مهما كانت نتائجه، وقد تجسد هذا النموذج ببطل الرواية الداعية أحمد عبد الرزاق، الموظف النزيه المحبوب من جميع زملائه في العمل، كما بيّنت الرواية تعامل أبناء عبد الرزاق مع أبيهم بطريقة الأخوة والصداقة، وهذا يدل على وعي وحرص في تربيتهم وتنشئتهم الدينية والسياسية.

2- وضحت الرواية في بعدها السياسي، همجية السلطة الحاكمة التي كان أعضاؤها والعاملون معهم من شراذم الخلق، وعندما تسلطوا على رقاب الشرفاء من العراقيين أساؤا استخدام السلطة وطغوا بكل معنى للطغيان، وأظهروا كل ما لايمكن وصفه من خسة ودناءة، كما كشفت الرواية عن غياب وانعدام مبدأ (المتهم بريء حتى تثبت إدانته)، والتي وردت في مواد كل دساتير العراق، ومنها الدستور المؤقت لعام 1972، والذي استمر العمل به لما يقارب ثلاثين عاماً دستوراً رسمياً للعراق، بينما كان المتهم لدى النظام البعثي مجرماً وإن ثبتت براءته. ولم يكتفوا بهذا القدر من الطغيان، وإنما عاقبوا العائلة فرداً فرداً على ما لم يفعلوه، متجاهرين بالتحدي بقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، حين كانوا يعتقلون عائلة المتهم صغاراً  وكباراً، دون أن يكون لأي منهم تهمة محددة، وهو مافعلوه بالضبط مع عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، حين قتلوا الصبي في الشارع، وهشموا رأس الطفل في المعتقل، وبقروا بطن الحامل، واغتصبوا الشابة، وأعدموا الرجل العجوز، وعذبوا المرأة الكبيرة، كل ذلك بسبب أنهم أقارب متهم هارب، لإجباره على تسليم نفسه!!.

ومن المؤكد في هكذا ممارسات عشنا تقاصيلها، كوني معتقلة سياسية، أن يتم  إعتقال عائلة المتهم جميعهاً، دون مذكرات قبض قانونية؛ إذ كان الطاغية صدام فوق القانون الذي شرّعه هو، وأعطى لقراراته وقرارات ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة، الذي كان يترأسه، قوة القانون، وبذلك انتهك الدستور علانية، ووصل به الحال ان يتجرأ  باختصار العراق بشخصه، عندما قال عبارته الشهيرة: (اذا قال صدام قال العراق).

المحور العسكري

وصف مؤلف "عروس الفرات" الحرب المفروضة على بلدين مسلمين بطريقة من عاش أحداثها أولا بأول، وعلى الرغم من الإسهاب والتفصيل الدقيق، لكنه لم يكن مملاً، بل نقَلنا لتلك الأجواء المؤلمة نقلاً سلساً، خاصة أننا عشنا كل لحظة فيها. ونتناول هذا المحور عبر:

1- أثر الحرب على الأسر العراقية؛ إذ بيّن الكاتب في مفاصل من روايته كيف عاش العراقيون حياة التعتيم، وقضوا لياليهم تحت ضوء الفانوس، فضلاً عن الشعور بالهلع من تداعيات الحرب. وبيّن الشعور بالمسؤولية الشرعية من المشاركة في الحرب من قبل عائلة السيد عبد الرزاق، وتجسيد مشهد القلق الذي انتاب العائلة جميعاً، عندما علموا بأن مواليد ولدهم أحمد مطلوبة للالتحاق بالخدمة العسكرية، وكان خوفهم من اقتتال المسلمين (مسلم يقتل مسلما)، وليس الخوف من الموت، وكيف كانت قرارات الطغمة الحاكمة جائرة في كل من لايلتحق بالجيش، وكيف هجموا على الدار الآمنة بكل همجية، وعاثوا فيها، ونشروا الخوف في قلوب  كل أفرادها، وكأنّ ولدهم قاتلاً أو مجرماً، وليس مجرد متخلف عن الالتحاق بالخدمة العسكرية. وكان قرار أحمد بأن يعتزل العالم ويبقى حبيس الدار، قراراً شجاعاً، ودلّ على مدى التزامه الديني بعدم مقاتلة أخوانه في العقيدة، على الرغم من القلق الذي شعر به والداه.

2- كشفت الرواية، دون أفصاح، عن مدى الخرق الذي اخترق به الطاغية بنى المجتمع، وزرع أعينه وجواسيسه بين الجيران، في الحي والزقاق الواحد، وعلى الرغم من التزام احمد بعدم الخروج من البيت؛ فقد استدل أزلام السلطة عليه، وعلموا أنه هارب من الجيش؛ فمن أعانهم على ذلك!.

3- أثر الحرب في سلوك أزلام السلطة تجاه الهاربين من الجيش، حيث وصف الكاتب كيفية تعاملهم القاسي جداً مع الهارب من الخدمة العسكرية، وتعذيبه بشتى انواع التعذيب الجسدي والنفسي، وكان هذا ديدنهم مع كل من يخالف نهجهم العدواني .وركّز الرواي على نوع من السلوك تميز به النظام القمعي، ألا وهو (التطويع) القسري، حيث يجبر المعتقل السياسي وأبناء العوائل المهجرة، وعموم الرجال من غير العسكريين، على (التطوع) للالتحاق بجبهة الحرب، من خلال ما يسمى بــ (الجيش الشعبي )، الذي يشمل الذكور من عمر (15- 55) عاماً، وهي القوات الايديولوجية الشعبية الرديفة للجيش الرسمي. كما يصف الكاتب إجراءات عناصر الجيش الشعبي التي يرعبون من خلالها العوائل باقتحام البيوت الأمنة بحثاً عن الرجال، ليسقوهم الى جبهات الموت، وهي الإجراءات القمعية التي سيق من خلالها أحمد الى الجبهة، وعدد كبير من المعتقلين، دون أن يخبروا أهاليهم بذلك.

4- أثر الحرب في سلوك منتسبي الجيش العراقي، إذ أبدع المؤلف في وصف مشاعر الجنود العراقيين وهم يجدون أنفسهم قد زجّوا في حرب دامية لاناقة لهم ولا جمل، ولايعرفون أي هدف مطلوب منهم تحقيقه!. وكان أحدهم يشعر أنه وقود لهذه النار المستعرة، دون اعتقاد أو إيمان بها، وأنه يكره وجوده في الميدان، ويترقب أية فرصة للهرب، وإن كان فيها موته المحتم. ولعل المشهد الذي وصف فيه المؤلف تصرف مراقب الفصيل العسكري عندنا لمح أحمد وزميله عباس وهم يهربون باتجاه ايران؛ دليل على انعدام العقيدة لدى الجيش بهذه الحرب.

5- المشهد المؤلم لوفاة عباس في الصحراء خلال هروبه من الجبهة؛ فإن الكاتب قد أبدع فيه؛ فهو ينقل مشاعرنا بين الطرافة التي كانت تجري بين هذين المظلومين أيام دراستهما وأيام شبابهما، وبين الأسى الذي يعيشونه وهم يسيرون بين حقول الألغام، مجازفين بأرواحهم، كي ينجوان من التورط في دم المسلم. وما أروع ما كتب عن لسان عباس الداعية، الذي لم يوص بأهله بقدر ما ناجي السيد الشهيد محمد باقر الصدر، وخاطب الدعاة الشهداء الذين سبقوه، نعم؛ بقي على عقيدته حتى آخر أنفاسه .

6- يمضي أحمد في طريقة اللاهب، يعين جسده المتعب بقوة الايمان والعقيدة، يتنفس الصعداء عند وصوله الجبهة الأخرى، وليصف لنا المؤلف كيف هي مشاعر المجاهدين الذين فارقوا الأهل والاوطان، وكيف يتوجهون بأنفسهم باذلين دماءهم للتحرير من ربقة الاستبداد .

القمع والقسوة البعثية

جسّدت رواية "عروس الفرات" مشاهد متعددة للقمع البعثي في كل فصولها:

1- خارج المعتقل؛ بدءاً بممارسات اقتحام الدور والاعتقال بدون إبداء مذكرة اعتقال، وانتهاءً بممارسات التعذيب وانتهاك أبسط حقوق الإنسان في دهاليز المخابرات وأقبية دوائر الأمن، التي سلبت أمان الأسر الأصيلة ولم ترع حرمة لأحد.

2- تجسّدت قسوة عناصر النظام البعثي وجرأتهم على الدماء، في مشهد قتل الفتى الطالب ياسر في الشارع؛ فمن أعطاهم هذه الصلاحية في إراقة الماء؟ إذ بين المؤلف أن أزلام الطاغية لا رادع قانوني لهم، وان مبدأهم هو أن قريب كل متهم هو مجرم وإن تثبت براءته.(1)

3- أما داخل المعتقلات؛ فقد أظهر المؤلف الصورة الحقيقية لانسلاخ جلادو الطاغية من انسانيتهم، ووحشية تعاملهم مع عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، حيث لم يراعوا حرمة امرأة مسنة كأم عادل، ولا شيخاً وقوراً كالسيد عبد الرزاق، ولا امرأة حامل، وحتى الطفولة؛ إذ لم يبالغ المؤلف في مشهد قتل الطفل البرئ علي، وإزهاق روحه خنقاً بيد ضابط التحقيق، نعم؛ نقل لنا المؤلف مشاهد بسيطة لقسوة ما عهده العراقيون من نظام البعث.

4- أوضح مؤلف الرواية المبدع، بطريقة مقنعة، مشهد انهيار ياسمين واعترافها على هروب زوجها أحمد، وهي ترى طفلها الوحيد يلفظ أنفاسه خنقاً حتى الموت، ذلك أن قلب الأم لا يمكن أن يقاوم رأفته بأطفاله، ولا سيما أن ياسمين كانت حاملاً؛ فهي ــ إذاً ــ كانت تتعرض لضغوط نفسية موجعة جداً، قد تفوق ضغوط غيرها، ولا يمكن لأي أم أن تكون أما إن قاومت ماجرى لصغيرها الوحيد.

التهجير القسري

شابهت مشاهد محور التهجير (التسفير)، لدرجة ما، مشهد هروب أحمد ورفيقة عباس، من حيث وصف المنطقة الحدودية بين العراق وجاره اللصيق ايران، إلّا أن المأساة كانت متجسدة أكثر في هذا المشهد الذي يخص ما أسماه النظام البعثي العراقيون من ذوي الأصول الإيرانية (التبعية):

1- حنين المهجرين (المسفرين) الى الوطن، وهم بعد لم يغادروه، وما أعمق عبارة الرجل المسن الذي فارق وطنه، وهو ينادي نهر الفرات، وكيف أنه سيفارقه الى الأبد، بسبب سياسات البعث الهمجية.

2- مآسي الأمهات والأخوات والزوجات المهجرات، اللائي اعتقل رجالهن الذين هم بعمر 18 ـــ 38 سنة، دون سبب، سوى أنهم من أبناء المسفرين، وكيف تركوهن يواجهن مصيراً مجهولاً على أيدي هؤلاء الطغاة، نعم؛ لم يتم الإشارة سوى الى الرجال الكهول بين المسفرين، وهنا؛ تعددت أوجه البلوى على المهجرين قسراً (المسفرين)، فهي ليست سفرة عائلية ترفيهيه، بل تهجير قسري، شتت شمل الأسرة، ونهب كل ما تملك، ليجعلها بين عشية وضحاها لاتملك سوى ماترتديه من ملابس فقط!.

3- في هذا المفصل من الرواية، تحدث المؤلف بطريقة السرد الضمني، ليصف لنا تحالفاً مشؤوماً بين أكراد منشقين عن الجمهورية الاسلامية وبين سلطة الطاغية صدام،  وكيف أن هؤلاء المرتزقة الذين جمعهم بنظام البعث عداوة الإسلام، وقد فسح لهم مجال التعدي على حرائر العراق من تلك العوائل التي سلبت كل حقوقها، وسيقت الى مجهول، بعد أن فقدت الأحبة، بين معتقل وبين فاقد للحياة في طريق التهجير.

4- لم يرحم نظام البعث العوائل المهجرة، حتى الطريق الذي خصصه لهم هو من مناطق الأراضي الحرام التي زرعت فيها الألغام، وكانهم قاصدين فيها أن يموت المسفرون، ولا يصلوا الى الجانب الأخر، إذن؛ هو حكم بالإعدام مؤجل التنفيذ؛ فأي حقد هذا؟!. ويتعجب المرء كيف تناسى هؤلاء الجلادون تلك القواسم المشتركة بينهم وبين هؤلاء المسفرين!؟، ألم يكونوا يوماً جيرانههم ومعارفهم وزملاؤهم في العمل؟!

5- جسّد المؤلف كيفية قيام حكم البعث وحقبته المظلمة بدق إسفين التفرقة وزرع العداء في قلوب بين أبناء الشعب الواحد، إذ لم يكن متوقعاً أن يحصل كل هذا الشذوذ بين أبناء الشعب المتكافل المتراحم، حتى ابتلاهم الله بنظام البعث.

خاتمة الرواية

ختم الدكتور علي المؤمن روايته بأجمل ما يكون، حيث تجسّدت العقيدة الحقة في قلب ومواقف الداعية أحمد عبد الرزاق، وعلى الرغم من إيمانه بأحقية عقيدته، إلّا أنه أتاح لعينيه ذرف الدموع، وتوجّع قلبه المكلوم وارتجف لفقد أحبته واحداً بعد الآخر، وقد أبدع المؤلف في هذا المحور حين جعل نقل الأحداث على لسان ياسمين، زوجة أحمد، وبأسلوب الـ (فلاش باك)، وهي المرأة التي ثكلت بفقد طفلها وجنينها في ذات الوقت، ولكنها صبرت وتخطت الصعاب، ووصلت الى زوجها عبر رحلة مميتة؛ إذ أراد المؤلف أن يبقي ياسمين حية، لتكون شاهد العيان الوحيد على نكبة عائلة السيد عبد الرزاق الموسوي، وليحفظ عبرها هذا الجزء المهم من التاريخ.

وبهذه الخاتمة الذكية، المتعارضة في مشاعرها، بين فرحة تجدد اللقاء بالحبيب، ورقة حديث أحمد مع زوجته ياسمين، وتراجيديا الأحداث القاسية؛ يلملم الكاتب أطراف الرواية وشخوصها العديدين، بنهاية اختصرت معادلة تنازع الأكف البيضاء مع الأكف السوداء، منذ ملحمة الطف الخالدة، لتبثّ رسالة الى الأجيال على لسان السيد أحمد عبد الرزاق، الذي قال عبارة مؤثرة: بأنه (بقية السيف). نعم؛ فقد فنيت العائلة، إلا أن الله أبقاه وياسمين، في دلالة أراد بها المؤلف أن العمل الاسلامي ماض على يد أبنائه، مهما سالت دماؤهم في بقاع الأرض، وأن الشهيد لم يمت قط، كما أراد الطغاة، بل هو ممتد، وببركة دامائه يحيا من سار على دربه أينما كان، وكما قال الشاعر (فحبوب سنبلة تجف.. تملأ الوادي سنابل).

نقد للرواية

لا يمكن أن ننقد رواية "عروس الفرات" بكل ما فيها، إلّا نقداً داعماً، من حريص يسعى الى سد ثغرات جمال مشاهدها، وإضفاء رتوش تزيدها كمالاً، ولست هنا في مقام النقد الأدبي المجرد لهذا السفر العابر للعقود الزمنية، والمادّ أواصر الماضي البعيد بالأمس القريب، ولكن من منطلق كوني صاحبة تجربة في العمل الإسلامي المعارض، وفي الملاحقة والاعتقال والتعذيب والسجن في زمن نظام البعث؛ فقد دوّنت بضع ملاحظات، لا تنقص من قيمة الرواية، وإنما وجهة نظر ارتأيتها:

1- افتقرت الرواية استخدام اللهجة العامية، مما جعل بعض العبارات الواردة فيها لاتعبر عن المشاعر في المشهد، وخاصة في حالات لاتترجمها اللغة الفصحى ترجمة مؤثرة.

2- يبدو أن المؤلف لم يخض تجربة الاعتقال أو السجن، لذلك؛ لم يكن وصفه كمن عاش التجربة، وإنما كانت وصفاً سماعياً. وعلى الرغم من أنه قد أبدع في الوصف لكل مشهد من مشاهد تعامل الجلادين مع عائلة السيد عبد الرزاق، ولكن لم يكن بعضها واقعي لدرجة ما، وكمثال؛ فقد ذكر أن أم عادل قد زارت ابنتها شيماء في معتقلها، وهذا لم يكن متاحاً إطلاقاً، بل كانوا يعمدون لتفريق أبناء الأسرة الواحدة والقضية المشتركة.

3- لم تكن أساليب الجلادين الملتوية في تلك الدوائر المرعبة، بوتيرة واحدة، وإنما كانت بين الترغيب والترهيب، بحسب دورات تدريبية لإعدادهم للقمع والاجرام، وهذا لم يرد في الرواية.

4- أبدع المؤلف في وصف شخصية ضابط التحقيق وقسوته وخسته وعدم تورعه عن أي جرم، من خلال مشاهد ضغطة على السيد عبد الرزاق، بطريقة افتقرت الى أي نوع من الإنسانية، لكن حواراته مع السيد عبد الرزاق لم تكن واقعية، لأن الجلادين لم يكونوا يسمحون بأي حوار مع المعتقلين، وخاصة بمثل عبارات الرواية.

5- على الرغم من أن التعذيب الوحشي هي سمة لكل أزلام الطاغية وجلاديه في أقبية المخابرات ودهاليز الأمن المتعددة في كل العراق؛ فإنه من المعتاد أن يموت المعتقل على أيديهم خلال جولات التعذيب الجسدي، وحتى النفسي، لذلك؛ لم يكن مشهد إعدام شيماء واقعياً؛ إذ أن دوائر التحقيق لايوجد فيها مقاصل إعدام وأعواد مشانق، فإذا لم يقتل المعتقل أثناء التحقيق؛ فإنه يحال على محكمة الثورة سيئة الصيت، ليتم الحكم عليه بالاعدام شنقاً حتى الموت، كما تحال النساء المحكومات بالاعدام من الى سجن الرشاد، القسم السياسي الثالث، الذي يحتوي غرفة مخصصة لانتظار تاريخ تنفيذ حكم الاعدام، والذي لاتتجاوز شهراً واحداً غالباً،(2) أو تساق المعتقلة مباشرةً الى المقابر الجماعية أو ساحات الاعدام بإطلاق الرصاص، أو أية وسيلة أخرى، ومن ثم يعد لها مقتبس حكم صادر من محكمة الثورة، وهو ماحدث في العام 1982 مع عشرات المعتقلات الشابات اللواتي ساقوهن الى المقابر الجماعية من معتقل مديرية أمن الثورة (مديرية أمن صدام فيما بعد)، وصادف ذلك في وقت السحر من إحدى ليالي شهر رمضان، حيت عاد الجلادون الذين ساقوهن صباح اليوم التالي وهم يحملون معاول الدفن وعبائات المعدومات. ثم بعد سقوط نظام البعث في العام 2003، وجد أهاليهن مقتبسات الأحكام التي تنص على أن محكمة الثورة حكمت عليهن بالاعدام(3). لذلك؛ كان الأجدر بالمؤلف أن يختم قصة شيماء بإطلاق النار عليها خلال التعذيب، أو خنقها كابن أخيها علي، أو أذابتها في التيزاب (حامض النتريك المركز) كالشهيد عبد الصاحب دخيل، أو سوقها الى المقابر الجماعية.

***

إعداد: د. عطور الموسوي

...................

(1) منح صدام حسين صلاحيات القتل حتى لرجال المرور، فضلاً عن المحققين في دوائر المخابرات والأمن المتعددة؛ إذ صرح المحقق فراس التكريتي في مديرية أمن الثورة جهاراً: (إن الريس أعطانا صلاحية قتل من 6 الى 7 أثناء التحقيق، نقلاً عن السجينة السياسية باسمة عبد الأمير، التي حكم عليها بالسجن المؤبد وفق المادة 156 ب، الخاصة بالدعاة، وهو ما عرف بقرار إعدام الدعاة (شاهد عيان).

(2) ينظر: د.عطور الموسوي، "وتلك الأيام: مذكرات طالبة جامعية تحكي قصص القمع والارهاب في سجون صدام"، ص309، دار العارف للمطبوعات، بيروت، 2021.

(3) المصدر السابق نفسه، "عند السحر رحيل دون وداع "، ص231.

 

تقديم: تروم هذه المقالة تأويل مفهوم التخيل داخل منظومة السرد الروائي المتكئ على فكرة التاريخ، من خلال رواية (الحدقي) للمبدع الموريتاني أحمد فال ولد الدين، الصادرة في طبعتها الأولى عام 2018 عن مسكيلياني للنشر والتوزيع بتونس. والصادرة أيضاً هذا العام 2022 عن المجلس الأوروعربي للفكر والدراسات والترجمة ببلجيكا.

نسطرأولاً احترازاً منهجيا ومركزياً يسري على كل خيوط التخيل الآتية في غضون المقاربة مفاده أنّ عملية التحليل هنا لا تهتم بتتبع الأحداث بتاتاً، ومن ثمة فكل قارئ راغب في الاستمتاع بالوقائع لن يجد ضالته هنا. وإنما همّنا الاجتهاد في رصد خيوط المتخيل التي اشتغل عليها لاوعي السارد، واشتغل عليها وعينا لتقريب المتلقي من بنيات التشكل الروائي وهو يراوح بين زمنين مختلفين بل متباعدين في مقولات التحقيب أشد البعد: زمن الجاحظ في العصر العباسي وزمن محمد القروي المعاصر لنستقرئ كيف تمّ هذا التداخل وفي أيّ جمالية سردية.

- في المفاهيم

لا نروم بحثا في إطار المفاهيم ولا في إشكالاتها المتعلقة بالاختلاف أو التعدد أو الخصومة أو حتى الخصوبة في هذا التعدد بقدر ما نهدف إلى طرح المتفق عليه والمتواضَع في المجال. ومن ثمّة فمقالتنا لا ترمي إلى الجدل في هذه المفاهيم لأن غرضنا لصيق أولا بإمكان تأويل بعض مقاطع رواية الحدقي وثانيا بما يخدم الرواية من آليات نشتغل عليها لتقريب التأويل الممكن من متنها واحتمالات فائض سردها.

تقريب السرد:

نعتبر السرد قبل كل شيء فعلا سيميائيا لا يقدم حدثا في الزمن فحسب وإنما يعيد ترتيبه في الزمن. ومن ثمة فالسرد نشاط إنساني غير مشروط بزمن دون آخر. كما أنه يخرج من تحديده المرتبط بفعل الحكي إلى المستوى النظري الذي يجعل منه منتَجا متغيرا في عمليات بناء الأحداث الحقيقية أو المتخيلة، مقدَّمةً بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في وسائط مختلفة منها الشفوي ومنها المكتوب وغيرهما...

تقريب المتخيل:

و نعتبر المتخيل الذي أشرنا إليه في عنوان المقالة بمفردة (الورقي) باعتبار الورق مساحة من المخيال الحاضن للكتابة السردية المتخيلة. والتخيّل هو التصور في ظنٍّ وشبَهٍ مصداقا لقوله تعالى (قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيّل إليه من سحرهم أنها تسعى)1.

والمتخيّل في نظري هو ذلكم الموجود الورقي2، الذي ينتجه السارد متخطياً لحظة الواقع متعاليا عليها في وضع إبداعي خاص. وفي هذا الإطار يتجاوزالمتخيّلُ (الموجودَ ويتخطاه ولكنه يتمثل في كل لحظةٍ ذلك المعنى الضمني للواقع)3 انطلاقا من قدرة المبدع على استدعاء ملكاته الذهنية في شرطين اثنين هما إعادة الصور الماضوية من جهة وإبداع صور جديدة من جهة ثانية.

تقريب التأويل:

و أما التأويل فهو في نظري حضور القارئ أو المتلقي الفاعل بمكر فنّيّ في عذرية المتن الروائي. على اعتبار أن التأويل هنا يرتبط بإعادة إنتاج النص من قِبل ذات أخرى خارج الذات المؤلفة، تحمل القيمة المضافة إلى المعنى، وتحوّل هذا القارئ إلى كائن يعقل الخطاب خارج الخطاب ذاته من خلال قدرته على ممارسة عمليتيْ التفكيك والتأويل (إنه كينونة مفكرة خارج الخطاب وعوالمه، وليس في يده الا التفكيك والتأويل والإحالة، قبل أن يقوم بتحويل النص من وهم لمعنى ما إلى وعي بأن المعنى لا حدود له لأنه ينبغي على القارئ أن يشك في أن كل سطر في النص يمكن أن يخفي معنى سرّيا)4   

والتأويل هو نظرٌ عميق في الوحدات الكلامية التي تحمل معرفة قبلية محكومة في سياق معين يضبط عمليات التفسير والتخريجات حتى لا تشط بعيداً خارج الشرط المنهجي.

من هنا فرواية الحدقي نص سردي متخيّل ومتخلّق في رحم مناخ اجتماعي وثقافي خاص يلقي بنا في أتون سياقات متعددة من التشكيل الفني لقضايا عصرين متباعدين في الزمن. إن النص الإبداعي سيرورة فنية تتخلّق في (مناخ سوسيولغوي يتفاعل معه الأديب بوصفه منظومة لغات جماعية إيديولوجية، تتفاعل مع الموروث الحضاري، وتستحدث تقنيات جديدة، تخترق الفضاء، وتختزل الزمن، وتنفتح على طاقات من التخييل يصعب الإمساك بتلابيبها)5.

- في متن الرواية:

في تصور فنّي إبداعي يرسم الكاتب الموريتاني أحمد فال ولد الدين جسوراً سردية بين الراهن والماضي يقلّص فيها المسافات التاريخية بين لحظتين واحدة في قلب التراث وثانية في صميم المعاصرة. وفي هذا المتن يرصد الراوي سيرةَ أبي عثمان محمد بن بحر الجاحظ متتبعاً تفاصيل حياة هذ العلَم التاريخي منذ صباه حتى أفوله تحت أثر داء الفالج. بموازاة لذلك قدّم صورة البصرة في العصر العباسي عبر سيروراتها الثقافية العربية والإسلامية. وقد اختار الراوي تقنية السرد المتخيل بإدماج سيرورة أخرى ترتبط بالمعاصرة في شخص مدينة الدوحة وفي شخص قوة فاعلة هي محمد القروي الشنقيطي الذي يعمل في قناة العروبة مدققًا لغويًا في سياق مهني غارق في كساح اللهجات العربيّة، مما سيدفعه إلى الذود عن حمى اللغة العربية شانّاً حربه الهوجاء على كل من يلحن أو يعبث بقواعدها . والنتيجة ستكون إبعاده من هذا المنبر إلى آخرهو الكتابة الوثائقية لإنتاج شريط وثائقي عن شخصية الجاحظ. ومن ثمة ستنقسم الرواية إلى عالمين روائيين أحدهما في الحاضر والآخر في الماضي في إطارحبكة فنية تتيح لنا الانتقال بين زمن الخلافة العباسية والزمن الحالي. وفيها يكون محمد القروي في الدوحة مرآة للجاحظ في البصرة وبغداد سواء على مستوى شروط الوجود الموضوعية ومثالها الحراك الثقافي والفكري في الزمنين معاً أو الذاتية ومثالها العلاقات العاطفية لدى كل من الجاحظ ومحمد القروي.

- المتخيل السردي في رواية الحدقي:

تضعنا رواية الحدقي للكاتب الموريتاني أحمد فال ولد الدين في صميم العالم وفي التاريخ. وهي عندما تلقي بنا في الذاكرة وفي الشهادة معاً فإنها لا تقحمنا في كون لا نعيش فيه، بقدر ما تورطنا في المعنى المتعلق بتاريخية متعينة في الواقع وفي المتخيل.

و هذا المتخيل هو ما يهمنا تأويله بالدرجة الأولى على اعتبار أن رواية الحدقي هي فضاء مكاني تتداخل فيه الأزمنة وتتقاطع داخل رؤيا خاصة للوجود تتغيّى اللغة لا كشبكة من الترميز الواصل للمعنى فحسب وإنما كتصور يعقل الوجود والعالم والتاريخ.

فكيف مارس السارد لعبة التخييل السردي بين زمنين: واحد يتجذر بعيدا في العصر العباسي وثانٍ يتمثل لنا حاضرا معاصرا بكل الثقل الحضاري فيه. وما شكل هذه المراوحة بين فضاءيْن محتلفين في الأبعاد الثقافية وفي التشكيل الفكري لهذه الثقافة وتلك؟

1 – خيوطُ المتخيّل:

الخيط المتخيّل الأول: مساحة في التوتّر السردي

دأب السارد منذ مطلع السرد على ربط المكان بالمكان والزمان بالزمان والقوى الفاعلة بنظيراتها، في وعيٍ فنّي بقدرة المتخيل الورقي على تحويل المعنى من الواقع إلى درجة أعلى من الواقع دون احتمال التعالي الفلسفي على هذا الواقع. ولنستوعب جيدا خيط المتخيل في سرده نطرح السؤال: ما المركبة الفنية التي امتطاها السارد وأردفنا خلفه كي نعبر من الدوحة إلى البصرة ومن العصر الحديث إلى العصر العباسي ومن ظلال محمد القروي إلى ظلال الأديب الجهبذ أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ؟

صنع السارد مساحة من التوتّر بين محمد القروي وبين العاملين في قناة العروبة الذين استاءوا من سلطة القروي المعنوية ورقابته اللغوية على تقاريرهم المكتظة بالخطأ واللحن. مما دفعهم إلى توقيع شجب جماعي كي تنقله الإدارة من هذا المنبر إلى منبر آخر يتعلق بالقسم الوثائقي.

و قد فوجئ القروي بطلبٍ من رئيسه في العمل كي يكتب رواية عن الجاحظ تكون موضوع شريط سينمائي لاحقا، وارتاح إلى هذا القرار وانتقل معه المتلقي بمكر السارد من الدوحة إلى البصرة ومن القروي إلى الجاحظ. (وخلال دقائق، كان في شقته بمنطقة السد. رمى مفتاح سيارته جانبا وتوجه إلى المطبخ. أعدّ كأسا من الشاي الأخضر، ووضعه على مكتبه، ثم فتح حاسوبه وهو يتّقد حماساً مشوباً بخوف وكتب: البصرة 168 – 170 هـ) 7

و فجأة يجد المتلقي ذاته في قلب مدينة البصرة زمن 168 هـ، داخل عوالم سردية أخرى بفضاءات مختلفة تشي بعبق الماضي وأحيانا بلغة أخرى تنضح بالأصالة من مثل (صاح جنديّ أشقر ضخم الكراديس – شاهد كلبا هرِيتَ الشدق...) ويجد مع هذا وذاك شخصية الجاحظِ طفلاً بصحبة أمه، يشاهد مأساة جلدِ الشاعر الشاعر بشار بن برد حتى الموت بحضور الخليفة المهدي وإشرافه بدعوى الزندقة وشق عصا الطاعة.

و المسألة في خيط المتخيل لا ترتبط بجمالية التلقي وبتفاعلاتها عند القارئ فحسب، وإنما وأساساً ترتبط بسؤال فلسفي يطرح في الميزان تلكم العلاقة بين الواقع والخيال والتاريخ. والأجوبة هنا هامشيةٌ إذا رامت المعنى الروائي في تجليه الحدثي القريب، لأنها أجوبة تختمر داخل بؤر التأويل الممكن في احتمال فائض السرد. من هنا عمق التماهي بين الواقع حيث تقبع مقولات الذوات في حضورها المتعدد:

* حضور الذات المؤلفة (الكاتب المنتمي إلى بلاد شنقيط)

* حضور الذات الساردة (الموجود الورقي الممارس للعبة السرد المتخيل)

* حضور الذات المحكي عنها (محمد القروي باعتباره جسراً يمد الأسباب لقراءة الرواية في عمقها التخييلي)

و كذا حضورالزمن الموسوم بالمعاصرة التي تنزل بكل ثقلها الحضاري الموسوم بالتملص من قبضة المكان الأول مقرِّ قناة العروبة.

و بين الخيال حيث اللقاء الورقي بين محمد القروي والجاحظ على مستوى الافتراض الحامل لأكثر من قراءة.

وبين التاريخ حيث يتحول المحكي عنه من قوة فاعلة في سيرورة الحكي إلى مرايا تنقل للقارئ أجواء التاريخ القديم، ومنه مأساة الشاعر العباسي بشار بن برد حتى لكأننا نحن القراءَ واحدٌ من المشاهدين لهذه المأساة والمتتبعين لها لا في فرجة سطحية خاوية أو محايدة وإنما في اندماج يقود إلى الموقف أو ما يشبه الموقف في أضعف صورة من الإيمان والتي نسميها التعاطف السلبي.

ناهيك عن التاريخ في تجليه الجزئي المرتبط بشخصية الجاحظ، والذي يلقي بالقارئ في سردية مخيالية تتبع الجاحظ صبيا يشاهد مأساة الشاعر بشار بن برد وتؤثر عليه وتقضّ مضاجع نومه وتنتقل به من أثرٍ في اللحظة إلى أثر في الاستقبال (تخيل نفسه ناظما قصائد طوالا في مدح يحيى البرمكي وهارون الرشيد، لكنه ما لبث أن شعر بوخز بين أضلاعه. غاب عنه حديث الوراق وذهب خياله إلى صورة شاعر يئن تحت الجلْد، ونظارةٍ يصفقون، وسيا ط تعلو وتهبط في مقدمة سفينة.)8

يتمثل لنا هذا الثالوث بين الواقع والخيال والتاريخ في أول الأمر تماهيا يتبادل الأدوار بشكل آلي، إلا أن السارد أبى إلا أن يقحمنا في جدل الثالوث. وهو جدل خفيّ يصم الرواية من أولها إلى آخرها بالتوتّر والصراع، داخل عمليات سردية مضفورة بدقة وإتقان. حتى لا إمكان للفصل بين أقانيم هذا الثالوث إلا في حالات التفكيك الإجرائي لفهم العمل الروائي.

الخيط المتخيّل الثاني: في التناسل السردي

من زقاقٍ في البصرة 168 هـ، مزدحمٍ بالمارّة حيث الجاحظُ يتأمله مفكرا في صورة المبدع المفارِقة، إلى فضاء معاصر في الدوحة، في كافتريا مكتظة بروائح البن والطعام والدخان، حيث المحكي عنه محمد القروي يحتسي قهوته مهموماً بشأن إبداعه لسيناريوا رواية الجاحظ.

و المشترك المتخيل هو الإبداع في شرطين هما شرط الخوف من قدر الجلد، وشرط الفشل في الكتابة مع قاسم مشترك هو تمكن الجاحظ قديما من ناصية القول، وتمكن القروي حاضراً من نواصي اللغة.

هذا الخيط المتخيل في عملية السرد يأتي لاحقا في غضون حوار عابر في الكافتريا بين القروي والموظفة السعودية حصّة إبراهيم، والتي أشارت في عبور ماكر أوغير ماكر متسائلة عن منطقة شنقيط ماذا كان يسميها الجاحظ. ويبقى السؤال: لِمَ يُفترضُ أن يكون الجاحظ عارفا بمنطقة شنقيط وهي البعيدة عنه والنائية؟

هنا مكر السارد الذي يُعوّمُ الأحداث تعويما ذكيا حتى يحدث ما أسميه بوحدة السرد. فنظفر بعد ذلك بمؤشرات التخييل المتوارية خلف ثالوث آخر هو:

* الجاحظ في خوفه من الشعر

* المحكي عنه في احتمال الفشل في مشروع الفلم الوثائقي

* المكان أي شنقيط في مفكرة الجاحظ

و نظفر بعد هذا وذاك بشيء من التأويل القاضي باندماغ المكان المرتبط بالمؤلف في ذاكرة الرواية وفي متخيلها، في قصدية تداولية تريد أن تقول بحرية تجول الذوات في تاريخانية المحكي. وكأننا الآن مقحمون بفعل فاعل هو السارد اللبق، داخل ممرات سردية تروم تجميع المتشظيات في بؤرة واحدة قادرة على التناسل السردي. وقادرة على مكافحة التنميط الحكائي عبر الحفر الأدبي في المتعدد:

المكان (البصرة والدوحة وشنقيط)

والإنسان (القروي والجاحظ وبشار بن برد والمهدي وهارون الرشيد والبرامكة و...)

والزمان (الماضي والحاضر والتاريخ).

و كأنني بالسارد يريد القول إننا لا نعيش في العالم الرمزي إلا من خلال عالمنا الموجود حقا وحقيقة، وهذا يسيّج المخيال النوعيّ أن يقارب الرواية خارج الاحتمال المنهجي حتى لا تشط بنا التفسيرات خارج النص باعتباره تبادلاً تأويليا بين المؤلّف وبين المتلقي.

و هنا يصبح القارئ منتجاً حتميا لمقولات المعنى الذي نعيش فيه لا بأمر السارد وإنما بأمر مقتضيات التأويل الممكن. ومنه تصور الجاحظ أديبا يهتم بمنطقة شنقيط كما جاء على لسان حصة إبراهيم. وبالاستدعاء التبادلي يمكن القول إن متخيل السارد يذهب إلى تمجيد البلاد الولّادة لرمزين من رموز الإبداع، واحد متخيل بامتياز هو محمد القروي وثانٍ واقعي بامتياز هو المؤلّف، على اعتبار أن هذا الأخير جزء من المنظومة الجاحظية مادام قد تخصص في دراستها وتعمق في البحث عنها حتى النخاع مما جعل الكتابة عن هذه العلامة الفكرية العباسية أمرا مستساغا بمنسوب نجاح أكبر في الإنجاز. وفي تماهٍ سابقٍ لاحتمال التأويل نقول إن الجاحظ المتلبس في لازمنية السرد هو العارف ببلاد شنقيط لا الجاحظ القابع في تمثلاتنا الأدبية التي رسمها لنا وفينا الوجدان العربي في قراءاتنا الذاتية لتاريخ الأدب العربي. ومن ثمة فوعي السارد بالأحداث والقضايا الماثلة في سياق الرواية هو وعيٌ متعدٍّ إلى الموضوع بوساطة اللغة الماكرة بالمعنى المطروح في الطريق إلى المعنى الثاوي في سديم التماس بين النص وصاحبه والمتلقي أولاً بأول. هكذا يكون وعي السارد فعلاً ثقافيا يفهم العلامات فهماً خاصّاً، وبالمقابل يكون وعيُ المتلقي فعلاً ثقافيا شخصياً يخترق صميم العمل الروائي بوساطة التأويل مدمّراً كل إمكانات المسافة التي تحول دون استقراء الدلالة داخل ما يسميه بورل ريكور بالتأمل الهيرمنيوطيقي.

الخيط المتخيّل الثالث: تبئير السرد الواصف

(جلس وفتح حاسوبه، محاولاً طرَد صورتها من ذهنه)9 ويتعلق الأمر بالمحكي عنه محمد القروي وهو يودع جليسته في الكافتريا حصة إبراهيم، يروم طرد صورتها العالقة بذهنه فيما ينفتح المشهد في زمن استرجاعي في البصرة 175 هـ، على شخصية الجاحظ (مستلقيا على بطنه واضعا مرفقيه على الأرض ويديه تحت ذقنه وهو يتأمل مدينة البصرة من ربوة عالية) 10

لا يهمنا التناسب والاختلاف بين فضاء البيت وفضاء الربوة، كما لا يهمنا وجود الجاحظ في هذه الوضعية المنسجمة مع عمره الشبابي، ويهمنا من ذلك وجود موضوع التأمل أي تلكم الشاشة المفتوحة على زاويتين متداخلتين هما:

- تأمل محمد القروي لشاشة حاسوبه كي ينظر ما يكتب عن الجاحظ في مشروع الفلم الوثائقي

- تأمل الجاحظ نفسه لفضاء البصرة من على الربوة.

والدلالة في التخييل واضحة تنفتح على المتأمَّل يصبح متأمِّلا. الجاحظ المفعول به في عالم القروي الحاضر يصبح فاعلا في عالمه الماضوي. إن تبادل الأدوار بهذه الطريقة السردية المختلفة ليس لعبة تغري بالقراءة والتتبع لمسار الأحداث في الرواية، وإنما هو نسغٌ فنّي يتجذّر عميقاً في التجربة الروائية للكاتب أحمد فال ولد الدين. ويملي عليه اختيار النقطة المضيئة في عمليات التبئير السردي الذي لا ينطلق من الصفر بقدر ما يسافر بنا في تجربة الجاحظ سفرا عارفاً يضعنا في تفاصيل المحكي عنه وهو يبحث عن وجوده الفكري في أول خطوات بحثه حيث صاحبته أمه كي يلتقيا بالعالم الكبير الخليل بن أحمد الفراهيدي قصد التعلم بين يديه.

وفي هذه الرؤية ركز السارد على مشاهد ماضوية من عمق تاريخ الجاحظ، تتسم بالمشهدية الإخراجية القريبة من الصناعة السينمائية والمغترفة مادتها المتحركة من الوصف الدقيق والبعيد والوظيفي (أحكمت المرأ ة لفّ خمارها على جانب طرزته الغضون رغم ميعة الشباب الباقية. أمسكت بطرف خمارها وأمرّتْ طرفه لتمسح به حبّات العرق المتجمعة تحت حدقتي عينيها وشفتها السفلى، ودخلت مرتبكة) 11 وفي مثالٍ آخرأكثر تعبيراً عن هذه المشهدية نذكر (دلف إلى الخص، كانت أرضيته مفروشة بحُصُرٍ من جريد النخل، والكتب والوسائد متناثرة في أطرافه. ارتبك قليلا غير أن النظّام دعاه للجلوس في الركن المرتب من الخص، حيث يجلس شاب ذو ذؤابتيْن تتدليان على كتفيه...) 12

يقدم هذان النموذجان في غيرحصر ما يسمى بالتشكيل الوصفي القائم على رصد الأشياء من زاوية عدسة لا تكتفي ببناء ديكور الصورة بقدر ما تهتم مركزيا بدينامية الصورة معدّةً في طبق (تشكيلي يمكن تصوره دلالياً يسم الموصوف أو الموجود بطابع التميز والفرادة ويجعل من الصورة الروائية إمكانا قادرا على صوغ المعمار السردي) 13

خيط المتخيل الرابع: سردية المناخ الثقافي

نسجل في هذا التقاطع حركية عادية في زمن الجاحظ حيت ترصده عين السارد خارجا في اتجاه مدرسة الخليل يتضور جوعا ويفكر فيما سيسد به رمقه، فيما المشهد الآخر في الزمن المعاصر يتتبع السارد المحكي عنه محمد القروي في الدوحة عام 1439 هـ، موَرّطاً بعد بضعة اشهر في علاقة عاطفية مع السعودية التي سماها بريدة مطوعة.

يعود بنا السارد إلى جوع الجاحظ في حواري البصرة عبر عين محمد القروي الراصدة عبر الكتابة حركيةَ الجاحظ (ركض إلى مكتبه وخياله يبتعد شيئا فشيئا عن عالمها (الضمير يعود على بريدة مطوعة) وعن عالم الإعلام والصور المعاصرة ليغرق بعيداً في حواري البصرة. التفت الجاحظ بعد أن غزت منخريه رائحة شهية، فرأى الدجاج المشوي الشهي يسيل سمنا أمام دكان فرّان. فازدادت سخونة البخار الحار الذي يكاد يفتت أمعاءه. تخيّل موائد الأثرياء...)14 وهو الوضع البيولوجي الذي لم يمنع الجاحظ من تتبع حركية مجتمع البصرة في تلكم اللحظة حيث سجلت عينه الحدقية اكتظاظ الجامع بالحضور ترقبا لحدث ثقافي وازن ويتعلق الأمر بالمناظرة بين شيخين كبيرين في مقامات العلم، هما صالح الخوزي المنتصر للثنوية وأبو هذيل العلاف الذائد عن التوحيد.

هذا وجه من أوجه المناخ الثقافي الذي ساد العصر العباسي الموسوم في بعض أدبيات البحث التاريخي بالذهبي. يلتقط السارد بعض المشاهد من ذلكم التراكم المعرفي ويقدمه لنا في سردية تحاول أن تشيد جسرا فنياً يلتقي فيه أفق القارئ مع أفق النص، حتى لا يسقط الخطاب الروائي في ثقافة المؤانسة والإمتاع فحسب ويقبع عندها مكتفيا بوظيفتها الأحادية. من هنا تمازج تاريخية القارئ بتاريخية النص، وتصبح الإشارة إلى مناظرة الخوزي للعلاف مجرد مثالٍ لإمكان تكراره في زمن محمد القروي، إذ ليس هناك معنىً دائم ومثالي وبالتالي فالتأويل الممكن هو المعنى المشيّد والذي يفتح أمامنا احتمالات واسعة لقراءة الراهن داخل رحم الاختلاف الثقافي في العصر العباسي أو العكس، أي قراءة الماضي في رحم المعاصرة.

خيط المتخيل الخامس: سردية الهوى

ينتهي بنا السياق في مشهد مغادرة الجاحظ للنظام والأصمعي ممتطيا بغلا بذهن يتنصل من أجواء السوق ليتفرغ إلى التفكير في فتاته، تماضر ابنة الخليل. ليبدأ مشهد القروي جالسا على مكتبه منشغلا باختبار قدرة المحرك غوغل على الترجمة.

يحدث هذا في اطّراد عكسي حيث سبقت الإشارة إلى القروي بمعية بريدة المطوعة موازاة لمشهد جوع الجاحظ. والعكس يحصل في سياقنا الحالي حيث القروي يبدو مهتما بقضية الترجمة فيما الجاحظ يفكر في تماضر. بمعنى أن كل ترتيبات السرد في الرواية مدروسة بدقة تتجه نحو خلق مساحات من التشعب الموضوعاتي المنتهي إلى حالات من الانسجام المركب والذكي والموسوم بالتناسل الغزير.

و يحدث الانسجام في سياق هذه السردية انطلاقا من تساؤل القروي وهو يفتح ملف الجاحظ على حاسوبه (فتح ملف وورد، وهو يبتسم مستغربا أنه يتطلع إلى معرفة مصير حب الجاحظ لتماضر بنت الخليل) 15 فينتقل الحكي إلى حجرة الجاحظ واضعا عشقه لتماضر في الميزان.

و يستمر الحكي في زمن الجاحظ حيث يزوره النظام الذي أدرك عشق صديقه وتيتّمه. وينفتح الفصل في جله وكله على حكاية تماضر بنت الخليل. وتتأخر حكاية القروي مع بريدة المطوعة عن التجلي في هذا الفصل. ولا تطلع علينا إلا في الفصل اللاحق، حيث يعيش المحكي عنه تجربة متوترة في أمر زواجه من حصة إبراهيم الموسومة في ذوقه ببريدة المطوعة، بحكم سلطة الأعراف والتقاليد المتحكمة في مصائر الناس (إن الرجل إذا سافر خارج البلاد وتزوج من غريبة فكأنه مات، بل إن موته أرحم لأهله لأنه يولّد اليأس الحاسم، أما الزواج خارج البلاد فيجعل قلب أهله معلقا بحياة متوهّمة) 16

لا نهتم بمضامين هذه المقاطع لأن قراءة الرواية كافية لسد هذه الحاجة. ونهتم أساسا بعناصر التخييل فيها كجسور تمد الحكي من زمن إلى زمن، ومن فضاء إلى فضاء ومن ثقافة إلى ثقافة، ومن حالات نفسية إلى أخرى... ذلك أن القارئ يشعر بمسافة التوتر والفجوة في كلٍّ من الحكيين سواء تعلق الأمر بقصة الجاحظ وتماضر، أو تعلق الأمر بقصة القروي بحصّة.

من هنا سيمياء التخييل الارتدادية على مستوى الأهواء حيث تتوارى اللغة الواصفة في انسيابها الخطّي لتحلّ محلها اللغة الواصفة لاشتعال الذوات في حالات نفسية متغيّرة تضع القوى الفاعلة تحت المجهر السردي في عراء تام لكل القوى الفاعلة والمنفعلة في سياق الهوى . وهو العراء الذي سينتهي بفشل البرنامج السردي لكل من الجاحظ والقروي لاحقا في علاقتهما بمشروعهما العاطفي. وقبل ذلك كان المسار الهووي شكلا آخر من التركيب العاطفي عبّرت عنه هذه القوى تعبيرا تلقائيا يكاد ينفلت من قبضة المتلقي لولا رقابة اللغة السردية الواصفة... فقد (تبيّن أن الهوى ذاته يتكوّن، لحظة التحليل من سلسلة من الأفعال: تحريك، إغراء، تعذيب، تَحرّ... ومن زاوية هذا التحليل فإن التركيب الهووي لا يتصرف بشكل مختلف عن التركيب التداولي أو المعرفي. إنه يتخذ شكل برامج سردية) 17

الخيط المتخيل السادس: سرد المتخيّل داخل التراكم

يطرح السارد القوى الفاعلة في شرطين وجوديين يتعلقان باستئذان القروي أمه في شأن زواجه فيما يستحضر الجاحظ يقوم من نومه فزعا بعد أن رأى أمه في المنام بعد وفاتها.

هذا التداعي المرتبط بشخصية الأم كقوة فاعلة في التشكيل الروائي يعطينا انطباعا أوليا عن فكرة التشابة إن لم نقل التماهي بين الزمنيْن. من هنا حضور المتلقي مستعينا بافتراض السيناريوهات المشتركة للحدث أو للأحداث التي سرعان ما يكسر السارد توقعاتها بتحويل مجرى الحكي إلى الموضوع بدل الذات. وهكذا ينبري السرد إلى تتبع حركة الجاحظ خارج سيمياء الهوى ليشركنا في همّه الثقافي وهو انشغاله بمناظرة الحبرالنصراني للعلاف بالبصرة.

لا نشتغل في هذا الإطار على تتبع الأحداث بقدر ما نشتغل على رصد خيوط المتخيل الممكنة والتي تمد جسور الحكي بين مقطع وآخر. أو تدلنا على علامات لسنية قابلة للتأويل في اتجاه معين من الاتجاهات التفسيرية المحتملة والمتعددة من متلقٍّ إلى آخر.

إن الجاحظ في غمرة انتصاره في المجالس وإعجاب الحضور برسالته حول السواد البِشْرِي، يتذكر لون محبوبته تماضر المتردد بين البياض والسواد.

كل هذه الفسيفساء من التداعي السردي تفيدنا في ثلاثة أوجه: الأول هو زخم المحكي، والثاني هو توريط المتلقي في تراكمات الوقائع حتى ليبدو لنا القارئ المسكين في لهاث خلف وفرة المادة الحكائية. والثالث هو قدرة السارد على صناعة مادة التخييل داخل المتعدد لا داخل الأحادي، لأن التجربة الأخيرة توفر للسارد إمكانيات هائلة لممارسة التعالي على الواقع بحكم تركيزة على واقعة واحدة أو حدث واحد. لكن المسألة تتعقد أكثر في مجال التراكمات الوقائعية مثل الذي نجده في رواية الحدقي المركّبة. ومنه تراكم الوقائع بين المناظرة وحديث سهل بن هارون ووصف أبي نواس لمويس ومجالسة هذا الأخير، وجماعة المشيخة في حضرة العلاف، واعتزال ماسرجويه وغير ذلك من التفاصيل التي لا يتسع مقام المقاربة لاحتضانها تبعا لطبيعة البحث المنهجية.

الخيط المتخيل السابع: فشل البرنامج السردي

ينفتح المقطع على محمد القروي في مكتبة بقناة العروبة حيث سجلت عينه استياء رئيس التحرير من مراسل يغطي حدث حريق بلباس أبيض. (والله أيش؟ هذا لا ينبغي، وهو يجرح عين المشاهد، وإذا كان العرب قديما قالوا: إن البلاغة مطابقُة المقال لمقتضى الحال،فإن الأمر كذلك في البلاغة البصرية. هناك بلاغة بصرية وبلاغة لسانية.) 18

كان هذا الحدث كفيلا بخلق لحظة انتشاء وانتصار عند القروي، فيما الهلع كاد أن يستولي على غيره من العاملين في القناة.

ثم تذكّر وجه حصة وتذكر تعليقها له وهي تصفه بالعيش داخل قوقعته اللغوية، فيما هو يصفها بالعيش داخل العنكبوت الإلكتروني.

مفارقة بين حدثين وبين زمنين وبين قناعتين. وهو بيت القصيد في عالمنا المعاصر الذي استسلم لسلطان التكنولوجيا ووسائط التواصل الاجتماعي الذي قلص منسوب الكتاب بشكل خاص والثقافة والفكر بشكل عام.

انقطع حبل الذكرى في سياق القروي على إشعار برسالة في هاتفه من حصة محبوبته قائلة (كلّمتُ أهلي... الأمر معقد جدا. ولابد من اللقيا لنتحدث. ضروري) 19

ثم ينفتح المشهد السردي على الجاحظ وهو يقطع الطريق دون أن يشعر بها منشغلا ومنهمكا جدا في حوار داخلي حول توتر العلاقة بين العقل والقلب. لكن ذهنه شرد في قرار مس كيانه ويتعلق الأمر بتماضر (لقد وافقت الفتاة على الزواج من علي بن المديني) 20

يهمنا في هذا المحكي متخيلُ الربط وهو المتعلق بالتماهي العجيب بين قدريْ القروي والجاحظ في خصوصية العشق وفشل هذا العشق بتواطؤ فنّي بين السارد والمؤلف، أي أن الأمر يتعلق أساسا بفشل البرنامج السردي للقوى الفاعلة. والبرنامج السردي هو (مجموعة من الوضعيات المتحولة وفقا للعلاقات القائمة بين الفاعل والموضوع، كما أنه تتابع الحالات وتحولاتها المتسلسلة على أساس العلاقة بين الفاعل والموضوع) 21

و من خلال تتبع مسارات القروي والجاحظ في وقائعهما الفردية وفي علاقاتهما بالماحول وتحولات هذا الماحول يتبين اتفاق المتخيل في فشل سيرورة هذين العلَميْن على الأقل في اصطدامهما مع الواقع الثقافي في العصر العباسي مع الجاحظ ومحيطه الذي كان يعجّ بالمفارقات. وكذا اصطدام القروي في مشروعه الثقافي النافح عن صفاء اللغة العربية في زمن يصفق للرداءة... وكذا في اصطدامهما على مستوى العشق حيث أخفق كل منهما في تصويب دفة العلاقة العاطفية مع حصّة من جهة ومع تماضر من جهة ثانية.

الختم:

نفهم إذن أن أفق قراءتنا لا يعدو أن يكون دوائر تأويلية يتعذر عليها القول في الإطلاق، وتحتشم القول في نسبية النتائج على اعتبار أن رواية الحدقي هي في الأساس نص حمّال أوجه. ومن ثمّة فتأويلنا للمتخيل السردي هنا لا ينبغي أن يأخذ أكثر من حجمه في التصنيف. إن الأمر لا يخرج عن محاولة لتجميع لاوعي السارد وهو ينظم خيوط الحكي، داخل وعينا نحن القراء المالكين لقيمة مضافة لا يملكها السارد ولا المؤلف، وهي قيمة المسافة والبعد عن الرواية، بمعنى أننا في موقع المتفرج على اللعبة لا المندمج فيها... وشتان بين متفرّج وبين مندمج، فالخارج عن الخطاب الروائي يملك من الدعة والاسترخاء ومساحات التأويل ما لا يملكه المؤلف والسارد باعتبارهما كينونتيْن تحترقان من أجل القول وإبداع النص فيما القارئ كينونة تستمتع في ممارسة التأويل داخل النص وخارجه.

***

نورالدين حنيف – ناقد من المغرب

............................

- إحالات

1- الآية 65 من سورة طه

2- (حتى الشفاهي يصير ورقيا قصد التوثيق)

3- محمد نور الدين أفاية: المتخيل والتواصل، دار المنتخب العربي، بيروت، لبنان، ط1،1993 ص18

4- هايدن وايت، مقالة، قيمة السردية في تمثيل الواقع، ترجمة رمضان مهلهل، مجلة الثقافة الاجنبية، العدد 3 \ 2009، ص 53

5- شادية شقرون، الخطاب السردي في أدب ابراهيم الدرغوثي، دار سحر للنشر، تونس، ط 2008، ص 63

6- عادل مصطفى، مدخل الى الهرمنيوطيقا، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007، ص 13

7- أحمد فال ولد الدين، الحدقي، رواية، الناشر المجلس الأوروعربي للفكر والدراسات والترجمة، ط 2022، ص 28

8- رواية الحدقي ص 43

9- رواية الحدقي ص 49

10- رواية الحدقي ص 51

11- رواية الحدقي ص 52

12- رواية الحدقي ص 55

13- جان ريكاردو، قضايا الرواية الحديثة، ترجمة صباح الجهيم، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، ط 1، 1977، ص 40 - بتصرف.

14- رواية الحدقي ص 74

15- رواية الحدقي ص 105

16- رواية الحدقي ص 121

17- غريماس وفونتيني، سيميائيات الأهواء من حالات الأشياء إلى حالات النفس، ترجمة وتقديم سعيد بنكرد، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 2010، ص 101

18- رواية الحدقي ص 156

19- رواية الحدقي ص 158

20- رواية الحدقي ص 161

21- رشيد بن مالك، قاموس مصطلحات التحليل السيميائي للنصوص، دار الحكمة للنشر، الجزائر، ط 1، 2000، ص 148

 

(سعدي عبد الكريم): هو المبدع المتعدّد الفنون الإبداعية: هو السيناريست، الكاتب المسرحيّ، الناقد الأدبي، الفنان التشكيلي، والشاعر. وقبل كلِّ هذا هو الإنسان في رقيّ تجلياته القيمية.

هذا المزيجُ الفنيّ هو الذي منحهُ إبداعاً مائزاً تتشابك فيه هذه الألوان وتتناغم وتتعالق، لتنتجَ إبداعاً ملوّناً مثلَ قوس وقزح. حين تنظرُ في لوحةٍ مرسومةٍ بريشته كأنّك تقرأ قصيدةً مكتوبة بالخطوط والألوان. وحين تقرأ له نصّاً شعرياً فأنتَ أمام لوحةٍ مرسومةٍ بالكلمات، ومُخرَجةٌ بحركات مسرحية أمامَ النظّارةِ. وكلُّ هذا يمنحُ مُنتجّه الإبداعي غِنىً فنيّاً، ومساحةً من الجمال والحسِّ والخيال، بصنعةٍ مُتقَنةٍ لفنانٍ متعدد المواهب، خلفه تجربة طويلة.

قصيدته (رئةٌ مثقوبة):

قرأتها عدة مرات. وفي كلِّ مرةٍ تمنحُني إحساساً مختلفاً.

أحسسْتُ كأني في النجف الأشرف على مشارفِ مقبرة وادي السلام:

"السّدرةُ الميتةُ في نهايةِ الزقاقِ

تذرفُ الدموعَ كلّما مرّتْ جنازة

*

احببتُكِ من ثلاثينَ عاماً

مذْ كانتْ مراسيمُ الدفن

يتكفلُ بها الشحاذون

والباعة المتجوّلون"

فالموت والدفن: ثنائيةٌ تذكّرنا بوادي السلام في النجف الأشرف، حيثُ اعتدنا دفنَ أحبابنا.

في المرّة الثانية منحتني إحساساً آخرَ: كأنّني في صريفة من صرائفِ  خلف السدة في بغداد أيام زمان، وما كانتْ تحتضنُه تحتَ سقوفها المثقوبة منْ حكايات عن الفقرٍ، والمعاناةِ، والحرمان، والصبرٍ  على ضيم الزمان، وقصص حبٍّ خفيةٍ عن الأعين، والتقلُّبِ منَ الألم على سطح صفيحٍ ساخنٍ منَ القهر:

"أحببتكِ بحجمِ أيامِ الصبرِ

أيامَ كنّا ننتظرُ الشمسَ تطلعُ علينا

من كُوّةٍ في صفيحِ السقفِ

تُظلِّلُ بيتَنا القديمِ

أحببتكِ منذ كنّا حفاةً.. وجِياعاً

نتقاسمُ رغيفَ الخبزِ مع القططِ السائبةِ"

ثمَّ تقلّبْتُ مع إحساسٍ آخر: وهو وطأة الأيام على كتفِ المعاناة، وتشبيهها بوطأة وثِقَل ظلمِ السلطةِ على أكتاف المُستضعَفين الرازحين تحت سوط الجلاد وقضبان السجنِ، وأيامِها الثقيلة على النفس. والشاعر هنا يرومُ أنْ يشيرَ الى دور السلطة في كلِّ ذلك الحرمان والقهر، ونضال الناس كي يخرجوا مِنْ مثل هذه البؤرةِ العميقة والثقب الأسود، والهواء الخانق المسموم؛ ليشمّوا هواءَ الله القريب منهم، وهم يدعونه للتخلّص من تلك الأيام، فهو السميع العليم: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" البقرة 186:

" كانَ اللهُ قريباً..

والدعاءُ مبحوحَ الصوتِ

والأيامُ ثقال !

لم نعدْ نُميّزُ فيها بين سوطِ الجلادِ

وقضبانِ السجنِ"

وكذلك أعادتني القصيدة بما فيها منْ أحاسيس تذكُّرنا بالأماكن والناس والمعاناة والعلاقات الإنسانية، أعادتني الى أزقتنا القديمة في بغداد، أزقة باب الشيخ (مسقط رأسي) ومنشأ طفولتي وشبابي، وتربيتي، وأصحابي . وما كانت تحتضنه من قصص حبٍّ، ما زال بعضُها محفوراً في الذاكرة، تخطرُ بين حينٍ وآخرَ، يومَ تشتدُّ سُحُبُ الأيام. كما أنّها توثّقُ ما كانت تحمله مِنْ ثِقَل الإحساس بضنك العيش والحرمان، والتفاوت الطبقي بين عامةِ الناس الفقراء الجياع وبين الحاكمين الطغاة المُتخمين، الذين يبيتون مِلاءً بطونُهُم، وشعوبُهم يبيتون جياعاً خاويةً بطونُهم، مثلما صرخَ يوماً (الأعشى) في وجوهِ المُتخَمين مالاً وطعاماً، ولم يكونوا يُحسّونَ بتقلُّبِ أقربِ الناسِ إليهم مِنْ جَمْر الجوع والحرمان:

تبيتونَ في المَشتى مِلاءً بطونُكُمْ

وجاراتُكُمْ غَرْثَى يبِتْنَ خَمائِصا

"رئة مثقوبة" قصيدةُ تاريخٍ اجتماعيٍّ جمعيٍّ وفرديٍّ، حسّيّ، سياسيّ، مكانيٍّ وزمانيٍّ. إنها إدانة لنظامٍ قمعيٍّ نشرَ الخوفَ والفقر، كما هي تخليدٌ لنضالِ شعبٍ عانى الاضطهاد سياسيّاً وطبقيّاً، عندما مرّتْ على ذكر السجّان وسوطه وقضبان السجن، الى جانب وَقْعِ الجوعِ الثقيل.

أمّا البوحُ الشجيّ (الحوار الداخلي) مِنْ بطل القصيدة، والألمُ الكامنان خلف مناجاته لحبيبته، فقد منحاها حركةً ديناميكية درامية مسرحية، تُبيّنُ أثرَ الفنّ المسرحيّ ممتزجاً بالشعر، وشاعرُنا مسرحيٌّ محترف، كما نعلم، فلا غرابةَ عندها في هذا المزيج الفنيّ. إضافةً الى أنّها توحي  بأنّنا أمام لوحةٍ مرسومةٍ بريشة الكلماتِ وألوان البلاغةِ:

حبيبان في زقاقٍ، بيوتُهُ سقوفُها منْ صفيح، تدخل الشمسُ من كوّةٍ فيها، قططٌ تقاسمُ الناسَ الخبزَ (الجوع)، قضبان السجن والسجّان (الطغيان والنضال)، سِدرة ميتة في نهاية الزقاق، جنازة تمرّ، طغاة مُتخمون، مراسيم دفن.

هذه لوحة فنيّة، لكنّها بالحروف والألفاظ وألوان اللغة.

فالقصيدةُ، مزيجٌ مركّبٌ، كما ذكرتُ، من ثلاثةٍ منَ الفنون الجميلة، التي احترفها أديبُنا الفنانُ درساً وإبداعاً.

أخيراً، وليسَ آخراً، لقد راودَني الحزنُ عنْ نفسي، وأنا أقرأها، فتمكّنتْ مني، ليجتاحَني احساسٌ، أعادَني حنيناً إلى الأيام الخوالي، والأماكنِ التي عاشرناها عيشاً ومحبّة، رغمَ المعاناة والضنك. وهذا يعني أنَّ عنصرَ المكان فيها أحدُ عناصرها الفنية الأخرى: مِنْ إحساس وعاطفة وبوح، وصور، ولغة، وتقنية فنية، وخيال. فكان كلُّ هذا هو الإطارَ المتكاملَ للوحةٍ شعريةٍ ملونة مرسومة بالكلمات، والمشاعرِ والخيال.

***

قراءة: عبد الستار نورعلي

....................

رئةٌ مثقوبة

بقلم: سعدي عبد الكريم

أحببتكِ بحجمِ أيامِ الصبرِ

أيامَ كنّا ننتظرُ الشمسَ تطلعُ علينا

من كُوّةٍ في صفيحِ السقفِ

تُظلِّلُ بيتَنا القديمِ

أحببتكِ منذ كنّا حفاةً.. وجِياعاً

نتقاسمُ رغيفَ الخبزِ مع القططِ السائبةِ

كانَ اللهُ قريباً..

والدعاءُ مبحوحَ الصوتِ

والأيامُ ثقال !

لم نعدْ نُميّزُ فيها بين سوطِ الجلادِ

وقضبانِ السجنِ

السّدرةُ الميتةُ في نهايةِ الزقاقِ

تذرفُ الدموعَ كلّما مرّتْ جنازة

تفتحُ (زيجها) وتدعو على الطغاةِ

والطغاةُ يأكلونَ لحمَ الضأن

ونحنُ نتقاسمُ ما تأكلُهُ الفئران

احببتُكِ من ثلاثينَ عاماً

مذْ كانتْ مراسيمُ الدفن

يتكفلُ بها الشحاذون

والباعة المتجوّلون

وفقراءُ الحيّ

العمرُ مرَّ سريعاً، يا حبيبَتي

ما بينَ رئةٍ مثقوبةٍ

وقلبٍ عليل

وأعوامٍ موزَّعةٍ بينَ غربةٍ

وحنين ..!

 *** 

 عبد الستار نورعلي

ثمة خطابات سرديّة تنبش في الذّات الانسانيّة، تصقل المعاني المنسيّة، تجعلك تقف طويلًا لتتأمّل، تسأل بشكل جّدي، وتفكّر كثيرًا.

عبر الفكر الإنساني الخلّاق، والمعرفة الإنسانية الثّابتة تتشكل أعظم الحضارات، لا لتتصارع إنّما لترحل تاركة بعدها حصيلة ما جمعت من فكر ومعاني. فقدّم الروائي بهمن شكوهي، بانوراما واسعة ومتشعّبة من الشّخوص والأماكن والمرجعيّات التّاريخيّة والأسطوريّة والثقافيّة، في عالم سردي وفكري من خلال تفصيل رحلة الإمام المعرفيّة للفقيه أبو حامد الغزالي، كان هو الّراوي نفسه، منذ بدأت رحلته في طوس أقصى الشمال الشّرقي لإيران منذ الطفولة مبكّرة، لم تقف عند رحيل والده المرير، بل استمرّت بدافع الشغف لتلّقي المعرفة، في جرجان ونيسابور وحواضر العالم الإسلامي الشّرقي، ما كوّن شخصيّة الطّالب المُجدّ الذي حباه الله ميزة من عناوين الفراسة وهي قراءة أفكار الآخرين من خال أعينهم.

في هذه الرّواية التاريخيّة توضّحت علاقة الإمام بالشّخصيّة المهمّة نظام الملك، وابنه علي، وسفارته بين ملك شاه وخليفة المسلمين المقتدي بالله في بغداد، وتمّ طرح مناظرات حول معنى الحياة جرى معظمها مع الأستاذ الذي يحبّه الغزالي عمر الخيّام، فمن المؤكّد أنّ فهم التّاريخ لا يمكن اكتسابه من خال المنطق والعلم فقط، إنما قد تصنع المعتقدات والعاطفة أدورًا توازيه بالأهمية.4658 الغزالي

إنّ قيمة الإنسان تتكوّن من خلال الأسئلة التّي يطرحها، وليس بمعرفة كلّ الإجابات، فالأسئلة ناطقة أمام خرَس الأجوبة. والحريّة تمنح الكاتب مساحة من إيمانه والدّفاع عنه، لإعادة تأهيل الإنسان ودعم المعاني وتطويرها من خلال تجارب الآخرين، فأعظم مهام الكاتب ليس سرد المعلومات وتسليط الضوء على تجارب الآخرين، بقدر ما هو نبش الجمال الذي في داخلك بينما أنت غافل عنه.

وبخبرة روائي عززّ الكاتب أعظم نتيجة لمفهوم الجدل، قال الغزالي: " كنت سلطان المجادلات، وقد وصلت في هذا الفنّ إلى مكان خشي فيه الجميع مناقشتي، كنت سيّد ميادين المناظرات بلا منازع، لكنّ هذه الشهرة التي جلبت اسمًا ورزقًا وجاهًا، هي في الحقيقة حجاب أقيمُهُ حول قلبي، وآفة تنهش روحي من الدّاخل وتدمّرني من دون أن أعلم، الجدل هو أضعف لغات التّواصل البشري، وأفضل طريقة لإيذاء الآخرين"، وقد بين أن تمرّسه الجدل أقصى الآخرين بعيدًا عنه مدى الحياة، وقد وصل بحكمته بعد التجارب المريرة، " أن الحياة هي من أجل العثور على الأشخاص والصّداقة مع الخلائق، لا من أجل طردهم بأداة النّقاش والجدال".

حتّى تحدّث عن الجدال مع الحكيم عمر الخيّام بأنّه أمر عبثيّ لا طائل منه، بينما ألحق به الهزيمة، لكنّه تعلّم في الوقت ذاته أن لا يؤذي سعادة الآخرين، من خلال قول عمر له"... والآن يا أبا حامد أنت ستشرب من عصير العنب، وأنا سأشرب من خمر العنب، احتسائي الخمر لن يضرّك، وشربك العصير لا يعدّ انتهاكًا لحرمتي، يجب أن لا تؤذي سعادتي الآخرين".

إنّ القارئ لن يُدهش عندما يرى الكاتب كيف مرّ على رسائل الإمام معظمها، وطرح نتاجاته الفكرية بأسلوب التساؤلات الّتي تفتح الآفاق أمام مجالات أخرى عالجت ما يتعلّق بالنّفس الانسانيّة، (المطالبة بمهر البنت قبل الطلاق، الصّلاة مع لبس الجزمة، عقد الزواج المقترن بالوعد، الغناء، الرّقص) على سبيل المثال لا الحصر، وكذلك طرح الرّأي الآخر في كتبه الأهم (تهافت الفلاسفة، المنقذ من الضّلال، فضائح الباطنيّة، كتاب إحياء علوم الدّين، وملخّصه في رسالة كيمياء السّعادة، سوانح العشّاق) ومن أسباب وجود المُبدع في الأصل هو وجود بيئة مناسبة له، وهي المدارس النظاميّة في زمانه، كذلك المناظرة التي عُدّ هنا الخيام خالق بيئتها معه ومناظر شرس له.

في الرواية معاني عظيمة، وكأن الكاتب أودع الدرر في النّص، ليزعم القارئ أنّه مكتشف هذه الجواهر، فيصبح مالكها الحقيقي، إنّ التأويل الذي يمنحه القارئ لكل جملة أو عبارة وردت هنا، هو فعل اكتشاف حقيقي لما وراء النّص السردي. فعلاقة علي بك ابن نظام الملك بالشيخ الغزالي كشفت له جانب عظيم من تبادل الأدوار بين الآباء والأبناء، فكل سلوك غير مقبول للابن يصدر من الأب، بمرور الزمن وعدم اشتغال الابن على تطوير مهاراته الفكريّة، سيجد نفسه مكررّا سلوك والده ومتقمّصا لشخصيته برغم انتقاده هذا في السّابق، توضح هذا الأمر عندما رأينا الخيبة في عين الابن من كون والده رضي تحكّم السلطة به، ليجد علي بك نفسه بعد مرور الزّمن، خاتمًا في إصبع توركان خاتون زوجة الملك، لا إرادة له أمام تنفيذ رغباتها.

ومفارقة أخرى تم طرحها بمنتهى الموضوعيّة وهي شخصيّة أخيه أحمد المثاليّة، التي تطوّرت عبر أمثلة من قبيل (رعاية العصفور وتفقيس بيضة الحمامة تحت رعايته، وإطعام الكلبة وجرائها جزء من طعامه القليل في الأصل، وعنايته بسُعدى، وعدم الالتفاف نحو المنصب والسلطة والبلاط، وصولا إلى تصوّفه) مقابل شخصيّة الشيخ محمد أبو حامد الغزالي العقلانيّة ورحلة بحثه عن المعرفة والحقيقة وأنها أوسع مما يرتبط باعتقاداته وأطره الدّينيّة، من خلال وصوله إلى قناعة أن لا يوجد حقيقة لا يمكن أن يُشكّ بها، ما دعاه إلى الشعور بالثقل أمام أستاذه ومناظره الحكيم عمر الخيّام عندما قال له:" يا أبا حامد، ...كلّ الأحكام والآراء وفتاويك، لا تستند إلى العقل والحقيقة، إن أفكار كل شخص لا تنحصر بالعقل المحض...، وأن الحياة ماتزال لغز، يوم الراحة فيها هو الملل من عدم إثارة التعلّم، فليس الجهل هو الذي يسبب المعاناة، إنّما وهم المعرفة لدى البعض الذي يضلّ النّاس،... وكل ما صنعناه في هذا العالم هو كالسّلاسل والأغلال والقيود في أيدينا، وبهذا زدنا من أحمالنا وأثقالنا، فلا يجب أن نعمل للهروب من العقاب والخطيئة، بينما يجب أن نعمل لنحقق الخير ونتبّع الفضائل".

برغم الإطالة نوعا ما، عن أحداث القرن الخامس الهجري التي قد تورث الملل لقارئ اليوم الّذي اعتاد نمط الحياة الحديثة السّريعة، إلا أنّه لم يتخلل السّرد رتابة، فكانت الحبكة تتصاعد مع الأحداث، فقد بدأت الرّواية بمقتل والده نفسه شنقًا وقد شهد الإمام ذلك كطفل بحرقة وألم؛ ولم يعرف السبب في حينها، لكن الأمر طرح سؤالًا كبيرًا جدّا، تبيّنت له إجابته عندما جهّز كفنه الأبيض ورقد على سرير الموت، لحظة وصوله إلى السّلام الرّوحي، هو ما يحتاجه "فقد القدرة على تحمّل الدّنيا وما فيها من حلال وحرام، ووعود وأمنيات وأحلام ورؤى"، فلا يموت إنسان قبل أن تهدأ روحه. ولكن الحياة تستحق أن نحبّها بشغف، ونعيشها بحب "بدلًا من محاولة فهم شيء ما".

ليخلد هذا الإمام بفكره وكتبه، فالعشق يصقل روح الإنسان، ويهدّئ فوضاها، وأعظم العشق ما كان لله.

***

ريما الكلزلي

 

رواية " قناطر وألوان تعانق السماء" للأديبة المقدسيّة مريم حمد، صدرت عن مكتبة كل شيء-حيفا- ناشرون - العام 2022، المتصفح لهذه الرواية يجد أن مفردات القناطر والألوان تكررت في أكثر من موضع، وكأنها إشارات رمزية يراد بها تأكيد الحق التاريخي للفلسطيني في أرضه، لما تُمثل تلك القناطر الملونة والبيوت الريفية من علاقة عشق وإنجذاب الفلسطيني لها. على عكس تلك العلاقة الباردة التي أبداها شمعون تجاهها فلم نجد هذا التناغم او التآلف بين شمعون اليهودي الدخيل على هذا البيت العريق وبين قناطره وزجاجه الملون.

وأيضا فقد تعمدت الكاتبة أن تعنون فصول الرواية  بأسماء وانواع النباتات والأشجار مثل (سنديان، عُليق،رمَّان،لَوز، لبلاب،زعتر،زنبق،زيتون، مريمية،زيزفون وغيرها من الأسماء). هذه العناوين يُراد بها  التأكيد على أصالة الإنسان الفلسطيني وتعلقة بارضه ومزروعاتها ونباتاتها وخير دليل محاولة المُنتصر أن يحصل ولو على بضع حبات زيتون من كرم زيتون جدّه والمُصادر من قبل المُحتل، وكذلك فعلت النسوة عندما أوقفنّ باص الصليب الأحمر واختفوا داخل بيَّارة حمضيات على مقربة من يافا، لقطف بضعة حبات من الليمون اليافاوي،" شعرت ريم أن عليها أن تخرج عن صمتها وتقطف بضع حبات كرمزية على استعادة حق مسلوب، فقطفت بضع حبات وصعدت للحافلة،259

قراءة الروايات الفلسطينية بشكل عام تُتيحُ للقارىء الذي هو من خارج فلسطين أن ينعم ولو بنذر يسير من السياحة الجغرافية وحتى الدينية في فلسطين لما تتضمنه تلك الروايات من توصيف لبعض الأماكن والعادات، وفي هذه الرواية نتعرف على بعض الأماكن في محيط مدينة القدس وعن تفاصيل الأزقة والحارات، ذاك الزقاق الذي يضم عدة أبواب وخلف كل باب حوش صغير، يتسع لبيتين أو ثلاثة بيوت، وايضا تأخذنا الرواية إلى تلال أبوديس والعيزرية، وبلدات سلوان، ومدن رام الله وبيرزيت وغيرها من الأماكن، ونتعرف على تفاصيل وأشكال البيت الفلسطيني الذي يتخذ شكل المستطيل   وواجهة البناء مزينة بألوان زجاج أحمر وأزرق، وأن كل شباكين من شبابيكه قريبين من بعضهما البعض، وتلك الأقواس النصف دائرية المزينة بالزجاج الملون والتي تُزيد هذه الشبابيك أناقة، وهذا ما يعطي البناء جمالية مميزة رغم بساطة تصاميمه158. 

بالعودة للرواية نلاحظ ان الجانب الإنساني هو الطاغي في معالجة أحداثها بحيث نلحظ ان هناك ما يمكن إعتباره دعوة إلى التسامح وقبول الآخر، وبمعنى آخر الدعوة إلى ما يشبه أنسنة الدين، يصف الراوي العليم أسينات بأنها "كانت كأي إنسان نقيّ تُحب الجميع، وترى بأن كل الناس في أصقاع الأرض متشابهون، ويجب أن يتفق المسلمون مع اليهود وكذلك مع المسيحيين، وكأن الصراع مع المُحتَل هو صراع ديني وليس صراعا سياسيا ووجوديا، فهي تقول لولا تدخل رجال الدين المتعصبون لكانت الدنيا أفضل وأجمل وتتسع للجميع، إن هي خلت من الأنانية والطمع اللذان يُتلفان الحياة والبشر.61 ". وفي موضع آخر تقارن ريم بين التجهيزات المكتملة في مستشفى هداسا العيساوية وبين الوضع المُتردي للمشافي الفلسطينية التي تفتقد حتى لأجهزة ألأوكسجين التي يحتاج لها الجنين، ويصف الراوي العليم اجواء مستشفى هداسا بالنموذجية: " تبدو هذه الممرضة وكأنها ملاكاً، أطباء وطبيبات وممرضات وممرضون، عرب ويهود كل واحد منهم يعمل بجد ونشاط، وكأن العالم الخارجي لا يمت لهذه المنطقة بصلة، 197". أما ريم في وصفها للأطفال حديثي الولادة تقول:" ينام كل هؤلاء الأطفال ولا تعرف منهم من هو المسلم ومن هو الولد النصراني أو اليهودي، وتُكمل: "ليت البشر كلهم يبقون كما هم هنا مسالمون". أيضا فإن في تعامل ريم مع المنتصر وجوناثان الكثير من التسامح وقبول الآخر، تقول:"الإثنان إبناي، وسأحبهما، أنا أمٌ  ولم تُخلق الأمهات إلاّ للحب.و لم يعد لديّ فضول لأعرف أين ومن هو إبني الحقيقي؟ لكني حتما سأحبه، قد  بدأت أدعو له في صلاتي، أنا أرفع كل يوم يديَّ وأدعو للمنتصر وأخيه بالخير".

النقطة الثانية التي نستخلصها من الرواية هي الهوية الضائعة او المُشتتة وهذا ما جسدته أسينات التي  تُمثل المرأة الباحثة عن هويتها، وهي الآتية من مزيج جنسيات وديانات مختلفة كما حدثها جدها الذي كانت أمه عراقية، وأبوه إيراني وهو تزوج من شابة أمها كانت ألمانية، وأبوها بولنديًّا، فأنجبا والدة أسينات،49. ولا بد لنا من تسجيل هذه المفارقة في شخصية أسينات، التي لا يمكن لنا  فهم هذه الإستدارة في حياتها، فبعد ان قدمتها الرواية بكونها الفتاة المتمردة المُمتلئة حماساً للعلم والمعرفة، ولا يعجبها أي شاب تقابله، بل كانت دائمة البحث عن ذاك الذي يحب الفلسفة ويشاركها متعة قراءة الكتب،49  وتوحي بأنها لن تكون تلك المرأة التي ترتق الجوارب، وتعد أشهى المأكولات، ولن يهمها أن تتقن الحب لإرضاء شريكها، بل ستختار من يشاركها الحياة بتناغم ومساواة 53، نجدها فجأة وبعد أن خُيّل للقارىء بداية نشوء علاقة انجذاب ما مع عليّ العراقيّ، نُفاجىء بها وهي تحط في مطار بن غوريون متأبطة ذراع زوجها شمعون دون اي مقدمات. هذا الزوج الذي لا يرى في مؤسسة الزواج ربما سوى مجرد أجساد تلتقي لحظة المغيب بهدف الإنجاب. ويتمنى ان تصبح زوجته حاملا بأسرع وقت خدمة لإسرائيل كما يدعي:" هذه أرض إسرائيل، ليست كأي مكان، نحن بذلنا الغالي والنفيس من أجلها، بنيناها بالدم والدمع والعرق، وما زلنا نتعب ونبني ادعي الله  كي تكوني حاملا، لنرزق بطفل يحمي هذه الأرض ويخدمها، كما  فعل أجدادنا من قبل، عليكِ أن تشعري كباقي الأمهات الإسرائيليات أنك مسؤولة عن بناء ونشأة طفل لخدمة أرض إسرائيل. 187" .

    سعت الرواية لفضح المحتل وممارساته، مُشيرةً الى الإنتفاضة التي اشتعلت شرارتها الأولى من مخيم جباليا في قطاع غزة في عام 1987 بعد دهس أحد المستوطنين لمجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز إيرز، فهبَّ الشعبُ كلُّه معلنا انتفاضة الحجارة في كل المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية.107". كما أشارت الرواية إلى الجدار العازل في عملية توثيق تاريخية لما جرى ويجري داخل الارض المحتلة، وإلى لون الهويات الذي إبتدعه الإحتلال، اللونان الأزرق والأخضر لونا بطاقات الهوية الملعونة، التي دمغ الاحتلال بها البشر، وصنفهم بها إلى أصناف،وبسبب ذلك أصبح التنقل صعبا، فالجميع أصبح مجبرا على الاستدارة حول الجدار، لتصبح مسافة النصف كيلومتر التي كانت على مرمى العين أكثر من عشرين كيلومتر؟. وفي تذكيرنا بالأسرى داخل السجون، وثقت الرواية الأجواء الإحتفالية لعملية من عمليات تبادل الأسرى، وكانت بلدة سلوان على موعد مع تحرير أسيرين، وقد علت أصوات الشباب، وتبعتها زغاريد النساء، والكل ينظر ويتتبع بحب وشغف ذلك الموكب المهيب، والأمهات اللواتي لم يستطعن الخروج، تناقلن الفرحة من الشبابيك وحلقات صغيرة جمعتهن في طريق الزقاق، قرب شجرة الزيتون الكبيرة، وقرب شجرة التين الأقرب لشارع القرية كيف لا والفرحة اليوم فرحة أمة، والنصر اليوم للجميع؟.

كما أثارت الرواية الزيف والتزوير الذي يمارسه الإحتلال ومن يُسانده في محاولته طمس التاريخ الفلسطيني وتزوير الحقائق من خلال حديث شمعون سواء مع زوجته أسينات أو ولده جوناثان فهو دائم التذكير بأن هذه الارض هي أرضهم الموعودة وان هذه البيوت التي يسأل عنها جوناثان دوماً ما هي الا بيوت الرعاة الذين تركوها ليرعوا أغنامهم، ويخاطب زوجته قائلاً: بالله عليك يا أسينات، أنت لم تعرفي بعد كم عانى اليهود لإقامة هذا البلد، الذي هو وعد الربّ لنا، ألا تعلمين بأننا شعب الله المختار، وقد اختار لنا هذه الأرض لنعمرها؟ ويذكرها كيف كان اليهود يسردون القصص لاطفالهم منذ نعومة أظافرهم ليعيشوا على حلم بناء دولتهم، التي سُلبَت منهم، فعملوا جميعا بكدٍ وتعب لبناء هذه الدولة. وشمعون هذا يرفض كل إشارة إلى التاريخ والتراث الفلسطيني لذا نجده دائم التذمر من إهتمام جوناثان بالقناطر والوان زجاجها، هذا الرفض ظهر في اللاوعي عنده أثناء قيامه بالتحقيق مع المنتصر الذي تباهى أمامه بجمال القناطر والبيوت الفلسطينية، حتى خُيَل لشمعون أنه أمام جوناثان فصرخ قائلاً :"عن أية قناطر؟ وأية بيوت يا ابن الزنى تتحدث؟ لا أريد أن أسمع عن  القناطر ولا التماثل، سحقا لك يا جوناثان من أي مكان خرجت لي؟ تبا لتلك القناطر، تبا لتلك الألوان، لقد سئمت رسوماتك وألوانك، أنا سأربيك وسترى مني العجب، أنت ملكي وتحت أمري، 250

كذلك لا تكاد تخلو محاضرة من محاضرات البرفسور شتراوس إلا ويذكر فيها تضحية اليهود، وعملهم الدؤوب لبناء دولتهم، وكيف أنهم اهتموا بنقل العلم والاداب والثقافات المختلفة لدولتهم، وفوق كل ذلك التعايش والسلم الذي غلف المجتمع الإسرائيلي في دولتهم . 

كل هذه الإدعاءات سقطت أمام سؤال أسينات "هل كل هذا الطعام إسرائيلي؟"، كم أحب تعلم وتذوق الطعام الإسرائيلي، كم هو متنوع، لترد والدة شمعون في الحقيقة لقد ساعدتني عمّة شمعون بتحضيرالأصناف المغربية، أما أنا فقد جهزت الكبّة العراقية والحمصية، وهذه إشارة إلى ان المجتمع الإسرائيلي برمته مجتمعا هجينا يعتمد على تراث الآخرين حتى في أنواع الأطعمة.

      خلال الحوار الذي جرى بين البروفسور شتراوس والطالب العراقي علي نلحظ أن الرواية قد خصصت مساحة لا بأس بها على لسان الرواي العليم  للإضاءة على ما يعتقده البروفسور  شتراوس المعروف بحُبه لنصرة ألاقليات في العالم،- كما وصفته !- والذي يتخذ من إسرائيل مثالاً رائعا للتضحية والكفاح، "لقد كان معجبا بولادة دولتهم التي أقاموها بالدم والدمع والعرق، أوجدوا جيشا قويا، زرعوا جبال وتلال إسرائيل، حفروا فوق الأرض وتحت الأرض، كيف لا وكل أثارهم مدفونة هناك؟55". ولم يكن رد الطالب العراقي علي بالمستوى المطلوب حيث اكتفى بتذكير البروفسور بمجازر العصابات الصهيونية التي لعبت دورا كبيرا  في تأسيس الكيان الصهيوني، وإرتكاب المجازر في دير ياسين وكفر قاسم وغيرها من المدن.58 . دون ان يُضَمِن رده بالأدلة الدامغة لإثبات الحق التاريخي لشعب فلسطين بأرضه، وان هذه الأرض هي أرض عربية إغتصبها الإحتلال وليست ارض الميعاد كما يزعم.

  نقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها  والتي قد تلتبس على القارىء، حيث  قدمت الرواية بعض النسوة الفلسطينيات بصورة هشّة في ردة أفعالهن وهمساتهن حول ريم التي أصبحت زوجة لأسير:" جلست ريم في باص الصليب الأحمر وبدأت بسماع همسات النساء من حولها، حول الاف السيناريوهات التي قد تحدث في الشهور المقبلة، البعض حزين على شبابها، والبعض يحسب الراتب الذي ستتقاضاه  كون زوجها أسيرا، هل ستطلقه أم ستصبر؟ هل ستبقى في بيت عائلة زوجها أم ترحل؟.256 . هذه الهمسات وإن كانت تحصل في بعض المواقف لكن توثيقها ضمن رواية وإظهار المرأة الفلسطينية وكأنها توظف أسر زوجها للحصول على مرتب او للتخلص من إلتزاماتها الزوجية وطلب الطلاق أجد ان إدراجها في متن الرواية غير موفق ولا يخدمها.

   أما في موضوع الخطأ الذي حصل في المستشفى والذي أدى إلى إستبدال الطفلين المنتصر وجوناثان، فلا بد من الوقوف وطرح السؤال المركزي والبديهي في مثل هذه المواقف: ما هي ردة فعل كل من الأشخاص المعنيين وكيف كان تعاملهم مع الحقيقة المستجدة. وفي تطرقنا إلى هؤلاء الشخصيات نسجل الملاحظات التالية:

- جوناثان: بالرغم من نشأته في بيت يهودي-إسرائيلي، يبدو أن الجينات البيولوجية والوراثية فعلت فعلها في تكوين شخصيته وإهتماماته، لدرجة أن كل من شمعون وأسينات وجدا فيه الطفل المختلف الذي أدمن على رسم قناطر الأبواب والشبابيك، التي كانت تزيّن البيت، رسم الشبابيك والقناطر الزجاجية التي تعلوها. أضف إلى ذلك فقد كان يطرح الكثير من الأسئلة التي كانت تستفز من حوله، يسأل أين ذهب الرعاة؟ من ساعدهم ببناء تلك القناطر؟ من صنع الزجاج الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر؟ أكانوا كثيرين؟ هل نحن رعاة؟ هل بيتنا بيت رعاة؟ لماذا نسكن بيتهم؟وفي أول زيارة له لحائط المبكى اضطرب كثيرا ولم يطيق البقاء.

- المنتصر:  وهو المولود من أبوين يهود،  لم تظهر عليه أي علامات تثير الشكوك حول هويته بل العكس كانت كل تصرفاته تدل على انه فلسطيني المولد والنشأة، مؤمن بحقه وبمناهضة المحتل وهذا ما ظهر من خلال إصراره على إختراق السور لقطف الزيتون من بستان جده رغم كل المحاذير كما ظهرت صلابة موقفه أثناء التحقيق معه والإنتصار لأمه ريم ورفضه التعرض لها.

- شمعون: منذ البدء تولد لديه شعورا بأن جوناثان مختلف، وعندما علم بحقيقة الأمر قال "نعم هو ليس ابني، أنا أستحق الأفضل، كنت دوما أشعر بهذا الشعور، ولم أقدر على البوح به.301" . وهنا لا بد من التساؤل كيف لم يتولد أي شعور غرائزي عندما تقابل شمعون مع ولده(المنتصر) خلال التحقيق. وما كانت ردة فعله عندما عرف انه كان يحقق مع إبنه ويعذبه.

- ريم : كما ذكرنا سابقا فقد تقبلت ريم الوضع بإعلانها ان الولدين هما ولديها، ولكن الملفت انه مع نهاية الرواية وخلال مكالمتها الهاتفية كانت المكالمة مع المنتصر ولم يكن لديها الفضول للتكلم مع إبنها الحقيقي "جميل او جوناثان" إنها مفارقة تدعو للتساؤل.

 كما أن الرواية لم تبين لنا ردة فعل المنتصر عندما عرف بحقيقة نسبه اليهودي.وأيضا لم نعرف ردة فعل جوناثان واسينات عند معرفتهما بالحقيقة وإن كنا نتوقعها أخف وطأة. ولو  تطرقت الرواية لهذا وإستفاضت به لربما كُنَّا أمام فيض من النقاشات والمشاعر التي تولدها الصراعات الداخلية داخل النفس الإنسانية.

ختاما شكرا للرواية مريم حمد على هذه الرواية التي أتاحت لنا فرصة الغوص في محاورها على أمل ان تتحفنا بالمزيد من النتاج الأدبي الهادف.

***

عفيف قاووق – لبنان

أحمد ختاوية يطارد أفعى الغثيان، على منوال جان بول سارتر، بوجودية تقود نحو الإيمان:

عنوان رواية الكاتب أحمد ختاوي المدينة بدم كاذب لما هذا العنوان المكون من المدينة.. بدم.. كاذب

هل يعكس هذا العنوان محتوى النص، هل يجذب إهتمام القارئ؟ أليس هناك خشية من تضليل القاريء إذا كان غير مناسب؟

قبل أن نبحث عن إجابة لهذه التساؤلات ينبغي أن نشير إلى وجود تناص بين هذه العبارة وهي العنوان وما جاء في سورة يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب) أي: بدم هو كذِب، لأنه لم يكن دم يوسف)

إذا كانت المدينة هي القميص فالمدينة التي جاءت في الرواية هي بوسمغون تقع في الجنوب الغربي من الجزائر حيث عانت من ويلات الاستعمار قبل الاستقلال والتهميش وقلة التنمية بعد الإستقلال، أم هي باريس العاصمة الفرنسية مدينة الجن والملائكة  كما قال عنها الأديب المصري طه حسين وهي أيضا كانت مسرحا لعمليات إرهابية عنيفة وهذا لم يمنعها أن تبقى أكبر عامل مؤثر في شخصيات ثقافية وفكرية وإبداعية عربية ومغاربية،بدم كاذب هل هي دماء زَكِيةٍ كدماء ثورة التحرير نوفمبر 1954 لأجل قضية حق،عادلة وهي المطالبة بالاستقلال وخروج الإستعمار فسالت دماء الجزائريين في بوسمغون وغيرها من مدن الجزائر،وسالت في باريس دماء المهاجرين،إنها صفحة من أحلك الصفحات في تاريخ فرنسا. في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961 ومع اقتراب الحرب الجزائرية من نهايتها، قمعت قوات الأمن الفرنسية بعنف مظاهرة نظمتها جمعية "مسلمو الجزائر الفرنسيون" (FMA في العاصمة الفرنسية باريس. فما كانت جريمتهم؟ الاحتجاج والتظاهر السلميان تلبية لدعوة أطلقتها جمعية "جبهة التحرير الوطني" (FLN) في فرنسا للخروج في مسيرات ضد حظر التجول الذي فرضه عليهم موريس بابون مدير أمن العاصمة.

في تلك الليلة وفي الأيام التي تلتها، قامت الشرطة الفرنسية باستخدام القوة في قمع المتظاهرين وضربهم وإعدام بعضهم وإلقاء جثثهم في نهر السين...

لكن وللأسف الدماء التي سالت في التسعينات من القرن الماضي، بما سمي بالعشرية السوداء وهي مرحلة الإرهاب الذي زرعته أيدي الخفاء بإسم الدين وراح ضحيته مئات الألاف من الرجال والنساء والاطفال، من الأجانب السياح والرهبان هنا في أرض الوطن وفي باريس كان دمًا أُهْدِر بغير حق كان دما كاذب بكل معاني الكلمة فمن هذه الحيثية يكون المؤلف قد عبَّر بهذا العنوان عن محتوى النص، وجذب القاريء بصدق إلى قضية إظهار الحقيقة وكشف الزيف والتلفيق ويكون بذلك لم يضلل قاريء الرواية.

يحكي الروائي أحمد ختاوي عن وضعيات تثير الحزن والقلق حتى اليأس والسخرية عن المجتمع البوسمغوني قبل الإستقلال:

كان يسرق المفتاح كلما سنحت له الفرصة من صدر أمه العجوز التي تصلي كل صلواتها بالفاتحة وسورة الإخلاص،ليفتح صندوقا صغيرا تختزن به رغيفا من الشعير

كم كان مملوءا بالنرجسية وباليتم والعوز أيضا.

قالت يعني الطفلة هذا فيتامين لا تمسوه بسوء .....

ولا توزعوه إلا بمقدار كيل كل ثلاثة أيام....

وبينهما كل الناس صيام فهمتم......

ثم يسرد لنا قصة الهجرة والهروب إلى باريس وفرنسا عموما

حيث يبتز المهاجر من طرف أرباب العمل من اليهود وغيرهم

ناوله سيدي كرتول قلنسوة يهودية وثمرا من عرجون متيم بخيام الصالحين وخواء اللحظات......

ثم بعد هذا ينقلنا عبر الزمن كيف يصير حالهم كجيل أول بدأ يتخلى عن ثقافته

كما توضحه الرواية عن شخصيات مثل العربي المدمن على الخمر والحشيش والقمار، محمود صاحب الحانة التي هي مرتع القمار والمخدرات وشوي شرائح لحم الخنزير....

زونة امرأة مغربية مهاجرة تشبه سميرة برودي تعمل في الحانة عشيقة العربي البوسمغوني ....

ثم ينقلنا المؤلف إلى جيل ثاني ولد في هذا الصراع والتفسخ

والضياع وهم أبناء المهاجرين الذي أستدرجوا بمكر في خلايا الارهاب ليجدوا أنفسهم في أفغنستان وجبال الجزائر وفي داعش يقودهم أمثال الزرقاوي.....

لماذا هذا الإنتقاء؟ لأنهم جيل يشده الحنين إلى اوطانهم إلى دينهم وعاداتهم فاستغل هذا الحماس ليخربوا به ما يحبونه من دين واوطان وأهل ووووووو

ينقل السارد هذا الحدث الأليم الذي يضرب الجزائر في أعماقها، وهي الدولة الفتية السائرة في طريق النمو بطريقة جميلة سلسة بين جيل هاجر قبل الاستقلال وابنائهم مع المهاجريين الجدد بعد الإستقلال:

اقترب العربي من شطيرة الخنزير، بصق عليها وهو يتأهب لمغادرة الحانة....

محمود يسأله وشطيرتك؟

العربي أعطيها للقطط يرد بنبرة حادة...

يستوقفه خبر عاجل محطة تي آف 1 الفرنسية مجموعة مسلحة تغتال رهبانا بضواحي البليدة واشتباك في منطقة الاربعاء

تمشيط أدغال الأخضرية بحثا عن معاقل الجماعات الإسلامية......

يرشق التلفاز والمذيع بنظرة ثاقبة..

يتنهد دون أن يعلق، وينصرف.....

يتخلل هذا السرد وصف رائع لحالة من الغثيان يعيشها العالم العربي بمشرقه ومغربه، نجده في أدبيات أمثال

غسان كنفاني، السياب ب والبياتي والجواهري ومعروف الرصافي.....

غناء يردد بكل أنواع الموسيقا الراي، الشعبي، المغربي، الراب

نفس الألم الذي خلق هذا الطوفان من الغثيان

أغاني الشيخة الريميتي، دحمان الحراشي، حسني، خالد، مريم عابد......

ثم يعرج بنا إلى أخطر معانات عانت منها الأمة الفتاوى على بياض من طرف مشايخ في التكفير والتفسيق والتبديع

إن رواية الاستاذ أحمد ختاوي إكتست نمط الرواية الوجودية........

والتي كان رائدها جانبول سارتر وسيمون ديبوفوار وبركامي

وغيرهم لأن لديهم نظرة أخرى للأدب حيث تقدم صور واحداث الرواية كما هي في المجتمع ليسمح للقاريء أن يشكل ماهيته من واقع حقيقي هو يتبناه ويلتزم به دون تدخل المؤلف ذاته وهذا ما لا نجده عند الشكلانيين والبنياويين والذين لم تصل افكارهم إلى تمييز الخطاب الأدبي عما سواه.

يعاني الإنسان أثناء تحقيق وجوده الذاتي من حتمية الاصطدام مع الذّاوات الأخرى ومع العالم الخارجي المليء بالمآسي والعبث واللامعقول، الأمر الذي يخلق عنده حالة من التمزق والقلق والضياع، تفضي به إلى العيش في دوامة من التناقضات والاضطرابات. انعكست هذه الحالات بصدق وعمق مكثّف في أعمال الوجوديين الأدبية، الذين حاولوا من خلالها خلق صور حية وحقيقة لهذا الصراع،فالكاتب أحمد ختاوي بهذا الاسلوب وإختياره لعبارات كعلامات إجتماعية الخاضعة للزمنكان ذات دلالة مشفرة تشير إلى أعمال إجرامية تهدم الدول وتدخلها في حروب أهلية كما نراه اليوم في افغنستان والعراق واليمن،ولا يقوى على مثل هذا إلا أجهزة إستخبارية ودول متمكنة ماديا تمد هؤلاء المجرمين بالمال والسلاح والمعلومات الدقيقة وأيضا يكون المؤلف المتبصر قد منح قرائه "لذة فنية"، يسميها سارتر "طرب فني". وهذا الشعور حين يظهر، يكون العمل قد اكتمل، ويرجع هذا الشعور- في أصله- إلى الانسجام التام، بين "الذاتية" و"الموضوعية"، وهنا، يبدو العالم بمثابة الأفق وراء موقفنا، أو بمثابة المسافة اللانهائية التي تفصلنا عن أنفسنا، فالعالم هو المجموع التركيبي للفكرة، أو جملة العوائق والأدوات على السواء.

ثم تسرتسل رواية المؤلفة كما يفعل الفيلسوف سارتر في روايته الغثيان عن وجود كله ضياع وإن كانت هذه الحالة

اوصلت سارتر ورفاقه إلى الالحاد لأنهم وجدوا تناقض صارخ في ديانتهم الكنيسية، فإنها ستقود غيرهم إلى وجودية إيمانية واستجابة إلى القوة العظمى والتي أقر بها سارتر لما لم يجد تفسيرا مقنعا في السير خلف هذه الماهية التي تسبق الوجود،فنحن نقول ان الإيمان الصادق والاحكام الشرعية الدينية من منقولها الصحيح وبعقل صريح دون تدخل اصحاب الهوى والطمع وفكر الاستعمار عند الآخر، ستوصلنا إلى بر الأمان،إلى السلام والوئام والعدل بين الروح والمادة وبين الفرد والمجتمع، وبين المجتمعات الإنسانية مهما باعد بينها الاختلاف المذهبي أو الديني لأنها ترجع في الأخير إلى القناعة والإقتناع بلا تشدد أو تعصب......

***

تأليف الأستاذ الشاعر رابح بلحمدي الجزائر 

البليدة الجزائر

 

 

توطئة: توفيق الحكيم كاتب روائي مصري ولادة الأسكندرية 1987 -1898 من أكبر كتاب مصر في العصر الحديث، وهومن رواد الأدب الحديث صاحب التيار الأدبي المعروف بالمسرح الذهبي، ويتميّز الحكيم بأسلوبه الخاص الذي يميّز شخصنتهُ الذي حرص المزج بين الواقعية الرمزية والواقع السوسيولوجي المصري المتهالك أصلا حين وضّحها في روايته أهل الكهف، ولهُ القدرة الأسطورية الفذة في تصوير حياة الفلاح الكادح المصري وواقعهُ المزري خلال تعايشه وصراعه الطبقي المرير مع تربة أرض الكنانة وهنا يغوص هذا الروائي البارع في مجمل الدلالات والمعاني بدقة شديدة يرسم على الورق أدوار أبطال روايته بسردية  رمزية بعيدة عن المبالغة كليا حتى تبدوتوجهاته الأدبية تشير للمسار المسرحي، لذا كانت  من أهم  نتاجاتهِ الثرة والثرية. 

كانت بدايات أنتاجه الأدبي في ثلاثينيات القرن العشرين في أبداعاتهِ المتألقة في " أهل الكهف " وعودة الروح، وشهرزاد، وعصفور من الشرق، والطعام لكل فم، ويا طالع الشجرة، ولهُ 100 مسرحية و52 كتاباً وتأثر بالثقافة الأوربية والمصرية فكانت مدوناته الأدبية من وحي التراث المصري بعصورهِ المختلفة ماراً بالتطورات السياسية والأجتماعية، تُرجمتْ اعمالهُ إلى الفرنسية والأنكليزية والأيطالية والأسبانية.

الموضوع: رواية " عصفور من الشرق " للروائي المصري (توفيق الحكيم)1938 جسدت فكرة التباين بين الشرق والغرب، وتعالج موضوع العلاقة بينهما عند توقيت التأريخ التنويري الأوربي ما سمي بعصر النهضة الأوربية التي باتت تعتبر صورة أوربية حديثة ربما صادمة بفجائيتها بالتقدم الأنفجاري بمجالات الحياة اليومية لترقى بالعالم الغربي إلى درجات رفيعة في سلم الحضارة البشرية، بفعل الأستكشافات الجغرافية وحيازة المستعمرات العديدة في أرجاء كوكب الأرض، بينما بقي الشرق قابعاً في مكانهِ مذهولاً من جراء تحسسهِ بالهوة السحيقة بينهُ وبين الغرب، بأعتقادي أن الصدمة الكهربائية شكلت عوامل دفع في فضاءات الشرق حيث أخذ يتحسس مواطن الحضارة الغربية ليفهمها ثُمّ ليستوعبها، وخلال كل هذا الصراع قد يشعر بالدونية ويعيش الجلد الذاتي على تأخرهِ هذا، كان " توفيق الحكيم " سباقاً إلى طرح تلك العلاقة (روائياً) وفتح الأبواب لتجارب أخرى جاءت بعدهُ مثل " قنديل أم هاشم " ل يحي حقي 1940 والحي اللاتيني لسهيل أدريس 1954 ثُمّ  " موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح، فكانت رائعة توفيق الحكيم " عصفور من الشرق " موفقاً في توظيف تقنيات الفن الروائي وأبعادها عن الخطابية والتقريرية التي طفت على ما قبلها، ورسم الأحداث والشخصيات بشكلٍ مقنع يدعو القاريء للغوص فيها، وكان الحكيم فناناً محترفاً وواعياً بتقنيات الكتابة الروائية التي تختلف كليا عن الكتابة الخطابية الوعظية، ففي هذه الرواية بالذات أعطى الأولوية للحدث الذي يتحرك ويتطوّرْ ليترك القاريء أستنتاج الدلالات. وكشف الحكيم في الرواية مآخذ تلك الحضارة الغربية في: مادية الحضارة الغربية التي غيّبتْ روحانيتها وخلوها من روح الفن وهنا يتجاوز الحكيم مفهوم الصراع إلى مفهوم أعمق هو التأكيد على فقدان الروحانية في الحضارة الغربية الحديثة، ومن جانبٍ آخر طرح الحكيم في روايتهِ بعض المشتركات والمقاربات التأريخية والحضارية الفنية بين الشرق والغرب، وشكلت الرواية مدخلاً وأساساً لمنظري السلام وحوار الحضارات في القرن العشرين، مؤكداً على غياب (الكمال المطلق) في كليهما الشرق والغرب، والرأي للكاتب الروائي الحكيم يطرح من خلال شخوص المسرحية الروائية: أن الحضارة الغربية لا تسمح للناس ألا أن يعيشوا في عالمٍ واحد فقط بينما الحضارة الشرقية تكمن سر عظمتها أنها جعلت الناس يعيشون في عالمين دنيوي وآخروي أو سماوي وأرضي.

الفروق الجدلية بين الحضارتين وقراءتها حداثوياً!

تعد الدراسة أنعكاساً حقيقياً لحال المجتمع الفرنسي في زمن حياة الحكيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وتكمن  مغزى الرواية في صراعات الحضارات والنظريات المطروحة في محاولة الروائي البحث عن الحلم المفقود، وقد قرأتُ الرواية في السبعينات من القرن الماضي وجدتُ فيها من كل زهرة لون بها من الحب ربيعهُ والعمر صحراءهُ ومن الروح شفافيتها، وبعاطفة شبابية متأججة تقمصتُ تأييد الحكيم في كل ما طرح من رؤى عن الغرب والشرق، واليوم ونحن في الألفية الثانية من القرن 21 وأصبح زمن الروائي الحكيم عن بعد أكثر من تسعين عاماً وتحت تأثري بالمعطيات الحداثوية المعصرنة طلقتُ أفكار الحكيم لتأثري بالواقعية والتأمل بدل أحلام اليقظة الغيبية وتمسكتُ بأهل الأرض لتحسسي بأوجاعهم وطموحاتهم المشروعة في الرغيف والحرية، وأهم هذه الفروق هي:

-الفرق الدستوري تعتبر المجتمعات الشرقية على العموم مبتلاة بأنظمة شمولية دكتاتورية قمعية، بينما الأنظمة الغربية محمية بأنظمة وقوانين عادلة في حقوق الأنسان، وهل أطلع الحكيم – وهو في فرنسا – على مباديء روسو في الحرية والمساواة.

- القدرات العلمية عند الغرب متعددة ومتجددة وقابلة للتطور وتولت اختراعات الغرب في كل مجالات الحياة، أما الشرق لم ينتج أي شيءٍ نافع ولم يكملوا ما بدأ الأجداد في حقول الطب في زمن أبن سينا وأبن الهيثم بل أعتمدوا الأتكالية والأستهلاكية الطفيلية.

-الفرق المعماري والبيئي أتجه الغرب في التفنن في ريازة العمارة والحدائق والمنتزهات والنصب التذكارية، بينما العرب ليس فقط أهملوا هذا الجانب بل تفنن المتطرفون الأسلاميون في تخريب وأزالة العمارة والنصب التأريخية وقد فجعونا في الموصل العراقية سنتة الأحتلال 2014في نسف منارة الحدباء التأريخية وأزالة مدينة الحضر التأريخية، فهي أمة بدوية سالبة كما قال العلامة المغربي أبن خلدون في كتابه المقدمة.

- الفروق الفلسفية  في الثقافة الشرقية تعتمد على الأسلامية والبوذية والكونفوشية بعموم شمولية القارة الآسيوية بينما تعتمد المسيحية والتلمودية وتنحو بأتجاه العقلانية المنطقية، الثقافة الشرقية تستند على الأبدية بينما الغربية تستند على الفلسفة المسيحية في كل شيء لهُ بداية ونهاية، والشرقية تستخدم التأمل الروحي من خلال الذات أما الثقافة الغربية تعتمد على المنهج العلمي بمنجز عملي في البحث خارج الذات من خلال البحث والتحليل، تعتمد الثقافة الشرقية على الوسائل الروحية والغيبية في تحليل الظواهرالطبيعية والأجتماعية بينما الثقافة الغربية تعتمد على التحليل المادي الملموس للظواهر السوسيولوجية للمجتمع.

- قابلية الحضارة الأوربية على التطور خلال القرنين السادس عشر والعشرين شملت مجالات الفلسفة وتطوير طرق التربية والتعليم وأزدهار العلوم الأنسانية وأنفتاح العقل الغربي ومشاركته الفعلية والعملية في عصر التنوير، وظهور مباديء ومصطلحات جديدة مثل الديمقراطية، أما الحضارة الشرقية على العموم أنها بدأت في وادي الرافدين ووادي الكنج والسند والأردن منذ أكثر من سبعة آلاف سنة أن شعوبها علمتْ الغرب أبجديات الحروف والكتابة ولكنهم لم يحافظوا عليها وأهملوها ولم يخضعوها للتطوير بفعل التركيبة الذاتية السايكولوجية المتقوقعة للعربي والنظم الأستبدادية الشمولية المستلبة ووقع في المحذور حيث الأنعزال والأتكالية بأخذ قشور الحضارة الغربية وترك جوهرها وأصلها كما قال نزار قباني في هذا الموضوع: (لبسنا ثوب الحضارة والروح جاهلية) 

أخيراً/قد أختلف مع الروائي المتألق وهو من الكبار- ليعذرني – في أنعدام حياديته بين الحضارتين أذ أنحاز بشكلٍ كلي في روايته الرائعة " عصفورٌ من الشرق " ذاكراً سلبيات الحضارة الغربية دون الأشارة إلى أيجابياتها وتنويرها العالم المادي بالمعرفة والتكنلوجيا، وأنتقاده لماركس الذي فك لغز الأنعتاق للطبقات الفقيرة والمسحوقة في الشرق والغرب، وغاب عنهُ أن يذكر مستلبات وسلبيات النظام الرأسمالي المتعدد الرؤوس في أستعمار الشعوب وسلب مقدراتها المادية والأرثية الثقافية، وتكلم عن الفاشية الماركسية وتغافل عن ذكر الفاشية النازية والرأسمالية الجشعة والطفيلية المتوحشة التي أشعلت الحربين الكونيتين التي أبادت الملايين من بني البشر وتخريب البنى التحتية والفوقية لنصف العالم تنازلا لعراب الأقتصاد الرأسمالي (مالثوس)، وللحقيقة لم يكن في طرحهِ عدلاً، وهنا تكمن الهفوّة التي وقع فيها الروائي الحكيم متجرداً ومنحازاً كلياً للشرق مسلفناً أفكارهُ بأثنية قبلية تحامل بطريقة غير موضوعية على الحضارة الغربية بالوقت الذي الغرب هو الذي حقق أحلام البشرية من خلال الأنجازات العلمية، بيد أن الحكيم أصر خلال سرده الروائي على عمق زمكنة الحضارة الشرقيىة.

أي نعم ولكنهم لم يحافظوا عليها أو يطوروها لخدمة البشرية، وهو يقول: على لسان (أيفان) بطل روايته عصفور من الشرق: آه--- آه النور يشرق من بلاد الشرق ليغرب في بلاد الغرب ص180، ليتهُ (حياً) ليرى ماذا أقدم عليه عصابات خارج التأريخ وهم مسلمون من تكفير الغرب والشرق وفرض الجزية على الشعوب ونصب دكات النخاسة لبيع وشراء المرأة، ومعاول وبلدوزرات جيشها أتت على الأخضر واليابس، وهو يعترف بضياع الشرق في متاهات السخافة القشرية لما تسمى بالحضارة الغربية حين يقول في ص186و187: حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين /أنتهى --- نعم اليوم لا يوجد شرق !؟ أنما هي غابة بين أشجارها مجموعات متناحرة مفككة تلبس زي العرب على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا أدراك.

وتلك هي رسالة أدعوا الشرقيين – وأنا منهم - إلى الأمام ليجعلوا من شرقهم رمزاً حقيقياً وليس مشوّهاً.

***

عبدالجبارنوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

...................

هوامش

* موساوي نعيمه –أثر الثقافة الفرنسية لمسرح توفيق الحكيم – 2010 الجزائر جامعة تلسمان ص15- 14بتصرف

* هدى التميمي – الأدب العربي عبر العصور – بيروت – ص575 بتصرف

يتميز النص المسرحي بصفة الازدواجية في الكتابة والعرض. فهو خطاب نصي يتمتع بميزتين الأولى إمكانية قراءته كنص أدبي كسائر النصوص الأدبية والثانية إمكانية مشاهدته كعرض تمثيلي على خشبة المسرح والانتقال بالمتلقي من المقروء إلى الملفوظ.

مسرحية موتى في إجازة الصادرة عن وزارة الثقافة/2022، تضمنت ثلاث مسرحيات معنونة بالترتيب كالتالي..موتى في إجازة ،السحابة الحمراء ،الجرذان كل واحدة منها تنتمي إلى شكل بناء درامي مختلف يعكس الواقع وكل مسرحية تحتاج إلى دراسة منفصلة وقد ارتأيت بأن أحلل في ورقتي هذه المسرحية الأولى والتي وسم بها الكتاب الذي ضم المسرحيات الثلاثة.

مسرحية موتى في إجازة.

هذا النص مقسم إلى ست مشاهد تقدمتها عبارات إرشادية قدمت وصفا لمكان وزمان الأحداث وأحيانا كانت تكتب خلال الحوار أو في نهاية كل مشهد للتعريف ببعد من أبعاد الشخصيات أو وصف حالة على خشبة المسرح أو وصف لنوع موسيقى أو شيء يتعلق بالإضاءة.

تحليل

-الفكرة..

لا بد لكل مسرحية جيدة من فكرة أساسية واضحة المعالم سليمة التكوين. وفكرة موتى في إجازة هي محاولة التغيير من خلال ثورة على الظلم والمجتمع تؤدي بأبطالها إلى موت آخر بعد فقدانهم حقهم في مساحتهم الصغيرة من التراب.

-الموضوع..

جاء شكل البناء الدرامي الذي اختاره حسام الرشيد لهذه المسرحية درامي تغريبي والتغريب في المسرح استخدام اللفظ أو الموقف في غير مكانها المألوف لتثير الوعي باغترابها. ويرتبط مصطلح التغريب المسرحي بالألماني برتولد بريخت حيث أدخل هذا المصطلح إلى المسرح كأداة فعالة تكشف عن أن الإنسان في أي مجتمع هو ثمرة إفرازات التناقضات الاجتماعية التي تنعكس على حياته فينجم عن ذلك حاجة ماسة إلى التغيير ونبذ الركود بشرط أن يشارك هو نفسه في عملية الاغتراب. وهذا بالفعل ما سعى حسام الرشيد إلى فعله في هذه المسرحية حيث استخدم أبطاله من الموتى ونقلهم إلى غير مكانهم المألوف وهو إخراجهم من قبورهم وإعادتهم إلى الحياة من خلال منحهم إجازة في سعي منهم لتغيير المجتمع من خلال قيامهم بثورة على الظلم والمجتمع معا. وقد قام حسام الرشيد بكسر وحدة المكان وتوظيفها في تقنية الاغتراب. فأحداث المسرحية دارت في أماكن متعددة، المقبرة،مكان حفل التأبين،بيت ناصر،شقة حمدان، الخان المهجور.

كما لجأ إلى توظيف الديكور لإنجاح عملية الاغتراب فاستخدم أدوات بسيطة شواهد قبور متناثرة، صخرة حدباء،صفوف مقاعد بلا مساند،طاولة عريضة،ستارة الدانتيلا وغيرها ربما ليستدعي ذهن المتلقي لكي يكمل ما نقص من الصورة.

كما وظف الكاتب الإضاءة لإنجاح تقنية التغريب فقد استعمل الإضاءة المركزة في مناسبة واحدة عندما خرج الأبطال الثلاثة من قبورهم واستراحوا على صخرة حدباء حيث تم تسليط الضوء عليها وذلك لتبئير المشهد حول قطب الحركة في المسرحية وهم هؤلاء الأبطال.

نستطيع أن نقول بأن حسام الرشيد لجأ إلى تقنية التغريب لأن من وظائفها في المسرح التسييس وإثارة الوعي فقد تبنت هذه المسرحية قضايا الإنسان المسلوب الإرادة وقضايا اجتماعية مثل إدانة السلبية والخنوع والصمت وبيع المبادئ من أجل المال والسعي وراء المراكز العليا كما حصل مع رفاق منيف في الحزب الذين قاموا بوضعه قيد الإقامة الجبرية حتى قضى نحبه.وأدانت المسرحية الطمع والخيانة كما في شخصية شقيق حمدان الذي قتل حمدان أستاذ الجغرافيا وصاحب المبادئ وزوجة ناصر الفنانة التشكيلية التي باعت أيضا مبادئها عندما عرضت لوحات زوجها للبيع بأسعار باهظة طمعا بالمال.

-الشخصيات

إن الشخصيات بما تفعل وبما تظهر من حياة مكونة من عواطف وأفكار وأحلام وبما تشترك فيه من صراع وبما تصفه من مشاكل تقدم لنا المادة الحيوية التي تقوم عليها المسرحية ويرى روجر بسفيلد (إن المسرحيات التي ظفرت بالشهرة الحقيقية في جميع العصور تمتاز عادة بميزة صنع الشخصيات). والشخصيات بتقسيمتها التقليدية تقسم إلى رئيسية وثانوية.لكن هناك أنواع أخرى للشخصية مثل الشخصية المحورية التي يدور حولها الحدث وتتمثل هنا بناصر ومنيف وحمدان.

لكن الشخصية التي ألقت بالحجر في مياه الدراما الراكدة وكسرت وتيرة الأحداث وعملت حراكا دراميا صامتا وأقول صامتا لأن ردة الفعل لم يكن لها ضجيجا بالفعل بل كانت ردة الفعل مشادة كلامية غيرت من مخطط البطل وهدم فكرته بالتغيير مثل شخصية المحامي الذي كشف زوجة ناصر وما خططت له من خلال الدعوى القضائية التي كسبوها لملكية اللوحات هذه الزوجة التي مسحت أول حرفين من شاهد قبره حتى تلغي وجوده فلا يتعرف عليه أحد حتى بعد مماته.والراقصة التي سترقص في شقة حمدان بعد أن تحولت على يد شقيقه إلى ملهى وهذه الحقائق صدمت الأبطال وكانت نقطة تحول جعلتهم ينتقلون من حالة إلى الحالة النقيض فبدلا من الثورة التي أرادوها عادوا أدراجهم إلى المقبرة وهذا التحول دفع التطور الدرامي إلى نقطة أخرى رأى الأبطال من خلالها هزائمهم المحتومة في مجتمع لن يتغير.وهناك شخصية نمطية تمثلت في حارس المقبرة الذي ظهر للأبطال الثلاثة حينما عادوا إلى المقبرة وصدمهم بأن قبورهم لم تعد لهم فقد شغرها أموات أخرون غيرهم لكن هنالك فرصة هي الدفن الجماعي في قبر واحد هو لعاهرة حينما قال لهم قبر عاهرة خير من الموت في العراء وهذه العبارة ربما حملت الكثير من المعاني وهي الرضوخ والخنوع اللذين رفضه أبطالنا فتوقف حينها الزمن وتجمدت حركة الكائنات وتحول الثلاثة إلى تماثيل يستظل بها العابرون والظل هنا هو الحقيقة الحاضرة الغائبة حقيقة التغيير التي ربما يلتفت لها البعض وربما لا يلتفتون بل بدلا من ذلك يتبولون عليها وهذا دليل الرفض، رفض التغيير لمجتمعات جمدت فكرها وظلت متمسكة بالقديم البائد.والحارس يشير إلى قضية عامة وهي تواجد أداة السلطة التي تستعمل القمع لجعل خياراتك محدودة بل كما أرادتها هي للشعوب في كل زمان ومكان.

-الحوار..

من المعروف بأن المسرحية لا تأخذ شكلها النهائي إلا عن طريق الحوار فهو نمط تواصل. والحوار الدرامي كلام ذو حساسية مفرطة ،دائم التحول والتغيير والاختلاف.وهو ينقسم إلى حوار خارجي وداخلي وقد استخدم حسام الرشيد كلا النوعين. فاستخدم الحوار الخارجي بين أبطال المسرحية أما الداخلي فقد لجأ إلى استخدام الحوار الجانبي مثل الذي تحدث به منيف خلال حفل تأبينه حينما قال هذا اللعين لم أره في حياتي...الخ وقد جاء هدفه كتعليق ساخر على كلمة المدعو بالرفيق سالم.

والحوار يعتبر ضابط إيقاع النص وأهم خصائصه التكثيف وقد استخدم الكاتب هذه الخاصية حيث كانت معظم حواراته مكثفة إلا ما استدعى الإطالة في سبيل تحقيق رسالة أراد إرسالها عن طريق هذه الإطالة.

ومن وظائف الحوار التي نجح الكاتب في توظيفها قدرة حواراته التي أجراها على لسان أبطاله على تطوير الحدث ودفعه للامام فلا يبقى الحدث ستاتيكي ثابت في منطقة واحدة.

وحوارات حسام الرشيد خالية من التعقيدات اللغوية فكانت فكرته التي أراد إيصالها واضحة لا لبس فيها.

وقد لاحظنا بأن الحوارات كانت ملائمة لطبيعة الشخصيات وأبعادها المادية والاجتماعية والنفسية فناصر بفكر فنان ومنيف بفكر رئيس حزب وحمدان بفكر أستاذ جغرافية وانعكس هذا الفكر على حواراتهم.

-الصراع..

الصراع ينقسم إلى خارجي وداخلي. أما الخارجي فقد يكون بين الشخصية وبين قوة خارجية أحيانا يكون المجتمع بقوانينه وعاداته أو السلطة القامعة أو بين أشخاص ،ومسرحية موتى في إجازة كان الأبطال يصارعون المجتمع ككل والظلم متمثل ببقية الشخصيات الثانوية..

وقسم آخرون الصراع إلى ساكن ،صاعد،واثب ومرهص.. ونلاحظ بأن الصراع حسب هذه التقسيمة ينتمي إلى القسم الأول وهو الساكن حيث كان رد فعل الأبطال الثلاثة مقابل فعل الأشرار ضدهم أقل وهنا لم نشعر بوجود صراع والسبب في اختيار الكاتب لهذا النوع ربما ليبعث لنا برسالة مبطنة بأن الواقع بظلمه وتخلفه هو أقوى من قدرتنا على التغيير وهذا ما كان في المشهد الأخير حينما تجمد الأبطال وتحولوا إلى تماثيل. وهذه النهاية قد تكون صادمة للمتلقي لكنها نهاية واقعية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وأخيرا بقي أن نقول بأن حسام الرشيد نجح في تجسيد إشكالية ممتدة تصلح لكل زمان ومكان وهي إشكالية العجز عن تغيير الواقع لأن كل واقع فيه أشخاص يتسلقون على ظهر الآخرين متخذين منها سلالم للارتقاء إلى أعلى المناصب والوصول إلى المال ولو على حساب كرامتهم وقد عبر حسام الرشيد عن معاناة النخبة أصحاب المبادئ الثابتة التي لا يغيرها الزمن مهما جار.

***

بديعة النعيمي

 

أشرنا في المقال السابق إلى محور المرأة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée " للأديب الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، وأنها كانت تدير الكثير من الأحداث، أو تدور حولها الأحداث الكثيرة بالأحرى. فهي، منذ بداية القِصَّة، تبدو أوَّل محرِّك للأحداث، وهي أوَّل من يقف معه البطل (صادق) في صراع. أحبَّ (سميرًا) لكنَّها ابتعدت عنه لمَّا علمتْ أنَّ العَوَر سيُصيبه. وكانت السيِّدة سمير نفسها تُوقِع الشِّقاق، بل العِراك، بين صادق و(أوركان)، الذي ينافسه عليها، والذي استطاع أن يخطفها من صادق ليتزوَّجها. ثمَّ لمَّا اقترن (صادق) بفتاةٍ أخرى، هي (أزورا)، لم تكن خيرًا من (سمير)، ولا حظُّ صادق معها خيرًا من حظِّه مع الأُولى؛ وقد انقلبت عليه في التمثيليَّة التي اصطنعها مع صديقه (كادور) ليكشف صدق وفائها، حتى كادت أن تجدع أنفه لتشفي كادور- الذي مثَّل معها دَوْرَ الحُب- من ألمه في الطحال.(1)

ويأتي محور العِشق أيضًا وتأتي المرأة في سياق ما دار بين (صادق) وسيِّدةٍ حسناء، كانت تربطه بها علائق الإعجاب المشوب بعلامات الودِّ والرِّضا، لكنَّ الصروف تقضي عليهما بالسجن، بسبب مكيدة دبَّرها الحسود عند الملِك.(2) غير أنَّ جذوة الودِّ بين (صادق) والسيِّدة الحسناء تخبو، لتشبَّ نار عِشقٍ ملتهبةٍ بينه والملِكة الفاتنة (أستارتيه)، التي كانت أروع جمالًا من (سمير)، وأبرع حُسنًا من (أزورا). وسيُخلِص لها (صادق) وتُخلِص له، إلى أن يحظيا في نهاية القِصَّة بما رغبه أحدهما من الآخَر.

وفي أثناء هذا تظهر المرأة عاشقةً أو معشوقةً في كثير من المَواطِن. فقد عُرِض موقفٌ نبيلٌ في يوم العيد لأحد المحبِّين، ضِمن المواقف النبيلة التي كانت تُمنَح جائزة (بابل) من الملِك. ويحكي ذلك الموقفُ قِصَّة «فتًى كان يُحِبُّ فتاة أشدَّ الحُبِّ، ويريدها زوجًا، لكنَّه عَلِمَ أنَّ لها مُحِبًّا يكاد يُهلِكه الحُبُّ؛ فنزلَ له عنها. ثمَّ لم يكتف بهذه المكرمة وإنَّما أدَّى المهر من ماله الخاص.»(3) ثمَّ عُرِض موقفٌ آخَر: لجنديٍّ اختطفَ الأعداءُ أُمَّه وخليلته، فمال إلى إنقاذ أُمِّه، برغم حُبِّه الجارف لتلك الخليلة.

وكان يَرِد على (صادق) في القصر، كلَّ نهار، سيلٌ من الحسناوات اللاتي يخطبن ودَّه، ويُعرِبن عن إعجابهنَّ وكَلَفهنَّ به. حتى امرأة الحسود سعت في سبيل التقرُّب من صادق ما استطاعت، ثمَّ كادت له وللملِكة عند الملِك حين أحسَّت بما يتجاذبهما من عاطفة، وأحرقتها نيران الغيرة.

وتطالعنا المرأة مرةً أخرى في «المرأة المضروبة»؛ تلك المرأة المِصْريَّة (ميسوف) الجميلة، التي أنقذها (صادق) من يدَي حبيبها، الذي كان يضربها بدافع الغيرة أيضًا.(4)

 وتُطالعنا المرأة كذلك في بلاد العَرَب، في شخصيَّة (المونا)، أو (المُنَى)، تلك الأرملة الشابَّة التي كان القانون يفرض عليها أن تُحرَّق بعد موت زوجها، كما هي عادة العَرَب حينذاك، في زعم (فولتير).(5) وقد استطاع (صادق) أن يُغري الشابَّة بالحياة ويثنيها عن الغرور الذي كان سيدفع بها إلى النار. بل لقد أحبَّته ودعته إلى الزواج بها، لكنَّه كان مشغول القلب بالملِكة (أستارتيه). وقد أنقذت (المُنَى) صادقًا من براثن الكهنة، الذين سخطوا أشد السخط لِـما سمعوه من تحريضه النِّساء على الخروج على هذه العادة الشنيعة. بل استطاعت بذكائها أن تفضح أسرار الكهنة المستفيدين من تحريق النِّساء، وأن تُفسِد هذا القانون في بلاد العَرَب، وتزوَّجت أخيرًا (بسيتوك)، التاجر العَرَبيِّ الذي كان اشترى صادقًا من (مِصْر)، بعد أن حكَمَ عليه المِصريُّون بالرِّق، عقب موقفه الآنف ذكره مع المرأة المِصْريَّة (ميسوف).(6)

وهكذا، كان (فولتير) يردِّد، كغيره من قَبله ومن بَعده، ثقافة المَثَل الفرنسيَّ "فتِّشْ عن المرأة Cherchez la femme". وهو مَثَلٌ ينحدر من ثقافةٍ عالميَّةٍ قديمةٍ جِدًّا، تَنسِب كلَّ الخطايا إلى (حوَّاء). تعود إلى القِصَّة التوراتيَّة العتيقة حول حكاية (حوَّاء وآدم) في الفردوس، كما وردت في "العهد القديم"، وقبل ذلك في الأساطير السومريَّة.(7) ويظلُّ آدم- وَفق صورته في تلك الثقافة الذكوريَّة الظالمة- حمَلًا بريئًا، وغبيًّا في الوقت نفسه، تعبث به المرأة، إنْ في الأرض أو حتى في السماء!

ولحكايتها بقايا مثيرة نتطرَّق إليها في الحلقات الآتية من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

....................

(1) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 20- 21.

(2) م.ن، 31- 00.

(3) م.ن، 36.

(4) يُنظَر: 58- 00.

(5) هذه العادة البراهميَّة الهنديَّة لم تُعرَف في عادات العَرَب، وإنَّما عُرِف أنَّ بعض أجلافهم كانوا يئدون بناتهم خشيةَ الإملاق أو العار.

(6) يُنظَر: فولتير، 67- 80.

(7) يُنظَر: سِفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ وكريمر، صمويل نوح، (1980)، من ألواح سُومَر، ترجمة: طه باقر، مراجعة: أحمد فخري، (بغداد: مكتبة المثنَّى)، ، 242- 249.

 

دراسة في الأعمال الشعرية للشاعر حسين عبد اللطيف.. الفصل الثالث ـ المبحث (1)

مهاد نظري:

العدم أو المعدوم هما صفتان لا يتصف بهما من يجانب (التكون - التغيير) والانتقال بهما إلى عالم من مداليل الشعر.كما هو الحال في صفات (الأضداد)فلا يمكننا وضعهما جنبا إلى جنب في مساحة فضائية موحدة من الاحوال والأنسنة في قرائن الملفوظات الغير عاقلة.فالعدم ليس فيه بذور أو جدوى من أوجه الإمكان في مسار التصور والتكوين النواتي إطلاقا، لذا لا يمكننا إطلاق التسمية العدمية حول شواغل مدلول شعري، وإلا أصبحت القصيدة عبارة عن مجموعة من الغمائم الفارغة.فلابد إذاً من وجود (الممكن ـــ الإمكان ـــ الذات النواتية) فالقضية القائلة من قبل بعض النقاد بأن هناك حالات عدمية، فهذا بالأمر الممكن، ولكن لا يمكن لهذه الحالات اكتساب صبغة عدمية كلية على مجمل تفاصيل النص الشعري.فالممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد أو لا يوجد؟والمعدوم بدوره ممكنا أيضا ولكن في حدود مؤشرات موضوعية معدومة أيضا.إذن يمكننا القول حول بعض من نماذج شعر مجموعة(لم يعد يجدي النظر)كونها حالات شعرية جعلت تستدعي المعدوم في صفات من يحمل الإمكان، وهذا الأمر من جهة ما جائزا، لأن الفاعل المنفذ - الدوالي، موجودا في تمفصلات الممكن المتخيل، وإذا صار الأخذ بالممكن دون وجود عدمية الفاعل نفسه، فلابد لنا من التوغل في أسباب ذلك الفاعل ومن خلفه المعدوم في اللاجدوى من التكون والتفاعل في تحولات الإمكان الوصفي والقولي في خطاب الدال.

ــ الذات المؤولة وحوادث الممكنات العدمية:

بيد أن من البين من خلال الممكنات الاحوالية حالات الاستدعاء التلفظية في حدود حقيقية معقولة بالقياس إلى كون جوهر حقيقة المادة الذواتية، هي مسمى صوري ووسائطي لا توجد مقاديرها إلا في (الحدوث ــ الحادثة ـــ الزمن) وإذا كان وجود الذات ممكنا كحادثة مسبوقة بالأعراض والكيفيات، فلابد لها من التسليم بضرورة شرائط المصير.الشاعر حسين عبد اللطيف كما صادفنا الأمر المشار إليه تحديدا، هو من أبرز ممكناته شعرا حيث إحداث هذه الأوضاع من موضوعة (اللاجدوى ــ العدم ــ التيه) وصولا إلى جوهر المعنى الكامن في هوية قصيدته (أصرة) ضمن مختارات ديوانه موضع بحثنا:

بين الطريق والطريق

القدم

بين الغصن والشجرة

برعم

أو

ورقة

بين حياتي و ـــ النجف ـــ

خط مستقيم ./ص188

بإمكاننا ملاحظة الاتفاق الضمني والعلني بين عمومية الدوال، وما يترشح منها من خاصية ذاتية ملموسة في إطار حسية الذوبان في المعدوم من خلال دلالة العنونة المركزية الدالة ـ علائقيا ـ ب(أصرة ) ويبدو أن ما تصدرت به الدوال الأولى من النص، كوحدات تجمعها ملمزمات علاقة أفضائية على نحو ما من ملفوظ السياق.في هذا المعنى من مؤديات الدوال، تنحسر عيانية التلفظ بما يخولنا على معرفة أن المشار إليه عبر ضمير المتكلم، هو الشاعر نفسه، ذلك عندما أجاز لذاته العبور المستقيم الذي لا تحد منه العوائق والعلاقات بشكل ما، نحو موضع حتفه المشار إليه بـ (النجف) والمقصود بهذا الدال ليس المدينة ذاتها، وإنما حول وجود المقبرة فيها. إن القراءة المجملة للنص لا تعني لنا بعدا مخصصا حول الحديث عن الأثر النصي من ناحية إبداعية، بقدر ما تحملنا موجهات مبحث دراستنا حول وجود مستوى خاص من الخصوص حول ثيمة(العدم ـ المعدوم)وما جاء به النص موضع نموذجنا القرائي، خير دليل على أن الشاعر ينطلق نحو العدم من زاوية الاتفاق الممكن، إي من منطلق حدوث الأمر أو عدم حدوثه في أي مرحلة زمنية ما، مادام هو مسلما وجوده بالدلالة القاطعة كونه لا يفصله عن الموت أية حاجب ما، حتى وأن اختلفت الأسباب والمواقيت في ذلك الحدوث.

1- المدلول الشعري بين التزامن الممكن والتلائم الدلالي:

من الروابط البديهية في شعر حسين عبد اللطيف، أن تكون المحصلة الإنتاجية ــ النصية، على مستوى من المقايسة المتزامنة بين فاعلية التلفظ والبرهنة القرائية المخصوصة في العلاقة والشكل والحيز.وذلك تحديدا ما وجدنا لمثله في شواهد قصيدة (خطاب إزاء خطاب)والمقصود من وراء هذه العنونة، هو التحقق الامتثالي بين الأوضاع الدلالية:

يطلق البحارة:

لحى غلايينهم

دون أن يفطنوا

إلا أن الدخان ـ هو الآخر ـ

يطلق حكمته الأخيرة

حول المصير . / ص189

نحن هنا حيال ظاهرة شعرية تشتغل على المزامنة في التمثيل والمماثلة، كوظيفة موقعة في مسار المشابهة والمقابلة دلاليا: (يطلق البحارة ــ الدخان ــ المصير) وهذه الوقائع التلفظية ذاتية في المختزل والموجه والتحفيز.غير أنها أيضا تنطلق من ذات (جهات الموضوعة) ولكنها تتعارض من حيث الخاصية في المحكي.أن الكتابة في شكل هذا النص عملية إنتاجية نظرا لوضع المنتج الدوالي في وحدات مقابلة من الوصف والرؤية: ولكن يا ترى هل أن مجمل متعلقات الثيمة العدمية مختزلة في النص نفسه؟الجواب يكون بالتوكيد الممكن من كون شاغلية جمل (الدخان ــ هو الآخر ــ يطلق حكمته الأخيرة ــ حول المصير) إذاً الصفة الملوحة في غاية المحصول (الدخان ـ المصير) غالبا ما يشكل قيمة ممكنة نحو المصير العدمي، لذا فدلالة جملة (لحى غلايينهم)هي بحد ذاتها شكلا نحو تبخر الآمال والأوضاع المؤملة في رؤية البحارة، الأمر الذي جعل خطاب النص يقابل خطابا عدميا مصدره مجهولية المصير.

2 ــ تفكيك الجاذبية ومغامرة إبطاء الاختلاف:

إن في أغلب الأعم من تجارب قصائد ديوان (لم يعد يجدي النظر) ثمة اكتمالات (ميتا حداثوية) في ما يتعلق و مجرى مكونات الدال وشيفرته ووظيفته.وهذا الأمر بدوره أيضا ما ينسحب على أعمال الشاعر الأخرى وخاصة رائعته الكبرى (نار القطرب) التي من خلالها إكتملت تجربة حسين عبد اللطيف كشاعرا على حد تقديري النقدي.أردت أن أقول في هذا الفرع من مركز مبحثنا، إن الأكتمال البنائي (الشكلي ـ الموضوعي ـ الدلالي ) في مشغل قصيدة مجموعة (لم يعد يجدي النظر) كانت اعتمادا على المخيلة الفعالة التي من خلالها، بدا المنتج الدوالي في نص الشاعر، يحتل لذاته مراتب حضورية تتوغل بعيدا في سطوة الآفاق النصية .من خلال قراءتنا إلى قصيدة (إحالة) تعرفننا على موضوعة الإثبات وكينونة التجاوز والانخلاع من منطقة النمط الشعري السائد، لذا وجدنا عبر محاور الدوال ثمة متماهيات في الرؤية الأقرب إلى الفن السريالي، ولو أن الشاعر قد أشار عبر يافطة نصه ب (إحالة) ما يقصد به الاستدعاء في الأمر عينه وليس في شكله.إذ نقرأ هذه المقاطع من النص حتى تتبين لنا أوجه الصورة أكثر سعة وصدورا:

من بين ما يعنيه السلم:

الهرب من الجاذبية

لا مناص من الموضوع

إن لم تصدقوا...

اسألوا الجناح

عن القفص ./ص192

ربما إن التفصيلات في دوال النص، كانت تتطلب من الشاعر نفسه أن يكون أكثر تبحرا من مشاعية هذه المفردات الإخبارية.على أية حال، أقول أن حجم التماهي بين (السلم ـ الجناح ـ القفص)هي ليست بالإحالات تماما، بقدر ما تعنيه حالات العلامة السيميائية من مرمزات ذات أوجه متغايرة، ولكنها من ناحية ما بدت متوافقة في الحضور المعادل.الشاعر ومن خلفه الأنا المتخيلة تسعى إلى رفع القيد عن وجوده الآنوي، لذا فهو يرجح لنا في جملة(إن لم تصدقول..؟)فهو يواجه سطوة أغلال الواقع بمحاولة الاستئثار بذلك ـ الشاهد الغائب ـ في مزاياه ومسمياته، ليتوحد مع جدلية (حرية السلم )من قيود سلطة الأرضي، بما يعادل دليل المقاربة في جملة (أسألوا الجناح ؟)وهذان الموقعان رغم تفاوت المشبه والتشبيه بينهما، فللضرورة بينهما علاقة معادلة ومقارنة على حد ما.

ـ استدراج النص إلى غواية شعرية اللاجدوى:

أنني ميزت من خلال دراسة شعر حسين عبد اللطيف وأدركت بأن الكتابة لدى الشاعر نفسه بوصفها حادثة (هيرمنيوطيقية)يقوم بها زمن الدال عبر هواجس فاصلة بين الأوجه الذاتية ومؤشرات العلامات التي هي بحد ذاتها وقائع أحوالية ولكنها تصب في مجرى فعالية (التأويل ـ المؤول) إذ يرتبط المعنى في أحياز شواغل الدلالات في مرجحات غنية بالمضمر والمرمز وسيكولوجية المنضوي تحت المقاصد والأغراض الأكثر غورا في غواية (العدم ـ اللاجدوى) أو من خلال غائيات مرتبطة بمقادير تمتزج في مساحة تشكيلية متمحورة من بؤرة الأنا الشعرية عبر صوتها المتلفظ تحققا وحضورا متحولا.نقرأ ما حلت بمجال قصيدة (بنا حاجه) حيث الخلفية الصراعية المحتملة في كشوفات أغراض الذات الآنوية:

بنا حاجة

بنا حاجة إلى النوم

إلى نوم طويل ونسيان

إلى عزلة في الجبال وهرب

إلى هرب./ص 204

1 ـ فضاء اللاجدوى وعزلة توطين الحلم:

يعود ـ فضاء اللاجدوى ـ مجددا في مقترحاته الإظهارية في مستهل هذا الفرع المبحثي، لنواجه منه ذلك النموذج الشعري عبر جملة تفعيلات في مواضع ومنازع مرهونة بوعي اغترابي يسعى إلى توطين الماهية الحلمية في منظور الرؤية إلى ثنائية خاصة من(التداخل الذاتي ـ التخارج الذاتي)وعيا تاما يرتقي بدوال الممكن صعودا إلى الالتحام بالإمكاني المعادل، وذلك عبر مفتتح جمل النص (بنا حاجة ـ بنا حاجة إلى النوم ـ إلى نوم طويل ونسيان)وتضع المعادلة الابتدائية من المعلوم الإمكاني، ضوءا في الانتقال من فضاء الاستتار الأحدي في الذات المتلفظة (بنا حاجة) وصولا إلى مسار الدلالة في طبيعة مكونات الحاجة في ذاتها (بنا حاجة: إلى النوم ـ إلى نوم طويل ـ ونسيان ـ إلى عزلة ـ في الجبال ـ وهروب إلى هروب) وهنا تبتدى مقاصد المتن النصي خضوعا شبه تام إلى منظومة فعلية من التلاعب في استدراجات المشهد، ناهيك عن صوغ أحواله ضمن حدود الأداء الفعلي وبالجمع وبالمعطى الدوالي المتكرر في تفعيل دور لفظ (بنا حاجة) امتدادا نحو التغييرات والاستبدالات (النوم ـ النسيان ـ عزلة ـ جبال ـ هروب ـ هروب) إذ تتخلق وحدات الدال عبر مراحل تحول تدريجي، وتفتح لذاتها كشفا أنزوائيا مشيعا في مناخ النص وضوحا عاليا بالمسلمات الذاتية اللامجدية من التواصل النواتي عبر الزمن والمكان والذات التي تحيا في مقتضيات وجودها الداخلي بمعطيات خائبة خارجيا ومسلوبة من آهلية وجودها الحق:

أو

ترك العشب..

ينمو..

على الأثر./ص204

ولعل في هذه الوحدات ما يفسر لنا، مدى انسحاب الذات الشعرية عن محيطها الابتدائي الأولي، بيد إنها لا تعول بهذه النهاية حتى على جدوى أن ينمو العشب بصورته الطبيعية والفطرية، وأنما من خلال فعل الأثر المخلوع عن الذات في جملة موزعة ما بين اللاجدوى والعدم الأقصائي إلى أقصى غاية من الحدود الصفرية.

2ـ تصادفية الأفعال ودينامية اللحظة المفارقة:

يشتغل المنطق الشعري في معادلات الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف على النحو الذي تبدو من خلاله معالم الأحوال والتحولات القصدية والغرضية والغيرية، وكأنها خاضعة في سياقات مكتفية بالاستفهام والاستنكار والرفض الوجودي، مما جعل أمر تشكيلات بنياته الدواليةفي مجموعته الشعرية (لم يعد يجدي النظر)موضع مباحثنا، وكأنها أطروحة صورية في حالات اصطياد (الإحالة ـ المفارقة ـ الأضداد ـ اللامتشابه في التشابه) أي أنها كما لو كانت جملة الأحوال اللامتكاملة في شرائح الأفعال والأوضاع التصويرية، أو إنها من جهة ما بدت في ذاتها هبوطا صاعقا بالمختزلات العكسية للزمن وبيان الموضوعة.نقرأ هذه النماذج المقطعية من ذات النص المصنف بهوية الهيئات الرقمية:

لم يعد يتناسل إلا السر

لم يعد يخضر إلا الخريف

لم يعد يستغلق إلا البرهان

لم يعد يتنمر إلا الذهب

المصادفات

وحدها

ما يترتب الآن!./ص205

المراد هنا من خلال أفعال الجمل الشعرية، هو إظهار إن الفعل الأحوالي، إذا أريد منه أن يكون شيئا آخرا، فهو لا يخلو من أحد اعتبارين: أما أن يكون بالفعل شيئا آخرا، أو بعد لم يصير شيئا آخرا، وبالاعتبار الأول يسمى بالفعل الجازم بوصفه تشكلا من تشكلات التفارق، وبالثاني يسمى التلائم في حدود النسبة النقيضة، أي أن يكون لنقيض المحمول بالجملة ما هو مصدق باليقين المفارق، أي إن الرؤية الشعرية بمثل هكذا مقامات وأحوال، تشكل المعرفة بوجود الامتناع، حفظا للمعنى المحمول إمكانا أو نقيضا متماثلا.الشاعر قد أختار هذه الحركية المتشكلة بالإمكان الجازم، حتى يتسنى له ترجيح الواقعة الكونية إلى محض تراتبية تصادفية ليس إلا.

ـ تعلق القراءة:

حاولنا في مبحث دراسة كتابنا في هذا الصدد من الاستدلال والتحويل والتأويل، الكشف عن تضمينات الدالات التي تؤلف بدورها أهمية النص الشعري في عوالم الفذ الكبير حسين عبد اللطيف، وإذا كنا قد سلكنا في مبحثنا هذا جملة دلالات تختص بـ(الممكن المعدوم لا يعد ممكنا بالإمكان؟)فذلك لأن آليات وأحوال ومقاصد قصيدة هذه المجموعة للشاعر، أكثر إيغالا في الأواصر(الميتا شعرية) نظرا لأن محفزات المخيلة لدى الشاعر راحت تصل بصفة الممكن العدمي إلى ملامح جعلت تسعى إلى خلق من المعدم دالا إمكانيا ذات موجهات مدلولية دالة تمثلا وإنجازا.ولكننا عندما قرأنا بعض من نماذج هذه المجموعة، لاحظنا العلاقة القصدية بالمعدوم الممكن، حيث من الصعوبة الإيحاء به كإمكانية محسوسة بالإيهام الإمكاني، ذلك لأن الدلالات الشعرية بوصلتها الاستعارة والمجاز والكناية والتورية والإحالة والتدوير، لا أن تكون مرسلا بالقيم العدمية عبر مداليل زوالية ذاتية مرهونة بالإمكان العدمي الذي لا يجوز الأخذ به كقيمة علائقية موضوعية شعرية خصبة.ولكننا بإمكاننا القول في الوقت نفسه إن بعض من نماذج شعرية المجموعة، قد سعت من جهة ما إلى توطين الذات العدمية في حدود حلمية وضنية وتفارقية فنية، إذ بدت الذات الشاعرة من خلالها تطرح العلامات والرموز والأسئلة في أتون أنساق موفقة من علاقات القرائن والبدائل المتواترة في المعنى والصورة والدلالة الضمنية الأكثر بروزا وتشخيصا في الكشف عن مأدبة الأضداد ومكابدة الواقع المعطى في قشور حياة الشاعر الانطفائية من كل رونق المقدمات الحياتية الهانئة والمبهجة، لهذا الأمر وجدنا أغلب قصائد أعمال الشاعر، تتصف باللوعة الفقدانية والحسية بالمعدوم من كل زوايا حياة الشاعر الضيقة الخناق والضاجة بأسئلة الأعتراضات والشجب والاستنكارات، فيما يبقى التعويض عنها بالمزيد من الأصوات والبنيات الشعرية القادمة من قعور ذاتية تفترض في خطابها المفردة العدمية، وتلحقها بقرائن من الذوبان في فضاءات من اللاجدوى والقنوط والمفارقة الفنية الدالة.

***

حيدر عبد الرضا

 المغزى الدلالي الكامن وراء عنوان المجموعة القصصية «من وجدَ نعل غاندي» للقاص حسين كامل، لا نجده في قصة تحمل هذا العنوان ضمن المجموعة التي صدرت مؤخراً عن دار (بغدادي) منتصف عام 2022، العنوان يحيلنا إلى حادث منسوب الى الزعيم الهندي المهاتما غاندي، ربما تبدو قصة الحادث غير واقعية، إنما نسجتها المخيلة الشعبية لتأكيد زهد غاندي بممتلكاته الشخصية، تروى القصة عن فردة حذاء فقدها غاندي، بعد أن كان مسرعاً فأراد اللحاق بالقطار، وأثناء ذلك رمى الفردة الثانية بعد أن استقل القطار، فتعجب أصدقاؤه عن مغزى ذلك، فقال: أحببت للفقير الذي يجد الحذاء أن يجد فردتين يستطيع الانتفاع بهما.

ثمة أسئلة يضعنا القاص في مواجهتها تبدأ في البحث عن معنى الفقدان، والخسارات، ومكمن السعادة والتضحية، كيف لنا ان نبتكر الفرح للآخر، تلك عناوين تفصح عنها أغلب قصص المجموعة، وإن جاءت بمسميات أخرى، لكنها تعبر عن رؤية فكرية وموقف شمولي من قضايا عدّة، اختزلها القاص في هذا العنوان.

إن تأمل المصير الإنساني، ومراجعة قضايا الموت والعبث واللامعقول وسواها، ما يشير الى تحقيق الاستثارة الذهنية والنفسية المتأتية من الإحساس بالعالم الذي يعيشه القاص، موحياً اليه بالمعاني والدلالات الخفية لمفردات لغته في وصف مشاهد الموت والعذاب وهي تحمل أكثر من معنى، بحكم اختصاصه المهني في الوسط الطبي الذي يشهد فيه عشرات الحالات من الألم اليومي، (قصة: أيقونة زرقاء، وقصة: استراتيجية الجراثيم) فضلاً عن حالة اليتم التي لازمته مذ كان صبياً، لعل هذا الحزن يعبر عنه بالعبارة التي تصدرت المجموعة (إلى أمي التي ماتت بالتدريج، وهي تمحو الحنين من حياتي). حتى كأنها ما تزال الى جانبه، وأن صوتها إذ يرنّ بخاطره، يلقي إليها يديه في صمت، يحس بأنها تستفيق لديه في لهف تملأ وحدته.

يعتمد القاص في تتبعه لأحلام شخصياته على لغة الوصف الموحية، واستخدام ظلال الصور وألوانها، ما جعل من دلالات الحدث القصصي الرمزية أشد وضوحاً من دلالالتها المباشرة. في قصة (الفأر الذي يأكل الكلمات) تحتل الفئران بيته تقرأ الكتب وتقرضها، الفئران تخلع الحروف من الورق، وتأكل اللغة، ليس كل لغة بل اللغة التي تذكر في نهايات الكتب. وقصة (بذور مصرية في بطن عراقية) تحكي عن امرأة تبتكر طريقة في اكتشاف المرأة الحامل، أن تتبول على بذور الحنطة والشعير، فإن نبتت فذا مؤشر للحمل. وفي (أناس المزاريب) مخلوق ينبش مزاريب الناس، كنبّاش في استخراج مخاط الحياة، قصة (ظلمة أديسون) مشحونة بالغرائبية واللامعقول، راضي بائع الكبّة يستيقظ بعد نوم عميق ليجد نفسه رئيساً للوزراء، يطرح أمام وزرائه أزمات نومه المزعجة: الوسادة عالية، أحلامه مليئة بالكوابيس، يدعوهم للتخلص من الليل، يصرخ ليقبضوا على أديسون مكتشف الكهرباء، تبرع أحد حراسه أن ينام بديلاً عنه وهو من يحلم، بينما الحراس يلتهمون ما تبقى من كبّة، ظل السيد راضي نائماً برأس غيره. هذا اللون من التعبير في الفن القصصي العراقي يبدو غير بعيد في تاريخه، إذ شهد العقد السادس من القرن الماضي الانطلاقة الأوسع والأشد إيغالاً وتوسعاً في اعتماد الحلم، أو ما يعرف بالأسلوب السيريالي في السرد، الذي تكاد تكون معالمه واضحة في أغلب قصص حسين كامل، تسوقه إليه ميوله الخاصة، وإحساسه بواقعه وتجربته الحياتية، فهو مطبوع بأسلوبها، لا مؤدلجاً في اتجاهها.

إن قصصا مثل (لوحة لرؤوس كل الحيوانات) تصور عالماً عجائبياً صرفاً: هبطت عليّ حمامة صغيرة، نقرتني، حملت جسدي، وقعت منها. في قصة (أطراف): في الخنادق البعيدة عند الحدود العراقية، يبحث عن ساقه الأولى، عاد بسيارة حمل كبيرة، محملة بالسيقان المنسية والمتضررة، وفي قصة (دار): تحول أبي إثر تعب كثير الى (راء) معكوفة بعد أن كان (ألفاً) واقفة!! وقصة (سارق الأنف) تتحدث عن حشرة عنود ملونة وقفت على أنف امرء، يحاول طردها، أو القبض عليها لكنها سرقت أنفه واختفت في حفرة وجد فيها عشرات الأنوف. هذا الاتجاه يبثه القاص في طيف واسع من قصصه، في استخدامه تقنيات الحلم، والتمازج بين الحلم والواقع أحياناً، بين عالم الأحياء والأموات، وتبادل الأدوار في عرض المشهد القصصي، سواء عن طريق الحوار أم السرد، ثم تتابع الصور، وتداخل الأحداث، والأصوات، وتغريب الواقع ليجعله ماضياً، وبعض صوره تأتي حادة ذات وقع صادم.

قصة (نبؤة الغراف) تنمّ عن موهبة طيبة، وتمكّن فني ضمن لها القاص بناء عالم قصصي نامٍ بعفوية وانسيابية، القصة عن صابر الذي يهدد أمه بالهرب منها، بعد دفع أجور حليب رضاعتها، أو تعويضها بأكياس حليب (المدهش) فغاب عن البيت، وجدوه غريقاً في نهر الغراف، كانت الأم ترقب الضفاف تسمع ضحكات الأسماك التي ترقص تحت سطح الماء، ظهرت جثة صابر، هشّة مكفنة بالعشب، حين كشفت الأم ثديها الأيسر أمام النهر لتعرف أجور حليبها! هذه القصة في اعتقادي من أجمل قصص المجموعة، بلغتها المكثفة، ووسائلها التعبيرية تقدم لنا نموذجاً من القصص ذات المستوى الفني المعبر عن أزمة الإنسان وصراعه ضد كل ما يشوه إنسانيته، فهذا الإحساس الطاغي بالموت يبدو هاجساً يتعدى المظاهر الخارجية، يهيمن على ذات القاص إلى حيث المشاعر المأزومة بمعنى فقدان الأم، هنا يبدو القاص بحسه المرهف وشفافيته، يرتقي عن المستوى المباشر في السرد إلى حيث تصبح القصة مثل نور اليقين المنسل من ظلمات النفس وعتمتها السابقة. ومما يعمق الإحساس بسلبية ذلك الجو الذي تعيشه الشخصيات القصصية، لجوء القاص إلى تصوير مشاعر الضيق الدائم والإحساس بطغيان الخوف من المستقبل،

ما تزال أمام القاص فرصة أكبر لتطوير أدواته السردية، (اللغوية والتقنية) ولكي تنضج تجربته في الكتابة لا بد من مراعاة للسمات الجمالية والفكرية في النص، دون الاستغراق في الغرائبية في انثيالاتها وتداعياتها، والتنوع في أساليب الكتابة.

حسين كامل يمتلك من الصدق والمخيلة والشجاعة، واللغة المفعمة بالايماء، الغنية بالإيحاء الدال، ما يؤهله لأن يكون قاصاً واعداً متميزاً بين زملائه كتاب القصة الشباب.َ

***

جمال العتّابي

صدرت الطّبعة الأولى لهذه الرِّواية في عام 2003، والنُّسخة التي بين يدي هي الطّبعة الثّانية 2006 الصّادرة عن دار الاختلاف – الجزائر. في 151 صفحة من الحجم المتوسط.

"أنتَ رضعتَ من ثدي الذِّئبة، لذلك تستحق أن تتوسَّط التَّوأمين رُومُلُو ورِيمُو في حضن روما يا أَمِدِيُو!". ص 109.

تدور أحداث الرِّواية حول جريمة قتل في مصعد عمارة في ساحة فِيتُورْيُو في روما، القتيل هو الشّاب الإيطالي "لورانزو مانفريدي" المدعو "الغْلادْياتور"، الذي كان دائم الاعتداء على المهاجرين وإهانتهم. والمُتّهم المُشتبه به في هذه الجريمة هو المدعو "أَمِدِيُو"، والذي يكاد يُجمِع على براءته من ارتكاب هذه الجريمة كُلّ من عرفه من سكان العمارة، كانوا يعتقدون أنه إيطالي من الجنوب لإتقانه الحديث باللُّغة الإيطالية أفضل من الكثير من الإيطاليين أنفسهم. حيثيات التَّحقيق في هذه الجريمة تُظهِر الواقع العنصري وصراع الهويات الذي يعيشه المهاجرين - خاصة غير النِّظاميين - في الغرب وفي هذا النَّصّ السَّردي إيطاليا مثالٌ عليه.

في هذه السَّردية الشَّيّقة تتماس حقيقة شخصيات مختلفة الانتماءات والهويات والثَّقافات والمستويات الاجتماعية، يُقابلها "عواءات" الشَّخصية المحورية في الرِّواية "أَمِدِيُو":

* الشَّخصيات والعواءات:

- بارْوِيز منصور صمدي؛ لاجيء سياسي إيراني من شيراز. يعمل طبَّاخاً ويكره البيتزا كُرهاً لا نظير له. هو صديق أَمِدِيُو. يقول: "تعرفتُ عليه في إحدى المدارس المجانية لتعليم الإيطالية للأجانب في ساحة فِيتُورْيُو، كان ذلك عقب وصولي إلى روما بقليل. كان أَمِدِيُو متميزاً عن الجميع بمداومته على دروس سْتِيفَانْيا دون أن يُفوّت درساً واحداً... بعد شهور قليلة قرر أَمِدِيُو الانتقال للعيش مع سْتِيفَانْيا في شقتها المطلة على ساحة فِيتُورْيُو... كنا نلتقي يومياً تقريباً في بار سانْدْرُو لتناول الكَابُوتْشِينُو والشّاي." ص 15. " أَمِدِيُو كالمرفأ الجميل، نُبحر منه لنعود إليه دائماً. عندما أُطرد من العمل أجد نفسي كالغريق،وحده أَمِدِيُو يمد يد المساعدة." ص 18. "هذا مستحيل أَمِدِيُو قاتل! لن أُصدق أبداً ما تقولون... أنا متأكد من براءته. ما علاقة أَمِدِيُو بذلك المنحرف المقتول الذي يبول في المصعد؟ ". ص 22. "أنصحكم بالبحث عن الحقيقة. أَمِدِيُو ليس القاتل، لا يُمكن أن تكون له علاقة بهذه الجريمة. أَمِدِيُو بريء من دم الغْلادْياتُور. أنا حزين لغيابه، لا أعرف ماذا حدث له بالتّحديد لكني متأكد من أمر واحد: من الآن فصاعداً لن ينتبه أحد عندما أبكي في ساحة سانْتا مارِيا ماجُورِي... روما دون أَمِدِيُو لا تساوي شيئاً. أَمِدِيُو هو الملح الذي يُعطي لطعامنا المذاق الطّيب." ص 25.

- عواء أَمِدِيُو...

- بِنِدِتا إِسْبُوزِيتُو؛ نابوليتانية من نابولي، بوابة العِمارة التي اُرتكبت جريمة القتل في مصعدها، "ماذا تقولون؟! السِنْيُور أَمِدِيُو أجنبي! لا أُصدِّق أنّه ليس إيطالياً." ص 34. "حسناً ، إذا كان السِنْيُورأَمِدِيُو أجنبياً كما تدّعون، فمن هو الإيطالي حقّاً؟ بدأتُ أشك في الجميع حتّى في نفسي... إنه يتكلّم الإيطالية خيراً من ابني جِنَارُو بل أحسن من الأستاذ في جامعة روما أنْطُونْيُو مَارِينِي" ص 35. "يجبُ أن تعرفوا أن السِينْيُور أَمِدِيُو هو الوحيد الّذي يمتنع عن استعمال المصعد في هذه العِمارة" ص 36. "جاء للإقامة مع سْتِيفَانْيا. كم كنتُ سعيدةً بهذا السّاكن الجديد. هذه الحياة ليستْ عادلة على الإطلاق. قولوا لي: هل تستحق سْتِيفَانْيا مسّارو شاباً وسيماً مثل السِينْيُور أَمِدِيُو؟! هذه الشّيطانة تكرهني كأنني قتلتُ والديها، أنا أيضاً أكرهها، أتحاشى قدر الاستطاعة التّحدُّث معها." ص 37... "لا! السِينْيُور أَمِدِيُو لا دخل له في هذه الجريمة البشعة. أنا لا أعرف مَن قتل لُورَانْزُو مَانْفرِيدي؟ وجدته في المصعد مقتولاً يسبح في دمه. لم يكن "الغْلادْياتور" شخصاً محبوباً في ساحة فِيتُورْيو، أنا متأكدة أن سبب انحرافه هو البطالة. ما أكثر الشُّبّان الإيطاليين الذين لا يجدون عملاً شريفاً فهم مجبرون على السَّرِقة والكسب غير المشروع. يجب طرد العُمال المهاجرين وتعويضهم بأبنائنا المساكين." ص 38. "أنا متأكدة أن قاتل الشَّاب لُورَانْزُو مَانْفرِيدي هو واحد من المهاجرين." ص 40.

- عواء أَمِدِيُو...

- إِقْبَال أمير الله؛ من بانغلاديش، بائع في محل للمواد الغذائية. "السِّينْيُور أَمِدِيُو من الإيطاليين القلائل الذين يأتون عندي لشراء بعض المواد الغذائية. إنه زبون مثالي يدفع ثمن السِّلع نقداً ولم أسجِّل أبداً اسمه في دفتر المديونين... السِّينْيُور أَمِدِيُو إيطالي متميّز؛ إنه ليس فاشياً أي عنصرياً يكره الأجانب مثل الغْلادْياتور الذي كان يتعدّى على المُهاجرين ويُهينهم بِشتّى الوسائل. لقد نال هذا الحقير جزاءه. البوابة بِنِدِتا عنصرية كذلك، إنها تكرهني بلا سبب ولا تردّ على تحيتي بل تتعمّد إهانتي.." ص 49. "السِّينْيُور أَمِدِيُو الإيطالي الوحيد الذي يمتنع عن إحراجي بالأسئلة المتعلِّقة بالحجاب وحقوق المرأة والمُحرمات." ص 50. "السِّينْيُور أَمِدِيُو مُجرم فار من العدالة؟ لا أستطيع تصديق هذه التُّهمة. الشَّيء الذي يُحيّرني هو الخبر الذي تناقلته نشرات الأخبار: السِّينْيُور أَمِدِيُو ليس إيطالياً وإنما مهاجر." ص 51. "أنا لا أعرف أين هو الآن لكني متأكد من أمر واحد: السِّينْيُور أَمِدِيُو ليس أجنبياً ومجرماً! أنا واثق من براءته من دم الشّاب الإيطالي الذي لا يبتسم أبداً." ص 54.

- عواء أَمِدِيُو...

- إِلِزَابِتَا فَابْيانِي؛ مواطنة إيطالية من روما مُقيمة في العمارة. "إِلِزَابِتَا فَابْيانِي مُدمنة على شيئين إثنين: حُبّ الكلاب والتّعلُّق بالأفلام البوليسية." ص 69. "السِّينْيُور أَمِدِيُو هو الشّخص الوحيد المتسامح في هذه العِمارة. لم يتضايق من فَالِنْتِينُو عندما كان ينبح بل كان يُعامله بعطف وحنان." ص 61. "من قتل المسكين لُورَانْزُو مَانْفرِيدي؟ أنا لا أعرف، اسألوا الشُّرطة. أنا أعرف تمام المعرفة القتيل المأسوف عليه، كان صديقاً لابني ألبرْتو أثناء الطُّفولة والمُراهقة، كانا لا يفترقان كأنهما أخوين. جاء لُورَانْزُو للعيش مع جدّته العجوز بعد طلاق والديه اللذين خاضا صراعات قضائية محمومة من أجل اقتسام الميراث والحصول على حضانة الولد. لم تكن الجدّة قادرة على تربية حفيدها مما دفع لُورَانْزُو إلى التّخلِّي عن الدِّراسة مبكراً ومخالطة بعض المنحرفين. لا شك أنه ذهب ضحية تصفية حسابات بين عصابات المخدّرات." 66.

- عواء أَمِدِيُو...

- ماريا كريستينا غُونْزالِيز؛ مهاجرة دون وثائق قانونية من البيرو، تعمل في شقة السِّنْيورة رُوزَا ذات الثَّمانين عاماً ومصابة بالشَّلل. "السِّنْيُور أَمِدِيُو هو الوحيد الذي يعطف عليَّ ويقف إلى جانبي في أوقات المحن. أنا شقية وغبية لا أنكر ذلك، تدعو حالتي إلى الحيرة والتّعجب: ... أنا أبكي كثيراً من شدّةِ الخوف: الخوف من ضياع العمل، الخوف من الفقر، الخوف من المستقبل، الخوف من الشّرطة، الخوف من كلِّ شيء." ص 73. "أريد أن أشعر بالاطمئنان لكن المصيبة أنَّني بلا وثائق، إنَّني كالقارب الصَّغير الذي تحطم شراعه وصار تحت رحمة الصُّخور والأمواج." ص 76. "السِنْيُور أَمِدِيُو قاتل! هذا شيءٌ لا يقبله العقل. أنا متأكدة من براءته. ثُم كيف يتهمونه بأنه مُهاجر؟ هل الهجرة جريمة؟ أنا لا أفهم لماذا يكرهون المُهاجرين بهذا الشَّكل." ص 78.

- عواء أَمِدِيُو...

- أَنْطُونْيُو مَارِينِي؛ أستاذ جامعي من ميلانو يُدرس في جامعة روما، يُقيم في نفس العِمارة التي وقعت فيها جريمة المصعد. "أنا من ميلانو ولست متعوِّداً على هذه الفوضى... لم يكن ترك ميلانو والقدوم إلى روما قراراً صائباً... قبلت بمنصب معيد في معهد التّاريخ بجامعة روما." ص 84. وهو يجسد صورة النّظرة الدُّونية التي ينظر بها أهل الشّمال إلى أهل الجنوب في إيطاليا: "هكذا أهل الشّمال يعملون ويُنتجون ويدفعون الضّرائب وأهل الجنوب يستغلون هذه الأموال في إنشاء العصابات الإجرامية مثل المافيا في صقلية ولاكامورَّا في نابوليس ولانْدراغِتا في كلابْرِيا وعصابات الاختطاف في سَرْدِينْيا. المصيبة أن الشّمال عملاق اقتصادي وقزم سياسي! هذه هي الحقيقة المُرّة." ص 85. "أَمِدِيُو مُهاجر! بالنِّسبة لي لا فرق بين المهاجرين وأهل الجنوب. لا أفهم علاقة أَمِدِيُو بالجنوب... سمعته مرّة يقول: أنا من جنوب الجنوب!" ص 86. "هناك فضيحة لا يمكن السُّكوت عنها: هل تعرفون أن سكان عمارتنا يبولون في المصعد! إنه أمر مؤسف حقّاً. لم نكتشف الفاعل بعد، الأمر الأكيد أم أَمِدِيُو بريء لأنه لا يستعمل المصعد ويُفضِّل السَّلالم." ص 87. "يجبُ أن أعترف أن امتناع أَمِدِيُو عن استعمال المصعد والأوتوبيس والمترو وتعلُّقه بالمشي جعلني أشك في انتمائه إلى تيار سياسي يفوق النّازية والفاشية والستالينية خطورة ألا وهو تيار "الخضر"." ص 89. "لا تسألوني عن القاتل، أنا أستاذ جامعي ولست المفتش كُولُومْبُو !بالمُناسبة هل تعرفون كيف كان يُلقّب الشّاب المقتول؟ "الغْلَادْياتور"! هذا دليل كاف على تخلف أهل روما وتعلقهم المرضي بالماضي. من المستحيل أن تجد في ميلانو من يُطلق على نفسه هذه الشُّهرة! هذا يحدث في الجنوب فقط." ص 90.

- عواء أَمِدِيُو...

- يُوهان فان مارْتَن؛ شاب هولندي يقيم في نفس العمارة التي وقع بمصعدها جريمة القتل. مولع بالسِّينما الإيطالية ويرغب في تصوير فيلم واقعي عن سكان العمارة: يقول "جئتُ إلى روما لدراسة السِّينما وتحقيق الحلم الجميل الذي راودني منذ الصِّغر. أنا مُعجبٌ بالسِّينما الإيطالية كثيراً، ولا أخفي تعلقي بالواقعية الجديدة التي أحدثتْ قفزة نوعية في صناعة السِّينما وطرحتْ نفسها بديلاً لسينما هوليود. أُحِبُّ أفلام روسِليني ودي سيكا. "روما مدينة مفتوحة" لروبِرْتُو روسِليني و"سارق الدَّراجات" لفيتوريو دي سيكا هُما مِن أحسن الأفلام في تاريخ السِّينما، وقد صوِّرتْ بعض مشاهد الفيلم الثَّاني في ساحة فِيتُورْيو. هذا هو السّبب الذي دفعني إلى اكتراء غرفة في العمارة التي يقيم فيها أَمِدِيُو في ساحة فِيتُورْيو." ص 96. "أَمِدِيُو أجنبي! هل يُعقل أن يكون الشّخص الذي يُمثِّل إيطاليا العظيمة أجنبياً؟ إنه الوحيد الذي يُجيب على أسئلتي المتعلِّقة باللغة الإيطالية والسِّياسة والمافيا والطّبخ والسِّينما، إلخ. ثُمّ لا يمكن أن أفهم اتهامه الغريب بمقتل الغْلادْياتُور. أنا أعرف هذا الأخير معرفة جيدة لأنني كُنتُ أتقاسم معه شُقته. كان يعشق الكلاب كثيراً، يكفي أن تُلقي نظرة على أرجاء بيته لِتشاهد مئات الصُّور الخاصّة بالكلاب. إنّ مَن يُحِبّ الكلاب بهذا الشّكل لا يستحق ميتة الأشرار بطعنة سكين قاتلة. أعرف أنه لم يكن محبوباً من طرف سكان العمارة بسبب تصرفاته الغريبة.كان يقول لي دوماً: "أنا كلب متشرِّد لا سيد لي!"." ص 98. "هل كانت هناك عداوة مسبقة بينه وبين أَمِدِيُو؟ لا أملك الجواب. أنا متأكد من شيء واحد: العثور على القتيل في المصعد يحمل دلالة معينة. أغلب المشاكل بين سكان العمارة سببها المصعد ... المصعد هو أساس المشكلة، ليس ثمَّة إجماع بين سكان العمارة لاستعمال المصعد... هذا المصعد سفينة يقودها أكثر من قُبطان!". ص 99.

- عواء أَمِدِيُو...

- سانْدْرُو دَنْدِينِي؛ صاحب بار دَنْدِينِي في الأربعين من العُمر: "أنا صاحب بار دَنْدِينِي لمقابل لسوق فِيتُورْيُو، أغلبية زبائني أجانب، أنا أعرفهم جيداً،... ليس من السّهل أقناعي أن صديقي أمِدْ (Amed) ليس إيطالياً. أَمِدْ (Amed) هو أَمِدِيُو (Amedo) من عادتنا في روما حذف الحروف الأولى أو الوسطى أو الأخيرة من الأسماء، أنا مثلاً اسمي سانْدْرو لكن اسمي الحقيقي ألِسانْدْرو." ص 105. "أَمِدِيُو بريء من هذه الجريمة البشعة. أَمِدِيُو طيب وكريم، فهو طيب كالخبز كما نقول نحن في روما". ص 108. "أجدُ صعوبة في تصديق ما تقولون! أَمِدِيُو مهاجر مثل بارْوِيز الإيراني وإقْبال البنغالي والخادمة السّمينة ماريا كريستينا وبائع السّمك عَبَدُو والهولندي الأشقر..." ص 108. "أنتم لا تعرفون أَمِدِيُو كما أعرفه أنا، إنه يعرف تاريخ روما وشوارعها أكثر مني بل أكثر من ريكاردو نارْدِي الذي يفتخر بأصول عائلته التي تعود إلى العهد الرُّوماني. ريكاردو سائق تاكسي... ذات مرّة قال له ريكاردو ضَاحِكاً: "أنتَ تعرف روما كما يعرف الرَّجُل ثدي زوجته، بل أنتَ رضعتَ من ثدي الذِّئبة، لذلك تستحق أن تتوسَّط التَّوأمين رُومُلُو ورِيمُو في حضن روما يا أَمِدِيُو!". ص 109. "نعم. لا أنكر أنني تشاجرتُ مع الغْلادْياتُور كما تشاجر معه كُلّ سكان العمارة. كان يستفز الجميع بتصرفاته السّيئة... أنا أقول وأكرّر: لا دخل لأَمِدِيُو بهذه الجريمة. أنا مقتنع تماماً ببراءته ومستعد لأضع يدي على الجمر." ص 112.

- عواء أَمِدِيُو...

- سْتِيفانْيا مسّارو؛ تعمل في وكالة سياحية في روما، ومعلمة للغة الإيطالية، أحبّتْ أَمِدِيُو وأحبّها: "مَن هو أَمِدِيُو الحقيقي؟ يا له من سؤال غريب. لا يوجد أَمِدِيُو حقيقي وأَمِدِيُو مزيّف. هناك أَمِدِيُو واحد فقط: أَمِدِيُو المُدهش الذي عشقني وعشقته. قرأتُ ذات يومٍ تعريفاً قصيراً جِداً للحُبِّ: الحُبّ تضحيّة. لقد ضحى أَمِدِيُو بكُلِّ شيءٍ مِن أجلي، إذ تنازل عن وطنه ولُغته وثقافته واسمه وذاكرته. أراد أَمِدِيُو إسعادي بأيِّ ثمن. تعلّم الإيطالية مِن أجلي وأحبّ الطّبخ الإيطالي مِن أجلي وسمّى نفسه أَمِدِيُو مِن أجلي، باختصار صار إيطالياً لإسعادي." ص 117. "بعد ثلاثة أشهر فقط من تعارفنا قررنا الزّواج، لماذا ننتظر؟ هو يُحِبُّني وأنا أُحِبُّه. قبل الزّواج طلب مِنِّي أَمِدِيُو أن لا أسأله عن ماضيه، لا أزال أذكر كلماته: "حبيبتي، ذاكرتي كالمصعد المُعطّل، بل الماضي كالبركان النّائم، ساعديني على تجنّب إيقاظه الفظيع وحممه الجهنمية"... الآن فقط أفتح عيني على الحقيقة التّالية: لا أعرف من يكون أَمِدِيُو! من هو أَمِدِيُو قبل الاستقرار في روما؟ لماذا غادر بلده الأصلي؟ ماذا يُخفي في ذاكرته؟ ما سِرّ الكوابيس التي تلاحقه؟ هناك غموض يلف حياته السّابقة ربما هذا هو سِرّ عشقي له." ص 120. "لم يكن أَمِدِيُو يُحِبّ الماضي. في إحدى المرات قال لي إن الماضي كالرِّمال المتحركة، إنه فخ لا فكاك منه. أَمِدِيُو مدهش كالصّحراء، من الصّعب الإلمام بأسرار الصّحراء." ص 121. "سمعته مراراً يتمتم أثناء النّوم بكلماتٍ غير مفهومة، في إحدى المرات استيقظ من نومه مفزوعاً وهو يُردِّد: بَجة! بَجة! بَجة! ... في اليوم التّالي لم أقدر على كبت فضولي فسألتُ أَمِدِيُو عن مدلول كلمة "بجة" لكنه لم يرد ونظر إليّ بعتاب كأنه يُريد أن يُذكّرني بالشّرطِ الذي اتفقنا عليه قبل الزّواج: الماضي كالبركان، حذار من رفع الغطاء عن الفوهة!" ص 122. "أنا أقول لا علاقة بين مقتل لُورَانْزو واختفاء أَمِدِيُو. أنا متأكدة من أن أَمِدِيُو بريء من جريمة القتل. لا يوجد دافع واحد للإقدام على هذا الفعل الشّنيع. لم يكن "الغْلادْياتور" شخصاً محبوباً بين سكان العمارة، هذا معروف. لقد أساء للجميع دون أن يطلب العفو من أحد. ليس من العدل أن نُسيء إلى أَمِدِيُو بهذا الشّكل. اسألوا سكان ساحة فِتُورْيو عن أَمِدِيُو، سترون كم كان محبوباً من طرف الجميع. لم يتأخر عن مساعدة المحتاج دون أن ينتظر أجراً من أحد." ص 123. "لا أعرف أين هو الآن، أخشى أن يكون قد أصابه مكروه. لا أزال أبحث عنه في كُلِّ مكان، أتمنى أن يكون بخير. هناك علامات استفهام كثيرة تُحيط باختفاء أَمِدِيُو واتهامه بجريمة قتل بشعة. أنا متفائلة ومقتنعة ببراءته. سأُدافع عنه دون هوادة." ص 124.

- عواء أَمِدِيُو...

- عبد الله بن قدْور؛ "لماذا سمّى نفسه أَمِدِيُو؟ هذا هو السُّؤال الذي يُحيّرني. اسمه الحقيقي أحمد وهو اسم عظيم لأنه اسم الرّسول وقد ذكر في القرآن والإنجيل. بصراحة أنا لا أحترم كُلّ من يُغيّر اسمه أو يتنكّر لأصله." ص 129. "أحمد هو ابن حومتي، أعرفه جيداً كما أعرف كُلّ أفراد عائلته... كان أحمد شخصاً محبوباً ومحترماً في الحومة. لا أذكر أنه تخاصم مع أحد رغم أن الاشتباكات بين أولاد الحومة وأولاد الحومات المجاورة عادة منتشرة بكثرة في أحياء الجزائر العاصمة. بدأت محنة أحمد عندما ماتت خطيبته بَهْجَة بنت الجيران. كان أحمد يُحِبُّها كثيراً منذ الصِّغر، خطبها مُبكراً وأراد أن يتزوجها، لكن حدث ما حدث... ذات يوم ذهبتْ بَهْجَة إلى بوفاريك لتزور أختها، في طريق عودتها أوقف الإرهابيون الحافلة في حاجز مُزيّف وأقدموا على ذبح كُلّ المسافرين ما عدا الفتيات. حاولتْ بَهْجَة الهروب من قبضة المجرمين والنّجاة من الاغتصاب، فأطلقوا عليها وابلاً من الرّصاص. لم يقبل أحمد بالأمر الواقع فقبع في البيت لا يُغادره حتّى اختفى وغاب عن الأنظار، وتكاثرت التّفسيرات في الحومة: هناك من قال إنه تطوّع في الجيش بحثاً عن الانتقام من المسلحين الإسلاميين، وهناك من قال إنه الّتحق بالمسلّحين في الجبل حتّى ينتقم من الدّولة، وهناك من قال إنه اعتزل النّاس وانظم إلى جماعة صوفية في الصّحراء فهو يعيش مُلثّماً كالطّوارق، وهنا من قال إنه فقدَ عقله وصار يمشي عارياً في الشّوارع..." ص 131. "ذات يومٍ سألتُ والدته خالتي فاطمة الزّهراء عن أحمد فأجابتني باختصار: "إنه في الخارج". كلمة "الخارج" تحتمل عدّة معانٍ: خارج العقل أو خارج العاصمة أو خارج القانون أو خارج طاعة الوالدين أو خارج نعمة ربي. فضّلتُ عدم الإلحاح في السُّؤال وترك البئر بغطائه كما يقول المثل الشّعبي..." ص 132. "رأيته في سوق ساحة فِيتُورْيو حيث أشتغِل بائعاً للسمك. ناديته أحمد! أحمد! لكنه لم يردّ، تظاهر بعدم معرفتي، في نهاية المطاف تعرّف عليّ! وحيّاني ببرودة شديدة أمام دهشة السّيدة الإيطالية التي تُرافقه، عرفتُ فيما بعد أنها زوجته. بعدها التقينا مرات عديدة في بار دَنْدِينِي، لم يكن مُتحمساً لمعرفة أخبار الجزائر. كان أحمد أو أَمِدِيُو يعمل في المحكمة العُليا بالجزائر العاصمة مُترجِماً من الفرنسية إلى العربية. كان قد اشترى شقة في باب الزوار كي يعيش فيها مع بَهْجَة بعد الزّواج لكن المكتوب أراد شيئاً آخر. كما ترون قصة أحمد سالمي بسيطة ولا تحمل التّعقيدات... ليست هناك أسراراً خفية عن حياته الماضية قبل الاستقرار في روما." ص 132. "لا أزال أذكر المخاوف التي استبدت بي عندما سمعت النّاس يُنادونه "أَمِدِيُو"، خشيتُ أن يكون قد ارتدّ عن الإسلام، لم أطق الصّبر والانتظار، فسألته بقلق وتوجّس: "هل اعتنقت المسيحية يا أحمد؟"، فأجابني بنبرة صادقة: "لا"." ص 134. "ألا ترون ماذا تقول الصُّحف عن أحمد من أكاذيب، عندما اكتشفوا أنه مهاجر وليس إيطالياً، لم يتأخروا في اتهامه بجريمة القتل. لقد أخطأ احمد عندما سبح خارج الحوض. اختفاؤه هذا يُثير التّساؤل القديم الذي حيّر أولاد الحومة كثيراً: أين ذهب أحمد أو أَمِدِيُو كما تُسمونه أنتم؟" ص 135.

- عواء أَمِدِيُو...

- ماوْرُو بِتارِينِي؛ مفتش الشّرطة الذي يُحقق في جريمة قتل "الغْلادْياتور" في مصعد العمارة والمُتهم فيها "أَمِدِيُو". "لقد تعلّمتُ من عملي كمفتش الشّرطة أن الحقيقة مثل قطعة نقود، تتألف من وجهين مختلفين، الوّجه الأوّل يُكمِّل دائماً الوجه الثَّاني". ص 143.

الوجه الأول للحقيقة: "بالنّسبة لي التّحقيق انتهى والقاتل هو أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو. اختفاؤه المفاجئ يُثبت ضلوعه في مقتل الشّاب لُورانْزو مانْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتور... كُلِّفتُ بالتّحقيق في هذه الجريمة لأنني أعرف هذه المنطقة معرفة جيدة. قضيتُ سنوات طويلة في مركز الشّرطة في شارع بَيتْرارْكا مما أتاح لي الإطلاع عن قرب على مشاكل المواطنين المُقيمين في ساحة فِيتُورْيو وما جاورها. تعرفتُ على أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو عندما توسط لِحلِّ مشكلة حَمَام ساحة سانْتا مارِيا ماجُورِي التي تسبَّب فيها صديقه الإيراني." ص 143. "كان اعتقادي أن أَمِدِيُو هو متطوِّع إيطالي يُساند المهاجرين ويُلبِّي بعض خدماتهم المُتعلقة بالصّحة والعمل." ص 144. "ليس هناك صدفة بين الجريمة والاختفاء المفاجئ، عقب العثور على جثّة الشّاب لُورانْزو مانْفْرِيدي في المصعد، بدأنا التّحريات الأوّلية فاكتشفنا اختفاء أو بالأحرى هروب المتهم أَمِدِيُو. السُّؤال الذي طرحناه على أنفسنا: إذا كان أَمِدِيُو بريئاً كما يقول جيرانه في العمارة، فلماذا لم يظهر ليبرِّئ نفسه؟ المعلومات التي استقيناها من مختلف المصادر والشُّهود زادت من شكوكنا وجعلتنا نُدقِّق في هوية المتهم. لم يمض وقت طويل حتّى اكتشفنا أنه مهاجر واسمه الحقيقي أحمد سالمي..." ص 145. "لم يُزوِّر أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو وثيقة رسمية واحدة. لماذا اختفى؟ هل هي مجرد صدفة أم هروب من القضاء؟ هناك شهود عيان رأوه يتشاجر مع الضّحية في الليلة التي سبقت الجريمة. لا أحد يعرف السّبب. كما سمعوه وهو يقول للضحية: "سأقتلك إذا فعلتها مرة أخرى!". بالنسبة لي التّحقيق انتهى، أَمِدِيُو هو القاتل، فهو مجرم فارّ من العدالة." ص 146.

الوجه الثّاني للحقيقة: "التّحقيق لم ينته وأحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو ليس هو قاتل لُورانْزو مانْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتور. بعدما قامت إحدى الجرائد في صفحات الحوادث بنشر حوار معي مرفق بصورتي وبصورة أَمِدِيُو، اتصلت بي الطّبيبة سِيمونيتي من مستشفى سان كاميلو وطلبت مِنِّي الحضور على عجل، ذهبتُ على وجه السُّرعة إلى المستشفى، أخذتني إلى قسم الإنعاش حيث رأيتُ أَمِدِيُو مُمدّداً على السَّرير. قالت لي الطّبيبة أن صباح الأربعاء 21 مارس أي اليوم الذي قُتِل فيه لُورَانْزو، تعرّض المريض إلى حادث مرور بينما كان يَعبُر الطّريق قريباً من الكُولُوسِيُو، تمّ نقله على عجل إلى المستشفى. لحد الآن لا يزال في حالة غيبوبة بعد أن أُصيب بجروح خطيرة في رأسه قد تُعرِّضه إلى فقدان الذّاكرة. سألتُها عن الوقت المحدّد للحادث، فقالت إنّ سيارة الإسعاف وصلت إلى مكان الحادث في حدود الثّامنة والنّصف، وهذا يعني أنّ الحادث الأليم قد وقع قبل ذلك بعشر دقائق تقريباً." ص 146. "أَمِدِيُو ليس هو القاتل! قال الطّبيب الشّرعي إنّ الجريمة وقعت بعد الواحدة زوالاً كما أكّد شهود عيان أنهم شاهدوا الضّحية في صبيحة ذلك اليوم ما بين التّاسعة ومنتصف النّهار. إذاً ليس هناك أدنى شك: أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو بريء." ص 147. "بعد ذلك أعدنا النّظر في طريقة التّحقيق، تركنا جانباً السُّؤال: مَن هو أَمِدِيُو؟ ورُحنا نبحثُ في حياة الضّحية.مَن يكون "الغْلادْياتور"؟... كنيته "الغْلادْياتور" ساعدتنا للوصول إلى القاتل أو القاتلة. التّحريات التي أجريناها عن الضّحية قادتنا إلى اكتشاف سرّ الكُنية "الغْلادْياتور". كان لُورانْزو مولعاً بالمبارزات القاتلة التي تنتهي بموت أحد المتصارعين. في عهد الرُّومان كان "الغْلادْياتور" أسيراً أو عبداً يُقاتل حيواناً مفترساً كالأسد أو النّمر أمام آلاف من المتفرجين في الكُولُوسِيُو بينمكا اهتدى لُورانْزو وبعض أصدقائه إلى لعبة قمار جديدة تقوم على مبارزات سرية بين الكلاب. هل تذكرون اختفاء الكلب الصّغير فالِنْتِينُو قبل أسابيع من حدوث الجريمة؟ كان لُورانْزو وراء هذه العملية. بعد تحريات طويلة تمكنت إِلِزابِتا فابْيانِي من اكتشاف المسّؤول عن اختطاف كلبها وقررتْ الانتقام منه شرّ انتقام إثر تأكدها من العذاب الشّنيع الذي ذاقه الكلب الصّغير قبل موته. لقد وضعت خطة قتل مُتقنة إلى أبعد الحدود حيث استفادت كثيراً من حيل المسلسلات البوليسية التي تتابعها يومياً على التلفزيون. اختارت المصعد لأنه مصدر النِّزاعات بين سكان العمارة ثم وقع اختيارها على السّكين لأنه أداة قتل رجالية مما يُبعد عنها الشُّبُهات. ثم راحت تسير حافية القدمين في ساحة فِيتُورْيو حتى تظهر للجميع أنها فقدت عقلها بسبب فقدان أو اختطاف كلبها. استطاعت أن تنفِّذ خطتها بمهارة فائقة دون أن تترك أي أثر. الخطأ الوحيد الذي ارتكبته هو عدم تخلصها من أداة الجريمة... بعد بحث دقيق عثرنا على السّكين وعليه بصماتها ودم الضّحية. التّحقيق انتهى، وإِلِزابِتا فَابْيانِي هي التي قتلتْ لُورانْزو ملنْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتُور." ص 147. 148.

- عواء أَمِدِيُو...

* نقاط على هامش قراءة رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- رمزية العنوان: أولى عتبات النّصّ العنوان (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضُّك)، جاء العنوان لافتاً محدثاً الدَّهشة والانفعال المطّلوبين لانجذاب القارئ إلى الرِّواية، والعارف بأسطورة تأسيس روما المجسَّدة في الأخوين الرَّضيعين رومولوس وروموس - أبناء الذِّئبة - يكاد يقبضّ على سِرّ العنوان وأنّ أحداث الرِّواية تدور في روما عاصمة إيطاليا: "أليست الذِّئبة هي رمزُ روما! أنا لا أثق أبداً في أبناء الذِّئبة لأنهم حيوانات مفترسة متوحشة. إن الحيلة الخبيثة هي وسيلتهم المفضَّلة في استغلال عرق الآخرين!". ص 85.

- بحكم كون الكاتب الدكتور "عمارة لخوص" متخصص في الأنثروبولوجيا وكونه عاش في روما حقبة من الزّمن فقد استغل تلك الثّقافة المعرفية المتعددة الفلسفية والأنثروبولوجية في كتابة هذه الرِّواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضُّك) فجاء النّصّ محبكاً محكماً متقناً متنوعاً ثريّاً مشوِّقاً رائعاً.

- الحيّز المكاني للرِّواية هو مصعد العمارة حيث كانت جريمة القتل. يتمدد هذا الحيّز في كُل الاتجاهات المحيطة بالمكان: شقق العمارة، ساحة فِيتُورْيُو في روما، مطعم كابري القريب من ساحة نافُونا لصاحبه السِنْيُور بِنَارْدِي...

- الحيِّز الزماني للرِّواية يستمر لبضعة أيام، لكنه يتمدد ويتجذر تاريخياً بالبحث في الماضي للشخصيات المركبة للرِّواية.

- تبدو الرِّواية في ظاهرياً أنها تدور حول جريمة قتل في مصعد عمارة يقطنها عدد من المهاجرين والأوربيين غير أنها في عمقها تطرح مشاكل الهجرة غير القانونية ومشاكل المهاجرين في أوربا وكعينة عنهم جاءت أحداث الرِّواية في روما عاصمة إيطاليا. ومن خلال ذلك نكتشف مدى تّنافر وتقارب شخصيات الرِّواية القاطنين في العمارة ثقافياً وحضارياً. تتقلص حيناً وتتباعد أحياناً المسافة الفاصلة بين انتماءاتهم العرقية والثّقافية والاجتماعية والحضارية.

- النّص يُبرز مشاكل المهاجرين دون وثائق قانونية من العالم الثّالث وشرق أوربا إلى الغرب وهنا إيطاليا كمثال على ذلك. مشاكل العنصرية وازدراء ثقافة الأخر والاستغلال الجنسي. معاناة المهاجرين من العنصرية: "سألني إِقْبَال هذا الصَّباح: هل تعرف ما هو الفرق بين العُنصري والمُتسامح؟ قلت له: العُنصري في عداء مع الآخرين لأنه يعتقد أنّهم ليسوا في مستواه بينما المُتسامح يتعامل مع الآخرين دون تكبُّر واحتقار". ص 57.

- عطفاً على كُلِّ ما سبق فإن كُلّ قراءة لا تزيدك معرفة لا يُعوَّلُ عليها، وكُلَّ معرفةٍ لا تتنوع لا يُعوَّلُ عليها. وهذه الرِّواية يُعولُ عليها فهي تزيد القارئ معرفةً وتنوعاً.

* قالوا عن رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- يقول عنها الكاتب نصر حامد أبو زيد: «إنّ إعجابي بهذه الرِّواية إعجاب نابع من متعة عالية وفرتها لي إلى جانب معرفة حقيقة هذه المتعة. هذه سمة الفنّ الحقيقي الذي يُجسد متعة المعرفة من خلال الجميل. توظيف الكاتب للرموز (رمز الذِّئبة والرَّضيعين) وثالثهما المهاجر الذي تشرّب المدينة والثَّقافة بالكامل توظيف يتسم بدرجة عالية من الدِّقّة والرّهافة. ما أروع الأمثولة. ليت الكاتب يكتبها بالإيطالية لتترجم إلى اللُّغات الأوربية الأخرى؛ - وهو ما قام به الكاتب فعلاً - لأنها تقول الكثير عن المُهاجرين مِمّا لا يستطيع البحث أن يقوله بنفس الكثافة والمتعة».

- ويقول عنها الكاتب الرِّوائي التُّونسي كمال الرَّياحي: «شيّد عمارة لخوص نصّه هذا بكثيرٍ من المكر والمراوغة والوعي الفنّي حتّى يكون نصّاً مختلفاً يحكي سيرة المنفى وواقع المهاجر في إيطاليا. إنها رواية الهروب من الذَّاكرة الجريحة ومأساة العيش دونها بين أحضان الذِّئبة الضَّارية روما... رواية ترضع الفلسفة والأدب والتَّاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسِّياسة دون أن تسقط في مزالق الإيديولوجيا أو في الخطابية الفجّة ولا عضّتها التّعليمية السّاذجة».

* اقتباسات من رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- "رُباعيات الشَّاعر الكبير عُمر الخيام، تحتاج إلى سنوات طويلة لإدراك مغزاها، عندئذ ينفتح قلبك على العالم وتفيض دموعك لتدفئ خديك الباردين." ص 11.

- "أنا أعشق المصعد، لا أستعمله بدافع الكسل وإنما مِن أجل التَّأمل. تضع إصبعك على الزِّرّ دون أي جهد، تصعد إلى الأعلى أو تنزل إلى الأسفل، قد يتعطّل وأنتَ قابعٌ فيه، إنه كالحياة تماماً لا يخلو من العطب؛ تارةً أنتَ في الأعلى وتارةً أخرى في الأسفل." ص 14.

- "العشق كالشّمس السَّاطعة، يستحيل تجاهل أشعته الحارقة، العشق توأم الشّباب، صدق المثل الفارسي القائل: سكر الشّباب أقوى من سكر الخمر". ص 15.

- "يحتاج الإنسان إلى الحُلُم كحاجة السمكة للماء". ص 23.

- "الغراب الذي دلّ القاتل قابيل على كيفية التّخلُّص من جُثة أخيه هابيل. يُقال أنّه القاتل الأول على الأرض، إذاً الغُراب هو أول خبير في دفنِ الأموات في التَّاريخ. أنا غُرابٌ مِن نوعٍ خاص: مُهِمّتي هي دفنُ الذِّكريات الملوّثة بالدّمّ". ص 46.

- "إنّ الأقارب مثل الأحذية الضَّيِّقة التي تسبب لأصحابها الكثير مِن الإزعاج". ص 47.

- "البقاءُ في الكهف أفضل مِن الخُرُوجِ منه. لا فائدة مِن معرفة الحقيقة. العزاء الوحيد هو هذا العواء اللَّيلي". ص 48.

- "الحقيقة في أعماق بئر: تنظُّر في بئرٍ فترى الشَّمس أو القمر، لكنَّك إذا ألّقيتَ نفسك فيه، فإنَّكَ لن تجد الشَّمس ولا القمر، هناك الحقيقة فحسب". ص 48.

- "يا أطبَّاء العالم اتحدوا! اخترعوا دواءً جديداً يشفي العنصريين من الحقد والكراهية". ص 59.

- "عندما أرى تفاحة فاسدة، فإنِّي أُسرع إلى عزلها عن بقية التُّفاح لأنِّي لو تركتها في مكانها، فإنّ كُلّ التُّفاح سيفسد! لماذا لا تتصرّف الشّرطة بحزمٍ مع المهاجرين المنحرفين؟ ما ذنب المهاجرين الشُّرفاء الذين يكِدُّون من أجل لُقمة العيش؟!". ص 59.

- "هذا المساء استوقفني طويلاً هذا المقطع الوارد في كتاب سيغْموند فرُويْد "الطّوطم المُحرَّم": إن الاسم الذي يحمله الإنسان هو عنصر أساسي من كيانه، بل قد يسكون جزءاً من روحه". ص 60.

- "للمهاجر وجهٌ واحد عبر التَّاريخ رغم اختلاف لسانه ودينه ولون جلّده". ص 81.

- "أنا أقول أن هذا البلد غارق في بحر من الغرائب، كأس العالم في كرة القدم على سبيل المثال هي مناسبة يكتشف فيها الإيطاليون أنهم إيطاليون. يضعون الأعلام الوطنية على النَّوافذ وفي الشُّرُفات وعند مداخل المحلات. يا للعجب كرة القدم تصنع الهوية! لا فائدة من الدِّين الواحد واللُّغة الواحدة والتَّاريخ المشترك والمستقبل المشترك". ص 89.

- "ما يهمُّني حقّاً هو أن أرضع من الذِّئبة دون أن تعضَّني وأن أُمارس هوايتي المفضَّلة: العواء!". ص 93.

- "روما هي ذاكرة الإنسانية، إنّها المدينة التي تعلّمنا كُلّ صباح أن الحياة ربيع أبدي وإنّ الموت سحابة صيف عابرة، لقد هزمت روما الموت! لهذا السّبب يُطّلق عليها اسم المدينة الخالدة". ص 113.

- "صِرتُ أعرف روما كأنِّي ولِدتُ فيها ولم أُغادرها أبداً. من حقِّي أن أتساءل: هل أنا لقيط مثل التَّوأمين رُومُولُو ورِيمُو أم ابنٌ بالتّبنِّي؟ السُّؤال الجوهري هو كيف أرضع من الذِّئبة دون أن تعضّني؟ الآن على الأقل يجب أن أُتقن العواء كذئبٍ أصيل: أووووووووووووو...". ص 115.

- "إنّ أجمل مراحل الحُبّ هي مرحلة التًّعارف والغطس الجميل في بحر العشق دون الاهتمام بالتَّفاصيل وطرح التَّساؤلات المُمِلّة." ص 120.

- "العشق هو صندوق المفاجآت... إن عيب بعض العُشَّاق هو مُحاولة معرفة كُلَّ شيء عن المعشوق، هذا هو سبب السَّأم وانطِفاء شمّعة الحُبّ بسُرعة. العاشق الحقيقي لا يكشف عن نفسه كُلِّياً. هل تعرفون لماذا يُثير الطَّوارق الإعجاب والدَّهشة؟ لأنهم مُلثّمون. الغُمُوض سِرّ الآلهة! الأشياء المُدهشة غامضة بالضَّرورة." ص 120.

- "أَمِدِيُو مُدهش كالصَّحراء، مِن الصَّعب الإلمام بأسرار الصَّحراء... لا تثقي أبداً في دليل الصَّحراء، فهو كإبليس ملعونٌ إلى الأبد لأن الصَّحراء لا تُحِبّ المُتكبِّرين، مَن يَدّعي معرفة خبايا الصَّحراء، فلينتظر العقاب القادم أي الموت عطشاً، التَّواضع هي اللُّغة الوحيدة التي تعرفها الصَّحراء!." ص 121.

- "الرِّحلة الجميلة لا تنتهي أبداً لأنها تحمل في طياتها وعداً ببداية جديدة لرِحلة قادمة. إنها كحكايات شهرزاد لا تنتهي أبداً وإنَّما تبدأ باستمرار." ص 122.

- "الكابوس هو نافذة يتسلل منها الماضي في ثوب السَّارق". ص 122.

- "الكلام مُفيد جِدّاً للتَّنفيس عن الحُزن والقلق والحَنين وغياب الأَحِبّة". ص 123.

- "التَّرجمة هي رِحلةٌ بحرية مُمّتعة مِن مرفأ إلى آخر". ص 125.

- "ما أجمل أن نتحرر مِن قيود الهوية التي تقودنا إلى الهاوية!" ص 126.

- "ذاكرتي جريحة تنزف، يجب أن أُضمِّد جراح الماضي في عزلة" ص 127.

- "هناك مثل يُردِّده الإيطاليون كثيراً: الضَّيف مثل السمك بعد ثلاثة أيام يتعفّن" ص 133.

- "العواء نوعان: عواء الألم وعواء الفرح. الكثير من المهاجرين المهمّشين الذين يتوسَّدون زجاجات البيرة والخمر في حديقة ساحة فِتُورْيو لا يكفون عن العواء الحزين لأن عضَّة الذِّئبة قاسية ومؤلمة. أعتقد أن العواء في بعض الأحيان كالبُكاء. أمّا أنا فأعوي من شدّةِ الفرح، أنا أرضع من ثدي الذِّئبة برفقة اللَّقيطين رُمُولُو ورِيمُو. أنا أعشق الذِّئبة ولا أستطيع الاستغناء عن حليبها". ص 137.

- "المرض يوقظ شيطان الحنين أو "الوحش".. إنه الخوف من الموت: الموت بعيداً عن أنظار الأحبة، الموت وحيداً، الموت بيعيداً عن الأُمّ". ص 139.

- "يا بني اذا كنت سائراً واعترض طريقك مسلحون، وأجبروك على التَّحكيم: مَن على الحق ومَن على الباطل، قابيل أم هابيل؟ إياك أن تقول: إنّ قابيل على الحق وهابيل على الباطل، قد يكون المسلحون هابليين فتهلك وإياك ثم إياك أن تقول: أنّ قابيل على الباطل وهابيل على الحق، قد يكون المسلحون قابليين فتهلك، يا بني إياك ثم إياك ثم إياك أن تقول: لا قابيل ولا هابيل على الباطل فتهلك، فصدر هذا الزَّمن ضيِّق لا يتسع للحياد، يا بني اقطع لسانك و ابلعه. يا بني اهرب! اهرب! اهرب! إياك من نار الفتنة فهي أخطر من أنياب الذِّئاب" ص 142.

- "الحقيقة مثل قطعة نقود، تتألف من وجهين مختلفين، الوّجه الأوّل يُكمِّل دائماً الوجه الثَّاني". ص 143.

- "الحقيقة مُرّة كالدواء! ينبغي تناول الدَّواء على جُرُعات، قد يُؤدِّي الدَّواء إلى الموت إذا تناوله المريض دُفعة واحدة". ص 149.

- "الذَّاكرة صخرة سيزيف اللَّعينة" ص 150.

* التّعريف بالكاتب عمارة لخوص:

كاتب جزائري من مواليد الجزائر العاصمة، 1970. يكتب بالعربية والإيطالية. تخرج من معهد الفلسفة بجامعة الجزائر عام 1994. أقام في إيطاليا 18 عاما، وحصل على دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة روما. يقيم في نيويورك منذ 2014. صدر له: "البقّ والقرصان" (1999)، و"كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تَعُضّك" (2003) التي ترجمت إلى ثماني لغات وتحولت إلى فيلم سينمائي عام 2010 من إخراج إيزوتا توزو. حازت الرواية على جائزة فلايانو الأدبية الدولية وجائزة راكلماري – ليوناردو شاشه عام 2006، إضافة إلى جائزة المكتبيين الجزائريين عام 2008. صدر له روايات أخرى هي: "القاهرة الصّغيرة" (2010)، "فتنة الخنزير الصّغير في سان سالفاريو" (2012)، "مزحة العذراء الصّغيرة في شارع أورميا" (2014) التي ترجمت إلى عدة لغات، ورواية رابعة بالعربية، "طير اللّيل" (2019).

***

 قراءة: السعيد بوشلالق

الدليل الثيماتي بين طفل الشيطان وإظهارية خفايا التوظيف

مهاد نظري:

تتداخل في بنيات النص الروائي عدة عناصر هي: (المرسل ـ المرسل إليه ـ الثيمة ـ المعلن الإظهاري ـ دليل النص) ولكل واحدة من هذه المحاور دورها الكبير في نمو وظيفة (السارد ـ الشخصية ـ الحبكة) وبما أن دراستنا في مجال هذا النحو من المعنى تتناول تجربة روائية ذات أهمية كبرى، وتلتزم في منحى بناءاتها بهذا النوع من المحاور التي أشرنا إليها، لذا وجب علينا التوسع في استخدام أكثر المحاور تلفظا وتداولا في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للروائي والسيناريست البرازيلي (خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس) وقد أتفق مع النقاد من جهة نسبية وأختلف معهم من ناحية إجمالية، في كون أن هذه الرواية من صنيع المخيلة المنتخبة في مجال توطين أدب فئة الناشئة أو الأطفال.ولا يخفى على القارىء ـ احتمال ـ كوني أجد في تجربة هذه الرواية من البساطة والتعقيد والإحالة والعلامة الأكثر تجاوزا لوعي القارىء اللاروائي حتما.ومن هذا المنطلق أصررت على قراءة هذه الرواية وعشت مع دواخل شخصيتها المحورية (زيزا) وأخوته ووالداه وذلك السائق البرتغالي وجذع البرتقال الذي هو محط المعادل الموضوعي الذي من خلاله يمكننا فهم هذه الشخصية وطبيعة أنسنتها لحالات عوالمها اللامعقولة في أفضية التصديق والاستدلال المنطقي، إلا من جهة تقنية تتعاضد من خلالها عدة محاور (إظهارية ـ معلنة) امتدادا بها نحو مجموعة شرائط تلك المخيلة التي أرتضت بأن تكون أرادة العامل الشخوصي ـ المحور ـ فيها معادلا متجاذبا إلى جل جهات البطولة والمغامرة أو الشيطنة والملائكية أو الطيبة والشرور في الآن نفسه.

ـ حوارية أنسنة الأشياء في كينونة الوعي المضمر:

تستدعي حفريات دلالات رواية (شجرتي..شجرة البرتقال الرائعة) لخوسيه فاسكونسيلوس إلى ذهن التلقي، تلك التشاكلية المنتجة بين قطبي (الفاعل بالموضوع ـ الفاعل عن الموضوع) أي أن للمحور الشخوصي كامل التوطينية في لعبة طرفي العلاقة من ناحية كونه وليدا عن الموضوعة ومندمجا فيها، وتارة عن حضوره الامتثالي في علامة ملازمة للفعل السردي والعاملي.أما كونه فاعلا عن الموضوع فبالإمكان النظر في أبعاد الموضوعة من خلاله كمتتالية فعلية مستشرفة تارة ومنصوصة بأكثر المواضع تناقضا واعتدالا مستورا تارة أي عبر مجمل أفعال السردية.وإذا كان في موضع الفاعل بالموضوع، فهو يشكل دليلا على أن الشخصية مترسخة في مادة محورها الوقائعي.وهناك عدة أمثلة سوف نقوم بدراستها في حينها حتى تبدو للقارىء أكثر كشفا إزاء وحدة سردها أو مسرودها.

1 - الفاعل بالموضوع بين حساسية المخيلة وترجيح المعادلة الفقدانية:

في الخلفية النصية تندرج مهام الفعل النواتي كحالة استباقية بالسرد.إذا أن تمظهرات فعل الشخصية حيال مساحة مؤشرات (دليل الموضوعة) تكشف لنا بأن مجمل الأفعال والأحوال، حلت في حدود كون الفاعل الشخوصي هو بذاته ما راح يظهر تداولية الوقائع والاحساس بها ما جعلها تخوله إلى أن يكون السارد المشارك الذي تتصل كل المهام في صوته، فهو من يقدم ويؤخر، ولكنه كحالة عاملية يبقى يبث خطواته في سياق منشطر بين (حساسية المخيلة ـ وترجيح المعادلة الفقدانية) وهذه المعادلة الأخيرة هي الممثلة في إطارها العاملي المنصوص في علاقة المحور المركزي مع جذع البرتقال أو أحد أشقائه الأثنان (لويس ـ توتوكا) وعلى هذا النحو فالانبعاث مصدره الحسي والأفعالي هو الشخصية الأكثر بروزا (زيزا) وما يقوله وما يفكر به وما يتخيله هو الميثاق على اتساع حوارية المدار الشخوصي كأفعال كلامية تربطها خواص من المكان والزمن وسياق السرد: (على مهل كنا نقطع الطريق يدا بيد..كان ـ توتوكا ـ يعلمني الحياة، وكنت سعيدا جدا لأن أخي الأكبر يعطيني يده ويعلمني الحياة./ص7 الرواية) بهذا النوع من الفاعل بالموضوع، نتعرف على مجال التحول في حركة طبيعة الشخوص، وخاصة زيزا، كونه ـ ساردا مشاركا ـ ولهذا يلزم تبني سلطة المسرود والسرد إجمالا.وقد وظف الكاتب خوسيه ماورودي من شخوصه الروائية ما جعلها الأكثر بؤسا وكدحا في حيواتها الفعلية، لذا ظل زيزا العامل والفاعل يقارب حياة الموغل في حرمانه الطفولي، وهذا الشظف في حياته الخاصة هو الذي صنع منه مؤولا إظهاريا في حوارية مخيالية واهمة مع طائر الخفاش وجذع الشجرة، ما يوضح لنا كفائية معادلة الفقدان، أي بما يفسر لنا أن الشخصية زيزا ذات ملامح تندرج في تفاصيل استثنائية، كونه المتصل مع حالات تصويرية عاشها بمتعة بالغة وقسوة صارمة مع محيطه المتشيء.

2 ـ الفاعل عن الموضوع وأدائية العامل المحكي:

نجد هنا الفاعل عن الموضوع، سببا مباشرا ينبغي الاحتفاظ به بالطابع الذي يخولنا على أن نراه (كفاءة فاعل ـ مرسل ـ جهات موضوعة) ولكنه على الصعيد ذاته كفاعل منفذ، يبدو أكثر دقة بالمعطى الموضوعي، خاصة وأن الشخصية كان هو نفسه من يصنع موضوعته بذاته، وهذا لا يعني أن الجانب الذاتي للمحور قد غطى على وقائع أحوال ومعينات النص كوسائل موضوعية وأدوات في الأداء، لا أبدا فخاصية الاتصال بين (فاعل ـ موضوعة) كانت قائمة على تدرج (فاعل ـ لفاعل سلوك) وهو الأمر الذي جعل من قيمة الموضوعة في موصلات النص، تبدو ككفاءة الفعل المكتسب افتراضيا من حيث نقطة ومجال الخطاب النصي, كمصدرا موصولا للاتصال السردي في الرواية إجمالا.

3 ـ كينونة فاعل السلوك وحيثيات الاتصال السردي:

قبل الخوض في أدوار المحاور الأفعال الشخوصية في أفضية الحكاية الروائية، نود الاشارة حول مفهوم (كينونة فاعل السلوك) الذي أوردناه هنا كقيمة فردية وفردانية تخص وظائف (الفاعل ـ العامل ـ الممثل) والمقصود بهيئة هذه التفعيلات، هو الحضور في الاتصال الفعلي للعامل المحوري حيال مجسداته السردية و الأبعاد الوقائعية في موضوعة الرواية.وهذه الوظائف الثلاثة لا تمثل إنقطاعا عن حوارية الوقائع الخطية، بقدر ما تسهم في تفعيل الخوض في جزيئات وكليات النص دليلا ومدلولا.يواجه المحور الفاعل ـ زيزا ـ وهو الطفل الذي لم يبلغ عقده السادس من العمر، ثمة منغصات عقدية في حيز اندفاعاته الطفولية التي كانت رغم بذاءتها الظاهرة غالبا، إلا إنها طفولة مميزة على حين غرة : (في السابق لم يكن يضربني أحد..لكنهم أكتشفوا الأمر لاحقا، وبدؤوا يقضون وقتهم وهم ينعتوني بالشيطان، وبالطاعون وبقط المزاريب اللعين..لم يكن ذلك يشغل بالي حينما لا أكون في الشارع أنهمك في الغناء./ص7 الرواية) المقصود من وراء هذه الوحدات، إن ـ كينونة الفاعل ـ مهما بلغت من الخطورة حيال تصاعد أفعالها المحكاية لهمزات الشيطنة، فإنها من جهة ما تلاقي حضورها في ممارسة دورها التأثيري في أمكنة أخرى، خارج حدود المنزل حيث وجود ذلك الأب العاطل عن العمل، إلى جانب وجود دور تلك الأم الشاقة التي تعمل بالنيابة عن الأب، مما جعلها تتحمل كافة مشاق ومتاعب العمل كخياطة في الطاحونة الانكليزية، إلى جانب دورها في توفير كافة مستلزمات الحياة في مرابع ذلك المنزل القديم.حاولنا في بدء فرعنا المبحثي الحديث حول الفاعل الشخوصي، كعاملية ممسرحة في بنية السرد، إذ تبدأ الحكاية الروائية منه وتنتهي به، وكأنها حكاية إطارية في الاعمال الروائية.ولكننا عندما نتابع مجرى المسرود أحيانا، نلاحظ ثمة حكاية ذات رؤية تقترب من الواقعية السحرية إلى جانب استثمار تقانة الفنتازيا التي تعد في محددات أفعال المحور، كمعادلة موضوعية في غاية التأطير الدلالي، وإذا أحببنا تسميتها من جهة أخرى كحكاية واقعية، ذلك لكونها تصب في الكشف عن أشد العلاقات الشخصية بواقعها الحياتي المصور بؤسا وحرمانا.أما إذا أردنا وسمها بالفنتازيا، فلا بأس، لأن أغلب متصورات الفاعل الشخوصي تصب لذاتها واقعا بعيدا كل البعد عن مسار صحة وتصديق الواقع الموضوعي الروائي لها.ولهذا ظلت أغلب حوادث الزمن الروائي، تمتاح بتلك الأجواء الواهمة بين جهة حوارية زيزا مع ذلك الغصن من شجرته الخاصة بالبرتقال الحل.فهو عادة ما يصنع لذاته مع ذلك الجذع جملة حوارية تمتد إلى أجواء حكايات فرعية تختص بحكم كونها ناتجة عن مقدرات مدارك الوعي الطفولي وحده، بذلك العالم المحفوف بالاظهارية المعادلة ـ اكتمالا تعويضيا ـ عن نواقص حياة الطفل زيزا، فهو تارة يجعل من جذع شجرة البرتقال جوادا فيمتطيه مسافرا نحو عوالم متأثرة بالخيال السينمائي، وتارة أخرى يجد فيها خلاصاته وملذاته المقموعة في بيت الأب العاطل عن العمل، أو حتى إشباع رمقه من خلال مأكولات يتخيلها متواجدة في واصلات رحلته فوق ذلك الحصان المتمثل بجذع شجرة البرتقال.

ـ التخاطر الزمني والانتقال الضمني بين أحوال الأشياء.

تتجلى مظاهر الزمن في تحقيقات روايةخوسيه ماورو دي، ببناء الوحدات الزمنية من خلال أوجه اندماجية في نسق المحمول السردي التحقيبي، أو ذلك اللازمن الفاصل بين الوحدات بصورة مشخصة.وقد يرتبط الزمن أحيانا داخل تنقلات ملفوظة وليس فعلية.الأمر الذي جعل من وحدات تراسل الزمن داخل حيثيات المواضع في السرد، وكأنها (حالات تخاطرية مع الذات) تلح في إبراز تلك الملامح الأكثر حوارية، بالشكل الذي يخولنا إلى الاعتقاد بأن الزمن جاريا بخطوات المتلفظ في دائرة المحاورة السردية.وليس في حقيقة المواقع الزمنية المؤشرة، اعتمادا على وحدة الزمن: (: ـ يوم تحامقت، فقد أرسلتني ـ غلوريا ـ إلى ـ ديندينيا ـ هو كان يريد قراءة الجريدة، لكنه لم يجد نظارته، كان يبحث عنها في كل مكان ساخطا./ص11 الرواية) لاحظ إن الاستحالة على معرفة الزمن عبر هذه الوحدات، كانت مرهونة بمقدرات التلفظ الحواري والاخباري، لذا بدت مرسومية الملفوظ وكأنها غائرة في ما كانت يينقل الأحداث ـ اخبارا ـ تارة والوصف تارة أخرى.أنا لا أقصد ربما من وراء كلامي هذا، إن السمات البنائية للسرد خالية من الزمن الفيزيائي جدلا؟بل أود التنويه إلى إن الزمن في النص الروائي موضع بحثنا، يشكل بذاته ذلك الحدوث اللامؤشر عليه في حساب الوحدات الزمنية، ما جعل أغلب الأحداث في سيرها بادية كما لو كانت اعتمادا على وحدة السارد في أخباره وتواصيفه ـ تكثيفا ـ في نمو وبناء الوقائع في مسرود الرواية تحديدا.

1 ـ الوقائع المتصلة في فضاء الحيز الارتباطي من الزمن:

ولا تتوقف أهمية مرحلة دون أخرى في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) إذ كانت مجمل المراحل المتكونة من (بداية ـ وسط ـ خاتمة) ذات القيمة من الأهمية وخاصة من حيث الصياغة وكيفية عملية التبئير الحادثة، وذلك الاحساس القرائي بتزايد التأثير الجمالي والدلالي في مسافة تشويقات أسباب الحبكة المضمرة رغم إن حجم علانيتها المحبوكة في طرائق أكثر دقة وجزالة من المعنى الظاهر في النص.ولو حاولنا تتبع تجليات الوقائع المجملة في النسيج السردي، لواجهتنا مسارات كيفية ومحتدمة من سمات الاحياز الأكثر ترابطية ومفعول المفترض الزمني، كحال هذه المقتبسات من وحدات السرد، التي يظهر من خلالها مستوى من (الوقائع المتصلة؟) عبر مقتضيات الارتباط بالممكنات المعينية: (أنت الذي يريد معرفة كل شيء، ألم تكتشف الدراما التي تحدث في البيت؟أبي من دون عمل، أوليس كذلك؟تشاجر مع السيد ـ سكوتفليد ـ منذ ستة أشهر وطردوه.ألم تلاحظ بأن ـ لالا ـ قد بدأت العمل في المصنع؟ألا تعرف بأن أمي ستنتقل للعمل في المدينة، في تلك المطحنة الانكليزية؟./ص12 الرواية) كان ذلك هو الجزء الحواري الدائر بين الشقيقين زيزا وتوتوكا، إذ كان هذا الأخير بدوره يطلق الملفوظ في صيغة جمل استفهامية، وكأنه يذكر شقيقه الأصغر زيزا بما عليه حال الأسرة في البيت.بيد إن هذه الوحدات الاستفهامية أخذت تشتغل على جعل الوقائع المنصرمة في حدود مشاهدات واقعية زمنية ذات ارتباطات استرجاعية ما، وكأن الغاية منها كانت حصر الماهية السردية في حدود حلقات من الزمن التعاقبي أو الطردي أحيانا عبر سلسلة من الأفعال والمشاهد.لعلنا عاينا أيضا من جهة أخرى كيفية وضع ضمير السارد المشارك لوحدات وعناصر الزمن، ومنذ بداية الرواية، على إن ما يجري فيها من السرد والمسرود أخذ يتبنى أبعادا حسية خاصة من دوافع ونزوعات النفوس المحرومة والمقهورة في درجة قصوى من واقع حياتها..وهذا الأمر بدوره يعد بذاته تجسيدا في مسار إن الزمن ما زال جاريا بالتأزم والتضخم الحرماني السائر في مفاصل هذه الأسرة، وخصوصا ما بدا واضحا عند معاناة الطفل زيزا على وجه من التحديد: (أجل ، أن الأمر يبعث على الحزن، كنت حزينا جدا ومحبطا جدا إلى درجة أنني فضلت أن أموت./ص42 الرواية).

ـ التداعيات السردية بين الفاعل الداخلي والمعطى في زمن الخارج النصي.

تتحدد مع حجم التداعيات في محاور العلاقة السردية بين جهة موقع السارد المشارك وما يرويه الواقع المتداعى في موجهات أكثر أنسنة مع أشياء ومقتنيات الشخصية زيزا.فهذه الشخصية كما أسلفنا سابقا في مبحث فرع أولي أكثر اندغاما وحدود علاقة مؤنسنة بين ذات المحور والأشياء المحيطة من حوله. وتبعا لهذا نقول بأن الطفل زيزا هو ما كان يقيم لنفسه تلك اللغات والتصورات والرؤى الواهمة مع الخفاش مثلا، الذي كان يقطن في أحدى زوايا سقوف منزل العائلة القديم، أو في ما يخص تلك العلاقة الثيماتية التي تتشكلها مقتضيات وهمية مصدرها هوية المعادل الموضوعي أو الترميزي أحيانا: (عندما عرضت المشكلة على العم إدموندو، فكر في الموضوع بجدية ـ إذن هذا ما يشغل بالك؟ ـ أجل، سيدي أخشى بأن لا يأتي لوسيانو معنا إذ ما أنتقلنا إلى المنزل الجديد ـ هل تعتقد إن هذا الخفاش يحبك كثيرا؟ ـ أجل أنه يحبني.. من صميم قلبه؟ـ هذا أكيد؟ ـ إذن تأكد من أنه سيتبعك..من المحتمل أن يتأخر في الظهور، لكنه سيجدك ذات يوم./ص34 الرواية) ولا يعنينا هنا مستوى الملفوظ اطلاقا، بقدر ما يهمنا مستوى الإحالة المرسلة في دواخل أسرار حياة زيزا.فلهذه المتداعيات السردية، ثمة بؤرة ظنية خاصة بمشاهدات الطفل مع نفسه تخيلا.فهو يقربنا بذلك من حادثة تعلقه العاطفي بمعلمته في المدرسة، حيث كان يسرق لها الزهرة البيضاء كل صباح من قصور الأثرياء، لأجل وضع تلك الزهرة في كأس يملأ نصفه الماء ليضع فيه هذه الزهرة كل صباح، إجلالا لتلك المعلمة التي تقوم برعايته بطريقة مختلفة عن أقرانه في حصة الدرس.وعندما واجهته المعلمة برفضها فكرة أن يسرق الأزهار من أجلها، شعر بالحزن والإحباط الوجع مع نفسه لوهلة، وكي لا يصاب بالحزن مرارا، اقترحت عليه المعلمة بأن يبقى كأس زهورها فارغا، ما دام هناك من يود أن يضع فيه كل صباح وردة.فإذا هناك وردة رمزية تبقى كحالة مقابلة لعدم وجودها الحقيقي. هذا المكون المعادل هو بمثابة الشيفرة أو الخاصية الرمزية بحد ذاتها، ذلك لأجل أن يبقى زيزا غير سارقا، ولأجل أن تزع فيه المعلمة تلك القيم اللامرئية في معادلات عالمه الطفولي الخصب.وبهذا النوع من الوعي نعاين ما تركه فيه ذلك الرجل البرتغالي عندما كان سابقاممن كانوا يوبخونه ضربا على مؤخرته ـ أي زيزا ـ ، عندما كان زيزا بأفكاره الشيطانية سابقا، ذلك عندما يبقى متشقلبا بطريقة ساخرة ومشاغبة في الجزء من مؤخرة سيارة ذلك الرجل البرتغالي، وعندما كان يحظى به متلبسا بفعلته، يسارع هذا الرجل البرتغالي في ضربه وتوبيخه.ولكن مع حادث تعرف البرتغالي على زيزا مثقلا من جراء جرح أصاب قدمه، قرر أن يحادثه بلطف ويحمله بسيارته إلى المشفى. إذ راح الطبيب هناك يقوم بمعالجة الجرح ولفه بالضماد وهكذا مع الوقت أصبح طفل الشيطان ـ زيزا ـ يعتبر ذلك الرجل البرتغالي بمقدار أشد من أحبه في هذا العالم. ويرتبط أيضا بذات العلاقة مع بائع الأغاني الذي كان يمنحه القدر الكاف من العناية والرعاية والعاطفة، مما جعل زيزا يعده في مصاف الصدر الحنون له.أقول أردنا من كل هذه الأمثلة الواردة في مفاصل السرد من الرواية، إظهار الطفل زيزا الذي كان يعد في منظور من لا يعرفه حقا بمثابة (طفل الشيطان؟) ولكن من يتعرف عليه عن كثب، يكتشف فيه ذلك الملاك السماوي الذي يسكن قلوب كل من أحبوه وفهموه، وليس في صدور من كانوا يمقتوه.

ـ الانفصال المحوري الشخوصي من المتخيل إلى الواقع.

نكتشف عندما نتقدم في مسار النص الروائي، ذلك بعد سلسلة من الصدمات الموجعة التي تلقاها الطفل زيزا ألما أثر موت الرجل البرتغالي في حادث دهس القطار لسيارته، وصولا إلى محاولة البلدية في المدينة إلى توسيع الشوارع، فقرر مدير البلدية قلع صفوف أشجار البرتقال التي كانت تغطي من امتداد عرض الشوارع، وقد شمل هذا الأمر شجرة برتقال الشخصية زيزا.نكتشف إن هناك وظائف زمنية وظرفية ونفسية جعلت من زيزا يتفهم ما كان عليه حاله من أوهام سحيقة، كان قد أختلقها لنفسه وأدمن عليها ردحا من زمن طفولته: (عند ئذ تحدث إلى قلبي صوت في منتهى العذوبة والحنان..لا شك أنه الصوت الحنون للشجرة./ص175 الرواية) إن حالات الانفصال عن المخيلة بدت في أوج فقدان الشخصية زيزا لذلك الرجل البرتغالي العجوز : ولها من صدمة ؟ فعلا أجاد الروائي خوسيه ماورو دي في صياغتها وسبكها إلى درجة شعور من يقوم بقراءتها بالاختناق والرغبة الطويلة في البكاء الموجع.

ـ تعليق القراءة:

في الحقيقة تثير فينا رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للمبدع البرازيلي القدير خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس روائيا وكاتبا سيناريويا بارعا بارعا للعديد من الأفلام في البرازيل، ذلك الاحساس العميق للطفولة وسحرها، رغم ما أظهر الروائي نفسه عبر شخصية محوره الروائي زيزا من تفاصيل مؤلمة وقاهرة من حياة عائلة أكتنفها العوز إلى حد الإشباع والتخمة المأساوية. أود القول إن تحليلات وتوظيفات الروائي إلى عالم شخصيته الروائية قد فاقت كل حدود المتوقع والمنتظر من وراء زمن قراءتنا للرواية.فهو عاش مرحلة طفولة زيزا ـ روائيا ـ ثم بالتالي زرع فيها شقاوة الطفولة لدرجة أصبح يقارب أن يكون مثلا لطفل الشيطان ثم أخيرا جعل فيه حب الخير للناس والأشياء، فأحب جذع شجرة البرتقال والرجل البرتغالي والمعلمة وذلك الرجل بائع الأغاني وأما كل هذا هل لنا من الممكن عد هذه المشخصات والمعينات والإمكانيات التي حملها هذا النص الروائي الكبير بأدب الناشئة أو أدب الأطفال كما توهما بعض النقاد في الغرب: لا أبدا ؟ فهذا النص الروائي فيه من الوظائف التأثيرية والتقنية الأدائية ما راح يتعدى أعمالا حائزة على جوائز كبرى بالجزاف.وعلى الرغم من المساحة المحدودة التي حاولنا فيها في دراسة مقالنا هذا للرواية، فلا أكيل لنفسي إلا باللوم واللائمة لأنني لم أكتب عن هذه الرواية والروائي والمترجمة الرائعة الأستاذة أيناس العباسي، إلا ما لا تستحقه منزلة ومقام هذه الدلالات الكبرى الناتجة عن تعالقات ومضمرات وجماليات هذا النص الروائي الفذ.

***

حيدر عبد الرضا

في المجموعة الشعرية (فراديس إينانا) للشاعر يحيى السماوي، سنطوف ونحلق عالياً في فضاءات شعرية الى فراديس الملحمة الخالدة (كلكامش)، تلك التي ثبتت في الأرض، ليستلهم منها الشعراء، عالمهم الرحب، ونكون مع إينانا إلهة المطر والخصب والحكمة والحب والجنس في ملحمة (كلكامش)، ومع أنكيدو، وأنليل وخمبابا، بل إننا سنكون مع حضارة اوروك، ومعالمها البهية، حيث يغوص الشاعر عميقاً، في هذه الفراديس، مع نفحات إيمانية من وحي القرآن الكريم، ومع الحياة بكل تقلباتها، على أرض الحب والجمال، بلدنا الحبيب وهو ينوء يثقل كاهله بحمل كبير، فقد تمكن الشاعر ومن خلال هذه المجموعة، أن يتفاعل مع هذه الرؤى الفنية، فيصنع لنا قصائده الشعرية، وهو يستمد من لغة القرآن الكريم، ولغة الملحمة الشعرية، ودورة الحياة في البلد وما يحدث، والحب الخالد، وسني العمر التي ترحل سريعاً، ليجعلها مفردة شعرية مركبة، ثم صورة استعارية تنتمي لهذه التفاعلات، لتكون قصيدة شعرية ملونة تدور وتتمحور مع حضارة البلد، وكأنه يسحبنا من عالمنا الى عوالم تلك الفراديس، ونطوف في اوروك، وشخصيات الملحمة، كل حسب دوره ومكانه وما قدم فيها، لكنه يستحضرهم ليؤازروه ويساندوه ويكونوا  معه، وهو ينوء بالكثير من الأحمال التي تدفعه لرسم ملامح قصيدة شعرية، ذات أكثر من بعد وأكثر من رؤية وأكثر من صورة، فلم يكن الطواف في مدينة أوروك  إلا صرخة احتجاج لواقع فقد الكثير من الجمال، والخير والأمان والحب والطمأنينة والسلام والأمن، وهو يذكرهم ويذكرنا بأن العمر عبر السبعين، وبات يرى كل شيء بشكل أنضج، وغدا الحس الشعري الذي يمتلكه يحلق في الفضاء الى أعمق ما يحتاجه الشاعر من معانٍ تلهب النفوس، وتثير المشاعر، وتشحن الذهن بقصائد ناضجة مشحونة بسحر الكلمة التي انطلقت من شاعر خبر الكثير من خباياها، ولم يعد يكتب  إلآ الشعر ولا يعيش  إلآ له، وهو يقدم لنا هذه التجربة الجديدة والحديثة، بكل ألوانها، وعملية بنائها المغاير والمختلف، وهو يستمد جمالها من كل شيء مكث في الأرض، وظل خالداً ولا تمحوه الازمنة، ويظهر التأثير واضحاً في تلك القصائد، في تكوينها وتشكيلها، كونها طوافاً  في هذه الفراديس، وهو يقدمها بروحها ولغتها وسر خلودها.3758 فرتيس اينانا

في قصيدة (هبوط إينانا من عالمها العلوي) يقدم لنا الشاعر هذا التفاعل الذي يضفي على جمال القصيدة سحرها الأخاذ، إذ أن إينانا تهبط لترى وجه الأرض المتناقض القبيح، وتبوح بسر جمال فردوسها الازلي، وانوثتها المبهرة:

هَبَطت من بُرجها العلويّ إينانا

احتجاجاً

ضد أنليل وما يكنز من تبرٍ

ومالٍ وقيانْ

*

ورياشٍ في رحابِ " المعبد الأخضر"

في وادي اليتامى..

والمُرائين المُصَلْينَ أمامَ الناسِ

جهراً

ووراءَ السورِ مانال امرؤ القيس من اللذاتِ

زادًا وكؤوسًا وقصورًا وغوانْ

وتستمر القصيدة في انثيالاتها الشعرية الحالمة الشفيفة لتأخذنا الى جمال اوروك وسحر النساء فيها، وفي نهاية القصيدة، تشير الى وجه الاختلاف:

فلماذا أصبحوا الآن كأسنان التماسيحِ

وقد كانوا كما أسنانُ مِشطٍ

ما الذي صَيَّرَ أوروكَ جحيماً

بعدما ما كانت جنانً؟

*

حانَ وقتُ الفصلِ بينَ الصدقِ والزيفِ

وبين اللهِ والاصنامِ

حانْ

وفي قصيدة (الماء أحرقني فأطفئيني بلظاك) يقدم لنا الشاعر طوافاً آخر في فراديس أوروك، وغاباتها ومتاهاتها، وسط الضياع الذي يكسوه، وهو يناجي معشوقته متلهفاً لرؤيتها، مشتاقاً لكل ما فيها:

مُتعثّراً بخطايَ جئتُكِ

هارباً مني إليكِ

دخلت ليلَ الغابة الحجريةِ الأشجار

أبحثُ عنكِ

لكنْ

ليس من أثر يقودُ إليكِ

فالليل البهيمُ

أضاع خطوي عن خُطاكْ

وتستمر القصيدة نحو هذا المحتوى حتى نهايتها، وفي قصيدة (الامتلاء فراغاً) نجد هذه التراكيب الفنية المستحدثة تتفاعل وتنصهر في بوتقة واحدة، لتعطينا صورة مغايرة لحياة اوروك، وتنقل لنا الحياة الجديدة وانقلابها:

لستُ أدري

أيًّ ربٍّ أتّقيهْ

كاهنُ المعبدِ لصِّ

ووليُّ  الأمرِ دجّالٌ..

وكلًّ يطلبُ البَيعةَ في أوروكَ..

كلكامش باعَ السور أصهاراً

وأضحى قارئُ الفنجانُ والكفِّ فقيهْ

//

فإذا السارقُ قاضٍ

وإذا النُّكْرُ وجيهْ

//

وإذا بالشمسِ تستجدي من الفانوس ضوءاً

ليس ما يملؤني إلآ فراغُ القلبِ

ممن يَسْتبيهْ

ونكون مع رحلة السبعين عاماً في قصيدة (جفاف بعد سبعة أنهار وسبع سواقٍ) ويكشف لنا الشاعر في هذه القصيدة تداعيات الرجل الذي تجاوز السبعين، وآثار السنين على رحلة عمره، ونقرأ في موطن من هذه القصيدة:

كل ما أعرفهُ

أني أخيذُ الغابةِ

الصَّبُّ الفراتيُّ الذي جاوز سبعينَ

ولا زال غريراً

عَقَدَ الألفة بين الظبيِ والذئبِ

وبينَ الماءِ والنارِ

المُصَلَّي الرافعُ الكفَّينِ يدعو

للعصافيرِ بقمحٍٍ

وبوردٍ للفراشاتِ وبالأطفالِ للعاقرِ

والجائعِ بالخبزِ وبالأمنِ لقومي

والصحارى بالمطرْ

أما قصيدة (كُنا... فصرنا) نكون برحلة مع العمر حين يمضي، تغدو الذكريات اطلالاً وماضيا، ولا شيء سوى المناجاة والتداعيات:

مضى ما كانَ يَجمَعُنا فأمسى

بمقبرةِ المُنى والعشقِ رمسا

*

فما عُدت المُطلَّ عليَّ بدراً

ولا عُدتُ المُطِلَّ عليكَ شمسا

*

وكنا في الوئام ندىً وورداً

وكنا في اللقاء فماً وكأسا

وفي قصيدة (عتمة) نكون مع هذه التفاعلات، وهو يقدم لنا مدينة اوروك بقصيدة قصيرة، اوروك الآن وكيف أضحت، وليس اوروك الحضارة:

أوروك لا شمسٌ ولا نجمٌ..

وكهفي دونَ نافذةٍ..

وبستاني بلا شجَرٍ..

ولا من سامرٍ فيشدُّ من أزري

//

أما لليلِ في أوروكَ

من فجرِ!

وهكذا نكون قد طفنا بعالم الشعر الحديث، للشاعر يحيى السماوي، ونحن نختار جزءًا  يسيرًا من مجموعته الشعرية (فراديس إينانا) التي ضمت العديد من القصائد بكل أنماطها، وأنا أشعر بغبطة إذ شعرت بأن الشعر لازال عراقياً.

***

يوسف عبود جويعد

....................

* من اصدارات دار الينابيع – طباعة ، نشر، توزيع لعام 2022

للقاص السوري د. محمد ياسين صبيح

خروج

(كلّما خرجتُ إلى فضائي متسلّحًا بفكرةٍ ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..

وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..

مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...)

***

1- ديباجة النص:

هناك عدد من الدلالات السيمائية التي ألقاها القاص في نصّه، منها:

فعل الخروج، الفضاء، الفكرة، المعطف أو الرداء، المطر، الجسد (بعضًا مني)، الجيوب، فعل التخبئة، فكرة جديدة، فعل العودة، البيت، العري..

في هذا النص يشير الكاتب، في فعل الخروج إلى الفضاء والعودة إلى البيت، إلى الإنسان كمخلوق سجين بين الولادة والموت، فالخروج ولادة، والفضاء حياة حرة، والعودة إلى البيت والعري موت في قبر.

الجيوب هي عقلُه الذي يحوي بنات أفكاره، ومخبأُ كل ابتكار يبدعه هذا العقل، ويستهلكه الجسد، فالجيوب عندما تمتلئ بالأفكار، تثقل رداء الجسد الذي يواكب الإنسان، في لبسه كلما خرج، وخلعه كلّما عاد، بمعادلة معروفة:

لبس الرداء - خروج

خلع الرداء – رجوع

والخلع واللبس يشير إلى العمر الإنسان الذي يملك عقلًا وجسدًا، يخبئ أفكاره بجيوب ردائه، يخرج نهارًا يرتدي معطفًا يظن أنه يقيه مطر الأفكار الخارجية، ولكن جيوب معطفه تمتلئ بها رغمًا عنه تزاحم أفكاره الجديدة، وعندما يعود ليلًا إلى داره يستجدي الراحة ينزع عنه رداءه، ويضيع منه، كما تضيع الفكرة الوليدة حينما نخفيها ونعجز عن تذكّرها وتذكّر مكانها، فيغدو عاريًا من كل فكرة كما جسده العاري المتخفّف من كل حمل.

وكلّما كان الإنسان في مقتبل العمر، كلّما كان قويَّ الجسد حرَّ التفكير، ثريًّا قادرًا على شراء أردية كثيرة، تلائم الأفكار المنهارة عليه كالمطر، ومع تقدّمه بالعمر يتكرّر فعل الخروج والعودة، اللبس والخلع، الكسب والفقد، الثراء والفقر، إلى أن يصل إلى مرحلة يفقد فيها القدرات الإيجابية جميعها، ولا يملك إلّا الضدّ السلبي وقبر يلجه بجسد ضعيف زالت أرديته إلا من كفن، وعقل ذاهل تبدّدت منه الذاكرة والعلوم والأفكار، وتعرّى من الوعي والإدراك.

2- التحليل الدلالي الإيحائي:

- الدلالة الأولى: ( كلّما خرجت إلى فضائي متسلّحًا بفكرة )

يشير القاص بفعل الخروج إيحائيًّا إلى أن الإنسان حينما يخرج إلى العالم الخارجي يرتدي ملابس، فما هي هذه الملابس؟ هل هي الملابس التقليدية؟ لم يقصد القاص هذا المعنى إطلاقًا، وإنما قصد المعنى الإيحائي الذي يذهب إلى اعتبار ملابس الإنسان هي عقله، الزينة التي زيّنه بها رب العالمين، فإن كانت الملابس زينة البدن فإن العقل هو زينة الإنسان ككينونة مكرّمة عن سائر مخلوقات الله، هذا العقل هو جيب ووعاء الأفكار التي تنزل إليه كمخلوق مكرّم، فيها يقاوم أفكار الغير، بمعاندة كبيرة، وحرص أكبر على الاحتفاظ بملكية فكرته.

- الدلالة الثانية: ( ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..)

هنا يشير الكاتب إيحائيًّا إلى أن الإنسان، مهما حاول أن يقي نفسه من أفكار الغير، وتحصّن بدرع أو معطف مضاد فلن يستطيع أن يمنع تلك الأفكار من الهطول، كما لن يستطيع بمعطفه الواقي أن يمنعها من اختراقه، ستجد مكانًا لها في جيوب معطفه المفتوحة، وستنافس أفكاره المخبوءة فيها، وقد تطردها، حينما تمتلئ فلا تستوعب الكثير، فيقع ما فاض منها، والغالب أن الفائض هو تلك الأفكار الذاتية الخاصة المخبوءة، التي يكون مصيرها الفقد التي هي بضع من صاحبها، ويطال الفقد أيضًا بعض من أوعية عقله.

- الدلالة الثالثة: (وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..):

وهي تشير إيحائيًّا إلى أن الإنسان عندما يرتدي ملابسه، إنما يرتدي أفكاره، وحينما يتقدّم بالعمر، تغدو السنوات هي الأردية، وكل رداء منها يخلع جزءًا من أفكار الإنسان في عقله وقوّته في بدنه، والأفكار حينما نخفيها أو نخبّئها سنفقدها حتمًا، فهي خُلقت لتظهر للعيان، لتفيض عن أردية الغير بقصدية النماء، الفكر الجديد هو علم مفقود إن لم يُنشر ويعمّم.

- الدلالة الرابعة: ( مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...):

الرسالة النص: سنوات العمر أردية متناقصة بتوالي الخلع، مع كل خلع يفقد الإنسان جزءًا من الكل، حتى يضحي عاريًا من الفكر، متجرّدًا من القوة، مسلّمًا نفسه إلى مدير سجن الموت، نهايته القدرية المحتومة.

3- التحليل النقدي الذرائعي:

وفق المستويات التحليلية الذرائعية التالية:

- المستوى المتحرّك:

حمّل القاص نصّه العديد من الحمولات المختلفة بنوعيّتها:

1- الحمل الفلسفي:

للقاص فلسفته في قضيته كإنسان، فهو يرى نفسه سجينًا بين الولادة والموت وفقط، وكل ما يحصّل من مكاسب في الحياة، من قوة مادية بدنية وأفكار وقدرات عقلية، تنتزعها منه السنوات بتقدّم العمر، وهكذا في البداية تبدو السنوات مقبلة باتجاه النماء، ثم يدير العمر وجهه، فتبدأ السنوات باسترجاع ما أعطت، فتسلب منه القوة والإدراك، وعندما تجرّده من كل ذلك، تدبر الحياة باتجاه الموت، النهاية التي لا يختلف عليها ضدّان.

2- الحمل الرمزي:

بنى القاص قصته بتكثيف موجز رمزي مغلق، أشار له برمز (السنوات)،وجعل السنوات بوجهين، وجه أبيض ووجه أسود، الأول اتجه باتجاه الولادة، والثاني اتجه باتجاه الموت، ودعّم العنوان ( خروج) فعل التوجّه.

3- الحمل الإيحائي الذرائعي:

كان هذا الجمل أو الجانب واسعًا، والدليل أنه كتب قصته الطويلة كإنسان عبر بالحياة بكلمات موجزة، ويعني ذلك أن النصف الثاني غير المرئي من الدلالة ( الإيحائي الذرائعي)

كان، إيحائيًّا، ممتدًّا إلى ما لا نهاية من احتمالات تأويلية، ويستطيع المحلّل تحميله باحتمالات كثيرة أوجزنا منها الولادة والموت، وأترك الباقي للمتلقي.

4- الحمل الاجتماعي:

قدّم فيه رسالة مفيدة، مؤثّرة، عن مسيرة الإنسان الواعي، والتأكيد على الاستفادة من المعرفة المتكاملة، وطريقة إيصالها للناس دون تبذير ولا تفريط.

- المستوى السيكولوجي:

في هذا المستوى، تقرّ الذرائعية أن أصل كل فعل وقول يجريه الإنسان، إنما يتأتّى من دواخله السيكولوجية، بأوامر تصدر أحيانًا من اللاوعي، وأحيانًا من الوعي نفسه، فالأوامر الصادرة من اللاوعي هي نتاجات حتمية تستقرّ في رأس قلم الكاتب، لا يستطيع التخلّص والتملّص منها بسهولة، إلّا إن كان واعيًا ومتمكّنًا من قدرته على هذا التملّص من سيطرة النفس.

أمّا الأمور النفسية والسيكولوجية الواعية فهي تصدر عن رضى نفسي بالتضافر بين الوعي واللاوعي لسيطرة الضمير كموجّه حتمي للتوازن الانفعالي للفرد.

والقاص، في هذا النص، كان منطلقًا من الجانب النفسي الواعي، حيث كتب عن التجربة المعاشة فقط، وحكّمها بالمنطق الذي أقرّ الواقع المعاش، ولم يتطرّق إلى ماوراء المعاش، مقصيًا جانب الغيبيات، ما قبل الولادة وما بعد الموت.

المستوى الأخلاقي:

إن أقرب عمل إجرائي يقوم به الإنسان هو العمل الإيجابي، ليكون هذا العمل في متناول الأخلاق التي تقود الإنسان باتجاه الخير ومجافاة الشر، والأديب هو خير أداة بيد الخير، معول لحفر قبور الشرور والأشرار.

والقاص، في هذا النص، مسنود على رسالته الأخلاقية هذه التي تدعو أفراد مجتمعه نحو الإفادة من علوم الحياة، وزرع أفكاره الخيّرة فيها، ولو أكلت الحياة عمره وقوته وعقله، يكفيه أن يغادرها مؤثّرًا فيها، عابرًا إلى حتمه تاركًا تركته من العلم لأجيال سيعبرون في الحياة متسلّحين بما تسلّح به، والسلاح قوة، فالأفكار والعلوم وُجدت لتُنشر لا لتُخبّأ، وهي قوة مضافة، هكذا تُبنى الأمم.

المستوى الجمالي:

امتازت هذه القصة المكثفة الموجزة بإطناب السهل الممتنع، وحمولة الدلالات الإيحائية الأربعة، ما أكسبها جمالية إيجابية أعطت جوانب برّاقة كما نراها منعكسة بجمالياتها فوق بياض الورق.

أحيي القاص الدكتور محمد ياسين صبيح على هذا النص القصصي المكثف الموجز المائز.

***

بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

سرد بصوت الكاتب، وهو ينطلق من عمق مرابع البادية في ترحال بين الشمال والهضاب العليا، ترافقهم الخيمة ومواشيهم.

 كنت أجلس مع المؤلف واتنقل وأسيح في البادية، واعشق وأكره، وأفرح بنجاحاته التي تولد من رحم المعاناة والتحدي وأحزن لضياع فرص جميلة يشاء القدر أن لا تكون لحكمة كونية تظهر نتائجها من خلال النص المسرود.

الكتاب بعنوان حَدِثُ القُبَرَة، هذا العنوان الإيحائي يخلق مطابقة بين النص وشخصية السارد وبيئته فالقبرة ذلك الطائر المعروف بأنغامه العذبة، والذي ظهر في العديد من الأعمال الأدبية فرُمِز به إلى الفجر، فوجدناه كثيرا في كتب التراث والأساطير المختلفة لكن في مسرود سعدي صباح كان مرافقه رفيقا لأنه يكثر في بيئته الشبه صحراوية، فهو يسمع زقزقته في ذهابه وإيابه، أثناء لعبه وصيده، وكثيرا ما يجد أعشاشه في الارض، كان المؤلف يريد أن يرفرف مثله في السماء يصطاد أحلامه التي تزاحمت كنجوم السماء، يعتبر هذا الكتاب وصف لأعماق النفس البشرية وما يكتنفها من انفعالات وعواطف كتحدي الفقر، التخلف، الجهل والسعي للخروج من هذه البوتقة بإمكانيات جد بسيطة من عالم الاشياء تنتهي به إلى التألق والنجاح،كما أنه كان يغوص في الأرواح الطيبة من أهل البادية رجالا ونساء فيبين أجمل ما فيها من الخير والإحسان، تعلق الشاعر بالمرأة منذ مراهقته الأولى، كانت تعلمه وتدفعه ليتعلم أكثر، ويلبس أفضل، ومن العجائب كان يمر بإخفاقات فهو شاعر عاشق للفن بالفطرة، كان يجري خلف الجمال الذي يهبه الله حتى لا أقول تهبه الطبيعة لمخلوقاتها من فتيات أو صحراء، أو تلال، أو مروج. المؤلف يحب الجمال إلى حد بعيد، ينقله في روحه،ودمه ثم ينثره حروفا تغني وترقص،كان رومنسيا وسرياليا إلى حد بعيد، يصف نفسية الشخصيات التي مرت معه كما يفعل الاديب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواياته المقامر، في قبوي، كان يصف الكريم حتى تحب أن تراه والابله حتى تمقته والحسناء حتى تحلم بها، يحكي عن نفسيات كثيرة متجردا من كل العقد بلا تهور أو قلة حياء عن امه. ما أجملك أيها الكاتب الرائع سعدي صباح نسمي هذا النسق بالجانب السيكولوجي.

أما النسق الثاني بلون آخر فيحمل كما هائلا من لوازم بيئته البدوية وأشيائها وأعمالها، من حيواناتها، نشاطات الموالين والفلاحين والمرتحلين الباحثين عن الماء والكلأ، عن المدن المعزولة من قبل الاستقلال إلى بعد الاستقلال ثم الزمن الثالث بعد زلزال الشلف وظهور التدين منه ما أفاد ومنه ما أستعمل في غير مكانه فكانت المنطقة ممرا لجحافل الإرهاب في الاخير زمن الرئيس بوتفليقة وما وقع فيه من وصول المفسدين لمراكز حساسة.

لو سألت اليوم واحد من الشباب كيف كنا نعيش ثقافيا واجتماعيا قبل الاستقلال أو في السبعينات فلا يعرفها لنسمي هذا السياق بالبعد الاجتماعي وهو بهذا البعد يكون قد ساهم في نقل التراث نقلة عجيبة ليس بمجسمات طينية من قلال وترس (شواري)، ومنجل، وأسماء الأشخاص، والخيمة الحمراء التي تميز ولاد نايل، أما السوداء تمثل عروش بني هلال وكل هذا يسهل الدراسة الأنثروبولوجي لحركية هذا الانسان في هذه السهوب والتلال هنا التراث يتحرك، يتكلم، يجري، يجلس، يغني ويرقص.

النسق الثالث يحمل بعدا تربويا وثقافيا، أما التربوي فالمؤلف نقل لنا صورة رائعة لمراحل تطور المدرسة الجزائرية عامة في مناهجها، وبناياتها، وتلامذتها ومعلميها، أيضا يحكي عن حالة التدريس قبل وبعد الاستقلال في تلك المنطقة مصورا فيها.

كل شيء المدرسة كفضاء يتطور من خيمة إلى تراب إلى بناء، التلميذ، تعلم المرأة في الريف، المعلم وتنقله، المديرين، المفتشين، الكل بمحاسنهم ومساوئهم ....

أما الشيء الرائع في حديث القبرة يحكي تطور الأدب خاصة وفنون أخرى من شعر بأنواعه وقصة ورواية بطريقة فنية أتمنى أن يدرس هذا الكتاب في مختلف الكليات الأدبية، الاجتماعية، النفسية. فهو مرجع رائع جدا. كأنه دليل سياحي لهذا الجزء الجغرافي السهبي الخلاب.

نتفاءل بأن مستقبل الجزائر الجديدة في جنوبها، أكثر من شمالها وليس هذا في المورد النفطي، بل كل الموارد من الطاقة البديلة، إلى الذكاء لدى هذا الإنسان، إلى كل ما في هذه البيئة من كائنات حية..

***

كتبه الشاعر رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

ذياب مهدي محسن آل غلام، من مواليد العراق، الشامية 1952م، فنان تشكيلي وكاتب وشاعر، وعضو جماعة فنانين النجف 1970م، وعضو نقابة الفنانين العراقيين 1975م، وعضو جمعية التشكيليين العراقيين 1975م، عضو جماعة أدب في النجف 1975م، وعضو جمعية حقوق الانسان العراقية-الأردن2002م، وعضو اتحاد ادباء وكتّاب العراق، ومشارك في الكثير من المعارض التشكيلية داخل القطر وخارجه، وله ثمانية عشر معرضاً تشكيلي شخصي ما بين 1970 – 2009م، وعضو اتحاد شعراء ملبورن/استراليا، وحائز على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية؛ فنية وأدبية.

وله مجاميع شعرية صادرة، منها: (قطار الشوق (2ج) الصادر في عمان عام 2001م، حبايب ديوان شعر، حياة الأيام ديوان شعر، ليالي البنفسج الصادر في عمان عام 2002م، من سيرة الأيام الصادر في عمان عام 2004م، القرمطي لا يخلع صاحبة الصادر عن دار الفرات، سونيتة الغجر الصادر عن دار الفرات، المشي على أطراف الروح الصادر عن دار الفرات عام 2018م، عاشق مضرج بالنهد الصادر عن دار الفرات عام 2019م). فضلاً عن مؤلفاته (مقهى عبد ننه.. عن تاريخ النجف النضالي في الفكر الصادر عن دار الفرات في بابل عام 2018م، الإسلام والماركسية.. دراسة فكرية مقارنة الصادر عن دار الفرات عام 2017م، القرنفل الشقي.. أوراق من سيرة الأيام الصادر عن دار سما عام 2021م) وكتب العديد من الدراسات الفكرية والمقالات الأدبية والثقافية، ومقالاته التي تجاوزت (270) مقال على مواقع الكترونية وصحافة ورقية في مجالات متنوعة.

الحوار مع الشاعر ذياب مهدي آل غلاب يفسح المجال ويخصبه للنبش والحفر وتقليب أرضة القصيدة، لمعرفة عمقه بقصيدة النثر، وتجربة الشاعر ذياب تشكل بمجملها ظاهرة أدبية في حركة الشعر المعاصر في قصيدة الغزل، فديوانه الأخير (وشم على رئة التراتيل أناشيد تعتقها المنافي) الصادر هذا العام عن دار الفرات في بابل بالمشاركة مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع، وقد تضمن (59) قصيدة عشق للقرنفل الشقي ذياب آل غلام، جميعها تتحدث عن سيرة حياة عاشق، قرمطي النزعة والفكر، قديس اشبه بالملاك، يمتلك قلب طفل مدلل ومولع بالعشق الفطري. أول القصائد كانت بعنوان (استهلال)، تُشبه في اسلوبها تراتيل عاشق عاش أكثر من عقدين في الغربة وهو يحن إلى ظفائر حبيبته الأولى. وكانت مقدمة الديوان بقلم ابنته الدكتور (هلا) تحت عنوان (خطوة في الدرب... نحوك): قصيدة سومرية، أول معزوفةٍ سمعها البشر، زهرة رقيقة في قمة جبل، ماؤها ورحيقها... راهبة في محراب أنسها الوحيد أن تتلو ترانيم وتراتيل طفولتها وكأنها عزف منفرد على وتر اليقين)، ثم تختم الدكتورة المقدمة بكلمات رقيقة: (فلو كان للقلب فن يمارسه لكان الشعر والعزف... فكل قصائده وموسيقاه في صوتك وعينيك).

واللافت لمن يقرأ قصائده في ديوانه الأخير يجد أن قلب الشاعر يخفق بعشق المرأة، ويقترب في أكثر قصائده من قلب النساء. فهو المبدع الحقيقي، والشخص الحساس والمغترب برؤاه وأفكاره وطموحاته وأحاسيسه القرمطية، وله طقوسه الخاصة، وأحاسيسه المشبعة عشق وغربة، ووعياً وإدراكاً، وتوتراً واحتراقاً، وحرقة وتأمل، فهو الشاعر الذي يختلف في نص قصائده عن الآخرين في فاعلية تأثيره في وسطه الأدبي.

عرفته منذ عام 1988م من خلال الخدمة في العسكرية، انساناً شفافاً، مخزون بالإبداع والثقافة والموهبة، يمتلك ركيزة معرفية وثقافية حساسة، وهو الأكثر تأثراً وإحساساً، وبعد أن فرقتنا الأيام بعد الحروب والحصار الاقتصادي على العراق، كان لموقع (الحوار المتمدن) الفضل لإعادة علاقتنا الأخوية، بعد أن عرفت أنه مقيماً في استراليا، وقلبه ومشاعره ترنوا لأحداث بلده بعد الاحتلال الأمريكي، ومن ثم زياراته المتكررة للعراق، والإقامة لأكثر من ثلاثة أشهر في كل سفرة، فعاد تواصلنا وحواراتنا بين الاتفاق والاختلاف.

وهو المبدع المغترب المستمر في حركة دائبة من الحراك الشعوري، والصدام مع الواقع وتحديه، والتمسك والتسلح بكل ما يحمله من روح الجديّة المعاصرة، واللجوء إلى الموروث للإبتكار. وما من شك في أن للرموز الوجدانية نجدها في نصوص الشاعر بحركتها المؤثرة في لغة الحداثة النثرية في قصائده عموماً، وهو الشاعر الأكثر احتفاءً بالرموز في نصوصه، إذ يخلقها خلقاً جديداً، ويمنحها الشفافية والعمق، والحركة والإيقاع، وقد لا نذهب بعيداً في قولنا: إن ابتهاله الهادئ يميل فيه إلى عمق المكاشفة والتأمل، كما في قوله:

ها أنا في الغربةِ وحدي

تحتَ عبءِ الهمومِ

أتلمّسُ نبضَكِ،

ضفائركِ

يا لحظةً جميلةً في ذكرياتي

***

أبحث عن سماءٍ تسقيني

غيثَ السلوانِ لروحي

ثم أغمضُ عيني

لأعانقَ أحلامي

هنا يطالعنا الشاعر برموزه التي تكشف عن إيحاءاتٍ عميقة، من حيث الابتكار والشفافية والعمق، فهو يبتدع رموزه ودلالاته، ورؤاه الخاصة بعيداً عن مسالك السالفين، فهو الشاعر الذي يفاجئنا بأنساق تشي بالدلالة العميقة، والإيحاءات المبتكرة التي لم نعهدها من السابق عبر حركتها الرمزية المشتعلة قوة، وإيحاء وشفافية روحية وجمال روحي مفتوح الرؤى.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

25/11/2022

 

مبدئيا فالعنوان ليس خـدعة أو نوع من الإثارة؛ بل هو بمثابة مدخل لما أود خطه في هاته المقالة؛ التي تجنح تارة نحو الذكريات وتارة نحو النقد للمشهد عامة؛ وتارة هي هلوسات في أفق عوالم الرقمنة؛ إذ في لحظة النشوة تساءلت لماذا لم تحظ التمثيلية الإذاعية بالمتابعة والنقد والمتابعة عندنا؟ هل نقاد المسرح لا يعنيهم  الموضوع أم كانوا لا يتوفرون على مذياع؟ لكن ما هو مثبت تاريخيا ليس لدينا [نقاد] بالمعنى العلمي/ الأكاديمي/ الاحترافي/ وأبعَـد من هذا كنا ومازلنا لا نتوفر على صحف فنية (مختصة) ولا على ناقد فني؛ وإن حاول في زمان (ما) المرحوم علي الهواري وعبدالسلام السفياني ومحمد الطنجاوي و... لم يستطيعوا تأسيس نهج أوتوجه  كما هو الشأن في الشرق  سواء مصر/ سوريا/ العراق/... ومجلاته كالموعد/ روز اليوسف/ صباح الخير/المصور/ فنون/ الكواكب/ الإذاعة/ الشبكة/... -.../

ربما أحد جهابذة "اللغـْو" سينط  كالقرد ويشير بأننا (الآن) نتوفر على نقاد أكاديميين! ممكن؟ ولكن في المِشْمش؛ وحسب الأرصاد الفنية، ما أعتقد، والذي أعتقده أن بعضهم لم يستمع في أيامه ولو لتمثيلية إذاعية! (واحدة) والبعض الآخر لا يعرفها!  لماذا؟ آه: لماذا؟ فالذي لا يحضر للعروض المسرحية؛ ويكتب عنها عن طريق (السماع) أو من (تحْـتها) وينسب لنفسه صفة (ناقد) هل سيعرف ما هي التمثيلية الإذاعية؟ هل سيكتب عنها؟ إطلاقا. لأن لا ثم لا: وقت لديهم، لأنهم كانوا ولازالوا متفرغين للفراغ وللبحث عن منافـذ ومنابع للتعويضات بين الموائد أواللجن أودهاليز الصناديق السوداء! باسم الصفة (ناقد)؟

رب عالم في همسه سيقـول: كما يقولون دائما: في الكـَواليس ومن وراء جدران كهوف باخوس. ولما لا يمارس (هـو) ما يدعُـون إليه؟ هكذا يتكلمون! ولا يواجهون! ليس خجلا بل خوفا من ذيول تصرفاتهم ومسلكياتهم؛ إنهم واعون بما يمارسونه على حساب الفن الرابع؛ فن النبل وإنسانية الإنسان؛ بالنسبة لي لم ادخل غمار قراءة التمثيلية الإذاعية، لأنني كنت ضمن فريق إذاعي بمدينتي؛ إن قمت بما يسألون؟ عنه بالتحليل والقراءة لعمل إذاعي (ما) سيقول النمامون والوشاة؛ بأنني مأجور؛ من قلب البناية التي فتحت لي أبوابها للإنتاج منذ عقدين(..) إنها تهمة رخيصة، تلتصق بمن خارج الزمرة؛ أو يميل لاتجاه غير تجاههم، أو عازف عن متاع الدنيا في الحد الأدنى. وأفظع التهم التي كانت:(أنه) مؤسساتي مُمَخـزن، هكذا كان مشهدنا الثقافي/ الفني؛ ومن بين الطرائف التي حصلت ما مرة في زمن الإذاعة، أنني نسقت مع أحد (المثقفين) و(أكثرهم) تحَـدد ميعاد اللقاء والتسجيل؛ صبيحة ذاك (اليوم) اعتذر أنه يرفض الدخول لتلك المؤسسة بدعوى أنها (يمينية) فهل هناك مؤسسة(يسارية) ستقبله؟ والمضحك أنه موظف كان موظفا في أعلى الدرجات في قطاع (...) لن نقول أنه يميني، بل مصدرلرزقه!  مفارقات كنا نعيشها أبهى، وأروع من [التمثيليات الإذاعية] التي كان ينتجها الراحل عبدالله شقرون أوأحمد البصري أو الهاشمي بنعمرأو الطيب العلج عبدالرزاق حكم أوزهور المعمري أو فريد بن امبارك أوحمادي عمور أو حبيبة المذكوري أو محمد عاطفي وعبد الصمد دنيا أو شعيبية العذراوي أوالمحجوب الراجي أوحماد الأزرق أوعبد العظيم الشناوي أو وفاء الهراوي أوزكي الهواري أوحسن الجندي أوأحمد العلوي أوحمادي التونسي أو العربي الدغمي أو رشيدة الحراق أو محمد الرزين أو أحمد الناجي.. والقائمة أطول من عمر من ينسى أن هؤلاء تعلمنا منهم حسن الإصغاء وتوسيع مدارك التخييل وإنتاج الخيال الذي هو عُـصب الإبداع في فنون القول: مي رحمة أو رحلة بن شامة أو حكايات دادا سعادة أونهار الخميس أو الخيمة.. ومن الصعب أن ننسى مسلسل "الأزلية" فكل منا له ألف حكاية وحكاية مع ذاك المسلسل. وحكايتي كانت قبل المسلسل مع المذياع؛ بحيث اشترى والدي رحم الله الجميع. مذياعا من الصنف الكبير؛ زمن صولة المذياع (؟) وشبه انعـدام التلفاز(!) وكان مستحْـوذا عليه في غرفته؛ إنها عقلية الجندية في زمَـن الحَـرب العالمية الثانية؛ فكنت كل "خميس" أتحجج بزيارة جَـدتي في إحدى الأحياء الشعبية؛ ذات الطبيعة الحيوية بالهرج والمرج وطيبوبة ناسها، ولكي أسرق مذياعا صغيرا ل"خالي" الذي كان يأتي من العمل ليلا وفي حالة سكر طافح؛ يساهم في نومه نوما عميقا، تاركا لي فرصة الاستماع للتمثيلية الإذاعية أواسط الخمسينات من ذاك القرن؛ لأعيش منطق السعادة والعزة أمام صوت المذياع! بحيث كان ذهني ينغمس كليا في أجواء تلك الحلقة؛ وأهيم كما تهيمُ البهيمة في بَهـيم ِ الليل، حتى يغلبني النوم وتضيع شحنة البطارية التي كانت على ظهر المذياع، تستدرك جدتي الموقف؛ كل أسبوع. وتخبئ المذياع في مكانه، حتى لا يفطن إبنها بالأمر، وهكذا حتى أمسيت مدمنا كالبقية الباقية على التمثيلية الإذاعية؛ وخاصة الأزلية التي استلبت عقول كل الناس صغيرا وكبيرا؛ وأمست الألقاب والنعوت توزع إما بَسْطا أو مدحا أو ذما بين الشباب والنساء وأفراد العائلة والأسر:كعيروض/ عاقصة/ السقرديس/ قمرية / السقرديوس/ عاقلة / رعد/ قمرون/سعدون/ وحْـش الفلا/.../ وأحلى وأبهى لحظات الإستماع للتمثيلية الإذاعية في شهر رمضان؛ إما قبل آذان المغرب في الدكاكين والمحلات للصناعات التقليدية! وبعْـد الإفطار في الغرف والبيوتات! حيث كانت و(كنا) نجتمع للتمعُـن والاستفادة من الحكاية المسترسلة، تلك كانت حكايات واضحة المعاني وشديدة المباني؛ بثراء المؤثرات الصوتية وبأصوات متنوعة ومتلونة لمبدعين أفـذاذ. كأننا في مجالس البصرة أوفي جامعة الزيتونة أو سوق عكاظ أو في جامعة القرويين؛ نعم قرب المذياع! كانت الأسَـر كيفما كان شأنها، تجتمع للتسلية والترفيه أمام فرجة سماعية / بصرية عبر المخيلة؛ والتي كان يطلق عليها "الرواية" انتحالا من الشرق؛ علما أن العمل المسرحي في الأربعينات والخمسينات من الزمن الماضي كان يطلق عليه " الرواية " وليس " المسرحية " إسوة (ب): ألف ليلة وليلة وسيرة بني هلال والعنترية والأزلية  وسيرة بني هاشم والزمردة وهارون الرشيد.. أعمال خالِـدة، ثرية  بشموخ حضورها؛ تمثيليات بحق (كانت) ولازالت حاضرة؛ بطابعها الإذاعي وأجواء الأستوديو الذي يتحول برؤية (الأذن) إلى حمام أو مطبخ أو مخيم أو محكمة أو طريق سيار أو ساحة للوغى (...) عبر خيال مُـعِـد التمثيلية أو مخرجها معية الطاقم التمثيلي؛ الذي له قوى الحضور بالفعل وليس بالقوة. والعجيب أن أغلبها لم يضمحل أو يتلاشى عبر الزمان؛ فتقنية " اليوتوب" وانتشاره أعطى صولة أخـرى للتمثيلية الإذاعية؛ فالذي حيرني؛ في غضون انتشار الوباء وتوقف الحركية الفنية والإبداعية؛ وهنا قولي محصور في بلادي ومحيطي. فلماذا لم يستغل الفنانون والمبدعون تقنية اليوتوب لتمرير أعمالهم المسرحية بأسلوب التمثيلية الإذاعية؟ هل ينقصهم الخيال أم تنقصهم الإرادة أم تنقصهم الإمكانيات والإمكانات؟ سأحتفظ بالحيرة لنفسي: ونقول لا هَـذا ولا ذاك (..) بل كانوا ينتظرون الدعم من الجهة التي عودتهم (الدعم المسرحي) ووقع التهافت والتلاسن والوقفات والاحتجاجات والصَّهلـَلة والهَيْـلـَلة رغم أن فيروس "[كورونا]" كان يمنع التجمعات والتلاصق؛ فاجتمعُـوا على الصندوق (؟)هكذا حالنا! حتى اكتسحتنا على غفلة عـَوالم "الرقمنة" فالرقمنة (الآن) حققت ثورة عارمة عبر العالم الغربي والأمريكي؛ وعندنا تسير حثيتا إلى المؤسسات والإدارات والهيئات.. وإن كانت ظواهر رقمية جَـديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة  مع الحياة الرقمية، فالمسرح والتمثيلية الإذاعية تمركز وتوظف فيها أجواء " الرقمنة" فما السبيل ياترى؟ وكيف يا سادة؟ سيتم تعامل المبدعين؟ الفنانين؟ المسرحيين؟ مع عوالم الرقمنة؛ لتحقيق قفزات ما بعْـد الحَـداثة.....

***

نجيب طــلال

لم يكن هناك في الأدب القديم تركيز على العنوان، ولم يتحوّل إلى حساسية شعرية وجزءاً من بنية النص اللغوية والدلالية، فقد كان الاستهلال والمقدمة العنصرين اللذين يعتمد عليهما الشعراء في شدّ المتلقي، وخلق أفق معين للتوقع، فكانت المباغتة السمعية والدلالية السمة الأبرز للشعر القديم.

اختلف الأمر في الشعر الحديث والمعاصر، فقد استبدلت أو عوضت هذه المباغتة التي كنّا نتلقاها في الاستهلال أو في المقدمات الطللية أو الغزلية بالعنوان. إذ يزخر الشعر الحديث والمعاصر بعنوانات موحية جداً، تكاد تكون لوحة شعرية مستقلة بوحدها، وأصبح مفتاحاً للاستقراء والتأويل، لأنّه يحمل دلالات، ويستشف المتلقي منها إيحاءات، فقد أصبح علامات قادرة على إنتاج علامات جديدة، وتضيئ المناطق المعتمة. فبإمكان القارئ أن يستخلص فكرة القصيدة أو لبّها من العنوان. بمعنى أنّ العنوان يلخّص تجربة النص وعالمه. وتعود هذه الأهمية، وهذا الوعي الشديد باختيار العنوان في الأدب الحديث والمعاصر إلى طبيعة الكتابة ومتطلبات العصر والذائقة الأدبية، وهذا ما يجعل من الشعراء والأدباء على نحو عام أن يضعوا عنوانات لقصائدهم بعد الانتهاء من كتابة القصيدة، وليس قبل البدء بالكتابة، فبعد أن ينتهي الشاعر من كتابة القصيدة يبدأ التفكير باستخلاص عنوان من خلال أفكار القصيدة وبنيتها اللغوية.

في الشعر القديم؛ كان الشاعر يرتجل قول الشعر ارتجالاً، أو كانت العلاقة الحضورية بين الشاعر والجمهور، وبين الشاعر وراويه تلقي بظلالها على طبيعة الاستهلال، فكان التركيز فيه على المباغتة والإتيان بأسلوب بديع جديد يجبر المتلقي أو الجمهور على الإصغاء والوقوع في شَرَك القصيدة. ونجد هذا البعد في جميع الأغراض الشعرية القديمة، ولا سيما في الغزل والمديح والرثاء. لأنّ الشاعر كان يريد أن يستميل الجمهور، ويضعه تحت صدمة المباغتة ومن ثمّ إدخاله مباشرة في صلب الموضوع، نجد ذلك في الاستهلالات وفي المقدمات الطللية التي كان الشاعر يسعى إلى التأثير في وعي ولا وعي المتلقي، فيجعله شريكاً في الإحساس والمشاعر، كما نجد ذلك في معلقة امريء القيس؛ حيث الدخول مباشرة إلى الموضوع الأثير للأدب، أعني الفراق، من خلال البكاء:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

بإمكان القارئ من خلال الشطر الأول أو البيت الأول أن يتنبأ بمحاور القصيدة، فهناك حديث مباشر عن البكاء والافتراق والابتعاد والغربة والاغتراب. فهذه المحاور أو الموضوعات هي مغزى قصيدة امرئ القيس. وبإمكاننا تعميم هذا القول على معظم شعرنا القديم من العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي والأموي إلى العباسي والأندلسي.

وتتجلّى حيوية هذه المباغتة في القصائد التي قيلت في مناسبات سياسية أو اجتماعية مباشرة، كان للحضور فيها الدور البارز في إنتاج المباغتة، ويمكننا الاستدلال على هذا النوع من القصائد في تراثنا الأدبي بقصيدة الفرزدق في حق (زين العابدين علي بن الحسين) التي باغت الشاعر فيها هشام بن عبد الملك وأعيان الشام بقوله:

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ

وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

فالعلاقة الحضورية، والمقام الشعري الحيّ ألقت بظلالها على عملية الإنشاد التي كانت عملية مباغتة، احتفظت بحرارتها إلى يومنا هذا. من هنا يمكننا القول إنّ المباغتة كانت العنصر الأهم والأبرز في الشعر العربي القديم، وهي كانت أساس عملية التغريب (Estrangement) فيه، وفق مصطلح الشكلانيين الروس. بل امتدّ هذا الأسلوب الشعري المحكم إلى الشعر العربي العمودي الحديث والمعاصر، كما نجد ذلك بوضوح عند شعراء المدرسة الإحيائية، بشقيها المحافظ والمجدّد، ولا سيّما عند أحمد شوقي، في جميع قصائده، وقد تكون قصيدة (سلوا قلبي) أوضح مثال على هذا الموضوع:

سَلو قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا

لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا

*

وَيُسأَلُ في الحَوادِثِ ذو صَوابٍ

فَهَل تَرَكَ الجَمالُ لَهُ صَوابا

*

وَكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَوماً

تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا

*

وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ

هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا

*

تَسَرَّبَ في الدُموعِ فَقُلتُ وَلّى

وَصَفَّقَ في الضُلوعِ فَقُلتُ ثابا

*

وَلَو خُلِقَت قُلوبٌ مِن حَديدٍ

لَما حَمَلَت كَما حَمَلَ العَذابا

فقد باغت الشاعر المتلقي بالسؤال عن شيء يكون الحصول على الجواب مستحيلاً، فالقلب قلبه، فأنّى للقارئ الحاضر والغائب معرفة المشاعر والأحاسيس والرغبات التي تجيش فيه، ولم يترك الشاعر للمتلقي مجالاً يأخذ أنفاسه، فبادره بأسئلة أخرى، وبيّن له في الوقت نفسه، أنّ العقل فقد اتزانه وهام، لأنّه واقع تحت تأثير جمال باهر، ففقد القدرة على الكلام، وأصبحت العين المعبّرة – بدل اللسان - عن الحال والمقام.

استبدلت هذه المباغتة في الشعر الحديث بالعنوان، فقد أصبح العنوان العنصر الذي يشدّ القارئ ويبهره قبل الدخول إلى عالم النص. ويعود هذا التبديل والتغيير إلى التمدن، والحياة المدنية التي غيرت حياتنا في العصر الحديث والمعاصر، إذ يعيش معظم السكان بالعالم في المدن؛ يعيشون في عالم مكتظ بالناس والأشياء والمؤسسات والعلاقات المعقدة، وأصبحت المدن كبيرة وواسعة، تمتلك تخطيطاً دقيقاً وإدارة عالية الدقة لمحلاتها وشوارعها ودوائرها ومؤسساتها الكثيرة المتنوعة، ولا سيّما المدن الكبيرة التي يقطن فيها ملايين من السكان، فهذا العالم المكتظ والمتشعب يحتاج - في الوقت نفسه - إلى تنظيم، ويتمّ هذا التنظيم من خلال وضع عنوانات رئيسة وفرعية إلى أصغر فأصغر، لأمكنة المدينة وضواحيها، لكي نستدل الطريق ونعلم أين نبدأ وأين ننتهي. صرنا نستعين حتى في مدننا التي نعيش فيها ونسكن فيها منذ نعومة أظافرنا بخرائط – كانت ورقية وتحولت الآن إلى ألكترونية -.

تأثر الشعر الحديث بهذه الدقة في وضع العنوانات المكانية للشوارع والمحلات والبيوتات أي الأماكن العامة والخاصة، فأصبحت العنوانات عملية فنية دقيقة، يقصد من ورائها الشعراء إلى فتح آفاق أمام المتلقي للتخييل والتأويل، فعندما نرى هذا العنوان لـ(محمد الماغوط): (وجه بين حذائين) ستذهب أفكارنا مباشرة مذاهب شتى؛ نجد أنفسنا واقعين تحت تأثير مباغتة العنوان، فنسأل أنفسنا كيف يكون هذا الوجه محشوراً بين حذائين؟!. وقد نسأل أنفساً هل هذا النص نص سريالي؟ أم نص عبثي؟ أم هو نص ينطلق من واقع مجتمع يعاني من الاستعباد؟! ويتألم من الاستبداد، فأهدرت فيه كرامة الإنسان؟ إذ الرأس ومعه الوجه هو رمز لكرامة الإنسان، لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن ضربه، لكي لا يهان صاحبُه. فإذ أهين هذا الرمز فهذا يعني أنّ صاحبه قد أهين، وسحق وغمط الحق من مهده.

وهكذا نجد أمثلة عديدة لعنوانات موحية تباغت وعي المتلقي ولا وعيه للشاعر نفسه مثل: (كلّ العيون نحو الأفق) و (حزن في ضوء القمر) و(غرفة بملايين الجدران)، و(الفرح ليس مهنتي)، (البدوي الأحمر)، و(بدوي يبحث عن بلاد بدوية)، و(شرق عدن غرب الله).

 فعندما نعي أهمية العنوان، يجب أن يرافق وعينا هذا عند دراستنا للأدب وعي بطبيعة الجنس الأدبي. بعد ذلك نأتي إلى دراسة العنوان، وقد يكون المنهج السيميائي أنسب لهذا النوع من الدراسة، لأنّ هذا المنهج يتوافر على أدوات وإجراءات ورؤية واضحة تسعف المحلّل، وتفتح له أبواب القراءة الواعية.

***

الأستاذ الدكتور يادكار لطيف الشهرزوري

جامعة صلاح الدين – أربيل

قراءة سيمائية في رواية إبط السفينة لؤلفها أحمد ختاوي الإعلامي والروائي.. قراءة لمضامينها الجلية، وأنساقها المضمرة، المخفية داخل بنيتها اللغوية واصواتها السردية، يحتاج التشريح إلى آلة التفكيك ليبدو النص قطعا متجاورات بينها أسرار الربط والالتحام أو إن شئت فقل انت داخل النص تفتش في زواياه كأنك في حي تشابهت أزقته تنظر إلى الجدران مستمسكا بعلامات دلالية تسمح لك بالخروج والدخول دون تيه أو ضياع، وضع هذه الأجزاء المفككة على مجهر يبين الكتابة الظل الخفية تمثل اللاوعي الباطني للنص فيها بعد أن صار الوعي ظاهرا جليا في الكتابة الأولى   

عنوان الرواية إذا كان العنوان قد وضع كمدخل يستفز القارئ ليندفع إلى قراءته، أو أحيانا وضع لتسويق المنتوج، أو خدعة تجلب القارئ ليجد نفسه في غير ما طمح إليه وهذا ما أطلق عليه المنفلوطي بخداع العنوانين.

 الروائي أحمد ختاوي في إبط السفينة بدا عنده العنوان هو عمق النص هو القلب النابض لأحداث روايته. إن السفينة تقتضي البحر وتقتضي الإبحار ثم المسافرين على ظهرها وقد تتعرض للغرق أو الارتطام بالخلجان فيصير ركابها بين غارق مات، وناج سلم وبلغ غايته مبتهجا، ومفقودا يعيش أهله على بصيص من الأمل. لكنه هو هنا أضاف علامة غريبة جدا إبط، والإبط هو باطن المنكب والجناح وأضافه للسفينة كأن السفينة حيوان أسطوري يخرج من البحر لينتهي بمن يحملهم  إلى عوالم جديدة أم هي الوسيلة المثلى التي تغير من وجودية

كل من يعلو على ظهرها وهذا ما تغنى به في تلك الأيام (يا الرايح وين تروح تعيا وتولي) نفس الشيء اليوم رحلات إنتحارية تحت أهازيج باللهجة الجزائرية

(ياكلني الحوت وما ياكلنيش الدود أو يا لبابور يا مو نامور أي حبيبي بالفرنسية خرجني من لاميزار)

ما هي السفينة عند أحمد ختاوي؟

هل هي نفسية الكاتب؟ حيث تتعاقب أطياف ووميض أحداث مرت معه وهو يقرأ وجوده في هذا العالم الذي تتصارع فيه الافكار يمنة ويسرة، من ميراث اللوحة والصلصال إلى أفكار سارتر ونتشه، نوال السعداوي سيمون ديبوفوار.

هل هي بوسمغون التي نستشرف من دلالاتها الأنثروبولوجي وهي بلدية من ولاية البيض الجزائر يتحدث سكان بوسمغون بلهجة البربرية، يطلق عليها محليًا "شلحة" أو "تشلحيت"؛ إختلطت بقبائل عربية هلالية وهي مركز الطريقة التيجانية التي أسسها سيدي أحمد التيجاني عام 1782. فيها زاوية التجانية. وفيها المسكن القديم للأديب قبل النزوح إلى مشرية، ثم وهران التي كانت مسقط رأس الكاتب وفيها قضى فترة دراسته وهي ماتزال تحمل حنين الأديب، حيث النخيل شاهد على ما أصاب المنطقة خلال الغزو الإفرنجي من الفقر، المرض،غزو الجراد في أربعينيات القرن الماضي.

التجنيد القهري في صفوف الجيش الفرنسي الحرب العالمية الأولى والثانية ثم العودة بالجراح ولم يتغير شيء، المكافأة دماء خراطة، قالمة، سطيف، حيث الهجرة إلى ماوراء البحر بعد مباركة الكنيسة للقلوب التي تنصرت مقابل إسم وبيت في ليون أو مارساي أو باريس،حيث الجدة ،و الغراب يتابع المأساة ويسرد منعرجاتها وتناقضاتها البائسة، هل ..هل ..هل على وزن عاق عاق صوت الغراب أحد أبطال الرواية ،سيميائية هذا التحول جعل اختيار السارد يقع على شخصيات  خاصة ، لبُعْدها ومستواها الخاص، بغية تحقيقها لذلك البعد االجتماعي أو الفكري وبالأحرى الأنثروبولوجي، الذي وظفت من أجل تحقيقه، بصفتها تمثل المحمول الثقافي والتاريخي للمجتمع البوسمغوني كنموذج لباقي قرى ومداشر ومدن الجزائر المستعمرة وهذا ما يرمى إليه الروائي في توظيفه للشخصيات المشحونة بحمولة تراثية ثقافية ،إن سيميائية الزمن في رواية إبط السفينة جعلت المؤلف يستعمل قسمين من الزمن داخلي خاص بالرواية، وخارجي متعلق بالكاتب والمتلقي، فهناك زمن الشيء المروي وزمن الحكاية، الدال، وزمن المدلول كما هو عند جيرار جينيت في خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، د ط، د ت، ص21.

هذا التلاعب في الترتيب الزمني قد يكون لأغراض جمالية وفنية بحتة. كلما تعددت الحكايات داخل العمل الروائي تعقدت كذلك مشكلة الزمن. فلهذا قام المؤلف بكل جرأة يلعب بالزمن حيث يتحدث مع عمي الطاهر في أمر يعود لخمسينات القرن الماضي ثم يذكر دلالة من دليل عاشه المؤلف في شبابه أو مراهقته في وهران أو سعيدة ثم يعود إلى أبعد من ذلك إلى سارتر و سيمون ديبوفوار أو حتى إبن خلدون وهكذا بدون أن يشعرك بالملل بل يجعلك في أرجوحة زمنية حمل الكاتب هذا الخلق الذي تجري أحداثه فوق عاصفة زمنية تدور فيها السنين العجاف والأمكنة الموحشة والاجساد الموبوءة والأماني المذبوحة الكل مع بعض بما يشبه تورنادو وهو يقذف بقرى كاملة من الأبلاش إلى الروكي في السماء ثم تهوي إلى مستقر للفناء، هكذا فعل السارد أحمد ختاوي بأشيائه، بأفكاره، بحنينه، بمرابعه بالسعي نحو ما وراء بوسمغون.

تستقر الاشخاص أمام سفينة الروائي أحمد ختاوي بين من فضل البقاء في صومعته وصوفيتها وأعرض عن السفينة كالجدة ومشايخ التيجانية، ومنهم من يقوم بصيانة السفينة كعامل يحلم بركوبها والهجرة على متنها ليداوي جراحه مثل عمي الطاهر ومنهم من تجرأ وركبها وفتح بها عالم آخر خسر فيه إسمه ودينه وربح دنياه مثل رومان.

تنتهي الرواية في الاخير بسفينة تحمل من كل زوجين إثنين تجري بها البحر.

إن النضال والحركية تستمر من اتجاه السربون إلى جوامع قرانا ومداشرنا أو ينتقل عزمنا من بوسمغون إلى باريس وفيرساي ليحمل ثورة جديدة كلما تعبت قامت ثورة أخرى تساندهارغم كل هذا، تضل سفينة الرواية تجري إلى حيث لا ندري وتبقى ضفيرة حنان وجوكندا دفنشي والقرش والدلفين الوديع تلعب بهم الامواج، كما يلعب الحنين بالغياب والحضور، ويبقى ديغول يتمنى وعمي الطاهر يتمنى وكل العالم على نفس السفينة الهائمة على وجهها تبيت عند قالوا وتصبح عند قلنا ولله الأمر من قبل ومن بعد.

***

كتبها رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

 

دراسة في عالم روايات أحمد سعداوي،  الفصل الخامس ـ المبحث (2)

مهاد نظري: تعاين الحالات الأجرائية في مقاربات المنهج (السيميوطيقا) جملة من الحوادث والمواقف الزمكانية المحفوفة بالأبعاد الانفعالية والحسية المتعلقة بالذات الناظمة كمحددا منقسما بين (الفاعل المنفذ = العامل المتمثل) وصولا إلى أقصى المكونات في مدار المقاطع والوحدات في تراكيب السطوح والافضية الدلالية (الضمنية ـ الاظهارية) التي من شأنها استخلاص تداولية البنيات الشخوصية والحوادثية في سياقات أكثر تحليلا وتأويلا في العلاقة الدلالية الكامنة في الرصيد المقصدي من وظائف الفصول الروائية.

ـ الزمن تمفصلات وإحالات في مؤشرات المواقع

حاولنا في سياق مباحثنا السابقة في مواضع مختلفة من الفصول الأولى من الرواية، القول بأن خطاب الرواية موضع مبحثنا، تتلخصه العديد من المؤشرات الزمنية اللاخطية أو اللاتتابعية، لذا وجدنا خطاب السرد عبارة عن تبئيرات تبادلية في مشاغل مواقع شخوصية تربطها المواقع المتحولة والتمفصلات الاستباقية والاسترجاعية من معينات مختلفة من وقائع آليات (المتن = المبنى) ومن خلال مستوى ومعدلات العلاقات الوقائعية في زمن الرواية، عاينا بأن زمن الانجاز السردي في حدود تركيزات ذات أبعاد زمنية مقتطفاتية، أي إن العلاقة فيما بين مرحلة سردية وأخرى، تنتظمها مواقع استرجاعية أو استباق داخلي ما من دوافع معينات زمنية فاصلة وواصلة بين (زمن الحكاية ـ زمن الخطاب) امتدادا نحو إمكانية خاصة في تقانات (الصيغة ـ التبئير ـ المسافة ـ المنظور) أي أن جملة العلاقة بين حاضر الواقعة والشخصية بالماضي وحدوثها الدال، تشكل استكمالا في الوحدات اللاحقة المتآتية في أشكال ومواقع لزمن ضوابط أفعال السرد في النص.

1 ـ الأهواء العلائقية في نزوات الزمن المضطرب:

يمكننا الحديث في جملة تفرعات مبحثنا المركزي حول ملامح الامتداد الروائي، وذلك من خلال النهوض بالشخصية الروائية وسلوكياتها وأفعالها وصفاتها ونوازعها من جانب استثمار توجهات عدمية منكفئة على ذاتها بلواحق أفكار مستلبة وأكثر تجاوبا مع غرائبية العبث العدمي. نتعرف بموجب المعاينة القرائية على خطوات وأفعال الشخصية علي ناجي وهو يسعى إلى عملية الانتحار من فوق جسر الجمهورية غرقا في دجلة، وتضعنا هذه الوحدات من مواقف السرد إزاء خيارات عناصر جمعية المنتحرين التي يقوم برأستها الشخصية المحور ذاته. وفي غضون متباينات هذه العملية تواجهنا عدة دوافع كابحة من الداخل الذاتي للشخصية، أهمها (شاعرية اللحظة ـ القلق الاكتئابي ـ عدم الرغبة الجادة في الموت) والدليل على بروز عدم جدية خيارية الموت، إن علي ناجي كان المتواجد الوحيد فوق حاجز الجسر يعبر عن صراعاته الداخلية بالردود الكابحة في جدية الانتحار: (كان يفترض، وحسب الموعد الذي ضربه مع أصدقائه السبعة عشر في جمعية المنتحرين، أن يحضروا ها هنا في هذه الساعة تحديدا.. سيكونون معه ثمانية عشر منتحرا ينفذون غطسة جماعية وأخيرة مع ضربات الساعة الأولى في القرن الجديد. /ص47 الرواية) وضمن هذا السياق نعلم بأن مضمر عملية الانتحار جاءت تلاقيا مع مقتبسات روح الحياة وشاعرية اللعبة الفنية في موقف المنتحر، وليس في جدية أهوال الانتحار موتا حقيقيا. وبانتقالنا إلى مواقف أخرى من السرد، نلاحظ وجود الدكتور واصف أيضا هو ممن أنضم إلى هذه الجمعية الخائبة، حيث نعلم بأن الدكتور واصف كان كمن يقوم بدور المستشرف في دراسة سيكولوجية نوازع الانتحار لدى الشخوص التي تسعى إلى الموت حياتا بشرائط أولية. ولهذا الأمر لا يغدو الأمر شروعا جادا في الموت، بقدر ما يعني تصحيحا في بدء حياة جديدة لعلي ناجي وأولئك المتورطين معه في تجربة الموت الشفوي.

2ـ حدود شعرية الموت إحباط عبور الحدود الجغرافية:

أن طبيعة الكيفية الروائية المتعلقة في موضوعة روايات سعداوي دائما هي مثار نوازع عدمية شخصية أحادية في هدفها الدلالي وسطحية في مدلولها التأليفي. أن سعداوي في أحداث رواية (باب الطباشير) يمارس عبر لسان حال سارده حياة شخوصيه ذات الأشكال الشعبية المرجع والمصدر، لذا تبدو غير واعية بواظائفها الوقائعية:فما معنى أو قيمة شخصية علي ناجي من ناحية اعتبارية كشخصية روائية مثلا؟إذا نظرنا من حيث كونها شخصية تعلن عن ذاتها مرارة عيش الواقع فهذا بدوره ليس من الأهمية إطلاقا، خاصة وإن ثلث أرباع الشخوص في الرواية العراقية والعربية تحمل ذات المعنى المستخلص شكلا؟. هكذا لاحظنا إجمالا بأن أغلب حاصلية شخوص روايات سعداوي، تعبر عن (ذات أحادية؟!) مشغولة في شواغلها الذاتية الشعبية الضيقة والنزقة، لدرجة شعورنا بأن سعداوي غدا يكرر نسخة بطله الروائي في عدة رواياته التي غالبا ما لا تحمل سوى إرهاصات الذات الأحادية الغاطسة في قاع محيطها الشعبي:أنا شخصيا لا أهاجم سعداوي كونه روائيا أبدا، فهو عبر رواياته لا إشكالية ما على أدواته وعدته الروائية، ولكن من المؤسف أن لا ينظر الروائي سوى إلى حدود ذاته وحدها، فيقوم برسمها عبر وجوه أبطاله بألوان وإيقاعات لا تحمل سوى مطالب ذاتية قسرية واضحة في أبعادها الزمانية والمكانية ليس إلا؟. ولو حاولنا الرجوع حينا إلى الشخصية علي ناجي وفكرته في عملية الانتحار، لوجدناها سؤالا بسبب حرمانه العاطفي والجنسي حينا. وهذا الأمر بدوره ما كشف للشخصية ذاتها عن عدولها وتأسفها على نفسها عندما خطرة لها فكرة الانتحار مضضا ، خصوصا بعد ظهور الشخصية ليلى حميد مجددا في حياته: (الأفكار السيئة أحيانا تأتي من عضو ذكري معطل له صلة بالدماغ، قال عمار ذات مرة، ولم يرد عليه علي بشيء. /ص49 الرواية) فالسرد هنا جاء بما يقتضي وحدود ما قلناه قبل قليل. فحدود الشخصية علي ناجي كانت محكومة بوظيفة تعطل جهاز العاطفة الجنسية لديه، وهذا الأمر ما عثرنا على مثله في روايات علي بدر تقريبا، سوى أن الأخير كان أكثر إبداعا وتألقا في تنويع مشاغل شخوص روايته وموضوعاتها، ولا يقتصر على التركيز على شخصية محوره الروائي المتكرر ، وفرز كل تفاصيله بروح المغالاة والافراط غالبا، ولدرجة شعورنا بأن سعداوي يستنسخ نفسه في قوالب شخوصه. ولعل أهم خصيصة في جملة تحولات شخصية علي ناجي ، عثوره على ليلى حميد في منزل الدكتور واصف أخيرا: (حاول علي جاهدا أن يبدو طبيعيا، وأن يحذف من دماغة أي شيء يتعلق بالقبلة القديمة، وأيام التسكعات والنقاشات الحامية/حاول أن بدو منشغلا وغائصا في تفاصيل حياة صاخبة، وما ليلى وعالمها كله إلا صورة شاحبة لا يتذكر تفاصيلها جيدا، أوهكذا أحاول أن يوحي لليلى. /ص66 الرواية) وعلى الرغم مما تحدثنا به بصراحة قبل قليل، ولكن هذا الأمر لا يعفينا من الخوص في ثنائية (الموت ـ الحياة) لدى نوازع الشخصية علي ناجي. حاول الشخصية الدكتور واصف انتشال علي ناجي من محاولته الباهتة في قذف نفسه في أمواج النهر، بعد أن أقنعه بأن هذه الليلة لا تعد في حساب وتقويم القرن الجديد: (أنها ليست ليلة رأس القرن.. حساباتي الرياضية الدقيقة تشير إلى ذلك، وقد أخبرت البقية بالموضوع. ليلة رأس السنة الفعلية بعد ثلاثة أيام، لهذا هم لم يحضروا.. كانت تلك الكلمات القاضية، التي جعلت علي ساكنا وصامتا. /ص56. ص57 الرواية) في الواقع كما تخبرنا الرواية بأن الشخصية علي ناجي حاول سابقا في شتى الطرق أختراق الحدود بين العراق وسوريا ، وبعد فشل عملية التهريب، تمكنت دوريات الحرس الحدودية العراقية بإيداع علي ناجي (قضى ستة أشهر في سجن بادوش الموصل. /ص49 الرواية) وبعد إطرق سراح الشخصية ناجي، عادت إليه كل مظاهر حياة البؤس وكرنفالية الرقص في أدنى قعور الشظف في دركات الفقر والحرمان كحياة راح يصفها سعداوي بحياة الجرذان. أعود لأقول إن الشخصية واصف بعد أن أثنى علي ناجي من فكرة شروعه بالانتحار، أدلى إليه بأفكار غريبة جعلت من الناجي يستسلم كليا إلى مقترح الدكتور واصف بالموت حيا.

3ـ  خيارات الغياب موتا حيا:

وبما أن آلية خيارات الغياب للشخصية علي ناجي ذلك الانفصال المصحوب برغبة الحياة والموت معا، تواجهنا معادلة أن يكون الانسان (حي = ميت) معا، هذا ما جاءت به غواية أطروحة الدكتور واصف إلى إقناع علي ناجي بأن يصرف عنه فكرة الانتحار عوضا عنها بأن يظل بين طرفي المعادلة الضدية على حد سواء. إذا هو تدبرا من الشخصية واصف على حد ما، أو أنها الفكرة الفلسفية التي تذكرنا بمقولة أفلاطون بالموت الاختياري، على أن يبقى المرء حيا وهو في عين التسليم إلى الموت: (هناك أشكال متعددة من الحياة تشبه الموت تماما وربما أقسى. /ص63 الرواية) أو في ما تحدده هذه الوحدة من فرضية مؤثرة في إقناع الشخصية علي ناجي: (افترض منذ الليلة أن علي ألقى نفسه من الجسر، وعش منذ الليلة وكأنك ميت حي. /ص64 الرواية) هكذا تباعا ظل ناجي يواظب على زيارة مجلس حديقة الدكتور واصف، كي يتزود برؤى إضافية في تجربة العيش في جدل الضدين معا (الحياة ـ الموت) من خلال ما يتفضل به الدكتور واصف من أطروحات قيمة، تجد لها اهتماما واسعا لدى أعضاء جمعية المنتحرين. وليس الأمر يتوقف على حدود قناعة علي ناجي نفسه، بل صار يتعدى إلى درجة تخلي سنان ولد صديقه العجوز وجاره الذي كان أيضا من ذوي أعضاء الجمعية سابقا، وهو الآن متحررا من أفكار العدمية والشروع برغبة الموت إطلاقا. طبعا لاحظنا الحجم الذي بذله سعداوي في هذا الشأن من استطرادات أحيانا يتثاقف بها السارد نفسه، ولا تكشف بدورها إلا عن خلفية سعداوي الثقافية الملحوظة في مسار ملفوظات شخوصه فنيا ومعرفيا.

4 ـ من أشباح القبلة الصفراء إلى فضاء الإيروسية القاتلة:

من المؤكد أن سياق فصل (جمعية المنتحرين) له الأهمية في إبراز أوجه الإشكالية الخاصة في حياة الشخصية علي ناجي ، وتجاوزها بذات درجة القلق والضياع الذي كان يعيش تفاصيله من ذي قبل، أي بدءا بمرحلة شعارات الشروع بالموت ونوازعه إلى مرحلة ظهور ليلى حميد مجددا في حياته وما أظهره ظهورها من مأزومية عاطفية كبيرة في تمفصلات هذه العلاقة التي سرعان ما يختفي طرفها الآخر المتمثل بليلى فيعود الطرف الآخر علي ناجي في دوامة سحيقة من التيه والرغبة في الموت: (كانت تحب كعادتها الأجوبة غير المباشرة، واللف والدوران، وألا تنطق بشيء يشبه لغة الاعترافات ـ استمرا على هذا الحال عدة أسابيع، وغادر علي تحفظه السابق وخوفه من إزعاج ليلى ـ كان صوت في رأس علي يخبره أنه يندفع معها مثل فراشة العث التي تقترب من مصباح حارق ـ رافقها حتى شقة أختها ـ تذكر وهو يمسك يد ليلى ويرى إلتماعة عينيها وكأنها تكبت دموعا غامضة لا تريد سفحها في هذا اللقاء، كان أحمق حين فكر بالانتحار، وأن الدكتور واصف أنقذه وهو من قدم له بشكل غريب، هذه اللحظة المميزة. /ص68. ص69 الرواية) أن علامة رجوع ليلى إلى علاقتها بعلي ناجي لم تكن إمكانية دائمة في طبيعة الحد الأقصى من نضوج العلاقة في ذاتها، كما أن تحرر علي ناجي من الموت منتحرا لم تكن إلا فرصة نحو دخوله إلى تفاصيل جديدة من الموت الجديد. لذا فالمعنى في سابقية تلك القبلة الصفراء ما هي إلا تمهيدا في الدخول إلى آفاق مرحلة حميمية من ممارسة الجنس بين علي وليلى، في ظل هواجس قلقة من الطرف المتمثل بعلي بأن خلف هذه الاسترخائية ثمة فاجعة فاصلة من الغياب والفراق من الطرف المتمثل بليلى: (ظل علي ليومين وهو يشم في يديه وجسمه رائحة ليلى ـ تحطم علي تماما،  رغم أن صوت المنطق في عقله يخبره بإلحاح أن الارتفاع الشديد يؤدي إلى سقطة مؤلمة أكثر ـ تقطعت أقدامه من السير على غير هدى في شوارع حي الزعفرانية، يدقق في وجوه فتيات يبدين من بعيد بهيئة ليلى ـ في مزاجه الجديد لم يجد علي في كلام الدكتور واصف أي ترياق أو تعزية ـ كان قد قرر شيئا مع نفسه، فإن كان القدر يلعب معه لعبة ما، فعليه أن يظهر ليلى أمامه ثانية كي يمنعه من الموت هذه المرة. /ص70. ص71. ص72. ص73 الرواية). هكذا يظهر الشخصية علي ناجي داخل أهوال نوبات من الفقد لمحبوبته الزئبقية. فهو كما السابق عاد يفكر بطرائق جديدة لإنتزاع حياته تتمثل في أساليب حديثه في تحصيل موته ومرارته أثر فقده للشخصية ليلى، إذ صار يبتكر علاقات معمقة في وسائل إيجاد الموت، وما كان عليه سوى قيامه بعمليات شبه وهمية كمحاولة التفجير عند أبواب دوائر عسكرية أو رئاسية مثالا، حتى وصل به الأمر أنه غدا ثرثارا ضروسا: (أخذوه بالسيارة إلى مكان لم يكن يعرف ماهو، وابتداء من ليلة القبض عليه تعرف على عالم آخر. /ص75 الرواية).

ـ تعليق القراءة:

لعل من أكثر الأوجه الابداعية والاذحاقية في مفاصل وحدات السرد الفصولية في رواية (باب الطباشير) هو في كيفية الإمكانية على مخاتلة الزمن عبر مسافة (وقائع ـ متواترات ـ مؤثرات تقاطعية ـ إبدالات صيغة ـ الاستدعاء المطرد ـ النسيج المضمر من الداخل ـ نقطة إرتكاز ـالوهم والإمكان ـ الارتداد في الإمساك بعلائق منقطعة وواصلة) لعل ما واجهنا به فصل (المتجول بين العوالم) هو ما يجيز لنا تسميته (الخطاب من الداخل الزمني) أي رؤية العالم ضمن فاصلة من الغيبوبة ومعاودة سرد الأشياء في آفاق من اللاوعي والعشوائية بمجليات الحياة الداخلية المحكومة بزمن غيبوبة الشخصية، لذا بدا لنا هذا الفصل أكثر تأشيرا نحو الفلاش باك الذاكراتي ولكن عبر زمن من اللامعقول وشرود الذهن في نوبات الوقائع اللامؤطرة زمنيا. وهذا الأمر هو ما جعل بدروه أن تبقى مجمل (المحاور الإجرائية بين ـ الفاعل المنفذ ـ والعامل التمثل) أي في حدوث الفاعل المنفذ داخل مبنى من الأمكنة والأزمنة المتداعية في سياق الامتداد نحو الدخول في جولة غيبانية من الوعي الشخوصي الذي أقضى على الشخصية سمة التمثيل بين حقيقة السياق النصي في وجوده حينذاك ـ كفاعلا ـ وبين الواقع الاستيهامي الذي عاشه الجوال الشخوصي كحالة متمثلة في الأطياف الخارجة عن زمنها الحسي الكائن.

***

حيدر عبد الرضا

إرتطامٌ لم يُسمَع له دَويّ، رواية صدرت عن مكتبة أفاق للنشر والتوزيع في الكويت للكاتبة بثينة العيسى، رواية كُتِبَت بسلاسةٍ وبُلغةٍ بسيطة وبتناسقٍ تام بين مُجريات أحداثها، بحيث تجعل القارىء يتلهّف لقراءتها ومعرفة ما تُخفيهِ من تطوّرات. وهي أيضاً بمثابة رسالة من الطالبة الكويتيّة "فرح" بعد عودتها إلى وطنها تتوجّه بها إلى مُرشدها "ضاري" الذي لازمها كمُرافق مُنتدب خلال تواجدها في السويد. فوثّقت فيها يوميّاتها هناك وما شابها من أحداث إعترضتها.

تتطرّق الرواية بلسان "فرح" إلى ما يُمكن تسميتهُ بِصراع الحضارات ما بين الحضارة الغربيّة المُتَمثّلة بِمُشاهداتها في السويد، وما بين ما تكتنزهُ من عادات وتقاليد، وما نعيشه ليس في الكويت فحسب بل في مختلف أقطارنا العربيّة. مُشيرة إلى التفاوت الكبير والملحوظ خاصة في المجال التعليميّ والأكاديميّ والفروقات الشاسعة بين ما إكتشفته الطالبة فرح وبين ما هو قائم في موطنها. وهذا التمايز ولّدَ لديها شعوراً بالدونيّة وبأنها مختلفة عن بقيّة زملاء البعثة ، فشعرت وكأنها تبدو بينهم كعشبة ضارّة بين وفود الدول المُشاركة.وشعرت كأنّهم يرونها مُجرد برميل نفط وبلادة.4592 ارتطام بثينة العيسى

كما أشارت الرواية الى مسألة التباطؤ في تحديث المناهج التعليميّة  العربيّة إذ تقول "معيب أن أكون هنا من أجل مسابقة أحياء وأجهل هذا ال"لينيه" في إشارة منها إلى "كارل لينيه"مؤسّس علم تصنيف النبات وأشهرعالم في علم الأحياء. وتسأل "ما هذا الذي كنت أدرسه إذاً طوال عامين ؟ الجميع من الزملاء ينصتون الى المحاضرة ويهزون رؤوسهم، كأنهم يتلقّون معلوماتٍ يألفونها وأنا وحدي أضيع في اللاأدري" وفي موضع آخر عندما وزّعوا على الطلبة أوراق الإختبار تقول "هناك خلل ما ربما أخطأوا  في توزيع الأوراق، فمن غير الوارد أن يكون ما أقرأه هنا له علاقة بعلم الأحياء". منتقدة هذا التخلّف في تحديث المناهج بقولها "ما معنى أن نعتلف كتباً طوال عامين  ثم يتّضح أنّها تحمل معلومات أصابها العطب منذ عشرين عاماً". وفي هذا إشارة إلى الحشو الذي نلحظه في مناهجنا التعليميّة، والتي تحتوي على كمّيّة هائلة من المعلومات غير المُحدّثة لتواكب التطوّر العلمي، وبالتالي يصبح تلقّيها أوتلقينها بلا أي فائدة، لأنّها تكون قد أصبحت خارج الزمن بشكل أو بآخر. وهنا يتبادر للأذهان السؤال لماذا تتمّ مثل هذه المشاركات العربيّة في هكذا ندوات او مؤتمرات علميّة بالرغم من تواضع القدرات العلميّة إن لم نقل إنعدامها وسرعان ما يأتي الجواب على تساؤلنا هذا على لسان "فرح" عندما قالت " إيه يا وطني لم يكن مجيئك إلى هنا إلا روتينيّاً شكليّاً لكي تدوّن الصور الفوتوغرافية وجود ألوانك الأربعة بين كل هذه الأعلام".

 ولم تغفل الكاتبة الإشارة الى التفاوت في المستوى المعيشيّ والإجتماعيّ فيما خصَّ الإمتيازات والخدمات التي يحظى بها الفرد في الغرب وبين هزالة هذه الخدمات أو إنعدامها في أوطاننا، ففي الغرب الأمور متناهية المثاليّة في مختلف القطاعات الصحيّة، التعليميّة، وفي تسَيُّد العدالة في توزيع الدخول والثروات بحيث لا نجد القصور الفارهة بجانب عمارات تكاد تقع فوق رؤوس قاطنيها كما في بلداننا المُتخمة بالثروات، وهذه إشارة الى الهُوَّة الكبيرة في مستويات المعيشة والرفاهيّة بين شعوب منطقتنا، وإلى إنعدام التوزيع العادل للثروات.

وفي موضوع الهويّة والوطن تصف "فرح" الوطن، بأنه الحبّ بمعنى ان تحب شيئاً معيّناً ليس لأنّه الأجمل او الأفضل، ولكن لأنّك تحبّه يُصبح هو الأجمل والأفضل، وإذا كانت السويد جميلة والكويت لا تجاريها جمالاً، تبقى الكويت هي الأجمل لأنها وطني.

مسألة "البدون" كانت حاضرة في الرواية من خلال شخصيّة "ضاري"، والبدون هم تلك الفئة المُهمّشة التي حُرم أفرادها من الجنسيّة الكويتيّة رغم ولادة الكثير منهم على أرض الكويت، فأصبح الفرد منهم مجرّداً من أيّة أوراق ثبوتيّة رسميّة  تمنعه من الإلتحاق بأيّة وظيفة مهما كانت مرتبته التعليمية أو مكانته الأدبيّة والثقافيّة وليس أدلُّ على ذلك من والد ضاري نفسه، وهو الشاعر الكبير الذي تُرجمت قصائده إلى سبع لغات، ويعرفه العالم على أنّه شاعر كويتيّ ولكن في الكويت غير مُعترفٍ به فقط لأنّه من البدون.

وإذا ما حاولنا التطرّق إلى العلاقة بين فرح وضاري، فلا يمكن لنا الذهاب بإعتبارها علاقة حُب وليدة بين شخصين بقدر ما هي في الواقع علاقة إستطعنا من خلالها معرفة شعور ضاري الحقيقي تجاه  فرح التي رأى فيها صورة مصغرة عن "بلده" الكويت ذاك البلد الذي أحبه بجنون ولكن لم يلقَ منه غير الإهمال وعدم الإكتراث، وقد عبرت الكاتبة عن هذا عندما إعترف ضاري بحبه وبصوت عالٍ لفرح ولأكثر من مرّة ولكن فرح (الكويت) تجاهلت هذا الإعتراف وتظاهرت بعدم سماعها له. 

لذا وبما أن ضاري وجد في فرح نسخة عن الكويت بتفاصيلها مصبوبة في هيئة أنثى، فقد حاول بشتّى الطرق العمل على إيذائها عن طريق سعيه لتشويش أفكارها عن الوطن لتهتزّ صورة الكويت في نظرها، وهذا ما عبّرت عنه فرح عندما تساءلت في سرّها واصفةً ضاري بالقول:  "انت الذي ما فتئت تنتهز أيّة فرصة لتسدّد طعنة لقدسيّة الوطن ، تجيء بالشكوك لتتأمّل بتشفٍّ كافٍ مصرع ثوابتي، أتساءل أي شيء شنيع صنعه لك الوطن لكي تقابله بكل هذا الخمود؟"  . وعلى هذا التساؤل نذكر ما جاء على لسان ضاري قائلا لها:" هذا الذي أمارسه فيكِ الآن هو إنتقام طفيف ومؤذٍ، أنا أشوّه فرحكِ التافه بوطنٍ، وأستبسل لأجعلكِ تشبهينني". يمكن أن نستخلص مما سبق أن ما أراده ضاري من كل هذا هو التعبير عن حنقه وغضبه من وطنٍ يُحبّه ولكن للأسف هذا الوطن لا يكترث له. ولذا فإنّه يرفض أن تكون علاقته بالكويت علاقة حبّ من طرف واحد كما قال.

 أيضاً مسألة الحجر الذي يُمارس على الفتاة العربيّة، والموانع التي توضع أمامها للحدّ من طموحاتها وتحقيق ذاتها كان لها الحضور في هذه الرواية عندما أشارت "فرح" إلى أنّها أمضت تلك الليلة في طبع القبلات على رأس جدتها لكي تضغط على والدها ويوافق على سفرها، أيضا إستعطفت أمها مرّات عدة لكي تمنع أخوتها الذكور من محاولة عرقلة هذا السفر .

وفي سياق غير بعيد تُشيرالكاتبة ولو بشكلٍ عابر إلى مسألة تكاد تكون شائعة في مجتمعاتنا العربيّة وهي مسألة التحرّش فتقول فرح كيف كان أستاذها يخصّها بإهتمام مشبوه من بين الطلبة والجميع يلاحظ ذلك. وربّما إختيرت للبعثة ليس لأنها الأفضل بين الطلبة، بل لأنها الأثيرة لدى أستاذ مراهق. كما تطرّقت الرواية الى تقليد إجتماعيّ وهو الزيجات التقليديّة بين الأقارب، وفي هذا يقول ضاري " غالبا ما تجري الأمورهناك في الكويت هكذا، فلان لفلانة، وفلانة لفلان، هو زواج أشبه بسوق نخاسة  يجري بين الجدران بحجّة الزواج".

 لقد أصرّت الكاتبة على جعل نهاية الرواية مفتوحة تاركة للقارىء –أو للزمن- كتابتها سواء مستقبل العلاقة بين ضاري وفرح كشخصين، وأيضا - وهذا هو الأهم -  مستقبل علاقة ضاري بما يُمثل من فئة البدون وبين الكويت (فرح)، هذه النهاية المفتوحة ما هي سوى إقرار بأن مسألة البدون لم تحسم بعد وتركتها الكاتبة للقادم من الأيام.

أخيراً الرواية كما قلنا شيّقة وممتعة تجذب القارىْ بأسلوبها الرشيق ومصطلحاتها اللافتة وتعابيرها المسبوكة ومن بينها هذه الجملة التي تقول " أنا أتبرزخ بين الظاهر والباطن " فكلمة "أتبرزخ" ملفتة جدّاً وأجدها معبّرة بشكل لافت.

 وأختم مثنياً على الكاتبة ومهنّئاً لها على ما قدّمته لنا، وعلى هذا الإرتطام وإن كان لا يسمع له دويّ، لكنّه دون شكّ إرتطام سيحدث صدى في قلوب القُراء.

***

بقلم عفيف قاووق – لبنان

 

تبدو شخصيات الإنكليزية هيلاري مانتل مضطربة وقلقة، وفي حالة تناقض وصراع مع طبيعتها - الطبيعية والاجتماعية بنفس الوقت. وهذا يعني أنها تقاتل على جبهتين: داخلية غير منظورة، وخارجية. وقد تكلمت عن هذه المشكلة في أول سيرة روائية لها صدرت عام 2003 بعنوان غروتسكي وهو "الهرب من الأشباح". وحددت معنى كلمة شبح بواحد من ثلاثة.

الأول هو الأطياف المنزلية، ومن بينها خيال زوج الأم step father ص4، وصور ملائكة نورانية، سرعان ما تتحول إلى رهبان ورجال دين جوالين ص3. ويتخلل هذه التهيؤات وجبات وهمية، وبالأخص في وقت الجوع، كأن ترى أمامها كعكة محلاة تطير في الهواء كالبالون ص2. أو الأسوأ أنها تلتهم سربا من النحل ص3. وكانت هذه الولائم تجري في بيت  يحيط به جدار من الطوب الأحمر ص10. ولا شك أن التورية ليس بالسور ولكن بلونه. فهو إشارة لجناية يرافقها سفك الدم. واتسع نطاق هذه الأوهام وشمل أماكن السهر واللهو، مثل  بار جيش الملك King's Arms، والذي كان يحترق، في نظرها، بالضوء ص8، ولا يسبح في بركة أو هالة مباركة من النور. ويوجد طباق ملحوظ بين الاحتمالين: أن تحترق بالضياء وأن تسبح به (وهي عبارة توراتية مفضلة طالما اتكأ عليها لورنس). إلى جانب ذلك أبدت مانتل اهتماما غير مسبوق بالجغرافيا المتحولة والبديلة.  وهذا لا يشمل تبديل المكان فقط، ولكن أيضا المعنى المرتبط به. فقد كانت تهرب من مكان حاضر إلى مكان غائب. أو بتعبير آخر كانت تبحث عن مكان لها في زمن الآخرين. وأدى ذلك لاهتمام مماثل بأدوات قياس الوقت، ومنها الساعة.  وقد قالت عنها في آخر فصل من السيرة: إنها تتدلى على جدار بيتها بشكل قمر آخر مضيء - وهذا معيار للتنوير والمعرفة ص376.

وقد وجدت أفضل صيغة للتعبير عن هذه القضية في أهم عملين لها. الأول "تبدل في الطقس" 1994. وتدور أحداثه في جنوب إفريقيا حيث أن التاريخ يغدر بالجغرافيا. وكما توضح الرواية لا تتوقف علاقات الاستغلال عند حدود النهب للأرض ولكنها تتطور إلى نهب للذاكرة. وأهم ما يحسب للرواية أنها لا تتكلم عن إمبريالية ملونة، أبيض - مؤمن مقابل أسود - وثني أو كافر، إنما تتبع نفس المنطق الجدلي الذي بنى عليه العقل الرومنسي والتنويري أطروحته، وتقسم المجتمع الكولونيالي إلى ثلاث فئات: الأب الجلاد - ويمثله النظام. والعراب وتمثله البعثات التبشيرية. والأبناء وهم سكان الأرض الأصليون. وهذه بنية أوديببة معدلة تلغي الزواج الخارجي. وتحصر الجدل في توفير الغذاء للعقل أو للروح. ولذلك لا يوجد صراع أو دراما وإنما مجرد خصام.  واختارت مانتل أهون الشرين. أن تفرض رؤيتها على الطبيعة المحلية بالاستئناس أو بالترويض. وبالنتيجة كانت روايتها ذات توجه إمبريالي. وانصب الخلاف على الأساليب فقط. وربما يجوز أن نقول إنها شنت على إفريقيا حملة صليبية - ناعمة. السلاح فيها هو الجائزة الممنوحة بعد الاستسلام. وكما قالت ميرلي روبين: لقد قسمت العالم إلى "حالات محزنة" و"نفوس طيبة"، ولم تعمد إلى إنهاء قوة الشر الهدامة.

العمل الثاني "ثماني شهور في شارع غزة" 1988. ويبدو كأنه سيرة ذاتية لحياتها في العربية السعودية. وقد حرصت على ضمان نظافتها من أساطير الاستشراق، وصوره الجاهزة، التي تغذيها الفانتازيا والرومنسيات. فلا كلام عن النقاب وقصور الحريم، ولا أية إشارة عن الأنفاق التي تغرق بالنفط والحداثة السائلة، ولم تلجأ لفرز وتصنيف الأمكنة والشخصيات بالطريقة المعهودة: شرق مذكر بحالة انتصاب وغرب مؤنث يزخر بالمفاتن.  فالحضارات، في هذه الرواية، تتقاطع وتتجاور، والأعراق والثقافات تتداخل. واستعملت مانتل الحمية الغذائية لترمز لهذا التقابل. ودخلت لروح الحضارات من بوابة تعرفها السيدات بشكل أفضل وهو المطابخ. وابتعدت عن أي حزمة أو أجندا للتبشير، بعكس ما فعلته في روايتها الإفريقية، وأكدت على علاقات العمالة وتبادل المنافع. وبالنتيجة نجد أنفسنا في ميتروبول بديل، يدشن أول ظاهرة من نوعها، وهي تحويل الهجرات، من الشمال البارد إلى الجنوب المشمس. وعموما تؤكد مانتل في كل أعمالها على دور تنويري للريف الإنكليزي، وعلى دور تحديثي للمدينة الشرقية. وبهذا المنطق يمكن أن تجد أن الروح هي البطل في الشمال بينما العقل العملي هو البطل في الجنوب. وهذه مخالفة صريحة لأطروحة الإستشراق الأوروبي، وكل من يمثلها، وفي مقدمتهم لورنس العرب مؤلف "أعمدة الحكمة السبعة". وعلى ما أعتقد إن العناصر الحرجة في رواية لورنس - وهي الدين والحرب والجفاف موجودة في كلام مانتل عن إفريقيا وليس العرب. فكلاهما يبني فلسفته على رؤية واحدة للأحداث. وهو نقل الحداثة في أول حالة - فتح أسواق للسلع، والعمل على إنتاجها في ثاني حالة - بناء هياكل -  أو  معابد لدين عابر للقوميات والثقافات. والحقيقة إن هياكل لورنس لا تمنح الإنسان فرصة لتأسيس علاقة مع أرضه لأنها نقاط انطلاق، أو عروج من جغرافيا إلى جغرافيا مثل محطات قطار أو مضافات عشائر.  في حين أن معابد مانتل كانت بشكل أسواق وأبراج، تدخل فيها صور جزئية وتخرج منها صور كلية. وللتوضيح كان بطل لورنس بصورة نبي جاء للهداية والمؤازرة. بينما كان قوام المدينة، في رواية مانتل، مؤلفا من عدة أقليات، يفصل بينها  جدران التقاليد. وفي هذه الحالة يكون الثابت هو المعبد وإلهه المتخفي عن الأنظار، بينما المتبدل هو الإنسان الذي تحركه احتياجاته البسيطة واليومية. مع التأكيد على أبوة الإمبريالية الغربية للحضارة واستحالة المساكنة بين الأعراق والأديان. ولذلك فرضت مانتل على أبطال روايتيها فلسفة "الفجيعة". ويتضمن ذلك بالضرورة خيبة الرجاء بالمشروع الكولونيالي وبشقيه: التربوي والتجاري.  فلا إفريقيا جاهزة لتبديل وجهها، ولا العرب جاهزون لتغيير أقنعتهم. وقد تناول الكويتي سعود السنعوسي هذه المشكلة المحتدمة بين الوجه والقناع في روايته الهامة "ساق البامبو". وإن كانت المشكلة محصورة ضمن شعوب المشرق، يمكن بكل سهولة ملاحظة الجدل الدائر بين الطبع والتطبع، والتراجيديا المحتملة التي تنجم عن اتباع أنصاف حلول. 

الشبح الثاني هو الذات. ولا تخلو رواية لمانتل من شخصية تتطابق معها. ولكنها دائما بحالة سوء تفاهم مع هذه الشخصية. ومثلما أنها ترفض بإصرار وضعها الوجودي، وتأثير المعاناة في الاختلاف مع الواقع، تحاول أن تلجأ ليوتوبيا ذهنية. وقد تناولت هذا الإشكال في قصص كتابها "التعرف على الكلام" 1985 . وهي قصص من سيرتها، أو إنها زيارة للماضي. ولا يجوز أن ننظر لماضي مانتل على أنه مرحلة مرت من الحياة، بل هو ذاكرة محمولة. حتى أنها في أول قصة من المجموعة وهي بعنوان "كينغ بيللي رجل محترم" تعلن: عدم قدرتها على الخروج من ذهنها ص1. فالماضي بنظرها  خلاصة لحياة  الشخصيات التي تجتمع لتصنع ما يقول عنه لاكان الآخر الصغير والآخر الحقيقي. ويبدو لي أن مانتل  مؤمنة بفلسفة الشقاء المثالي، فكل إنسان غريب عندها هو جحيم نحترق به. ولكنه أيضا مصدر للمعرفة ولإدراك موضع الذات من الوجود. وتوجد إشارات واضحة في كل القصص على أن الأشباح التي تراها ما هي إلا خيال ظل للشخصيات ذاتها، أو هي عين ساحرة نرى من خلالها الجزء المغمور والمجهول من حياتنا. وكما تقول سارة موس**:  هذه القصص تنظر للطفولة على أنها مسرح لأحداث تساهم في بناء الإنسان البالغ ووعيه. وهي مكان دائم نحيا من خلاله وليست حقبة زمنية تنتهي وتموت. ثم تضيف: إن كل قصة في المجموعة عبارة عن لحظة غير مفهومة من حياة بلغت نقطة انعطاف وتبدل (وأضيف مني: هو تبدل يطال الصورة والوعي أو الإدراك).

أما الشبح الثالث والأخير فهو التاريخ. ولا تستطيع أن تبني قناعة ثابتة على هذا الموضوع. فمانتل تتعامل مع التاريخ الإنكليزي بطرق ملتوية. وغالبا ما تقف على طرفي الجدار العازل، تنظر من الخارج لما تحمله معها من معارف وخبرات، ثم تنظر لنفسها بالمرآة. ولذلك يمكن أن يكون التاريخ برأيها معرفة مكتسبة، أو تجربة شخصية. وقد اقتربت من هذا الموضوع في ثلاثيتها المعروفة: "قصر الذئب" 2009، "أحضر الجماعة"2012، و"النور والمرآة" 2020. وقد حملت هذه الثلاثية كل أعراض التقدم بالعمر.

أولا لجأت للمونولوجات والكلام بلسان صامت - وهو ما تسميه الفلسفة بالتفكير. لكن الحقيقة أنها كانت تكلم الآخر الذي يحمله الإنسان في لاشعوره أو صندوقه الأسود. وربما كان سلوكها أقرب إلى المونولوج الدرامي. فقد كانت تناور لتكتشف حقائق نفسها، ولحسن الحظ إن شخصيات مانتل بسيطة وغير مركبة. وإن كانت تعاني من خلل فهو عائد لخطأ بالتشخيص وليس لعطل حقيقي. وأعتقد أنها بهذا السياق تشير لمحنتها الشخصية. فقد شخص أطباؤها الألم الذي عانت منه على أنه ذهان، وتبين فيما بعد أنه نمو غير طبيعي في الرحم. وترتب على هذا الخطأ توقف القدرة على الإنجاب، وتبدل ملحوظ في الملامح. بتعبير آخر تكبدت خسارة مزدوجة.. في المحاكاة وفي التكاثر. وبالضرورة أنهى ذلك قدراتها على محاكاة نفسها بالسبل المعروفة، وهي الانعكاس والانقسام. وتجد صدى المشكلة في غموض كتاباتها الواضحة. فهي تلعب بالمعاني وتغنيها بعلاقات تصورية لا متناهية، لكن لا تحدد أي هدف أو وظيفة نهائية. حتى أن سيرتها لا تبدأ من الخاتمة ولا من البداية. وتقفز فورا لثاني محطة من حياتها. وتعلل هذا الفراغ بعجز في الذاكرة، وإن كنت أرى أنها لا تريد ذاكرة بيت الأب حصرا. وأكدت على ذلك في عدة مناسبات، فقد وضعت أمها في مركز الأحداث. ونادرا ما تكرمت على الرجل البالغ بدور رجولي، وغالبا صورته بشكل ابن كبير الحجم، وأبوه مقتول أو ميت. وهذا الانتقام من رب الأسرة - سواء هو أب أو زوج دعمه نفور واضح من بابا الفاتيكان. وقد رأى كل نقاد الثلاثية أن روايتها موجهة ضد الكنيسة البابوية، وتقف مع كنيسة الأم الناشئة.

ثانيا تخلت في ثلاثيتها عن الجرعة الدرامية لمصلحة الجدل النفسي كما هو الحال في "لعبة الكريات الزجاجية"، آخر وأضخم كتاب لهيرمان هيسة. وكانت مثله، عوضا عن أن تكتشف نفسها بأسلوب الإسقاط والملاحظة، لجأت للتكهن والتخمين.

ثالثا وهنا مربط الفرس. لم يخطر في ذهنها أن أوليفر كرومويل أهم من توماس كرومويل. وفوتت على نفسها هذه الفرصة الثمينة. لقد كانت الحبكة وبنية الخطاب تصلح لمتابعة مخاض كرومويل الأول - باعتبار أنه تتوفر لحكايته عناصر درامية في إطار تراجيدي وبطولي. كما أنه أقرب ببنيته الملحمية للملك لير (الأب المغدور به في مسرحية شكسبير)،  وللأخوة كرامازوف (الأشقاء الأوديب يين الذين تورطوا بصراع غاشم وسخيف مع الإرادة). لقد توفرت في حبكة أول كرومويل فكرة صراع الأجيال، وتناقض المصالح الطبقية، وأخيرا مشكلة المشيئة الطبيعية للقدر، أو بلغة أقرب للنقد الأدبي مشيئة البيئة والظروف. في حين أن كرومويل - توماس كان شخصية شيطانية، مجالها الغرف المغلقة والصالونات. وهو أشبه بأي شخصية تظهر لك في أحلامك. إنه أقرب لعالم الرموز وبعيد تماما عن مجال الاشتقاق والاستعارة. ولهذا السبب لم يكن إنسانا تجريديا، ولم يكن صالحا لأسلوب المحاكاة الذي خرجت أهم الأعمال الروائية من معطفه ابتداء من "قصة مدينتين" لديكنز وحتى "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي و"آناكارنينا" لتولستوي، انتهاء بــ"عشيق الليدي شاترلي" للورنس. والحقيقة إن آخر كلمة في الروايات التاريخية تكون للسيف. وهو سبب بقاء وشهرة أعمال مثل "السيف المعقوف" لهارولد لامب و"الفرسان الثلاثة لألكسندر دوما الكبير"، لكنها ليست لحكايات البلاط المسلية. ولذلك أرى أن هيلاري مانتل أعادت توطين أشباح الماضي القلق ونصف التراجيدي في ثلاثيتها، بعد أن تحررت منها في أعمالها السابقة.

***

د. صالح الرزوق

....................

*Merle Rubin. Wall Street Journal. 24-9-1997.

**Children Stories for Adult Audiences. Sarah Moss. The New York Times. 21 June 2022.

وقفة مع كتاب (غرناطة) أنموذجا.. المعينات الوظائفية في الضمائرية والزمكانية والشخوصية المتصلة، الفصل الأول ـ المبحث (2)

مهاد نظري:

لعل الغائية الروائية التي تسعى بدورها إلى توصيف وتصوير ومعالجة الممارسات المقامية بطرائق التشخيص المباشرة وغير المباشرة، في بنيات المادة المرجعية المحالة إلى دائرة التخييل السردي الروائي، هي من الآثار الأكثر أهمية وتندرا، خصوصا فيما يتعلق بنوعية وكيفية التعامل مع تلك الجملة من المقامات الأخبارية والمروية بطريقة (الحكي = الحكواتي) كما إن حالات المنظور الخطابي والحكائي في طبيعة هكذا روايات، لا تكتمل معيناتها إلا في حالات استيعاب هذه الجملة من التقانيات (المعينات ـ المقامية ـ المنظور الأداتي ـ المقاربة الاتصالية ـ ضمائرية الحضور ـ الوظائف المتصلة) وتبعا لهذه الاختزالية الوظائفية في تشريح المفاهيم المنجدلة في الفضاء النصي الخاص في محاور رواية (ليون الأفريقي) نعاين حدوث هذه الشبكة من مفاهيم الإجراءات على أسس بينية وغير ذلك من خصائص الأخبار والمسرود الصراعي المتشكل بين (الأنا الشاهدة) وتراجيديا التلاحم السيكولوجي المتبادل في تعددية الأصوات والوقائع ذات الطابع التأريخي المعزز بالاشتغالات الاستهوائية من بنيات خصوصية الفواعل المعينية في الذوات والمكان والزمن والمقامات السردية الناتجة من تقابلات الأشكال التمظهرية واللاتمظهرية في نماذج وحدات الخطاب والحكاية المرجعية.

ـ الفواعل الاستهوائية وسيطا بين المروى إليه والفاعل الذاتي.

قد لاحظنا في متواليات الفصول الروائية الأولى من النص الروائي، بأن هناك (سيميوطيقا) بين السيرة الذاتية للمكان والأحداث، قد جرت في ضوء الربط بين المعينات الاستهوائية ومستوى المحددات المرجعية الموظفة في التقاويم والتواريخ المؤشرة أعلى اليافطات العنوانية لكل فصل من الفصول.وهذا الأمر ما جعل من المادة المرجعية متراوحة في مسافة المروى إليه راويا، وكأنها حالات نابعة من حال لسان (الحكواتي؟) .ولكن لا يمكننا في الوقت نفسه تحديد زمن هذا الحكواتي، صحيح أن المرويات كانت قادمة من خلال أوضاع شخوصية متمثلة بشخص والدة ليون أو ذلك الأب الذي انقطع رويه على حين غرة، ولكن هل يمكننا تحديد الزمن الذي كانت تبث فيه هذه المرويات حول أخبار السلطان لغرناطة أو كم كان عمر ليون في غضون ذلك الزمن: (كنت في ذلك الحين طفلا بدينا، فلم أكن أجسر على إخراجك معي إلى الشارع خوفا من عيون السوء./ص59 الرواية) من هنا نعلم أن الرائي كانت هي الأم سلمى ذاتها، ولكن هل يعني أن ليون كان طفلا وهو يتلقى المروى إليه في حقيقة الاستطاعة العمرية له في ذلك الزمن؟ولعلنا نتابع في وحدات أخرى ما قاله ليون راويا عن ذاته: (وهكذا ذهبنا في أولى ساعات النهار تحملني أمي، وتحمل أختي مريم أمها، وكلتا الوالدتين تسيران الهويناء لتفادي الانزلاق على الثلج./ص74 الرواية) ويعني هذا أن الوحدات الكلامية قد لا تتقدم أو أنها تتأخر عن الوحدات (التمرسية ـ الاستهوائية) ذلك لأن التحويل بالعامل الزمني ما زال في حيز (المروى إليه راويا) أما حالات الحكي والمسرود فهي قائمة في مدار الاشتغال بالشاهد على المروي أو الاتصال بوسائط (المسرود إليه) كما قلنا سابقا.إذ أن مستوى بناء الأحداث والعلاقات الشخوصية لحد الآن هي تحت (حبكة المروى إليه) أما بما يتعلق بزمن الشخصية ليون، فهو كما نعلم طفلا لا يتجاوز أعوامه الثلاث كما أوردتنا به سياق الرواية.

1ـ الأحوال الاستهوائية في عام الشيخ ـ استغفر الله ـ:

ثمة دائما في طبيعة الأعمال الروائية المرجعية، ما نعثر على شخصية استهوائية، كحال الشخصية المتعلقة في الشيخ ـ استغفر الله ـ وهذا النمط الشخوصي هو من التعقيد والشكوكية في كل مجالات حياته المتوترة: (كانت عمامة الشيخ ـ استغفر الله ـ عريضة وكانت كتفاه ضيقتين وصوته أئمة الجوامع الأبح /وكان في كل صباح يركب ساعة الآذان سطح منزله، أحد أعلى منازل المدينة، لا لكي يدعو المؤمنين للصلاة كما يفعل سنوات طوالا، بل يحدق بعيدا إلى ما كان مثار حنقه.. وكان يصيح في جيرانه الذين لم يكونوا قد استيقظوا تماما بعد: انظروا، إنه قبركم ذاك الذي يشاد هناك على طريق ـ لوشة ـ وأنتم هنا راقدون منتظرين منتظرين قدومهم لدفنكم؟./ص45 الرواية) وبناء على ما جاءت به هذه الوحدات، يمكننا معاينة مستوى الدوافع الاستهوائية في مكنون سيكلوجية هذه الشخصية، وعند التركيز على محض أفعالها نستنتج بأنها الذات المستهواة، بأعتبارها تقدم ملفوظاتها الشعورية من جهة التمظهر فحسب ثم وبالاستعانة بالنية القولية من مقترحاتها الأهوائية.وهنا يمكننا معرفة آليات تخطيب الأهواء لدى هذه الشخصية المغالية في ملفوظها ومفرداتها النفسانية، خصوصا وإنها على مستوى من العاملية التي تستهوي لذاتها حالات بث الأخبار والمواجيد الفوضوية في أذهان الناس.وعلى ههذا النحو نعلم جيدا بأن ما كان يشير إليه هذا الشيخ هو الأشارة إلى (أسوار سانتافية) حيث كان الزعماء من الكاثوليك قد بدأوا بناءها في الربيع، وسرعان ما اتخذت في متوسط موسم الصيف مظهرا من مظاهر المدينة: (وباح لي أبي بأنه كان قبل مولدي بزمن كثيرا، ما يجتمع وعصبة من الأصحاب يوم الجمعة قبل صلاة الظهر الجامعة في دكان وراق لا يبعد كثيرا عن الجامع .. وأنهم كانوا يتراهنون فيما بينهم على عدة المرات التي سيتلفظ فيها الشيخ بعباراته المفضلة في أثناء خطبته./ص46 الرواية) قد لا تختلف الرواية السيرذاتية للزمن والواقعة المرجعية عن سائر أجناس الكتابة التاريخية ـ سيريا ـ فهناك أحوال تقترب من (السير ذاتي) ولا شك أن مستوى زمن الكتابة في رواية (ليون الأفريقي) مرحلة مرتبطة ب (الأنا الحكواتي) حتى وأن كان الغالب فيها هوالراوي نقلا عن مرويات الشخوص والشواهد الأخرى في الرواية.

2 ـ التبئير الداخلي المرتبط بوجهة نظر الراوي:

قد بدت لنا النتائج التي وصلتنا عن طريق الرواة بأن فاعل تلخيصها كان كافيا في مرسلات الاثبات العاملي الذي مصدره (التبئير الداخلي = ذاتية الراوي) فالمسرودات للأمكنة والأحوال الشخوصية قد تتاح من خلال نوع سردي مصدره أحد الشواهد الشخوصية، ولكن وعي الإيصال يتم من خلال ضمير المتكلم الذي هو المبأر والناقل بضمير ذاته الصفرية.ولكن هذا يظل في مجال النمط الداخلي من التبئير الذي يتخذه الراوي المشارك نفسه.فكلما غلب التبئير الصفر على مركزية وجهة نظر الذات الساردة، كلما تم الكشف الزمني عن أوليات (السير الذاتي) للأحداث وطابعها التخييلي المقرون بمنزلة مهمة من مستوى رؤية القارىء للأحداث والأفعال في زمن الحالات الصفرية من النواة الروائية الأولى: (عام السقوط:لم تكن أمي هي إياها عندما كانت تتحدث عن سقوط مدينتنا، وكان يصدر عنها حيال هذه المأساة صوت ونظرة وكلمات ودموع لم أكن أعرفها لها في أية مناسبة..وأما أنا فلم أكن قد بلغت الثالثة من عمري في تلك الأيام الصاخبة، ولست أدري إذا كانت الصيحات المزدحمة في مسمعي في هذه اللحظة تذكرة لما كنت قد سمعته حينذاك حقا أو أنها فقط صدى ألف حكاية حكيت لي مذاك./ص57 الرواية) هنا نعاين كيفية الإدلاء بواسطة الشخصية المحورية ـ ليون ساردا ومتمثلا ـ حول مواضعات الأصوات للرواة، والعلاقة ما بين صوت الفاعل إزاء تعاقبات الرواة ـ سببا في اكتمال مستويات المادة في المروى إليه.ولكن المتخيل لا يمنح نفسه عادة بالقول عن اللاكتمال في زمن المحور العاملي حينذاك، إلا في مؤشرات تقديم المحور ذاته شاهدا في ما مضى من الاستراتيجية في حكاية المروى إليه راويا.وإزاء بيان وضوح صوت المحور الشخوصي ـ ساردا ـ نلاحظ حجم التعاقب في المبنى الحكائي، بدءا من صوت سلمى وانتهاء بصوت ليون ذاته، الذي يمثل الانموذج الجامع في جل مستويات الاستغراق في التفاصيل الدقيقة ذات المنحى الميتاتاريخي والسيكولوجي الخاص بوصف أدق معاينات الملحمة الغرناطية عبر نمو زمنها الضاج بتواصل الأوضاع المسرودة من عبر ثقوب الوثيقة المرجعية.

ـ تشاكل المعينات في علاقات القرائن الواصلة.

هناك جملة واسعة من المسميات والوسائل الاصطلاحية التي تطلق على مفاهيم وخواص (المعينات) منها سبيلا:القرائن المدمجة أو الواصلات في وحدات المينولوفيجيا.غير أننا نود استخدام هذا الاصطلاح في مجال مباحث دراسة رواية (ليون الأفريقي) اعتمادا على مخصوصيات: (الإشارات ـ المحددات التمثيلية ـ العرض والتعيين ـ الإحالة ـ التأثير والمحاكاة) والمراد من وراء كل هذه المصطلحات هو الكشف عن الفحوى الإحالية في علامات وصور ومواقف المرجعية النصية المبنية على شروط وتوافقات الأداة التلفظية وعواملها الزمنية والمكانية والضمائرية والظرفية والسياقية.فالمعينات بوصفها العناصر الاسلوبية والبنائية والسيميائية التي تحيل على السياقات الخاصة بالزمكانية الجارية في صيغة المتكلمين في أوضاع التلفظ والتواصل الإطاري من الملفوظ الكتابي دلاليا وإحاليا.فإذا أخذنا على سبيل المثال بعض من وحدات التلفظ الواردة في سياق جملة مقامية أو احالية، فنلاحظ بأن أدوات التعيين فيها غدت تمثل صفات خاصة بالزمن السردي، ما يجعل تغيرات الأحوال والمقام من وحدة الانطباع المشهدي تبدو وكأنها مفضية إلى تصاعدية عدة مواقف أو أزمنة في الوقت الواحد أو المشهد المحدد في عدة جمل: (وهكذا فإنه كان يقص علي خبر سقوط غرناطة .. كان من المحتم أن تبدأ حكايته من قاعات ـ الحمراء ـ المنجدة) أو ما جاء مقتبسا في هذه الوحدة مثالا: (ولا يعرف أحد في المغرب أنني بالأفريقي: فهناك كنت الحسن بن محمد الوزان) وعلى هذا النحو من هذه الأمثلة وغيرها في موارد متعددة ومشتعبة من وحدات الرواية المسكوكة، نتابع ذلك الحجم من التلفظ في مواضع مقامية وإحالية مختلفة، بل إنها تبدو كما لو كانت علامات أو شيفرات يراد بها أغراض ووظائف مختزلة في عدة جهات من (التلفظ في عدة أوجه) أو الانطباع في عدة علاقات مختلفة في المظهر، غير إنها في مقاييس الأوضاع الدلالية تكشف لنا عن محصلات اتفاقية في الغاية والنتيجة: (وران صمت مطبق على الحضور الذين كانوا يكتفون بإرسال هدير بالموافقة بين الحين والحين..وفتح المليح فمه وكأنه يستعد لمتابعة حججه..ولكنه لم يقل شيئا./ص62 الرواية) وتتبدى العلاقة في الكلام هنا بين الحضور أو اللاحضور، ولكنها واقعة في مجال دلالة مقامية فعل الكلام والاتصال والاندماج، والموقف الإحالي هنا يعبر عن دينامية الاشتغال في فعل التكلم، لو لا إنه كان يقول شيئا لما توقف، فهناك في مسار آخر من الوحدات جعلته وبطريقة ضمنية يقوم بفعل التلفظ، إلا أنه اختار: (وخطا خطوة إلى الوراء، وجلس وبصره إلى الأرض./ص62 .ص63 الرواية) لعل هذا الفعل من المعينات العلامية التي تؤشر لنا دلالة إحالية في وصفها المقامي قد لا يحتاج الشخصية في حالته الوصفية إلى التلفظ بما لا يصح به المتلفظ من خطاب مباشر أوقسري .

1 ـ المعينات الزمكانية المتصلة والمنفصلة:

تواجهنا في هذا الباب الفرعي من مركز دراسة مبحثنا عدة تعالقات في العلاقة الزمانية والمكانية المزاحة عبر مظاهر التلفظ داخل تشكيلات ومتواليات الوحدات المسرودة من النص.ذلك بعد أن أدركنا كيفية قيام المعينات في الجوانب الاشارية والفعلية والاحوالية والمقامية من سياق النص.الآن سوف نتناول كيفية إجراء صيغة المعينات في المجالين (الزماني ـ المكاني) تبعا إلى العلاقة المخصوصة من وظائف النص في الرواية: (وظلت المدافع والمجانيق صامتة في الأيام التالية، وظل الثلج يتساقط على غرناطة موشحا إياها بالسلام وبدعة ما كان يبدو أن شيئا ينبغي أن يقطع معهما أوصالها.فلم تكن هناك معارك، وكانت بعض صيحات الأطفال وحدها تبعث الحياة في الشوارع./ص71 الرواية) قد تنكشف الصور المكانية والزمانية ، ضمن ثنائية تلفظية غالبا، وهذا ما يجعلها تبدو معينات في حضور (الذاتية ـ الموضوعية) فغالبا ما ترتبط الذاتية في حدود خطاب زماني أنفعالي، في حين ترتبط دلالات الموضوعية بالمكانية كظروف في أحوال الوجود والكلية في الأثر المكاني على مواجيد الذات.فالذات والموضوعة كلاهما يشكلان في الزمكانية علاقة حضورية وغيابية، تمتزج بعضهما مع بعض كوقائع اتصالية في الشكل والمضمون والبنية والفضاء والدلالة.

ـ تعليق القراءة:

لا شك في أن المعينات هوية تكوينية تأشيرية داخل النص الروائي، وما يلفت اهتمامنا حول هذه المعينات الاشارية والضمائرية والزمكانية في محاور الرواية، هو قدرتها على خلق القرائن والتوليفات بطرائق محددة وغير محددة.فضلا عن هذه الوظائف والأغراض التي امتاز بها الطابع الروائي، لعلنا نكشف للقارىء عن سقوط غرناطة بيد القائد الصليبي فرديناند، حيث نص بقطع العلاقة بين اليهود والمسيحيين، وهذا الأمر ما جعل أغلب اليهود يشارفون على مغادرة غرناطة: (وعلى هذا فقد مشت سارة وأهل بيتها من غير أن يلتفتوا خلفهم./ص83 الرواية) فيما ظلت سلمى تعاود مسرود غرناطة وسقوطها على أيدي المسيحيين على مسامع صغيرها ليون الأفريقي، وكأنها ذات الوسائل والتقانات من المعينات الحكواتية يحلو بها مقام القص عبر ضمير المروى إليه، وصولا بحضور ليون ذلك الشخصية الساردة في مدار الابعاد الزمكانية والشخوصية المتصلة عبر فضاءات مرجعية المخطوطة التأريخية وإعادة انتاجها في مستحدثات سلطة التخييل وأفعال المتخيل.

***

حيدر عبد الرضا

الوقائع المؤلمة للمجموعات المعزولة غالبا ما يكون رواتها مجهولين، وتتأخر قليلا الذّاكرة الاجتماعيّة في هضمها وتداولها، وسيُبذل الكثير من الجهد والوقت لتكون جزء من السياق التاريخيّ للبلد. وهذا التّضييق، الذي تُكره عليه الذّاكرات المعزولة، لا يعني ضياع الوقائع كليّا، أو تخلي المجموعات عن خصوصيتها وتاريخها، فللحوادث رواتها وللحركات الاجتماعيّة نشطاؤها وادباءُها ومفكروها. وحركة الانصار الشيوعيون التي جرت احداثها (1978-1988) في جبال كردستان العراق هي واحدة من تلك التجارب التي لا حظ كبير لها في الانتشار، رغم احتوائها وقائع مهمة، وتوثيقها من قبل روائيين وسينمائيين ومثقفين قاتلوا من اجل وطنهم. سبب ذلك ليس فقط عزلة الحركة القسريّة بالجبال وابتعادها عن حاضنتها الاجتماعيّة، فلقد ذهبت الأعوام وسأم الناس الحروب وقصص الأبطال، وتحوّل عالم الثوريّين المثير إلى عالمٍ ممل في ظروفٍ سياسيّة\اجتماعيّة معقدة.

روايات الأنصار الشيوعيون، على قلّة ما قدمته، كانت حقول كشف مغايرة لأدب الحرب بالعراق في ثمانينيّات القرن الفائت. مؤلفوها لم يؤرخوا ولم يبحثوا عن مخطوطات تدعم قصتهم، هم كتبوا عن احداث عاشوها، بأسلوب روائي يعكس المناخ العام للعيش بين السياسيّين والقتال بين الفلاحين الكورد. في رواياتهم لم يتبنوا خطابا سياسيّا مجردا ولم يدافعوا عن حزبٍ أو جنرال، وتجاوزوا في كثير من صفحاتهم مفهوم الثورة والعصيان والقتال، إلى حقول ومفاهيم عامة اكتسبت بعدا إنسانيّا من خلال تناولهم حياة الألاف من المقاتلين وفقراء الفلاحين والجنود المهزومين من جحيم الحروب. ومع ذلك سيكون من غير الواقعي إبعاد هذه الروايات عن السياسة، فالحروب والصراعات الاجتماعيّة غالبا ما تقف خلفها دوافع سياسيّة. أردنا القول ان الالتزام بقضايا الإنسان ومشكلاته في الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل أعمق من أي التزام، التقط مؤلفوها حالات الجوع والخوف والشجاعة والتوتر والنذالة، دون مواعظ ثورية أو وعود بالخلاص. بدتْ فيها كتاباتهم خالية من استمالة مزاج رفاق السلاح، وهو ما أدى إلى ان يتعامل معها البعض بجفاء، ويجدون فيها كتابات تسيء إلى تجربة عظيمة. الروائيون، موضوع مقالنا، لديهم قلقهم الابداعي والوجودي، فهم قاتلوا وفقدوا أحبة وتجمدت اطرافهم في مواقع الحراسة، وباتوا يكتبون عن موضوعٍ يمسهم شخصيا في المقام الأول، يبحثون فيه عن عزاء بحجم الخراب الذي عاشوه. خلت فيها كتاباتهم من مجاز الانتصار والفخر والتباهي، خلت كذلك من المواقف الرمادية ولفلفة الحقائق وتزْيين الشخوص، والأهم من كل ذلك لم يدعِ أيّا منهم رسم صورة كاملة لتجربة افترشت عشرة أعوام، وأكتفوا برواية المشهد كلٌّ من زاويته.

إنّ المسارعة إلى ربط النصوص التي تتناول الخصومات المسلحة بـــ "أدب الحرب" ليس ناجعا على الدوام، وقد تأخذ من النصوص أكثر مما تعطيها. فالروايات موضوع مقالنا، كصياغات نصْيّة لحركة مسلّحة، لا يمكن حصرها كليّا في هذا المصطلح. فهي توسلت الحرب للكشف عن الاستبداد السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الذي خيّم على البلد، للكشف عن هشاشة الإنسان وإنْ كان محقّا ومتعلّما ومسلّحا، للكشف عن أعراف وتقاليد ما زالت محمية بجبال بعيدة، للكشف عن أفكارٍ عظيمة ورومانسيّة يستحيل تحقيقها. صحيح إن النهاية غير المقنعة لتجربة الأنصار بالجبال، ومغادرة المقاتلين للمنفى، أنتج حالة تمرد عند الروائييّن، خرجوا فيها عن تقديس الشخوص والمؤسسات السياسيّة، ولكن هذا لا يقلل من حقيقة انهم عاشوا تجارب يومية بدّدت اوهامهم، وجعلتهم يشاهدون عن قرب ما يتركه حمل السلاح من خراب في النفوس. من جهة أخرى نجد ان الروايات التي تناولت ما للكفاح المسلح وما عليه، فضحت كذلك حروب الدولة وتداعياتها. فقبل ظهور كتاباتهم كان الروائيون، موضوع مقالنا، يدعون لإيقاف الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، وعندما ظهرت كتاباتهم على الورق كانت مشحونة بالتنديد والادانة لمشعليها، ولم يحدث إن تضمنت شعارا او دعوة للقتال. وهذا الذي نقول ليس حكرا على الروائي، فالمواطن البسيط الذي صعد الجبل يومذاك، هاربا من الجبهات، هو الآخر لم يضع القتل والقتال في سلّم أولوياته. ولا نفشي سرا بالقول انه حتى الحزب الشيوعيّ العراقيّ الذي تجمّع كلّ هؤلاء للقتال تحت رايته لم تكن سياسته تدعو للحرب، فالجميع هرب تحاشيا لخطر الموت المتفشي بالبلد، ثم حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم. ومَنْ يحمل السلاح في بلدٍ مضطرب فهو على الأغلب إمّا قاتل او مقتول (هذه الأرض مصنع تحول الإنسان إلى بقايا إنسان، وأنا مكثت هنا فأما سأكون قاتلا أو مقتولا.. صــ 321 رواية خلف الطواحين) 

إنّ الروايات التي سنتناولها هي ثمرة جهد مجموعة من الروائيّين الناجين من الموت، صدرت في فترات متباعدة، لتدوين حكاية مَن لجأوا للجبال هربا من بطش السلطة. روايات لا يمكنها لوحدها تشكيل هوية جماعيّة لآلاف المقاتلين الذين جاؤوا من أماكن مختلفة ومن خلفيّات ثقافيّة واجتماعيّة متباينة، ولكنها جزء من "سرديّة انصاريّة" شارك في توثيقها العديد من الروائيّين والسينمائيّين والسياسيّين والشعراء.. الذين امتلأت بهم المنافي. إنّ اختلاف موضوعات الروايات وأساليبها وتجارب مؤلفيها الحياتيّة لا ينقص من وجود فضاء روائي عام لأحداثها، محدّد مكانيّا بجبال كوردستان العراق، وبفترة زمنية محدّدة بأعوام (1978-1988) وبشخوصٍ يتحركون ويعانون وينشدون اهدافاً مشتركة. وهذا المناخ العام أنتج بدوره ثيمات مشتركة، واقعية، انتجتها مخيّلة مُحاصرة ومُهدّدة. وفي نظرة عامة على كلّ عناوين الروايات سنجد ان لها دلالات عنف وقعت في الجبال، تناولت فيها وقائع ذات طابع جمعيّ "مجزرة بشتاشان، الضربة الكيمياوية، عملية الأنفال" صار بعضها جزء من وثائق محكمة العدل الدوليّة، وما زال الكثير من ابطالها وضحاياه أحياء. المشترك أيضا بين الروايات وجود السلاح كثيمة رئيسية تلازم كلّ الشخوص. وحتى حين يعود المؤلف بذاكرته للمكان الأول ومقاعد الدراسة، او يتوقف عند هموم الانصار اليوميّة الباحثة عن الطعام والحب والكتاب، يبقى السلاح مكوما في خلفية المشهد. ثيمة أخرى مشتركة بين الروايات هو الغياب الملفت للعلاقات العاطفيّة في حياة المقاتلين، باستثناء ما تختزنه الذاكرة من حكايات حب قديمة، او لحظات تعلّق عابرة في الجبال، تحاكي حياة المقاتلين المرتبطة بالحرمان والتهديد. الغياب العاطفي يستدعي حضوره، نلمسه في محاولة المؤلفين إظهار لحظاته الجميلة، لترطيب الأجواء، ولكن المكان ليس مكانا للحب والعواطف، حتى للمتزوجين منهم. سبب ذلك ليس فقط العزلة وقلّة النساء، بل كذلك سببه أسلوب حياة المفارز القتالية المتنقلة والزاهدة، إضافة إلى تقاليد الفلاحين الكورد التي يسودها التحفظ والخوف من وجود المقاتلين العرب. ملمح آخر بين الروايات هو انها روايات تمرد وحزن وعناد وعتاب ولم تكن روايات هزيمة، بالمعنى العسكريّ للهزيمة. هم يروون معارك انتصار وهزيمة، ويردّدون أفكارا يائسة في مواجهة الديكتاتور، ويعانون انكسارات داخلية في ثقل أعوام العزلة التي أثرت على معنوياتهم كمقاتلين، ولكن على المستوى العام لم يترسخ عندهم مفهوم الهزيمة، على الرغم من النهاية الموجعة لتجربتهم. فكريم كطافة ينهي روايته "حصار العنكبوت" بجلوس القلّة الناجية من الحصار تفكر ببداية جديدة (بهذا الحزام نستطيع على الأقل البداية من جديد صــ 366). المشترك الآخر في الروايات موضع البحث هو أنها تضعنا تارة في التوثيق وتارة أخرى في الرواية وثالثة في السيرة الذاتيّة. وهذا الأمر المثير لفضول القراء الباحثين عن الحقائق والاسرار والأسماء، يعطي الانطباع أحيانا بالضعف الفني. على العموم احداث الروايات رويت بضمير الغائب، كنوع من الحياد الادبي، واستمرار للتواضع ونكران الذات الذي طبع حياة المقاتلين المهووسين بأحلام عظيمة. باستثناء كتابات "سلام إبراهيم" الذي اعتمد على سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، استخدم فيها ضمير المتكلم. إضافة لهذه الموضوعات المشتركة كان الجبل هو المفردة المركزيّة التي تحتضن أحداث الروايات فتميزت لغة السرد بحملها مفردات البيئة الحاضنة بجملة من الكلمات الدالة على حياة بشر تلك البيئة التي احتضنت الثوار مثل الثلج، ينابيع الماء، شجر الاسبندار، مواقع الحراسة، البندقية، الشروال، حذاء السمسون، الفانوس، الكتاب، العزلة، العدس، الجاجي، الباكَردان، البغل، القمل.. وغيرها من المفردات التي لها قرابة مع حياة المقاتلين الذين ينامون كل ليلة في قرية جبليّة مختلفة.

ينبغي الإشارة إلى ان بعض الموضوعات والمفردات المار ذكرها تُعتبر نمطيّة في حياة الفلاحين الاكراد، وهي ليست كذلك في بيئات أخرى.

4578 عامر حسين

"خلف الطواحين"

موت الوحش والإنسان

رواية "خلف الطواحين - عامر حسين - 500صفحة" هي من أولى الروايات التي ظهرت عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (الطبعة الأولى، 1991) وهذه المعلومة الأخيرة وضعناها بين قوسين لأنها الوحيدة التي ذكرتها دار النشر، بعد ان أغفلت اسم الدار وعنوانها. وهي إشارة مبكرة إلى إبقاء هذه الكتابة كصرخة في وادي، لا يسمعها إلا من كان هناك. تبدأ احداث الرواية بمفرزة مقاتلين تائهة في الجبال؛ ماء قليل وشمس حارقة، ومقاتل أناني يغسل مؤخرته بالماء المتبقي، لعدم وجود خرقة.

وسط بيئة ريفيّة قاسية، ومحيط اجتماعيّ يمتدح المقاتلين نهارا ويذمهم ليلا، استلهم المؤلف احداث روايته. بيئة لم يكن فيها السلاح والقتال فقط هما مقياس الشجاعة، فأسلوب التحطيب وربط البغل ومعرفة طرق الجبال وينابيع الماء كلها معايير شجاعة. شخوص الرواية، بأسماء مستعارة، يعانون عزلة مهلكة في الجبل، ويحملون أفكارا لا يمكن تحقيقها. يناضلون وسط خلافات داخلية مع قادتهم "الشيوخ" الذين فشلوا في أدارة الصراع الداخلي، ويعيشون صدامات متكررة مع الواقع السياسيّ القبليّ السائد بين القوى السياسيّة. هذه التراكمات مهدت لاقْتتال دموي بين ضحايا الديكتاتور، جرت تفاصيله في وادي "بشتاشان – خلف الطواحين عام 1983". احداث الرواية تتحرك ببطء اشبه بحياة المقاتلين بالجبل بعد هطول الثلوج، رويت بضمير الغائب، بلغة سهلة وغنية بتفاصيل الواقع. وحتى حين تشط المخيّلة قليلا لغرض التشويق، فإن المؤلف سرعان ما يعود للحفر في مشاعر العزلة والجوع والخراب العاطفي للمقاتلين. مفردات القتال والنضال والنزاع حاضرة في الرواية، تشير إلى خطر الافتتان بفكرة والتضحية من أجلها دون تفكير. فتحويل المبادئ والقناعات السياسيّة إلى عنف مسلّح فيه خطر بعيد على الذات الإنسانيّة وما تحمله من قيّم، لأن (ثقافة الموت التي تشيع الرعب والدم، تحول كل كائن هنا إلى ضحية وجلاد صـــ 96) تجلّى ذلك في اسئلة إشكالية على لسان شخوصه؛ ما جدوى ما نفعله بالجبل؟ لماذا يُقتل الأبرياء بشكل لا إنساني؟ لماذا يتقاتل الضحايا فيما بينهم؟ فالبطل الرئيسي (رحمن) لا يريد ان يكون وحشا، وقد عاش لحظات تردّد عندما فكر بأطلاق رصاصة الرحمة على رأس جندي جريح بعد انتهاء احدى المعارك. ينبغي الإشارة إلى معضلة شائكة تناولتها الرواية عن الجنود الذين ترسلهم الحكومة لقتال الثوار في الجبال، وهم في غالبيتهم من الفقراء الطيبين الأبرياء. هؤلاء الجنود هم ضحايا الحكومة والثوار على حد سواء، نلمسه في قول أب مكلوم على ابنه الجندي (أين سنولي بوجوهنا؟ إن نجونا من الشياطين قتلتنا الملائكة صــ 451) إلى جانب ذلك تجاوزت الرواية خطوطا حمر كان من الصعب التقرب منها في ظروف أخرى، من بينها؛ عدم الصمت على أخطاء القادة السياسيّين، فضح ممارسات الطعن في الظهر التي يمارسها الحلفاء، فضح الحماقات التي يرتكبها المقاتلون. المؤلف اعتمد الواقع للكشف عن هشاشة الذات الإنسانية وخستها، نلمسه في سلوك المقاتليّن "قاسم، عولا" اللذين قتلا اختيهما غسلا للعار، وهربا للجبال لارتداء ثوب الثورة. في إشارة ضمنية إلى ان الثورة ليست على الدوام ناصعة البياض، وليس بالضرورة ان ينتمي إليها فقط الانقياء والشجعان.

إن السواد الذي غطى لوحة حياة المقاتلين في "خلف الطواحين" لم يكن من صنع المخيّلة وحدها، فالمقاتلون في عزلتهم الجبليّة تحولوا بعد أعوام إلى بقايا بشر، يحسدون الخروف على نعجته والبغل على صبره، إذ لا دفء ولا طعام ولا أم ولا حبيبة يغنون لها. حتى (باب العواطف، أياً كان، مفرح أم محزن، لا بد أن يوصد في مثل تلك الظروف. صـــ11) في مثل هذه الظروف، التي لا يعرفها سوى من عاش تفاصيلها، يحضر الحب عنيفا ومشوها، اشبه بحياة الأنصار بالجبل. نلمس ذلك في فصلين حاول فيهما المؤلف رش الماء على قسوة الاحداث ودوي الرصاص، رواهما في الطريق إلى وادي "بشتاشان، خلف الطواحين" عندما كان ذاهبا للعلاج بعد اصابته بإحدى المعارك قرب جبل روست؛ فصلٌ عن الفتاة الجميلة التي جُدع انفها وقُطعت اذنها ليلة عرسها ومن ثم ربطها إلى عمودٍ لتموت وسط الثلوج، اختزل فيها المؤلف الكثير من العلاقات الاجتماعية في البيئة الكردية؛ الضيافة والطعام والحب والرقص والزواج وقيم الشرف. والفصل الآخر تحدث عن المعتوه الذي زوجوه الاخت التؤم للفتاة "المجمدة" تحدث فيه عن قسوة العلاقات العاطفية وعن نذالة السياسي "أبو جقارة" في ابتزازه للعوائل الفقيرة واعتدائه على الصبايا في بيئة محافظة.

احداث الرواية البطيئة تجري وسط سلاسل جبلية قاسية (يئست الغيوم من تسلقها) يتواجد بين أوديتها أسواق مليئة بالبضائع المهربة، يتبضع منها المثقف والفلاح والمهرب والمطلوب عشائريا والهارب من الجندية.. يتصافحون ويبتسمون ويساومون بعضهم البعض في خلطة من المشاعر المتناقضة بحضور الموت. من الحبكات الدالة على أزمة البطل "رحمن" تلك المرتبطة بظهور شخصية "سامان" الذكي واليائس، والهارب مع زوجته لا يدري إلى أين. سامان يتناول حياة الثوريين من الخارج، بمفاهيم إنسانيّة عامة، هي جزء من هذا الخليط الهارب من السلطة وحروبها. يرى زمن ثورات الشعوب قد ولى، وانه، حتى لو حدثت الثورة فأنها ستغير حاكم بحاكم آخر أكثر قسوة، وبالتالي لن يتغير شيء. شخصية سامان لا تتفاعل مع الاحداث الجارية في الجبل، لكنها تنمو مع تدهورها وتأزمها. والملفت ان المناضل الثوري "رحمن" يقف اعزلا امام المنطق اليائس لسامان، ويراه محقا بكلامه. إنّ التناقضات وحالات اليأس التي يعيشها "رحمن" هي جزء من نسيجه كمقاتل ومثقف، عاش اعوام في الجبل لم تمر كما أراد لها ان تمر، ولذلك نجده تارة يحمّل القادة "الشيوخ" وزر معاناته، وتارة أخرى يحمّل القيم الاجتماعيّة البالية ذلك الوزر، وثالثة يحمّل الديكتاتور، ورابعة يبحر بالثورة وما تتركه من امتهان لكرامة الإنسان. إنّ النهاية المأساوية التي وصل إليها البطل "الانتحار" تعكس شخصيته المضطربة؛ فهو (رحمن) مقاتل له تجارب سابقة مع المنظمات الفلسطينية، وفي ذات الوقت هو كتوم وحزين ومنغلق. يعاني خسارة الحلم وفقد الأحبة، إلى جانب ذكريات مريرة في سجون الديكتاتور، الأمر الذي يشير إلى ان مشكلته ليست فقط بالجبل..

4577 كريم كظافة

"حصار العنكبوت"

ما حدث أعمق مما أروي

رواية "حصار العنكبوت، كريم كطافة، 366 صفحة، دار نون الأردنية ـــ 2014" رواية معاناة من بدايتها وحتى نهايتها، مسرحها جبل كَارا" الرهيب. وثّقت لواقعة كبيرة دخلت التاريخ باسم عملية "الانفال" التي تعتبرها المؤسسات الدوليّة واحدة من اسوء عمليات الإبادة الجماعيّة التي تعرض لها الشعب الكردي. والمؤلف من عتبة الإهداء يضعنا في دوامة المعاناة بقوله (عشرون سنة وانا كالشاة المشدوهة امام رزمة أوراق قديمة، كتبتها حين كانت الاحداث لم تزل طازجة يتصاعد بخارها من اجسادنا).

تبدأ الرواية بخبر انتهاء الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، ومن ثم توجه الجيش العراقيّ للداخل لغرض اجتثاث القوى السياسيّة المعارضة في الجبال، والتي طالما اعتبرها الديكتاتور سكينا في خاصرته. وأمام هذا التطور الصادم يحار المقاتلون بردود أفعالهم، وما هي الخطوة القادمة؟ فبنادقهم القديمة لا تفيد كثيرا في مواجهة طائرات الجيش وعرباته المصفحة، الأمر الذي جعلهم يقلّبون الأسئلة فيما بينهم دون جواب، تجرأ أحدهم سؤال البغل المربوط قرب غرفة نومهم عند سفح الجبل (.. انت شنو رأيك؟) وتأويل همهمة البغل على انها حياد حيوانيّ. هكذا يبدأ المؤلف تصويره لخوف يتصاعد بمرور الساعات وبتكاثر الفلاحين الذين أُحرقت قراهم، وتجمعوا قرب قواعد الأنصار هربا من جحافل الجيش. سلط فيها الضوء على الاطفال والنساء والشيوخ الذين شكّلوا عبئا على حركة المقاتلين ودورهم بالجبال، وأدى إلى تحولهم ادلاء وبقالين، مهمتهم حماية النازحين وتوفير وسائل نقل الطعام لهم، وهي ليست من مهماتهم. وهو ما دفع أحد القادة الميدانيّين للقول (آني احتاج بغال، وليس رفاق صــ129).

"حصار العنكبوت" تجربة حيّة لعشرات الآلاف من الفلاحين المحاصرين في ظلمة الجبال، وهم يبحثون عن طعام ومكان ينامون فيه. حصارٌ كان سيضاف إلى قائمة الحصارات التي اشتهرت بها شعوب أخرى، لكنه أُغفل بتواطؤ من الجميع. السرد تناول تفاصيل نزوح جماعيّ غير منظم لمجموعات هاربة باتجاه القمم الجبليّة، وأخرى نازلة من تلك القمم، في مشهد رعب يعكس حالة المحاصرين. في هذه الفوضى تجمّد دور المقاتلين، وخلا السرد من البطولات والافكار والاحلام والموضوعات المثيرة، وحل محلها البحث عن الطرق العملية لإنقاذ الجموع المضطربة من هول الصدمة. إنّ الهروب الجماعي من قسوة النظام واسلحته الفتاكة هو المتن الذي يجمع حكايات ومخاوف القرويين من اصقاع مختلفة، كل ذلك حدّده المؤلف بزمن واقعيّ متسلسل بأيام وساعات، وبأمكنة واقعية وشخوص من لحم ودم. مزج فيها المؤلف بين التوثيق والسرد الروائي لرسم المشهد، مرد ذلك التداخل بين الهم السيرذاتي والهم الروائي، الذي طبع أغلب كتابات مَنْ عاشوا تلك الاحداث وكتبوا عنها. نلمس ذلك في بنية الاحداث وتشابكها وتسلسلها، وفي قلق المؤلف من هيمنة مخيلته على الاحداث الطازجة، فيتوقف المؤلف فجأة عن الاستطراد (موصيا نفسه وللمرة الألف أن يوثق، لا أن يتدخل في الاحداث، هدفي التوثيق وليس السرد صــ 249) ولكن يبدو ان الوصايا الألف لم تقلّل من كثافة السرد وتدفق اللغة وحضور المخيّلة، زيّن ذلك بلقطات سينمائيّة ومقاطع شعريّة وقصص حب عابرة ارتبطت ببناء المشهد الروائي.

الرواية متعددة الأصوات، لا وجود لبطلٍ واحد، رغم الحضور الواضح لـــ "حاتم". وفي نظرة تحليلية لطبيعة الشخوص سنجد ان حضور الذات الكاتبة ليس ضعيفا، وان المؤلف حاول التماهي مع "حاتم" الميّال للصمت وحب الأوراق والعودة للمكان الأول. المؤلف يروي بضمير الغائب إلا انه يكون مكشوفا أحيانا، وهذا ليس ضعفا فنيّا. فالتأثير السيّري على هذا النوع من الكتابة، ذكر أسماء وحوادث معروفة، هو الذي يجر الكاتب لبقعة الضوء. في قسم الرواية الأول اشتغل المؤلف بدأبٍ على رسم شخوصه في عزلتهم الجبليّة، وصفهم جسديّا وفكريّا وعاطفيّا. وفي القسم الآخر، عندما حاصرهم الجيش وبدأت الجموع بالنزوح هاربة صوب الحدود، حمل المؤلف كاميرته إلى تلة ليصور برؤية بانورامية عامة ملامح شخوصه؛ خدود ناشفة وعيون غائرة وخطى بطيئة لشيوخ ونساء حوامل وأطفال رضع. تتضح اللغة التسجيليّة أكثر في توثيق حركة النازحين ساعة بساعة ويوم بيوم، في أمكنة موحشة، تعكس معرفة المؤلف التفصيلية بالوديان والينابيع. إنّ من خصائص الواقعة الكبيرة احتضانها لكثير من الحوادث الصغيرة، التي تنفتح على أمكنة تعكس طبيعة التجمعات القبليّة والقروية للمحاصرين عند جبل "كَارا" كل مجموعة تبحث عن خيمتها، سفحها، شجرتها التي ستنام في ظلها. إنّ تجمّع آلاف العوائل وهم يجرجرون أطفالهم ومعاناتهم خلفهم من سفح إلى آخر، افسح المجال لظهور شخصيات وقصص فرعية تتقاطع وتلتقي في مكان ضيق ومحاصر. قصص حب ومرض وخوف واختفاء تدور حوّل كيفية الهروب من قطعات الجيش العراقيّ باتجاه الحدود التركية. السرد هنا لا يبني علاقات مسهبة بين الشخوص الذين قدموا بالآلاف من قرى مختلف، ومد بدلا عن ذلك خيوط علاقات عامة بين قرويين تتسم حياتهم بالألفة والبساطة والعمق، كان فيها للتكافل الاجتماعيّ دوره في استمرار الحياة. هنا تبدو حبكة الفلاح الذي جلب معه بقرته العزيزة على قلبه، بعد ان هرب من قريته وترك خلفه كل شيء يحترق، من الحبكات التي تجسد حال التكافل بين المحاصرين بالجبل. فعندما جاع المحاصرون قدّم بقرته للذبح، ثم هام المسكين على وجهه في الجبل، لا يستطيع رؤية دمّها وتذوق لحمها. وكل ذلك يمضي بلغة متدفقة وحيوية تصنع البسمة على وجه القارئ. ففي هذا الجمع الهائل، حين تركض عقارب الساعة دون حل يلوح في الأفق، سيكون من الطبيعي ظهور حوادث مضحكة\مؤلمة مصدرها قسوة الطبيعة، او سذاجة القروي، أو حصار الجيوش، او تفاهة المسؤول السياسي. يكون فيها الضحك متعدد الاستعمالات، ينفع للفرح وللحزن وللرفض وللسخرية من الذات.

تراجيديا "حصار العنكبوت" تنتهي مفتوحة الضفاف، بعد حصار دام فيها أيام. يُقتل فيها الكثير من الأنصار، وتضيع أخبار آخرين بحثا عن منافذ للنجاة، في حين يفضّل الناجون منهم بدء مرحلة جديدة من القتال (أكيد من سيقود المحاولة الجديدة غير هذه القيادة التي فشلت وانتهى أمرها... سيكونون هم والجبل وبنادقهم صــ 366) أما العوائل فقد امتثلت للأمر الواقع، وذهبت مستسلمة باتجاه القطعات العسكريّة الحكوميّة. هنا تنتهي الرواية، مع ملاحظة أخيرة من المؤلف تقول (حتى وقت كتابة هذه الشهادة، ورغم الحفريات الكثيرة التي نبشت في خارطة الدفن الجماعي بعد احتلال البلد في نيسان 2003 وسقوط النظام إلا ان أحدا لم يعثر بعد على رفاة تلك العوائل، وما زالت رفاتهم مجهولة صــ 367).

***

"في باطن الجحيم"

نشيد عزاء لضحايا الأسلحة الكيمياوية

للروائي سلام إبراهيم رواية تسجيليّة واحدة عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (في باطن الجحيم ـــ مجلة الكلمة ـــ العدد 48 أبريل .2011 وصدرت لاحقاً ورقياً عن وزارة الثقافة العراقية 2013 بـ 320 صفحة)  تناول فيها تعرضه، هو ورفاقه، للأسلحة المحرمة دوليّا، وما تبعه من أنفال وتهجير. ولكن "إبراهيم" يُعد الأكثر تناولا لتجربة الانصار من بين أقرانه الآخرين، بسبب اعتماده سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، والتي تُعتبر سجلا مهما لعنف الصراع بالعراق، في النصف الثاني من القرن الفائت.

تبدأ الرواية بمفارقة لا تحدث كثيرا في بلداننا؛ جلوس الضحيّة على كرسيّ في منفاه يتناول قهوة الصباح أمام شاشة التلفاز يشاهد بفرح، دهشة الجلاد في قفص الاتهام. ومع تكرار الجلوس قدام شاشة التلفاز تتبيّن لنا صورة البطل، وما كابده خلال عقود في مواجهة سلطة تتغذى على الخوف والقتل. المؤلف لم يقتنص لحظة ظهور الديكتاتور ليعيد تدويرها واللعب فيها، فهو عرف سجون الديكتاتور وحروبه وسمومه التي اعطبت رئته، إلا ان الكتابة هنا بدتْ اشبه بردةِ فعلٍ تلقائيّة لضحيّة يرى جلاده ذليلا. في الواقع هذه اللحظة التاريخيّة افسحت المجال لكثير من الضحايا ان يعودوا بذاكرتهم إلى جزء من تاريخهم المؤلم، وأن يتذكّروا رفاقهم الذين رحلوا، دون ان يروا ذل الديكتاتور وهو يعبث بلحيته في قفص الاتهام. يوهمنا مدخل الرواية بأن الضربة الكيمياوية التي تعرض لها المؤلف ورفاقه هي كلّ الموضوع، ولكننا سرعان ما نعرف ان تلك الجريمة البشعة ليس سوى جوّلة من جولات العنف التي حوّلت حياة أجيال إلى جحيم. المؤلف تناول في روايته ثلاثة وقائع؛ الأولى مع محقق الدولة الدنمركي عن الضربة الكيمياوية (عندما أدخلني الديكتاتور في الجحيم) والثانية عن واقعة الغازات السامة وعملية الأنفال (عندما أدخل الديكتاتور رفاقي في الجنون) والثالثة عن التشرد بالمنافي. إضافة إلى الكثير من حوادث السجون وجبهات الحرب العراقيّة الإيرانية، كان المؤلف قد مر عليها سريعا على أمل العودة إليها في مكان آخر. 

إنّ ملمحا مهما من فصول الرواية الثلاث يقوم على حقيقة ان حوادثها وقعت على الأرض، وأن بعضا من شهودها ما زالوا أحياء. وهو ما حيّد المخيّلة وقلّل من مساحة التلاعب بالتفاصيل الصغيرة للحوادث، ووضع المؤلف في منطقة التوثيق المحكومة بتسلسل الحوادث وإيقاع السرد. أردنا القول ان الكتابات التسجيليّة لا تنفق على الدوام جهدا في التزيين وفي نقل الحوادث من الواقع للمتخيل، فبعض الحوادث لا تحتمل التجريد واللعب عند التوثيق، ولا يمكن إخراجها عن سياقها دون ان يترك ذلك أثرا. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته بوثائق ورسائل محكمة العدل الدوليّة، وبشهادات أهالي الضحايا المفقودين "صباح كنجي" وبشهادة الجندي "يحيى غازي رمضان" الذي كان على الجهة الأخرى يقاتل في صفوف الجيش العراقي، حيث رأي بعينيه ما حدث للمدنيين، قبل ان يختفوا إلى الأبد في المقابر الجماعيّة. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته، ويتلاعب بالزمن، نجده ممسكا بخيط السرد امام شاشة التلفاز، تارة يغني للديكتاتور: اه يا أسمر اللون. وتارة أخرى يكتب شعرا له: ننصت أنا والطاغية.. هو في دهشة وامتعاض.. وأنا في نشوة وطرب. وفي تكرار جلسات المحاكمة على شاشة التلفاز تستعيد ذاكرة الراوي أسماء الاصدقاء والاخوة والاقرباء الذين غابوا دون قبور، تستعيد أعوام التعذيب في سجون الديكتاتور ورعب الموت في جبهات الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ثم يجمعها بخبرة السارد، لمقاربة آلام الحريق المشتعل في جسده جراء الضربة الكيمياوية. فلقد باتت المعاناة مفصلا في وجود المؤلف وذكرياته وكتاباته اللاحقة، ونجده في رواياته ونشاطاته الإعلامية دائما ما يخبرنا عن الظروف والأسباب التي دفعته للكتابة بعد تعرضه للإصابة بالسلاح الكيمياوي ويقول (لو كُتِبَ لي النجاة من هذه المحنة، فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي. صــ22)

ما يميز رواية (في باطن الجحيم) هو انها جاءت على لسان واحد، يروي بضمير المتكلم أحداثا سامة، يغمض فيها القارئ عينيه مرارا من قسوتها ومن بطء زمنها الذي تساوي دهرا كل ثانية فيه. فالزمن الذي يشعر به المصابون بالأسلحة الكيمياوية هو زمن داخلي احتفظت به ذاكراتهم واجسادهم المحروقة. نلمسه في ركض الراوي المعطوب الرئة بين النيران وهو يصف جثثا مكدسة وقرى مخربة وطائرات محلقة، ثم يتسع المشهد على حيوانات نافقة وامرأة حامل مات طفلها في بطنها، وفجأة يقطع علينا السرد ليقول (فالذي أسرده عليكم الآن جرى بدقائق معدودة. صــ12) وتساوقا مع ذلك لم يشغلنا المؤلف بزخرفات اللغة وصنع المشاهد الساخنة، وأدخلنا منذ سطوره الأولى إلى حوادث رعب خانقة. بدتْ فيها متعة القراءة مشدودة وضيقة، بالقياس إلى كمية الألم والمعلومات الصادمة عما تتركه الغازات السامة من أثر على جسد وعقل الإنسان. إنّ استخدام المؤلف لغة في متناول القارئ يعود لطبيعة الحوادث الواقعية من جهة، ومن جهة أخرى معرفة المؤلف المسبقة بعمق وغرابة ما يروي. ونجده من الطبيعي، في هذا النوع من الكتابات، ان تسقط اللغة بالمباشرة والتكرار والصراخ أحيانا (ليسمع من كان في المراكز العليا من بطانة الدكتاتور، ممن يقول في المحكمة بأنه لا يعلم ما يجري حوله، وخصوصا وزير الدفاع سلطان هاشم، الذي صور نفسه حملاً وديعاً، وهو المكلف بقيادة حملة الأنفال، صــ 60) إنّ الروايات التي توقفنا عندها ينبغي وضعها في سياقٍ تاريخيّ كان فيه العراق يخوض حروبا خارجيّة وداخليّة مستمرة، عمّت تأثيراتها البيوت والشوارع والمقاهي، ثم تسربت للأدب؛ وبالتالي لا يعيب  هذه الروايات اجواء القتال والدماء والغازات السامة، مثلما لا يعيبها البكاء والصراخ بصمت، أو حتى بصوتٍ عال.

احداث رواية (في باطن الجحيم) خالية تماما من الغموض. ابطالها قليلون، مشخصون بأسمائهم وبأساليب عيشهم وطرق موتهم. يستعيدهم الراوي من الماضي لتدعيم شهادته عن الغازات السامة والرئات المعطوبة. أغلب شخوص الرواية جاؤوا من خلفيات عمالية وطلابية، تارة يقدمهم المؤلف ضحايا لسلاح فتاك لا يستطيعون مواجهته، وتارة أخرى يقدمهم ابطالا في مواجهة الموت، لا يتخلون عن قيّمهم وعلاقاتهم الرفاقية حتى النفس الأخير (أمام غرفة الطبابة جلس الشهيد أبو رزكار متربعاً على الأرض واضعاً رأس أبو فؤاد في حضنه، ومنحنياً عليه، يهمس بشيء ما، كأمٍ تحنو على وليدها.. وقسمات أبو فؤاد بدأت تسّود شيئاً فشيئاً وكأنها حرقت بفرن صــ 10). المؤلف رسم سيّرا مختصرة لشخوصٍ يستمدون قوتهم من الجبل ومن قناعاتهم الفكريّة، واشار إلى بطولاتهم في مواجهة الموت دون تطبيل سياسيّ. فقد رسم لــ "أبو فؤاد" سيرة رائعة؛ تبيّن جهوده في استقبال الملتحقين الجدد، طيبة عائلته التي ستضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد، حادثة تسميمه المدبر من قبل عملاء السلطة، ذهابه للعلاج في إيران، وصولا إلى تفحم جسده وموته في الضربة الكيمياوية. هذه السيّر المختصرة غالبا ما ترتبط بأحداث فرعية وأسماء مستعارة لأفراد ما زالوا أحياء، وأخرى صريحة، كما نجده مع حادثة (جابر هادي هيجل صــ13) الذي قُطعت ساقه في احدى المعارك، سقوطه من البغل، انشغال الآخرين بطفلته الصغيرة. في خضم هذا الكابوس الخانق نتعرف على الشخصية الأكثر حضورا في الرواية، زوجة المؤلف "بهار_ ناهدة جابر جاسم" التي ملأت حياته بالدفء والأمل. نتعرف على دورها بعد الضربة الكيمياوية؛ كيف اعانته وذكّرته بمواقف الرجال، وكيف صارت دليله بعد ان افقدته الغازات الكيمياوية بصره. المؤلف نجح في ابراز دور المرأة، وحاول تسخين المناطق العاطفيّة، إلا ان الخراب والموت والاجساد المحترقة التي خيّمت على السرد حالت دون ذلك. ينبغي الإشارة هنا إلى ان المؤلف في ملاحقته للأحداث، متنقلا بين الماضي والحاضر، يتوقف ناقما على دور النشر التي لم توافق على طبع روايته، يتوقف عند دعاء أمه على الطاغية، عند أصدقائه الشعراء.. توقفات وتعقيبات تأتي سريعة، ترتبط بالشخوص والاحداث تارة، وتارة أخرى بلا سبب فني.

 لا نبالغ بالقول ان "الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل وثّقت لضحايا الأسلحة المحرمة دوليّا أكثر مما فعل المدون السياسي الذي عاش التجربة نفسها، أما المؤرخ فهو ما زال مشغولا بجمع أدواته عن حوادث وقعت خلف الجبال. الروائيون وثّقوا رؤيتهم عن احداثٍ عاشوها، رصد كل منهم زاوية منها. في سطور سابقة كنّا قد تحدثنا عن رواية (حصار العنكبوت ــ كريم كطافة) التي تناول فيها واقعة الانفال، وفي رواية "في باطن الجحيم" كذلك تناول سلام إبراهيم واقعة الانفال، لكنها بدتْ مختلفة في أكثر من موقع. فهذه الأخيرة رواية تسجيليّة، تناولت عدة وقائع، في فترات مختلفة من سيرة المؤلف. من جهة أخرى ظهرت هذه الاحداث في روايات عدة لسلام إبراهيم، ولكن بأسلوب مختلف، ومضامين لم تكن معنية فقط بالأسلحة الكيمياوية، وانشغلت بمعاناة الإنسان وبخيانة رفاق السلاح وبانسداد الأفق الذي عايشه في تنقلاته بين السجون والجبال والمنافي. روايات سلام إبراهيم الأخرى تناولت حياة الأنصار الشيوعيّين بالجبل، لكنها توقفت طويلا عند الجانب الهش في حياتهم، وخلت صفحاتها من المداراة والتفاؤل، فإصحاب القضايا الحقيقية لا يعيشون على الدوام حالات رضا وتفاؤل، خصوصا عندما يغيب المستقبل وتنقص نسبة الاوكسجين بالهواء.

هذا هو النسيان أن تتذكر الماضي ولما تتذكر الحكاية

***

نصير عواد

 

سوف أنطلق من تأثيثِ خطابٍ نقدي بخلقٍ بونٍ شاسعٍ مع مفهوم النتائج المعيارية (سيء رديء جيد) وأتحدث من زاوية منظورها العلائقي عن عرض مسرحية (ليلة ال (للمخرج (محسن حيدر) ومن تأليف الفنان (عمار سيف) خارج هيمنة (التقنين وألتسيس) التي انطلقت من عتبةِ عنونة المهرجان. نعم من المحلية نصل إلى العالمية، نعم واحدة من غاياتنا كمسرحيين تصدير ثقافتنا لا سيما الأطرس الدينية، هذه الفوارز الفارقة المحملة بالقيم الفكرية والجمالية لا بد من الالتفات لها لتأكيد الهوية بتعابر الثقافات، وهنا يتبادر في ذهني سؤال هو (كيفية؟) و(ما مدى اتساع الخطاب المسرح الحسيني؟) هذا السؤال لم نجد له اجابة وافية منذ عقوده متنافرة مروا بتمرحلات التاريخ، ربما أجد أن فكرة النص الاصل (ليلة التغسيل) كانت تحاكي القضية الحسينية ولكن بشكل مغاير (التعرية/ كشف المستور) اذ نجد ان هنالك كماً هائلاً من المحاولات التي اهتمت بتأصيل وتطريز شكل الثقافة الدينية والطقوسية لا سيما (القضية الحسينية)، ومحاولة تقنين التاريخ من دون التفكير بمفهومي (الجذر والأصل / الكل الجزء)، إذ هل يمكننا أن نفرق بين (المسرح، والقضية الحسينية)؟ كون المسرح هو (لعب / تمثيل) والدين بشكل عام هو (الامتثال)، وهنا نقع في إشكالية الوصف والتجريب، نعم هنالك مساهمات واضحة تناغمت مع القضية الدينية (الحسينية) لكن لا بد لنا ان لا نترك السمت الجمالي للمسرح، اذ ما هي السبل التي يجب ان نعتمدها في تأكد هذه الهوية (الدينية، الحسينية)؟، من خلال عدم صهر الافاق الثقافية بعيداً عن المنظومات السسيوثقافية الكبرى؟ ام من خلال التعامل مع القضية من جانب انساني عالمي بعيداً عن الكلائشيات؟. اذ ان هنالك فواصل كثيرة انا اجزم بان الاعم الاغلب لم ينظر اليها من زاوية جمالية لطرح الأسئلة المهجورة الساكنة كما طرحها(عمار سيف) بخجل وتحفظ عن الكثير من الامور التي تسمح له بطرحها لما للنص من بعد فكري وفلسفي يتحمل المزيد، وهذا ما جعل (عمار) يخرج عن هيمنة (الكلائشية)، اذ دائما ما نحبو صوب خطابات ذات اجوبة تعطل عقل المتلقي المتعطش للاثنوغرافيا والانثروبولوجيا والايقونولوجيا وتوظيف المحنة الاجتماعية وتحريك الساكن، ومن هذا المنبر الثقافي اوجه سؤالي ولكل القائمين على المهرجانات الحسينية (هل ان العرض  المسرحي الذي يناول القضية الدينية (الحسينة) بشكل واقعي او تجريبي لا يمكن ان يقدم في المهرجانات المسرحية الاخرى ام أنه مقتصر فقط لمثل هكذا مهرجانات تندرج تحت شعارات القضية الحسيني؟)، وهنا ندخل بقوقعة (التقنين، التسيس، البقاء في المحلية).

فما طرحه (عمار) في بنية النص الادبي اكد مفهوم الابسملوجي الفيلسوف (بشلار) في أن الموت ليس نهاية المطاف في حياة الفرد بل هو مرتبط بالوجود الزمني للانسان . فنحن نموت ونحيا في الزمن لان الزمن لحظات معلقة بين عدمين (الماضي والمستقبل) فتحديد الزمن يفترض الموت لان الزمن لا يستطيع ان ينقل كينونته من لحظة الى اخرى لكي يكون في ذلك ديمومة. فالموت ليس الطريقة الى التحرير من الزمن  بل هو عنصر محايث للزمن ذاته، وهذا ما خلدته القضية الحسينية وبنيت ثيمة النص عليه، الا أن المخرج (محسن علي) قد خانت التعبير في التعامل وبإسراف مع (سر الحياة / الماء) اذ ناغا (محسن) بلغة بصرية مفهوم اقصاء القضية الحسينية لكنه اخفق في هذه الصورة فكريا من خلال اشراك (الشمر) في هذا الاقصاء وكأنه امتزج فكريا مع المجسدين الاخرين (حيدر عنوز وعلي الجشعمي) واستخدامهم للماء في الاقصاء.

وبهذا ندخل الى نص العرض، ونحن والجميع يعلم أن (بوبوف) اكد على مفهوم التكاملية، وهذا ما لم اجده في هذا العرض، فما للمشهد الاستهلالي الا كم هائل من التنميط وعدم الدراية بتكاملية الموسيقى مع المؤدين وباقي عناصر العرض الاخرى، مشهد متشابك بين موسيقى واخرى بلا مبرر وبلا دراية واحساس من قبل الممثلين في التعامل حتى معا لغة الجسد، حسنن عمل المخرج الشاب في توظيفه للقطعة الديكورية كاهم علامة في هذا العرض لتعدد استخداماتها (مسطبة/ دكة تغسيل الموتى/ منبر ديني/ نافورة ماء) لكنها بقت ساكنة من دون روح او مهيمنة على جميع عناصر العرض الاخرى حتى على الممثلين، التكاملية التي وردت في سياق الورقة تشمل الممثل وتكاملية ادائه، اذ لا يمكن للمثل ان يصل ذروة الجمال ما لم ينسجم مع فضاء العرض يتحسس هواء القاعة ويتنفس ظلمت المكان ويبصر ذاته وذات الشخصية، فما الجسد الا لعنة ما لم تعي تفاصيله وتدرك تعويذته لا تقنع الاخر وهنا وقع المخرج في شباك هذه اللغة ودخل في عتمت القبح وسذاجة الطرح لا سيما مشهد الاستهلال ومشهد تغسيل الرجل، فما طرحه العرض المسرحي من شخصيات ابتعدت فكريا مع ما يطرحه النص الادبي، شخصيتين متناقضتين قدمها لنا العرض ليس بظاهرهما بل بالمحمول الفكري الباطن، فما الرجل السكير الا محب لآل البيت عكس رجل الدين المرابي الذي استلهم من الرجل السكير قيمة القضية الحسينية، هاتين الشخصيتين الغت فكرة الخطابات المحايدة المهيمنة في العروض الحسينية، لكن رغم هذه الحسنة الا ان العرض افتقد الى الحيوية على الرغم مغادرة مركزية الواقعة وهذا الاهم لكن المخرج ادخلنا في قعرها اذ كان بالإمكان خلق بؤر اخرى للصراع واستحداث مساحة انشائية للممثلين للخروج من شباك السطحية وهيمنت التشتت على الرؤية الجمالية.

على سبيل الاقتراح بعيدا عن التنظير كان من الافضل أن يعمد المخرج إلى تغييب القصائد والردات رغم ما تم تناوله من موضوعة تحسب للمخرج باختياره هكذا نص يحاول إيصال القضية عالميا بعيدا عن اللغة الجامدة، نعم هنالك انفتاح إلى اللغة الصورية هنالك همساً إخراجي

امامنا تجربة شبابية لا يمكن نكرانها او محوها

الملاحظات لا تثقل من جودة العرض المسرحي الا اني حاولت أن أمنح العرض المسرحي قراءة نقدية عن عرض قدمه لنا مخرج واعد عرفته ممثلا بصوته الراكز.

***

يوسف السياف

عام 1963

تدنو منه أمه في الغرفة الجديدة، ماذا تفعل هنا؟ أقرأ، يقول لها، ماذا تقرأ؟ تسأله، يرسل نظرة صامتة إليها، ويتابع القراءة. تسأله أمه وهي مولّية ألا تريد أن تتناول الطعام؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل.

تنصرف أمه، يواصل القراءة في كتاب " الأم" يطوي الصفحة تلو الصفحة، يتوقّف عند بعض الكلمات يعيد قراءتها لا سيما تلك التي تتحدث عن صمود الأم وثباتها على أرض لا تميد، أم مكسيم جوركي تشبه أمه من العديد من الجوانب، الاثنتان مناضلتان في هذه الحياة، الفرق بينهما أن المجال اتسع أمام أم جوركي وضاق أمام أمه، أمه جاءت مع أبيه وأخويه الأكبرين من قرية سيرين بعد أن طردهم منها اليهود، كم من مرة حكت له عن كفاحها من أجل أن تحافظ على ما تبقى من الحياة.

يواصل القراءة، كم هو معجب بما يقرؤه، يشعر بقدمي أمه تدبان بين الغرفتين، يفتعل عدم رؤيته لها، تدنو منه تضع يدها على رأسه بحنو لا حدود له، ألا تريد أن تتناول الطعام يا ولدي؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل. الساعة متأخرة يا ولدي أخشى أن أنام دون أن أضع لك الطعام، لا تخافي يا أمي لا تخافي، بعد قليل أعدك أن أفرغ من القراءة، وأن آتي إليك.

يبقى وحده في الغرفة لا يشعر إلا بحركة الحياة تنبعث من الكتاب بين يديه، المقارنات تتواصل، الناس عند جوركي يقاومون الظلم، الناس حوله مستسلمون له، لا حول بيدهم ولا قوة، أبوه يعمل بعيدًا عن البيت وأمه تحاول أن تسد الغيبة، أحيانًا تعمل في أراضي اليهود، اليهود أخذوا البلد وأخذوا معها راحة البال، لم يخلّفوا وراءهم سوى الشقاء.

الليل يمضي متقدمًا دون أن يشعر بأنه في ليل، الكائنات في كل مكان صامتة إلا هو هناك في غرفته هو يقرأ الصفحة تلو الصفحة، حالمًا بامتلاك عالم ما يقرؤه.

يواصل القراءة. تهل تباشير الفجر، تستيقظ أمه من نومها، يشعر من حركتها تدب في ساحة البيت، تدنو منه مرة أخرى، أما زلت تقرأ منذ مساء أمس؟ لماذا تفعل هذا كله؟ أريد أن أكون كاتبًا، يرد عليها بشمم، أريد أن أكتب القصص عنكم وعن عذابكم مع الأيام. تنظر إليه أمه كمن لم يفهم، ماذا تقول ستكتب القصص؟

عام 1968

يكتب قصته الحقيقية الأولى، قبلها كتب الكثير من القصص، ما إن كتب تلك القصة حتى شعر أنه وضع قدمه على بداية الطريق، ليس مُهمًا ما يقوله آخرون، المهم ما نقوله نحن عن أنفسنا، هو شعر بنفسه أصبح كاتبًا، أخيرًا تمكن من الكتابة عن أمه ومدينته، بل عن حبيبته المتخيّلة، لكن ماذا عليه أن يفعل كي يتأكد من أنه أصبح كاتبًا؟ الكثيرون من أصدقائه القلائل آمنوا به قالوا له أنك كاتب بالفطرة، قرؤوا كتاباته بانبهار، أنت مولود لتكون كاتبًا، هو يعرف أنه أصبح كاتبًا لكن كيف يتأكد؟ كيف يعرف أن ما يسمعه من أصدقائه لا يعدو كونه شفقة ورأفة بولد مهجّر ابن مهجّر؟

ظل يفكر إلى أن توصل إلى تحد ليس سهلًا، ما لبث أن بادر إلى خوضه، فإما يكون أو لا يكون، إما أن يواجه فشله وإما أن يضع قدمه في خطوتها الأولى على طريق المجد (كان متأثرًا فعلا بكتاب" طريق المجد للشباب لسلامة موسى).

طوى القصة عدة طيات وضعها في مغلف اشتراه من المكتبة خصيصًا، كتب عليه عنوان مجلة" الجديد" المجلة الأهم في بلاده تلك الفترة، وأودعها صندوق البريد الأحمر القريب جدًا من بناية البريد في الناصرة، أودعه هناك إبعادًا لأي سبب قد يحول دون وصول الرسالة إلى عنوانها.

في نهاية الشهر اشترى مجلته المقدسة، ليفاجأ بقصته منشورة فيها، حمل المجلة كأنما هو عرف أنه يمكنه أن يفعل شيئًا للمرة الأولى في حياته، وركض إلى بيته، كان فرحًا يريد أن يشارك الإنسان الأعز على قلبه فرحه بقصته.

اقترب من أمه احتضنها، لقد أصبحت كاتبًا، أصبحت كاتبًا يا أمي. أمه ترسل نظرة مستفسرة، ماذا تقول؟ أصبحت كاتبًا؟ يعني ستكتب الرسائل لمن لا يعرف كتابتها ستعمل قبالة المسكوبية؟ كلا يا أمي، انتظري ها هي أهم مجلة في البلاد نشرت واحدة من قصصي. ماذا يعني هذا يا ولدي أنا لا افهم عليك، هذا يعني أنني أصبحت كاتبًا يا أمي، سأملأ الدنيا قصصًا عنكم وعما ذقتموه من عذاب. لا أفهم لا أفهم يا ولدي، على كل حال " على الله يطلع من بيت هالمطبلين مزمر"، سأزمر يا أمي سأزمر، سأكون كاتبًا، سأكتب أجمل القصص.

عام2006

تأتيه أمه في منامه، تقترب منه، هو ما زال يقرأ الكتاب تلو الكتاب، أما زلت تقرأ الكتب يا ولدي؟ نعم يا أمي، الكُتّاب لا يتوقفون عن قراءة الكتب، إلا في واحد من أمرين حينما يرحلون من هذه الدنيا، أو حينما يفقدون أبصارهم، ويستدرك حتى حينما يفقدون أبصارهم فإنهم يبحثون عمن يقرأ لهم الكتب.

تتمعّن والدته في ملابسه، لماذا أراك تزداد فقرًا يا ولدي؟ لقد أصبحت كهلًا وبعد قليل تصبح رجلًا مُسنًا، وأنت كما أنت ما زلت فقيرًا، إلى متى ستبقى فقيرًا يا ولدي، ألا يفيدك أنك أصبحت كاتبًا؟ لست فقيرًا إلى هذا الحد يا أمي، ثم إنني لا أعرف ماذا يخبئ لي الغد، كم كنت أود لو أنك بقيت إلى جانبي في عالمي الفاني هذا لنقطف ثمرة أحببت أن نقطفها معًا. تتمعن أمه في ملابسه، لكن لماذا ترتدي هذه الملابس الرثة يا ولدي؟ يحاول أن يشرح لها أن يقول لها إن الإنسان الجميل يبدأ من الداخل إلى الخارج، وليس العكس، وإن من يبدؤون من الخارج إنما هم أناس تعساء، يشرح ويشرح ويشرح، إلى أن تستوقفه أمه بإشارة من يدها لا أفهم ما تقوله يا ولدي، أنت تعرف أنني أميّة لا اقرأ ولا اكتب، إلا أنني افهم أن الواحد منا نحن بني البشر إنما يحاول أن يحسّن حياته. أنا أحاول أن أحسن حياتي يا أمي، لا تقلقي، أرجوك لا تقلقي، طريق الكُتّاب كثيرًا ما تكون طويلة، أطول من أعمارهم، لهذا هم يعيشون أحيانا بعد رحيلهم، لا أفهم عليك يا ولدي، ما افهمه انك ينبغي أن تعيش حياة أفضل من هذه، وماذا تقترحين يا أمي؟ أقترح عليك أن تبحث عن عمل آخر يمكنك من أن ترتدي أفضل الملابس، لن ابحث يا أمي، قلت سأكون كاتبًا، يعني سأكون كاتبًا.. ولن أتنازل عن حلمي.

***

قصة: ناجي ظاهر

تقنية الإخراج الجمعوي:

بداهة ليست هنالك  وصفة جاهزة، لمنهج إخراجي معين؛ يمكن أن يتم تطبيقه بحذافيره، باعتبار أن الإخراج أساسا إبداع وخطاب بصري/ جمالي، وليس بمثابة معادلة رياضية أو تركيب كيماوي؛ لكن هنالك مبادئ أساس في عملية الإخراج لحظة التعامل مع توجه إخراجي (ما) لكن في حالة الإخراج الجماعي؛ فالمسالة جد مستعصية؛ نظرا لغياب شخص معين (مخرج) يستند على قدراته الذهنية  والتخيلية وتجاربه السالفة وموضعة خطط فنية وابداعية وفكرية في صناعة العرض المسرحي؛ باعتبارأن تنمية الرؤية الإخراجية عند المخرج تتطلب مجموعة أدوات تتيح له القدرة على صناعة العرض المسرحي . بحيث وإن كان هنالك شخص واحد هو المتحكم في العملية الإخراجية؛ جوانيا. فإنه ينصهر ضمن الجماعة برانيا، وذلك لتحقيق مفهوم الفعل الجمعوي؛ وتبديد سلطوية "المخرج" لكن الجمعيات التي انخرطت في عملية الإخراج الجمعوي؛ في الغالب انطلق أفرادها والذين كانوا يشكلون القاعدة التلامذية / الطلابية / أساتذة / من منظورين [السياسي/ الفني] ارتباطا بالتجارب التي لم تكن بمعْزل عما (كان) يقع في الساحة المسرحية العالمية، والتي رسختها الترجمة والتي: ترجمت أبرز أعمال كبار الكتاب والشعراء والفلاسفة الألمان إلى العربية؛ وفي مقدمة أولئك المترجمين يأتي غوتة وماركس ونيتشة وهيكل وبريخت...(1) وكذا بروز الفكر اليساري/ الاشتراكي في العالم العربي (وقتئذ) والمبشر بالحرية والعدالة الإجتماعية والتقدم، ليس في المغرب وحده بل في العديد من الأقطار العربية؛ باستثناء (الخليج) وهذا: في إطار الوعي بالتاريخ تأثر المثقفون والمفكرون بالأفكار الاشتراكية التي تدعو الأدباء إلى أن يضعوا أنفسهم ومواهبهم في خدمة المجتمع وهو ما سمى بالالتزام بمعنى أن يتحمل الأديب مسئوليته أمام المجتمع حتى لا يصبح الأدب والفن ترفا ينعم به الخواص ويدور في فراغ (2) مما أدى بالعَديد من المسرحيين/ المثقفين للبحث عن بدائل إبداعية وثقافية مواكبة للثورات الثقافية و الإجتماعية والاقتصادية، فلم يجدوا ضالتهم ومرتعهم إلا في مسرح بيسكاتور/ ستانسلافسكي/ مايرهولد/ برشت/...وخاصة هذا الأخير تم التركيز عليه بشدة مما: كانت فلسفة الدراما الملحمية وصنعتها كأسلوب مغاير؛ قد تركت ملامحها على مجمل النتاج المسرحي (نصاً وعرضاً) وفي ضوء حالة التجديد التي حققتها نظرية المسرح الملحمي، فقد أخذت تأثيرها على مسا رات المسرح العالمي والعربي (3) لإنجاز تصوراتهم الفنية المقرونة بالحماس والاندفاع عِند أغلبية شباب المسرح المغربي، بحكم أن بريشت :جعل مسرحه مدرسة للتنوير الفكري والعقلي، كما أن أحد أركان هذا التنوير الفكري هو الكفاح ضد الوعي الخاطئ وضد الإیدیولوجیة التي تستغلها السياسة. والتي تحدد مسار التاريخ لصالح البورجوازية (4) فمن هذا التصور النظري للمسرح الملحمي؛ الذي دخل حيز التجريب، انطلقت جملة من الجمعيات لتوظيف تقنية الإيهام/التغريب/ التكسير/ اللاندماج/ الارتجال/.../ وذلك من خلال إقامة شبه مختبر مسرحي فيما بينهم؛ لتفعيل تلك التقنيات ومحاولة تطويرها، عبر التدرب على العديد من عناصر العرض كتقنيات التمثيل والفنيات وأساليب الإخراج. انطلاقا من النص المسرحي المقترح. هنا الإشكالية تزيد تعقيدا؛ بحيث نجد العديد من النماذج التي جربت ومارست الإخراج الجمعوي. صيغتين هكذا = (تأليف: علال/ إخراج: جماعي) أو (تأليف وإخراج: جماعي)؟ ففي الصيغة الأولى :هل الذي ألف النص؛ هو مخرجه (عمليا) كما هو سائد في العديد من الأعمال؛ لكن تماشياً مع التيارات السياسية والأساليب الفنية ذات المنظور" الإشتراكي" يتنازل [المؤلف] للجماعة، وينصهر فيها لتصريف وتفعيل مفهوم " الإشتراكية "؟ أم بحكم أن المسرح عند بريشت، ليس خادما للمؤلف؟ أم إيمانا بعَدم قدرته على ممارسة الإخراج ؟ باعتبارأن الإخراج كيفما كانت نوعيته؛ فإنه يحتاج لضوابط تضبط إيقاع عمله وترسم حدوده الفنية /الجمالية، لتحقيق ماهية التلقي للفعل المسرحي، لكن بحكم المعايشة؛ فإن المسألة كانت رهينة؛بالمقام الأول: باختيار أبرز عضو في الجمعية أوأحسن ممثل له تأثير قوي في إدارة المجموعة وتسييرها. تسند له مهمة الإخراج (تنسيقيا) بالمجموعة؛ ليشغل أدواته الحسية والإبداعية لخلق مشاهد وصورة فنية / جمالية؛ تخدم تجربة الجمعية ابداعيا / سياسيا، وللقضاء على مفهوم النجم وسلطوية المخرج،علما أن العديد من أفراد الجمعية يتوفرون إما على موهبة، أوعلى مقومات لامحدودة من الأبتكاروالإبداع؛ وبالتالي يتأطر الإخراج في إطار" جمعوي" عمليا؛ ومن خلاله تتم ممارسة التسييس؛ والطموح لتحقيق رياح التغيير عبر المسرح كما بشر < بريشت >: كون مسرح بريخت مسرح تغيير ونضال يجعل منه أداة فعالة لمواجهة النفوذ الإمبريالي في العالم الثالث ومناهضة الاستعمار بأشكاله الإقتصادية والثقافية والسياسية (5) دونما إغفال ما طرحه المخرج اروين بيسكاتور/بيتر فايس/.../ في تقنيات ومفاهيم المسرح السياسي. على وجه التحديد، مِما تغذت الأجواء المسرحية بروافد جديدة . ارتباطا بالانفتاح الثقافي والإبداعي، على بلدان أوروبا الاشتراكية وتنوعت الثيمات والأشكال والصراعات والتجارب، بحيث تصدر الصراع الطبقي الأولوية، بوصفه عصب التحول الاشتراكي بكثير من اهتمام. وبالتالي فكان الفعل الجمعوي هو الأس في تلك الجمعيات؛ من هنا كانت الصيغة الثانية (تأليف وإخراج: جماعي) لها حضور قوي في المشهد المسرحي، فكان الارتجال/ التحاور/ النقاش/ من السمات الغالبة بين أفراد الجمعية؛ مما كان يستغرق العمل شهورا عدة. تجاه (فكرة) طارئة أو تم طرحها سلفا، وكثيرا ما كانت صياغة الإخراج تتعدل بين منسق ومنسق آخر. ومن هذا المنطلق نرى أن التغيرات في البنية المجتمعية والعلاقة المتبادلة بين الأفراد تؤثر على الإنتاج الفني بشكل عام. ولا غرابة بأن المسرح ألصق الفنون بالمجتمع؛ وحاضن  لروح الجماعة في بنيته . وتبدو ظاهرة الإخراج الجماعي أوضح ما تكون في هذا المضمار، لكن ليست كل الجمعيات مارست الإخراج الجماعي، لأسباب تتأطر فيما هُو سياسي صرف.

بين المشاهَدة والوثيقة:

كما أشرنا بأن الإخراج الجمعوي من الصعْب الإمساك به؛ لتحليل ميكنزماته ومدى المطابقة النسبية للاتجاه الإخراجي المعتمد عليه، نظرا أن الإخراج يرتبط بنسج خيوط الفرجة وعملية التمسرح؛ لكن انعدام التوثيق للحركة المسرحية في فعلها الجمعوي؛ يصبح تاريخا منسيا أو متناسيا، لما قام به بعض الشباب والفعاليات، باعتزاز دونما طمع في أي شيء . يعُوق البحث ومنهجية العمل؛ والتشكيك في بعض الإشارات الواردة هنا وهناك بحيث: والحال أن التزييف والتضليل الذي بدأ يطال الذاكرة الجماعية لتاريخ المغرب المستقل عموما، وتاريخ العمل الجمعوي خلال العقد الأخير من القرن الماضي، مع التكاثر العددي لمنظمات الشباب وتنوع تلاوينها؛ أوحى لأقلام متهافتة ومتجاهلة أوجاهلة بحقيقة الإرث الجماعي باستلهام الكتابة، في هَذا الشأن، بشكل تمخضت عنها صياغة تاريخ مشوه يلغي الحقائق ويعرض الأراجيف، ويهيل على منجزات الشباب (6) وخاصة الذين يتكلمون عن تاريخ الحركة المسرحية الهاوية ! يقفزون على ظاهِرة الإخراج الجمعوي، إما لجهلهم بها أوخوفا من ملامسة الواقع السياسي(السبعيني) بعلاقته بالمسرح؛ ولاسيما أن الظاهرة كانت انعكاسا موضوعيا لعناصر الحياة السياسية والابداعية والاجتماعية؛ للعَديد من التنظيمات السياسية ذات طابع يساري والتي كانت تشتغل في السر؛ لتحقيق رياح التغيير، حسب منطلقاتها. فاتخذت من المسرح واجهة نضالية لترسيخ مفهوم الصراع الطبقي؛ ومدخلا للاستقطاب الشبابي(آنذاك) ومن أهم المدن التي تمركز فيها الإخراج الجمعوي مراكش/ فاس/ الخميسات/ الدارالبيضاء/.../ لكن كما أشرنا؛ بأن المنطلق لتجربة الإخراج الجماعي ترتبط جدليا بالمسرح الملحمي وبالواقعية الاشتراكية؛ بعد [الهزيمة العربية  1967] نجد في مدينة وجدة ظهور الظاهرة من خلال نادي الكشفية الحسنية التابع مع لجمعية (سيدي بوبكر) والتي كانت تابعة لنقابة للاتحاد العام للشغالين ب: عمل مسرحي قصير بعنوان " بايزا" سنة1967 من تأليف ميري عزالدين واخراج جماعي (..) وفي سنة 1982 وقع سوء تفاهم بين أعضاء الجمعية بسبب انحياز بعْض أعضائها المطلق لحزب وطني كان من نتائجه ان تغير اسمها الى "جمعية الشعلة للمسرح والفن" بعْد ان انسحب منها ،بعض الأعضاء... واصل إبداعاته بإعْداد مسرحية " كوريولان" عن برتولد بريخت واخراج جماعي، في نفس السنة . وبفضل النجاح الذي لقيته انضم إلى الجمعَية؛ رواد آخرون من الشباب المتحمس وأغلبهم من الطلبة والتلاميذ (7) هنا يمكن أن نتساءل كيف اخترق الإخراج الجماعي الجمعية إلى نادي الكشفية؟ منطقيا أنه تسرب من الجزائر؛ بحكم الجولات التي كانت تقوم بها الجمعية هناك؛ علما أن الإخراج الثنائي والجمعوي مارسته أغلب الجمعيات المسرحية إبان الاستعمار وبعده؛ متبنية الواقعية الاشتراكية في أعمالها. فحتى المحترفين مارسوا الإخراج الجماعي نموذج مسرحية (المائدة) لعبد القادر علوله سنة 1972 .

إذن بحكم التقارب الحدودي؛ والتأثير والتأثر الإبداعي بين الأفراد، نجد جمعية برومثيوس  والطلائعي  للمسرح سنة 1976 يتعاملان مع الظاهرة: وكان العرض يحمل عنوان "الكراب والديمقراطية" وهو عمل جماعي ...والسنة الموالية قدمت الجمعية مسرحية " مأساة الأشباح الحية من تأليف ع العزيز بنيس وإخراج جماعي (8) والعجيب أن المسرح الأمازيغي؛ بمنطقة (الناضور) تبنى الظاهرة، ولكن بشكل محتشم؛ ومن خلال الأسطر التالية، يمكن للقارئ المفترض أن يستنتج بعض الخيوط المرتبطة بالإخراج الجماعي؛ في المنطقة بحيث تم تقديم: مسرحية (إیرحاگد أمیثناغ) [وصل ابننا] :عُرضت ھذه المسرحية سنة 1978 في میضار والعروي وزایو، وقدمت كذلك لصالح عمال مناجم الحَدید وعمال شركة السكة الحديدية " سیف ریف" بوكسان... من تأليف وإخراج جماعي، وقد أعِدت في إطارجمعیة " أھْل الدربالة". (...) ومسرحية (إیھواد أوكامپاوي غاپاساپورتي)[ذهب القروي إلى المدینة للحصول على جواز السفر] :عرضت سنة 1979 بقاعة العروض بمقر الاتحاد الاشتراكي و كذلك بسينما الریف بمدينة الناظور، من تأليف وإخراج جماعي. وقد تبنت جمعیة" زریاب للموسيقى والمسرح" (9) لكن الظاهرة تشعشعت وتقوت وتطورت في العديد من المدن؛ التي تمركز فيها اليسارالمحضور" آنذاك" لكن ما لفت انتباهي أنه بمدينة [العرائش] سنة 1969-1970 -  برزت الظاهرة مرة واحدة من طرف (جمعية شبيبة لوكوس للمسرح) بمسرحيتين " للاخيتي " و" للاشويكة " تأليف حسن لمراني/ إخراج جماعي (10) للعلم أن الجمعية كانت تابعة لحزب الاصلاح الوطني؛ ولازالت تلك النزعة حاضرة رغم اندماج الحزب بحزب الاستقلال سنة 1956؛ لأن الفنان لمراني أحيا الجمعية بعْد رجوعه من إسبانيا "الفرنكوية" فربما تأثر بالورشات المسرحية التي تدعو للعمل الجمعوي؟ أو ربما المسألة وردت عرضا وعفويا ؟...... [يتبع]

***

نجيب طلال

........................

الإستئناس:

1) صفحات خالدة من الأدب الألماني من البداية حتى العصر الحاضر- وخاصة (ص 623 إلى 680)

لمصطفى ماهر- دار صادر - بيروت /1970

2) المسرحية بين النظرية والتطبيق :لمحمد عبد الرحيم عنبر ص219- الدار القومية /القاهرة: 1966

3) ملامح الملحمية في النص المسرحي الأردني (نماذج مختارة)- (دراسة جماعية) في مجلة:

دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية- ص 281- المجلّد 48 / العدد 3- ملحق 1/2021 / الجامعة الأردنية.

4) نظریة المسرح الملحمي لبرتولد بریشت- ترجمة جميل نصیف،ص81 دار الحرية للطباعة بغداد 1973

5) آثر برتولد بريخت في مسرح المشرق العربي للطالب: الرشيد بوشعير ص64 أطروحة لنيل

الدكتورة من جامعة دمشق/1983

6) العمل الجمعوي بالمغرب التاريخ والهوية ص4/5 منشورات الجمعية المغربية لتربية الشبيبة

سنة 2004 أعدها للنشر حسن أميلي

7) الحركة المسرحية بوجدة: لمصطفى رمضاني (انظر- ص75- 79) منشورات كلية الآداب/ وجدة

رقم15/1996

8) نفسه – ص112

9) ببلیوغرافیا العروض المسرحية الأمازيغية المتعلقة بمنطقة الریف: لجمیل حمداوي صحيفة دنيا

الوطن في-  29  /  05 / 2007

10) انظر لكتاب: هذا الذي نسميه مسرحا لعبد المولى الزياتي ص132 مطبعة طوب بريس – الرباط

ط 1/ 2002

سنعالج في هذه الدراسة، صورة القهر في رواية "عروس الفرات" لكاتبها المفكر العراقي علي المؤمن، وسنعمد إلى تتبّع المواقف التي ظهرت فيها الشخصيات مقموعة. وهذا التوجّه له دوافعه الظاهرة والباطنة، وتصبح هنا وظيفة الكشف عن هذه التوجهات كامنةً في معرفة المحركات والمسوغات لظهور أشكال القمع وتقصّي تأثيراتها في الأفراد والجماعات وإظهار الموقف المعادي الذي أبدته الشخصيات تجاه السلطة القمعية.

القهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة والأخذ من فوق، ومن دون رضى الشخص الآخر، وتالياً؛ فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره الذي تعرّض لفرض السطوة من لدن المتسلِّط عنوة، وأما في تعريف التخلف الاجتماعي فيتمثل القهر في فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة واعتباطها وإزاء قوى التسلط في آنٍ معاً. ففي رحلة القهر تولد الأجناس الأدبية ومنها الروايات التي هي أيضاً وليدة المجتمع ونتاجه وصورته التي تعكس معاناته؛ لأنّ الأدب بشكل عام هو نشاط إنساني يعبّر عن صاحبه وعن المجتمع الذي نما وترعرع فيه، وللأدب وظائف شاملة ذاتية واجتماعية وسياسية ينتقد من خلالها أفعال البشر، ويعبّر عن مشاعرهم وعواطفهم ويعالج قضاياهم، كما أنه يتناول القضايا الوجودية ويبحث عن أجوبة تتعلق بالكون والمصير وقوانين الطبيعة ونواميسها(1).

وفي هذا السياق، تنقل رواية "عروس الفرات" في خطابها ذكريات الماضي في سرد واقعي ممزوج بالألم المستمد من أرض الرافدين، حيث يقدّم كاتبها الدكتور علي المؤمن مادّته السردية في مشاهد تطغى عليها الذاتية المنطلقة من الأنا مصدر الإلهام ومنبع التجربة، مروراً بالشخصيات وصولاً إلى ميناء المجتمع المقهور، حيث يحطّ الكاتب الرحال في نهر الفرات، ويرتبط اسم الفرات هنا بالعروس (عروس الفرات). والاسمان يوحيان بالفرح والابتهاج والسرور، إلّا أنّ حقيقة التسمية تحمل كل معاني التعثّر والخيبة والألم والتيه. والرواية هي حكاية شخصية يستخدم فيها الكاتب تقنية الاسترجاع، ويرسم بقلمه الصورة السوداوية القاتمة من أحداثٍ جرت على أرض العراق.

نقرأ رواية علي المؤمن، فنجد صوت الأنين يصدح من عمقها، ويُسمَعُ ذاك الأنين في أنحاء وطنٍ معذبٍ مقهورٍ عانى من ويلاتٍ وحروبٍ وتنكيلٍ بالفئات الضعيفة؛ وهذه الفئات هي وليدة أرحامٍ مجبولةٍ بالدمع والمشقّة؛ وهي تضم شخصيات قوية حتى في قهرها؛ لأنها ليست خاضعة، بل مجبَرة مسلوبة الرأي والقرار تؤمن بالحرية، ولكن طريقها طويل وصعب يحتاج إلى مغامرة موسومة بالتمرد، ولكن ما النفع من حياةٍ نسعى في رحلتها الشاقة إلى التحرر من الظلم والقهر ونفقد في مساراتها المتشعّبة أرواحنا التي خُلِقت لتكون حاضرة لا تائهة؟! فهل أضحى هنا البحث عن التحرر هو الحرب الوجودية ذاتها للبقاء؟

تحاكي الرواية الواقع وتنقل تنوّع الرؤى، والأصوات والأفكار فيه، وتصطبغ بمواصفات الشخصيات، وتفتح أُفق التخيل، والنقد، والتحليل، وتأسر القارئ، وتجذب الباحث، وتحتوي أيضاً طاقةً شعريةً مدهشةً. فانطلاقاً من الواقع المرير، كُتِبَت رواية "عروس الفرات" لتنقل المأساة الحقيقية التي عانتها عائلة الموسوي وغيرها من العائلات العراقية في حقبةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ بزمانٍ ومكانٍ، ولكنها مفتوحة الأفق متعاقبة متتالية تتكرر في كل الضواحي والأرجاء.

تصوّر رواية "عروس الفرات" الصراعات الحادة، وتختصر الواقع في سردٍ متخيّلٍ يحاكي الإشكاليات المتعددة برمزيةٍ تضاف إليها الواقعية المعبّر عنها بأسلوبٍ ينطوي على أشكالٍ شتى من المتناقضات مثل الحب والكره والوجود والعدم والموت والحياة، وفي هذا المجتمع العراقي هويات ضائعة ومصاير مضطربة.

تسلك الشخصيات في بنائها السردي منحىً أيديولوجياً، يختزن في تشعّباته حواراتٍ تكشف عن حالة القهر، فتظهر الشخصيات مُحاصرةً تبحث عن أجزائها في مجتمعٍ ممزقٍ مسلوب الحرية والقرار. ولهذا تتفرّع جملة تساؤلاتٍ يثيرها هذا الموضوع، نسعى إلى طرحها هادفين من ورائها إلى إيجاد الحلول الّتي تبحث عنها الدراسة بعد اعتمادنا على منهج يتناسب مع الموضوع المطروح:4571 عروس الفرات علي المؤمن

كيف تجلّت صورة القهر في هذه الرواية؟

ما الأسباب الكامنة وراء تخبّط الشخصيات ومعاناتها؟

هل تمردت الشخصيات على قهرها النابع من أعماق الذات؟

ما الأسباب الخفية وراء الممارسات القمعية التي تُمارس بحق الأبرياء؟

إنها تساؤلات تحتاج إلى التعمق في التحليل، وهذا بدوره يقتضي منّا اعتماد منهج نقدي، وذلك بغية الوصول إلى الخصوصية التشكيلية والدلالية التي يتميز بها النص. وعندما نعتمد هذه الطريقة، نترك جانباً المشاعر، والعواطف وتأثيرات الأهواء. ولأنّ النص (جهاز نقلٍ يُعيد توزيع اللغة، واضعاً الحديث التواصلي في علاقةٍ مع ملفوظاتٍ مختلِفةٍ، سابقةٍ أو متزامنةٍ)(2)، تصبح الرواية غاية الكتّاب الذين يُوصِلون من خلالها قضاياهم، ويكون المنهج الاجتماعي هو الوسيلة التي تكشف عن خبايا المجتمع الذي يُعَدُّ المنتِج الفعلي لهذه الرواية الإبداعية، وقراءتها وتحليلها من منظور (مدى تعبيرها عن الوسط الاجتماعي الذي أَنتجَها، وهو بذلك، يتعامل مع الظاهرة الأدبية ليس بوصفها ظاهرة مستقلة بذاتها، وبخصوصيتها، وبفرادتها الإبداعية، وإنما يعدّ النصوص الأدبية وسائر الفنون غير مستقلة عن شروط إنتاجها الاجتماعي)(3). وعندما تكون البنية (ترجمة لمجموعةٍ من العلاقات بين عناصر مختلفة، أو عمليات أولية)(4)، فمن الضروري أن ننظر في علاقة الأجزاء بعضها ببعض؛ لأنّ النص ليس تجميعاً لهذه الأجزاء، وإنما هو نتيجة تفاعُلها، والعلاقات التي تربط بينها. ولأنّ المشكلة الأولية التي (يتوجّب على سوسيولوجيا الرواية تناولها هي مشكلة العلاقة بين الشكل الروائي نفسِه، وبنية الوسط الاجتماعي الذي تطوّر هذا الشكل داخله)(5)؛ ينبغي أن نعتمد المنهج البنيوي السردي، كونه ينطلق من داخل النص، ويكشف عن مكونات الرواية، ووظائف كل مكوِّن تركيبي؛ لأنه يبحث عن البناء الداخلي، وعن البنية الشكلية التي أنتجت نصاً روائياً مُستنِداً إلى عناصر السرد الروائي.

والسردية تدرس وظائف كلٍّ من المنظور، والزمان والمكان؛ لذلك ينبغي لنا أن نتناول الرواية بمكوناتها الأساسية كافةً؛ لأن السردية تبحث عن أنظمة التشكُّل الداخلي في الرواية، وتهدف من خلال ذلك إلى دراسة الأشكال والقوانين التي تحيلنا بالضرورة إلى استيعاب الخصائص الداخلية، وتدرس الشخصيات وعلاقتها، ونوع الرؤية ودلالاتها، وترصد شبكة البناء الزمني ومفارقاته، وتشكُّل البناء المكاني. وهذا المنهج يدفعنا إلى (دراسة المتن الحكائي الذي يُعنى بالأحداث، ومن ثَمّ المعطى الدلالي الذي يتجلى في عالَم الرواية، من خلال الأحداث، والشخصيات، والفضاء)(6).

تظهر صورة القهر بداية في العنوان؛ لأنّ "عروس الفرات" لم تكن عروساً اعتيادية، بل فتاة أسطورية تحمل اسماً مقدّساً "زهراء"، يوحي بدلالته الدينية التي تحيلنا إلى تحديد هوية هذه الشخصية الروائية التي تنطق بمواصفات سردية واضحة المعالم والملامح والسمات؛ فلا تحتاج إلى استنباط وتأويل من القارئ. فهذه العروس مشت على درب الجلجلة، ورأت مشهد الصلب واقعاً مأساوياً؛ فهي شاهدة على صورة إعدام خطيبها "صلاح". وفي هذا الواقع تتجلّى صورة القهر والقدر المفروض في تحديد الموت والخلاص.

و"زهراء" هي نموذج عن فتياتٍ أخرياتٍ عانين فقداناً للالتحام الجسدي الروحي الذي نما في مخيلتهن؛ فصورة الحبيب والزوج والسند أُبعدت قسراً، وخلقت انعداماً بالتكافؤ لدى الذات الإنسانية الأنثوية، وأظهرت صراعاً نفسياً بين الأنا والآخر (الشريك)، وبرزت صورة المرأة المقهورة التي سُلِبَ حقها في خلق مصيرها وبناء جيلها التي رسمته في اللاوعي لديها. وهذا ما يسمى (الرغبةَ اللاواعية)(7)؛ فحينما تلاقي الأفكارُ مقاومةً تمنعها من الظهور في الوعي، تلجأ الطاقة النفسية المتصلة بها إلى النقل، أي الاتصال بمعانٍ أخرى بديلةٍ تكون عادة رموزاً للمعاني الأصلية. ولأنّ هذه الرموز مبهمة وغير صريحة لا تلاقي أيّ مقاومة، ما يعني أنّ المكبوت يُستبدَل به فكرةٌ بديلةٌ تكون بمنزلة مندوبٍ أو وكيلٍ، وهو محميّ من هجمات الأنا بسبب عذابات طويلة.

المرأة هي أفصح الأمثلة على وضعية القهر بكل أوجهها ودينامياتها في المجتمع المتسلط(8)؛ فهي رائدة الانكفاء على الذات والتمسك بالتقاليد، وضعيّتها تمثّل أقصى درجات التماهي بالمتسلِّط من خلال ما تعانيه من استلابٍ وجودي تتحكم فيه وسائل السيطرة على المصير. وشخصية "زهراء" بيّنت هذا التجاذب والتعرّض للتبخيس المفرط.

اعتمد علي المؤمن في روايته على سلسلةٍ مترابطةٍ متماسكةٍ من السرد المنطقي المتدرّج من بداية الرواية إلى نهايتها، وهنا تبرز جدلية القهر في العناوين الهادفة: "فرحتان"، "الجريمة"، "عروس الفرات"؛ ففي هذه العناوين الثلاثة، على سبيل المثال لا الحصر، تظهر الازدواجية في نقل صورة الفرح (العرس) والحزن (المأتم)، فتتعارض الحالات الشعورية وتتخبط الذات، وتعيش هيكلية المتناقضات في شكلها القمعي لا في ضروراتها الوجودية التي بنيت عليها في حقيقة نشأتها. فيستنبط الباحث من المشاهد الروائية ومن الوصف الدقيق الذي أتى على لسان راوٍ حذقٍ عارفٍ بكل شيء؛ الصورةَ المتبدّلةَ التي تغيّرت بفعل العدوانية والقمع الممارَسين بحق الأبرياء.

ففي مشاهد الوصف؛ تكاد تصل إلينا رائحة الأزهار في البيت القديم الذي تقطنه عائلة "عبد الرازق" في محلّة "الحويش" النجفية، ذلك البيت الذي (عشّشت في شقوق حجارته العتيقة طيور اليمام البني... قائم وسط حديقة، تناثرت في حوضها الأزاهير؛ فتناغمت فيها الألوان، وانصهرت الروائح لتنتشر في كل ناحية)(9)؛ إذ أتت وظيفة الوصف هنا دالّةً رمزيةً، الغرض منها هو تفسير (موقف معيّن في سياق الحكي)(10) لا يقتصر على أداء وظيفة جمالية تزيينية مجرّدة من المعنى)(11).

يُمثّل المكان مكوّناً محورياً في بنية السرد، فالبيت النجفي هو مكان واقعي يتحدّد بعلاقاته ومفاهيمه المكانية، ويُبرز الإحداثيات الأساسية التي تحدّد الأشياء الفيزيقية. وفي هذا السياق يؤدي الراوي دوراً رئيساً في نقل الصورة بدقةٍ ووضوحٍ، فتظهر قدسية المكان من خلال ذكر مدينة "النجف الأشرف" وأسماء الشخصيات التي تنتمي إلى سلالة الأنبياء؛ لأنّ العلاقة ما بين وصف المكان والدلالة أو (المعنى) ليست دائماً علاقة تبعيّة وخضوع؛ فالمكان ليس مسطّحاً أملس، أو بمعنى آخر ليس محايداً أو عارياً من أي دلالة محددة، وهذا ما حاول الروائي إظهاره في مشاهده السردية الأولى، حيث رسم معالم المكان المفعم بالإيجابية والقدسية والتبجيل والفرح والاحترام؛ فشخصياته وجدت بالضرورة كي تتبادل الملفوظات ومحكي الأقوال وتكشف عن اندفاعها العفوي، وانحازت لتشكّل بعداً دينياً وسياسياً يحويه الوعاء السردي.

وفي هذا الإطار؛ نعثر في الرواية على سجل مشوّق يعكس التقاليد والعادات النجفيّة في أوقات الفرح والحزن. والمتتبّع لحركة السرد في الرواية يُدرك أنّ الانتقال من مشهدية الفرح إلى مشهدية الحزن لم يكن انتقالاً اعتباطياً، بل كان انتقالاً مقصوداً يصوّر الأيادي التي عبثت بالكيان الآمن للأفراد، وشوّهت معالم المكان المليء بالحب والطمأنينة والسكينة والحماية، وحوّلت هذا المكان حسب (قيمه الأنطولوجية)(12) من مكانٍ أليفٍ إلى مكانٍ معادٍ يتّسم بالضيق والظلمة والأذية والشقاء والتهديد: (الثالث عشر من رجب، يوم ربيعي مشرق... اليوم هو عقد قران أخيكم!! (صلاح خطيب زهراء الذي أعدم) هيّا قوموا... نهض الجميع مستبشرين لكنّهم متهالكون؛ لأنّ حديث الفرح لم يترك لهم ليلة أمس سوى سويعاتٍ للنوم.. لبسوا أفخر الثياب... أكثر من لفت الأنظار "أبو عادل" وعصاه الخشبية الجديدة المرصّعة بالفيروز... بين الحين والآخر كانت تعلو زغاريد النساء وتوزّع الحلوى والفاكهة والعصير)(13).

الصور التذكارية، المدائح النبوية، لباس العروس، خواتم القران والعقد النفيس والأقراط والأساور الذهب، الزغاريد التي تطرق الآذان، صوت الضحكات، وغيرها من مظاهر الفرح في عائلة "عبد الرازق"؛ تبدّلت جميعها في صفحاتٍ معدودةٍ إلى مظاهر حزن، وعلا فيها صوت البكاء والأنين على استشهاد ابنها "صلاح". والتحوّل في مجرى الأحداث برز جلياً، فانتقل هذا العرس النجفي الذي يجمع التراث الشعبي والالتزام بالتقاليد الدينية، إلى مأتمٍ محزنٍ، مفارقتُهُ الوحيدة هي ارتباطه بعناصر الفرح التي سبقت مشهد الإعدام: (في الطريق إلى البيت سرح أحمد بخياله، ودموعه تنهمر ويقضم شفتيه، كان يفكّر في الطريقة التي يخبر بها الأهل باستشهاد صلاح... حلّت الكارثة "أم عادل" مغشيّ عليها، أبو عادل يذرف الدموع، ويندب حظّه، ويدندن باكياً: ليتك متّ قبل هذه المصيبة... ضجّت شيماء وياسمين بالبكاء، وهما تندبان صلاحاً، وترثيانه بتفجّع... كانت شيماء تولول، وقد اختنق صوتها، وبحّت نبراته الحزينة، وقد مَزقت ثيابها، وعثت شعرها، وازرّق خدّاها من شدة اللطم... أم عادل تولول وتتفوّه بكلماتٍ مبهمةٍ لا يفهم منها سوى... حبيبي صلاح... عرسك يا ولدي... قتلوك قبل زفافك)(14).

هذا الوصف الخلّاق سيطر على مجموع الحكي، ونقل حالاتٍ شعوريةً مأزقيةً مبنيةً على ثنائياتٍ ضدّيةٍ (فرح/ حزن)، وذلك على حساب السرد، فهو يشيّد المعنى وحده، أو على الأصح (يُشيّد معاني متعددةً ذات طبيعة رمزية)(15)، غير أنّ الوصف بكونه استراحة (pause) و(توقّفاً زمنياً قد لا يوقف سيرورة الحدث)(16) مثل الوصف هنا؛ لأنّ التوقف لم يكن من فعل الراوي وحده، ولكنه من فعل طبيعة القصة نفسها وحالات شخصياتها. فالراوي العالم بكل شيء أوقف السرد من دون أن يحدث فجوة في مسار الأحداث، بل جعل القارئ يتماهى مع عاطفة الشخصيات تجاه الأحداث المتعاقبة التي خلقتها يد النظام المتسلط، وعمّقت في ذهنه آثار الظلم الواقع على عائلة "الموسوي". وهنا يتّضح لنا تبلور حالةٍ قهريةٍ ناتجةٍ من العلاقة ما بين المتسلِّط والإنسان المقهور، والعلاقة تظهر نتيجة وجود طرفٍ قاسٍ مستبدٍ، يُنزل الأذى والعذاب بضحيته؛ ومن ثَمّ فهذا الطرف المتسلط لا يستقر له توازن إلّا حين يدفع بذلك المقهور إلى موقع الرضوخ والعجز والاستسلام. وهذا التسلط الأعمى ليس وليد اللحظة، بل هو صورة انعكاسية عن تراكماتٍ ذهنيةٍ متخلفةٍ أرادت التنكيل بالفئات الضعيفة، فعائلة "الموسوي" هي نموذج مصغّر عن عائلاتٍ عراقيةٍ كثيرةٍ عانت الاضطهاد والظلم.

وهنا نستنتج أنّ طبيعة العلاقة تتلخص بانعدام القيمة وبهدر الإنسانية؛ لأنّ الأشكال الدموية بكل جبروتها وسيطرتها فرضت واقعاً ومصيراً مجهولاً حافلاً بكل احتمالات القلق وانعدام الشعور بالطمأنينة، وهذا يعود إلى (بنية اجتماعية تنتج عدوانية متفجرة ومدمرة ناتجة عن سيطرة سلطةٍ فردية تحكميةٍ تفرض القمع والإرهاب والذعر في نفوس المواطنين)(17)، لأنّ الشخصية تشكل عنصراً مهماً من عناصر العمل الروائي، والبطل ما هو إلّا واحد من هذه الشخصيات، وأهمها. لذا؛ كان لا بد من التوقف عند شخصية "أحمد" الشخصية المحورية النامية في الرواية، واقترابنا من مفهوم البطولة لا يعني فقط (البطل الشجاع الذي يبطل العظائم بسيفه فيبهرجها، وتَبطلُ جراحه فلا يكترث لها)(18)، ولا يعني البطل الخارق الذي يمتلك صفاتٍ وملامح غير بشريةٍ، بل على العكس تماماً؛ ففي هذه الرواية وغيرها من الروايات العربية التي تنقل الاستبداد السلطوي الذي يُمارس بحق المواطنين؛ نجد بطلاً عانى، وقاوم، وقُهِر، وعُذِّبَ.. ولأنّ فكرة البطولة لا تلغي الملامح الإنسانية، بل على العكس؛ قد يكون البطل هو الشخصية المحورية التي تلقّت العذابات الكثيرة ومختلف صنوف الاضطهاد.

نستطيع أن نسمي "أحمد" بطلاً نتيجة تعرضّه للعنف، وتبنّيه رؤيةً وقضيةً ذاتيةً ومجتمعيةً؛ فـ"أحمد" حمل لواء تعطيل حكم إعدام شقيقه "صلاح"، ولواء منع جريمة قتل السيد محمد باقر الصدر، من خلال مشاركته في المسيرات المنددة بالنظام الفاسد والمطالِبة بإسقاطه، ودعوته إلى القيام بمظاهراتٍ علنيةٍ جريئةٍ في وجه القوات القمعية للنظام. وفي هذا الصدد، نجد أنّ الروائي أوكل إلى أحمد مهمة نقل الصورة القهرية والقمعية التي سيطر فعلها في المسار السردي، وهذا ما يسمّى التقديم غير المباشر أو تقديم الشخصية أحداثاً محوريةً؛ تقديماً يأتي على خلاف تقديم السارد الغائب العالم بكل شيء. ونقل الأحداث المفصلية على لسان الشخصية وليس على لسان السارد أو الرواي؛ يعكس منظوراً ذاتياً يتحدّد ويتأثّر بشكل العلاقة التي تجمع بين الشخصية الرئيسة والشخصيّات الأخرى، ومن شواهد ذلك على سبيل المثال: (ذات يوم ٍدلف أحمد إلى البيت قبيل الظهر على غير عادته، وكان في حالة سيئة جداً؛ شاحب الوجه، دامع العينين، وجسده يرتعد ارتعاد المقرور بدوار الحمّى الشديدة، إذ راح يجر قدميه بصعوبة، وقد بدا على ملامح وجهه الحزن الشديد... وبصوتٍ ضعيفٍ ومتقطّعٍ كأنّه الهمس)(19)، أخبر أسرته بمقتل السيد محمد باقر الصدر على يد البعثيين... حلّ الحزن على العائلة يرافقه اعتراض وسخط وغضب، اعترت الأب رعشة هائلة... وقعت الكلمات كالصاعقة على أبي عادل...إنّها القيامة... في حين هتفت أمّ عادل: يا لهول المصيبة... أما شيماء فقد عصر الخبر قلبها(20).

وفي أثناء نقل الخبرين (استشهاد صلاح واستشهاد السيد الصدر)، نلاحظ أنّ "أحمد" كان يترجّح بين عاطفته البارزة والجياشة تجاه أخيه وعاطفته الملتهبة تجاه قائده؛ إذ برزت هذه العاطفة واضحةً في سطور الرواية. وفي خضم هذا الواقع المتخبط الذي لا يحتمل اللطم والبكاء فحسب، بل يحتاج إلى سواعد تدحر العدو الداخلي الذي يعبث بالأمن والأمان، كان "أحمد" ينتصر دائماً على الظلم بالمقاومة والدفاع عن الذات؛ فقد كان يأبى الخضوع للمستبدّين، وقرارته كانت دائماً حاسمةً صارمةً جازمةً، على الرغم من حزنه الخفي الذي حُفر في أعماقه: (ما لبث أن اعتدل في جلسته، وضبط نبرات صوته، وبلع ريقه منفعلاً، وأتبع بالقول: أيام... ويبدأ الوفاء لدمائك يا سيد... ولدماء آلاف الشهداء)(21).

في السرد الواقعي يأتي الروائي عادةً بشخصياته من الواقع المرئي المادي، وينقل ما سُجّل في ذاكرته من أحداثٍ مؤثرةٍ، إيجابية كانت أم سلبية، كما ينقل تعدّد الرؤى والأفكار والمواقف. فشخصية أحمد في هذه الرواية هي من الشخصيات الهادفة المتمردة على الظلم والقهر؛ لأنها تحاكي تطلعات المجتمع العراقي وآماله في مجابهة السلطة الحاكمة في تلك الحقبة التاريخية. وهذه الشخصية إنما تمثّل فئةً عراقيةً جابهت وقاومت ولم ترضخ على الرغم من توالي المصائب الأليمة التي عصفت بكيانها ونفوسها الآمنة. فـ "أحمد" لم يأخذ حيّزاً واسعاً من صفحات الرواية وحسب، بل أخذ مساحةً واسعةً في أذهاننا، ووجدنا من خلاله بصيص أملٍ في ظل اسوداد الواقع وعتمته وانعكاسه على النتاج السردي الروائي. وتصبح هنا الشخصية في الرواية تركيباً جديداً يقوم به القارئ أكثر مما هي تركيب يقوم به النص(22). نستطيع في هذا الإطار إطلاق صفة "التفريد" على شخصية أحمد؛ فالكاتب يخص هذه الشخصية بمجموعة من الصفات لا تملكها الشخصيات الأخرى؛ إذ إنّ شخصية أحمد تتمتع بالعمق الذي يجعلها مثار اهتمام الشخصيات الأخرى، كما أنها شخصية معقّدة تجذب القارئ إلى تتبّع هذا التعقيد الهادف. فالباحث يكتشف رؤية النص السردي من خلال سيطرة الصفات الشخصية، ومن خلال الحوار الداخلي والخارجي الذي تجريه هذه الشخصية مع محيطها.

يُعدّ "أحمد" من الشخصيات التي يتوقّف عليها فهم العمل الروائي كلّه؛ لأنّه يتمتع بكثافة سيكولوجية، ويقوم بأدوارٍ رئيسةٍ في المسار الحكائي، وهو من أكثر الشخصيات التي تعرّضت للظلم والتعنيف، فقد طُرد من عمله بعد إعدام أخيه "صلاح"، وتعرّض للتعذيب الجسدي في المركز الأمني التابع للسلطة، بسبب عدم التحاقه بالجيش الذي يحارب الجارة ايران. وعلى الرغم من ذلك، لم تهدأ روحه ولم تخضع، فبقي يقاوم حتى الانتصار، وكان لديه قدرة كبيرة على إقناع المحققين الأمنيّين بأنّه بريء، ولا علاقة له بالمعارضين والثوار، وهذا ما جعله ينتصر بتمرّده الخفي المدروس، الذي اعتمده ليس بدافع الخوف، بل بكونه سبيلاً للنيل من جبروت الحكم الظالم. إذ إنّ ثمة نوعاً من التوازن يحتاج إليه الإنسان في علاقاته المجتمعية، خصوصاً في أثناء سعيه إلى تغيير الواقع المتأزم. وهذا ما فعله أحمد في الرواية للوصول إلى طريقٍ متوازنٍ يؤمّن الانسجام، والتآلف مع محيطه الاجتماعي بأقل الخسائر الممكنة. ويتجلى هذا التوازن من خلال لعبة التخفي التي مارسها، فأوهم من خلالها المحققين الأمنيّين بأنّه من الموالين للنظام.

لقد أراد الروائي - من خلال خلق شخصية "أحمد" التي تتماهى في دورها مع الراوي - القول إنّ التمرد لا بدّ من أن يُخلَق من صميم السطوة والتنكيل والوجع، وإنّ المحاولة التي وجدت في الرواية إنّما هي محاولة تمرّدٍ فردي لتغيير الواقع. وعلى الرغم من ارتباط اسم "أحمد" بعددٍ كبيرٍ من المعارضين، فإنّ محاولته التغييرية، بسبب فرديّتها، محكومٌ عليها بالإخفاق؛ ذلك أنّ تغيير الواقع يحتاج إلى ثورةٍ اجتماعيةٍ أو إلى مدى تاريخي، وفي هذه الحالة نرى أن لا خيار أمام الإنسان إلّا التمرد؛ لأنّ فعل التحدي (الذي يمارسه الفرد ضد قوى عاتيةٍ لا يستطيع إلحاق الهزيمة بها، لذلك عليه متابعة الصراع على الرغم من تكرار الفشل للوصول إلى ثورةٍ مجتمعيةٍ لا ترضى برؤية الظلم والسكوت عنه)(23).

وفي الإطار نفسه، تحضر في الرواية صورة أخرى من صور القهر ولكنها الأقسى والأقبح، وهي صورة القهر الجنسي، وذلك في مشهد اغتصاب الشابة الجميلة العفيفة "شيماء" التي كابدت كل أنواع القهر والاستلاب الفكري والجسدي، واللافت أنّ الروائي نأى عن طرح قضية الاغتصاب بأسلوبها الميكانيكي، وعالجها بكونها ظاهرةً اجتماعيةً مُظهِرًا أسبابَها وأبعادَها خلال السرد الروائي من دون أن يشوّه ذائقة القارئ، فكان تصويره هادفاً. وفي المقابل؛ لقد أشعل الروائي في القارئ من خلال مشاهد تعذيب "شيماء" واغتصابها؛ بركاناً من الغضب لم يهدأ حتى مع انطفاء الشهوة الشيطانية للضابط السفاح "فلاح"؛ فهذا الضابط ظهر غارقاً في عقده النفسية التي فرّغها في عائلة "السيد عبد الرزاق الموسوي"؛ ولذلك فشخصيته تمثّل وحشية النظام المتسلط المشحون بكل أنواع القمع. لقد اغتُصِبت "شيماء" أمام عيني والدها "أبي عادل"، الذي مات قهراً وحرقةً على فلذة كبده ابنته الشابة الجامعية المثقفة، بعدما شاهد العبث بجسدها، ولم يقوَ على تحمُّل أقسى أنواع الوجع الذي قد يفجع به المرء في حياته: (مات السيد الموسوي... أسلم الروح المتعبة. أغمض عينيه على صورة ابنته البائسة... العارية.. ينهش بها بواسل الحزب والثورة. رجعت روحه إلى ربّها.. وهي تنوء مثله... تحت عبء الشكوى)(24).

ولكن؛ على الرغم من قساوة مشهد الاستلاب الروحي، إلّا أنّ الروائي صوّر "شيماء" بمشهد القوّة، وكأنّه تمرّد على قلمه وصوره المرئية في أثناء الكتابة، فحاول أن يخلق مشهداً آخر ونهاية أخرى، ولكنّ الواقع الذي عكسه في سرده كان أقوى من نصرة المظلوم وأقسى من النهايات السعيدة التي نشهدها في الروايات الرومانسية الخيالية؛ فالتمنيات غلبتها شدّة القهر الناتج من مجتمعٍ يئنّ ويصرخ وجعاً وألماً. فبقيت "شيماء" تُصارع انتهاك حرمتها وسترها وجسدها النحيل حتى آخر رمقٍ، وفارقت الحياة بشموخٍ ممزوجٍ بتسليمٍ رباني لقدرها، وبإيمان أبدي بأنّ دماءها ستروي أرض العراق، وتصبح هي الأسطورة المخلّدة في عمق الذاكرة: (بعد قليل ستننعش هذه البقع بدمي الجديد... ابتسمت، وقالت هامسةً بلهفةٍ وارتجافٍ عظيمين بعدما قرأت الشّهادتين)(25). ولذا، فإنّ مشهد الاغتصاب ومشاهد تعذيب العائلة تُشبه مشهديةً ملحميةً تراجيديةً نهايتها كانت كارثية: (مقبرة جماعية تضم رفات مئات المعدومين... قذفوا بالجثث بما بقي عليها من ملابس مصبوغة بالدم... في حفرة أعدّت سلفاً.. كأنّهم يقذفون بأجساد حيوانات ماتت بوباء معدٍ...)(26).

ويُشكّل المكان الروائي أبعاداً ومفاهيم فكرية تعبيرية قبل تشكيل الكاتب معالمه الهندسية ورسمها؛ إذ يتميّز المكان الروائي باختلافه (عن الفضاءات الخاصة بالسينما والمسرح، أي كل الأماكن التي ندركها بالبصر أو السمع، إنّه فضاء لا يوجد سوى من خلال الكلمات المطبوعة في الكتاب، فهو يتشكّل كموضوعٍ للفكر الذي يخلقه الروائي بجميع أجزائه)(27). والمكان الأبرز في الرواية الذي أفرغت فيه كل صور القهر هو مركز التحقيق؛ إنّه مكان منغلق، مظلم، مهجور، يشبه القبر (لا مناظر في ذلك المكان، لا نبتة ولا زهرة، ولا طائر، لا مناظر سوى الوجوه الشاحبة ومناظر الأجساد الناحلة الضعيفة القوى، الزنزانة أشبه بالقبر، لا لون لها، ولا نافذة... توزّع على الجموع أكواب العدس المالح، لكلٍّ رغيفٌ مرَّ عليه الزمن مصبوغ ببقع من زرقة العفن... الحمامات قذرة، ضيقة يسمح بارتيادها... يستحمّون بماءٍ عفنٍ بلا صابون، ويعيدون ارتداء ثيابهم ذاتها، الثياب التي ارتدوها منذ أول دخولهم إلى ذلك العالم)(28). فالوصف هنا يمثّل مفاهيم أساسية في وصف الواقع الاجتماعي، وفي الأحكام الثقافية والأخلاقية، وفي التصنيفات الأيديولوجية؛ ففي هذا الوصف تكون الاستعارات المكانية حاضرةً بتقاطباتها في المجال السياسي، فنجد التقاطب ما بين اليمين واليسار، وفي المجال الاجتماعي نجد التقاطب ما بين الرفيع والوضيع. فهذا المكان بكل قذارته وضيقه وظلامه يشبه قاطنيه من مخابرات النظام، على عكس البيت النجفي الجميل برائحته العطرة واتساعه وعراقته. فالمكان يأخذ تارة شكل تدرّج هرمي سياسي ـــ اجتماعي يؤكّد تضاد السمات بين تلك التي تقع في قمة الهرم (الرفيع)، وتلك التي تقع في أسفله (الوضيع)، (وقد تتخذ هذه السمات شكل تضاد أخلاقي يقابل بين "اليمين واليسار"، وتنتظم في شكل نماذج للعالم تتسم بسماتٍ مكانيةٍ واضحةٍ.. (من قبيل) المهن أو الأنشطة "الدّنيئة" و"الرّفيعة")(29).

أُقفل ملف مقتل العائلة وتعذيبها الوحشي بكل برودةٍ في مركز التحقيق في ذاك النهار الأسود، إلّا أنّ هذا الملف أصبح وثيقةً دهريةً سجّلت بدماء الشهداء الأبرار الإجرام والهمجية والشّراسة عند مؤسسات النظام الأمنية، ولكنّ هذه الوثيقة ستُفتح مع كل بزوغٍ جديدٍ لشمسٍ غيّرت وجهة شروقها في البيت النجفي.

إذاً؛ برزت صورة القهر في هذه الرواية وتعددت أوجهها؛ فعكست وحشية رجال النظام البعثي تجاه هذه العائلة النجفية التي كابدت كل أنواع العذاب وهتك الحرمات، فعالجها الكاتب علي المؤمن بأسلوب روائي هادف، وقدّم طروحاته وانتقاها من الأحداث التي تنتاب المجتمع العراقي. وقد تتبّع في عرضه المآزم الإنسانية كلّها، لتصبح هذه الرواية جسر عبورٍ نحو عملٍ مكتملٍ يُصوّر الجراحات العراقية وتشظياتها المؤلمة، ويحمل في طياته دراما روائية نادرة تستحق الغوص في أغوارها الغنية بالدلالات، بالإضافة إلى تميّزها باللغة الشعرية الممتدة على مساحة السرد؛ وهي لغة لا تتكئ على الصور التقليدية الجامدة، بل لغة مبتكرة قادرة على الإيماء بعيداً من المباشرة والتكرار والابتذال؛ فلغة "عروس الفرات" راقية منمّقة، تأخذنا باتجاه الحيّز الزمكاني الذي يخدم الأحداث، وتنمو في ظله الشخصيات. لقد اجتمعت عناصر السرد جميعها وتآلفت منسجمةً لتأتي بهذا العمل المميّز الذي يأسر القارئ، ويأخذ به إلى مصافٍ من الدهشة والإعجاب.

***

د. رفاه معين دياب

(اكاديمية وأديبة لبنانية)

.................................

قائمة المصادر والمراجع:

أولاً: المصادر:

1-المؤمن، علي، عروس الفرات، مؤسسة الرسول الأعظم العلمية، النجف الأشرف، العراق، دار روافد، بيروت، لبنان، ط2، 2017.

ثانياً: المراجع:

1-أبو نضال، نزيه، تمرّد الأنثى في رواية المرأة العربية وبيبلوغرافيا الرواية النسوية العربية (2000-1885)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2004.

2- أيوب، نبيل، البنية الجمالية في القصيدة العربية الحديثة، المكتبة البولسية، جونية، ط1، 1991.

3- أيوب نبيل، نص القارئ المختلف وسيميائية الخطاب النقدي (2)، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011.

4- بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، (الفضاء- الزمن- الشخصية)، بيروت المركز الثقافي العربي، ط1، 1996.

5- بو عزّة، محمد، تحليل النص السردي، تقنيّات ومفاهيم، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ط1، 2020.

6- حجازي مصطفى، التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط13، 2018.

7- حمزة، مريم، الأدب بين الشرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، بيروت، لبنان، ط1، 2004.

8- فضل، صلاح، نظرية البنائية في النقد الأدبي، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط3، 1985.

9- الحمداني، حميد، بنية النص السردي، من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط3، 2000.

10- الموسى، أنور، عِلم الاجتماع الأدبي: منهج سوسيولوجي في القراءة والنقد، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط2011.

ثالثًا: المراجع المعرّبة:

1- باشلار، غاستون، جماليّات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1984.

2- جنيت، جرار، حدود السرد، ترجمة: بنعبسي بو حمالة، ضمن كتاب طرائق تحليل السرد الأدبي.

3-غرييه، آلان روب، نحو رواية جديدة، ترجمة: مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف بمصر، (دون سنة الطبع).

رابعاً: المراجع الأجنبية:

1-J. LDumortieret F.plasanet: Pour lire le récit.Ed.Duepot,1980.

2-Lucien Goldman: pour une sociologie du roman, idée/ Gallimard, 1973

3-M. Klein et Joan rivere, l’amour et la Heine, paris, P. B. Payot,1972.

خامساً :المعاجم اللغوية:

1-ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: معجم لسان العرب، المجلد الحادي عشر، بيروت، لبنان، دار صادر، بيروت، ط1، 2008.

سادساً: الدوريات:

1- لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفني، تقديم وترجمة: سيزا قاسم، مجلة عيون المقالات، العدد 8، 1987.

هوامش

(1) حمزة، مريم، الأدب بين الشّرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، بيروت، لبنان، ط1، 2004، ص:36.

(2) أيّوب، نبيل، البنية الجماليّة في القصيدة العربيّة الحديثة، المكتبة البولسيّة، جونية، ط1، 1991، ص: 23.

(3) الموسى، أنور، عِلم الاجتماع الأدبيّ، (منهج سوسيولوجيّ في القراءة والنّقد)، دار النّهضة العربيّة، بيروت، لبنان، ط2011، ص: 46.

(4) فضل، صلاح، نظريّة البنائيّة في النّقد الأدبيّ، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط3، 1985، ص: 177.

(5) Lucien Goldman: pour une sociologie du roman, idée/ Gallimard, 1973, p: 22.

(6) بحراوي، حسن، بنية الشّكل الرّوائيّ، (الفضاء- الزّمن- الشّخصيّة)، بيروت المركز الثّقافيّ العربيّ، ط1، 1996، ص: 34.

(7) أيّوب نبيل، نصّ القارئ المختلف وسيميائيّة الخطاب النّقديّ (2)، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011، ص:13.

(8) -حجازي مصطفى، التخلّف الاجتماعيّ، مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، ط13، 2018، ص:199.

(9) المؤمن، علي، عروس الفرات، مؤسّسة الرّسول الأعظم العلميّة، دار روافد النّجف الأشرف، العراق، ط2، 2017، ص:7.

(10) بوعزّة، محمّد، تحليل النّصّ السّرديّ، تقنيّات ومفاهيم، الدّار العربيّة للعلوم، بيروت، لبنان، ط1، 2020، ص:121.

(11) جنيت، جرار، حدود السّرد، ترجمة بنعبسي بو حمالة، ضمن كتاب طرائق تحليل السّرد الأدبيّ، ص: 75.

(12) باشلار، غاستون، جماليّات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، ط2، 1984، ص: 31.

(13) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:26.

(14) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص: 50-51.

(15) غرييه، آلان روب، نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف بمصر، (دون سنة الطّبع)، ص: 160.

(16) لحمداني، حميد، بنية النّصّ السّرديّ، من منظور النّقد الأدبيّ، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، ط3، 2000، ص: 77.

(17) M. Klein et Joan rivere, l’amour et la Heine, paris, P. B. Payot,1972,p:51.

(18) ابن منظور، جمال الدّين محمد بن مكرم: معجم لسان العرب، المجلّد الحادي عشر، بيروت، لبنان، دار صادر، بيروت، ط1، 2008، ص56.

(19) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:55-59.

(20) المصدر نفسه، ص: 57-58.

(21) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:60.

(22) -J. LDumortieret F.plasanet: Pour lire le récit.Ed.Duepot,1980.p:12.

(23) أبو نضال، نزيه، تمرّد الأنثى في رواية المرأة العربيّة وبيبلوغرافيا الرّواية النّسويّة العربيّة (2000-1885)، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، ط1، 2004، ص: 25.

(24) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص: 211-212.

(25) المصدر نفسه، ص:215

(26) -م. ن، ص: 217.

(27) بحراوي، حسن، بنية الشّكل الرّوائيّ ص: 27.

(28) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:197-198.

(29) لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفنّيّ، تقديم وترجمة سيزا قاسم، مجلّة عيون المقالات، العدد 8، 1987، ص:69.

استبدالات البناء القصصي وأسانيد الحبكة المخاتلة.. دراسة في تراث إدغار ألن بو القصصي

مهاد نظري: إن إمكانية التقانة الاستبدالية في استعمال سنن العوامل والصياغات في ممارسة التشكيل في منحنيات المتن القصصي، كانت من الوازم الدلالية والبؤروية التي من شأنها حفظ للنص بكامل أدواره الايحائية والقصدية، وصولا إلى ذلك الزمن المتماهي وحدود تقلبات الغاية الوظائفية المتعينة في واردات النص الحكائية والخطابية.لذا علينا ونحن نهم بقراءة نصوص (إدغار ألن بو ) تحديدا التريث في مجال تشوفاتنا التمهيدية لموضوعة النص السياقية وشواهدها الملتبسة في محاور الحكي.تواجهنا قصة (الصندوق المستطيل) بهذا وبذلك النحو من ملامسات مقدمتنا الاستهلالية في معرفات القيمة الجمالية والبنائية والدلالية في أدب بو القصصي. إذ ترانا نتعرف منها على ملامح خاصية إيحائية من منظومة (الاستبدال العاملي) وهذا النوع من خصوصية الاستبدال ذا أسلوبية مارسها بو في العديد من تجاربه القصصية السالفة، التي اتخذنا منها مواضعا للدراسة والمعاينة سابقة.غير إن الإمكانيات الوظائفية في كل حالة موضوعية جديدة، تفرض لذاتها شكلا خاصا من الأدوات الضمائرية والنحوية والاشارية والزمانية والمكانية والعاملية والتمثيلية إجمالا.لذا تجد أن المرحلة الأولى من بنية القص السارية على حال لسان السارد العليم، تنتج لذاتها ذلك الوازع الادواري المنقسم بين (شخصية ــ سارد) وبما ينسجم مع ملامح أوجه الأسباب التلفظية والتخاطبية من ردود وتوجهات خاصة في مسار الأفعال والصفات والزمن المحكي الممتد فوق أرضية متقلبة في سكناتها وتواتراتها المكانية.

ـ الزمن إيقاع تصاعدي في سياق الفعل الشخوصي

تبادرنا المؤشرات العتباتية من مبنى الاستهلال النصي، بذلك الصوت الرائي الذي راح يختزل المفكرة الزمنية ـ المكانية في ذاته، بالموازاة مع التوكيدية عبر رحلته على ظهر السفينة قبل موعدها بعدة أيام.وهذا الأمر ما جعله ذا صورة متوترة في موقفه من غرابة تأجيل موعد الرحلة على ظهر السفينة، كما أن موعدها من خلال ذلك القبطان المدعوـ هاردي ـ.وعلى هذا النحو الغريب من الشخصية العاملة هو على ما يبدو عليها أنها تتعجل حدوث الأمور، حتى وإن كانت أحيانا في غير ضرورتها، هكذا نعاين الوحدات قاب قوسين: (منذ سنوات خلت قمت برحلة بين شارلستون ومدينة نيويورك على ظهر سفينة أسمها ـ الاستقلال ـ بقيادة الكابتن هاردي.كان مقررا أن نبدأ رحلتنا في الخامس عشر من حزيران، إذا كانت حالة الطقس مؤاتية.. صعدت قبل موعد الرحلة بيوم واحد إلى السفينة لأتعرف على غرفتي أجري فيها بعض الترتيبات عرفت أنه سيكون على ظهر السفينة عدد كبير من الركاب بينهم كثير من السيدات خلافا للمعهود في أمثال هذه الرحلات. / ص105 النص القصصي) هناك ثمة بديهيات قد يظنها القارىء في بادىء النص، خصوصا وأنها تتعلق ببداية قصصية شكلية العرض ليس إلا:فما كان واردا في عتبة المستهل يبدو عليه بوضوح، أنه حالة نمطية من غاية استهوائية لدى ضمير السارد الشخصية الحاضرة واللاحاضرة في النص، غير إن مهام واصلات سردها المؤشري قد يعني لنا الكثير من الاعتبار والنمو والتلميح إلى ملامح حسية في مبنى المضمر من طبيعة السرد.الشخصية يتابع وجود قائمة أسماء المسافرين في رحلة السفينة، وقد لمح أسم الفنان ـ وياط ـ ذلك الرسام الشاب صديقه الأعز منذ عقود من زمن الدراسة: (وقد أسرني وجود أسم السيد كورنيلوس وياط على اللائحة./ص105 النص القصصي) كما أن جملة التفاتات الشخصية الساردة، يمكن ملاحظتها حول زخم وجود أسماء السيدات فوق مكتوب اللائحة، الأمر الذي لم يعتد لمثله في رحلاته السابقة.طبقا أن من ملامح الخيوط الأولى في النص ما جعلها ـ بو ـ محتكمة اتصالا ومحددات المتن النصي، أي كحال ما تعنيه كل هذه الحشود من النساء في هذه الرحلة تحديدا، كذلك ما صار معولا عليه من قبل الشخصية في ذكر أسم ذلك الفنان الشاب وسرد مزاياه وصفاته الخلقية ومدى نبوغه في فن الرسم.أعتقد من جهتي الشخصية أن ألن بو يسعى منذ أول بواكير نصه إلى فرز وشد خيوط علاقات نصه العاملية، حتى وأن كان أمرها لحد الآن محض آلية عرضية في غاية الاستعمال التقديمي.

1 ـ العلاقة المكانية وإشكالية المكان الإضافي:

تزعم لذاتها الجملة المكانية في فضاء النص، ذلك الوازع المأهول بأشد التساؤلات والقلق والحيرة، وأحيانا الترقب لذلك المكان الموصوف بـ (المكان الإضافية!) ومن ثم الإصرار من قبل الشخصية الساردة حول كهنها وما كيفية دورها في الإنابة العاملية من قبل ساكنيها.لقد حجز الفنان وياط وزوجته وأختيه ثلاث غرف: (كانت غرف السفينة واسعة، في كل منها سريران الواحد فوق الآخر.ومع أن أسرة السفن ضيقة عادة يستحيل أن الواحد منها لأكثر من شخص.فلم أفهم تماما حاجة الأشخاص الأربعة إلى ثلاث غرف./ص105 النص القصصي) ويتسع مسار (الإشكالية في ذلك المكان الإضافي؟) أو لربما هو حالة قد لا تستدعي من السارد الشخصية الاهتمام بها إلى هذا الحد، خصوصا وأن للرسام أعمالا مثيرة في فن الرسم، قد يكون مؤكدا بأن لهذه الغرفة خاصية ما لضم هذا النوع من أعمال الفنان، لذا راح يبقي لنفسه وزوجته غرفة لهما وإلى أختيه غرفة، قد تكون هذه بالضبط ما يود السارد الشخصية الوصول إليه من إجابة حاسمة حول مؤشر تساؤلاته الملحاحة حينذاك: (لم يكن الأمر يعنيني بالطبع..لكن ذلك لم يصرفني عن عزمي على إكتشاف اللغز..أخيرا توصلت إلى نتيجة جعلتني استغرب كيف لم أكتشف السر بسهولة ـ ترافقهم خادمة ولا شك ـ قلت مخاطبا نفسي./ص105 النص القصصي) ثمة أسانيد أخرى كانت تدعم حجج الشخصية الساردة بأفكار ناتجة عن مزاج مضطرب أو أنه غير مهيأ سببيا إلى معرفة حقيقة الأمر.لقد حاول إدغار أن يضع قارئه في الاتجاهات المخمنة من حاصلية النتيجة، ولكن فاعلية التمويه كانت أقدر على حجب جل الحلول المقترحة من قبل سارده العليم.هناك فئة من الكتاب ممن يمارسوا أفعالا غريبة في أبطال رواياتهم أو قصصهم، فعلى سبيل المثال كان (وليم فوكنر) ومن خلال رواياته وقصصه القصيرة، لاحظنا بأنه لا يثق برواة نصوصه، كحال قصة بطله توماس سوتبن، فقد كان فوكنر يدفع قراء نصه إلى إعادة تشكيل القصة بأنفسهم.وإن قصة سوتبن التي يمكن أن تكون أقرب إلى حقيقة شخصيته ووقائع حياته الفعلية ربما كانت هي التي يقوم برويها شخص غريب تماما لا يعرف سوتبن مطلقا./ المصدر: قراءة الرواية ـ روجر . ب .هينكل .وأنا أقول من جهتي مؤكدا لعل السارد الشخصية أحيانا لا يبدو أمينا في نقل كل تطلاعاته واتساق مشاهداته التصديقية والتخمينية، فلربما من جهة ما كان ذلك الفنان يحلو له الجلوس في أواخر الليل وحيدا مع لوحاته التي جلبها معه على ظهر تلك السفينة، أو لربما كانت تربطه علاقة حميمية مع الخادمة ذاتها بعيدا عن أنظار زوجته القادمة معه في الرحلة ذاتها وفي الغرفة التي تجمع الاثنان مع بعضهما البعض.لذا ليس من المؤكد أن يضع ذلك الفنان بعض من لوحاته التي لم ينتهي من رسمها داخل غرفة تدافعها الأمواج من كلا الجهتين، لأجل أتمامها على أحسن وجه؟: (كنت أعرف أختي وياط معرفة جيدة..كانتا فتاتين حلوتين ذكيتين:أما وياط فقد كان حديث العهد بالزواج ولهذا لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته.لكم تحدث في حضوري بطريقته الحماسية المعهودة.كان يصفها بالجمال الخارق وسرعة البديهة والمهارة، لهذا كنت شديد الرغبة في التعرف عليها./ص106 النص القصصي) .

2 - الوظيفة التكميلية في التركيز وجلب الأطراف النصية:

أن ما يمكننا ملاحظته في أسلوب القص لدى ألن بو، هو الشروع بعملية (الوظيفة التكميلية) تتبعها لاحقا المؤديات الاستخدامية في دلالة (التركيز) وصولا إلى زمن وحدات (جلب الأطراف النصية) بما معناه خلوصا، أن بو يستثمر جميع العلاقات الطرفية المخبوءة في خلفيات النص كحال الوحدة (كانت أختي وياط) أو وحدة (كان حديث العهد بالزواج) أو الأخرى (لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته) فمن شأن هذه الوحدات مثالا، هو التهيئة أو استكمال غائية التركيز حول الأسباب العلائقية التي توفر إلى زمن الحبكة ذلك الشد الذروي عندما تتوفر لاحقا الجملة النادرة من فعل التبئير أو العقدة النصية.إذن السارد كان يعلم بأن زوجة وياط على درجة كبيرة من الجمال وأيضا كانتا أختي وياط على درجة من الذكاء والفطنة، لهذا السبب فهو يبحث عن فرصة استكمالية تتيح إليه التركيز في جلب الأطراف المتكونة من وياط وأختيه مع ما قيل عن جمال زوجته من خلال وياط زوجها، وهكذا تتم عملية الربط والفرز والمقارنة والخلوص إلى النتيجة المقنعة بأن أسرة وياط متكاملة في مظهرها الخارجي والداخلي حتما: (بعد عشرة دقائق من وصولي أطل وياط وأهله ـ الأختان والعروس، وبدا لي أن وياط يجتاز إحدى نوبات تجنب الناس.كنت قد اعتدت مثل هذه الحالات من صديقي، لذا لم أعرها أي اهتمام.أما هو فلم يحاول أن يقدمني إلى زوجته ـ فاستدركت أخته ماريان الأمر، وكانت فتاة جميلة جدا وذكية ـ وقدمتنا الواحد إلى الآخر بكلمات سريعة ـ كانت السيدة وياط تضع على وجهها قناعا محكما./ص106النص القصصي) .

3 ـ مزايا حجب الهوية في مجريات أفعال القص:

يحاول القص إخفاء المؤديات السردية التي تتضمنها العوامل الشخوصية في زمن تماثلات الأحداث الفعلية.إي بمعنى ما هناك إشكالية ما في الأدوار العاملية تحديدا، خصوصا فيما يتعلق والشخصية وياط وسلوكياته المتغايرة إزاء نفسه وصديقه والناس، فهو على ما يبدو شخصية مأزومة في محدثات واقعها الجديد الذي يصبو على أنه ليس ذلك الشخص الذي يعرفه السارد المشارك:أهناك خطب ما في الأمر؟كان السارد الشخصية ممن يعرف وياط كونه مرحا وشفافا في كل أحواله الخاصة والعامة فماذا قد جرى؟.ومن أجل الإحاطة بمتغيرات هذا الفنان المرح من قبل أنا السارد المشارك.نتعرف في فقرة لاحقة على مواجهة السارد الشخصية لزوجة وياط وجها لوجه، الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة في نفسه، وذلك لكون ما تعرف عليه في وضع السيدة وياط، راح يخالف مزاعم زوجها الفنان الذي كان يزعم لها كل ملكية ذلك الجمال الآسر: (عندما رفعت القناع لترد، على تحيتي لم أتمالك نفسي من الدهشة ـ ولو لا أن تجاربي علمتني أنه ليس من الحكمة التسليم بآراء وياط في كل ما يتعلق بجمال النساء لكان تعجبي يفوق هذا الحد.كنت علم تام بأية حرارة يندفع صديقي في إغداق الأوصاف المثالية حين يكون الموضوع متعلقا بالجمال..في الحقيقة أنني رأيت السيدة وياط عادية جدا إن لم أقل بشعة أو على الأقل قريبة من البشاعة./ً106النص القصصي) وما يتكرر عادة في ذهن السارد المشارك هو عدم ملاحظته على وجود الخادمة مع قدوم الأسرة في رحلتها، وهذا الشك بدوره ضاعف من يقين الشخصية بأن هناك من إشكالية ما في علاقة وياط بزوجته هذه، وهذا الأمر ما قاد ظنه أيضا بعدم جدوى تلك الغرفة الإضافية: (بعد قليل وصلت إلى الميناء عربة تحمل صندوقا من خشب الصنوبر ذا شكل مستطيل.وبدا لي أن هذا الصندوق هو الشيء المنتظر..بعد وصوله أقلعنا فورا ولم يطل بنا الوقت حتى أصبحنا في عرض البحر./ص107 النص القصصي) .

4 ـ غيبانية محتوى الصندوق وتضاليل العنوان البريدي:

في مسار مركبات البناء القصصي يمكننا الوقوع على أساليب أكثر اختزالا فيما يتعلق وخصوصية المساحة الضيقة للقصة القصيرة.ولكننا لا يمكننا العثور على قصة قصيرة دون مضاعفة رمزية أو إيحائية أو حتى مونتاجية، لكن بشرط عدم الإخلال بضوابط الزمن المضغوط للنص نفسه، وما يتيحه هذا الضغط من خطية ملغزة في موضوعة القصة.قد تكون عوالم الروايات واسعة من حيث الانفلات الزمني والمكاني والشخوصي، ولكنها من ناحية الموضوعة وأبعادها الدلالي لا تقترب شبرا واحدا من صعوبة وعقدة الموضوعة القصصية القصيرة، ذلك لأن الخط السردي في القصة يحتمل ملازمات فجائية في أحوال التكوين النصي، إذ لا يمكننا قراءة قصة دون عملية التفكر والتوقف حيث تأملها الذي يتطلب زمنا يتعدى قراءة فصلا كاملا في رواية ذات القطع المتوسط.على أية حال نعود إلى موضوعة قصة (الصندوق المستطيل) لنفهم من وراءه بعض المؤشرات التقديرية في ما يحتويه من حالات فعلية وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تخمينات ـ السارد الشخصية ـ حيث ظن ما فيه حينا نسخة من لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو وحنيا آخر راح يفكر في سبب عدم وضع الصندوق في تلك الغرفة الإضافية: وأنما ويا للعجب أخذ ذلك الصندوق لنفسه مكانا في غرفة وياط: (أن الدهان الذي أستعمل لكتابة العنوان كان يشيع رائحة مزعجة، لا بل رائحة أحسست أنها كريهة.لقد كتب على الغطاء بحروف كبيرة الكلمات التالية: (السيدة ديليد كورتيس ـ الباني ـ نيويورك، بواسطة كورنيلوس وياط، هذا الوجه إلى فوق، الرجاء نقله بعناية؟./ص107 النص القصصي) ما ينبغي علينا ملاحظته هنا أن السارد الشخصية كان يعلم بأن السيدة كورتيس هي والدة زوجة وياط، ولهذا المعنى يتضح أن العنوان ليس تضليلا، وإنما كان مكتوبا بطريقة صحيحة ودالة.

5 ـ التعاقب الزمني وإبطاء صراع دائرة المحاور:

أن القارىء إلى مراحل الزمنية في النص، لربما سوف يلاحظ، بأن (الفضاء القصصي) يمر بدورة تعاقبية زمنية تتابعية بحتة، أي المحكي في النص مسبوغا بطرائق تتابعية خطية في التجسيد والتمثيل.أما فيما يتعلق و مسار النص فقد أضحى السارد المشارك وشخصية وياط في عملية صراعية دائبة.فالأول المتمثل بالسارد المشارك هو من يبحث عن حقيقة محتوى الصندوق، أما الثاني وهو وياط فهو المبتلى الأول والأخير بشعلة الصراع كله.وعلى الرغم من ظهور بعض الأعراض الغريبة على الشخصية وياط كحالات ضحكاته الهستيرية في أمسية ما مع شخص السارد، ما أدى الأمر به إلى السقوط أرضا مغشى عليه..وإمام كل هذا فلم يتوقف السارد المشارك عن محاولة البحث عن الأسباب التي تكمن وراء اعتزال الأختين وياط في غرفتهما دون الاختلاط بأحد من المسافرين، أو ذلك الخروج للسيدة وياط عند منتصف الليل: (بينما كنت مستيقظا في فراشي رأيت السيدة وياط بكل وضوح تخرج بحذر من غرفة زوجها حوالي الساعة الحادية عشرة، تسير ببطء وعلى رؤوس أصابعها ثم تدخل الغرفة الإضافية الفارغة حيث تبقى حتى طلوع الفجر، حين يذهب زوجها ويوقظها فتعود معه إلى غرفته./ص109 النص القصصي) قد يلوح لنا هذا التحول السردي المفصلي من أجزاء الوحدات السردية، بأن عملية إبطاء الصراع بصورة ضمنية، ما راح يخول مسار النص على استيعاب قيمة زمنية لا يمكن لنا سبر غورها، خاصة وأن تجليات المواقف غدت أكثر مأزومية وإلتباسا:فما وراء خروج الزوجة ليلا نحو تلك الغرفة التي كان الأحرى بالصندوق أخذ مكانه فيها طالما هو لا يحتوي سوى على لوحة العشاء الأخير ربما؟هل الزوجان منفصلان مثالا، وهذا ما يبدو ظاهرا ولو بشكل نسبي؟أليس وياط ذلك الفنان الذي عشق جمال الروح في المرأة لذا خليقا به أن يضحي بكفة عدم جمال زوجته الشكلي والرجحان إلى كفة كفة جمال روحها وأخلاقها على حد تقويم سكان السفينة؟.

6 ـ أسرار الصندوق ومصدر غرائبية الأصوات القادمة:

يمنحنا البعد الحبكوي في حكاية محتوى الصندوق ذلك التولد لمختلف الأسئلة والشكوك والدوافع التخييلية التي قد تجند لذاتها فضاءات رحبة من التوهم وإعادة التفكير بطريقة مريبة.غير أن آليات النص وفتنته بلغت حدا من التمويه والمخاتلة والانعطاف بحقيقة الدلالة إلى دائرة سجالية ظنية محتدمة في نفس السارد المشارك: (هناك شيء آخر أثار اهتمامي لدرجة كبيرة.وهو أنه خلال الليلتين المذكورتين وفور خروج السيدة وياط من غرفة زوجها إلى الغرفة الإضافية تناهت إلى سمعي ـ أصوات غريبة ـ حذرة مكبوتة صادرة من غرفة السيد وياط.بعد أن أنصت طويلا إلى هذه الأصوات وأنا غارق في التفكير فيها، نجحت أخيرا ولو جزئيا في معرفة طبيعتها.كانت ناجمة عن محاولات الفنان لفتح الصندوق بواسطة إزميل ومطرقة صغيرة ملفوفة كما يظهر بشيء ناعم كالقطن أو الصوف كي يختنق صوتها حين الاستعمال./ص110 النص القصصي) قد أبدو أني لم أتحدث عن وحدات (الزمن الترقبي؟) ذلك الزمن الخاص الذي يخول صاحبه إلى الانطلاق في مكونات تصورية هي مزيج من التوهم والتخييل واللهفة الاطلاعية الفضولية في الغريزة البشرية عامة.فحتما ما كان يتصوره هو شكلا من مصاحبة مرحلة طويلة من الانتظار والعيش في أدق دقائق التفحص لكل شاردة وواردة، فهذا النوع من زمن الفعل الترقبي يخلق لدى المرء حالة قريبة من حدوث الأشياء اللامحسوسة واللامرئية وكأنه يراها في محال من التصديق والقناعة.فالشخصية كان يتابع تلك الأصوات القادمة من غرفة الفنان، ولكنه كيف حدس بوجود هذه الوسائل (الأزميل ـ المطرقة) وللغرض التعيني ذاته في فتح غطاء الصندوق.هنا لا يبدو (ألن بو) دقيقا نوعا ما، خصوصا وأن السارد الشخصية لم يكن بجوار وياط في غرفته العلوية، حتى يتاح له التعرف على هذه الأدوات الملفوفة بالقطن أو الصوف، ثم كيف أتاح له تخمين استخدام هذه الأدوات في فتح الصندوق ذاته، وليس ربما أي شيء آخر في الغرفة يتطلب عمل ذلك.ربما أن مصدر الأصوات التي سمعها السارد المشارك هي من غواية ارتطام الرياح فوق أجزاء السفينة أو لربما هناك جرذان تتسلق أحد سقوف الغرف المبطنة؟كل هذا وذاك هي من محتملات مبحثنا النقدي، ولا يجوز إقناعنا بإختلاف حالة دخلية وحشوية لأجل تضييع الفرصة على القارىء بضرورة الفهم والتعيين على ماهية حقيقة تلك الأصوات في مصدرها الواقع.على أية حال أقول أن ورود هذه الوحدة من النص كان بالإمكان أن تتقدم عن موضعها الأخير إلى سابق البدء بالوحدة السابقة عندما بث السارد المشارك بهذا الكلام: (هذا إذا لم تكن الأصوات الأخيرة، ثمرات خيالي ـ أقول أنها أصوات تشبه النحيب أو التأوه ـ لكن بالطبع، لم تكن شيئا من هذا القبيل، أفضل أن أعتبرها أصواتا تخرج من أذني./ص110 النص القصصي) بهذا الشأن يمكننا تقبل معادلة التخمين أو التخييل للشخصية المشاركة، خصوصا وإنها دفعت عن ذاتها وساوس التوهم ورسم التصورات بطرائق أستهوائية عابثة.

- الرياح الاعصارية تغرق السفينة وتكشف سرانية محتوى الصندوق

تتداعى مبررات واسباب الشد الموضوعي في فواعل المتن القصصي، نحو حوادث قاهرة جعلت من سعادة الرحلة إلى مواجيد قلق وشجون وانتظارات إلى المزيد من الناجين من غرق السفينة، بعد أياما وليال من الاعصار والرياح البحرية المرتفعة بالأمواج السوداء.الأمر الذي جعل جميع ركاب السفينة شبه الغارقة تتلاقفهم أحواض قوارب النجاة بعيدا عن جسد السفينة الآيل إلى الغرق رويدا رويدا: (الصندوق !: صرخ وياط وهو ما يزال واقفا - لا يمكنك يا كابتن هاردي، يجب أن لا ترفض طلبي.سيكون ثقله شيئا بسيطا ـ لا شيء ـ مجرد لا شيء.بحق الأم التي حملتك ـ بحق السماء - بحق أمل نجاتك، أرجوك أن نعود للصندوق!.. بدا القبطان لبرهة وجيزة وكأنه تأثر من كلمات الفنان، لكنه استعاد ملامح الجد وقال: إنك مجنون يا سيد وياط..لا أقدر أن أستمع إليك.أجلس، أقول أجلس وإلا ستغرق القارب بنا.قف، أمسكوه ـ أقبضوا عليه ـ إنه على وشك أن يقفز إلى الماء، لقد توقعت..وفيما كان القبطان يقول هذا، قفز السيد وياط إلى الماء فعلا، وبما أننا كنا ما نزال قريبين من مكان الحطام، تمكن وياط بعد جهد من أن يمسك بجبل يتدلى من السلاسل الأمامية للسفينة./ص111.ص112 النص القصصي) من هنا نلاحظ بأن مستوى تضمينات النص قد أخذت طابع قويم من ظاهرة الرمزية المنقسمة إلى ثنائية (الملفوظ ـ تلفظ) وهذا الأخير يتفق ها هنا مع حالة الشخصية وياط التي جعلت منه يدفع نفسه نحو أعماق البحر للوصول إلى حطام السفينة، لأجل بلوغ تلك الغرفة المغمورة بالمياه، لغرض إخراج ذلك الصندوق.وهذه العملية بحد ذاتها تتوزع بين (إرادي ـ اللاإرادي ) أو حتى بين الوعي أو اللاوعي أو التعقل أو الجنون، فبماذا يمكننا تقويم سلوك هذه الشخصية ظاهرا يريد الانتحار في سبيل إخراج ذلك الصندوق ذا المحتوى الملغز..وما حدث فعلا يشبه ما قرأناه في حكايا الأساطير والفنتاستيك وقصص العجائب، عندما ظهر الاثنان (وياط = الصندوق) على حافة مقدمة السفينة ثم جعل وياط رابطا جسده بذلك الصندوق بطريقة محكمة، ثم راح يقذف بنفسه بصحبة الصندوق إلى عمق أمواج البحر غارقا.

ـ تعليق القراءة:

بهذا المنظور المرمز هل يمكننا عد قصة (الصندوق المستطيل) حكاية قصصية ذات فضاءات مغلقة ومحجوبة في نقطة الحسم الانفراجي للمضمون لها ؟أوهل حاول ألن بو على صعيد كل أحداث قصته أن يبلغنا أن قصته ذات النهاية المفتوحة لغزا ملغزا مكينا فيما يتعلق بمحتوى أسرار ذلك الصندوق؟وما مدى أوجه العلاقة المصيرية بين الشخصية وياط وذلك التابوت الخشبي؟أهي محض جملة طموحاته التي دنستها المياه فبعثرت ألوان كل لوحاته التي كان قد سلخ أياما وشهورا في نسيجها على شكل أحلام تجسد علاماته ورموزه الفنية، أيمكن أن يكون قد فضل الموت معها مصيرا؟في الواقع ربما النهاية لا تجانب أي واحدة من تساؤلاتنا بعد أن نعلم حقيقة ما قاله الكابتن هاردي إلى السارد المشارك بعد مرور فترة من زمن ممارسة حياتهما الطبيعية في المدينة: (التقيت الكابتن هاردي صدفة، وتطرق حديثنا طبعا إلى المأساة، وإلى المصير المؤلم الذي لاقاه المسكين وياط عندها عرفت التفاصيل التالية:كان الفنان قد حجز أمكنة لنفسه وزوجته وأختيه والخادمة.وكانت زوجته تماما كما كان يحكي عنها..سيدة رائعة الجمال عالية الإدراك.في صباح الرابع عشر من حزيران ـ اليوم الذي زرت فيه السفينة ـ مرضت السيدة فجأة وماتت.فجن الزوج المسكين من فرط الحزن.لكن الظروف لم تسمح له بأن يؤخر سفره إلى نيويورك.وكان من الضروري أن يحمل جثمان زوجته إلى أمها. والمعروف أنه يصعب على الركاب تقبل مثل هذا الأمر.إذ لو عرفوا بذلك لكان أكثرهم فضل مغادرة السفينة على السفر برفقة جثة./ص112 .ص113 النص القصصي) أن أهمية قصة إدغار ألن بو (الصندوق المستطيل) تمكن في إمكانية خلق الأسباب التمايزية في تغيرات الأحداث، إلى جانب فرادة الفكرة واشتغالات الموضوعة بوسائل محفزة وتشويقية، إذ لا تفارقها جدية تقانة الوصف وبلوغ الخطاب إلى أقصى مراحل الانسجام الدلالي والرمزي والكنائي والأغوائي والنفسي.فوظيفة استقصاء الأحوال من دقائق النفس والأشياء هي المفتاح إلى فتح كل أبواب الكتابة القصة القصيرة بنجاح وكفاءة لا نظير لها.وتبعا لهذا أضيف قائلا:أن عوالم قصص بو هي صياغات نوعية في الرؤية والأفعال الشخوصية ودورها في تحفيز منظور وتقانة (الاستبدال) في أشد اللحظات توصيلا مغايرا نحو قراءة تقتني كنوز النصوص من خلال انفعالات شخوصها مع الادوارالعاملية لها دخولا، بالصورة التي توفر للقارىء جملة ثابتة ومتغيرة من أسانيد الرؤية الحبكوية التي تأخذنا إلى مفاوز ظنونية وجملة تساؤلات مشتتة حول مدى احتمالية تلك الحبكة المخاتلة؟ في فضاء القص، التي راحت توفر لنا إمكانية راجحة من حسن اشتغالها بالبحث في المعنى المحتمل أو انتاج المعنى الآخر الذي هو الصورة المتعددة لأوجه مؤولات الدلالة المركبة في حاضنة النصوص الخالدة على صعيد تصاعد كل الأجيال والعقود الباحثة عن حقيقة ما عليه أدوات وآليات وموضوعة فن القصة القصيرة، التي لم نجد لها من نظير سوى في عوالم هذا العملاق الفذ إدغار ألن بو .

***

حيدر عبد الرضا

شهدت الساحة العربية أحداثا سياسية متعاقبة ومتسارعة أفرزت ما سمي بالربيع العربي والذي طال أكثر من بلد عربي ابتداء من تونس وانتهاء بسورية. حيث كان الشارع فيها نقطة انطلاق لثورات نادت بسقوط الأنظمة. فجاء القتل والتدمير والنزوح ولجوء الشعوب إلى بلدان أخرى وما رافق ذلك من مشاعر تمزق للهوية وفقدان الذات على أرض جديدة تنكرت لهم وتنازلت عن مخيمات حُشروا فيها تفتقر لأقل الحاجات الآدمية.

ومسألة الهوية من الموضوعات الهامة التي شغلت بال الروائيين. حيث أن الرواية هي الأقدر على التعبير عن الواقع المعيش في أوطاننا الممزقة والاقتراب من الذات العربية والوقوف على إشكالية الهوية.

ونحن أمام عمل جعل من الهوية مادة أساسية له حيث نجد الكاتبة براءة الأيوبي قد تفاعلت مع الواقع وجعلت عملها أرضا خصبة طرحت من خلالها موضوع الهوية والذات وتأثيرات الحرب واللجوء على الشعوب دون ذكر للبلد الذي دارت فيه أحداث الربيع العربي أو حتى ذكر للبلد المضيف.

والهوية في علم النفس صورة الشخص عن ذاته، كما تمثل التساؤلات التي يطرحها الشخص للبحث عن كينونته وهويته، ولا تحدد الهوية إلا من خلال البيئة والوسط الذي نشأ فيه من خلال الانتساب إلى مجموعة يتشارك معها الميول والتطلعات والأفكار والعادات والتقاليد. وتعتبر الهوية الفردية محور الدراسات في علم النفس بعكس علم الاجتماع الذي يهتم بالهوية الجماعية.

وبينما الذات وعي فردي فالهوية وعي جماعي والوعي بالذات يرتبط بالوعي بالهوية والانتماء، فنحن لا نعي ذواتنا إلا من خلال الهوية ولا تتكون الهوية إلا من خلال هذا الوعي.وكل اختلال في الذات يحدث إضطرابا في الهوية.

وقد جاءت رواية حياة ترف للكاتبة الأيوبي، الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون، لنقل الانكسارات النفسية لتلك الشريحة المهمشة من اللاجئين المنخرطة رغما عنها في تيه فقدان الوطن والذات وبالتالي الهوية، وسط رفض الواقع لهم في بلد يعاني أزمات اقتصادية ليجدوا الآفاق أمامهم مسدودة وبلا هوية.

صنعت الأيوبي من أسرة صقر والد ترف أنموذجا مصغرا ليمثل بمعاناته وانكساراته وصراعه النفسي آلاف النماذج التي مرت في الواقع بنفس الظروف وأكثر لشعوب عاشت مأساة الحرب وتيمة الحرب شوهت ذوات هذه الشعوب وجعلتها متشظية تائهة تشعر بالنقص وعدم الانتماء، ذوات متأزمة مشوشة الرؤية يئجعلها جحيم الحرب تبحث عن أوطان جديدة تحتويهم وترمم تصدع ذواتهم. ففي ص66على لسان ترف( يا إلهي كم هي بعيدة هذه الحدود، وكم هو كبير ذلك الحلم المعلق خلف عتباتها.. هناك سنستعيد ذاتنا التي كانت، سنرمم أمنياتنا).

وحيث أن الأسرة هي الوطن الأول الذي تنتمي له ذواتنا ونستمد منه هوياتنا فإن أي خلل في التنشئة تفرز عقدا وأزمات نفسية تبقى ملازمة لتلك الذوات وبالتالي تدخل الشخصية في حالة اغتراب وهو شعور نفسي وليس مادي يبعدها عن واقعها ويجعلها تائهة حائرة، دائمة العزلة حتى عن أقرب الأشخاص منها وهو أشد أنواع الاغتراب تأثيرا على الذات..  وهذا ما سيجده المتلقي لرواية حياة ترف حيث البادية هو المكان الأول الذي احتضن بداية الأحداث حيث الحياة البسيطة والسعيدة التي عاشتها بطلة العمل ترف في ظل والدها صقر ووالدتها نوف إلى أن يحل يوم الرحيل بعد أن فقد البلد أمنه بسبب انتشار عصابات مسلحة تقتل وتنهب وتغتصب ولا تعرف الرحمة طريقا إليها فيلجأ صقر والد ترف إلى اتخاذ قرارا صعبا وهو مغادرة الوطن وترك كل شيء إلى أرض جديدة نشدانا للآمان. ففي ص41 على لسان ترف تتحدث عما سمعته من رجال القرية الذين اجتمعوا في بيتهم (كلمات مبعثرة وسط أحاديث طويلة تمكنت من التسلل إلى مخدعي فدكت هدأتي وأوردتني في هلع: عمليات سلب..  مسلحون..  ارتحال). وفي ص68( مسلحون، عمليات خطف واعتقال .. منازل مدمرة، كلمات سمعتها تتردد مفادها أن ثمة مارد مجهول الهوية يتربص بالأهالي في كل مكان من أرض الوطن ولا وسيلة لصرفة أو التخلص منه سوى بالفرار السريع).

تتكرر إشكالية الهوية طيلة صفحات الرواية تعبيرا عن أزمة الذات والوطن وكانت هذه الإشكالية تتصل مع البطلة ترف التي تعيش حالة انفصال مع ذاتها وهويتها فوالدها المشلول الذي كان موضع ثقتها وتبعته دون خوف عند الرحيل أصبح اليوم عاجزا مشلولا على كرسي متحرك ينزوي عن العالم في زاوية منزل الصفيح كأنما يهرب من الواقع ففي ص205 تصور والدها وما أصبح عليه من لا مبالاة بسبب وضعه (ولكن ثمة أزمة نفسية سلبت منه وهج الحضور وجعلته يتوارى خلف جدار الصمت الثقيل.. بات يرى بؤس أمي.. فينغمس في عمق مأساته متناسيا أوضاعها). وقد أبرزت الكاتبة العلاقة بين الأبناء والأمهات التي كانت تتميز سابقا بالحب والاحترام والعطف وانقلبت بعد اللجوء إلى نفور وجلد للآخر لأقل زلة ففي ص156-157 على لسان ترف (هذا ليس صوت أمي ولا تلك نظراتها! حتى كلامها الثقيل بدا لي وكأنها استعارته.. وهي تلعن وتشتم .. بعد سطوة هذه الكلمات شعرت أني غريبة عن المكان بكل ما يحويه وحتى عن ذاتي). وهذا بحد ذاته اغتراب تحاول ترف البحث عمن يعوضها هذا الاغتراب فتجده بداية مع الحجي فنجدها في ص158 بعد كلمات أمها القاسية (غادرت مكاني دون أن أظهر أي احتجاج.. وسرت على غير إدراك.. وجدتني كعادتي في لحظات الضعف أقف أمام كشك الحجي والدموع ترسم.. غادرت مكاني وشكرته على سكينة انسربت إلي رغم صمت لقائنا).

ثم تجد الأمان عند العم عدي الذي التقت به يوما عند شاطئ البحر لكننا نكتشف في النهاية أنها شخصية ابتدعها خيالها للهرب إليها كلما عصفت بها الأيام ففي ص165 تقول عن هذه الشخصية التي صنعتها وتعلقت بها (برغم غموض استشرى بين كلماته إلا أن استجابته لسؤالي وعدم لجوئه إلى تجاهل استفهامي حمل إلي تفاؤلا بتقارب محتمل بيننا).

وتعيش ذات ترف كذات معزولة فاقدة للأمل ومعلنة عن وحدتها وغربتها وضياع هويتها ففي ص18 على لسانها (تسع سنوات منذ أن غادرتني الأحلام وغدرني الزمن وأنا أعاني شتات الروح وفقدان الهوية). وفي ص22 تقول (هذه أنا.. أفتقد الرضا عن الذات وواقعي يكبلني بألف عقدة ويحيلني ريشة في مهب الريح).

كما نجحت الكاتبة الأيوبي في طرح الهوية وإشكالية الاختلاف ابتداء باختلاف اللهجة وتتضح لنا هذه الإشكالية في كلمات ترف ص22( دائما ما أكون بسبب مظهري ولهجتي الريفية - البدوية محط استهزاء من زميلاتي في الصف).

أما إشكالية اللون فنجدها ص96 وما جاء على لسان ترف (أما عن لون البشرة فلا أحد يشبهنا مطلقا نحن كسوانا من أهل قريتنا ببشرة سمراء مع إحمرار يزيد من قتامتها.. ساكني هذه الأرض.. بشراتهم بيضاء وقمحية وسمراء.. فعلا نحن مختلفون).

أما إشكالية اللباس فنجد الكاتبة وقد طرحتها ص96( النساء عندنا مختلفات، وجميعهن كأمي يتنقلن ب الدفة وهي عبارة عن عباءة سوداء ومعها الشيلة كغطاء على الرأس.. حتى ملابسي لا تشبه ما عاينته في الفتيات الصغيرات).

وترف البطلة كانت شاهدة على مأساة من يقطنون المخيم فكان مشهد هذا المخيم هو المهيمن على السرد. حيث جاء وصف لأبشع مشاهد الحياة هناك حيث انعدمت الإنسانية ومما جاء على لسانها ص 24 (شوارع المخيم تنبض قذارة.. هي مكان للضياع والانغماس في كل أنواع الموبقات) وفي موضع آخر من نفس الصفحة (نحن اللاجئون نعيش هنا خارج مدار الإنسانية). وموضع آخر من نفس الصفحة تصف بيت خلاء منزلهم (أما عن بيت الخلاء فتستحيل إمكانية الاختلاء فيه.. هو جزء كبير من القاعة الكبيرة.. وفي كثير من الأحيان يحدث أن تتقيأ الحفرة كل ما فيها ويغرق المنزل في دنس ومأساة).

وبطلة الرواية ترف تضيع ذاتها في قذارة المخيم وهنا تكون قد فقدت الانتماء وهنا يبرز التصدع في الهوية ونستشعر هذا ص157من كلمات ترف (وخسرت ما تبقى منها في مخيم يضم بين أركانه جميع مقومات الدمار النفسي وتشتت الهوية والانتماء).

ونجد بأن مأساوية المخيم وعدم تقبل المجتمع لها كما بقية أبناء المخيم جعلها تتوق للرحيل والعودة إلى الوطن على امل استعادة الذات والهوية وهذه الخطوة نجدها في الفصل الموسوم ب العودة ففي ص241 نجد ما جاء على لسان ترف (فعلا نحتاج إلى عودة سريعة نلتئم بها مع جذورنا.. تفرغنا من هزائمنا النفسية وتجعلنا نستعيد ذاتنا الساكنة).

فالعودة هي الحل الذي تتوصل له ترف وان البعد عن الوطن لأوطان أخرى كارثة حقيقية فنجدها تركب البحر مع لوليه المرأة التي احتضنتها بعد موت والدها وعودة والدتها مع أخوتها إلى الوطن لتجد طمع سماسرة البشر وسط الأمواج التي لا ترحم في زورق غدار مع كتلة بشرية من أبناء وطنها ليكون مصيرهم واحدا مصير سوداوي لأناس خاضوا غمار الخطر لاستعادة جذورهم.

بقي أن نقول بأن الكاتبة اعتمدت تقنية الاسترجاع والتي مصدرها الذاكرة حيث تعود البطلة ترف إلى ماضيها وطفولتها وظلها الذي تركته هناك في باديتها التي تحب، ظلها الذي كان يؤنسها ولا يشبه تلك الظلال المزيفة في أرض اللجوء.

كما أن من أهم الظواهر الأسلوبية التي بنت عليها الكاتبة روايتها التكرار الذي كان الهدف منه التذكير بالأحداث مثل التذكير بحياة المخيم والتأكيد على تمزق الهوية وفقدان الذات والانتماء بسبب الظروف غير الإنسانية في جميع زواياه، شكله، بؤسه، ناسه.

***

قراءة بديعة النعيمي

بعد سلسلة المقالات التي ناقشنا فيها قضيَّة (الالتزام في الأدب)، بتنظيراتها وتطبيقاتها التي شاعت خلال القرن العشرين، يمكن استخلاص الآتي:

1- إنَّ المفهوم اللُّغويَّ للالتزام- في الأدب وفي غير الأدب- والدَّعوة إليه، قديمان، منذ فلاسفة (الإغريق).  أمَّا المصطلح الفلسفيُّ لهذا المفهوم، فحديث.

2- من أبرز المدارس التي تبنَّت الالتزامَ في الأدب خلال العصر الحديث مدرستان: (الاشتراكيَّة)، و(الوُجوديَّة).  على أنَّ الالتزام في المدرسة الاشتراكيَّة كان أشبه بالإلزام منه بالالتزام، على حين حرصت الوُجوديَّة على المناداة بحُريَّة الأديب الفرديَّة، في إطار الالتزام الإنسانيِّ العامِّ والقوميِّ الخاص.  وقد تنامت فلسفة الالتزام الوُجوديِّ في الأدب، حتى كان الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، 1905- 1980) هو مُروِّج مذهبها وناشره في العالم في القرن العشرين.

3- كان الوُجوديُّون، في ربطهم الإنسان بوجوده في العالم، لا يرون مفرًّا من التزام الأديب بقضيَّةٍ يُعالجها في أعماله.  ولا يكفي شعورُه بالتعاطف مع تلك القضيَّة، بل هو مطالبٌ بنقل شعوره ذاك إلى حيِّز التعبير، مهما واجه من المصاعب والمعوِّقات.

4- لم يكن (سارتر)، في كتابه «ما الأدب؟»، يرى وجوب الالتزام على الشاعر، بل يخصُّ الناثر الأدبيَّ فقط بوجوب الالتزام؛ لأنَّ طبيعة الشِّعر ولغته الفنِّـيَّة هما كطبيعة الموسيقى والرسم ولغتهما الفنِّيـَّة، إنْ أُخضِعتا لالتزاماتٍ خارجيَّةٍ، فسدتا، هويَّةً جماليَّةً ووظيفة.  أمَّا أصحاب المذهب الاشتراكي، فلا يُعْفُون الأديب من الالتزام، شاعرًا كان أو ناثرًا.

5- ليس من مفهوم الالتزام الوُجوديِّ في الأدب التحوُّل به إلى وَعْظٍ وإرشادٍ أو إلى توجيهٍ مباشر، بل إنَّ الالتزام مشروطٌ بالمحافظة على الأُسُس الجماليَّة والفنِّـيَّة في العمل الأدبي، بحيث يستطيع الأدب أن يكون فنًّا جميلًا، ذا طبيعةٍ خاصَّةٍ، مع القُدرة على أداء وظيفته في الحياة.

6- لعلَّ سيطرة السياسة في العصر الحديث على مجريات كثيرٍ من الأمور في الحياة، هو ما جعل الالتزام يكاد يكون التزامًا سياسيًّا مَحْضًا؛ لأنَّ المشكلات- وإنْ بدت اجتماعيَّةً أو اقتصاديَّةً أو حتى فكريَّةً في ظاهرها- تكمن السياسة من ورائها غالبًا، وتكون المحرِّك الأساس إلى اتجاهاتها.

7- إنَّ وظيفة الالتزام في الأدب وقيمته تكمنان في حُريَّة الأديب لاتخاذ مواقفه من قضايا عصره. وهي مواقف الرائد الصادق، الذي يتطلَّع إليه شَعبُه، مُذ أناط بنفسه عمليَّة التعبير؛ كي يكون النذير بالمخاطر، والهادي إلى كيفيَّة التغلُّب عليها.  بَيْدَ أنَّ الكاتب مطالبٌ قبل ذلك، ولتحقيق هذا الهدف النبيل، بتمهيد السُّبل.  ومن تلك السُّبل امتلاك وسائل الإعلام، بشتَّى أنواعها، للوصول إلى الجماهير، وبخاصَّةٍ أوساط الناس منهم.  ومن ثَمَّ التفكير في كيفيَّة توحيد عناصر الناس المتباعدة في مجتمعٍ موحَّدٍ متجانسٍ، يُشْبِه الجسد الواحد. وقد ناقش (سارتر) هذا الإشكال واقترح له الحلول في كتابه «ما الأدب؟».

8- كان من الشُّعراء المحْدثين الذين اعتنقوا المذهب الاشتراكيَّ الشاعر المصري (صلاح عبدالصَّبور، -1981).  صحيحٌ أنه تقلَّب في حياته بين اتِّجاهاتٍ عِدَّة، ولكنَّه بقي أخيرًا مخلصًا للمذهب الاشتراكي.  وقد تمثَّل اتجاهه هذا في مسرحيَّته الشِّعريَّة «مأساة الحلَّاج»، التي عبَّر فيها عن انتمائه الاشتراكي؛ مصوِّرًا الفقرَ والعَوَزَ ونتائجهما، في تشكيل الفرد والجماعة، عارضًا دَور الفنَّان في مجتمعه، عَبْرَ شخصيَّة (الحلَّاج، -309هـ= 922م)، الذي لا يكتفي بالتغيير بلسانه، بل يُكافِح بنفسه، ويُضحِّي بها في سبيل قضيَّته، التي نَذَرَ حياته من أجلها.

9- في ميدان (النَّثر الأدبي) جاءت مسرحيَّة (سارتر)- فيلسوف الوُجوديَّة ورافع شِعار الالتزام في الأدب- بعنوان «الشيطان والرحمن»، حاملةً وجهَين: أحدهما يمثِّل المبادئ الوُجوديَّة، والآخَر يمثِّل الالتزام الوُجودي في الأدب.  مع عَرْضٍ لصراعاتٍ مختلفةٍ حول قضايا السياسة والاجتماع والفكر، وكشفٍ لمعوِّقات الالتزام، وطُرُق الانتصار على تلك المعوِّقات.  لتنتهي المسرحيَّة بدعوةٍ صارخةٍ إلى الوُجوديَّة؛ بحُسبانها مُخَلِّصًا وحيدًا للإنسان في العصر الحديث.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

 

في المثقف اليوم