قراءات نقدية

قراءات نقدية

كنت قد اطلعت قبل عام أو أكثر على مجموعة للشاعر عادل الحنظل عنوانها (رجاء على شفاه العدم) ثمّ بعد كلّ تلك المدّة رجعت ثانية إلى المجموعة ذاتها لا لأقرأها من باب الاستئناس بل لأقف عندها وقفة طويلة فأسبر غورها وأكشف عن بعض جمالياتها.

هذه المرّة ارتأيت أن أتناول العنوان أوّلا قبل الكتابة عن القصائد الواردة في الديوان.

العنوان يتكوّن من أربع كلمات (رجاء على شفاه العدم) والرباعيّة تتخذ في الفكر العالمي موقعا مهما في الخيال والفلسفة والعلم، والفكر الديني، ففي العلم هناك ثبات في الأرجل الأربعة للكراسي والمناضد، والعمارات والبيوت السكنية، والجهات الأربعة في علم الجغرافية، وفي الدين الإسلامي نجد الكعبة بنيت على أساس رباعي، إن المربع يكوّن الصورة المتكاملة.و تدلّ الكلمة الأولى في المربع على الأمل لكن النهاية تنتهي نهاية حزينة اغترابية .

 وما دمنا بصدد الحديث عن البدايات والنهايات فأتساءل كيف يبدأ الشاعر عادل قصيدته وكيف ينهيها؟

ولكي أوفّر على القارئ وقته أشير إلى ان الشاعر يتخذ أدوات معينة في البداية والنهاية منها :

أن يبدأ بالزمان ويختم القصيدة بالمكان: قصيدة (غريبان) تبدأ بالمطلع التالي:

ينادي عليّ الغروب المودّع دنيا الفناء

فأخلو بأرض جفاها البشر

تحتلّ اللازمة الزمانيّة (الغروب) مطلع القصيدة بكونها فاعلا ترافقها ظاهرة صوتية هي (ينادي= النداء) الغروب لون يدلّ على الشحوب وهو بداية للظلمة، إضافة إلى ذلك ندرك أنّ الغروب بطئ بلونه ودلالاته النفسية التي تبعث الحزن والشجى وتشير إلى الإحباط، أمّا الصوت فهو تجلّ سريع بخاصة النداء يندمج بالغروب فيصبح أداة له (فعل)عندئذ تخف حركة الصوت وتزداد سرعة الغروب.(دنيا) هي أيضا ظاهرة زمانيّة بملاصقتها الفناء الذي هو عنصر زمانيّ، ولكي تتعادل الحال يأتي من بعدُ المكان المتجسّد بالأرض غير أن الأرض لا تعني في هذا الموضع الأرض كلّها، أو كلّ عالمنا، ويغلب على ظنّنا أن الشاعر يشير بهذه المفردة إلى الوطن الذي هجره من باب تسمية الجزء بالكلّ.

أمّا في منتصف القصيدة فيتحوّ الغروب إلى حالة جديدة تشبه الولادة، إنّه يصبح(مساء) أي يوغل في ذاته بحركته البطيئة، والمكان نفسه يرتقي إلى حالة أعلى فيصبح سماء وغيوما بحركة من الأسفل إلى الأعلى معاكسة لحركة الغروب الهابط:

الغروب\ مساء

الأرض \ غيوم

الاغتراب المزدوج بين الحركتين يتنازع الشاعر حتّى يلتقي شجيرة كرز، أمّا التصغير فلا يدلّ على التحقير أو التدليل بل على التفحيم والتهويل، فلا يخطر على بالنا أنّ الموازي للبطل شئ صغير بقدر ماندرك أنّ الشّاعر استوعب التاريخ بشخصيّة عبد الرحمن الداخل حين نجا من الموت وفوجئ بنخلة أمامه استوعبت اغترابه في اللحظة التي أثارت استغرابه:

تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة   تناءت بأرض الغرب ن بلد النّخل

فقلت شبيهي في التّغرّب والنوى   وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي

نشأت بأرضٍ أنت فيها غريبة   فمثلك في الإقصاء والمنتآى مثلي

سقتك عوادي المزن من صوبها الذي يسحّ ويستمري السماكين بالوبل

فكلتا الحالتين: عادل\ الداخل تستوحي المطر والشجر بصفتيهما الدالتين على ديمومة الحياة التي لابدّ أن تسوعب حالة الاغتراب بالتوازي مع المكان والزمان، وهي صورة ثابتة، تشبه بالضبط صورة تمثال ننصبه في مركز المدينة، إنّه يصلح للتعبير عن الزمنكان أكثر من التمثال الذي ننصبه على الخطّ السريع أو الأوتستوراد، لأنّ زمنكان الموقع يختلف:

نحن نتطلع في شجرة بالغابة. بجانب النهر ننقش عليها قلوبا..نكتب بنصل حاد أسماءنا وأسماء حبيباتنا، فهو الزمنكان، كما نجده في سياق القصيدة بعد أن تمثّل المكان فيها شجيرة تسير بتناسق زمنكانيّ إلى النهاية، في هذا الترادف المزدوج بيين الزمان والمكان يظهر صوت آخر هو صوت البوم، الصوت كما نعرف حركة، والحركة تستغرق زمانا، هناك في البدء كان النداء من الغروب، وهنا مع الشجرة الثابتة تحول الصوت إلى نعيب :

وألبسها الحزنً بوم يطيل النواح

غدت موئلا صامتا لا يشيع الخبر

لقد استيدل الشاعر الحمام بالبوم .. واستبدل النعيب الذي هو للبوم بالنواح صوت الحمام.إن المكان مثّل الطلل الذي يبكبي عليه الشعراء، فالعاشقون يأتون لكي ينقشوا أسماءهم على شجرة الكرز:

على جذعها حفر المغرمون

قلوبا كواها السَّهر

إنّ شجرة الكرز أصبحت نديم الشاعر فهو يعود إاليها وقتما يشاء حيث تمثّل الوطن البديل لتنتهي القصيدة نهاية مكانيّة بعد أن بدأت بداية زمانيّة:

رمتها سدى بذرة في العراء

وأنكرني موطن لا يصون الوفاء.

أمّا قصيدته التي جاءت بعنوان (ويمضي أوّل الفطام)، فمن العنوان ندرك أنّها بدأت بالزمان:

أجاء الفطام

وذي أنهري

فاض سبعينها

المجئ حركة والفطام سكون في سكون وانقطاع ونظنّ أنّ سنوات القطام السبعين هي عمر الشاعر _أطال الله في عمره- ليأتي بعدئذ المكان يتلاحق بمفرداته المثقلة بالوجع:المرافئ..الظلال...ثدي.. ساق..الكأس.. النخل..الذي يدوم اخضرارا كما يراه من خلال الكأس ويوازي بينه وبين الأماني أي الزممن القريب البعيد لتنتهي القصيدة بعد ذلك بزمان يقابله مكاني في النهاية:

أنا

كالغروب اعتدالا

قبلي شمس

وبعدي هلال

نلاحظ الرباعية المتجلية في النهاية:

1- الالهلال\ مكان

2- شمس \مكان

3 - قبل \ زمان كقوله تعلى لله الأمر من قبل ومن بعد أي قبل الغلبة وبعدها

4 - بعد\ زمان

عندئذ استطاع الشاعر من خلال عنوان مجموعته الرباعي أن يحقق في نهاية قصيدته التوافق بين مفردات أربع خلق منها صوره الجميلة العذبة.

***

قصي الشيخ عسكر

 

قراءة نقدية تحليلية في قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة الجزائرية نادية نواصر

مقدمة: تمثّل قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة الجزائرية نادية نواصر نموذجاً شعرياً غنيّاً بالرموز والانزياحات الأسلوبية والحمولات النفسية العميقة. فهي نصّ ينهل من معين الغنائية العاطفية، لكنه يتجاوزها ليؤسس لمعمار تأويلي مفتوح، تتداخل فيه الذات بالآخر، والحب بالميتافيزيقا، والعاطفة بالعرفان الصوفي.

وانطلاقاً من طبيعة النص المركّبة، تبدو مقاربته ممكنة عبر جملة من المناهج؛ الرمزي لرصد شبكة العلامات والدلالات، والأسلوبي لتحليل البنية اللغوية والإيقاعية، والنفسي للكشف عن توترات اللاشعور، إضافة إلى المنهج الهيرمينوطيقي الذي يتيح قراءات متعدّدة تنفتح على آفاق المعنى.

أولًا: مدخل تأويلي:

قصيدة "بلاغة عينيك" لا تُقرأ بوصفها بوحاً عاطفياً فحسب، بل نصّاً رمزياً يتجاوز الغنائية المباشرة إلى بناء خطاب شعري مركّب، فيه تتداخل التجربة الذاتية بالرمزية الكونية، حيث تتحوّل العينان إلى مجاز جامع للكينونة، ولغة بديلة عن اللغة. هنا الشعر ليس قولاً عن الحب، بل إقامة وجودية في مدار العشق، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والآخر، بين الأنا والكون.

ثانياً: المنهج الرمزي:

القصيدة محمّلة برموز كبرى يمكن تأويلها:

-العينان: ليستا عضواً بيولوجياً، بل أيقونة للمعنى، مرآة للروح، ولغة بديلة "لا لغة تجمع أبجدياته سوى لغة الوله… في بلاغة عينيك". هنا تتحول العين إلى نصّ رمزي يُقرأ كخطاب روحي.

- البحر: يرمز إلى الاتساع واللانهاية، وإلى عمق التجربة العاطفية التي تتجاوز المحدود.

- البلّور: رمز الهشاشة، في مقابل القوة الكامنة في العاطفة.

- المدار/الحبل/الورد: رموز للارتباط الوجودي بين الشاعرة والمخاطَب، حيث يتحول الآخر إلى وطن وهوية وتاريخ.

- الصمت/اللغة: جدلية بين الغياب والحضور؛ فالصمت يُكسر بالحب، واللغة الحقيقية ليست في الألفاظ بل في الوله والحرائق الداخلية.

هذه الرموز تشكّل شبكة دلالية يتجاوز فيها النص العاطفة البسيطة إلى ميتافيزيقا العشق، حيث الحبيب يصبح مطلقاً، سرمدياً، يحلّ محل الوجود بأكمله.

ثالثاً: المنهج الأسلوبي:

النص يتأسس على مجموعة من السمات الأسلوبية البارزة:

1. الخطاب الندائي المكثّف، تقول الشاعرة نادية نواصر : (يا روحي… يا أنت… يا يقيني… يا كوني)، وهذا يُشيع في النص نَفَساً صوفياً، يعكس الحضور الكثيف للمخاطَب حتى يصبح محور الكون.

2. التكرار: مثل "كُن لي…" و"أنت"، مما يرسّخ إيقاع الالتصاق الروحي. التكرار هنا ليس زخرفًا بل استراتيجية أسلوبية لتثبيت معنى الاتحاد.

3. الثنائيات الضدية: (الحضور/الغياب، الثبات/الزوال، البحر/البلّور، الصمت/العشق). هذه الثنائيات تمنح النص ديناميكية دلالية وتكشف صراع الذات بين الهشاشة والقوة.

4. المعجم الصوفي والروحي: ألفاظ مثل "الصلوات، الروح، اليقين، المقام الرفيع، ميثاق غليظ" تربط النص بتجربة عرفانية تجعل من الحب طريقًا للخلاص الوجودي.

5. إيقاع الجملة الشعرية: يعتمد على التوازي (أناجيك/أسراب الرياح، الحاضرة/الغياب، البارحة/الآن/الغد…) مما يمنح النص موسيقى داخلية ويؤكد البنية الدائرية للزمن الشعري.

رابعاً: المنهج النفسي:

من منظور التحليل النفسي، تكشف القصيدة عن:

- رغبة الاتحاد: يتبدّى الحبيب كجزء من الذات، بل ككلّها: "يا كوني وكينونتي". هنا تتلاشى الحدود بين الأنا والآخر فيما يُشبه التماهي النرجسي أو الاتحاد الصوفي.

- القلق الوجودي: يظهر في صور "حافة الخفق، أشواك الشك، الصمت، الغياب". هذا يكشف عن خوف داخلي من الفقد، ومن هشاشة العاطفة.

-التوتر بين الرغبة والخوف: النص يكشف عن صراع لاشعوري بين توقٍ إلى الذوبان الكلّي، وخوف من الانكسار والهشاشة (البلور رمز واضح لذلك).

-التسامي: يتحول الحب إلى صلاة وإلى مقام رفيع، أي إلى طاقة روحية، تتجاوز الرغبة الجسدية إلى معنى كوني.

خامساً: المقاربة الهرمينوطيقية (التأويلية).

القصيدة تفتح أفقاً متعدد التأويلات، فهي نص مفتوح بالمعنى الذي قصده "أمبرتو إيكو":

- يمكن تأويلها بوصفها خطاباً غزلياً تقليدياً.

ويمكن قراءتها كرحلة صوفية حيث الحبيب رمز للمطلق.

- ويمكن اعتبارها نصاً وجودياً، فيه يُستبدل القلق الكوني بلحظة حب تعطي للحياة معناها.

إذاً، النص ليس مغلقاً على معنى واحد، بل هو "مجال تأويلي"، فيه القارئ شريك في إنتاج الدلالة.

سادساً: الخاتمة

قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة نادية نواصر نصّ غني بالرموز والأساليب، يتجاوز البنية الغنائية المباشرة إلى فضاء صوفي-نفسي تتقاطع فيه ثنائية الحب والوجود. من خلال العينين – باعتبارهما مجازاً كلياً – تبني الشاعرة عالماً رمزياً تلتقي فيه الذات بالآخر، والزمن بالخلود، والحب باليقين.

إنها كتابة تجعل من العاطفة ميتافيزيقا للحياة، وتُحوّل التجربة الفردية إلى خطاب إنساني شامل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

بلاغة عينيك

يا روحي...

ويا مسرى خفقي في فصول الوجد.

حين توغّلتُ فيك،

رأيتني أوسع من البحر،

وأكثر عمق من الفكرة،

وأكثر هشاشة من البلّور.

كُن لي مرافئَ السّلام،

إنّي على شفا حفرة من الخفق،

أناجيك في المقام الرّفيع بالصَّلوات.

أسراب الرّيّاح التي تحملني بعيداً عن كواكبك،

هيّ نفسها من تعيدني إليك،

مجلّلةً بوهج الشوق،

تنحت مستقرّي فيك بماء الرّوح.

كُن لي الحقيقةَ واليقين،

إنّ المدار الذي يربطني إلى حبل وريدك

هو وطني،

وجنّتي،

وهويّتي،

وتاريخي،

وفتوحاتي،

وملاذي.

كلّ متحرّك زائل،

إلاّك يا يقيني،

وثباتي.

أيّها اللابث في خفق الرّوح،

قلبي الرّاقص على إيقاع عشقك،

لا لغة تجمع أبجديّاته

سوى لغة الوله الضّارب في حمّى حرائقي،

في بلاغة عينيك،

وحديث كفيّك.

يا أنت...

اللحظة الحاضرة،

واللحظة الغيّاب،

البارحة أنت،

والآن أنت،

والغد المجهول أنت،

وما قبل عصور العشق أنت.

وحين يكسرني صمتك،

يعيد إليّ عشقك

ثباتي وترميمي.

كم أشتاق غرقي فيك

بعيداً عن قوارب النجاة !

يا إنّي…

اذبح شكّي من أشواكه الطّالعة.

إنّ المحبّة ميثاق غليظ.

يا كوني...

وكياني،

وكينونتي،

كُن لي كما كنت لك،

وكما سأكون.

***

نادية نواصر

 

قراءة سيميائية في قصيدتي "سيدة المواسم "و"لا خريف في الحب" من مجموعة" حي بن سكران "للشاعر المبدع شلال عنوز

مقدمة: نتناول في هذه القراءة السيميائية المقتضبة نصين للشاعر شلال عنوز من مجموعته الشعرية الأخيرة حي بن سكران (هي سلسلة من القراءات ستشمل كامل نصوص المجموعة) . أهدى نصه الأول من النصين قيد القراءة إلى الدكتورة بشرى البستاني، وهو سيدة المواسم والثاني لا خريف في الحب نرى ارتباطه الموضوعي مع الأول، وذلك من خلال تحليل بنية العلامات والرموز، واستكشاف التفاعل الدلالي بين الأنثى، والمكان، والزمن، والحب، ضمن مناخ شعري كثيف يقوم على الانزياح والتناص والتمثيل الرمزي في بيئة وطنية عراقية كونية. تسعى القراءة إلى إبراز كيف تُعيد القصيدتان تشكيل صورة المرأة - المثقفة أو الحبيبة - بوصفها قوة إبداعية وتجددية في مواجهة التآكل الزمني والتاريخي المشبوب بالجندرية المتغلفة والمتغلغلة في أعماق البني الفكرية والثقافية المجتمعية.

أدوات التحليل السيميائي كما طوّرها رولان بارت، وغريماس، وأمبرتو إيكو، خير معين لأي قراءة سيميائية، حيث تُدرس العلامة بوصفها وحدة دالة تتولد داخل شبكة من العلاقات السياقية حيث السياق هو عنصر الخطاب اللغوي الرئيسي. وكما يرى بارت: "العلامة لا تكتفي بكونها علاقة بين دال ومدلول، بل تتحول إلى بنية منتجة للمعنى داخل نسق ثقافي" (مبادئ في علم العلامات، ص. 22)، وهو ما يتوافق مع قولنا إن السياق هو مشكاة المقاصد التي نهتدي بها في عملية الفهم. فالإطار العام لزمكانية وحدات النص الصغرى والكبرى، عند تتبعها، يكشف الرسالة التي يقصدها الشاعر بوصفه مرسلًا، موجّهًا خطابه إلى المتلقي في إطار ثقافي وتاريخي محدد.

آخذين بنظر الاعتبار الثقافات والمرجعيات والمعتقدات التي نهل منها الشاعر وتشربت بها علامات نصه الدلالية، ندرك أن النص هو حصيلة تراكم اجتماعي وثقافي. وهو ما أشار إليه يوسف وغليسي حين أكد أن "السيميائية ليست مجرد أداة، بل هي أفق يربط النص بسياقه الثقافي والتاريخي، ويكشف عن أنساقه الدفينة" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 15).

أما التناصّية، فهي مكوّن آخر أساس في عملية القراءة؛ إذ يتشكل النص من نضد مقصود بوعي أو من تسرب تراكم مختزن من الصور والمشاعر في لا وعي الناص. وهنا يحضر ما ذهب إليه إيكو: "النص مفتوح على تأويلات متعددة، لكن هذه التعددية ليست فوضى، بل تخضع لقوانين التأويل" (السيميائيات والتأويل، ص. 63). وهو ما يعزز الفكرة أن التناص ليس مجرد توارد خواطر، بل نسق منظم يثري العلامة ويوسّع أفقها الدلالي.

وتُعنى القراءة السيميائية – كما نصّ عليها غريماس – بفهم الكيفية التي تُبنى بها المعاني من خلال الصور والمجازات والإشارات الثقافية واللغوية، حيث يؤكد أن "المعنى لا يُلتقط مباشرة من النص، بل من العلاقات الوظيفية بين وحداته" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41). ومن هنا نحدّد الوظائف الرمزية للعناصر النصية في بناء خطاب شعري كثيف الدلالة، عميق المقاصد.

إننا إذ نقوم بتفريغ الطاقة الاشتغالية في بناء النص سيميائيًا، فإننا نفصح عن أعباء الحمولة العاطفية بقياس الشحنة الشعورية المتكتلة داخل الأحواز اللفظية والتعبيرية. وهذا ما يتسق مع رؤية مرتاض حين قال إن القراءة السيميائية هي "رحلة في المقاصد واللامقاصد، حيث ما يصرّح به النص لا يقل أهمية عما يضمره" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 19). فالمعنى إذن ليس ثابتًا، بل يستغرقه مدّ أفق الفهم، حيث تتجدد القراءة بتجدد زوايا النظر، لتشغّل مفاتيح أقفال العلامات النصية مع مراعاة الاقتضاب الذي يسهل مهمة التلقي ولا يخل بعمق التأويل.

أولاً: قراءة في قصيدة" سيدة المواسم"

إهداء إلى/

الأستاذة العالمة، الأديبة الشاعرة القديرة

الدكتورة بشرى البستاني بمناسبة تكريمها

[قَرأتُها قصيدةً عذراءَ

تَكتبُها أصابعُ الفَجر

فَيُورق على نَسائم بَوحِها

شَجرُ الوطن

تُرَوّي ظَمأَ الاشتياق

بِلَذيذ خَمر الحَنين

مُولَعةً

بِسِفر الأصالة

يَهزج لَها الربيع

أُنشودةَ حُلم

في أُمِّ الرَبيعَين

في (حيِّ العربي)

تَلتهمُ

عَبق عِطر العروبة

تَختالُ مُهرةً أصيلةً

في أَروِقَةِ

جامعة الموصل

يَلتحفُها الإبداع

تُغنّي على

قَلعةِ (النَمرود)

بَعضاً مِن أُنوثةِ

المُدن

وتَزقُّ حُزن الفَواخت

*

في رِئة (الغابات)

تَبُثُّ نَجيَّ أَساها للعراق

على رَصيف (الدَوّاسة)

تَعزفُ سيمفونِيَّة الوَجع

في مَفاصل الوقت

تُسابقُ خُطى الزمن

وتَشربُ عَذبَ ما كَتبَ

العِظام

في شارع المَكتبات

تَرسمُ للحالمين

أَبجديَّة الجَمال

في نَهارات نَينَوى

يُهرولُ

في لُبِّ  مَساراتِها

غَبَشُ العِشق

فَتَرقصُ على  تَراتيلِها

أسراب اليَمام

رَأيتُها في (مُكابدات الشَجر)

تُضمّد (جُرح العراق

بلحنٍ (أندلُسيّ)

عِند (خُماسيَّة المِحنة)

فَتَذوب الأرواح العاشِقة

بِعَبير(زهر الحدائق)

وتَقولُ لَها

لظلّها

عِند مُفترق الفصول:

البسي شالكِ الأخضر وتعالي

**

رأيتُها في بَساتين النارنج

تُقبّل (كفَّ العراق) نازفةً

وتَمسحُ جَبين الصباح

بخُضرة المُناجاة

في (مُخاطبات حوّاء)

لتُرمِّمَ (ما تركتهُ الريح)

مُزدهيةً بجِلبابِها المَوصِليّ

الناصع البَياض

وما زال الصُبح

هائماً

يَلثم شَذا الحُبّ

يَتنفّس عِطر الإبداع

من شَفَتَي

سيدة المواسم]

العنوان:

تفخيم رمزي وتعبيري يشير إلى شخصية تتجاوز محدودية الفردية ومدارات الحراك في مداها الضيق لتكون تمثيلًا لروح المواسم جميعها، أي تُمثّل الحياة، الخصوبة، التقلب، الشعر، الجمال، الحضور الثقافي والتاريخي وهي رواق الولوج إلى النص. وكما يؤكد رولان بارت: "العنوان نفسه علامة أولية، يفتح أفق التلقي ويوجّه التأويل" (مبادئ في علم العلامات، ص. 54).

القصيدة تفح برائحة هيمنة المجاز الثقافي - الجغرافي؛ فهي تستحضر طيفًا واسعًا من الفضاءات الرمزية المرتبطة بالهوية العربي. العراقية بملامحها الوطنية والقومية المميزة: حي العربي، قلعة النمرود، الغابات، رصيف الدوّاسة، شارع المكتبات، نينوى: هذه ليست مجرد أماكن، بل خرائط للذاكرة الثقافية والتاريخية، وأيقونات لنُبل الانتماء. كما هي محطات تكتسب منها عناصر النص أنفاسها الإشارية.

وهنا يلتقي النص مع ما ذهب إليه يوسف وغليسي حين قالا: "المكان في النص علامة كبرى، إذ ينقل الأنساق الثقافية والتاريخية إلى داخل البنية الشعرية" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 102).

سيمياء الهوية الأنثوية

تُقدم الشاعرة المُهدى إليها بصفتها: مهرة، عاشقة، شاعرة، موصلية، مقاومة، ساردة للوطن، مضمّدة للجراح، وهذه هي ما تتركه ريشة الشاعر على خامة لوحته. إنها صورة مركبة تجعل من الأنثى حاضنة للهوية الجماعية.

ويؤكد غريماس هنا أن "الأنساق الدلالية لا تُفهم من خلال المفردة وحدها، بل من خلال الوظيفة التي تؤديها داخل النسيج النصي" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41). وبذلك تتحول الأنثى إلى علامة هوية جامعة تُمثل الثقافة بقدر ما تُمثل الفرد.

التناص المرجعي: التناص المرجعي:

تستحضر القصيدة أعمالًا للشاعرة د. بشرى البستاني (مثل مخاطبات حواء، ما تركته الريح، خُماسية المحنة، مُكابدات الشجر، وزهر الحدائق) مما يخلق تداخلًا بين النص التكريمي والنص المرجعي. هذا التناص هو بقدر ما هو من رصيد الشاعرة الإبداعي رصيد موفور استعان به الشاعر ليقدمها بحُلة ما تستحقه من مكانة. وبذات الوقت هو دعوة تحث المتلقي لطرق أبواب الدخول إلى عالم الشاعرة الزاخر بالعطاء الإبداعي.

ويذهب إيكو إلى أن "التناص هو الطريقة التي يكتب بها النص نصوصًا أخرى في داخله، مولّدًا طبقات إضافية من الدلالة" (السيميائيات والتأويل، ص. 63).

تداخل الربيع بالأنوثة:

الأنوثة هنا ليست جسدًا أو هيئة، بل هي قيمة تشكيلية ترسم للوطن فسيفساء جمال وحلم وخصب ووعي. إنها أنوثة تنزع عن نفسها جلابيب الجندر التاريخي المثقل بالحيف، لتعود إلى جوهرها الرمزي: خصب الأرض والماء والهواء.

الجسد الأنثوي مُستبطن في المدن، في البساتين، في الحرف والقصيدة، هو روح تسكن الأشياء وتعطيها معناها: "تُقبّل كف العراق... تَمسح جبين الصباح".

وهذا ما ينسجم مع رؤية مرتاض: "النص ليس قولًا فقط، بل هو جسد حي، ينهض في الذاكرة الجماعية بما يربطه من دلالات رمزية وجمالية" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 37).

خطاب الحنين والتوق:

يمتد النص كأنه مرآة حب، لكنه ليس حبًا شخصيًا، بل حبًا للوطن من خلال أنثى اختزلت رموزه. شلال عنوز يسير في مسار من سبقه من الشعراء المهمين الذين وجدت الأنثى/المرأة، دون أدران الجندر، في روح نصوصهم مهما تعددت أغراض تلك النصوص؛ فهي الملهم والمستلهم، القريب البعيد، الحاضر الغائب.

وهذا يلتقي مع ما يذكره بارت: "النصوص لا تعكس الواقع فقط، بل تصنعه من خلال بناء دلالي جديد" (مبادئ في علم العلامات، ص. 66).

لمحات من سيميائية النص:

أ. مركزية الأنثى الرمزية:

"سيدة المواسم" ليست مجرد امرأة، بل هي أيقونة جامعة للخصوبة، والمقاومة، والإبداع. الشاعر يبنيها من تضافر زمكاني فريد، فتكون المرأة والمدينة (الموصل)، والقصيدة، والوطن.

ب. العلامات المكانية والزمنية:

(حيّ العربي - أم الربيعين - شارع المكتبات - النمرود - الدوّاسة): رموز تتعالق فيها الثقافة مع التاريخ والحياة اليومية، لتؤطر المرأة ضمن فضاء حضاري.

(المواسم - الفجر - الربيع - مفترق الفصول): تدفقات زمنية تحمل أبعادًا وجودية وتاريخية، ترسّخ حضور الأنثى في الزمن بوصفها مُجدّدة وخصبة.

ج. العلاقة بالوطن واللغة:

"تكتبها أصابع الفجر" /الكتابة فعل خلق أنثوي.

الشجر، الخمر، اليَمام، الزهر، الشال الأخضر / تكثيف للخصب الأنثوي والروحي.

"تضمّد جرح العراق" / المرأة بلسم الوطن وجراحه.

د. التناصات الثقافية:

قلعة النمرود، خماسية المحنة، مخاطبات حواء /حضور الرموز التاريخية والدينية يوسّع أفق النص إلى مستويات أسطورية وتأويلية، ويربط بين التاريخي والجغرافي، الأسطوري والواقعي، الفردي والجمعي.

وكما يشير إيكو: "التأويل لا يتوقف عند المعنى الأول، بل ينفتح على طبقات لا نهائية من المعاني الممكنة" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).

ثانيًا: قراءة في قصيدة "لا خريف في الحب"

[يَتَبارى الربيعُ

ضاحكاً

في بَساتينِكِ المُندّاة

بِعَبقِ النارنجِ

تتراقصُ الزهورُ في

مُروجِكِ الضاحكة بالخضرة

مَن قالَ إنّ

القلبَ يشيبُ؟

لا تَهرمين

مادُمتِ أدمنتِ الحُبَّ

راقصةً تَحتَفلينَ

في هُتون النَّماء

حيثُ

لا خريفَ

في الحُبّ]

العنوان ودلالته:

يحمل عنوان القصيدة دلالة سيميائية مركزية وهو نفي التحوّل والزوال؛ فهو يتضمن نفيًا للخريف، أي لنهاية الدورة الحياتية، وللانطفاء أو الذبول، مما يشي بموقفٍ وجوديٍّ جماليّ يتحدى نواميس الفناء عبر طاقة الحب.

"لا خريف" هو لا نهاية، لا موت، لا انطفاء للحيوية. ونهاية الدورة الموسمية بقدر ما تعني خاتمة مرحلة تشير أيضًا إلى أفق ينظر إلى بداية أخرى تنم عن ديمومة الفعل الوجودي.

وهذا يتسق مع قول رولان بارت: "النصوص الحقيقية لا تكتفي بالتصريح، بل تقيم علاقة مع المحظور واللامفكر فيه، فتنتج مدلولات جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 45).

السيمياء البصرية واللون:

الربيع، البساتين، النارنج، الخضرة، الزهور، النماء: كلها إشارات بصرية توحي بالحياة والتفتح والتجدد. نلاحظ أيضًا اعتماد اللون الأخضر ضمنيًا كرمز للخصب والمقاومة والذاكرة الحيّة.

الخضرة علامة زهو الطبيعة ونضارتها ولها في النفس أثر يوحي بالسكينة والتوازن المريح، وتسمح بمرور الزمن مع منح فسحة من الأمل. لذلك نجده يوظف في علاجات الإجهاد العصبي وفي مفاهيم الطاقة، إذ للأخضر قدرات هائلة على امتصاص السلبية وإثراء العوامل الإيجابية، ليشغل المكان ويبعث روح التحمل في النظر للغد. الشاعر مدرك لقيم اللون الأخضر فأعطاه مكانته في النص.

وهذا يلتقي مع ما ذهب إليه يوسف وغليسي: "الألوان في النص الأدبي علامات تنقل حالات شعورية وتؤسس لفضاءات تأويلية تُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والعالم" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 89).

السيمياء الزمنية:

القصيدة تُعلّق الزمن في نقطة واحدة: "ما دُمتِ أدمنتِ الحب". فالحب هنا حالة مستدامة تُبقي الزمن متوهجًا، وترفض تحوّله الطبيعي نحو الخريف. إنها تفعّل تيمة الدهر المعلّق في لحظة حب أبدية، فيتحول الزمان إلى مكان سائل لا يغيّر من قواميته بل يمنح المحب قدرة العبور من الراهن إلى السرمدي، ومن الحاضر إلى الماضي والمستقبل، مما يفقد "الآن" وجوده الصادم وينقل المحب من عالم الصدمة إلى فضاء التجوال الحر في ملكوت الأبدية.

وهذا ينسجم مع غريماس حين يقول: "الزمن في النص السردي ليس امتدادًا خطيًا، بل يُعاد تشكيله عبر الوظائف الدلالية للخطاب" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 112).

خطاب التقديس الأنثوي:

الأنثى ليست معشوقة عادية، بل تجلٍّ لمفهوم الخصب والدهشة، واحتفال كوني بالوجود:

"راقصةً تحتفلين في هُتون النماء" / رمز الخصب الراقص، الكائن الكوني الذي يمنح إيقاعًا للحياة.

وكما يرى إيكو: "النصوص التي تستدعي رمزية المرأة تتجاوز الجسد لتؤسس علاقة تأويلية مع الكينونة" (السيميائيات والتأويل، ص. 101).

التوقيع الجمالي:

خاتمة القصيدة بتكرار العنوان تؤكد غرضها المركزي وتشير إلى أن النص بأكمله كان تفكيكًا رمزيًا لفكرة الحب الخالد.

الحب الذي كل غياب فيه حضور وكل بعيد فيه قريب؛ حيث لا زمن محدود ولا مكان آسر، كل شيء رهن التأمل وضمن ممكن التحول وتحت تصرف المحب العاشق.

مرتاض يضيء هذه النقطة بقوله: "النص يتجدد بقدر ما تتجدد زوايا النظر إليه، فهو قول لا ينغلق على معنى واحد" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 37).

لمحات من سيميائية النص:

أ. بناء الزمن العاطفي

"لا خريف في الحب" هو إعلان شعري عن خروج العاطفة من نواميس الطبيعة. فالأنثى لا تهرم، والحب لا يشيب، لأنهما طاقة متجددة لا تخضع للزمن. الزمن هنا يصبح أداة مطواعة بيد المحبين، بلا بداية ولا نهاية. فالألفا في الحب هي الأوميغا، والأوميغا هي الألفا.

وهذا يعيدنا إلى بارت الذي يرى أن "النص شبكة علامات، تُقرأ في دائريتها لا في خطيتها" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30).

ب. العلامات النباتية والحسية:

النارنج، الخضرة، الزهور، المروج: تشي بجمال أنثوي مشبع بالحياة والخصب.

الأفعال (تتراقص، تحتفلين، ترقصين، تهطلين): كلها تؤكد دينامية الأنثى بوصفها فعلًا وحياة.

ج. الجسد كفضاء ربيعي:

تحضر الحبيبة بوصفها فضاءً حيويًا، تتماهى مع الطبيعة في أكثر صورها بهجة وخصوبة، مما يعيد تشكيل الحب كطقس احتفالي أبدي. هنا يحضر إيكو مرة أخرى حين يشير إلى أن "النصوص الكبرى تعيد إنتاج الحياة كطقس رمزي متكرر لا ينتهي" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).

د. البنية الإيقاعية والدلالية:

الجمل الشعرية قصيرة، محكمة البناء، ذات نسق تصاعدي أقرب إلى الموسيقى التصويرية كسوناتا ضوء القمر لبيتهوفن.

التكرار التركيبي (لا خريف – لا تَهرمين) يؤسس لتمرد على الشيخوخة الزمنية، ويدفع نحو الانفلات من مظهرية السنين إلى جوهر الباطن المكتنز بالحيوية.

ثالثًا: المقارنة السيميائية بين القصيدتين:

أ. جدول مركّز (مكثف):1892 shalal

هذا الجدول المركّز (المكثف) يمنح القارئ نظرة سريعة، وهو يعبّر عن الوظيفة التي يذكرها غريماس: "المعنى لا يُدرك من التفاصيل منفردة، بل من العلاقات التي تنسجها البنية ككل" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41).

ب. جدول تفصيلي (موسَّع):1893 shalal

هذا الجدول التفصيلي(الموسع) يوضح كيف يفتح النصان فضاءات تأويلية متعددة: أحدهما يحيل إلى الرموز الثقافية والتاريخية، والآخر إلى الرموز الطبيعية والحسية. وهنا نستحضر قول بارت: "النص شبكة علامات، كل قراءة له تعني كتابة جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30).

كما أن التداخل بين الجدولين (المكثف والموسع) يُبرز مبدأ "تعدد مستويات القراءة" الذي يؤكد عليه إيكو: "النصوص الكبرى لا تُقرأ مرة واحدة، لأنها لا تنتهي أبدًا" (السيميائيات والتأويل، ص. 119).

الخاتمة:

يتقاطع النصان في إعادة تأهيل الأنثى كقوة كونية ذات طابع رمزي وجودي، سواء كانت سيدة المواسم التي تحتضن الوطن في عباءتها البيضاء الزاهية، أو الحبيبة التي تُبقي الحب ربيعًا أخضر لا يشيخ. ومن خلال شبكة العلامات المتشابكة، ينجح الشاعر في إنتاج خطاب شعري يحمل في طيّاته بعدًا تأويليًا عميقًا، يفتح بابًا لقراءات فلسفية وثقافية متعددة، تمكن القارئ من فتح آفاق توقعاته لتستقبل أبعادًا مضمرة تكتمها العلامة الدلالية وتشير إلى معانٍ أعمق بكثير مما توحي به القراءة الأولى. وعند العودة المتكررة للنص، تتجدد المفهوميات عبر تحديث التأويلات، لينتج الفهم الجديد معنى جديدًا يفنّد السابق.

كلا النصين يحتفيان بالأنثى: الأولى شخصية تمثل الكينونة الثقافية لبلاد كاملة في ماضيها وغدها متجاوزة حاضرها الراهن المرتهن لواقع مستلب، والثانية رمز للحب الأبدي الخالد العابر للمحدودية والمتجاوز لضيق الحاضر. وفي الحالتين، يتجاوز النص المعنى الظاهري ليُقيم أنساقًا رمزية مرتبطة بالربيع، بالحب، بالهوية، وبالمقاومة الثقافية. وعلى المتلقي أن يكون حاضر الآفاق المتجددة لتلقيه، متوقعًا تجددًا مستمرًا لتولد المعاني في النصين مع كل عودة.

هنا نجد ما قاله رولان بارت: "النص شبكة علامات، كل قراءة له تعني كتابة جديدة" (مبادئ في علم العلامات، ص. 30)، وهو ما ينطبق على قصيدتي شلال عنوز إذ تفتحان بابًا لا نهائيًا لإعادة القراءة.

كما يتوافق ذلك مع أمبرتو إيكو حين أكد أن "النصوص الكبرى لا تُقرأ مرة واحدة، لأنها لا تنتهي أبدًا" (السيميائيات والتأويل، ص. 119)، أي أن النص لا يغلق نفسه بل يظل في حالة إنتاج دائم للمعنى.

ويضيء عبد الملك مرتاض هذا الأفق حين يصف القراءة السيميائية بأنها "رحلة في المقاصد واللامقاصد، حيث ما يصرّح به النص لا يقل أهمية عما يضمره" (في نظرية القراءة والتأويل، ص. 19). هذا التوازن بين المصرّح والمضمر هو ما يضمن للنص قوته وامتداده في أفق القراءة.

كذلك يؤكد غريماس أن "المعنى لا يُفهم من النصوص في معزل، بل من شبكة العلاقات التي تنسجها وحداته" (البنية الدلالية للخطاب، ص. 41)، وهو ما تجلّى في مقارنة النصين حيث يتأسس معنى كل واحد منهما على علاقة بالآخر.

ويضيف يوسف وغليسي أن "السيميائية تكشف عن الأنساق الدفينة للنصوص بما هي نتاج ثقافي وتاريخي" (السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي، ص. 15). وهكذا يصبح النصان معًا فضاءين متكاملين يكشفان عن أنساق الهوية والخصوبة والحب في أبعادها الوجودية والثقافية.

وبذلك، فإن شلال عنوز قدّم في هذين النصين تمثيلين متكاملين للأنثى: المثقفة/الوطن والمحبوبة/الحب. كلاهما يفتحان أفقًا تعدديًا، حيث الشعر مجال للتأويل اللامتناهي، وللحياة نفسها بوصفها نصًا مفتوحًا.

***

سعد محمد مهدي غلام

...........................

المراجع:

1. بارت، رولان. (1994). مبادئ في علم العلامات. ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي. الدار البيضاء: دار توبقال.

2. إيكو، أمبرتو. (1998). السيميائيات والتأويل. ترجمة: هشام صالح. بيروت: دار الكتاب الجديد.

3. غريماس، أ.ج. (1991). البنية الدلالية للخطاب. ترجمة: أحمد مصطفى حجازي. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.

4. مرتاض، عبد الملك. (2001). في نظرية القراءة والتأويل. الجزائر: دار هومة.

5. يوسف، عبد الرزاق، وغليسي، عبد المالك. (2007). السيميائية وتطبيقاتها على النص الأدبي. الجزائر: منشورات الاختلاف.

 

ثيمة العنكبوت في الرواية الرمزية الواقعية السحرية للروائي قصي الشيخ عسكر

منذ اللحظة الأولى، حين يباغتنا نص الرواية بصورة عابرة في صحيفة أجنبية عن عنكبوت يبني بيته في أذن إنسان، نكتشف أننا أمام نص لا يقنع بالحكاية الظاهرية ولا يركن إلى السرد الخطّي، بل يجترح أسطورته الخاصة من تفاصيل الحياة اليومية، ليبني عظْمة الدلالة على هشاشة المصادفة. يصبح "العنكبوت" هنا أكثر من كائن طارئ، أقرب إلى علامة عميقة تُشرع أبواب التأويل، وتفتق جراح الذات في سياق جماعي ملتهب بالحروب والهجرة والذكريات المشروخة.

العنكبوت: المقيم غير المرغوب فيه، والمُنجَدِل في صميم الذات

العنكبوت – بوصفه رمزًا – لا يظهر في النص كمجرد حشرة ضالة عرجت مصادفة إلى صيوان الأذن، بل يغدو استعارة كبرى تحبك الصراع بين الخارج والداخل، بين الحرب كواقع مُدَوٍّ، والعزلة كقدر داخلي لا ينفك يداهم النفس البشرية. فهو في آنٍ رمز للطفيلية، مثلما هو ظلّ الحماية، لعنة متجددة ورفيق حياة قسري.

يبني بيتًا في أكثر الحواس التصاقًا بالوعي: الأذن. أليست الأذن بوابة الوحي ومفتاح السمع والأنس؟ حين تقتحمها شبكة عنكبوت تكتشف الذات أن ضجيج الحرب يستطيع أن يتغلغل في الجسد، وأن الخراب الخارجي يملك القدرة على إعادة تشكيل الإنسان من أعماقه.

إن وجود العنكبوت في الأذن يتماهى مع صورة الوطن العربي المبتلى بالحروب: تلك الأصوات التي لا تنقطع في وسائل الإعلام تتحول مع الزمن إلى صمت داخلي خانق، إلى شبكة تنتزع الطمأنينة وتحيل الحياة إلى لعبة مراقبة قاسية، يصبح فيها الفرد منفاه الأصغر ودماره الداخلي.

بين الحرب والعزلة والطفولة والفصام الوجودي

ـ العنكبوت والحرب:

نسج شبكة العنكبوت في الأذن ليس حدثًا عبثيًا، بل يواكب جحيم الغارات على غزة، فيتجلى أن الحرب ليست مجرد ركام يثقل المدينة، بل هي قوة قادرة على احتلال الحواس، على تحويل السمع إلى فضاء واسع، والأذن إلى بيت للغربة والصدى.

ـ العنكبوت والاغتراب:

تلك القناة الجليلة التي تستقبل العالم تحولت في النص إلى مكبٍ لنفايات الحشرات، فالأذن - بوصفها رمز الإنصات والحوار - تغدو حفرة عزلة، تتكدس فيها فتات الذاكرة وهموم الراهن، فترمز لانقطاع الحوار مع الذات ومع الآخر معًا.

ـ العنكبوت والطفولة:

يعود النص ليطرق باب الطفولة المهجورة، حيث اللعب مع العناكب كان فضاءً للبراءة والمشاكسة، ثم تتحول تلك "اللعبة" إلى لعنة في الكبر، إذ يجد نفسه محشورًا في قفص الماضي، طفلًا معاقًا في جسد رجل.

هنا يغدو العنكبوت ذاكرة مجسدة للجرح الأولي، وكأن كل عبث الطفولة لم يكن سوى نبوءة حالكة لمحنة الذات في المستقبل.

ـ العنكبوت والفصام الوجودي:

بين رغبته في طرد العنكبوت وبين خوفه من فقده "كجزءٍ منه"، يعكس النص مأزق الإنسان أمام قدر لا يستطيع تجاوزه، مفارقة مؤلمة بين الرفض والاستسلام، بين الحاجة إلى الحماية من العنكبوت وخوف الارتحال معه، وكأن العربي محكوم بعلاقة مأزومة مع العنف والقدر والانتظار الدائم على أعتاب التغيير.

ليست الرواية نوعًا من الترف السردي أو التطريز التخيلي؛ إنها إنشاء استعارة كبرى عن الإنسان العربي المعاصر، المحاصر بزحام الحروب والتهجير والقلق الدائم، مسلوب الاختيار أمام "حرب" تتسلل إليه حتى تصبح جزءًا من تكوينه الجسدي والنفسي.

تحتشد بين شيفرة السرد رسائل حادة الدلالة:

1. الحرب ليست حدثًا يرى أو يُذكر، بل استعمار للحواس، تآكل للذّات، اجتراح حقيقي للوجود الفردي.

2. الطبيعة تنتفض وتقهر الإنسان في النهاية، فلا يعود قادرًا على الاحتماء منها ولا الإفلات من شراكها، يتحول العنكبوت من طفيلي إلى حامل رسالة الطبيعة حين يشهر ثأره ضد الإنسان الذي ظن أنه السيد والمالك.

3. الهوية واللغة تتضعضعان: حتى في المهجر وأمام الآخر، يصبح الفهم مقطوع الجذور، والتواصل مرهونًا بشبكة رقيقة بين الذات والعالم.

4. لا خلاص فردي حقيقي: يجرّب الراوي الحب، والسفر، والمنتجع، لكن العنكبوت يبقى رهين أذنه، والحرب ترزح على صدره، أي أن وهم النجاة الجسدية لا يكفي لمسح آثار الحرب عن الروح.

البنية الأسلوبية وتأثيراتها الأدبية

تسلك الرواية درب الواقعية السحرية، فلا تفتعل العجائبي بل تزرعه في اليومي دونما ارتباك أو استفسار. "العنكبوت في الأذن" حقيقة يتقبلها البطل ولا يحتاج لمن يصدقها أو يكذبها.

تنهض اللغة على حافة الشعرية المكثفة، تتداخل فيها الصور المتكررة لدهشة، صدمة، تأمل، ليحضر السرد في صورة مونولوج طويل مطرز بأنين الذات وارتقائها.

تتوالد المرايا في بنية النص: مرآة كبيرة، يدوية، زجاج الشرفة... إلخ، لتمنح الشخصية رؤية أخرى لنفسها، وتكرّس عجزها عن التقاط حقيقتها إلا عبر وسيط معكوس أو وقائع مؤجلة.

يباشر الواقع أمام شاشات يوتيوب أو في قاعة الطبيب أو بين أروقة غربته، فيبقى أسيرًا لصورته المشوّهة داخليًا وخارجيًا.

ـ تقنيات التأثر والانتساب الأدبي:

يتبدّى تأثر الكاتب جليًا بكافكا في رمزه اللاذع وتشظي الهوية عبر حدث بسيط يعصف بالوجود كله، كما يستمد من ماركيز ولويناس وجيلبرت شسترتون تقنيات الواقعية السحرية ومساءلة البديهي تحت قشرة اليومي المتآكلة.

النص معجون بروح عربية مشبعة بانكسارات السياسة، كما تسكنه عوالم الفلسفة الوجودية التي تتساءل عن ماهية الحواس والغاية والذّاكرة الإنسانية في مواجهة الطارئ والمعضلات الكبرى.

ـ بين العجائبي والمجازي في عالمين

الرواية تقع ضمن النمط الرمزي الفلسفي ذي المسرب الواقعي السحري. فهي لا تكتفي بجمع عالمين، عالم الشخص/الرّاوي ومحيطه المنكوب، بل تجعل العجائبي والمجازي حاكمين على مصير الأشياء، لتنتج نصًا يقاوم التصنيف النهائي ويتمدّد بين

 1ـ سيرة ذاتية مختلقة تتماهى مع المأساة الجمعية.

2 ـ تأمل فلسفي في الرسم التشكيلي للذاكرة والجسد.

3 ـ تعليق سياسي وانفعالي على تاريخ الامّة العربية وجراحها الكامنة.

4 ـ حكاية عجائبية تهيم بين الشهقة والذهول، لا تطلب تصديقًا بقدر ما تدعو إلى الإنصات لما سيحدث في الداخل.

أهم ما في هذا الانتماء أنّه يُرجع "التجربة العربية مع الحرب" من مساحة الحدث العام إلى جسد الشخصية، ويجعل الجسد ذاته مستودعًا تتكدس فيه مخاوف السياسة والحب والموت، ليستقر الخراب في داخل الإنسان لا في شوارع المدن فقط.

تمنح الرواية القارئ تجربة أدبية تمزج الفزع بالشعر، تزرع الخرافة في النثر، وتذكّره أن الحرب ليست صورًا على الشاشات بل أصداءً تطرق صيوان الأذن حتى تتملك الفرد.

العنكبوت هنا هاجس، تحذير من الداخل، علامة على اغتراب لا ينتهي إلا بذوبان الذات في لعنة السؤال:

من سيرحل أولًا... الحرب أم العنكبوت؟ أم يبقى الاثنان معًا حتى يلتحم الفرد بحزنه ولا يعود قابلاً للإنقاذ؟

في النهاية، تصوغ الرواية بالرمز والخبرة والجمال الفاتن مأساة إنسان عربي بات سجنه ذاته، ووطنه خرابه الداخلي، وملجأه العنكبوت.

إنها لحظة تجلي للغربة وللخوف وللحب المؤجل، حين تتحوّل الأذن من معبر للحنان الإنساني إلى شبكة مصائد للخراب. هكذا يرسخ النص وجوده رواية رمزية واقعية سحرية بامتياز، تعهد للقارئ بسفر عجيب في متاهات الذات والجسد والتاريخ، لا يخرج منه إلا أكثر يقينًا بضعف الإنسان أمام مصيره... وأمام عنكبوت يقيم أبديته في أعماق الروح.

عبر اختتام الرواية بهذه المشهدية "مشهديه التحجر"، تبرز الدلالة الأعظم للرواية كلها: الإنسان العربي المعاصر يعيش غربته القصوى، لا الموت يأتيه دفعة واحدة، ولا الحياة تمنحه يقين النجاة من الخراب. الحرب - كالعنكبوت - تسيطر وتفتك وتتركه متحجرًا، معزولًا حتى عن ذاته، في انتظار رسالة لا تصل، أو لا معنى لها إن وصلت.

إنها نهاية فاجعة ترتقي إلى مصاف الأسطورة الفلسفية: يتحول الفرد إلى تمثال صامت، يذبل فيه الصوت والحركة، حتى تغدو أضعف الخيوط - خيط تواصل إلكتروني أو خيط بيت العنكبوت - أعظم ما تبقى من رماد الإنسانية

النهاية بهذا التكوين، تلخص رسالة العمل:

مهما بلغ حضور الآخرين أو كثرت رسائل التواصل، حين تستبد الوحشة والجمود بالداخل، لا خلاص للفرد إلا بانتظار اللاشيء.

***

سعاد الراعي

2025.09.05

لعبد الله البردوني.. مقاربة رمزية، أسلوبية، نفسية، هيرمينوطيقية

1) مدخل: بيانٌ شعري في عالمٍ مقلوب:

تبدو القصيدة بيانًا أخلاقيًّا ساخرًا يصوغ رؤيةً لكونٍ انقلبتْ فيه القيمُ والمعايير: النورُ تُطفِئه الظلمة، والأمنُ خائف، والنومُ يرفض أن ينام. يفتتح البردوني بنبرة تشي بانسداد اللغة أمام فداحة الواقع («عجزُ الكلامِ عن الكلام») ثم يمضي إلى تفصيلاتٍ صُوَرية ترسم خرائط هذا الانقلاب عبر مشاهد مكثّفة، متوازية، ومشحونة بالمفارقات.

2) المنهج الرمزي: حديقة الحيوان السياسية ورموز الافتراس

تُشيّد القصيدة حقلها الرمزي على ثنائية الافتراس/البراءة:

الذئب حارسًا للأرانب والحمام: رمزٌ لسلطةٍ تضطلع بحماية ما خُلقت لافتراسه؛ صورةٌ مكثّفة لفساد الوظائف.

الكلب سيدُ قومه في كهفٍ يقتات العظام: سلطةٌ دنيا تتغذّى على الفُتات وتحكم في الظلّ.

الثعلب المكار يضحك من «غباءٍ مستدام»: ذكاءٌ انتهازي يقابله عجزٌ جمعيّ.

ومن الرموز الكبرى النفط/الجوع: «النفط يملأ أرضنا والناس تبحث عن طعام»؛ مفارقةُ الثروة المهدورة (لعنة الريع) حيث الوفرة المادية تُنتج فقرًا بنيويًا. كذلك العدل في زوايا السجن، والموت يقتل نفسه: صورٌ تبلغ حدّ المفارقة الوجودية؛ العالمُ يلتهم ذاته.

3) المنهج الأسلوبي: نحو موسيقى المفارقة والتوازي:

القافية الموحدة (…ام) تمنح النصَّ تماسكًا لحنيًا يشيع وقعًا أناشيديًا يُناسب التعداد التراكمي للصور.

التوازي التركيبي: تتكرر بنية «X أصبح ، «X يَفعلُ Y»، بما يخلق ضرباً من الإيقاع التركيي الذي يراكم الدلالات ويُصعّد التوتر.

العطف المتتابع بالواو («والأمن… والنوم… والشمس…») يشي بأسلوب السرد التراكمي الذي يُحاكي انهمار الوقائع ويفضي إلى شعور بالاختناق.

المجاز والطباق: «النور/الظلام»، «المد/الجزر»، «الطهر/الرعية والإمام»، تُجسّد اقتصادًا لفظيًا يقدّم الدلالة عبر صدماتٍ قصيرة لا عبر إسهابٍ توصيفي.

المفارقة تُعدّ المكوّن الأسلوبي الأبرز: «الموت يقتل نفسه»، «النوم يرفض أن ينام»؛ مفارقاتٌ تولّد دهشةً معرفية وتعمل كآلية نقدٍ تُعرّي لا معقولية الواقع.

4) المنهج النفسي: وجدانٌ جمعي بين السخرية السوداء وقلق العجز:

تتحرك الذات الشاعرة من إحساس بالعجز التعبيري (عنوانًا وبداية) إلى تعويضٍ تخييلي عبر سلاسل الصور؛ فالفعل النفسي المركزي هنا هو تحويل القلق إلى تهكّم. السخرية ليست نُزهة لغوية بل آلية دفاع تُحافظ على اتزان الذات في عالمٍ مختل. كما أن تكرار فجائع «الجوع يمشي عاريًا…» و«الأرض تُروى من دماء الناس…» يوحي بذاكرةٍ صادمة تتبدّى في هيئة كوابيس يقظة، تتقاسمها الجماعة. إننا أمام وجدانٍ جمعيٍّ منكسر لا يفتش عن بطولة فردية بل عن معنى وسط الخراب.

5) المقاربة الهيرمينوطيقية: من المشهد الجزئي إلى الرؤية الكلية

تعمل القصيدة بوصفها دائرة تأويل تبدأ من صورةٍ جزئية (نوم يرفض أن ينام) إلى أفقٍ كُلي: عالمٌ يُدار بقوانين ضدّية. القارئ يُتمّ المعنى عبر خبرته التاريخية:

انقلاب المواقع («الصدر في الوراء والخلف في الأمام») يُقرأ كتعطّلٍ للتراتبيات الأخلاقية والمؤسسية.

«العدل في زوايا السجن» و«الطهر يبني حاجزًا بين الرعية والإمام» تُعيدان تأويل المؤسسات باعتبارها صارت أدواتِ إقصاء لا رعاية.

النفط/الجوع يؤسّس لأفق تأويلي سياسي– اقتصادي: وفرةٌ بلا توزيع عادل، وثروةٌ بلا سيادة اجتماعية.

الهيرمينوطيقا هنا تُبرز اندماج أفق النص بأفق القارئ: ما يورده الشاعر ليس وصفًا طبيعيًا، بل تمثيلٌ رمزي لزمنٍ عربي تتهشم فيه البداهات، فيصبح الحلم الاجتماعي مستحيلًا إلا بقلب المعادلات.

6) بناء الصورة: اقتصاد لغوي وحدّة تشخيص:

تجنح الصور إلى القصيرة المقطّرة: «الشمس باردةٌ»، «الكلب سيد قومه»، «الجوع يمشي عارياً». إنّها لقطاتٌ سينمائية مكثّفة، تُراكم ألبومًا بصريًا لعالمٍ مختل. ولاحظ كيف يزاوج الشاعر بين التجسيد (الموت يقتل نفسه) والتشييء (العدل يقعد في الزوايا) ليُكسِب المعاني المجردة جسدًا حركياً يَصدم ويعلّم.

7) خطاب السخرية الأخلاقية:

السخرية هنا ليست تندّرًا، بل أخلاقيةٌ احتجاجية: إذ يتولّد المعنى من التسمية الفاضحة للأشياء وهي في مواضع معكوسة. إنّ «الخصم يزحف نحونا والجيش يبحث عن غلام» جملة تُعرّي العطب المؤسسي عبر نبرةٍ تقريرية باردة تزيد المفارقة حدّة. هكذا تتولّد السخرية السوداء: وصفٌ محايد لوقائع فادحة يجعل التناقض يفضح نفسه.

8) زمن القصيدة: حاضرٌ مستدام:

غالب الأفعال في المضارع («يخاف، يضحك، يقعد، يمشي»)، ما يصنع حاضرًا ممتدًا لا ينقضي؛ كأن الخلل ليس حادثةً عابرة بل بنية زمنية. هذا الاختيار يُنتج أثرًا نفسيًا: استمرار الأزمة، واستدامة الشعور بالعجز، ومن ثمّ تَراكُم الحاجة إلى قولٍ يتجاوز عجز الكلام.

9) خاتمة: بلاغة الانقلاب ومعنى المقاومة:

في «عجز الكلام عن الكلام» يشيّد البردوني بلاغة الانقلاب: لغةٌ بسيطة ظاهريًا، عميقةٌ رمزيًا، قائمةٌ على مفارقاتٍ وتوازياتٍ وإيقاعٍ موحّد، تُنطق الحقيقة عبر قلب العلاقات. القصيدة تُجيد تشخيص اللامعقول لتوقظ ضمير القارئ: فإذا كان الكلام عاجزًا، فإن المجاز قادرٌ على أن يقول ما لا يقوله التصريح. هكذا تتحول القصيدة إلى مقاومة جمالية: تُعرّي، وتؤوّل، وتُذكّر بأن إعادة المعنى تبدأ من استعادة ترتيب العالم؛ أن يعود النور نورًا، والعدل عدلًا، وأن يبرأ الجوع من عُريه، فلا يكون النفطُ لعنةً، ولا يكون «السلام» شهادةَ موتٍ مجازي للجميع.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

عجزُ الكلامِ عن الكلام

عجز الكلامُ عن الكلام

والنور أطفأه الظلام

*

والأمن أصبح خائفاً

والنوم يرفض أن ينام

*

والصدرُ أصبح في الورا

والخلفُ أصبح في الامام

*

والشمس باردةٌ تخاف

الحرَّ تخبأ في الغمام

*

والذئب أمسى حارساً

يحمي الأرانب والحمام

*

والكلبُ سيدُ قومه في

الكهف يقتات العظام

*

والطهر يبني حاجزاً

بين الرعية والإمام

*

والثعلبُ المكارُ يضحك

من غباءٍ مستدام

*

والعدلُ يقعد في زوايا

السجن ارهقه القيام

*

والموتُ يقتل نفسَه

والشعبُ يقتُله اللئام

*

والظبيُ إن يعدو من

الصياد تلحقْه السهام

*

والدار أضحت خيمةً

والقبر يُبنى بالرخام

*

والأرضُ تُروى من دماءِ

الناس أرهقها الصيام

*

والجوعُ يمشي عاريًا

بين الجميع ولا يُلام

*

واليوم يهدمُ ما بناهُ

الأمسُ ذو المليون عام

*

والنفطُ يملأ أرضنا

والناسُ تبحث عن طعام

*

والكلُ فينا ميّتٌ

والكلُ يدعوا للسلام

*

والخصمُ يزحف نحوَنا

والجيشُ يبحثُ عن غلام

*

والقائدُ العربيّ

كالثعبانِ غدارٌ وَ سام

*

والشيخُ مشغولٌ

بتلوين العباءةِ واللثام

*

والدارُ تطعنُ اختَها

والغمدُ يطعنهُ الحسام

*

والنارُ تأكل كل شيءٍ

مثلَ أولادِ الحرام

***

عبد الله البردوني

 

المتن الروائي يتناول قضايا صعبة وعويصة في جوانب الحياة والواقع، في أصعب مرحلة تاريخية من التسعينات الى الوقت الحاضر (1990 - 2024) بصياغة غير تقليدية، في جوانب متعددة من سرد الأحداث برؤية فكرية رصينة وموضوعية، فرضت نفسها على الواقع العراقي السياسي والاجتماعي والقانوني، بما يخص عدالة القانون، تملك ترتيب وتنسيق في الحبكة الفنية وتوالي الأحداث بشكل متألق، بدون شك يستخدم الاستاذ (شلال عنوز) خبراته المتمكنة والمتعددة، ان يمسك خيوط السرد في النص الروائي، فهو شاعر وسارد والمحامي، يطعم النص بهذه الأشياء الثلاث، في مفاصل المتن الروائي، فهو يحاول ان يبرز برؤيته الفكرية، بأن العدالة والحكمة، لا يمكن طمرها مهما بلغت قوة التسلط والجبروت، لابد ان تنتفض من رمادها، ومهما طال الزمن ان تنتصر في الأخير، وكذلك الحكمة تنتصر على العصبية والتهور والتسرع بالغضب الشديد. النص الروائي يحمل براعة صراع الأضداد في أشد أزماتها ورمزيتها الدالة: الحياة والموت. الحرب والسلم. الحب والخيانة. الوفاء والغدر. الحقيقة والزيف. الظلم والعدالة. الواقع والخداع. هذه المفردات اشتدت خلال هذه المرحلة التاريخية المحددة على بغداد والعراق عامة، والتي جرت عليه بالويلات والكوارث والحروب المستنسخة، حرب ينتج حرباً، وحرب يتناسل حروباً، من اجل تخريب المجتمع وتشويه صورته بأسوأ الحالات، والموت اصبح يسير قدماً بخطوات متسارعة، فعرفنا أشكال متعددة من الموت، الموت في جبهات القتال، أو في البيت والطرقات أو في اي مكان، الموت من بطش النظام الشمولي، سواء في زنازين الموت، أو الموت في المقابر الجماعية، أو الموت من الغدر الخيانة، ومقبرة (وادي السلام) النجف الاشرف دليل على ذلك، أي ان الموت في النص الروائي ليس قدراً، وانما من فعل انسان فاعل. نحن إزاء سرد شفاف ومنساب بتدفق في شفافية مرهفة، ومطعم في ازدواجية الشعر والسرد، في لغة مدهشة كأنها عجينة تشكل كلماتها وعباراته وجملها في الرمز والمضمون الدال، تجبر القارئ ان يتعاطف بشدة ملتهبة وبحزن يعصر القلب، اي انها تدخل في شعور القارئ ويتوجع من الأحداث الدراماتيكية المتتالية، والنص الروائي يدخل في ازمات عويصة كأنها ساحة واسعة الاتساع، يجرب فيها كل الاشياء، ويخرج منها بصيدة ثمينة، رغم ان الحدث السردي يحمل دلالات رمزية متعددة الجوانب، في المعنى والمغزى العميق والبليغ، هي اولاً: رمزية بغداد تجمع بين الحزن والوفاء، بغداد في رمزية اليمامة، شاخصة وحاضرة في أسوأ الازمان، بغداد في رمزية المرأة، لأنها اكثر وفاء من الرجل في تحملها وصبرها وتشخيص الاشياء الحياتية، ولا تخون عشاقها، بغداد التاريخ والصور والتراث والثقافة والشعر (بغداد والشعراء والصورٌ / ذهب الزمان وضوعه القمرٌ / يا الف ليلة مكملة الأعراس / يغسل وجهك القمرٌ) هذه هي رمزية يمامة بغداد. صامدة ضد الحروب، صامدة ضد الحصار الاقتصادي، الذي خنق حياتها، وورثت منه الحرمان والفاقة والجوع، وسلب حياتها ودفعها الى الفوضى، صامدة حتى لو ان المتاجرين بها ضمائرهم الميتة، ان يعرضوها للبيع في اسواق النخاسة. صامدة في وجه الغزاة المدججين بأسلحتهم الفتاكة وقوتهم العالمية. صامدة حين سلموا بغداد الى العصابات لإدارة شؤونها، وهذه العصابات دمرت بغداد أو العراق، سلبوا ممتلكات الدولة بالنهب والسرقة، نهبت خيرات العراق دون وجع ضمير، عبثوا ببغداد بالفوضى والانفلات الامني والتفجيرات اليومية، حاولوا شطب حضاراتها وتاريخها واثارها (- ما ترينه الآن أمر بسيط، ليتك تشاهدين الدمار والخراب الذي أصاب الدوائر والمؤسسات الرسمية، وما رفق ذلك من أعمال السرقة والنهب والسلب، وظهور مصلح جديد الى العلن هو الحواسم، فضلاً عن تفاقم أعمال العنف والعبث بأمن الناس وسلب ممتلكاتهم من قبل هذه العصابات، لقد سرقوا الوطن وتاريخه وآثاره). هو مخطط مدروس في تدمير البلد وتشويه سمعة ناسه، وخروجه عن جادة الصواب والحكمة، في انتزاع روحه وكرامته وعزته ودفعه إلى المجهول، شطب الشهامة العراقية المعروفة والمشهورة في أصالتها، في أطيب خصالها الحميدة، لكن مع الاسف نحن شعب لا يتعلم من الدروس والعبر، يلدغ من جحره ألف مرة وليس مرتين ولا يتعلم (أتضح لي، بما لا يقبل الشك أننا شعب لا يعرف ما يريد ولا يريد ان يعرف........ ( - نعم صدقت، العيب فينا كنا ومازلنا نكدس الأخطاء ونتخبط في المتاهات فلا نتعظ، جٌبلنا على تقبيل يد جزارنا و تقديس الماضي وإن كان فاشلاً). هذه المفاصل العامة والاساسية في النص الروائي.

×× الشخوص المحورية في النص الروائي:

1 - ما ترويه اليمامة:

تروي (حنان) بعد خروجها من موتها، أي أنها خرجت من القبر، خائرة القوى ومنهكة بالتعب، تروي سيرة حياتها وهي سيرة بغداد والعراق عامة، في المرحلة المحصورة من حرب الخليج الاولى عام 1990 الى الحرب الخليج الثانية عام 2003 فيما بعد، بأنها واظبت على زيارة قبر زوجها (ثائر) في مقبرة وادي السلام في النجف الاشرف، كل يوم جمعة، على مدى اثني عشر عاما، منذ ذلك اليوم المشؤوم. حين جاء في تابوت ملفوفاً بالعلم العراقي، تلك الصدمة لم تتحملها فسقطت مغشياً عليا، انها ارتبطت به بحب وعشق مقدس،، وعاشت معه اجمل ايام العمر، بالسعادة والانسجام الروحي والوفاء، احلى من عطر الرياحين، وكل زيارة تحمل الحزن الشديد في تذكر ايام سعادتها المغدورة، لانها فقدت سعادتها وراحتها النفسية بهذا المصاب الجلل، وحينما أنهت زيارتها للقبر، مر بقربها رجل بزي العربي (عراف) للمرة الاولى تراه في حياتها، ليقول لها بنبوءة الحدس ويختفي (سايتك زائر تقر به عينكِ، يكون له أثر البالغ في حياتك، لن يفارقك مدى الحياة، وأخر سيكون له دور في حياتكِ المستقبلية، يساعد في كشف حقيقة ما) أصابها الذهول والدهشة لم تفق منها إلا على صوت طفل عمره عامان، يجهش في البكاء، يلف كيانه الخوف والرعب، هدأت من خوفه ومسحت دموعه في اشفاق حنون، لان في تلك اللحظة قصفت طائرة من دول التحالف في حرب الخليج الثانية عام 2003، قصفت رتل عسكري على الطريق العام، وطال عسكريين ومدنيين، وساد المكان الفوضى العارمة، انتظرت مجيء اهل الطفل حتى تعود الى بغداد، وطال الانتظار ولم يحضر احداً، حاولت ان تبحث عن شرطي تسلمه الطفل لكن لم تجده، كانت سلسلة ذهبية معلقة برقبة الطفل بأسم (طاهر صبيح كريم ميران) وقررت الرجوع الى بغداد مع الطفل، وهناك تبحث عن اهله عبر الجهات الرسمية، وهي تدرك حالة البلد في فوضى، تمر بأسوأ الظروف الصعبة والقاسية، انهك الناس الحرمان والجوع وفاقة من الحصار الاقتصادي الدولي (- هذا الحصار الجائر هو الهم الذي يشغل تفكير الناس، ويقطع كل أمل في توفير حاجاتهم الاساسية، شيء مؤلم ما يعانيه الناس من الفقر والجوع ونقص في الحاجات الضرورية والدواء، نحن كما يقول المثل: نحلم بالحصاد والسنابل فارغة.....)،

2 - الطفل:

الطفل الذي وجدته (حنان) في مقبرة وادي السلام، عادت به الى بغداد، لم تجد أهله، فكانت هي بمثابة الأم الحنون، كأنه قطعة من قلبها في الحب والحنان، ترعرع في حضن دافئ بالحب والمودة، في أفضل تربية، فتعلق الطفل (طاهر) بقوة كأنها تمثل كيانه الروحي وامه الحقيقية، بل أصبح جزء أساسي من حياتها، ليعوض حزنها الشديد برحيل زوجها (ثائر) في تبادل الحب والحنان المشترك (- صدقني باسم أحس بأن هذا الطفل فلذة من قلبي، ان لم اكن أمه التي ولدته، فأني الأم التي منحته الأمان ودفء العاطفة والحنان) كأن نبوءة العراف، تحققت برجل يملي حياتها بالحب المقدس، كأنه هبة وهدية من رب العالمين، حتى وصل الى كلية الطب، وعثر على أهله، لكنه رفض بشدة ان يفارق امه (حنان) لانه يعتبرها الام الحنون، هي محطة الأمان وواحة الراحة، أصبحت جزء أساسي من حياته وكيانه، وكانت محل فخر واعتزاز، وحين داهما الموت، شعر بصدمة تهز كيانه بالحزن والوجع والحسرة والدموع (آه يا أمي.... / كيف أصف لك لوعتي وتوقي اليك / منذ رحيلك، وأنا تائه في مسارات وجعي / تأكلني الحسرة، ويجد في مساءاتي لهاث الالم / اصارع قهر الفراق / فأذعن تارة وتارة أثور / غارق في بحار وحدتي برغم وجود المواسين / فمثلك لا ينسى بالمواساة، ولا يسد مكانه جليس / أنت معي دوماً) ودفنت قرب قبر زوجها حسب رغبتها، لكي يلتقيان في الجنة سوية، واثناء عملية الدفن حطت يمامة على شجرة السدر، وشاركت المشيعين بالحزن والدموع.

3 - ثائر:

من خلال دراسته في الكلية تعرف على (حنان) وهو شاب محبوب محل تقدير واحترام من المقربين له، وارتبط بحب وعشق عاصف، اجمل من زقزقة العصافير، وطرح عليها فكرة الزواج، كانت ترى في عينيه صدق الحب ومشاعره، وكانت تشعر في أعماق احساسها كأنها ولدت من جديد، وابتهجت في شغاف هذا الحب، الذي يجلب للحياة الابتهاج والسعادة، هذا ما تقوله وعواطفها ويقر به عقلها، لكنها تساءلت لماذا هذه السرعة، فرد عليها (لابد من ذلك يا حنان، فقد احببتك بكل كياني، والأمر لا يحمل التأجيل، انها فرصة ذهبية منحنا إياها القدر، ينبغي عدم تفويتها بالتأخر غير المسوغ والنقاش الممل) فوافقت على الزواج حتى لا تحرم من سعادة العشق وبهجة الحياة، الذي فتح بابه على مصراعيه، هذ ما تقول عواطفها ويقر به عقلها، وكان الزواج وفرصة السانحة لكي يعيشان معاً، وفي حرب الخليج الاولى عام 1990، ذهب الى جبهات القتال كضابط طبيب بيطري احتياط، وفي خندق الحرب تعرض الى عملية غدر جبانة برصاصة من الخلف اخترقت رأسه وقتل في الحال. مقتله رمزية بليغة، بأن الشريف والصادق، ليس له سهم من الحياة والنجاة، في مجتمع غير عادل في معاييره.

4 - سامر:

الوطن اصبح شماعة ننشر عليه كل جرائم بالغدر والخيانة، بحجة الدفاع عن الوطن، كل المآسي والخراب والدمار، هي من اجل الوطن، الزيف والخداع والدجل، من أجل سرقة جيب الوطن المالي بحجة الجهاد المزيف والمخادع، حتى الشيطان لم يتجاسر على فعله، هي الدفاع عن الوطن، وما شخصية (سامر) هي معنى رمزي بليغ بالخداع والزيف، انه صورة طبق الأصل من هذه القاذورات العفنة، لكن خداعه وزيفه يجني منه الجاه والمنصب في العراق بعد عام 2003. فكان صديق (ثائر) في العلن، لكن في السر يشعر بالغيرة والحسد والحقد والانتقام، لأنه خسر (حنان) التي كان يطاردها في الكلية وخارج الكلية، يخدعها بحبه المزيف، لكي يخطفها بالاحتيال من حبيها (ثائر) ولكنه فشل فشلاً ذيعاً، لذلك تحين الفرص لكي ينتقم من (ثائر) وجاءت الفرصة الثمينة، في الحرب، وجد نفسه في خندق واحد معه، أثناء حرب الخليج الأولى عام 1990، ليطلق عليه رصاصة من الخلف ويموت حالاً، وادعى بأن قذيفة سقطت على الخندق، لكن بعد التحريات والتحقيقات، ثبت جرمه بالقتل واحيل الى المحكمة العسكرية لينال عقابه العادل، لكن تسارعت الأحداث، في انكسار الجيش العراقي بالهزيمة الساحقة، وقيام الانتفاضة ضد النظام، هرب من السجن الى السعودية ثم الى مخيم رفحاء، وبعدها الى امريكا، وبعد سقوط النظام عام 2003، ادعى بأنه من المجاهدين في الانتفاضة، وفي مخيم رفحاء، فكرم تكريماً رائعا في المنصب والتقاعد المحترم، مثل كل اللاجئين في مخيم رفحاء، في تكريمهم المبالغ به، في اختلاط الأخضر واليابس، في انتصار الدجل والتزييف دون تدقيق في سجلات سيرة حياة كل رفحاوي، وواظب في مطاردة (حنان) حتى وقعت في شباكه المنصوب بالزواج منها عام 2007. ولكن ناصب العداء والبغض للطفل (طاهر) فكان يستهزئ به بأن (حنان) ليس امه (- والدتك ! مسكين لا يعرف الحقيقة.

هنا انصدم الطفل وقال:

- لا أسمح لك ان تقول ذلك، أنها امي ولا حقيقة غير ذلك، ليس في الكون أحب الى قلبها مني) وبعد ذلك تحين فرصة نوم الطفل وحده في الغرفة، فهم في ارتكاب جريمة قتل، مثلما فعل مع (ثائر) ولكن تداركت (حنان) في اللحظة الاخيرة وفزعت عليه مستنفرة (- ماذا تفعل في غرفة الطفل ؟ اجبني) ولكي أخذ الحيطة والحذر، قررت ان ينام الطفل في غرفتها، رغم رفضه الشديد، وفي الاخير وبعد التحري والتحقيقات، وعثر على قرار المجلس العسكري، الذي يثبت عليه جريمة القتل بشكل صريح، واحالته الى المحكمة العسكرية، وأجبر تحت التهديد على الطلاق من (حنان) وأحيل الى الجهات المختصة ليحاكم بجريمة الغدر والخيانة، لينال عقابه العادل.... يقول الامام علي (ع) بصدد الغدر والخيانة (إياك والغدر فإنه أقبح الخيانة، وان الغدور لمٌهان عند الله بغدره، فها هو مهان في الدنيا قبل ان يلقى ربه).

***

جمعة عبد الله

 

تعد الواقعية في المسرح من الأساليب المسرحية عالمياً التي لها تأثير مباشر في الحركة الفنية عامة والمسرحية خاصة على نطاق واسع، وإنّها  تعد من أهم الأساليب المسرحيّة التي كان لها دور مهم في الفن المسرحي، وجاءت هذه المدرسة المسرحية من أجل إرجاع السمات الاجتماعيّة إلى طبيعتها في المسرح بعد أن أصبح المسرح مقتصراً على الجوانب المادّية والربح التجاري الذي كان السمة البارزة للمسرح قبل الواقعيّة، لذا فإنّ الواقعيّة قد أتت بثورة في الفنّ المسرحيّ قرّبته من المجتمع أكثر من غيرها من الأعمال الفنّية المسرحيّة التي سبقتها، لذا "استحدثت هذه الحقبة في تاريخ المسرح تقسيماً جديداً لصانعي المسرح، فبينما ولد المسرح في شكل وحدة فنّية تجمع بين النصّ والعرض ...أصبح التمييز واضحاً بين رجل الأدب، ورجل المسرح، والفنّان المحترف. ولقد غرق كلّ هؤلاء في موجات النصر والثورة، ولكنّ هوة عميقة قد فصلت بين المسرح والحقيقة الاجتماعيّة، وكان من أهمّ النتائج التي أحدثتها هذه الهوّة أنّ تناقضاً واضحاً أصبح يميّز بين الإبداع المسرحيّ من ناحية، وسقوط المسرح في حمأة التجارة من ناحية أخرى، وكان طبيعيّاً أن يتحوّل هذا التناقض أصلاً: بين الرجعية والتطور أو بمعنى آخر بين التخلّف والتقدم، وكان لابدّ لذلك من ثورة في الفنّ"(1)، حتّى تردم الهوّة التي حصلت بين المسرح والحقيقة الاجتماعيّة التي تشكّل طبيعة البناء الدرامي وهو في الحقيقة يعود إلى الناحية الاجتماعيّة الذي يسمهم في الكثير من القواعد المسرحيّة سواء أكانت في النصّ المسرحيّ أو العرض المسرحيّ، وأنّ المدرسة الواقعيّة قامت على المدرسة الطبيعيّة التي ابتدأت بها مرحلة التغيير والعودة إلى الإنسان، لكنّ المدرسة الطبيعيّة عملت على النظريّة البيئيّة التي تهتمّ بطبيعة البيئة بعيداً عن عواطف الإنسان وجوانبه الاجتماعيّة، إي إنّ "المدرسة الطبيعيّة تقوم بشكل كامل على نظريّة البيئة، ومن المسلّم به أنّ الكوائن الإنسانيّة لا يمكن أن تتجرّد من الوسيط الذي ولدت فيه، والذي تمّت تربيتها فيه، والذي يقرّر في الواقع طرائق إحساسهم، وتفكيرهم، وسلوكهم، ومعنى هذا أنّه ما من حدث دراميّ يولد من صراع بين العواطف الإنسانيّة، يمكن أن يعزل البيئة الاجتماعيّة التي ولد وتطوّر فيها، واتّجه نحو نهايته. فالمدرسة الطبيعيّة إذن لا تعطي قيمة للعاطفة الإنسانيّة في ذاتها، ولكنّها تنظر إليها في أحوالها المختلفة"(2) .

إنَّ الواقعيّة عملت على خصائص أخرى تختلف عمّا ذهبت إليه الطبيعيّة في نظريّة البيئة التي تبتعد عن الإنسان بوصفه قيمة كليّة داخل المجتمع، فهي تهتمّ بالإنسان بوصفه يمثّل الجماعة وليس فرداً بعينه؛ لذلك فإنّ المشتغلين في المسرح الواقعيّ يعملون على تصوير المجتمع من غير أن يجعلوه مثاليّاً، وهنا يعرضون كلّ ما هو موضوعي على حقيقته، على الرغم من قساوة ما يقدّم، وتقديم الحياة بشكل محايد إزاء الأحداث والشخصيّات والأفعال في الدراما، لذا فإنّ الواقعيّة تقدّم التمثيل الصادق للحياة الاجتماعيّة في إطار موضوعيّ بعيد عن الفرديّة أو الإغراق في الذاتيّة، وهي بذلك ترتكز على تقديم المجتمع وقضاياه، وكلّ ما يدور في هذه القضايا بشكل جماعي حتّى تكون الواقعيّة قد خالفت ما قبلها من المدارس المسرحيّة مثل الرومانسيّة والطبيعيّة، بقربها من الجانب الاجتماعيّ بإطاره الكلّي في هذا المجال(3) .

أمّا في ما يخصّ العرض المسرحيّ الواقعيّ فقد قدّم (ستانسلافسكي) رؤياه الفنّية في تقديم المسرح الواقعي اعتماداً على الفهم والصورة الواقعيّتين في مجال العرض المسرحيّ من خلال (مسرح الفنّ)، لذلك فإنّ "ما أفضت إليه جهود المسرح الفنّي من نتائج تؤكّد ذلك الخروج على الطبيعة (...)، فلم يكن من مهمّات هذا المسرح أن ينقل الحياة نقلاً تكراريّاً يوحي بالبلادة الفوتوغرافيّة – بل ينبغي أن يكون نقلاً يعتمد المعالجة الفنّية التي تعتمد التنظيم والمراقبة والتي جعلت من هذا المسرح يعبّر عن نفسه بصفته (فنّي) ولمّا كان الأمر كذلك فإنّ توزيع الممثّلين على خشبة المسرح وتبسيط الحركات، وأنسنة الأبطال، والدقّة الوظيفيّة في عناصر المشهد والديكورات، كان ذلك يسهم في إنشاء تعريف للإنسان في المكان في منهج يعتمد على عناصر الصراع الاجتماعيّ"(4).

هذا الصراع الذي جعل المخرج الواقعي يقترب أكثر من توظيف السمات الاجتماعيّة في العرض المسرحيّ من خلال عناصره المختلفة وأهمها (الممثّل الذي عمل عليه المخرج (ستانسلافسكي) في دعم تقنيّته الداخليّة مع نفسه والخارجيّة على جسده، وكذلك على الدور، ومن أهمّ الميزات التي عمل عليها في إنتاج ممثّل واعٍ في البناء الاجتماعيّ ما يخصّ المعايشة مع الدور من خلال تبنّي العودة إلى الحياة الاجتماعيّة من أجل تقمّص الشخصيّة التي يقدّمها استناداً إلى مرجعيّاتها داخل المجتمع نفسه؛ لأنّ الممثّل في المسرح الواقعي هو "مدرك لمهامّه الإبداعيّة (الفكريّة – الاجتماعيّة)، يسعى دائماً لتقويم تلك الظواهر الحياتيّة التي يعرضها على خشبته، ويصدر عليها حكمه الاجتماعيّ، الأخلاقيّ والسياسيّ.

إنّ ممثّلي مثل هذا المسرح لابدّ لهم من ألّا يفكّروا بأفكار الشخصيّة والشعور بمشاعرها فحسب، بل لابدّ لهم من أن يفكّروا ويشعروا حيال أفكار ومشاعر الشخصيّة، أن يفكّروا حول الشخصيّة، أنّهم لا يرون مغزى فنّهم في أن يعيشوا مشاعر دورهم أمام أعين المتفرّجين، ولكنّ هذا المغزى قبل كلّ شيء في خلق الشخصيّة الفنّية التي تحمل فكرة محدّدة قادرة على كشف حقيقة موضوعيّة تهمّ الناس"(5)، هذه الحقيقة الموضوعيّة من المجتمع الذي ينتمي إليه الممثّل والشخصيّة في بناء شكل درامي قادر على حمل المشاعر الإنسانيّة التي توظّف ما يتمّ تقديمه إلى الجمهور في إطاره الواقعيّ المأخوذ من البيئة الاجتماعيّة نفسها؛ لذا فقد عمل المخرج الواقعي على إبداع في عمل الممثّل في العرض المسرحيّ الواقعيّ كون المسرح يقدّم حقيقة موضوعيّة تهمّ الناس كجمهور مسرحيّ يطّلع عمّا يدور في حياتهم الاجتماعيّة من خلال العرض المسرحيّ، والذي عمل المخرج المسرحيّ الواقعيّ إلى إرجاع العرض المسرحيّ إلى الصيغ الاجتماعيّة، ومن بين هؤلاء المخرجين الواقعيين ستانسلافسكي الذي ردّ " المسرح إلى أصوله الإنسانيّة، وأكّد ربطه بالحياة الحقيقيّة للمجتمع الإنساني، متجاوزاً الحدود النقليّة الخارجيّة للطبيعيّة عند (أندريه أنطوان)، ولم يكن (ستان) مجرّد مخرج يريد أن يقدّم للجماهير عروضاً مسرحيّة مُرضية، بل كان أستاذاً يصوغ علم المسرح من جديد"(6) .

إنّ المجتمع الذي يُعَدّ الركيزة الأساسيّة التي استهدفتها الواقعيّة في عروضها المسرحيّة من خلال تقديم أعمال لكتّابها الواقعيّين من أمثال (أنطوان تشيخوف) في (بستان الكرز) و(الشقيقات الثلاث) و(الخال فانيا)، فقد حاول المخرج الواقعيّ أن يقترب أكثر من دمج الاجتماعيّ بالمسرح حتّى يصبح المسرح الاجتماعيّ خيرَ ممثّل للواقعيّة الفنّية في نتاجاتها الدراميّة، لذلك فإنّ ما قام به ستانسلافسكي هو النزوع " إلى الواقعيّة Realism في محاولة لتصوير الحياة الاجتماعيّة من خلال منهجه المعروف بالنظام The System، فإنّه كان يؤوّلها ويفسّرها على أنّها ممثّلة للفرديّة الإنسانيّة على المستوى العالمي، أي إنّه في مقدورها دمج مداولات، وإشارات دالّة على طبقة الفرد وعلى وضعه الاجتماعيّ والتاريخي" (7)، وهذا التطبيق هو ما يجعل السمات الاجتماعيّة في الشخصيّة الدراميّة الواقعيّة وعناصر العرض الأخرى تشتغل وفق المفهوم الاجتماعيّ في المادّة الدراميّة في العرض المسرحيّ.

ومن المدارس المسرحيّة الأخرى التي كان لها اهتمام بالسمات الاجتماعيّة في العرض المسرحيّ، (الملحمية)؛ هذه المدرسة التي اهتمّت بالبعد الاجتماعيّ في كلّ من بناء العرض المسرحيّ والجمهور المتلقّي من خلال جعل المجال الاجتماعيّ فاعلاً في كسر الإيهام لدى المتلقّي في العرض المسرحيّ، لذلك فإنّ هذا المسرح قد عمل القائمون عليه على توظيف المنحى الدرامي من أجل التغيير الاجتماعيّ والوصول إلى مديات أعمق في داخل المجتمع من أجل تحفيزه وتغيير كلّ ما هو غير ملائم، إذ يرى (بريخت) في هذا المجال: "ومع ذلك فمن الضروري القول: إنّ تغلغل المسرح في الحياة الاجتماعيّة لم يكن عميقاً بالدرجة الكافية. إنّه كان، كما لاحظ النقد ذلك، بهذا القدر أو ذاك (سبتوماتولوجيا، علم الأعراض المرضيّة) معالجة سطحيّة للظواهر الاجتماعيّة، إنّه لم يتمّ الكشف عن القوانين الاجتماعيّة الحقيقيّة، بالإضافة إلى ذلك فإنّ التجارب التي أجريت في ميدان فنّ الدراما أدّت في النهاية إلى تهديم كامل تقريباً لموضوع وشخصيّة الإنسان. لقد فقد المسرح العديد من وسائل تأثيره الفنّية"(8)، فالتأثير في إيجاد سبل حقيقيّة في التغيير الاجتماعيّ، بدلاً من سلب الجمهور وعيه في مشاهدات اندماجيّة لا تدلّل على حقيقة البحث في الجانب الاجتماعيّ، وأهمّ المشكلات التي من الممكن أن يقدّمها المسرح لحلّ هذه القضايا والمشكلات، بدلاً من تغييب تفكير المتلقّي في جوانب أخرى بعيدة عن حياته اليوميّة، لذا فقد عملت الملحميّة على التوغّل في وعي المتلقّي ومحاولة كسر إيهامه واندماجه في بعض الجوانب السلبيّة التي تبعده عن واقعه الحقيقي، إنّ الملحمية لم تأتِ باهتمامها بالجانب الاجتماعيّ بصورة مفاجئة، بل هي امتداد لما قبلها من المسارح التي تبنّت وجهة النظر هذه، ومن أبرزها المسرح السياسي (لأرفين بسكاتور) الذي عمل على تحويل "قاعة العرض إلى قاعة اجتماعات، كان المسرح بالنسبة لـ(بسكاتور) برلماناً والجمهور بمثابة هيئة تشريعيّة، لقد طرحت أمام البرلمان المشكلات الاجتماعيّة الكبرى بكلّ جلاء، هذه المشكلات التي تنتظر الحلول بإلحاح، وبدلاً من خطبة النائب حول هذه المجموعة من الظروف الاجتماعيّة الصعبة أو تلك، تطرح هنا النسخة الفنّية لهذه الظروف "(9). هذه النسخة الفنّية التي عمل عليها بسكاتور في استخلاص أهمّ المشكلات التي يجب أن تحلّ في مجال التغيير الاجتماعيّ بطريقة فنّية بديلة عن الرقابة السياسيّة في طرح الموضوعات الاجتماعيّة المختلفة التي قد لا تصل إلى أذهان المشتغلين بالحقل السياسي والاجتماعيّ معاً، فقد عمل بسكاتور على توظيف المسرح بأساليبه وتقنيّاته وعناصره من خلال العرض المسرحيّ ذي البعد السياسي والطبيعة الاجتماعيّة لإيجاد فضاء فنّي قادر على حمل الهموم الاجتماعيّة للمجتمع وأفراده الذين لم يصل صوتهم إلى الفضاء السياسيّ، وكذلك تقديم وسيلة نافعة في صدم وتحريض العاملين في هذا المجال وتفاعلهم مع القضايا الاجتماعيّة؛ لذلك قدّم المسرح السياسي هذه القضايا على "مستوى مضمون العرض المسرحيّ، فإنّ بسكاتور يعتقد أنّ المسرح السياسي يجب ألّا يكتفي بعرض الأحداث الفرديّة، بل يتخطّى ذلك إلى تحليل انعكاساته الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وإلى تقرير الوقائع التاريخيّة المتّصلة بها كافّة، بشكل ينقل الصورة الدراميّة، إلى الحدود والآفاق الملحميّة، وذلك من خلال إكساب العرض المسرحيّ الطابع القصصي الوصفيّ مع اللجوء إلى الوسائل التوضيحيّة كافّةً، (كالمعلّقات، واليفط، والبيانات، والشرائح الزجاجيّة، والأفلام التسجيليّة)"(10)، وهذه الأدوات التي يستخدمها بسكاتور في إنتاج العرض المسرحيّ  يحاول فيها توظيف المجال والفضاء الدرامي في اشتباك حقيقيّ مع الظرفي السياسي والاجتماعيّ من أجل نقلها إلى ذهنيّة المتلقّي واطّلاعه بحقيقة ما يدور حوله من مشاكلات كبرى في هذه المجالات ومن أبرزها المجال الاجتماعيّ.

إنّ المسرح السياسي يعمد إلى بناء مفرداته المسرحيّة بالاستناد إلى السمات الاجتماعيّة وما تقدّمه للمسرح من فهم ونتاج كاملين للمخرج والعاملين في هذا المجال؛ من تقديم ما يتوافر لهذه العروض من إمكانيّة تواصل ثقافيّة مع الجمهور المسرحيّ الناقل والحامل للسمات الاجتماعيّة المشتركة نفسها مع العرض المسرحيّ السياسي عند بسكاتور؛ لذلك فقد عارض المسارح التي لا تهتمّ بالشأن الاجتماعيّ، وتركّز على جوانب بعيدة عن الهمّ الاجتماعيّ وموضوعاته الكبيرة التي تؤثّر في حياة المجتمع، "وتعود أسباب تغليب المضامين السياسيّة في الخطاب المسرحيّ لدى (أرفين بسكاتور)، إلى معارضته القويّة للمسرح التعبيري الذي اتّجه إلى أساليب عاطفيّة تترجم أفكار الشخصيّات وخيالاتها وأحلامها ووقع العالم الخارجيّ على ذواتها، وتنحو منحى تجريديّاً وجماليّاً في استخدام الديكور والإضاءة الملوّنة والأداء التمثيلي، وهذا ما يفسّر كون الشخصيّة المسرحيّة في مسرح بسكاتور تراجعت بالحدث إلى المكانة الثانية لفائدة المضمون السياسي الذي احتلّ المركز الأوّل بهدف تعرية الواقع وتناقضاته الاجتماعيّة والثورة عليه"(11)، وهذا التراجع في المجال الدرامي على مستوى التقديم للشخصيّة الدراميّة في جوانبها الإبداعيّة راجع لكون بسكاتور قد ركّز على آليّات النقد السياسي والاجتماعيّ، أي تقديم عرض مسرحيّ يحتوي على نقل المشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة الكبرى من خلال العرض المسرحيّ، دون أن يركّز أوّلاً على الجانب الدرامي والفنّي وإبعاد الجانب الاجتماعيّ والسياسي، بل عمل العكس في مسرحه السياسيّ، وهذا ما دعا (بريخت) الذي تأثّر بالمسرح السياسي على مستوى التبنّي الاجتماعيّ للموضوعات لأن يولي أهميّة للمجال الفنّي بتقنيّات جديدة أكثر فاعليّة فنّية ودراميّة من المسرح السياسي، لقد "مهّد بسكاتور لتجربة برتولد بريخت الغنيّة بمراحلها الثلاث: مرحلة الشباب، مرحلة المسرح التعليمي، ومرحلة المسرح الملحميّ.

تتميّز اقتراحات بريخت - ولاسيّما في صيغها الملحميّة، بإعطاء الأهميّة الشديدة لفضاء الفرجة المسرحيّة بمكوّنيه السينوغرافي واللعبي (...) فالمستهدف الحقيقيّ في المسرح الملحميّ هو الجمهور الذي يجب تحريره من سلبيّته كي يستطيع امتلاك الجرأة على المناقشة والتفكير وتحصيل المعرفة"(12)، التي كانت غائبة في المجال الاجتماعيّ لدى الجمهور المسرحيّ، إي إنّ مسارح مثل الواقعيّة والتعبيريّة وغيرها حاول بريخت أن يقدّم بديلاً عنها، وخصوصاً في المجال الخاصّ بالفضاء المسرحيّ الموجّه للجمهور، أي مجال فضاء التلقّي الذي أصبح فيه الجمهور مغيّباً عن قضاياه كافّة عندما يأتي إلى العرض المسرحيّ في ما سبق الملحميّة، ومنها القضايا الاجتماعيّة كمواضع لابدّ أن توظّف في العرض المسرحيّ؛ لذا عمل على التوغّل في الفكر الخاصّ بالتلقّي وجعله فاعلاً متحفّزاً بدلاً من الاندماج والإيهام بالعرض المسرحيّ؛ لذا فإنّ "بريخت كان أبرز المعارضين لواقعيّة (ستانسلافسكي) وايهاميته بوصفها خداعاً للمتفرّج، وعلى اعتبار أنّ الإيهام الكامل بالواقع مستحيل إذ إنّ المتفرّج لا يمكن أن ينسى أنّه في مسرح ويشاهد عرضاً مسرحيّاً، وليس شريحة من الحياة، وإذ يندمج للحظات مع الأحداث أو يتعاطف مع البطل في موقف ما فإنّ الاندماج والتعاطف لا يستمرّان طويلاً، كان بريخت يريد فصل المتفرّج عن الأحداث التي تقع على الخشبة لكي ينظر إليها نظرة مراقب وناقد ويحكم على ما فيها من تناقضات، مع ذلك فهو يلغي الجدار الرابع ويفتح فضاء المسرح على فضاء الصالة"(13)، الخاصّة بالجمهور وهنا يأتي بريخت بفلسفة الانفتاح بين العرض المسرحيّ والجانب الاجتماعيّ، أي بين خطاب العرض المسرحيّ وفضاء التلقّي الذي من الممكن أن يكون مفكّراً وناقداً، وبالتالي مشاركاً واعياً في تشكيل صورة العرض المسرحيّ، ويُعَد المتلقّي هو مَن يحقق معنى العرض المسرحيّ فإن كان دوره سلبيّاً سيكون المعنى المتحقَّق سلبيّاً دون أيّة إضافات معرفيّة واعية من المتلقّي، وإن كان المتلقّي واعياً لما يقدَّم سيكون مشاركاً فاعلاً في تشكيل المعنى لهذا العرض المسرحيّ.

عمل بريخت على توظيف عدّة تقنيّات في الوصول إلى المبتغى الاجتماعيّ العميق الذي حاول أن يصل إليه ومن هذه التقنيّات قضيّة الشخصيّات التي ينبغي أن تكون في إطار هذا العمق الاجتماعيّ وفي كسر الإيهام، أي إنّ بريخت عمل على إيجاد شخصيّات مختلفة عن الشخصيّة التقليديّة في العرض المسرحيّ كما في الواقعيّة أو التعبيريّة أو غيرها من المدارس المسرحيّة الأخرى فهو يرى أنّ "الشخصيّات لا ينبغي لها أن تكون منهكة في الحدث، إذ إنّه يلجأ إلى التعريف بالشخصيّات وعلاقاتها ببعضها وبالأحداث تعريفاً مباشراً، ولا يتستّر في الحوار والوقائع، فالشخصيّة يمكن أن تقدّم نفسها إلى الجمهور. وغالباً ما يتنبّأ (الكورس) بالأحداث، أو ربّما يحكم عليها أو يزوّد المتفرج بحقائق غير معروفة لديه، كما أنّ الموسيقى والأغاني عناصر تستقلّ بذاتها، فهي لا تتحرّك باتّجاه الكلمات، إنّما بالاتّجاه المناقض تماماً لتخلق بذلك علاقة جدليّة معها، لافتة انتباه المتفرّج إلى الاحتمالات المختلفة التي يجب أن يفكّر فيها" (14)، من أجل الوصول إلى العمق الاجتماعيّ الذي دعا إليه بريخت في قضيّة الهدف من المسرح، ولاسيّما في بعده الاجتماعيّ والفكري الذي وجد من أجله.

وعمل بريخت على توظيف تقنيّة جديدة تسهم في كسر الإيهام الذي أصبح السمة البارزة في الأساليب المسرحيّة السابقة التي أبعدت المتفرّج عن طبيعته التي أوجدها المسرح الإغريقي من قبل، وهي المشاركة الفاعلة في الطقوس الدينيّة والاجتماعيّة أثناء العرض المسرحيّ الذي نشأ من رحم هذه الطقوس، لذا فقد عمل بريخت على إيجاد تقنيّة كسر الإيهام من خلال التغريب الذي يحمل في داخله سمة اجتماعيّة تسهم في رفد العرض المسرحيّ بذلك، وجعل هذه التقنيّة تجعل المتلقّي متسائلاً ومتنكّراً في رفض بعض الأمور الاجتماعيّة التي جعلته إنساناً غير ذي معنى بإنسانيّته؛ لذلك فإنّ التغريب هو من يؤكّد على كسر الإيهام في جانبيه الاجتماعيّ من جهة والدرامي من جهة أخرى المتمثّل بالإيهام والاندماج في العرض المسرحيّ، لذا فإنّ التغريب "هو وسيلة لتحرير الجمهور من الرواسب الاجتماعيّة، والحدّ من تأثيرها عليه لحظة مشاهدة العرض لينشغل بالتساؤلات المثيرة للنظر والتشكيك في كلّ ما يحيط به، نظرة متشكّكة ونقديّة؛ لذلك حرص بريخت على إبقاء مسافة بين الممثّل والجمهور تفادياً لاندماج هذا الأخير في الأولى، وإبقاء مسافة بين الممثّل والشخصيّة التي يمثلها حتّى لا يقع توحّد بينهما، لأنّ المسرح مسرح وليس الحياة ذاتها، ممّا يعني أنّ وظيفة العرض الملحمي لا تنتهي عند حدود ونهاية العرض"(15).

ومن التقنيّات الأخرى التي عمل بريخت على توظيفها في العرض المسرحيّ الملحميّ من أجل الوصول إلى سمات اجتماعيّة ذات بعد وعمق فكريّ يسهم في إرجاع الجانب الاجتماعيّ إلى المسرح والعرض المسرحيّ بطريقة تختلف عن المسارح الأخرى، عمل بريخت على توظيف (الجست) ووضع جسد الممثّل في مجال الحركة والإيماءة على المسرح، "إنّ مجال الأوضاع التي تتّخذها الشخصيّات مع بعضها البعض يسمّى (المجال الإيمائي)، حيث أنّ وضع جسم الممثّل، وطريقة النطق وتعبيرات الوجه، كلّها تتحدّد من خلال موقف الشخصيّات بعضها مع بعض (...)، فالمسرح الملحميّ قام بدور كبير تجاه أداء الممثّل كونه حاملَ علاقة مسرحيّة، تحدّه من ناحية علاقة رمزيّة تجعله شفّافاً، وتؤكّد من ناحية ثانية أهميّة حضوره المادّي والاجتماعيّ، فهناك عنصران يتنافسان داخل حركة المتفرّج الفاعلة، هما التفكير من جهة ومن جهة ثانية كلّ ما ينتج عن جسد الممثّل ليبثّ الإحساس عند المتفرّج"(16)، وهو هنا يتقاسم وفق هذه التقنيّة الرؤية الاجتماعيّة الخاصّة بالممثّل وجسده من جهة والمتفرّج المتلقّي المتفاعل والحسّاس بهذه التقنيّة الموظَّفة في العرض المسرحيّ من جهة أخرى، لذا فإنّ بريخت أراد من هذه التقنيّات المختلفة (البعد الثالث للشخصيّة، والتغريب، والجست) خلق مسرح ملحميّ مغاير لما سبقه، ومن هذه التقنيّات الأخرى التي حاول بريخت أن يوظّفها في عمليّة بناء النصّ والعرض المسرحيّين من مشاهد منفصلة وليست متّصلة، أي إنّه استخدم "تقنيّة البناء الملحمي من مشاهد منفصلة، وأغانٍ، قطع الحدث، والتركيز على الأرضيّة الاجتماعيّة التي يتحرّك فيها الحدث وخلافه، وفي الوقت نفسه حاول التركيز على ملامح الشخصيّة التي يعرضها على خشبة المسرح"(17)، حتّى يصل بها إلى السمة الاجتماعيّة التي يوظّفها المسرح الملحميّ في العرض المسرحيّ الذي دعا إليه بريخت من أجل تحقيق الحدود الاجتماعيّة والفكريّة للمسرح ومناقشته لقضايا الإنسان دون إغراقه في المحاكاة والاندماج والإيهام التي تذهب بإمكانيّة المتفرج الفكريّة والعقليّة لطرح التساؤلات ومناقشة القضايا وأهمّها الاجتماعيّة، كون الإنسان كائناً اجتماعيّاً والمسرح لا ينفصل عن هذه السمة للعرض المسرحيّ.

***

أ. د. محمد كريم الساعدي

.................

الهوامش

1. سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، (الكويت: عالم المعرفة، 1979) ص38.  

2. المصدر نفسه: ص39، ص40.

3. جبار عودة العبيدي: د. صلاح مهدي القصب، مدخل في الدراما وتدرجها التاريخي، (صنعاء، دار الفتح للنشر والتوزيع، 1992)، ص83، ص85.

4. أ. د يوسف رشيد، الإنشاء المسرحيّ وعناصره (بغداد: من إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربيّة، 2012) ص31.

5. بوريس زاخافا، إعداد الممثّل، ترجمة: توفيق المؤمن (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1998) ص40.

6. سعد أردش. المصدر نفسه، ص56.

7. دكتور مدحت الكاشف: المسرح والإنسان، (القاهرة، الهيئة العربيّة العامة للكتاب، 2008)،ص22.

8. برتولد بريخت، نظريّة المسرح الملحمي، ترجمة: د. جميل نصيف (بيروت: عالم المعرفة، ب، ت) ص11، ص112.

9. برتولد بريخت، المصدر السابق، ص113، ص114.

10. سعد أردش، المصدر نفسه، ص140، ص141.

11. د. عبد الرحمن بن إبراهيم، الحداثة والتجريب في المسرح  (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2014) ص149.

12. سعيد الناجي، التجريب في المسرح (الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2009) ص37.

13. سامي عبد الحميد، نحو مسرح حي (بغداد: دار الشؤون الثقافيّة العامة، 2006) ص41.

14. رياض موسى سكران، مسرحه المسرح (غداد: دار الشؤون الثقافيّة العامة، 2001) ص49.

15. د. عبد الرحمن بن إبراهيم، المصدر نفسه: ص151. 

16. رياض موسى سكران، المصدر نفسه، ص50، ص51.

17. الدكتور أحمد سخسوخ، اتجاهات في المسرح الأوربي المعاصر (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007)  ص109.

قراءةٌ هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، دينية، سيميائية

هذه القصيدة تكتبُ مديحها النبوي عبر لغةٍ تقوم على استدعاء السيرة والآية والأثر، وتعقدُ صُلحاً بين التاريخ المقدّس والوجدان الحاضر. إنّها نصّ تجربةٍ إيمانية بقدر ما هو بناءٌ جمالي؛ لذلك يلزم مقاربتُه بمنهجٍ مركّبٍ يجمع: الفهم التأويلي (الهيرمينوطيقي)، والوصف الأسلوبي، والتحليل الرمزي والسيميائي، والإضاءة الدينية، مع الغوص في البنى النفسية للخطاب.

أولًا: الأفق الهيرمينوطيقي - بين النصّ وسياق القداسة:

تنطلق القصيدة من تحصينٍ تأويلي مسبق: فالقارئ والمؤلفة يتشاركان «معرفةً سابقة» بسيرة الرسول ﷺ ومروياتها؛ وهذا ما تسمّيه الهرمنيوطيقا بـالتحام الأفقين (غادامر): أفق المتلقّي المعاصر وأفق الحدث المؤسِّس.

-صيغة المطلع: «خيرُ اليقين… يقينُ قلبٍ قد صدق» تُؤسّس تبادلية بين الإيمان والصدق؛ فاليقين ليس معطى معرفيّاُ فحسب، بل تقوٍّ للباطن يُترجَم قولًا وفعلاً («ولقد نطق»). إنّها دائرة تأويلية: القلب يصدّق فينطق، والنطق يزيد التصديق.

الحضور المكثّف لمفاصل السيرة (الغار/ اقرأ/ بدر/ أحد/ الإسراء/ عام الفيل) يجعل القراءة تتأرجح بين التاريخ بوصفه ذاكرةً والرمز بوصفه معنىً حاضراً، الواقعة تُقرأ باعتبارها «نصّاً مفتوحاً» يُنتج دلالاتٍ في كلّ زمن.

---ثانياً: البنية الأسلوبية - موسيقى الحروف وصياغة الخطاب:

1. الخطاب الندائي والابتهال:

يتردّد النداء الضمني والصريح: «روحي فداك»، «يا نور وجهك»، «اشفع لنا». إنّه أسلوب مخاطبة يُزيل المسافة بين «المديح» و«المتعبَّد»، فينتقل النصّ من الوصف إلى المناجاة.

2. التوازي والترصيع والإيقاع الحرفي:

-رويٌّ يغلب عليه القاف/الكاف/الحاء/القاف (… ق/ك/ق)، يمنح صرامةً إيقاعية مناسبةً لجدّ الخطاب الديني.

-تكراراتٌ محوريّة: «قد صدق/ قد وثق/ قد خلقنا/ قد علمت» تصنع إيقاعَ يقينٍ وتوكيد.

-طباقٌ وتضاد: «الظهيرة/الغسق»، «الجهارة/العلن» يوسّعان المدى الدلالي من فيض النور إلى سكون الظلّ.

3. جملة المشهد:

مقاطع سردية مكثّفة تُبنى بصيغة الفعل الماضي: «جاء، أشرق، خفق، شرَق، برق»؛ هذا يحوّل التاريخ إلى لوحات متتابعة و«مونتاج شعائري».

4. التشبيه والتمثيل:

«كنور بدرٍ ينفلق»، «عطوراً كالعبق»- تشبيهات حسّية تضفي محسوسيةً على المجرد القدسي.

ثالثاً: الرمزية والسيمياء - معجم الضوء والماءِ والعطر

وفق رومان ياكوبسون، تتكثّف الوظيفة الشعرية حين تصير اللغة موضوعاً لذاتها. هنا تتشكّل حقلٌ سيميائي بثلاثة محاور كبرى:

1. الضوء/النور:

«الضياء يشعّ، نورٌ يشعشع، أشرق، الشفق، ينفلق». العلامة السيميائية «نور» تُحيل إلى:

الدلالة القرآنية («قد جاءكم من الله نور»)،

- الدين الجمالي (الهداية/الكشف)،

- التجربة الباطنية (السكينة/الطمأنينة).

إنّها مَفْعَلة كشف: كلّ ذكرٍ للنور يوازي انتقالًا من الحجب إلى التجلي.

2. الماء/الغيث:

«وحْيٌ همى بالغيث»، «مرّ من بين الأصابع عذب ماء» - الماء هنا علامة حياة وتطهّر وبركة؛ سيميائيّاً، هو سند الحضور النبوي الذي ينعش الجماعة.

3. العطر/العبق:

«عطورًا كالعبق»، «مسك الختام» - رائحةٌ تُدرِكُها المخيّلة بوصفها دليل القرب؛ في الأنثروبولوجيا الدينية: العطر قرينةُ قداسة (حضورٌ لا يُرى ويُشَمّ).

العناصر الطبيعية (جبل أُحد/الجذع/البدر) تتحوّل إلى شهود: «واهتزّ أُحد»، «جذعٌ… يبكي»؛ هنا تأنسن الطبيعة وتتديّن، فيتّسع الفضاء الدلالي من الإنسان إلى الكَوْن.

رابعاً: الإضاءة الدينية - من السيرة إلى العقيدة:

- المقام النبوي: القصيدة تُجري خطابها على قواعد المديح مع التزام توحيد الوجهة لله عز وجل («سبحان من أسرى…»، «ربّك»). إنّها دين (لاهوت) مديحي يوازن بين التبجيل وسلامة الاعتقاد.

-النبوة والرسالة: «أتممت كلّ مكارم» استحضارٌ لمقصدٍ نبويّ جامع: تتميم مكارم الأخلاق؛ يتحوّل البيت إلى مبدأ قيمي يربط العقيدة بالسلوك.

-الشفاعة والرجاء الأخروي: يختم النص بـ«اشفع لنا يوم الحساب»؛ البنية الدرامية تتحوّل من رواية الماضي إلى رجاء المستقبل، فتكتمل الهندسة اللاهوتية: (تجلي/اتباع/رجاء).

خامساً: القراءة النفسية - من التماهي إلى السكينة:

بنية الخطاب تكشف حركةً وجدانية تُشبه ما تصفه التحليلات النفسية للدين (فروم/يونغ):

1. تماهٍ مع المثال الأعلى: «أنت أعظم من خُلق».

2. تحرّرٌ من القيود: «حلّت قيودي مثل عبدٍ قد عتق» - صورة العتق تُحيل إلى الفكاك من القلق الوجودي.

3. تأسّي واتباع: «وعلى خطاك مشت خطى قلبي» - انتقال من الإعجاب إلى اقتداءٍ مُطهِّر.

4. سكينة وإشباع وجداني: مركزها النور/العطر/الماء بوصفها مثيراتٍ حسّية/روحية تُهدّئ جهاز النفس وتوحّد شتاتها.

الجماعة متصوّرةٌ في أكثر من موضع («أحباء»، «المؤمنين»، «أمّة»)؛ فالحبّ النبوي يتحوّل جمعيّاً يمنح الهوية تماسكاً.

سادساً: المقارن النصّي- السيرة والقرآن والتاريخ:

عام الفيل/الإسراء/الغار/اقرأ/بدر/أحد- مفاصل مؤسسة يتناصّ معها النصّ على نحوٍ وظيفي لا تزويقي؛ كلّ مفصل محطة حجّة تُعيد تذكير المتلقي بأن المحبة مؤسَّسةٌ على شاهدٍ من التاريخ والوحي.

وقوله تعالى:

«اقرأ… وربّك… خلقنا من علَق»: إعادة صياغة بلاغية للآيات الأولى؛ تلجأ إلى التقديم والتأخير لتغليب لحن القصيدة دون إخلالٍ بالمقصد.

سابعًا: اقتصاد الصورة وبناء المشهد:

-مشاهد لامعة قصيرة:

«نورًا يشعشع في الأفق» (لقطة بانورامية/كشّاف).

«جذعٌ… يبكي» ( انفعالي).

«أُحدٌ يهتزّ» (لقطة حركة/كونية).

هذا «المونتاج» يُبدّل زوايا النظر ويمنح النص ديناميةً تصويرية تُبعده عن الرتابة.

-الزمن الشعائري: يتناوب الماضي المؤسِّس والحاضر المصلّي والمستقبل الرجائي؛ فيُصاغ زمنٌ قدسيٌّ حلوليّ تتجاور فيه الأزمنة.

ثامناً: تقويمٌ نقدي وإشارات تطوير:

-نِقاط قوّة:

معجمٌ دلاليٌّ مُنسجم (نور/ماء/عطر)،

-إحكامُ الرويّ والإيقاع التوكيدي،

-توظيفٌ واعٍ لوقائع السيرة بوصفها حججًا وجدانية وعقلية،

-انتقالٌ ناجح من المديح إلى المناجاة فالشفاعة (دراميةٌ روحيةٌ صاعدة).

رؤيتي كناقد للقصيدة من الناحية الأسلوبية:

1. أحياناً تتكاثر أدوات التوكيد («قد/لقد») في سطرٍ واحد؛ يمكن اقتصاد بعضها لاستدامة الليونة الإيقاعية.

2. بعض الشواهد التاريخية القويّة (بدر/أحد) تسمح بلمسة صورةٍ إضافية تزيد الخصوصية (مثلاً: تشخيصُ «الملائكة/الرجز/أثر الغبار» بأسلوبٍ مجازيّ واحد لا يُغرق السرد).

3. يمكن توسيع حقل الأخلاق العملية (عدالة/أمانة/رحمة) ببيتٍ أو سطرٍ يهبط من المجاز إلى سلوكٍ يوميّ يُجسّد «مكارم الأخلاق».

- خاتمة:

تؤلّف قصيدة ريما خضر معماراً مديحيّاً ينسج من النور والماء والعطر سيرةً موجزةً مفعمةً بالدلالة، وتُحكم صلتها بين التاريخ المؤسِّس والوجدان المعاصر. بمنطق الهرمنيوطيقا، النصّ لا يكرّر السيرة بقدر ما يؤوّلها؛ وبمنظور الأسلوبية، يشيّد إيقاع يقينٍ قوامه التوازي والتكرار؛ ووفق الرمزية والسيمياء، يفعّل شبكة علامات تُحوّل الوقائع إلى أيقونات هداية؛ ودينياً (لاهوتياُ)، يحفظ ميزان التوحيد ومقاصده؛ ونفسياً، يُحدث ترميماً وجدانياً عبر التماهي والسكينة والرجاء.

بهذا المعنى، ينجح النصّ في جعل المديح خبرةَ حضورٍ لا «حكايةَ غياب»، وفي تحويل الذكرى إلى وعدٍ ملتوٍ بالنور: «خيرُ اليقين… يقينُ قلبٍ قد صدق».

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

خَيْرُ اليقيـنِ... يَقيــــنُ قلبٍ..

قد صَدَقْ..

كـــرسول ِ عشْقٍ في الهوى

ولقد نَــطَقْ..

*

ماذا رأى؟!

ولقد رأى...وَحْـــياً همى

بالغَيثِ من ربٍّ كريمٍ

قد وَثقْ..

*

برسولِ حُبّ ٍ وانتصارٍ لِلأُلى..

شــاؤوا المحبـــَّة َ

في الظهيرة ِوالغَـسَقْ

*

عاهدتُ حُبـــَّكَ

في الجهارة ِ والعَلَنْ..

مثلَ المُتــيّم ِ

أنتَ أعظمُ مَنْ خُلِقْ.

*

وعلى خُطاكَ مَشَتْ خُطا قلبي التي

حَلَّتْ قيودي مِثلَ عبدٍ قدْ عُتِقْ..

*

سبحان من جَعلَ الضياءَ يشعُّ من ْ

وجهٍ يُضيءُ...كَــنُورِ بدْرٍ ينْفلِقْ..

*

روحي فداكَ وكلُّ روحٍ لا تفي

بوفاءِ حُبّـِكَ يا عَـطوراً كالعَــبَقْ..

*

ماذا أرى ياربِّ ...عفــوَكَ..

في المنـام..؟!

إنّي أرى نوراً يشعشعُ في الأُفُقْ

يا نورَ وجهِــكَ حين جئتَ

(بعام ِ فيلْ)..

والكونُ أشرقَ حيْنَها..

ولقد خَفَقْ..

*

عيسى وقد أنبأ بأنّــكَ بعدَه

تأتي نبــيّاً...أنتَ أفضلُ مَنْ لَحِقْ..

*

لكَ كلُّ اسمٍ قد حُمِدْ..

ولقد زَها..

في المُصْحَفِ المحفوظِ..

كنتَ كما الأَرقْ..

*

في المَدْحِ...هــل تكفي بيوتٌ من وَرَقْ

في حُسْنِ وجهــِكَ؟! كــلّ حُسْنٍ .لا أَلَقْ..

*

في غارِكَ المهجورِ ..كنتَ المصطفى

جبريل فيه قد تجلّى..

بل شَرَقْ.

في الأربعين أتـاكَ وحيٌ قائلاً:

اِقرأ...

: وكيف لي هذا النُّطُقْ؟!

*

بلسانكَ العربيّ قد كان َ الشَّفَقْ

اقرأْ.. وربّــِكَ قد خُلِقْنــا من عَلَقْ..

*

مَنْ غَيْرُ أَحْمَدَ قد سَمِعْ..

صوتَ الأُلى هم في القبورِ ..وفي العُمُقْ؟!

*

في (بدرَ)...كانت واقِعَةْ

الكــلُّ لاقى حَتْــفَهُ..

وكفــاكَ ربــُّكَ..قد عَلِمْتَ بِمَنْ سُحِقْ..

*

قد مــرَّ من بين الأصابع ِ..

عَذْب ُ ماءْ..

للّهِ عِــزّتُهُ ...وللحِبِّ النبيّ الحقّْ...

*

جذْع ٌ إذا في الناس كنت خطيبَهم..

يبكي..إلى أن تلْمسَ الكفُّ بِرِفقْ..

واهتزَّ (أُحْدٌ) إذا مَداسُك قد وَقَعْ

فوقَ الجَبَلْ..

سبحانـَه...طَرَقَ الطُّرقْ.

*

سبحان مَنْ أسرى بِخِلٍّ  ليلة ً

من أرضهِ نحوَ السما حتى بَرَقْ.

*

"من غَشَّنا.."..هذا كلامُ ساطِعٌ

يمحو ذنوباً

أو يعاقِبُ منْ فَسَقْ.

*

أللـه قد صلّى عليك ومُلكــهُ

خير َ الصلاة ِ ,أتمَّ تسليم ٍ بِحَقْ.

*

نورُ الهدى.. والكائناتُ ضياءُ

وبُعِثت نوراً..

أمْرَ خَيْرٍ ..قد صَدَقْ.

*

قلتَ: الرسالةُ  أُنْجزَتْ في وعْدِها

أتممت َ كلَّ مكارم ٍ وبكُلِّ خُلْقْ.

*

فُقراءُ من بعد ِ الفراق ِ وكم هَفَتْ..

أرواحُنـــا لِلقاكَ..

إذْ.. قدْ كان فَرقْ

*

مِسكُ الخِتامِ إليــك َ يا خير َ الورى

عَطّرْ ثًغورَ المؤمنين َ برَأي حَقّْ.

*

هي أُمــّةٌ منْ بعد ِ ما اجتمعت به ..

صارتْ أُممْ ..من خلْفِها سارت فِــرَقْ..

*

اِشفعْ لنا يومَ الحساب إذا صدى

صورٍ سمعناه وإنْ كُلٌّ حَدَقْ..

*يومٌ لنا ..إن شاءَ رَبُّكَ هادياً

يحمي أحباءً وإن ْ شاءَ رَزَقْ.

***

ريما خضر

 

الاغتراب لغة: جاء في معجم الغني:

[غ ر ب]. (مصدره. اِغْتَرَبَ) ويُمْكِنُ أنْ يُفَسِّرَ اغْتِرَابُ الشخص: هِجْرَتَهُ البَعِيدَةَ. "قَضَى جُلَّ حَيَاتِهِ فِي اغْتِرَابٍ" وهناك اِغْتِرَابُ النَّفْسِ: أي شُعُورُهَا بِالضَّيَاعِ وَالاسْتِلابِ.

إن الاغتراب في صوره وأشكاله المختلفة ليس إلا نتاجا لعجز الإنسان أمام قوى الطبيعة وقوى المجتمع في تحقيق ذاته، كما يأتي نتيجة طبيعيّة جهل الإنسان بالقوانين التي تُسَيْرُ هذه القوى. ويعد الاغتراب ظاهرة إنسانيّة متعددة الأبعاد؛ ومن الصعوبة بمكان تحديد معناه في الاصطلاح تحديداً دقيقاً، نظرا لاختلاف استعماله في البحوث الاجتماعيّة والدينيّة والدراسات الفلسفيّة ومجالات النشاطات الثقافيّة والأدبيّة وغيرها، وبالتالي يمكننا تحديد أهم أشكال الاغتراب هنا وهي:

الغربة الجغرافيّة: أي هِجْرَة الإنسان البَعِيدَةَ عن بلده أو وطنه.

الغربة النفسِّة: شُعُورُ الإنسان بِالضَّيَاعِ وَالاسْتِلابِ والتشيء.

الغربة الذهنيّة: مرض نفسيّ يحول دون سلوك المريض اتباع سلوكً سويًّ وكأنّه غريب عن مجتمعه، ولذا يلجأ إلى العزلة عن المجتمع.

الغربة الاجتماعيّة: أو الاغتراب الاجتماعي: كثيراً ما يصاب الإنسان بالإحباط من مجتمعه الذي يعيش فيه، وربما كان السبب وراء هذا الإحباط طبيعة مخزون اللاوعي الذي استقر في نفس هذا الإنسان، ومن ثم وجد أن هذا المخزون لا يتوافق مع طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه.

الاغتراب الديني: الاغتراب الديني: وهذا النوع واحد من أبرز أنواع الاغتراب التي يعيشها الإنسان على وجه العموم، وذلك حين يحس أن المحيط الذي يعيش فيه لا يلبي رغباته الدينيّة ومثل وقيم هذا الدين، ولا يقف إلى جانبه من أجل صياغة حياته الدينيّة التي يريدها، ومن هنا فإنه يشعر بعناصر الاغتراب الديني، والتصوف أنموذجاً.

ومن التعسف توصيف كل غربة على حدة، أما تسمية الغربة بالاجتماعيّة، أو بالسياسيّة، أو بالعاطفيّة أو الدينيّة أو غيرها، فذلك راجع إلى دواعي الغربة نفسها التي أمدتها بعناصر النمو.

إذاً يمكن استخلاص مفهوم عام للاغتراب يدور حول عناصر متقاربة كشعور الفرد بالعزلة والانفصال عن الذات، والانطواء على النفس، وعدم القدرة على مسايرة الآخرين، والإخفاق في التكيّف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، وعدم الشعور بالانتماء لأي مرجعيّة من مرجعيات الانتماء من الأسرة إلى الوطن. هذا وأن أزمة الإنسان المعاصر ومعاناته من حروب وجوع وفقر وألم وتشرد، التي رافقت تلك التحولات العميقة في البنى الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، يرافقها التقدم التکنولوجي المادي بكل صور تقدمه ومنها الثورة المعلوماتيّة واستخداماتها السلبيّة، فكل ذلك ساهم في تراجع القيم الإنسانيّة النبيلة من جهة، وإفقاد إنسان العصر الشعور بالأمن والأمان من جهة ثانيّة، وبالتالي راحت تجرفه الغربة وضعف الانتماء في عالم مليء بالصراعات والمشاحنات والمشكلات النفسيّة والاجتماعيّة معلنة عن تفشي المفاهيم السلبيّة والتي من أبرزها مفهوم الاغتراب موضوع بحثنا.

مع تأكيدنا بأن ظاهرة الاغتراب قديمة قدم الإنسان، فهي ليست ظاهرة عصريّة أو معاصرة، إذ يمكن للباحث أن يتتبعها في كل العصور، وفي مختلف المجتمعات؛ فكلما توافرت العوامل والأسباب المهيئة للشعور الإنساني وإحساسه بالاغتراب نفسيّاً واجتماعيّاً ووجوديّاً، ازدادت حدّته ومجال انتشاره.

لقد وجد الاغتراب تعبيره الأول في الفكر الغربي، وذلك في تصور العهد القديم للوثنيّة، كما يمكن أن نجد جذور فكرة الاغتراب في كتابات الفيلسوف اليوناني "أفلوطين"، وفي المذهب المسيحي حول فكرة الخطيئة الأصليّة وفكرة الخلاص، كذلك عند القديس "أوغسطين" و"مارتن لوثر". والاغتراب في هذه المواقف يعني الجهاد لفصل الذات الإنسانيّة عن نواقصها بجعلها في حالة تواصل مع كائن متعال هو (الإله). هذا وقد تناول مفهوم الاغتراب فلسفيّاً كل من (هيجل وماركس وأميل دوركهايم وهربرت ماركوز) وغيرهم من فلاسفة، بعد قيام الثورة الصناعيّة وظهور الطبقة البرجوازيّة وسيطرتها على الدولة والمجتمع.(1).

وإذا انعطفنا نحو الأدب العربي بشكل عام والشعر منه بشكل خاص، سنجد أن انعكاس الاغتراب على الشعراء بات طرديّاً مع تعقيدات الحياة، فقد ظهر في نتاج العديد من شعراء المخضرمين فترة الانتقال من الجاهليّة إلى الإسلام، بسبب جملة من الأسباب الحيويّة والمنطقيّة التي ساهمت في انتشار حالة الاغتراب.

إن تلك الفترة الأولى للاغتراب تشكل فترة انتقاليّة كما بينا من الجاهليّة إلى الإسلام، ولا شك أن لهذه النقلة الدينيّة العقائديّة دوراً بالغ الأهميّة في التأثير على نفسيّة هؤلاء الشعراء، واتخاذ الدين الجديد سبيلاً للفرار من حالات الاغتراب التي يعيشونها، خاصة أن المعاني الجاهليّة لم يعد لها أي أثر في عقليات الكثير من الشعراء الذين اعتنقوا الإسلام.

أما الفترة الثانية فتمثل تلك النقلة الحضاريّة التي تلت ظهور الإسلام بعقدين أو ثلاثة من العصر الإسلامي، حيث انتقل العرب من كونهم تابعين إلى أقطاب الحضارة العالميّة آنذاك، إلى كونهم مؤسسين لحضارة عربيّة إسلاميّة تلت فتح فارس وبلاد الشام، حيث توسعت رقعة الدولة الإسلاميّة، واتسع معها دور المسلمين الحضاري في خارطة العالم القديم.

أما الفترة الثالثة فتتعلق بجوانب الجغرافيا الجديدة التي وصل إليها العرب، إذ انتقل كثير من الشعراء للعيش في المدن المفتوحة، وبهذا تغربوا عن ديارهم، وابتعدوا عن أوطانهم، الأمر الذي كان له الأثر البالغ في شعرهم ونفسياتهم.(2).

لابد لنا أن نشير هنا إلى أن قضية الاغتراب في الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص عبر تاريخ الأدب، قد مثلها الأدباء في نصوصهم الأدبيّة بكل أنواعها، بل هم الأكثر قدرة على تصوير حالات الاغتراب هذه.

أمثلة على حالات الاغتراب عند الشعراء العرب:

فهذا "عنترة بن شداد" يبين لنا عمق الغربة الاجتماعيّة لديه بسبب ما ولدته الحالات العنصريّة في مجتمعه اتجاه المختلف في اللون. (3). حيث يقول:

حَسَناتي عِندَ الزَمانِ ذُنوبُ --- وَفَعالــــــــي مَذَمَّةٌ وَعُيوبُ

وَنَصيبي مِنَ الحَبيبِ بِعادٌ  --- وَلِغَيـــري الدُنُوُّ مِنهُ نَصيب

كُلُّ يَومٍ يُبري السُقامَ مُحِبٌّ  --- مِن حَبيبٍ وَما لِسُقمي طَبيبُ

وهذا قيس بن الملوح يشكو المرارة والألم، وهو يمرّ بالديار بعد هجرانها والتغرب عنها، وإن كانت غربته مقرونة بإحساس عميق من الشوق إلى الحبيبة، وهي أقسى درجات الغربة النفسيّة التي يعبّر عنها الشاعر من خلال الانتماء إلى كلّ ما يمثّل اللقاء بالحبيبة، حتّى وإن كانت جدران، أو بقايا أوتاد.(4).

أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى --- أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدار

وَما حُبُّ الدِيارِ شَغَفنَ قَلبي --- وَلَكِن حُبُّ مَن سَكَنَ الدِيار

غربة الشعراء العرب في العصر الحديث:

لقد استمرّ موضوع الغربة حاضرًا لدى الشعراء العرب في العصر الحديث، بسبب الظروف المأساويّة التي حصلت مع تراجع الأمّة العربيّة، حيث نشأت في مجتمعاتنا العربيّة المعاصر صراعات جديدة، كصراعات القيم بين الماضي والحاضر، وببن الريف والمدينة، وبين الاستبداد والحريّة، وبين الدكتاتوريّة والديمقراطيّة، وبين قيم الحدثة وما بعدها، هذا إضافة إلى الصراع مع قيم المجتمع الاستهلاكي والتخلف والجهل والأميّة والطائفيّة الدينيّة.. الخ. فكل هذه الصراعات والتناقضات بدأت تسود وجه الحياة اليوميّة من غرف المنازل ودواخل النفس، وصولاً إلى المدرسة والجامعة والمؤسسة الوظيفيّة والاعلام ودور الثقافة. وهذا ما أسقط الفرد في لجة الحيرة والتردد والغربة بكل أشكالها ومعانيها.

لقد كانت غُرْبة "الباروديِّ" ونَفْيُه، وكذلك "شوقي" ونفيه إلى الأندلس على سبيل المثال سببًا للكثيرٍ من قصائدهما حول الغُرْبة والاغتراب؛ ومِا يعدُّ امتداداً للحديث عن الغربة، والاغتراب في الشعر العربيِّ الحديث.

فهذا "الباروديّ" بقي في المنفى بمدينة (كولومبو) أكثر من سبعة عشر عامًا يعاني الوحشة، والسقم والبعد عن وطنه، وطيلة هذه الفترة أنشد قصائده التي يسكب فيها آلامه وشوقه إلى الوطن، ويرثي من مات من ذويه وأصحابه، ويتذكّر أيّام صباه، وشبابه وما آل إليه حاله، حيث مرّت أيّامه في المنفى ثقيلة، وأثقلها عليه كثرة العلل والأمراض التي أصابته، وفقدان الأهل والأحباب.(5). يقول:

كَفَى بِمَقَامِي فِي سَرَنْدِيبَ غُرْبَةً -- نَزَعْتُ بِهَا عَنِّي ثِيَابَ العَـلاَئِقِ

وَمَنْ رَامَ نَيْلَ العِزِّ فَلْيَصْطَبِرْ عَلَى -- لِقَاءِ الْمَنَايَا وَاقْتِحَامِ الْمَضَـايِقِ

كذلك كان نَفْي "شوقي" وإبعاده إلى إسبانيا ومعاناته الغربة المكانيّة والزمانيَّة، سببًا لِما سُمِّي بأندلسيَّات شوقي، تلك القصائد التي يَعْزف فيها على وتر الغربة والاغتراب، ويبكي حال الأندلس الذَّاهب مَجْدُها، ويتأسَّى على حاله في غربتِه؛ يقول شوقي في سينِيَّته الشهيرة.(6).

اخْتِلاَفُ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ يُنْســي  --  اذْكُرَا لِي الصِّبَا وَأَيَّامَ أُنْسِــــي

وَصِفَا لِي مُلاَوَةً مِنْ شَبــابٍ  --  صُوِّرَتْ مِــــــنْ تَصَوُّرَاتٍ وَمَسِّ

وَسَلاَ مِصْرَ: هَلْ سَلاَ القَلْبُ عَنْهَا  أَوْ أَسَا جُرْحَهُ الزَّمَانُ الْمُؤَسِّي

وحين نتناول :السيّاب" شعرًا فأنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن غربته، وهو يحلم بحضن الأم التي لن تعود لتُقبّل دمع صغيرها. لقد بدأت حياة السيّاب بحرمان لا يردّ ألمه أيّ فرح، ويكبر السؤال معه عن تلك التي لن تعود. كأنِّ طفلاً بات يهذي قبل أن ينام:

بأنَّ أمّه – التي أفاق منذ عامْ

فلم يجدها، ثمَّ حين لجّ في السؤال

قالوا له: “بعد غدٍ تعودْ …”

وهذا الشاعر "الشابي" يشرح لنا في مذكراته عن إحساسه الشديد بالغربة والضياع قائلا:

(أشعر الآن أني غريب في هذا الوجود..غربة من يطوف مجاهل الأرض ويجوب أقاصي المجهول.. ثم يأتي يتحدث إلى قومه عن رحلاته البعيدة، فلا يجد واحدا منهم يفهم من لغة نفسه شيئا، غربة الشاعر الذي استيقظ قلبه في أسحار الحياة حينما تضطجع قلوب البشر على أسرة النوم الناعمة، فإذا جاء الصباح وحدثهم عن مخاوف الليل وأهوال الظلام، وحدثهم في أناشيده عن خلجات النجوم ورفرفة الأحلام الراقصة بين التلال، لم يجد من يفهم لغة قلبه ولا يفقه أغاني روحه. الآن أدركت أني غريب بين أبناء بلادي). (7).

أما أهم المفردات المعبرة عن الاغتراب لدى الأدباء بشكل عام والشعراء بشكل خاص: هي المفردات المشبعة بالحزن، مثل: (الوحيد الطريد الشريد الغريب الحزين القبر الأشباح الشقاء الملال الضجيج النشيج)..

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

..........................

الهوامش:

1- (الاغتراب – موقع الموسوعة العربية -). بتصرف.

2- (ظاهرة الاغتراب في شعر مخضرمي الجاهلية والإسلام - آمال عبد المنعم الحراسيس - جامعة مؤتة، 2016 م). بتصرف.

3- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي. ). بتصرف.

4- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي.). بتصرف.

5- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي. ). بتصرف.

6- (الغربة في الشعر العربيّ - مجلة أوراق ثقافية - عبّاس حسن حاوي. ). بتصرف.

7- (موقع نداء الهند - النزعة الإنسانية ومظاهر الاغتراب في الأدب الحديث - السيد محمد بوتانغودان -).

قراءة هرمنيوطيقية، أسلوبية، رمزية وسيميائية في بنى الخطاب والنفس:

تتأسّس قصيدة «تراتيل العشق» على توتّرٍ بنيوي بين افتتانٍ حميمي يتطلّب التحقّق الآن وهنا، وزمنٍ اجتماعي–سياسي يقسو ويؤجِّل. هذه المفارقة تُدار عبر خطابٍ مخاطِبٍ (second person) يشيّد هوية «نحن» العاشقة/العاشق بوصفها خلاصاً مؤقّتاً من «مدينة القهر». hermeneutically، نحن بإزاء نصّ يوحِّد بين الحبّ بوصفه طقسًا («تراتيل»، «آيات»، «حضرة السيد الشوق») وبين الجسد بوصفه جغرافيا («تضاريسي، مدني، قاراتي»)، ليصوغ معنى الحرية العاطفية في مواجهة اقتصاد السلطة والرتب.

- المحور الهرمنيوطيقي: أفقا المؤلِّفة والمتلقي

أفق المؤلِّفة يتبدّى في مفردات تنتمي لحقلٍ تراثي–أسطوري («شهرزاد»، «تراتيل»، «آيات»، «الحوريات») متجاورة مع مفردات حداثية حياتية («علبة سجائرك»، «مدينة قهرك»). هذا التساند يشي برغبةٍ في مصالحة الموروث مع اليومي لتوليد معنى معاصر للحبّ.

أفق المتلقّي يُستثار بعتباتٍ ثقافية: «شهرزاد» تقترح حكايةً مؤسِّسة، و«النهران» تُحيل إلى حضارةٍ وخصبٍ وأساطير؛ فيما «عقرب الوقت» يحفِّز خبرةً حديثة بالضغط والإيقاع السريع.

التأويل هنا ينتقل من نصّ العشق الفردي إلى تجربة اغتراب جماعي؛ فالحبّ لا يُقاس بالرتب والمناصب («لا يؤمن بالرتب»)، بل يُقاس بصدقٍ يشتغل كمعيار بديل للقيمة في مجتمع الرأسمال والهيمنة الرمزية.

- البنية الأسلوبية: ضمائر، أفعال، إيقاع

1. هيمنة خطاب المخاطَب: تكرار «يا» النداء («يا نبضي»، «يا شاعري») يمنح القصيدة حرارةً تداولية؛ فالمعنى يُبنى بوصفه حواراً طقوسياً لا منولوجاً.

2. أفعال الأمر الرقيقة: «اطرح أوزارك»، «رتل أشعارك»، «اعزف نشيدك»، «كن أني»؛ أوامر تُمارس سلطةً عاطفية لا قهرية، وتُعيد تركيب الحدود بين الأنا والآخر.

3. التوازي والتكرار النَّفيي: سلسلة «ما زلنا… ما قلنا… ما انصهرنا…» تؤسّس إيقاعَ توقٍ مؤجَّل؛ النفي المتكرّر ليس رفضًا، بل طاقة دفع إلى اكتمالٍ لمّا يتحقّق بعد.

4. المزاوجة بين المقدَّس والحسيّ: «تراتيل/آيات/حضرة» مقابل «صدر/شفتين/حضن»؛ هذا الازدواج الأسلوبي يرفع الجسد إلى منزلة طقسٍ، ويهب الطقس جسدًا يتجسّد فيه.

- الحقول المعجمية والعلاقات الدلالية:

- حقل الزمن: «الوقت، اللحظة، الليل، الرحيل، عقرب الوقت»؛ الزمن يُمثَّل خصمًا يُغافَل ويُسرق («غافلنا اللحظة»، «سرقنا ليلتنا»)، ما يؤكد مركزية الكايروس (الفرصة الذهبية) في بنية الرغبة.

- حقل المكان/الجغرافيا: «مسافات، مدارات، تضاريسي، مدني، قاراتي»؛ الجسد مكانٌ يُسافر فيه—تَحويلٌ سيميائي من جسد/موضوع إلى خارطة/عالم.

- حقل السلطة والقيمة: «ثراء الملوك، كراسي السياسيين، قصر، قلعة»؛ تفكيك منظومة القيم السلطوية بإحلال صدق العاطفة محلّ الرتبة، وصدر الحبيب محلّ القصر.

- حقل القداسة: «تراتيل، آيات، السيد الشوق، جنّات، الحوريات»؛ الحبّ دينٌ دنيوي، طقوسه لغوية–جسدية.

- الرموز والمجازات الكبرى:

1. «النبض» و«حبل الوريد»: علاقة عشقٍ حيوية–قدريّة؛ الحبيب ليس خارج الذات، بل ملاصق لشرط حياتها.

2. «شهرزاد»: رمز الحكاية المُنقِذة؛ كما أنقذت نفسها بالسرد، تستدعي المتكلمة السرد لنجاة اللحظة العاشقة من فناء الوقت.

3. «النهران»: وفرة وخصب وذاكرة حضارية؛ خصبٌ لغوي–جسدي يفيض «أنا» و«أنت».

4. «عقرب الوقت»: زمنٌ ذي نيّة عدوانية؛ التعيين بـ«عقرب» يحمّل الزمن سِمَة اللسع.

5. «مدينة القهر»: استعارةٌ اجتماعية للهيمنة؛ مقابلها ملاذٌ حميمي يُنشأ باللغة («صدرك قصري»).

6. «علبة السجائر»: رمز اليوميّ الهشّ؛ طلبُ الاختباء فيها يشي برغبةٍ في التصاغر الحميم بوصفه حماية من الفضاء العامّ.

7. «كن أني/وأكون أناك»: ذروة الاندماج الهويّاتي؛ اصطلاحًا هي حركة من التماهي إلى التفرّد المشترك .

- القراءة السيميائية: تحويلات المعنى وتموضعات الذات

- المحور القِيَمي (القداسة/الدنيوي): العلامات الدينية («تراتيل/آيات») تُعيد ترميز الجسد، فتحوّله من «موضوع رغبة» إلى موضوع تقديس؛ بهذا ينتقل العشق من خانة اللذة المحضة إلى قيمية الترنيم.

- المحور المكاني (خاص/عام): الأشكال السيميائية «قصر/قلعة/مدينة» تُعاد كتابتها داخل الجسد—استعادة السيادة من المجال العامّ إلى المجال الحميمي.

- المحور الزمني (تأجيل/اغتنام): التعارض بين «نرجوه رويدك» و«سرقنا ليلتنا» يشي ببرنامج سردي: من قيود الكرونوس إلى فرصة الكايروس.

- البنية النفسية: التعلّق، الغربة، وسيكولوجيا الطقس

- التعلّق والاتّكاء المتبادل: الطلب «اطرح أوزارك» يشي باستضافة العبء—آليّة تهدئةٍ تُحيل إلى ملامح تعلّقٍ آمن (secure attachment) حيث تحتوي «الأنا» هشاشة «الأنت».

الغربة والذات الرفيقة: «ليل الغربة» و«مدينة القهر» يشيران إلى توحّدٍ ضدّ العالم؛ الحبّ يُعادِل تحالفًا نفسيًا في وجه القسوة الاجتماعية.

طقس التقديس: تديين الرغبة («حضرة السيد الشوق») يعمل كآلية لترسيم حدودٍ مقدّسة تحمي العلاقة من تلوّث الخارج.

ديناميّات الرغبة المؤجَّلة: تتابع «ما زلنا…» يعكس اقتصاد التأجيل؛ المتعة تتغذّى على الوعد، واللغة تُبقي الاشتهاء في حيّز الاحتدام غير المُستنفَد.

- الموسيقى الداخلية والإيقاع

- التوازي الإيقاعي: «حضن يبكي على حضن/حضن يناشد حضنه» - جناس وتقفية داخلية تخلقان نبراً مرثوياً/نشيدياً.

- التصعيد بالتكرار: التوالي النفيي يرفع الجملة من تقريرٍ إلى هتافٍ إيقاعي؛ الإيقاع هنا معنى مضاعف لا زينة.

- النعومة الأمرية: أفعال الأمر تأتي موسومة بالحنان—مفارقة صوتية توازن بين سلطة الرغبة ورقّة الطلب.

--البنية السردية: من اقتناص اللحظة إلى كتابة الخلود

النصّ يتحرّك سردياً عبر ثلاث لقطات:

1. اللقاء/الانفلات من الزمن: «غافلنا اللحظة» - خروجٌ خاطف على قانون الساعة.

2. التشييد الطقسي: تعيين أماكن وقداسات ورموز؛ تأسيس مدينة حبّ بديلة.

3. الترانيم المؤجّلة: «ما زلنا لم نرتّل…» - تأجيلٌ يقترح استدامة القصّة؛ ما لا يُكمل يُعاد كتابته.

- الدلالة الاجتماعية– القيمية:

رفض اقتصاد السلطة («ثراء الملوك»، «كراسي السياسيين») لصالح اقتصاد الصدق يشكّل موقفًا نقديًا: العاطفة معيار قيمة في وجه هرم السطوة.

- الجسد–المدينة–السياسة تتجاور لقول: الحميمية فعل مقاومة؛ إذ يتحوّل الصدر إلى قصرٍ يُضفي على الفرد كرامةً جمالية في عالمٍ مُهمِّش.

- ملاحظات نصيّة طفيفة (لا تمسّ روح القصيدة)

إذا رغبتِ الشاعرةُ بتنقيحٍ لغويّ خفيف يحفظ النَّفَس:

«هييت لك» → «هيَّأتُ لك» (إن كان المقصود التهيئة).

«ورتل اشعارك» → «ورتِّل أشعارك» (همزة «أشعار» وتضعيف «رتّل»).

«ايايات الشوق» → «آيات الشوق».

- مراجعة همزات القطع والوصل، ومسافات علامات الترقيم، وتوحيد كتابة «ما زلنا» (منفصلة).

هذه اقتراحات تقنية اختيارية؛ جمال الجملة الشعريّة قائم حتى دونها.

- خلاصة تأويلية:

«تراتيل العشق» تُنشد لاهوت الحميميّة في مواجهة قسوة الزمن والمدينة. تتّخذ من التكرار والنِّداء والأمر الرقيق أدواتٍ لإقامة قداسٍ دنيوي حيث يُعاد توزيع القيم: الصدق ثراء، والصدر قصر، واليد قلعة. رموز «شهرزاد/النهرين/عقرب الوقت» تؤسّس سرديةً تُحوّل العشق من انفعالٍ عابر إلى مشروع معنى يتحدّى اقتصاد السلطة والزمن معًا، ويؤسّس لذاتٍ مشتركة: «كن أني… وأكون أناك».

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

.........................

 تراتيل العشق

يا نبضي واشتهائي

كيف هزمنا الوهن وقهر الوقت

وتحدينا المسافات والمدارات والتقينا

كطفلين كنا

حين غافلنا اللحظة

حضن يبكي على حضن

حضن يناشد حضنه

وانا شهرزادك هييت لك

ان انت.. يا نبضي المربوط الى حبل الوريد..

اطرح اوزارك علي صدري

ورتل اشعارك على دنيا النهرين

اعزف نشيدك على الشفتين

كن اني.

واكون اناك..

دعنا نرتشف في ليل الغربة كؤوس الصبابة

يغازل بعضنا كلنا...

انا التي يسحبني شهيق الروح الى عينيك

*

لا تحدثني عن ثراء الملوك

وكراسي السياسيين

فالعشق لا يؤمن بالرتب والمناصب

دع صدقك هو ثرائي

وصدرك قصري

وكفك قلعة رغبتي وحنيني

سافر في تضاريسي

ومدني.. وقاراتي

خباني في علبة سجائرك

حين تعود الى مدينة قهرك

هذه روحي ترنو اليك

دعنا نطارد همس المساء

المساء الماطر بلغة الوجد

يربكني صوتك.. همسك: اميرتي وسيدة نبضي

وحين يهم الرحيل بالرحيل نرجوه مجللين بنيران الشوق.. رويدك يا عقرب الوقت :(مازال الحال)

نهمس في اسفلت روحينا..

مازلنا... ما قلنا عشقنا الناري.. ما انصهرنا بعد.. ما توزعنا... ما تجمعنا. ما اعلنا جنونا.. هذا الزمن لنا

ما رسمنا على خدينا ارتعاشات الروح...

بالرغم من توحد كل منا في الاخر.

بالرغم من تماهينا فينا...

مازلنا لم نرتل ايايات الشوق

رغم كل ما رتلناه

في حضرة السيد الشوق

 لم نقصص بعد رغبتنا علي كف الاشتهاء

رغم صدرك الموغل في صدري

كالسيف في كبد الشهيد

يا شاعري

كيف سرقنا ليلتنا من كف الوقت ؟!

كيف منحتني جناتك.

وكيف منحتك عشق الحوريات ؟!

اغثني من ذهولي ايها الوسيم كصباحات الربيع

الوارف كصفصاف الغابات

فانا اغمض عيني

لاعتقل لحظتنا اقصد ليلة العمر

التي اهدتها لنا الهة العشق

***

نادية نواصر

 

الفرار من الطلل إلى القصر

ليست هنالك حداثة واحدة، وإنما هناك حداثات بحسب اختلاف المكان والزمان والإنسان، فحداثة باريس غير حداثة موسكو، وهناك حداثة معاصرة نعيشها، وهناك حداثات في أزمان سابقة، وفي القرنين الثاني والثالث الهجريين كانت هناك حداثة، وشعراء محدثون ونقاد كذلك، فكر ومؤسسات اجتماعية، ويعارضها اللاحداثيون.. سلطة وطبقات اجتماعية وفكر وشعراء.

ونلتقي بمرجعيتين معرفيتين في القرون الثلاثة الأولى؛ المرجعية المعرفية العقلية والمرجعية المعرفية النقلية، ولكل مرجعية أدواتها وأنصارها، ولم يكن البحتري من أهل الحداثة، ولكنه من خصومها، وجاء مع الزمن المعارض للحداثة مع مجيء جعفر المتوكل " الخليفة العباسي " الذي أحدث تغيرًا على المستوى الفكري بإقصاء لاعتزال وأهل العقل والمنطق، وإحلال أهل الأثر محلهم، وعلى المستوى الفني تبنى مصطلح " الطبع " الذي يعبر عن اللاحداثة ! في معارضة لمصطلح " الصنعة " المعبر عن الحداثة.

إن المتوكل ـــ في تصوري ـــ لا يزال يحكم العالم الإسلامي وهو في قبره؛ إذ لا تزال الرؤى والأفكار والمناهج التي أرساها سائدة في المجتمع حتى الآن!.

ولقد شغلتني حقيقة بنية القصيدة في كلا الاتجاهين، وعلى الرغم من انحيازي للحداثة في التراث وانحيازي لمنجزاتها كان لا بد لي أن أتأمل منهجيًّا، فالبنية العميقة التي تحكم بنية القصيدة عند اللاحداثيين، وهي عادة تتكون من وحدتين، أو ثلاث وحدات، يكون الغزل أو التشبيب أولها، ثم يكون المدح الهدف الذي تسعى إليه.

ولم أكن مقتنعًا بالتفسيرات الكثيرة التي قدمها النقاد، قدامى كابن قتيبة، ومعاصرون غربيون، مثل: فالتر براونه ومعاصرون عرب، مثل: عز الدين إسماعيل ـــ مثلا ــــ وكان لابد من الكشف عن البنية العميقة.

ويتبدى إمكان دراسة قصائد البحتري في ضوء محورين، أحدهما يحاول الكشف عن التجليات المتعددة التي تشتمل عليها قصيدة المدح، ويحاول الآخر إرجاع تلك التجليات المتعددة إلى بنية عميقة تحكمها، ولما كانت الأغلبية الساحقة من قصائد المدح عند البحتري تنقسم إلى مقطعين: مقطع المحبوبة، ومقطع الممدوح، فإن البحث سيركز على هذا المنحى بشكل عام، والتطبيق على بعض نماذجه.

إن البنية العميقة التي تحكم تجليات قصيدة المدح تتمثل في التعارض بين السلب والإيجاب بين مقطعي المحبوبة والممدوح، ويمثل هذا التعارض إطارًا عامًّا تقع تحت شموليته أنماط متعددة من تجليات متعارضة عديدة

إن مقطع المحبوبة يمثل الموجة السالبة في القصيدة، في حين يمثل مقطع الممدوح الموجة الموجبة، فإذا كانت المحبوبة تبعث على السقم والهزال والجدب، وأنها حسناء سيئة الصنيع، فإن الخليفة يتميز بحسن المحيا من ناحية، وحسن الفعل من ناحية أخرى، ولذلك جعل الشمس والقمر دالَيْن على جماله وبهائه،ويرتبط هذا في أغلب الأحوال بملامح دينية ترجع إلى الرسول صلى الله عليه و آله وسلم؛ لأن الممدوح ـــ الخليفة ـــ هو امتداد للنبي، كما أن أفعاله تحيي الإسلام، وتدافع عن الرعية.

وإن هنا تعارضًا من نوع آخر بين المحبوبة والممدوح؛ إذ تمثل المحبوبة مفردًا مؤنثًا تحدث عنه الشاعر بصيغة المذكر، وأن فعلها لا يتجاوزها ولا يتجاوز الشاعر، أمَا الممدوح فإنه يمثل المفرد المذكر الخارق، الذي يتميز بخصائص تقترب من الملامح القدسية بفعل الصفات الدينية التي خلعها عليه الشاعر وتقابله الجماعة، ويتجلى في فعل الممدوح تعارض من نوع آخر؛ حيث يكون الممدوح سببًا في بعث الخصب في الحياة والحيوية في الجماعة المناصرة له، والموت الدمار في الجماعة المعارضة له، فعلى مستوى الجماعة المناصرة له.

دلالات التعارض المكاني والزماني:

المحبوبة:

امرأة: أنوثة؛ ضعف ولين.

امرأة: ظاهرها جميل، وباطنها قبيح.

امرأة: محدودة الخصائص، لا علاقة لها بالمطلق.

امرأة: تتسم بالعقم.

امرأة: تبعث السقم والهزال في الشاعر.

امرأة: لا تحقق التواصل.

امرأة: عالمها تخيلي متوهم.

الممدوح " الخليفة غالبًا "

رجل: ذكورة؛ قوة وخصب.

رجل: ظاهره حسن، وباطنه حسن.

رجل: جزء من حركة المطلق، هو امتداد للنبي، ومن ثم مرتبط بالمطلق.

رجل: ولود.

رجل: يبعث الخصب والنماء في الشاعر.

عالم الممدوح: حقيقي واقعي.

مكان المحبوبة وزمانها:

المكان: مكان مجدب لا حياة فيه « طلل »

الزمن: زمن ماض وحركته بطيئة.

الحالة: التلاشي والهشاشة.

المستوى الحضاري: البداوة.

مكان الممدوح وزمانه:

المكان: مكان خصب، قصور وحدائق ومياه.

الزمن: زمن الحاضر والمستقبل، وحركته متسارعة.

الحالة: الخصب والنماء.

المستوى الحضاري: المدينة.

ويسعى البحتري إلى التنقل والتحرك من الطلل إلى القصر، والحركة هذه تعني نفيًا للمكان وخصوصيته الثبوتية، ورمزا لانعتاق الإنسان وتحرره، ولذلك فإنه يفر من الأولى إلى الثانية، فلا يعطي المقطع الأول مساحة أكبر، ثم ينتقل إلى المقطع الثاني الذي يتوقف عنده طويلًا، مساحة وحضورا، بمعنى: إلغاء للطلل، وتثبيت للقصر، وانحراف عن البداوة وانحياز إلى المدنية.

***

د. كريم الوائلي

 

في تجربة "حسونة المصباحي" الأدبيّة

** في المستهلّ: منذ انشغل الأدباء العرب مع منتصف الق 20 وحتى قبل ذلك بمسألة التّجديد والتّحديث والحداثة كلّ بطريقته الخاصّة وانطلاقا من مرجعيّاته الخاصّة؛ منذ ذلك الحين وهم ملاحَقون بهاجس إشكالين أساسيّن:

- الأوّل هو أيّةَ حداثة تناسبنا ونحن نعيش تحت وطأة حضارة متهالكة انهكتها الاعتداءات والانحدارات على جميع المستويات وفي سياق ثقافة متّهمة بالانغلاق والتّحجّر وحتّى لغتها متّهمة بالقصور عن استيعاب عصرها بعلومه ونظريّاته ومظاهر تمدّنه وسرعة تحوّلاته وتقلّباته؟

- الثّاني هو كيف نواكب حداثة الآداب العالميّة وخاصّة منها الغربيّة التي فرضت نفسها علينا بحكم تلك العوامل والتّعاملات الاستعماريّة التي حكمت ولاتزال علاقتَنا بالغرب فتستفيد منها حداثتُنا دون أن تنسلخ عن ذاتها الثّقافيّة اوتُهَجّن فتصبحَ لقيطة؟؟

هذان الإشكالان كانا وراء ارتباط ابداعات الأدباء بالموروث التّاريخيّ والثّقافيّ القوميّ والمحلّيّ على حدّ سواء وهي تختبر في الأثناء مسارات مختلفة للحداثة . تناولت هذه الإبداعات الموضوعات الوجوديّةَ والإنسانيةَ والإجتماعيّةَ والسّياسيّةَ المعاصرةَ برؤيا تواشجت فيها المدارسُ الأدبيّة والنّظريّات الفلسفيّة الأوروبية والرّوسيّة مع النّصّ القرآني والموروث الأدبي شعرا ونثرا وأسماء الشخصيّات التاريخية وحتى الأنبياء فضلا عن الأحداث خاصّة ما تعلّق منها بالثّورات والانتصارات فكانت أعلاق من القصائد في الشعر مثل: المسيح بعد الصّلب للسّيّاب ومأساة الحلّاج لصلاح عبد الصّبور... وفي النّثر وخاصّة في السّرديّات مثل أهل الكهف للحكيم ومغامرة رأس المملوك جابر لسعد الله ونّوس وصولا إلى عزازيل يوسف زيدان (2008)..

وهنا لا يمكن أن نستثني حركةَ الأدب في تونس وحرصَ روّادها على مواكبة المجرايات الأدبيّة العربيّة والعالميّة لذلك كانت مؤلفات المسعدي (مثلا من أيام عمران) وكانت (مراد الثالث) للحبيب بولعراس ثمّ (ديوان الزنج وثورة صاحب الحمار) لعزّ الدّين المدني... هذا الارتباط بالموروث وفي سياق حداثيّ يندرج ضمن ما سمّاه غالي شكري ب(حفظ الأمن الثّقافي) الذي بدأت تتغيّر رؤيا الأدباء تجاهه وتجاه مفهوم الحداثة في حدّ ذاته مع مستهلّ القرن 21 وخاصّة بعد أحداث ما سُمّي ثورة 2011 وتبعاتها..

في هذه المرحلة أصبح الاهتمام منصبّا أكثر على التّعامل مع الموروث ليس كمادّة موضوعات يتمّ توظيفها فنّيّا ودلاليّا فقط إنّما كأبجديّة ثقافيّة تمكّن من فتح أمداء لا حدّ لها من طرق تجديد الخطاب الأدبي بأنواعه فنّا ومعنى والتّصرّف فيه على قاعدة المحاورة المستمرة مع الأدب العالمي.. وعلى قاعدة التفاعل الإيجابي مع الواقع الرّاهن بقضاياه ومشاغله الانسانيّة والقوميّة والمحلّيّة وتفاصيل المَعيش اليومّي في بعدَيه الفرديّ والجماعيّ.. ولعلّ هذا ما أدركه في فترة متقدّمة بعض الرّوائيين العرب أمثال السّوري هاني الرّاهب في رواية الوباء (1983) والتّونسيّين حسنين بن عمو خاصّة في رواية " باب العلوج " (1988) وحسونة المصباحي في قصصه منها "ليلة الغرباء" وخاصّة رواية " هلوسات ترشيش" (1995) وما جاء بعدها.. واللّافت أنّ هذه الطريقة في توظيف التّاريخ والمورث في الخطاب الأدبيّ والسّرديّ خصوصا بقدر توسّعها تاريخيّا لدي ادبائنا اليوم انحسرت جغرافيّا منصبّة على ماهو محلّيّ لتشمل إلى جانب التاريخ والموروث العربي ما كان سابقا له في تونس وما لحق به من أحداث القرنين 19 و20 في إطار رؤيا أدبيّة حداثيّة قوامها الاختزال الفنّي لأكثر ما أمكن من المادّة التاريخيّة في أقلّ ما أمكن من اللّحظة الإبداعيّة المنصبّة في مجملها على الواقع التّونسي المحلّيّ وذلك لا يعني البتّة أنّ هؤلاء الأدباء يكتبون بمبادئ المدرسة الواقعيّة إنّما هي كتابة جديدة وليدة رؤيا جديدة تجاه الوجود والحياة عموما وتجاه الذّات والإبداع خصوصا وهي في سرديّات العديد من ادبائنا اليوم؛ وعلى رأسهم المرحوم حسونة المصباحي؛ كتابة اعتبرها بمواصفات تونسية ربّما نستطيع أن نعتبرها من وسائل (حفظ الأمن الثّقافي التّونسي) لذلك أمكنني أن اشرّع لنفسي تناول تجربة الكتابة لدى الأديب حسونة المصباحي من هذا المدخل .

** في تجربة حسونة المصباحي الأدبيّة من حيث مُواصفاتُها التّونسيّة:

من ضمن ما قرأته عن المرحوم حسونة المصباحي ما كتبه الأديب المصري يوسف إدريس عمّا ترشح به كتابات أديبنا من ملامح الرّوح التونسيّة والشّخصيّة التّونسيّة قوله: (يكفي أن تقرأ قصّة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التّونسيّ وكيف يفكّر وما هي حكاياته وأساطيره الخاصّة كما لو أنّك عشت في تونس عشرات السّنين)

وكذلك ما كتبه النّاقد علي قاسم في أحد أعداد صحيفة العرب عن أصداء الرّيف التّونسي التي لا تكاد تخلو منها مختلف كتابات المصباحي ليس من منظور رومنسي يحفل بما ميّز المشهد التونسي من جمال الطبيعة وتنوّع تضاريسها ولكن من منظور الوعي بعذابات الأنسان التّونسيّ الذي يكابد قسوة ظروف العيش الأجتماعيّة والمادّيّة والمناخيّة ومن بين ما كتبه علي قاسم: (حمل حسونة المصباحي هموم التّونسيين وأصواتهم خاصّة الذين يعيشون بشظف في الأرياف القصيّة وفي هامش المدن والأحياء الشّعبيّة أينما كتب وكيفما كتب قصصَه ورواياتِه وحتى مقالاتِه ناهيك عن رحلاته وترجماته. فشفّت كتاباته عن مثقّف تنويريّ وكاتب ثَوريّ آثر أن يكون ابن بيئته بكلّ طباعها وتقلّباتها بجرأة ملهمة وبروح مثقّف أخلص حتّى النّهاية للأدب ولذاته) قد يتبادر إلى الأذهان من خلال هذا الرّأي أن أديبنا كان يكتب بمبادئ المدرسة الواقعيّة وهو الذي عُرف بتمرّده على القيود والقوالب وحتّى الأنماط وبإيمانه العميق بحرّيّة الكتابة وقد أكّد ذلك بنفسه في عدّة تصريحات ومناسبات؛؛ ومن بين ما أثِر عنه قوله: (الكتابة حرّة أو لا تكون وأنا حرصتُ منذ بدايتي على ان أكون دائم التّمرّد على كلّ أشكال التّقيّد في الكتابة مهما كانت) ذلك أن الكتابة عن ملامح التّونسيّين وعن واقعهم عند أديبنا لم تكن مجرّد انعكاس لمعالم الرّيف في القيروان أو غيرها من الجهات ولا لتراثه الفلكلوري بل كانت صورة لتونس الحقيقية بزواياها المعتّمة.. تونس التي كما كتب عنها على لسان إحدى شخصيّات روايته ألأخيرة : أرصفة الشّتات (تحتاج ان يخضلّ فيها العيش الكريم وتشرق فيها شمس الحريّة.. والعبارة لأديبنا أوردها على لسان إحدى شخصيات رواية حكاية تونسيْة) صاغها أديبنا مشاهد مستفزّة تثير في ذهن القرّاء الأسئلة (لماذا نحن هكذا ولسنا على صورة مخالفة ؟؟) لذلك انصاعت له وبجودة فنّيّة عالية تلك اللغة الاحتجاجيّة الحادْة المنسجمة مع مزاجه النّافر بلا تلطيف او تخفيف هي لغة المزاج التونسي حين يسخر وحين يغضب وينقم كما انصاعت له تلك الأساليب السّرديّة المتهادية بين التدرّج والتّلولب فكتب بشاعة الواقع ومرارة العيش وانهيار القيم في تونس وبعض المدن العربية منها الدّار البيضاء (خاصّة في كتاب " التّيه " وهو وإن كان من صنف أدب الرّحلة لا يخلو من سرد روائيّ) بجمالية فنّيّة فائقة تخرج بالقارئ من مجرّد النّفور الانطباعي تجاه تلك الظواهر السلبيّة إلى تأمّلها بوعي عميق بفعل جماليّة تلك الصّياغة الفنّية المؤثّرة للممجوج من المظاهر والوقائع والسلوكات.

فجاءت الأحداث خاصّة في رواياته ومؤلّفاته السّرديّة عموما متجذّرة في سياقاتها التاريخيّة ومحيطها الجغرافي ومرجعياتها الثقافية المعرفية حتّى أنّه عمد إلى حشد المعلومات المتنوّعة حولها حشدا وأساسا ما تعلْق منها بتاريخ تونس وطبيعة الثّقافة التونسيّة ومستجدّاتها السّلبيّة قبل الإيجابيّة وأنواع المثقّفين وهنات البعض منهم (رواية: لا نسبح في النّهر مرّتين)

فحتى وهو يرسم شخصياته الرّوائية نجده يرسم ملامح الفلّاح التونسي والعامل والموظف والمثقّف (رواية: ليلة حديقة الشّتاء التي تحدّث فيها عن الشّعر والفلسفة وتجلّت في شخصياتها خاصّة ملامح الصغيّر أولاد احمد والعفيف الأخضر) والمرأة في علاقتها بالرّجل وبالعرف الاجتماعيّ السائد بين الرّيف التونسي والمدينة (كما هو الحال في رواية: حكاية تونسيّة) بل ان اغلبها نماذج استقدمها من محيطه الاجتماعي والثقافي وحتى العائلي (مثلا قصّة: حكاية ابنة عمّتي هنيّة) ونجده في الأثناء يسلّط الضّوء على تاريخ الفرد ويحيطه بالأحداث التاريخية والظواهر الاجتماعية عبر تقنية الاسترجاع حينا وعبر تقنية الاستبطان آخر ليكشف من خلاله عن تاريخ جيل وسياسة دولة وقيم مجتمع بأسره (مثلما فعل في رواية: محن تونسيّة) ليتأمّلها ويحلّلها ويبدي موقفه تجاهها دون تورية حتّى باتت قصصه ورواياته حمّالة رؤى فلسفية وإيديولوجية وأحيانا مسرحا لتصفية حساباته مع بعض القوى السّياسيّة والأطراف التقافيّة في تونس (منها رواية: الآخرون مثلا وجزء هامّ من روايته الأخيرة: على أرصفة الشّتات التي عالج فيها أوضاع المثقف التونسي في تونس وفي المهجر وكذلك حياة التونسيين في المهجر بعد أحداث 2011) ولا ينبغي أن ننسى هنا الأماكن المشهور منها والمغمور وخاصة في القيروان وريفها وفي مدن الوطن القبلي وتونس العاصمة خاصّة والتي تحضر باسمائها ومعالمها التّونسيّة وهي تحتضن سرّ هذا الكيان المجتمعي الملغز الذي يحمل فسيفساء من الجينات من حقب تاريخية تمتدّ فتتعدّد من عهود انطالاس وحنّبعل إلى عهود الكاهنة وإبراهيم بن الأغلب والعهد الحفصي والمعز الفاطمي وصولا إلى عهود الدّغباجي وبن غذاهم و" تورة 2011 " وتبعاتها .. علما وأنّ مختلف الأحداث والأسماء التي عرفتها تونس على امتداد هذه العهود حاضرة في كتابات المصباحي سواء بِسِماتها التّاريخيّة او بما التبست به روائيّا من سمات خياليّة وفنّيّة كما في رواية: (هلوسات ترشيش).

إنّ المتأمّل في كتابات المصباحي أنها جميعها بما في ذلك حتى بعض مقالاته تتقاطع فيها أنماط الكتابة شعرا ونثرا يُلقي عليها التّرحالُ بظِلالِه لتعكس ذاتا هائمة في الوجود هامية كالماء تجري وهي تجوب الأزمنة والأمكنة؛ لذلك أعتبرها النّقّاد خاصّة من أصدقائه المتابعين لتجربته الأدبيّة عن كثب (اعتبروها) سفرا متواصلا متعدّد الأبعاد نحو أعماق الذاكرة التّونسيّة في الأرياف القصيّة (خاصّة في جهة القيروان) وفي المدن وأحيائها الشّعبيّة (خاصّة تونس العاصمة) ونحو أمداء الحضارة الإنسانيّة بشكل مكّنه من بلوغ ضفاف العالميّة خاصّة نحو ضفاف ذاته المفكّرة والباحثة دون هوادة عن كتابةٍ لم تتحقّق له أو لم يَظفَر بها بعدُ .

** في المنتهى:

لقد صاغ حسونة المصباحي في كتاباته بأنواعها روحه المسكونة بتونسيّتها وان شئنا بمزاجها القيروانيّ المشاكس صياغة ادبيّة أغناها رصيد ثقافيّ ضخم ومتنوّع وصاغ في الأثناء وجدان التّونسيّين في نخوتهم وأفراحهم وانكساراتهم وأحلامهم ونضالاتهم.. وقد جعل لوحاته السّرديّة تسع الأماكن من جبال وبحر وحقول وطرق موحلة وأحياء بائسة وأزقّة ومقاه وو جعلها تسع كلّ تلك الأماكن الطّافحة بالمواجع والنّابضة بالحياة.. وتحضرني في هذا السّياق تدوينة قرأتها في " الحساب الفيسبوكي" لكمال العيّادي (الأديب المشاكس ابن القيروان بِدَوره) منذ بضع سنوات ذكر فيها أنّه لم يعرف أحدا كتب ذاته كما هي بمختلف أحوالها المتناقضة مثله غير حسونة المصباحي؛ وأذكر من بين هذه الأحوال المتناقضة التي تحدّث عنها: العَته والعقل / الحدّة واللّين / المرارة والحلاوة / قلّة الأدب وكثرة الأدب... فنخلص إلى أنّ هذا الانغماس في الذّات بالنسبة إلى المرحوم المصباحي هو في الأصل انسياق وراء كتابة ذاته بجيناتها التونسيّة كما هي إذ لم يؤثر فيها الغياب المادّي والعيش في المهجر بعيدا عن تونس التي كتبها كما كانت وكما آلت بما فيها وبمَن فيها مدفوعا بشعور الحنين وعفويّة الكتابة النّابعة من عمق التّجربة الحياتيّة والثقافيّة أكثر منه خيار فكريّ وفنّيّ بدافع (حفظ الأمن الثّقافيّ التّونسيّ) ...

***

بقلم الأدبية: كوثر البلعابي

ارتأى الأديب المغربي عبده حقي إدراج منجزه الإبداعي " شذرات بلورية " ضمن نصوص سردية. وهي عبارة عن نصوص تتميز بالانفتاح والامتداد على عوالم لا محدودة، و غير محددة بأفكارها الوجودية الأنطولوجية، وأسلوبها الموزع بين التكثيف، وصبغة الجمال البلاغي المرتهن لرؤية ذات أبعاد وقيم كونية كالحب، والخلود، والجمال والقبح، والشيطان والملائكة، والموت والحياة، والعبث.. داخل نسق من متضادات ومفارقات مثل النور والظلام، والفرح والحزن، والانتصارات والهزائم.

ورغم أن نصوص المجموعة يطبعها الانفتاح الدلالي، والكثافة التعبيرية المخترقة بِنَفَس مجازي فهي لا تخلو من تيمات وعناصر حاولنا استخلاصها من سياق موسوم بعمق المعاني، وسعة الرؤية ؛ كعنصر التحول الذي ورد في العديد من النصوص كما في الشذرة 12: " الغرفة التي كانت ذات يوم عارية، تحولت إلى ركح من الأحلام. تحولت الجدران المتشققة منحدرات بلورية شاهقة، وتحولت ألواح الأرضية البالية إلى بحر متلألئ من ضوء القمر. " ص 7، وفي الشذرة 86، حيث يتحول المشمش إلى اللون البنفسجي: " يتحول المشمش إلى اللون البنفسجي المكدوم.. " ص 18، وتحول العشاق إلى غبار بعد معاناة من صبابة العشق، ولوعة الهوى: " وتنهدات العشاق الذين تحولوا منذ فترة طويلة إلى غبار." ص 24، تحول يأخذ صفة منحى فضفاض حينا: " لم أشفى فقط، بل تحولت. " ص 58، وعميق أحيانا أخرى يتغلغل بالدواخل موقعا أنغام توق جامح، وغبطة عارمة: " تحولت الموسيقى، وتحولت إلى الاستبطان. " ص68، يرقى بالمشاعر الباطنية إلى مقامات الصفاء والنقاء: " وتحولت العواطف إلى دوامة من الإحساس النقي. " ص 77، والخرسانة كمادة صلبة مكونة من الإسمنت وركام الرمل والحصى إلى بحر من الذهب: " تحولت الخرسانة تحت قدمي إلى بحر من الذهب السائل.. " ص 80، تحول قد يصير أكثر تعقيدا واشتباكا: " خرجت من شرنقة الوجود، عابرا عالقا في شبكة التحول الدقيقة. " ص 82، في حالة العلوق في شبكة التحول المتشا بكة بشكل دقيق ومحكم، وتحول الكرسي إلى شخص منحن: " أصبح الكرسي ذو الذراعين الموجود في الزاوية شخصا منحنيا.. " ص 109، والساعة المعلقة على الحائط إلى حارس هيكلي: " تحولت ساعة الجد المعلقة على الحائط إلى حارس هيكلي.." ص110. وعنصر التداخل الموسوم بالاندغام والانصهار كما حدث للسارد مع الكون الذي تداخل معه إلى حد تعايش تم عبر انجذاب غدا حلولا في الذات وانصهارا معها: " لم أكن أعيش في الكون فحسب، بل كان الكون يعيش في داخلي." ص12، ويشمل القلوب كذلك والأرواح من خلال خيوط اندماج، وأواصر ارتباط: " لقد كان رابطا، واندماجا للقلوب، واندماجا للأرواح. " ص 22، وذوبان في نهر الوجود الغني بحمولات هادرة متدفقة دون توقف أو انقطاع: " والذوبان في الذات في نهر الوجود الذي يتمظهر عبر رقصة تضم روحين متواشجين: " لم نكن سوى روحين، متشابكين في رقصة الوجود.. " ص 73، ليشمل، أي التداخل، الألوان كذلك في تحد لحدود المنطق ونواميسه: " تداخلت الألوان الزاهية مع بعضها البعض، وازدهرت النباتات المستحيلة متحدية المنطق.. " ص 85، مع ما يميز النباتات من نضارة الألوان وجماليتها وبهائها، ليبلغ هذا الاتحاد والتوحد أرقى رتبه وأرفعها في قوله: " أصبحا واحدا، واندمجت أرواحهما قي سيمفونية من العاطفة والرغبة التي تردد صداها في أروقة الخلد. " ص 135، التي تطال حلم الخلود وتغدو جزءا من عوالمه، وطرفا من أطرافه. كما اعتمد الكاتب عناصر ذات صبغة جمالية أثرت أسلوب النصوص / الشذرات، ونوعت صيغها، وقوالبها التعبيرية ؛ كالتشبيه في مثل قوله: " مثل نجم سقط من كوكب مكسور. " ص5، وقوله: " أصبح الزمن شيئا مرنا، يتمدد وينكمش مثل لحن منسي. " ص 63، وتوظيف اللون في عدة أشكال ومستويات: " العالم ينزف لونا أبيض. لم يلتهم اللون الأحمر العنيف لغروب الشمس.." ص 5، موزع بين الأبيض، والأحمر، والأخضر: " العالم ينزف باللون الأخضر. " ص 31، بل دوامة ألوان: " واجهت دوامة من الألوان." ص 72، شكلت، وأفرزت مشهدا خاصا: " لقد تحول العالم إلى مشهد من الألوان.. " ص95، في تحديد رمزية ودلالات هذه الألوان: " الرمز الأحمر يرمز إلى العاطفة.. كان اللون البرتقالي يمثل الفرح.. يرمز اللون الأصفر إلى الصداقة.. يمثل اللون الأخضر النمو والتطور.. يرمز الأزرق إلى الثقة.. والأرجواني يرمز إلى الروحانية. " ص 119. وكلها ألوان يتشكل منها قوس قزح: " تمتزج ألوان قوس قزح معا في انسجام.." ص 119، كتمهيد لنزعة رومانسية أثثت بعض نصوص / شذرات المجموعة ضمن معجم وردت فيه مفردات وعبارات مثل (حفيف، أوراق الشجر، زقزقة العصافير، رائحة الأزهار، همس النسيم): " حفيف أوراق الشجر، وزقزقة العصافير غير المرئية.." ص5، وفي: " في أنفاس الربيع. كل وعد همس حمله النسيم، واختلط برائحة الأزهار الحلوة.." ص44. وفي الشق السردي اعتمدت الشذرات على ذكر شخصيات تعاني من فقر: " صبي صغير مستلق تحت بطانيات رثة، يحلم بالتحليق في سماء مطلية بغبار النجوم. " ص7، لا يمنعها من امتطاء صهوة الحلم. والعامل الكادح الذي يتشبث هو أيضا بخيوط الحلم: " كان العامل المرهق، الذي كانت أطرافه مثقلة بالكدح، يجد عزاءه في رؤى المروج الخضراء حيث يذوب الوقت مثل ضباب الصباح. " ص7، نفس الحالة مع عجوز تخوض غمار الحلم: " امرأة عجوز، متجعدة وهشة، تطارد الفراشات بأجنحة من الزجاج الملون في حديقة الورود المستحيلة. " ص 7، وصورة رجل أعمال يتحسس ساعة جيبه، وامرأة شابة تحت طائلة حالة عشق متوتر، وفرح طفل يتم تصريفه عبر ضحكات تغمر أصداؤها أماكن يعمها الهجر، ويغمرها السكون: " رجل أعمال يتفقد ساعة جيبه إلى الأبد، وامرأة شابة تمسك برسالة حب ممزقة، وضحكات طفل يتردد صداها في الممرات المهجورة. " ص 59. واقترانا بالجانب السردي داخل متن نصوص الأضمومة، وفي تصور مختلف ومنزاح لكتابة القصة نقرأ: " كانت قصصها عبارة عن خيوط من الذهب والفضة، تنسج قصة تجاوزت حدود المألوف، وتجرأت على استكشاف عوالم ما هو استثنائي. " ص71، فبالإضافة إلى قيمة القصص الرفيعة وتشبيهها بخيوط من الذهب والفضة فإنها زاغت عن السائد والمألوف مستشرفة آفاقا مغايرة، وأبعادا مختلفة فغدا للقارئ دورا منتجا وفعالا: " اكتشفت وجودي. ليس كمجرد متفرج ن ولكن كبطل الرواية.. " ص 9، يتجاوز حدود التلقي والاستهلاك إلى المشاركة والمساهمة في خلق المنتوج السردي، وصناعة عناصره ومكوناته : " لم أعد قارئا سلبيا، بل مشاركا نشطا، ضائعا وموجودا في نسيج الكلمات المعقد. " ص9. وتعدد صفات ومواقع " الأنا " من وجودية: " أنا مهد الحياة، الحضن الذي يحمل أسرار الكون. " ص 32، إلى خفية مضمرة يجللها الكتمان، وتطوقها حدوده وحصونه: " أنا المذكرات المنسية، بقايا الزمن، وعاء الذكريات، أنا حارس الأسرار.. " ص 49، بما تؤتمن عليه من رغبات، وأحلام، ومشاعر، وأفكار..: " أنا نافذة الروح، المرآة التي تعكس أعمق الأفكار والرغبات، أنا اللوحة التي رسمت عليها الأحلام.. " ص 49، من خلال صور وتمظهرات وتجليات شفافة ومعبرة. وما تزخر به من أبعاد رمزية متعددة المعاني والدلالات: " أنا نذير التغيير، ورمز لرقصة الخلق والدمار الأبدية التي تشكل الكون. " ص 82، تقوم على ثنائية الهدم والتشييد الصادر عن رؤية كونية شاملة. واعتمد الكاتب كذلك عنصر الاستلهام تجديدا وتنويعا لمتنه الشذري السردي، فاستحضر الأوديسة: " لأنني في هذه الأوديسة الليلية.." ص 43، وتقنيات الكتابة الحديثة بمذاهبها ومدارسها من سريالية وتجريد: " وأنسج خيوط السريالية والتجريد.. " ص 48، وأعلام بارزين في مجال المعرفة والعلوم كعالم الرياضيات اليوناني إقليدس الملقب بأبي الهندسة: " ذات الأشكال الهندسية المستحيلة التي تحدت إقليدس.. " ص 98، وأسطورة سيزيف بحمولاتها الرمزية المجسدة لمفهوم العبث: " سيزيف محكوم عليه بدحرجة صخرة إلى أعلى التل إلى الأبد.. " ص142.

ورغم ما حاولنا إبرازه وكشفه من موضوعات وعناصر نصوص / شذرات المجموعة يظل الجانب المجازي، وجانب الموضوعات طاغيا ومهيمنا عبر أشكال وألوان يصعب الإحاطة بها، وسنكتفي بالإشارة إلى بعضها في مثل: " لقد شهدت على دموع تساقطت كالمطر، فابتلت في الأرض، وغذت تربة الحزن. " ص 8، باستعارة التربة للحزن، والقفل للانتظار في قوله: " أدخلت المفتاح في قفل الانتظار.. " ص 38، والدخان للندم: " مغطى بدخان الندم.. " ص 41، والمظلة للأحلام: " تحت مظلة الأحلام المنسية.." ص 46. والموضوعات من رحلة، وحكمة، وشك، وموت، وقبح وجمال، وشِعْر التي تعددت وتوالت فاتحة أفقا غنيا بعمق معانيه، وبعد دلالاته.

***

عبد النبي بزاز

.................

* شذرات بلورية (نصوص سردية) عبده حقي، مطبعة ألو مكتبة فاس 2025.

حين أعلنت الاكاديمية السويدية في عام 2017، فوز الكاتب البريطاني الياباني الأصل كازو إيشيغورو بجائزة نوبل في الأدب، جاء في حيثيات التكريم أنه كشف في رواياته ذات القوة العاطفية العظيمة عن الهاوية الكامنة تحت شعورنا الواهم بالارتباط بالعالم. لم تكن هذه الجملة مجرد مديح أدبي، بل توصيف دقيق لجوهر الأدب الذي يكتبه إيشيغورو، والذي يجد ذروته في روايته (بقايا النهار).

نُشرت بقايا النهار عام 1989، ونالت جائزة البوكر في نفس العام. تدور أحداثها في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتُروى من خلال مذكرات كبير خدم يُدعى (ستيفنز) يعمل في أحد القصور الانجليزية العريقة. يشرع ستيفنز في رحلة عبّر الريف الانجليزي، يتأمل خلالها حياته الماضية، وعلاقته بمخدومه اللورد دارلينغتون، الذي يتضح لاحقاً أنه كان متعاطفاً مع النازية. لكن الرواية لا تدور فقط حول السياسة، بل حول الولاء والتفاني والقمع العاطفي. كان ستيفنز الذي عاش حياته كلها في خدمة (المثالية الانجليزية) يكتشف متأخراً أنه ضحّى بفرص الحب والصدق والحياة نفسها، بآسم الواجب. فالرواية تُعد مثالاً على الأدب الهادئ والقوي معاً، وتحقق حضورها في الوعي الإنساني من خلال صمت طاغ بين سطورها.

قوة الرواية لا تكمن في الأحداث، بل في الصمت الطويل بين السطور. إيشيغورو لا يكتب بصرخة، بل بهمسة، أبطاله غالبًا أشخاص عاديون، يعيشون على هامش الحدث التأريخي، لكنهم يحملون في داخلهم مآسي إنسانية عميقة. نجد بطل الرواية ستيفنز لا يصرّح بندمه، لكنه يترك للقارئ أن يستنتجه من التردد في كلماته، ومن الفجوات التي تكشف أكثر مما تُخفي؛ وبهذا يُمسي القارئ شريكاً في الألم، ومراقباً لصراع داخلي مرير بين الكرامة والندم.

الأسلوب والهيكل والسرد بصيغة الشخص الأول الموثوق

يستخدم إيشيغورو أسلوب الراوي الأول القصصي الممتنع. فشخصية بطله ستيفنز يبدو موقراً ومتحفظاً. ومع ذلك، فإن ما لا يقّله هو جوهر الرواية. فالصمت، والهفوات في السرد، والتبرير المستمر للواجب والكرامة، كلها تؤسّس إرثاً من الغموض السيميائي، فالقارئ هو من يتلمّس الواقع خلف الضفة الرسمية للكلمات.

إن البساطة الظاهرية والعمق الخفي، تبدو في الكلمات معتدلة، لكن كل كلمة مفّعمة بصدى الندم. فالعبارات القصيرة واللغة اليومية، تُخفي عمقاً تعبيرياً هادئاً يسكن بين الأسطر. هذا الاسلوب يُعيد ملامسة فلسفة الأثر الرمزي في الأشياء الصغيرة، فالإستيقاظ المبكر، وتناول القهوة والعناية بالمبلابس، كلها رموز للواجب والقيمة الاجتماعية، وحتى للهُوية التي تبناها بطل الرواية ستيفنز.

أما الزمن الداخلي مقابل الزمان التأريخي، فالرواية تتجاوز أحداث خمسة أيام، لتطوّق حياة ستيفنز بأكملها. إذ الزمن الراهن في الرحلة هو حقل ذاكرة يُغذي الماضي ويُعيد تشكيل آنهياراته. هذا التلاعب الزمني يخلق ما يُسمّيه النقاد (السرد البطئ) ؛ سرد لا يتسارع نحو الحدث، بل نحو التفاصيل التي تنفض الغبار عن النفس والتأريخ.

البعد السيميائي والدلالات الفلسفية

يشكل البعد الدلالي لعنوان الرواية بمستويات متعددة، (فالنهار) رمز للنور وللتقدم والعقل، بينما عبارة (بقاياه) تعني ضوءاً محتشماً نهاية يوم طويل، بل يُمكن أن تمثل باق من حياة شخص عاشها أعمى بطاعته مع سيده. الحركة في الرواية ليست نحو يوم جديد، بل نحو ما تبقى بعد رحيله عن الصفوة، والامتناع عن التعبيرعن المشاعر، وعن الأخطاء التأريخية. أما الصور البيئية والطقس في ثيمة النص، فنجد السماء الرمادية والمطر الخفيف والكثبان على جانب الطريق؛ كلها توظّف لنقل الحالة النفسية. الطقس لا يُذكر مجرد خلفية؛ بقدر ماهو مرآة نفسية، يعبّر عن كثافة الوحدة، وعن قرار بريئي، أو ربما يقع في غرام الظل. حتى الرحلة في الرواية هي ليست فقط رمزية تنقّلاً من مكان الى آخر، بل هي ضرب من أكاديمية الوعي؛ تجربة وجودية يبدأها راوي يظن نفسه في طريق طبيعي، لينتهي بإدراك قاس للفراغ، وللقدرة المحددة لديه على تغيير الماضي أو آمتلاك المستقبل.

إن قيمة الرواية الإنسانية والذاتية، رغم أن الرواية تدور في أطر إنجليزية، فأن رسالتها عالمية. فالبطل ستيفنز هو الضحية والمتحمّل، والرافض في آن واحد، إذ يُخفي وراء مجهوده الشكوك، ويُخفي وراء إخلاصه البعد السياسي، ويُخفي وراء صمته حرمانه من الحديث الصادق. وعلى هذا ، فإن الرواية تعرض سؤالاً جوهرياً : الى أيّ حد ينبغي أن يضحي الإنسان بالذات لصالح القيم المجتمعية؟ وعندما يكتشف ان هذه القيم كانت كذبة، ماذا يبقى!؟

يدفعنا الكاتب إيشيغورو الى إستخدام مرجعيات فلسفيةعدة أبرزها: اللغة والوجود، حيث يتحول ستيفنز عنده الى كائن لغوي أكثر من كونه إنساناً بين الناس، فاللغة هي العمل والعمل هو الهُوية والهُوية هي السجن. كما هو تردد الراوي العاطفي يُشبه نوبة أمّلات الوجود لدى سارتر، لكن ما جعل الرواية عميقة، ليس هو الإمتلاك الفكري للموضوع فحسب، بل الإستخدام الواقعي للعادات والتقاليد والعاطفة المنغلقة. في حين يحاكي الكاتب إشكالية مروّجات الذاكرة: هل نحن فعلاً مراقبون لحياتنا، أم خدم لها؟ هل نستعيد الماضي، أم نصنعه؟ إشارة الى ما قاله شخصية بورديو: إن الذاكرة (ترفض الحقيقة أحياناً لإبقاء الكرامة) وهو ما يبرر الإصرار على الصمت، رغم أنه جرّ الى أزمة داخلية.

ما الذي تبقى؟

إن رواية بقايا النهار، ليست رواية لتسلية وقت، إنها تجربة إنسانية وفكرية وبعضها ما يحمل من الخفايا السياسية. وهي دعوة لأسئلة لا تهدأ: حينما يقول الكاتب: هل إيماننا بالواجب يُحسب مساوئه؟ وهل يستحق الحيوان الاجتماعي الذي نتخيّله ثمن تدمير الذاتية؟ ولماذا نبقى نبحث عن بقايا ضوءنا ونحن نمضي في ظلّ التأريخ؟

ففي النهاية، لا يستعيد البطل ستيفنز شيئاً، بل يُخرج ما بقي منه. فالرواية تدعو لمن يريد الاستماع الى صمت ضاغط بين السطور، والى النفس التي لم تختر الإنصياع، لكنها الآن تُفكّر في عواقب الإنصياع. فضلاً عن؛ فإن قراءتها تستدعي البطء في الانتقال بين الأحداث، وربطها بتجربة شخصية لرؤية ما يمكن أن يخسر الإنسان عندما يختار الإنصياع الفائق على أن يكون مستقلاً.

إن فوز إيشيغورو بجائزة نوبل، لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان آعترافاً بتجربة أدبية متميزة. فرواياته، (لا تدعني أذهب أبداً) و(فنان من العالم الطافي) تنبش في الذاكرة وتطرح أسئلة وجودية دون أن تقدم أجوبة جاهزة. لكن روايته (بقايا النهار) تبقى عمله الأهم، كونها تختزل كل ما يميز أسلوبه، وتشكل جوهر أدبه، أنها ليست فقط حكاية خادم نبيل، بل مرآة لكل من عاش عمراً يطارد المثاليات ثم وجد نفسه في مواجهة الحقيقة، متسائلاً: هل فات الآوان؟

كما انها تجربة ليست آنية، بل زمنية منشطرة بين ثقافتين: الشرقية التي تقدر الذّل، والغربية التي تمجّد التقدم. فالرواية ليست آحتفاء باللغة أو السلطة، بل نزع هويتها، وتأسيس للحاجز الذي يفصل الفرد عن وجدانه الشخصي.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

دراسة في رواية (صخرة طانيوس) أمين معلوف

الفصل الثاني ــ المبحث (3)

توطئة: لقد بنى أمين معلوف دلالات فصول ووقفات روايته (صخرة طانيوس) ضمن مستويين: مستوى أول يمضي فيه تقديم المادة السردية بحيادية موضوعية تامة، لكنها حيادية ظاهرية على ما يبدو عليه الأمر، خصوصا وإن السارد يتخذ من التمييز بين زمن مرجعية الحكاية وزمن الخطاب تداخلا انعطافيا في غائية البناء السردي ذاته. أما المستوى الثاني فيكشف فيه ما يخفيه مستوى المدونة وما تناقلته أخبار مسيطرة من واقع صارم من وظيفة الإيهام والنقل بالموقع التدويني إلى مرحلة شهودية هامة في رؤية الراوي الأكثر تعزيزا على تعريف موارد جهات الأفعال والشخوص والأسماء والأماكن والأزمنة، وليس الراوي في مجال روايات معلوف سوى ذلك التبئير بالمسافات الواصلة والفاصلة عن نوازع المشكل الزمني الماقبلي، كما إن عملية العدول بالتبئير الصفري إلى غيره من أنواع التبئيرات، يشكل بلوغا في الابتعاد والقرب من سلطة التدوين التي لا يعلم القارىء زمن مشخصاتها الفعلية سوى في علاقة الراوي بالمروي له. أن حقيقة أفكار رواية (صخرة طانيوس) تتمسك بالحدود الكلية من جانب ذلك (المسرود إليه ساردا؟) لذا فهو لا يتوانى في نقل واصلات الوقائع بالمواجهة الفعلية بين (تبئير داخلي = تبئير خارجي) ناهيك عن محتكمات الوقائع المشوبة بروح الأسطورة والحكاية الخرافية، فكلها تجتمع بخصائص نوعية من شواغل الوظيفة البنائية المدعمة بالمقاييس والمصادر الأخبارية المفترضة من مساحة غواية كتاب التدوين.

ــ السرد الممسرح ورواة الممسرحون

تندرج إشكالية العلاقة الدلالة في مكونات مشروع رواية (صخرة طانيوس) بما يكمن بين وافرية السرد الوصفي والسيرة المرجعية للحكاية الروائية، لذا بدت الإشكالية بين (المؤلف الحقيقي ــ الراوي الذاتي) فضلا عن مستوى التداخلات بين شفافية المسرود وصياغة ومعالجة الواقعة المرجعية، وهناك مرايا ممسرحة  تتحدد ب (الرواة) اللذين يمكنهم نقل حكاياتهم لنا بصفة حيثية أولية كمشهد مغادرة الشيخة للقصر مختاظة نحو قصر ذويها، غير أن الشيخ كعادته لا يمتعض إطلاقا من أفعال زوجته، لأنه ببساطة كان لا يعدها علامة مهمة في حياته، ولكن تكرارية هذه الأفعال جعلته بحكم وضعه المرموق في الضيعة بأن يعد العد هذه المرة بالذهاب شاكيا أمرها إلى ذويها: (لقد جئت لأقول كلمة واحدة .. زوجتي أبنه رجل نافذ، أجل قدره مثل أبي. ولكنها أصبحت زوجتي، ولا أقبل أن تغادر داري بدون إذني، ولو كانت أبنة السلطان. / ص56 الرواية) ما جعلني أرى أن طبيعة الفقرات الحوارية في النص، قد حلت في حدود المسرحة، لربما هو ذلك التوكيد في مؤشرات المادة الحوارية السردية ووقوعها من لدن شخصية تشترك في دوافعها عدة رهانات موقفية. لذا فهو الشيخ وبهواجسه المعد سلفا بطعم الاستعراض والظهور في مستوى المواجهة، والأخرى كون عملية التصادم مع والد الزوجة يشكل بذاته محورا في تمديد اللعبة التحايلية في حد ذاتها: (أجاب حموه وأنا بدوري لدي كلمة واحدة أقولها. / ص56) يبدو هذا الصنف من الحوار أشبه ما يكون بعملية التمسرح أو العرض المفترض في موقع مرسل الكلام. على أية حال هناك حالات يشترك فيها السارد العليم تكون ذي طابع إيصالي له علاقة غير مكشوفة بحدوث مصدر الكلام من الشخصية ذاتها، وهذا النوع يدعى من جهته بتطويع خطاب الشخصيات (لخطاب الراوي) وتتواصل أطراف الشد الحواري ما بين الشيخ وذلك الرجل المدعو حموه والد زوجته، وكأنه مستوى خاص من كشف الأوراق ووضع النقاط على الحروف: (هل يمكن أن نتحدث حديث رجال، أشار والد الشيخة إلى زوجته بإصطحاب أبنتهما إلى الغرفة المجاورة: لقد قيل لنا إنك لا تترك امرأة من شرك ضيعتك، ولكننا رجونا أن يجعلك الزواج أكثر تعقلا. وللأسف فثمة رجال وحده الموت يعيد إليهم طوابعهم. / ص56 الرواية).

1ــ الإشكالية الوضعانية في نسب طانيوس:

لعل من الواضح من خلال وحدات الرواية المتعلقة في وضعية ملامح الانتساب لطانيوس في مصدره الميلادي والتكويني: فيا ترى هو من صلب الشيخ أم من زوج والدته لميا جريس؟ تتنازع الشكوك كمفصلية حاسمة في مشهد النزاع القائم ما بين ذوي زوجة الشيخة وبين موقف الشيخ ذاته في البراءة من نسبة هذا الوليد إلى صلبه: (ليس هذا الطفل من صلبي ! ص57 الرواية) ورغم بوادر ذيوع اعتراف ومزاعم الشيخ إلى ذوي زوجته بعدم انتماء ذلك الطفل إلى صلبه، بقيت الزوجة الشيخة تطالب برحيل لميا وطانيوس طفلا وجريس والد لا من القصر بأسرع السبل: (أعلنت الشيخة بنبرة واثقة للغاية، وكأن المسألة لا تحتمل المساومة: لن أعود إلى القصر طالما لم تغادره تلك المرأة. / ص58 الرواية) على ما يبدو من سياق المحكي أن والد الشيخة زوجة شيخ الضيعة، هو من النوع الصارم في قراراته لذا كان يشاع عنه مثالا بأن الجبال تخشاه، فكيف به الأمر وقد اقتنع بكلام شيخ الضيعة وقد زجر أبنته غضبا وسخطا: (رمقته بنته وزوجته بعيون مروعة. ولكنه لم يعرهما انتباها وألتفت نحو صهره واضعا يده على كتفه: في غضون أسبوع تكون زوجتك قد عادت إلى بيتك، ولو تشبثت بموقفها فسوف أرجعها لك بنفسي. / ص58 الرواية) وعند عودة الشيخ إلى قصره كانت تموج الشائعات حول رحيل زوجته، وسفره السريع، وبالطبع حول لميا وأبنها وخصوصية النعت الذي كان يحمله، ولكن الشيخ في الظاهر لم يبد عليه أنه مكترثا بما حصل، فقد كان مفكرا بحموه ذلك الرجل الذي كانت تخافه السباع كيف تنسى له اقناعه بهذه السرعة، خصوصا وأن حموه كان قبل ذلك الوقت يهدده بالقتل.

2ــ الخوري بين عزوبية السماء والاعتصام عن الزواج:

من التظاهر أن تزايد نسبة السرد التاريخي في وحدات وسياقات النص، لا تدل سوى عن مصدر الإحالات للمدونات المرجعية أو تلمس ذلك التواصل بين أسلوب الرواية ووعيها التأريخي بالنمو المنظوري في السرد استعمالا أوليا لا فكاك منه، ويتضح من ذلك في مسألة كون علاقة النص الروائي بمرجعيته التأريخية، تشكل في ذاتها علاقة دينامية، فالنص يقتات على مرجعيات متعددة المصادر، ولكن ليس في كل الأحيان هناك علاقة انعكاسية بين الخيال الروائي والمادة المرجعية، ذلك لأن المتخيل في الفن الروائي يؤثر مادة الخبرة الأولية، ويعطيها استحداثا في الشكل والهيئة والسياق، ولأجل ذلك من واجبات المتخيل تفكيك المادة المرجعية وخلقها عبر عوالم جديدة. لذا فإن الأمر يبدو واضحا في سياق وحدات عودة الشيخ إلى قصره وقد لم يمض على عودته بضع ساعات حتى داهمته الخورية إلى موقع قاعة الأعمدة دخولا كان محاطا بالأنظار: (كانت تحمل غرضا مغطى بقماشة من الحرير البنفسجي وأعلنت على الملأ، وهي لم تزل على مسافة من الشيخ: ــ لي طلب عند الشيخ، على انفراد. / ص59 الرواية) في الواقع لم يكن طلب الخورية سوى إقناع الشيخ لأبن عمها بالعدول عن ندوره بدون الزواج، كما هو الأمر في دول أوربا، وقد أقنعه أحد الرهبان القادمين من إيطاليا بأن التضحية بالعزوف عن الزواج تسر السماء، ومع علم الخورية بأن بطرس سوف يزور مع والده القصر غدا، لذا راح الشيخ يقلب الأمر في دماغه وقلب معادلات ابعاد المواقف جيدا مع نفسه، وبالفعل جاء خوري العجوز في صباح اليوم القادم متكئا على ذراع أبنه أمام الشيخ. وقد راح العجوز يبين للشيخ كيفية تفوق أبنه في دراسته، فلفت انتباه أساتذته، وقد صار العجوز مؤكدا للشيخ حول ذلك الزائر الأيطالي الذي وعد ولده بإصطحابه إلى روما مدينة البابا. ولكن حنكة الشيخ قد غلبت أمر ما جاء به العجوز الذي كان يتوقع من مضيفه وجها بشوشا على الأقل: (يوم ترحل عنا يا بونا بعد عمر، لن نحتاج إلى خوري رعية.: ــ وكيف ذلك؟ ــ إنه أمر محسوم منذ عهد بعيد، فقد قررت أنا وأهلي والمؤاكرين أن نعتنق الاسلام.تبادل الشيخ نظرة خاطفة مع أربعة أو خمسة من رجال الضيعة كانوا حاضرين في تلك اللحظة، فوافقوا جميعا بإيماءات حزينة من رؤوسهم: ـ لا نريد أن نقدم على هذه الخطورة ما دمت حيا ترزق، لئلا يفطر قلبك، ولكن كنيستنا فور رحيلك عن هذه الدنيا سوف تتحول إلى جامع، ولن نعود بحاجة إلى خوري إطلاقا. / ص60 /ص61 الرواية) وهكذا غادر الخوري القصر في ذلك اليوم، وقد أعلنت خطبته وفق الأصول بمباركة والده العجوز وقد عدل من أمر الدراسة في روما بعد سلسلة حجج قد ناورها الشيخ الضليع في وجه الخوري الشاب بصحبة والده. غير أن الخوري الشاب بقي لوقت طويل مستاء من الشيخ بسبب ما جرى ولكنه شعر نحوه بالامتنان بعد زواجه بالخورية. هكذا كان الشيخ يستذكر أمام الخورية أخر مرة وكان ذلك منذ زمن مضى. عندما جاءت له بطلبها بعدول جريس من الزواج منها وقد حل الأمر بما يرضيها، ولكن ما الذي جاء بها اليوم؟ وما هو محتوى طلبها الجديد؟. في الواقع كان طلب الخورية هذه المرة مرهونا بقسم الشيخ عن عدم عائدية هذا الطفل إلى صلبه، وكان الأمر يتطلب منه وضع يده على المصحف والقسم بذلك: (هذا الطفل ليس طفلي / هل يكون الشيخ قد كذب، ويده على الكتاب المقدس؟ لا أظن ــ وبالمقابل فلا شيء يجزم أن الخورية قد نقلت كلامه بأمانة. / ص64 الرواية).

ـ الجراد يأكل محاصيل الضيعة ويستنزف قواهها

إذا قمنا بإعادة الوظائف الدلالية المشتغلة في سياق عودة الشيخة إلى كفريبدا في الأسبوع الأول من شهر آب، حيث كان والدها حموه يصطحبها إلى جانب أشقاؤها الخمسة، وستون نفرا من الخيالة وثلاثمائة من المشاة، بالإضافة إلى السائسين، والمرافقات، والخادمات، والخدم. إذن المسألة لسيت بغزو جرادي بالمعنى الوبائي الحرفي، بل أنما في مجاميع الضيوف التي حلت كظلا ثقيلا بالقصر وقد استنزفت كل المؤونة المحفوظة في المستودعات: (في اليوم الأول أقيمت وليمة لتكريم وفادة الضيوف كما تقتضي العادة، وفي اليوم الثاني، كان يجب كذلك إطعام كل هؤلاء القوم، وفي اليوم الثالث، والرابع، والخامس.. لم تكن مؤونة الشتاء قد أعدت، وبسبب إقامة وليمة يوميا، بل وليمتين أحيانا.. سرعان ما نفذت مؤن القصر فلا قطرة زيت، أو نبيذ، أو طحين، أو بن، أو سكر.. كان المحصول شحيحا أصلا في هذه السنة وأمام مشهد الحيوانات التي كانت تذبح يوميا ــ عجول وماعز وعشرات الأغنام ومداجن بحالها ــ شعر أهالي ضيعتي بقرب حلول المجاعة. / ص66 الرواية) كما يتضح إذن أن آل حموه وجيشه أرادو استنزاف كل قدرات الشيخ والضيعة من ناحية اقتصادية محرجة، لذا فالأمر بالنسبة للشيخ حربا قد شنها آل حموه هذه الغرض من ورائها امتلاك كل مصادر قوته وتماسكه في الضيعة.

1ــ الجراد عقدوا العزم على الرحيل:

تتميز وحدات السرد الروائي تقاربا وتكاملا من حدود ثقافات مختلفة (لغات ـ عقائد ـ قيم ـ سلوكيات) وقد أظهرت الأحداث الروائية في الأغلب الأعم الإضاءة الكبيرة لارتباط الرواية من أفق الأسطرة والأسطورة الشعبية الأكثر غورا في حيوات التفاصيل الدقيقة للتقاليد والعادات القديمة المرتبطة بالحروب والنزاعات السياسية وبالطقوس المأثورة من مستويات الطبيعية الثقافية للمجتمع وعناصره الموصوفة في أفق الجبل. إذن فرواية (صخرة طانيوس) هي جملة حكايات الرواة عن أخبار الجبل والساسة والناس في طبيعة حيواتهم الصخرية. كما أمعن معلوف في تكثيف وتضخيم صور سرده وتفاصيلها الأكثر محفوفية  بالحب والحرب والجذب والخصب والبؤس والفرح. تخبرنا الأحداث الروائية بأن الشيخ فرنسيس تراءى له بأن ضيوفه الجراد قد عقدوا العزم بالفعل على الرحيل.. كان أشبه بالمعتقل وسط أعمدة قصره، إلا إنه كان يحاول جاهدا على شكم جأش سخطه والمحافظة على شكليات المراسم. فيما تناهى على مسامعه الكلمة الأخيرة من الشيخة زوجته: (سوف أعود في آخر الشتاء، ولم تحدد إن كانت تنوي العودة بهذه المواكبة الغفيرة. / ص71 الرواية).

2ــ أسرار ولادة طانيوس: أسطورة الغياب:

أن طبيعة المواقف السردية في رواية (صخرة طانيوس) ذلك الخليط من (أسرار ولادة طانيوس ــ أسطورة الغياب) بلوغا نحو الكثير من التساؤلات حول من هو الأب الشرعي لطانيوس نفسه؟ وما سر غيابه الطوطمي من فوق تلك الصخرة؟. في الحقيقة تواجهنا في الإجراءات الفصولية الحكائية من الأحداث والأفعال الروائية، جملة متشبعة من القوى والطاقة السردية المسرودية  الطافحة إلى حد النخاع بما يشير على أن طانيوس ضحية ذلك العشق المخدوع للشخصية أسما بنت ذلك الرجل الجشع روكز، كذلك هو بالمقابل ضحية علاقته بذلك الأب المزعوم جريس الذي لم يعلم وحتى شنقه من قبل جماعة الأمير بأنه الأب الشرعي له، أما علاقته بأمه لميا فكانت محاطة بتوترات مشبوبه بمزاعم علاقتها الوضيعة بالشيخ فرنسيس، وهو الأمر الذي جلب بدوره كل تلك المهاترات القائلة بأنه من صلب الشيخ فرنسيس.. هناك منعطفات عديدة في الرواية وتناقلات أكثر تحريضا وغواية بأن طانيوس هو الصورة السلفية لأحدى آلهة الجبل والصخور الأكثر إتباعا لأسرار وطلاسم موضوعة غيابه الأسطوري. تجتهد أدوات أمين معلوف في نسج خيوط الرواية، فقد جعل من تصعيدات حملاتها التحالفية المتكونة من عدة دويلات عظمى سبيلا إلى ارتقاء منصبية الشيخ للضيعة بعد اعتقاله وأسره من قبل جماعة الأمير، ورغم أن الأمير غدا مسيطرا عليه بواسطة عدة خيارات في الرحيل أو الموت عن سلطة الجبل، فكانت خيارات ذلك الطاغوت هو الرحيل مع حاشيته خارج حدود الجبل ومقطعاته العديدة، لذا تم اختيار طانيوس زعيما لليلة واحدة شيخا للجبل فيما وضع أمام صور قصاصية كان يجب عليه اعتمادها خصوصا بحق روكز الذي راح يتولى منصب الضيعة بعد اعتقال الشيخ فرنسس من قبل الأمير المخلوع. ولما كان طانيوس عاشقا مسبقا لبنت روكز أسما، فقد هان عليه جرح قلب عشيقته القديمة رغم تطاول صيحات الناس بالإسراع لأخذ القصاص العادل بحق روكز، ولكن كانت دموع وتوسلات أسما هي الأكثر بلوغا وتأثيرا في فؤاد طانيوس، فختار الفرار من عرشه الحريري إلى الجلوس فوق هامة الصخرة فتم غيابه بطريقة تضاربت حولها مرويات قساوسة الجبل وأخبار الرواة، لذا أصبحت عملية غيابه تعقيدا دلاليا وإنغلاقا مضمونيا لا تفارقه هواجسية الدليل المؤسطر ونزوات الحكاية الأسطورية.

ــ تعليق القراءة:

إن القارىء لدلالات رواية (صخرة طانيوس) لربما لا يدرك للوهلة الأولى مدى حتمية الأواصر النفسية والصياغية بين الحكاية وخطابها، ولا من جهة ما كون أن معلوف في عملية كتابتها أراد تأسيس الحضور الإضافي بين الواقعة المرجعية والانفتاح الفضائي المتخيل في نصه الروائي، لربما نحن أيضا لا نعلم من أوليات المخطط القبلي للمرجع الحكائي سوى أنها الرواية التي أخذتنا أحداثها نحو ذلك الانموذج من السرد والوصف والميلودراما الكبيرة التي حقق فيها معلوف شأنا لا يبلغه المسمى العابر ب  (الرواية التأريخية) بقدر ما بلغ فيها من الحد الاحساسي بحركة الزمن والأفعال ضمن تجربة فريدة من موقعية ذلك السارد العليم الذي راح يطل علينا بين الفينة والفينة حمالا لأوجه متعددة من إمكانية الموقع الساردي وبنيته الأكثر حيادا في التشخيص والتصور والتقدير ورسم خيوط غيابات طانيوس من فوق صخرة أرواح الأسلاف من القساوسة والسحرة وحكايات ذلك الرمز المؤسطر بأسمى علامات المسرحة الأسطورية المؤثرة.

***

حيدر عبد الرضا

أرتبط النقد الثقافي بالمجتمع ارتباطا وثيقاً، إذ إن لكل مجتمع ثقافة خاصة به، ويعد الفن الذي يعد الأدب وليداً له، وإحدى أهم التعبيرات لهذه الثقافة ومعبراً عنه ثم كاشف عن مدى تجذرها في البيئة التي ولدت فيها، حيث" إن القراءة الدقيقة للفن يمكن أن تكشف عن شكل الحياة للمجتمع، والفن فقط هو القادر على اعادة خلق حياة جديدة لها تعقيداتها الفنية وتنوعها" (i) .

انطلقت الاصول الرئيسة لنشأة النقد الثقافي من الرغبة الشديدة للانسان المعاصر بالتحرر من كل ماهو قديم والتعرف على ماهو جديد بكل الميادين الحياتية فأنطلقت الثورة الثقافية في ستينات القرن الماضي والتي كانت نتيجتها تتلخص في الحداثة والعولمة، والثقافة، فأما الحداثة فقد ارتبطت بحاجة الانسان المعاصر الى كل ما هو جديد، ونبذ ماهو قديم وهذا ما جعل الحداثة تظهر في الادب على شكل حركات أسهمت في اجراء تغبيرات مهمة في القصيدة العربية مثل حركة الشعر الحر، وشعر الومضة، وقصيدة النثر، على حساب نظام القصيدة القديم، لكن هذه الحركات المتطورة التي احدثتها الحداثة في الادب واكبه ركود من ناحية النقد ؛ لأن الناقد غالبا ما كان يقع في نقده للنصوص الشعرية في دهاليز ومتاهات المصطلحات والالغاز(ii)، أما العولمة فقد اسهمت بما تمتلكه من عدة الاتصال والاعلام بدفع حركة الثقافة نحو الالتحام والتداخل مع العالم كله مما ساعد على تأصيل الرابطة الثقافية عن طريق التكنولوجيا المتمثلة بأمور عدة أبرزها الكتابة الرقمية، والبحث عن التفاعلية الرقمية في الادب، إذ يمكن للنصوص الكبرى وللتعابير الثقافية أن تعبر الحدود اللغوية والسياسية والمدنية والثقافية، شرط ترجمتها الى لغة الجماعات المعنية بالوجهة (iii)، ثم الثقافة التي تمثل الاصل الثالث والاهم الذي أنطلق منه النقد الثقافي، إذ تعد " ممارسة لسانية أو حركة أو انتاج سمعي أو بصري، مجرد أو محس، ينطلق من فهم معين بوسائل مقصودة لغايات محددة " (iv)وللثقافة دور مهم في التعرف على مجتمع معين إذ إنه يساهم ببناء مدركات تساعد في الكشف عن سلوكيات اصحاب هذه الثقافة عند احتكاكهم بغيرهم من الناس وانشاء علاقات فيما بين بعضهم البعض، او خارج نطاق جماعاتهم (v)، غير إن الثقافة لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها الفاعلة والمؤثرة في المجتمع وأفراده عبر النص الا اذا كانت " تمتلئ بحمولات دلالية متشعبة ؛ مهمتها تغذية العقول المثقفة التي ترى بها وجهاً أخراً لاستمرار التطورات والتحولات التي من خلالها تصبح الثقافة عنصراً مهما لا ينبغي تجاوزه بأي شكل من الاشكال" (vi)، لذا يمكن القول: أن الدراسة النقدية انتقلت الى طور جديد من الغاية، إذ لم يعد النص هو الهدف من الدراسة بل أصبحت الغاية هي الانظمة الذاتية المتمثلة بالثقافة في فعلها الاجتماعي وبذا تكون قد كسرت مركزية النص، ولم تعد تنظر اليه بما أنه نص، والا الى الاثر الاجتماعي الذي قد يظن أنه من انتاج النص، لقد صارت تأخذ النص مادة خام يستخدم لاستكشاف انماط معينة من مثل الأنظمة السردية والاشكالات الايديولوجية، وأنساق التمثيل (vii) .

أرتبط نشوء النقد الثقافي بظهوره في أوربا، حسب تقدير بعض الباحثين، ويعود تأريخ هذا الظهور الى القرن الثامن عشر، لكنه لم ينل نقدياً مع بداية ظهوره القبول ايجابي، إذ عُد نقداً برجوازيا يمثل جانباً سلبيا من النقد إذ عد من مسلمات الثقافة السائدة ببعدها عن الروح الحقيقة للنقد، وهذه الفكرة في بدايتها عن هذا النقد برزت في مقالة الالماني اليهودي تيودور أدورنو عنوانها (النقد الثقافي والمجتمع)، ثم ظهر فنسنت ليتش الذي حدد طبيعة العلاقة بين النقد الادبي والنقد الثقافي، إذ أشار الى ان النقدين مختلفان، لكنهما يشتركان في بعض الاهتمامات، إذ يمكن لرواد الادب ومثقفيه أن يمارسوا النقد الثقافي دون أن يتخلوا عن اهتماماتهم الادبية (viii) وقد أضاف فينست اموراً أخرى منها تحديده لمعالم النقدالثقافي فقال: " إن اهتمام النقد الثقافي لا يتقصر على الادب المعتمد، أنه يعتمد على نقد الثقافة وتحليل النشاط المؤسسي بالإضافة الى اعتماده على المناهج النقدية والتقليدية، إنه يعتمد على مناهج مستقاة من اتجاهات ما بعد البنيوية كما تتمثل في اعمال الباحثين مثل: بارت ودريدا وفوكو " (ix) .

أعاد النقد الثقافي في رحلة تبلوره – بوصفه فعالية نقدية- للنصوص الادبية اهميتها الثقافية، بتبديل المعايير الجمالية بمعايير ثقافية، فصارت هي المفاتيح للولوج الى عوالم المعاني والانساق الثقافية في الخطابات الادبية (x)، غير إن ذلك لا يعني إن النقد الثقافي لا يعد نقداً تكاملياً أفاد بالكثير من المناهج النقدية الحداثية كالمنهج التكفيكي والاجتماعي والنسوية والنفسي والخطاب الاعلامي، ولاسيما البنيوي، إذ امست ابحاث سوسير في اللغة انطلاقة للعديد من الدراسات التي درست مفهوم النسق باعتباره مفهوما عاماً يتداخل في حقوق معرفية عدة ومختلفة، فالبنية عنده عبارة عن " نسق من العلاقات الباطنة له قوانينه الخاصة .. من حيث هو نسق يتصف بالوحدة الداخلية والانتظام الذاتي، على نحو يفضي فيه اي تغيير في العلاقات الى تغيير في النسق نفسه " (xi)، فضلاً عن ذلك شاع على مفهوم النقد الثقافي نوع من الخلط بينه وبين المناهج النصية السياقية التي تدرس النص عبر السياقات الخارجية التي تولد بها غير إن " المناهج السياقية ينصب اهتمامها على خارج النص أما النقد الثقافي فيولي اهتمامه بمعطيات النص، وما يتحقق فيه من أنساق ثقافية تشمل السياقات الداخل نصية التي تحيل الى السياقات الخارجية، وفرق بين أن تدرس النص وفق ظروفها المحيطة بها من دون التعمق بالظاهرة نفسها، وبين أن تدرس الظاهرة من داخلها ولتفسيرها والظروف المحيطة بها " (xii).

الانساق الثقافية في قصيدة خذني الى المسجد الاقصى

استطاعت القصيدة الفلسطينية أن تؤسس " للوجود بواسطة الكلام "(xiii)، لذا تكاد تكون جميع قصائد الشاعر الفلسطيني منطبعة بالأيدولوجية الفكرية للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني على وجه التحديد، وما يندرج تحتها من أفكار المقاومة التي تضم صورة الكفاح وصورة المحتل، فضلاً عن التساؤل المكتسي بالعتاب واللوم، والذي يكاد أن يكون عاماً، أين بلاد العرب اوطاني وكل العرب اخواني؟ لذا تعد القصيدة الفلسطيني بشكل عام، وقصيدة (خذني الى المسجد الاقصى) على وجه الخصوص مجرى لمجموعة من الانساق الفكرية والثقافية التي قد يتعمد الشاعر وبالوعي في نقلها احياناً، وقد تُنقل بمجرى اللاوعي احياناً اخرى لأنها جزء من هويته الثقافية، ومن خلال الاستقراء في القصائد الفلسطينية نجد انها تخبر عن الثقافة السياسية والدينية والتاريخية، ثم الربط بين هذه الانساق وقضية الارض التي تستمد قوتها مما سبق، وعليه نجد في قصيدة أيمن العتوم (خذني الى المسجد الاقصى) الانساق تنقسم على النحو الآتي:

الأنساق الدينية: اجتمعت كل الايدولوجيات الفكرية أن الصراعات تنبع من اسس معينة منها الجغرافية، والسياسية، والدينية، القومية .... الخ، ولعل الدين والقومية يحتل جزءاً كبيراً من هذه الصراعات لاسيما الدائرة بين اليهود، والشعب الفلسطيني وهذا ما تتحدث به أهم القيادات اليهودية " إذا كنا نملك التوراة، واذا كنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة، فمن الواجب علينا أن نمتلك جميع الاراضي التوراتية " (xiv)، فهو قائم على الاحقية بالأرض المقدسة لليهود وبإقامة الهيكل المزعوم أنه مُبنى عليه المسجد الاقصى والذي يقتضي بطبيعة الحال الهدم للمسجد، وهو ما يهتك العقيدة الاسلامية التي ترى القدس ارضاً مقدسة تابعة لكل الاديان، لكن الاقصى هو جزء من الاحقية الاسلامية باعتبارها أولى القبلتين، ومسرى الرسول الى السماء، وقد وظف الشاعر الدين بسبل عدة متخذاً منها السبيل لمرور أنساقه، فأنقسم النسق الديني عنده الى قسمين:

أ – نسق الاستحقاق: أستمد الشاعر المعاني لأمداد نسقه الثقافي من القران الكريم ولاسيما قصة النبي موسى، فعمد الى التوظيف الكلي أو الجزئي لأجزاء الايات التي ذكرت القصة لوجود رابطة فكرية وموضوعية بين معنى الآية والسياق الذي يتحدث به الشاعر فضلاً عن رغبة الشاعر في إمداد فكرته بالقوة والاحقية المستمدة من آيات الذكر الكريم، إذ أنها " صلة قائمة بين نص ثابت بين أيدينا ونصوص سابقة، حيث تكون إما عضداً لهذه النصوص أو مناقضاّ لها، وذلك بتكثيفها وبتمطيطها أو أن يكون ممتصاً لهذه النصوص ويقوم بتكثيفها حتى تناسب مقاصده وتكون بذلك منسجمة مع بنائه " (xv)، فضلاً عن إن اللفظ القرآني " نص روحي مقدس ورؤية وقراءة مغايرتين للانسان والعالم، وكتابة جديدة غيرت طريقة الكتابة والتفكير لدى المتلقي " (xvi)، فقد أعاد الشاعر أيمن العتوم في أبياته صياغة الآية القرآنية بعد إخراجها من سياقها وتوظيفها في سياق تمده الآية بالقوة:

لا تَبرحِ الارضَ وأحمِ القدسَ والتحمِ 

وأنفث دماك على بوابةِ الحرم(xvii)

بني البيت الاول من الآية القرآنية (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ) (سورة الكهف 60 )، وجاء النسق الديني كاشفاً عن مدى الحضور القوي للثقافة الدينية في الفكر الاستحقاقي للمقاومة الفلسطينية والاصرار على الثبات وعدم بروح الارض المتمثلة بالقدس أولاً، وقد أراد الشاعر عبر التركيز على قصة النبي موسى العروج الى فكرة تكاد تمثل الثقافة لدى المجتمع الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي ككل، فكلاهما يريان أن الدين والنبوة يمدهم باستحقاق الارض، فاليهود يرون احقيتهم بفلسطين بحكم الاسبقية التاريخية لهم فيها وأن نبيهم قد عرج اليها واستقر، بل إن كتابهم الذي نزل على نبيهم موسى عليه السلام يعدهم بهذه الارض المقدسة، وهم على بهذا الاساس مستعدون لعمل أي شيء لكي يبسطوا سلطتهم ونفوذهم عليها وتحقيق هذه النبوءة، وفي مقابل هذه الصورة يرسم الشاعر فكرة البقاء نفسها وفكرة الثبات وعدم البروح والمقاومة عبر الثقافة ذاتها التي يدعيها اليهودي، وهو بذلك يكشف لنا عن الطبيعة الندية العنيدة التي تمثل المجتمع الفلسطيني من جهة، فاليهودي الذي يدعي قدسية هذه الارض، وأنها ملكه بحكم الاسبقية الدينية والتاريخية فيها، يرد عليه الشاعر أن له الحق كذلك بنفس الحكم وذلك عبر إيراد قصة نبيهم في كتاب المسلمين المقدس وفي هذا تحفيز غير مباشر من الشاعر لشعبه بأن يستمروا بالصمود كما صمد موسى ولم يبرح الارض وقد أيده القراين الكريم بذكره لهذه الواقعة، فضلاً عن ذلك عكست هذه الآية ثقافة معينة ايضاً وهي ثقافة الاستحقاق والثقة التي يشعر بها الفلسطيني والتي أبدت لليهودي عدم احقيته حتى بنبيه لا فقط هذه الارض، فهو مكرم عند المسلمين أكثر منهم، لذا فإن هذه الارض المقدسة مكرمة لدى المسلمين ويستحقونها أكثر .

وأخلع فؤادك بالوادي المقدس كي 

 يُقبلَ الارض من شوق ومن نهم (xviii)

يرجع بنا الشاعر بهذا البيت الى مشهد اسقاط النبوءة على موسى عليه السلام عندما أقترب من الوادي فوجد صوتاً يكلمه يقول: (إِنِّیۤ أَنَا۠ رَبُّكَ فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَیۡكَ إِنَّكَ بِٱلۡوَادِ ٱلۡمُقَدَّسِ طُوࣰى ) (طه ١١-١٢)، فالنبي موسى أُمر بخلع النعل لأنه سيدخل الى أرض مقدسة، وكذلك الحال مع الشاعر يأمر بني جلدته بخلع أفئدتهم لأن هذه الارض لا تُسترجع ألا بالأفئدة القوية التي تشتاق الى الحرية، وهذا انعكاس على نسق البطولة والتضحية المتمثلة بالبذل لكل ما هو نفيس .

ب: نسق الثبات والمقاومة: فضلاً عن توظيف الشاعر للآيات القرآنية في أيصال الايدولوجية الثقافية لشعبه، استعان أيضا بنسقه الديني بالاحاديث النبوية الصحيحة لبيان مدى صعوبة هذا التماسك وعدم الانفلات من الحبل الذي يصلهم بجذور هذه البلاد:

وأقبض على الجمر إن القابضين  

جمر البلاد أضاءوا عزة الامم(xix)

جاء التناص هنا من الحديث النبوية " والحديث الصحيح الذي رواه ابن ماجة والترمذي (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يأتي على الناس زمان الصابر منهم على دينه كالقابض على الجمر"(xx) يشبه الشاعر مدى الشدة والغربة التي يتعرض لها الفلسطيني في طريق الثبات بالقبض على الجمر الذي يحرق يديه مع الادراك بهذا الحرق لكنه غير ملتفت للألم فهو يصب جام تركيزه على الهدف بعدم ضياع الحق مهما كان الثمن، ولعله هنا يثير مدركاً صورياً أنياً عن ثقافة الغربة لفلسطين التي يبتعد عنها أغلب حكام العرب خوفاً أن تحرقهم نارها، فلا ناصر لهم غير الله فهم أصبحوا كالإسلام الذي أعطى لنا النبي الصورة الختامية لها، وهو الجمر الذي يبتعد عنه الكل لثقل الالم به، فالكل يجري وراء الهوى والملهيات حتى اصبح الدين كالنار التي تعيد الحقيقة المحرقة والثقيلة لنصب اعينهم وتحرق الآمال البعيدة لديهم.

كثيراً ما ارتبطت فكرة المقاومة لدى العرب بالخيل، فهو نسق وفكرة لبطولة المقاوم الفارس الذي يجيد احكام لجام خيله مع بطولة المقاتلة بيد أخرى، لكن صورة الخيل التي يتحدث عنها الشاعر صورة يشوبها نوع من النقص إذ لا فوارس تعلوها ولا لجام يحكمها فكيف بها ستحرر المسجد الاقصى:

كل الخيول بأوطاني بلا سرج  

فلا فوارس تعلوها ولا لجم

*

والخير بين نواصي الخيل منعقد

 إن قيل: يا خيل هذي الساح فاقتحمي

*

فمن يجيء بها للقدس عادية 

ضبحاً على صهوات العزم والهمم؟(xxi)

بدأ الشاعر صدر البيت بنسق ديني نبوي مستنداً الى الحديث النبوي الذي يذكر مناقب الخيل، إذ عن " عبد الله بن مسلمة: حدثنا مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" (xxii)، يحاول الشاعر العودة بنا الى صورة الامجاد الاسلامية والفتوحات التاريخية التي ترأسها الكثير ممن تحرر القدس على ايديهم أمثال عمر بن الخطاب وصلاح الدين الايوبي، فكأن الشاعر يحاول عبر صورة الخيل التي بلا لجم ولا فارس لكن الخير بنواصيها منعقد أن يشير الى المسلمين الذين مازالت قلوبهم حامية للقضية لكنهم محتاجون للقيادة الصحيحة الرشيدة التي تبث بهم العزم والهمة .

الانساق السياسية: برز الدين كنسقٍ مهمٍ في توجيه كثير من المجتمعات الانسانية ومشاركته الثقافية لها في آدابها وفنونها، وتلاها النسق السياسي الذي لا يقل اهمية عن النسق الديني بفعل الوظيفة السلطوية له في توجيه المجتمعات الانسانية عبر سن القوانين والقرارات، لذا فهو " نسق وظيفي يدخل ضمن إطار الانساق الوظيفية ..... وتأتي هيمنة النسق السياسي في الحياة البشرية لاقترانه بنسق السلطة، فلا يمكن ان تكون السياسة نسقاً فاعلاً إلا حينما يكون هناك علاقة تبادلية بين السلطة والسياسة "(xxiii)، استمدت سياسة الاحتلال في فلسطين وظيفتها السلطوية عبر الاعتراف الصريح والواضح لها بالتأييد لحق الارض لها من السلطات المسيطرة على السياسة والاقتصاد العالمي، فضلاً عن سياسة التطبيع لبعض الدول العربية والتي أمدته بالشرعية أكثر ؛ وقد كانت الثقافة الفلسطينية واعية بهذا وتعرف طبيعة العدو التي تعاركه، فقد وجدنا الشاعر أيمن العتوم يشير الى ذلك عبر مجموعة من الانساق الفرعية التي تناولت:

نسق شخصية المحتل: استطاع الشاعر عبر توظيف الاتجاه النفسي التركيز على نقاط دقيقة في شخصية المحتل اليهودي، ولعله عبر هذه الطريقة يعبر عن ثقافة الادراك الواعي والتام بطبيعة العدو، فهو عبر معرفة تفاصيل شخصيته يستطيع التعامل بشكل مثالي معه ومعرفة نقاط ضعفه:

أطفالنا بصواريخ العدى سُحقوا 

على يدي حاقد بالقتل منتقم

*

هي الأفاعي إن أغراك ملمسها

 فليس تنفث غير السم في الدسم

*

لايسمعون سوى قرع السيوف

ولا يخاطبون بغير النار والضرم

*

وليس يرعبهم شجب بمؤتمر

 ولا اجتماع، ولا الف من القمم(xxiv)

نلاحظ عبر التركيز على الابيات تشخيص الشاعر لشخصية العدو بمجموعة من النقاط، أبرزها الحقد، الانتقام، الخداع، الجبن، وقد لا تخلو كل معركة من سقوط ضحايا ابرياء، لكن تعمد طرف معين بقتل هؤلاء الابرياء بغية الانتقام هذا ما تنافيه كل القوانين التي نص عليها حقوق الانسان، وهذا ما يعد اضطراباً نفسياً في شخصية العدو الذي أعمته نار الحقد وبادر الى قتل النساء والاطفال بغير حق يذكر، ولعل الحقد والانتقام من شيم الجبناء ولهذا ذكرهم تمهيدا للسمات الاخرى في شخصية العدو فهم ممن يتفقون على عهود السلام ثم ما يلبثون الا ان ينقضوها كالأفعى التي تبث سمها في الدسم، فقد تميزوا بالغدر والجبن، فليس لهم لغة غير لغة الحراب والسيوف يفهمونها، إذا لا يردعهم اي صلح سياسي يعقده العالم الا المواجهة والندية معهم.

نسق التطبيع مع المحتل: إن ظاهرة تطبيع بعض الدول العربية مع اسرائيل أثارت حفيظة الفلسطينين من جهة وحفيظة الدول العربية الاخرى من جهة، والتطبيع كمفهوم إنما هو " قبول دولة معايير دولة أقوى منها في تحديد ماهو الطبيعي، بمعاير المصلحية التي تراها طبيعية " (xxv)، إن هذا النسق عبر عن فكرة الجسد الواحد الذي تمسك به الفلسطينين بأتجاه البلدان العربية، وقد تفاجأ الفلسطيني عندما صار الاعلان واضحاً للدول المطبعة بهذا التطبيع، وشعر كأنه تُرك في وسط المعركة لوحده دون ناصر او نصير، فنرى أن نسق التطبيع عند الشاعر قد ساده شعور الخذلان، الخيبة، اليأس، واللوم، والخيانة، فكان واضحاً عندما يقول:

أم الشهيد وما فينا بطولته  

ولا لدى العرب غير الشجب والكلم

*

والله... والله.. ما في العرب لو حشدوا 

مليون مليون غير العد والرقمِ

*

لوكان فيهم رشيد واحد رشدوا 

 لكنهم كغثاء السائل العرم

*

والحالمون بترويض الذئاب كمن

  يروض الذئب في شعب من الغنم

*

نمد كفاً الى كفٍ ملطخة 

 وكم تصيح بمن هم عنك في صمم(xxvi)

يرسم الشاعر مجموعة من المشاعر والافكار التي تدور في المجتمع الفلسطيني، ونظرتهم التي تغيرت كثيراً عن سابقتها، وهذا التغيير ساده الاحباط فما عادوا ينتظرون ناصراً فكل الاعتماد أضحى على أنفسهم في مقاتلة العدو، فالشاعر يصور لنا عبر هذه الابيات مقدار الحرقة التي يشعر بها أتجاه المواقف المتمثلة بالشجب والانكار، والتي لا تناسب حجم المهول الواقع عليهم، ولعل الشاعر في ذكره الحلم التابع للعرب المطبعين يحاول بناء نوع من السخرية، إذ أن مبررات التطبيع التي ظهرت حال توقيعها والتي تمثلت بحجة السلام وأن الشعب الفلسطيني لن ينالها بالعراك والقتال، فيأتي الشاعر ليذكرهم أن الذئاب لا تروض بخاصة اذا كانت اطماعه في متناول يده ونصب عينه .

النسق التاريخي: تطرق الشاعر الى التاريخ ليبعث شخصيات كانت لها أثرها الواضح في تأريخ الامة الاسلامية وامجادها، فأتى التاريخ متجلياً على" مستوى الشخصيات المشهورة التي اغلبها لا تحتاج الى تعريف، ويهدف الشاعر من استدعائه للتاريخ الى تعرية واقع الخيبة والسواد الذي يخيم على الذات العربية " (xxvii):

غداً تعود الى ساحاتها ألقاً 

خيل المغيرين من أحفاد (معتصم)

*

ونلتقي (بصلاح الدين)، موعدنا 

حطين ثانية في ساحة الحرم(xxviii)

يوظف الشاعر تقنية الاسترجاع عبر إحياء شخصيات تاريخية كان لها الأثر الواضح في القضية الفلسطنيية قديماً، ولعله بذلك يحاول أن يُجري نسق طلب النصرة بعد فقدان الامل والخيبة التي عاشها ويعيشها من الخذلان التي ارانا اياه في نسق التطبيع، فضلاً عن احتفاظه ببصيص أمل عبر هذا الاسترجاع، فهو يريد التذكير بمن هم العرب وكيف كانوا سابقاً، ويبث من خلال شخصية المعتصم وصلاح الدين نسق شحذ الهمم لتنهض مجدداً وتدرك انها تستطيع اعادة معركة حطين معركة عمورية مجدداً التي انتصر بها المسلمون على الصليبين، إذ يستطيع عبرها مجدداً المسلمون الانتصار على اليهود .

***

م.م زينب احمد محمد علي

جامعة كركوك / كلية القانون والعلوم الانسانية

..........................

اقدم لك الدراسات الثقافية: فريدون ساردار وبوردين فان لون – تر . وفاء عبد القادر، المجلس الاعلى للثقافة، مصر، ط1، 2003 (i)

(ii)

ينظر: مقدمة في النقد الثقافي التفاعلي: أمجد حميد التميمي، كتَاب ناشرون، لبنان، 2010م، ط1، 16 (ii)

ينظر: م.ن: 25(iii)

: م.ن: 25(iv)

ينظر:: الأنثروبولوجيا الثقافية – علم الانسان الثقافي: ابراهيم ناصر، جمعية عمال المطابع التعاونية، عمان، الاردن، ط1، 1982: 113 (v)

النسق الثقافي في خطاب المبرد النقدي، قراءة ثقافية في كتاب(الكامل في اللغة والادب): سامي شهاب احمد، مجلة جامعة كركوك/ الدراسات الانسانية، م 12، ع 3، 2017م: 11 (vi)

ينظر: م.ن: 27 (vii)

ينظر: دليل الناقد العربي: د. ميجان الرويلي، د . سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، ط1، 2002 م: 306ا (viii)

306 م.ن: (ix)

ينظر: رواية فرانكشتاين في بغداد دراسة من منظور النقد الثقافي: علي الملا: 15 (x)

عصر البنيوية من ليفي شترواس الى فوكو: أديث كروازيل، تر . جابر عصفور، دار افاق عربية للصحافة والطباعة، بغداد . د.ط، 1985: 289 (xi)

رواية فرانكشتاين في بغداد، دراسة من منظور النقد الثقافي: علي الملا، مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، بابل، العراق، ط1، 2022: 35.(xii)

الشعر والوجود – جدلية الحياة والموت دراسة تحليلية مقارنة لماهية الشعر بين مارتن هيدجر وغاستون باشلار: مثنى ياسين صالح، مجلة اكليل للدراسات الانسانية، ع 12، كانون الاول، 2022م: 1579(xiii)

الاساطير المؤسسة للسياسة اليهودية: رجاء جارودي، دار الغد العربي، القاهرة، ط1، 1996م: 35 (xiv)

ظاهرة التناص في الخطاب الشعري الحديث، ديوان عولمة الحب . عولمة الحب أنموذجا: مدلل نجاح، مجلة علوم اللغة العربية وأدابها، العدد 4، 2012 م: 164 (xv)

الذات والمجتمع، دراسة في الانساق الثقافية: موج يوسف، أبجد للترجمة والنشر والتوزيع، العراق، بابل، ط1، 2022: 228 (xvi)

5 ديوان خذني الى المسجد الاقصى: ايمن العتوم، المؤسسة العربية للنشر والتوزيع، دمشق، 2009: (xvii)

5م . ن: (xviii)

5 م. ن: (xix)

(xx)سنن الترمذي: ابو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، دار الغرب الاسلامي، بيروت، لبنان، ط1، 1996م: ج3: 359

السابق: 11 م. (xxi)

الكافي: الشيخ الكليني، منشورات الفجر، بيروت، لبنان، ط1، 2007: ج5: 48: (xxii)

رواية فرانكشتاين في بغداد دراسة من منظور النقد الثقافي: علي الملا: 160، 161.(xxiii)

خذني الى المسجد الاقصى: 7، 8(xxiv)

زيارة القدس تحت الاحتلال: دعم للصمود أم تطبيع ؟: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يونيو 2012م: 3(xxv)

م . السابق: (xxvi)

الذات والمجتمع، دراسة في الانساق الثقافية: موج يوسف: 294 (xxvii)

. السابق: 11 م(xxviii)

 

قراءة في قصيدة (حضور في سفر التكوين).. للشاعرة "سمية جمعة".

سمية جمعة – أديبة من سوريا – مدينة تدمر – إجازة في اللغة الإنكليزية + دبلوم تربوي. عشقت ومارست الكتابة منذ الصغر – وكانت لها مشاركات مدرسيّة – وهي تكتب في كل الأجناس الأدبيّة - لها مشاركات أدبيّة في القصة القصيرة جداً والشعر – حازت على المركز الثالث في مسابقة القصة لأوسكار المبدعين العرب.

صدر لها:

1- كتاب صادر مع مجموعة من الأدباء السوريين، بعنوان: قلب واحد.

2- كتابان إلكترونيان في شعر الهايكو – وهما فراشة مثلي، وخلف الستار.

3- مجموعة قصصية بعنوان: عند مفترق الدهشة.

4- كتابان في الشعر: لهفات الفؤاد، وعابر في ليل البنفسج.

5- كتاب خواطر نثريّة بعنوان: أرض اليباس، إصدار ديوان العرب.

6- ولها كتاب سيرة ذاتيّة.

7- وأخيراً كتاب (قصة قصيرة جداً) مع مجموعة من الأدباء السورين.

اخترنا لها من بين أعمالها الشعريّة في قصيدة النثر، قصيدة (حضور في سفر التكوين.). وهي قصيدة تحمل في مضمونها آلام الاغتراب ومعاناته عند الشاعر أو الأديب.

قصيدة النثر:

قصيدة النثر أو الشعر المنثور كما عرفناها في أكثر من دراسة، هي قطعة نثر، غير موزونة وتتوزع القافية إن وجدت في القصيدة في مناطق مختلفة من الابيات، وأحياناً تكون غير مقفاه، تحمل صورًا ومعاني شاعريّة وأغلبها تكون ذات موضوع واحد.

وبتعبير آخر، يمكننا القول إنّ قصيدة النثر هي ذلك الشكل الفنيّ الذي يسعى إلى التخلّص من قيود نظام العروض في الشعر العربيّ، والتحرّر من الالتزام بالقواعد الموروثة من القصائد التقليديّة، بالإضافة إلى ما تقدّم فقد عرفّها بعض الأدباء بأنّها عبارة عن نصّ تهجيني يمتاز بانفتاحه على الشعر والسرد والنثر الفني؛ ويتسم بافتقاره للبنية الصوتيّة الكميّة ذات التنظيم؛ إلا أنّ لها إيقاعاً داخليّاً منفرداً يمتاز بعدم انتظامه.

ومن أهم خصائص قصيدة النثر، 1- خلوّها من الوزن والقافية إلى حد كبير. 2- متحررة من الأنماط التفكيريّة المتسقة، وغالباً ما نجد بعض الغموض وصعوبة الفهم والتفسير في سردها وما يرتبط بها من قوانين وأحكام.3- هذا ويسود السكون نهايات الجمل والسطور والمقاطع في قصيدة النثر، وبالتالي إمكانية قراءة مفردات القصيدة الداخليّة دون الالتزام بالحركات، أي تعميم السكون على كامل القصيدة. وصفت من بعض النقاد بأنها (إسفنجية البناء والتركيب).

الاغتراب في الأدب:

إن الاغتراب في صوره وأشكاله المختلفة ليس إلا نتاجا لعجز الإنسان أمام قوى الطبيعة وقوى المجتمع في تحقيق ذاته، كما يأتي نتيجة طبيعيّة لجهل الإنسان بالقوانين التي تسير هذه القوى. ويعد الاغتراب ظاهرة إنسانيّة متعددة الأبعاد؛ ومن الصعوبة بمكان تحديد معناه في الاصطلاح تحديداً دقيقاً، نظرا لاختلاف استعماله في البحوث الاجتماعيّة والدينيّة والدراسات الفلسفيّة ومجالات النشاطات الثقافيّة والسرديات الأدبيّة وغيرها. بيد أن أهم تجليات الاغتراب، هو الاغتراب الناتج عن الفقد، وخاصة فقد الحبيب أو الحبيبة، وهذا يشكل عند المغترب حالات نفسيّة قلقة مشبعة بالحنين والشوق، وفي أعلى تجلياتها الوجد والهيام. هذا ويمكن استخلاص مفهوم عام للاغتراب يدور حول عناصر متقاربة كشعور الفرد بالعزلة والانفصال عن الذات، والانطواء على النفس، وعدم القدرة على مسايرة الآخرين، والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع، وعدم الشعور بالانتماء لأي مرجعيّة من مرجعيات الانتماء من الأسرة إلى الوطن.

انطلاقا من فهمنا للاغتراب في صيغته المشار إليها أعلاه، تأتي دراستنا لقصيدة (حضور في سفر التكوين). للشاعرة "سمية جمعة.

البنية السرديّة للقصيدة:

ها هي ساعات قليلة تمر من عمر الشاعرة" سميّة"، وكأنه دهر عندها، بسبب شوقها المحموم لحبيبها، هذا الشوق الذي يجعلها تحصي كل ساعة أو دقيقة أو حتى الثانية، تمر على فراقه دون أن يهل وجهه عليها بكل عظمته وبذاخة حضوره، إلا أن هذا الحضور قد تلاشى، وهي التي اعتقدت بأن حضوره عندها ليس عابراً، بل هو قديم وقد سجل بسفر التكوين.

إن غياب الحبيب وشوقها له، قد جعل كل تلك القصص التي اخترعاها معاً وكانت كوشم سريّ محفور على جدار قلبيهما، قد تحولت - بسبب غيابه وما شكله هذا الغياب من غربة للروح عند الشاعرة، بلا عنوان وبلا تفسير. تقول "سميّة":

أحصي سويعاتٍ

من العمر مرّت

دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ،

ذلك الحضور الذي سُجّل في

سفر التكوين.

كل القصص التي اخترعناها

كانت وشماً سرّيّاً على

جدار القلب....

بلا عنوان،

بلا تفسير.

ها هي تناجي حبيبها، الذي وصفته (بحادي العيس) الذي لا تعرف مكان وجوده، وقد ضاع في بيداء لغتها التي نالها العجز في مناجاته، فراحت تقول في سرها: أما آن لك أن تنشد موالاً، شجياً يليق بجمال حبيبتك وعمق شوقها وحنينها إليك.

يا حادي العيس في

بيداء لغتي،

أما آن لك أن تنشد موالاً

يليق بجمال الغيد؟.

تناجي الشاعرة "سميّة" حبيبها تقول له بلغة أشبه بالسرياليّة: (ها أنا... ألملمُ النعاس عن أهداب القصيدة. وتهزني دهشتي..تفك الحصار عن اللغة.. تُرديني في بئر التردد.. تزغرد أوردتي من وجع ما.).

إن هذا البوح المشبع بالغموض، نجده عند الذي يشعر بحالات عديدة من الغربة التي اجتمعت مع بعضها، جغرافيّة واجتماعيّة وروحيّة.. لتترك المغترب يعاني شكلاً من أشكال العناء الذي يتجلى عنده هذياناً وانكساراً في توازنه، يدل على حالة ضياعه واستلاب تفكيره وتركه يعيش حيرة الكلمات في صمت وحشته كما هي حالة الشاعرة "سمية":

ها أنا...

ألملم النعاس عن أهداب القصيد،

وتهزّني دهشتي،

تفكُ الحصار عن اللغة،

تُرديني في بئر التردّد،

تزغرد أوردتي من وجع

ما،

وأعيش حيرة الكلمات

في صمت وحشتي،

في مثل هذه الحالة من الغربة وما آلت إليه عند الشاعرة، بعد أن أدمنت غياب حبيبها، وأدركت أن غيابه لم يعد حالة عرضيّة في حياتها راحت تناجيه وقلبها مشبع باليأس والحنين وأطياف ذكريات اللقاءات الماضية معاً.. لقد أدمنت على غيابه الجسدي، ورغم طول هذا الغياب، إلا أن رائحة الأمكنة التي كانا يلتقيان بها أصبحت تكفيها لإشعال نيران الشوق والحنين عندها:

لم يعُد يعنيني غيابك...

فرائحة المكان وحدها

تكفيني

لتشعل الحنين في تنور

غربتي،

ارحلي...

فذاكرتي ملأى بأطياف

اللقاءات،

ومرآة الروح تعكس ما اختبأ من وله.

البنية الفكريّة للقصيدة:

تشكل حالة لاغتراب الجسدي والروحي والفكري والنفسي، جوهر بنية القصيدة، ففي الاغتراب، نجد حالات من الفقد الذي يأتي نتاجا لعجز الإنسان أمام قوى الطبيعة وقوى المجتمع في تحقيق ذاته كما بينا قبل قليل، وبالتالي هذا ما يؤلم الجسد والروح معا عند المغترب أو من مسه الاغتراب.

من هذا المنطلق جاءت قصيدة "سميّة جمعة" (حضور في سفر التكوين)، لتعبر عن مضمون الاغتراب وقسوته على الروح والجسد معاً وقد أجادت التعبير عنه في بنية القصيدة.

البنية الفنيّة في القصيدة:

نظراً لافتقاد قصيدة النثر كثيراً إلى فنيات الشعر العمودي والتفعيلة، إن كان في أسلوب سردها، أو موسيقاها، أو بلاغتها، أو محسناتها البديعية والبيانية، أو في تراكيب عباراتها.. وغير ذلك إلا أنها تحاول أن تعوض كل ذلك من خلال اعتمادها على الصورة الشعريّة كثيرا، الحسيّة منها والمتخيلة. وبناءً على ذلك جاءت قصيدة (حضور في سفر التكوين)، معتمدة كثيراً على الصورة الشعريّة بشكل يمنح بنية القصيدة طاقاتٍ جماليّةً تساهم في نقل التجربة الشعريّة من الوصف السردي المجرد، إلى بناء علاقات مجازيّة مبتكرة عبر اللغة والتخييل.

نعم... إن الصورة الشعريّة في قصيدة (حضور في سفر التكوين) لعبت دورًاً أساسيّاً في تكوين المعنى والبعد الجمالي في القصيدة، حيث اعتمدت الشاعرة على الصور الشعريّة المتخيلة كثيراً. مما أتاح للشاعرة استخدام مجموعة متنوعة من الصور البلاغيّة لخلق جو شعري خاص. عبر عن تجربة الشاعرة الداخليّة وعواطفها وأفكارها، وهذا ما أتاح للمتلقي فهمًا أعمق لموضوع القصيدة، رغم وجود بعض الغموض فيها كما بينا عند حديثنا عن البنية السرديّة لقصيدة النثر. إلا أن ذلك لم يمنع المتلقي من مشاركة الشاعرة تجربتها الشعريّة بشكل مباشر، وهذا ما خلق رابطا بين الشاعر والقارئ. وهنا نلقي الضوء على بعض الصورة التي أبدعتها مخيلة الشاعرة مثل:

(لم يَعُد يعنيني هذا الوقت.. ذاك الذي تيبّست فيه شراييني). (أحصي سويعاتٍ من العمر مرّت دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ،).( كل القصص التي اخترعناها كانت وشماً سرّياً على جدار القلب....). (تزغرد أوردتي من وجع ما).

اللغة في القصيدة:

لقد جاءت اللغة في القصيدة سهلةً، واضحةً، سمحةً، ناصعةً، وفصيحة، ومسبوكة الألفاظ، منسجمة مع بعضها في بنية القصيدة وخالية من البشاعة. فجودة السبك وبراعة صياغته وتسلسل عبارته وتخير ألفاظه وإصابتها لمعناها، كانت وراء سر فن التعبير في هذا النص الشعري.

الرمز والايحاء والاشارة في القصيدة:

إن توظيف الرمز في (قصيدة النثر) سمة مشتركة بين غالبيّة الشعراء على مستويات متفاوتة، مع تنوع عمق سيطرة الرمز أو بعض مفرداته كالإيحاء والاشارة على لغة القصيدة وتراكيبها وصورها وبنياتها المختلفة، فالرمز بشتى صوره المجازيّة والبلاغيّة والإيحائيّة هو تعميق للمعنى الشعري، ومصدر للإدهاش والتأثير وتجسيد لجماليات التشكيل الشعري.

إن ما يميز القصيدة النثريّة بشكل خاص، هو عدم طموحها على إبراز الوجدانيات والعواطف كثيراً في بنيتها، بقدر ما تطمح إلى التعبير عن نوع من فهم الواقع نفسه أو طبيعة الحدث الذي يشتغل عليه الشاعر. بيد أن الشاعرة "سميّة جمعة" استطاعت أن تعلي من شأن الحالات الوجدانيّة أو العاطفيّة. وبذلك عملت الشاعرة في قصيدتها النثريّة (حضور في سفر التكوين)، على نقل الواقع إلى آفاق تجارب شعريّة جديدة دمجت العالم داخلها ومنحته طاقة جماليّة عبر أبنية المجاز والرمز والإشارة. تقول الشاعرة:

(وصرتَ فيه أنت، أحجيةً معقّدة، تبحث عن تأويلٍ ضائع.). دلالة على أن الحبيب في غربته ضاعت ملامحه الجسديّة والروحيّة، حتى تحول إلى أحجية عند حبيبته.

(دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ، ذلك الحضور الذي سُجّل في سفر التكوين.).

إن الشاعرة تريد الاشارة إلى أن وجه حبيبها الذي رُسِمَ أمامها منذ فجر التكوين، قد غابت ملامحه اليوم بسبب غربته.

(وأعيش حيرة الكلمات. في صمت وحشتي، لم يعُد يعنيني غيابك... فرائحة المكان وحدها تكفيني).

إن الشاعرة ترمز هنا إلى أن طول غيبا حبيبها قد أو صلها إلى حالة من اليأس في عودة اللقاء، لذلك وصلت لمرحلة أصبحت فيه رائحة المكان الذي كان يلتقيان به يكفيها لبل شوقها وحنينها له.

الغموض في القصيدة:

إن ما يميز القصيدة النثريّة عند حديثنا عن سماتها وخصائصها هو الغموض، والسبب في ذلك برأيي، هو أن الشاعر يلجأ كثيراً إلى الصورة التخيليّة في التعبير، وأن التوجه نحو الصورة المتخيلة، يُفقد إلى حد ما ارتباط القصيدة بالواقع. من هنا جاء الغموض واضحا في بعض مفاصل قصيدة (حضور في سفر التكوين)، بالرغم من أنها تشير إلى هدف عام، ولكن يظل المتلقي من خلال ثقافته واهتماماته هو المعني بمعرفة هذا الهدف، تقول الشاعرة:

(ها أنا...ألملم النعاس عن أهداب القصيد، وتهزّني دهشتي، تفكُ الحصار عن اللغة، تُرديني في بئر التردّد،).

(يا حادي العيس في بيداء لغتي، أما آن لك أن تنشد موالاً

يليق بجمال الغيد؟.).

هنا يكمن الغموض من تداخل المعاني ولصقها ببعض ولا أقول ترابطها.

ملاك القول:

يظل لقصيدة النثر عالمها المدهش حقاً، فالحريّة في التعبير التي تمنحها للشاعر المتمكن من حرفته، تجعله يبحر في عالم من الإبداع في الشكل والمضمون.. فالحريّة القاعدة التي يرتكز عليها الإبداع.. الحرية وعي الضرورة وهذا الوعي لا تحققه في صيغته الإبداعية إلا قصيدة النثر، وإلى حد ما قصيدة التفعيلة.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد من سوريا.

........................

حضور في سفر التكوين

لقلم: سمية جمعة

لم يَعُد يعنيني هذا الوقت

ذاك الذي تيبّست فيه

شراييني،

وصرتَ فيه أنت،

أحجيةً معقّدة،

تبحث عن تأويلٍ ضائع.

أحصي سويعاتٍ

من العمر مرّت

دون أن يتهلل وجهي لحضورك الباذخ،

ذلك الحضور الذي سُجّل في

سفر التكوين.

كل القصص التي اخترعناها

كانت وشماً سرّياً على

جدار القلب....

بلا عنوان،

بلا تفسير،

يا حادي العيس في

بيداء لغتي،

أما آن لك أن تنشد موالاً

يليق بجمال الغيد؟.

ها أنا...

ألملم النعاس عن أهداب القصيد،

وتهزّني دهشتي،

تفكُ الحصار عن اللغة،

تُرديني في بئر التردّد،

تزغرد أوردتي من وجع

ما،

وأعيش حيرة الكلمات

في صمت وحشتي،

لم يعُد يعنيني غيابك...

فرائحة المكان وحدها

تكفيني

لتشعل الحنين في تنور

غربتي،

ارحلي...

فذاكرتي ملأى بأطياف

اللقاءات،

ومرآة الروح تعكس ما اختبأ من وله.

كتاب بديل دائم للكاتب الاردني طارق عودة، صدر العام 2025 عن دار الخليج للنشر والتوزيع-عمّان وهو مجموعة نصوص قصيرة يمكن تجنيسها بما يعرف بالأدب الوجيز أو أدب الومضة، لقد وضع طارق عودة عصارة تجربته وتأملاته في هذه النصوص القصيرة بمفرداتها المكثفة بمعانيها. وسنشير إلى البعض من هذه النصوص وقراءتنا لها.

Google-1 : في هذا النص يحاول الكاتب التنبيه إلى ما يُشبه البلادة التي بدأت تداهمنا من خلال انقيادنا الكُلي نحو محرك البحث “غوغل” الذي بالرغم من احتوائه على كمية من المعلومات – صحيحية كانت أم مغلوطة- إلا أن هذا الانقياد أفقدنا الكثير من حس المبادرة والابتكار والبحث عن الحلول والبدائل .فقط ما يتم تلقيمنا إياه من غوغل نأخذه ونسلم به دون بذل أي عناء او تقصي حقيقة ما يقدّم لنا.

2- نص فارق: جاء فيه “وجودكَ يحدث فارقًا؟كيف؟ يُربكني”.

بكلمات لا تتعدى أصايع اليد الواحدة يرسل لنا الكاتب إشارة مهمة وهي أن الأشخاص الذين قد نختلف معهم وعنهم، إلّا أنّ  وجودهم في حياتنا قد يكون ضروريًا. لأنه يحفزنا سلبًا أم إيجابًا.فوجود الشخص الناجح في حياتنا يربكنا طبعا ويحفزنا ربما لمنافسته والإقتداء به وكذلك  الشخص الذي يعيق نجاحنا فوجوده في حياتنا مربك حتمًا.

3- نص لو:  "لو علم أولئك الذين ذبحونا أننا بفضلهم أصبحنا في عالمٍ لا نرى فيه بشاعتهم ولا تطالنا فيه ترهاتهم، لحسدونا وتمنّوا لنا الحياة”.

في هذا النص يشير الكاتب الى السادية المتحكمة بذهنية القاتل الذي يرغب في تعذيب الآخر بشكل مستمر، وعليه فهو يحرص على عدم إماتتنا حتى لا يفقد لذته في التعذيب، ولا يمنحنا فرصة التخلص من همجيته، لذا فهو يرغب في إعادتنا للحياة ثانية ليعاود ممارسة ساديته وهمجيته علينا مجددا.

4- نص سَجِّلْ: في هذا النص يشير الكاتب إلى نوع من الإحباط والخذلان الذي يعصف بالكثير منّا. ولذا فهو يقول: ” سَجِّل أنا أخسر قبل أن أبدأ، سجِّل أنا خاسرٌ أوحدٌ ودائم”.

5- نص القدس: يعبر الكاتب فيه عما يختزنه من عاطفة تجاه هذه المدينة الأحب على قلوبنا جميعًا، فهي بالنسبة له “منارًا ونبراسًا، ويراها بالرغم من كل شيء صامدةً شامخةً، حتّى لو مرَّ عليها ألف حزنٍ ووجع فلا يراها إلّا قُدسًا”.

6-زيتٌ حُرّ: يروي لنا الكاتب كيف ان تاجر الزيت يخدع الزبائن ويوهمهم بأن زيته زيت حُرّ، ولكن كما يقال فإن طابخ السُمّ آكله، ففي طريق عودته تلدغه أفعى ولكونه لا يمتلك ولو قارورة صغيرة من الزيت البكر أو الحُر ليستعمله كترياق من أثر اللدغة فكان الموت من نصيبه.

7- نص نعيم الموتى: العبرة من هذا النص كيف ان البعض من الجيران يكونوا على خلاف أوتباعد في حياتهم، ولكن الموت جمعهما في حُفَرِ متجاورة، وكأنه يقول لنا أن ما تُفرقهُ الحياة وأطماعها يجمعه الموت وأكفانه.

8- نص إرتعاش: يقال دوام الحال من المُحال، فكم من شخص تباهى بقدرته البدنية وجبروته وثروته، وبالرغم من كل هذا ربما تخسف به الأيام وتجعله عاجزا حتّى عن إلتقاط صينية القهوة او كوب من الشاي بسبب ما يعانيه من ارتعاش في حركته.

9- بني عبس: المسألة التي يثيرها هذا النص أننا لا نزال أسرى موروثات وعقدِ تجعلنا نتخذ المواقف الخاطئة حتى ولو كانت مُضرة، كما فعلت عشيرة بني عبس بالرغم من اعترافها بفروسية عنترة ولكن لسواد بشرته لم ترتضِ ان يكون فارسها وقائدا لها “فلا يعقل أن يعلوَ فحمًا حريرًا”.

10- ماضٍ تليد:  يسلط الكاتب الضوء على التناقض بين السلف والخلف وعلى غياب مقولة خير خلف لخير سلف. ليحل محلها ما قاله أحدهم: أخاف من ابني أن يهدُمَ ما أبنّي.

11- طقم أسنان: بالرغم من مسحة الكوميديا فيه إلا انها كوميديا سوداء عندما نعرف ان البعض لا يوفر حتى الأموات كما فعل مُغسّل الموتى بانتزاع أطقم أسنانهم الصناعية للإستفادة منها.

12- فوق الحافلة: “رجل اعتلى سطح الحافة مع خروفه، ولكن الركاب فوجئوا بتسرب سائل إلى داخل الحافلة من الأعلى، فاختلفوا هل هو بولُ الرجل أم بولُ الخروف وكادت الواقعة ان تقع بينهم”.

أليس في هذا النص الكثير من الحقيقة المؤلمة التي لا زالت متحكمة بنا وتجعلنا نختلف على جنس الملائكة. دون الإلتفات إلى المشكلة الحقيقية؟

13- فكر وأفكار: النص يشير إلى أننا في عالمنا العربي تم تدجيننا على معاداة الفكر او حتى مجرد الرغبة في التفكير، فإذا تجرأنا وفكرنا ربما نكون قد كفرنا.

14- دولار: لقد أصبح المال والثروة هما هدف الإنسان ولو على حساب ثقافته وتعليمه المهم كمية المال التي يكتنزها وليس كمية وقيمة المعارف التي يكتسبها.

15- معجزة: مسألة التمييز العنصري أو التنمر كانت حاضرة في هذا النص حيث أن المعلمة لا ترغب في النظر إلى تلميذها فقط لسواد بشرته بالرغم من تفوقه بالدراسة.

16- اختيار: "الذهاب أحيانًا نجاةٌ، والإياب أحيانًا نجاةٌ، لكن لا نجاة في إجتماعهما”.

هي دعوة صريحة لنا بأن على الفرد أن يحدد خياراته والوسيلة التي توصله لتحقيق هدفه.وان لا يبقى متذببًا بين إفعل أو لا تفعل ولا تبقى خياراته متأرجحة او ملتبسة.

17- إجراء طبي: في هذا النص إمرأة عابت على الطبيب قيامه باستئصال رحمها وهي أم لعشرة أولاد. واتهمته بأنه حرمها من إتمام مسيرتها في الإنجاب.ولم تعد لحياتها نفعٌ كما تقول.

يبين هذا النص الثقافة الموروثة بأن المرأة تحقق ذاتها من خلال عدد الأولاد التي تلدهم ولو على حساب صحتها.

18-حراسة: النص يشير إلى مسألة الإتكالية التي يتصف بها بعض الأبناء وعدم تحملهم أية مسؤولية تجاه الأهل الذين رغم كبر سنهم لا يزالون يكدون لتأمين لقمة العيش لأبناءهم العاطلين عن العمل والمنغمسين في اللهو والملذات.

19- عفن الذكورة: نص يتطرق إلى ما يسمى بجريمة الشرف والتي غالبًا ما تكون ضحيتها المرأة البريئة التي تقتل ظلمًا بعد ان اتهمت زورا بشرفها. فلا بد من الاحتفال برجولة وشهامة الأب أو الإبن او الزوج لقيامه بغسل هذا العار الموهوم.

20- صلاة الإستسقاء: نص يبرز كم هم كثر من يتمسحون بالدين والتظاهر  بالتقوى ولكنهم يستثمرون هذ التظاهر لتحقيق مآربهم. وهذا ما فعله الشاب الذي تظاهر بالمشاركة في صلاة الإستسقاء ليتسنى له سرقة ما في حوزة المصلين الركع السجود.متمنيًا الإكثار من صلوات الإستسقاء كونها تشكل له موردا مالياً.

21- مشاركة حيّة: هي سمة قد تكون من السمات المشتركة في بلداننا العربية، وما يجري التندر بها وهيحقيقة. حيث أن الكثير من الأموات نجد أصواتهم في صناديق الإنتخابات، انها مشاركة حيّة بأبهى تجلياتها ودليل ساطع على وحدة النسيج الإجتماعي.

ختامًا هذه بعض النماذج من نصوص كتاب بديل دائم، قدّمها لنا طارق عودة بأسلوب سلس ولغة مسبوكة بمفردات قليلة ولكنها مكثفة بحيث تؤدي المعنى والمرتجى بأقل الكلمات، مصداقا للقول المأثور خير الكلام ما قلّ ودلّ.

***

عفيف قاووق – لبنان

دِراسةٌ نَقديَّةٌ لِمَجموعةِ ذِكرى لعَيبي القَصصيَّةِ (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ)

تقديـمٌ: لمَ يَعُدْ الخوض في مسار رحلة البحث الشَّاقَّة عن تجلِّيات هُويَّة صراع الذات والانتماء الإنساني في مواجهة عقابيل راهن الاغتراب الذاتي والوجودي الشَّخصيَّة أمراً سهلاً مُمكناً ومُستطاعاً لِمَن أرادَ البدء بالكتابة السردية، أو رام التعبير عنها قصصيَّاً وإبداعياً فيتمُّ له ذلك بِيُسرٍ وانتظامٍ لملاقاةَ العقباتٍ أو التحدِّياتٍ الراهنةٍ. وبالتالي يعدُّ عملاً منقوصاً غير مكتملٍ من الناحية الإنسانية والجمالية والمعرفيَّة ما لم يكن الكاتب ذاته صاحب الكتابة التعبيريَّة السرديَّة قد عاش نفسه مخاض حدث التجربة القصصيَّة الإنسانيَّة الواقعيَّة العسيرة المُتمايزة، وذاق جَمرة فعلها اللَّاهب وطعمَ مرارتها اللّاَذع، ولذَّة حلاوتها الشخصيَّة المتباينة بكلِّ أبعادها الإنسانية المتعدِّدة.

وذلكَ أنْ تعيش لتجربة الحيَّة المريرة ومخاضها الولادي الواقعي العسير غيرَ أنْ تسمع عنها شفاهياً فتكوُّنها أو تخلقَ منها عَملاً سرديَّاً وإنتاجياً متكاملاً. وهذا هو سرُّ الاختلاف البائن بين ساردٍ واصفٍ يعيش جوَّ تصوير التجربة خياليَّاً وسمعياً عن بعدٍ، وبين ساردٍ حاذقٍ وماهرٍ مَكينٍ عاشَ لظى وسعير جمرة التجربة، وخَبِرَ شِعاب طُرقها الإنسانية الكثيرة الوعرة، وعَركَ تشعُّباتها الكونية المتشابكة بالحراك الذي لا بُدَّ منه في مواجهة الذات الوجودية في ظلَّ هذا العالم الوجودي.

قِصصيَّاً هذا هو البعد التخليقي الفنَّي والجمالي المكنون إبداعياً، وسرُّ المعادل الموضوعي الدفين لواقعة الحدث الموضوعية لتي هي في الحقيقة ثيمة الفكرة الأساسيَّة لتمظهرات (الجامعة الإنسانيَّة) بكلِّ مسمَّياتها القريبة والبعيدة، والتي تميَّزت بها خاصيَّة فنِّ القصِّ السردي لهذا العمل الإنساني الصِرف والجريء وقعاً وفعلاً عن نظائره من الأعمال القصصية ذات الطابع الإنساني التقليدي.

لا لكونه عملاً إنسانياً حقيقياً فاعلاً ومباشراً لِلذات الأنويَّة الجمعية المُعذَّبة فحسب، وإنَّما كان حقَّاً عملاً فرائدياً مُعدَّاً ومُهيَّأً فكريَّاً لأكثر من فكرةٍ حيَّةٍ ناضجةٍ لوقائع موضوعية من موضوعات الحياة المعيشية التي تلامس شغاف القلب ونياط علائقه، وتُهيِّج شفاء الجرح الدامي المنكوء بالألم والتقرُّحات الجسدية التي استحالت إلى نُدبةٍ في نواة القلب. وليس هذا فقط ما يُميِّزه إدائياً، فقد كانت التجربة الشخصية الذاتية للكاتبة ذكرى لعيبي تسبق الفكرة أو الأفكارالقصصية المتوالية التي بُنيت عليها حكايات لائحة هذه العواطف والمشاعر الحقيقية في مواجهة الاغتراب الوجودي والكوني.

وهذا ما يمنح هذا العمل السردي المُلتقط بعنايةٍ واحترافيةٍ فائقةٍ من أبجديَّات الواقع وإرهاصات تداعياته ومخايله الداخلية التي ترتبط به وتنتج عنه أدباً واقعياً من خلال خاصيَّة فضيلةٍ التميَّزِ والاحتفاء الفنِّي وصيرورة النجاح الدائم التي تضمن لمثل هذا العمل الأدبي المُكتنز بلغته شكلاً ومضموناً روح الخلود والبقاء وديمومة التواصل الفكري الكبير مع القارئ الواعي والمتلقَّي النابه.

العُنوانُ شَاخصاً دَلاليَّاً:

التَّهميشُ والتَّغييبُ والسكوتُ عنه عن قصدٍ أو غيرِ قصدٍ مظاهرٌ سيِّئةٌ لمفاهيمَ مجتمعيةٍ عديدةٍ أفرزتها تجلِّيات ديستوبيا الواقع الحياتي القمعي الفوضوي الفاسد الذي ألقى بِظُلمه القاسي لبني الإنسان وعبث بحركة سعيه الاجتماعي والاقتصادي والعملي. والتي تُعيق وجوده الفكري والأدبي والتحرُّري المستقبلي نحو التعايش والتواصل الجمعي بطريقة لائقةٍ تضمن له سُبِلَ حرية العيش الكريم دون تحدياتٍ جمَّةٍ أو مواجهاتٍ عقيمةٍ، فتكونُ المشاعر الإنسانية والعواطف الجيَّاشة حيالَ ذلكَ الطارئ مُعلَّقةً على جُدران لائحة الانتظار وقائمة الفشل والنكوص والهزيمة الذاتية والانكسار الروحي والوجودي الأنوي في مواجهة تداعيات فعل الاغتراب وإشكالاته العقيمة المؤلمة للنفس.

ما تَقدَّم من طرحٍ يُشكِّل المعنى الدلالي القريب لشخاصيَّة العنوان الإثرائية، والتي من خلالها يتمُّ الكشفُ عن مرجعيات وظائفه (التعينيَّة والوصفية والإيحائية والإغرائية)، تلك الوظائف الفاعلية الأربع المهمَّة التي اقترحها جيرار جينيت في عتباته النصيًّة التي لها وظائفها التعريفية لمهمَّة، ولها الأثر الكبير في الدخول إلى مدينة القصِّ السردية ومعرفة مكامنها الوجودية. فمن خلال هذه الوظائف لا بدَّ من تعيين الأثر النصِّي للعمل الإنتاجي وتعقُّب دلالاته ومحتواه الكلِّي، ومنحه قيمةً فنيَّةً، وحضُّ القارئ وتحفيزه على الانجذاب إليه وإغرائه فكرياً على التواصل مع نصِّه الموازي.

فحينما يكون الأثر الأدبي جملةً اسميةً قائمةً بذاتها التركيبية والمعنوية مثل، (عواطفٌ على لائحةِ الاِغترابِ)، يكونُ العنوانُ جديراً بالمتابعة والاهتمام تحليلاً وتعليلاً وتأويلاً وتفكيكاً نصيَّاً لشفراته اللُّغوية السياقية والدلالية النسقية التي تُسهَّل مهمَّة المُتلقّي والقارئ في آليات التلقِّي القرائي والسياحة المعرفية والفكرية بِحِفْرياتِه الأثرية ولُقاه الجوهريةالثمينة التي تَجعله عملاً أدبيَّاً شاخصاً.

 (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ)، هي الّلَافتةُ الضوئيةُ والعتبةُ العنوانيةُ الفنيَّةُ المُشعَّةُ بتمايزها لهذه المجموعة القصصيَّة السرديَّة التي نحنُ بصددِ دراستها وتفكيكها للأديبة العراقية المغتربة الروح والجسد، ذات الأوجه الشموليَّة المُتعدِّدة الكتابة، الشاعرة والروائية والقاصَّة الكاتبة ذكرى لعيبي، والصادرة بطبعتها الأول عام (2025م) عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد/ العراق، ومن فئة القطع الكتاب المتوسِّط الحجم الذي ناهز المائة والخمسين صفحةً من الناحية الكمية.

وتضمُّ موضوعات هذه المدوَّنة السردية ثلاث عشرةَ قصَّةً، كلُّ قصَّةٍ من هذه القصص لها واقعتها الفكرية، ووحدتها الموضوعية الحدثية الخاصَّة، والمُغايرة لنظائرها الأخرى من حيث نظام شخصياتها ووحداتها الزمانية والمكانية ووحدتها العُقدية وصراعها وفِعلِيَاتها الحدثية التي ترتبط ارتباطاً كليَّاً بنواة الوحدة العضويَّة والموضوعية لهذه المدوَّنة. وأنَّ أغلب شخصيَّات هذه المدوَّنة هُنَّ من النسوة المغيَّبات في الظلِّ وخلفَ الجدران المغلقة، وثلةٌ من العناصر الذكورية المؤثرة.

وفي التجنيس الأدبي تحديداً نستطيع القولَ، إنَّها مجموعة قصصيَّة سردية أنثوية تخصُّ هموم المرأة بامتياز ومن اللَّواتي يشعرن بالهزيمة التامَّة والانكسار الذاتي والرُّوحي والتراجع النفسي، وعدم تحقيق المأمول بالشكل الذي يوافق خطِّ رغباتهُنَّ الشخصيَّة وطموحهُنَّ الفعلي المستقبلي في الحياة؛ نتيجة عوامل وأسباب داخلية وخارجية جمَّةً؛ وإثر ضغوطات الحياة، والارتباط بالعادات والتقاليد الاجتماعية والعشائرية المتوارثة التي فرضت نفسها على كاهل حياتهُنَّ الذاتية.فضلاً عن الشعور بالفقر والفاقة والعوز والحرمان الاجتماعي والاقتصادي والتباين الطبقي والفكري الواقعي القائم.

وعلى الرغم من أنَّ شخصيَّات هذه المجموعة القصصيَّة الأنثوية تنتمي إلى بلدانٍ آسيويةٍ فقيرةٍ وعربية ومحليَّةٍ مسلمةٍ وغير مسلمةٍ، فإنَّ اللَّافت للنظر فيها أنَّ موضوعات هذه المجموعة القصصيَّة هي حكايات أغلبها حقيقية الوجود، ومستمدَّة من الواقعة السحرية للمجتمع، وإنْ امتزج بعضها بالطابع الخيالي الأسطوري الذي يُضفي عليها بُعداً فنيَّاً وجمالياً أخَّاذاً؛ لِأنَّ الكاتبة ذكرى لعيبي هي جزء لا يتجزأ من موضوعات هذه المدوَّنة وبطلة رئيسة من أبطال قصصها الفاعلية.

وقائعها، هي أشبه بمشاهد حكاياتٍ ميلودراميةٍ سرديةٍ بصريةٍ حيَّةٍ عاشتها الكاتبة بكلِّ تفاصيلها خلال مُدَّة إقامتها العملية الطويلة في دولة الإمارات العربيَّة، وتحديداً بإمارة الشارقة، وأثناء رحلتها الطبية العلاجية والاغترابية بالمنفى في ألمانياً، مضافاً إليها وَقَعاً كبيراً من حياتها الأوليَّة بالعراق.

فهذه التجربة الإبداعية الصادقة الفعل في معناها ومبناها التكويني تكاد تكون مزيجاً صوريَّاً بين تجلِّيات الواقع العربي الحياتي اليومي المألوف في رتابته، وبين حقيقة الواقع الغربي المغاير قانوناً ونظاماً وأخلاقاً وتعاملاً إنسانياً لافتاً. بل تكاد تكون هذه الرحلة القاريَّة توثيقاً عينياً وسيريَّاً ذاتياً لشخصيَّاتٍ أنثويةٍ مسحوقةٍ تسابقْنَ مع رياح التَّحدي وعركْنَ يدَ الزمن التي طالتهُنَّ وذُقْنَ مرارة شظف العيش وقيود حرية التحرُّر من ظلم الإنسانية وقسوة أنظمتها الاستبدادية التتابعية الحاكمة.

وعلى الرغم من كلِّ هذه الانحسارات والانكسارات الذاتية المتتالية التي واجهتها شخصيَّات هذه المجموعة من عواقب وأزمات وتحدَّيات وصعاب وانتظار طويل على قائمة الركون والإهمال والتهميش المجتمعي والشعور ذاتياً بالدُّونية فاقت حتَّى الأنظمة والقوانين، فإنهُنَّ برغم المرارة والوجع والفزع النفسي لم يفقدْنَ أبداً الأمل بالحياة والإنسانية في تحقيق الذات الوجودية الطامحة.

إنَّ هذا الشعور الحياتي بالتشتت والرغبة الشديدة بالإقدام في حياكةِ خُيوطِ الشَّمسِ لمَنْ رامَ الوصول إلى عُلاها بشتَّى الطرق والمنافذ الإنسانية والاجتماعية المناسبة، كدَّاً وتعبَاً ونَصَبَاً في كسر صخرة سيزيف وتحطيمها إرادياً وفعليَّاً بهذا الصبر والجَلَدِ والإصرار العجيب في نيل المطالب والتمنيات كما يُلَوُّحُ إلى ذلك المشهد الهَاملتي الدرامي (أكونُ أو لا أكونُ)، (وإلَّا فَلَا لَا).

كُل هذا الشعور الإنساني العالي الهمَّة كان مزيجاً من الألم الدامي وفُيُوضات من نثيث الأمل الشفيف المتنامي، هو النسق الدلالي العميق والخفي المضمر البعيد الذي يغمر طيَّات هذه المدوَّنة، ويكشف آفاق وبواطن نسيجها السردي العميق الذي اشتغلت عليه الكاتبة في مركزية اشتغالاتها الفكرية والموضوعية، والتي أعطت هذا العمل الأدبي ميزةً إبداعيةً وجماليةً على مستوى الجامعة الإنسانية الكبرى للوجود الجمعي المشترك، والتي تجمع بين أبطال وشخصيَّات هذه السرديَّات الموضوعية المتباينة، والتي هي تعضيد للحياة للحياة الإنسانية بكل جوانبها وأبعادها المُختلفة.

وبالتالي هذا هو المعنى الحقيقي لتجلِّيات العنوان القريبة والبعيدة التي تصيَّرتْ ثِيمٌ وَقائعهِ الكونية إلى عواطف ومشاعر فائرةٍ مُوَّارةٍ لا تعرف الفتور والقنوط برغم من أنها تشعر بالتشظي والتشرذم والاغتراب الشخصي على لائحةالانتظار.وتأتي عتبة الإهداء لتكشفَ حقيقةَ الوجد التواقة لشخوص هذه المجموعة في تحقيق الحلم، لكنَّ خبايا القدر المحتوم وسهامه قتلت الحُلُمَ ورؤياه.

إذنْ -وباختصارٍ شديدٍ-إنَّ المعنى الدلالي القريب للعنوان يوحي بوجود عواطف ومشاعر إنسانية كبيرةٍ مُهتاجةٍ تعيش حالةً من الانفصال والاغتراب الذاتي الكبير، وقي الوقت ذاته تركِّزُ رمزية العنوان على الحالة النفسية والإنسانية لهذه الشخصيَّات المختارة لبنية هذه المجموعة التي تعاني من الحرمان الإنساني المجتمعي ورافديه الوجع والاغتراب وتأثير ه على عواطفها ومشاعرها.

أمَّا المعنى الدلالي البعيد للعتبة العنوانية (عَواطفٌ عَلَى لَائحةَ الاِغترابِ) فإنَّه يَعدُّ الاغتراب كحالةٍ وجوديةٍ أو حالةٍ إنسانيةٍ عامةٍ، حيث تُعاني هذه الشخصيَّات الأنثوية من مشاعر التشتت والانفصال أو العزلة الفردية في مختلف جوانب الحياة اليومية الضَّاجة بالمفارقات الإنسانية. لذلك فإنَّ العنوان يوحي ويُلوُّح سيميائياً بأهمية البحث عن الانتماء الوجودي وأصل الهُوية في مواجهة تحدِّيَات الاغتراب والانفصال الذاتي الذي يُسيطر على هواجس تلك الشخصيَّات وأفكارها الذاتية.

تَجلِّياتُ رِحلةِ البَحثِ عَنْ هُويَّةِ الانتماءِ:

وقَبلَ أنْ نخوض العمل في تناول التجارب الحيَّة الشخصيَّة لأبطال مدوَّنة (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ)، وكيفية التعامل مع مشاعر الاغتراب الوجودي والنفسي والتغريب الذاتي، والكشف عن قصص هذه العواطف والمشاعر الإنسانية المائرة في سياق قضية الاغتراب لا بُدَّ من أنْ نفهم هُوية الانتماء المفقودة في مواجهة هذا الذي يسمَّى الاغتراب النفسي والوجودي من خلال التساؤال التالي: ما مَعنى هُويةِ الانتماءِ الإنساني المفقودة التي يسعى في البحث عنها الإنسان في صراعه؟

وبأقصر الإجابات عن هذا التساؤل المشروع. إنَّ مفهم هُويَّة الانتماء المفقودة في مواجهة هذا الاغتراب الكينوني تُشيرُ نسقيَّاً إلى حالة الشخصيَّة الفردية أو الجماعية التي تفقد الإحساس كليَّاً بالانتماء إلى المكان أو المجتمع الذي تعيش فيه أو الثقافة المعينة التي تتعاطاها أو درجت عليها إثر شعورها بالاغتراب أو الانفصال عن جذورها البيئية أو أصولها المُحيطية والمكانية الضاربة.

أمَّا السؤال الآخر الذي يرتبط بالسؤال السابق الأول ويُلقي بنفسه على المُتلقِّي كي يفهم معنى تساؤله القصدي الإيضاحي، ما مفهومُ هُويَّة الانتماء المفقودة؟ وهذا يعني أنَّ هُويَّة الانتماء المفقودة بالشعور يمكن أن نفهمها شخصيَّاً على أنَّها فقدان الشعور الذاتي بالانتماء الحقيقي، وهذا ما نستشعره أو تحسُّ به الشخصيَّات المكافحة لهذه المجموعة القصصيَّة بفقدان الإحساس الوجودي لديهم برغبة الانتماء الجديد إلى المجتمع وحده أو الوطن الكبير أو الثقافة الحياتية البديلة.

فضلاً عن ذلك كلِّه ما يحصل للهُويَّة الشخصيَّة يمكن أنْ يؤثِّر فقدان هُويَّة الانتماء سَلباً على الهُويَّة الشخصيَّة لأفراد تلك الشخصيَّات شعورها بالذات. وهذا يؤثِّر أيضاً على حركتها الفواعلية ونكوصها في المجتمع. والحقيقة أنَّ لهُويَّة الانتماء المفقودة أسبابهُ ومسبباتهُ الكثيرة التي تجعله ظاهرة اجتماعيةً خطيرةً لا ببدَّ ممن مواجهتا فعلياً بدلاً من الهروب عنها.

فمن بين هذه الأسباب الشعور بالاغتراب الذاتي النفسي عن الأصول الأولية لتلك الشخصيَّات، فيحصل لديها شعور بالاغتراب عن الوطن الأصلي (المجتمع)، أو الثقافة اللَّصيقة الأصليَّة التي درجت عليها وتلبَّست بها عُرفاً وعملاً واكتساباً. وهذا بدوره قد يؤدِّي كثيراً إلى الشعور بفقدان هُويَّة الانتماء إلى الأصل وضياعها. كما أنَّ التغيُّرات الاجتماعية والثقافية الحاصلة في المجتمع أو الثقافة العامة يمكن أنْ تؤثِّر سلباً على شعور وإحساس الشخصيَّة الفردية برابطة الانتماء.

ولهوية الانتماء المفقودة في مواجهة الاغتراب في هذه المدوَّنة القصصية السردية تأثيرانِ مُهمَّان، أولهما: شعور شخصيَّات أو أبطال هذه المدوُّنة بعوامل الضياع والتشتت والتِّيهِ والانفصال عن المجتمع الأول أو النواة، والثقافة المجتمعية الأصلية كما مرَّ بنا في الإشارة إليها. وثانياً: قد يؤدِّي ذلك التأثير بفقدان هُويَّة الانتماء إلى بحث هذه الشخصيَّات عن بؤر انتماء أو استقطاب جديد أو إعادة التعريف بالهوية الشخصيَّة المفقودة بحسب ما تجده ملائماً لحياتها التحوُّلية الجديدة .

وإزاء هذا التأثير السلبي لا بُدَّ من مواجهة حقيقية لعوامل الاغتراب والبحث عن هُويَّة الانتماء المفقودة التي يناضل من أجلها الفرد ويخاطر بنفسه، ولا يمكن أنْ يواجه هذا السبيل العاصف لذاته الوجودية إلَّا من خلال البحث عن كفية التوازن بين الانتماء إلى الثقافة الأصلية أو الشعور ببناء روابط جديدة مع البيئة الاجتماعية والثقافية المُتَبنَّاة الجديدة التي طرأت على خطِّ حياته بديلاً عنها.

ومُلخصُ القول الإيجازي للانتماء، إنَّ رحلة البحث الطويلة عن هُويَّة الانتماء المفقودة في مواجهة ظاهرة أو مسألة الاغتراب الذي يُعانيه أبطال وشخصيَّات هذه المدوَّنة القصصيَّة (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ) بشكّلٍ دائمٍ، تُشيرُ موحياتها الدلالية ومظان قصصها الحكائيَّة الفاعلة، وتجريبها السردي الدرامي الذاتي والوجودي إلى مجموعةٍ كبيرةٍ من التَّحدِّيات والصِّعاب والعقابيل الحياتية الراهنة التي يواجهها أفراد وشخصيَّات هذه المدوَّنة القصصيَّة في كيفية الحفاظ على خطِّ توازن إحساسها ومشاعرها الشخصيَّة الصادقة بالانتماء الحقيقي في ظلِّ ظاهرة الاغتراب أو التغيُّرات الثقافية والتحوُّلات السريعة التي فرضت نفسها أصلاً على أرض الواقع البيئي والاجتماعي الجديد.

تَمثُّلاتُ مَظاهرِ مُواجهةِ الاِغترابِ الذَّاتيّ:

لم تكن مسيرة البحث عن فقدان هُويَّة الانتماء الأصلي الذاتي في مواجهة مظاهر الاغتراب النفسي والوجودي لشخصيَّات مجموعة (عَواطفٌ عَلَىَ لَائحةِ الاِغترابِ) عند الكاتبة والقاصَّة المثابرة ذكرى لعيبي أُسلوبيَّا تتخذُ طابعاً موضوعيَّاً تدويرياً رتيباً واحداً مُكرَّراً، وإنَّما كان لكلٍّ قصةٍ من قصص هذه المجموعة الثلاث عشرة قصةً، لها صفاتها الواقعية الحدثية المُميَّزة والمؤثِّرة موضوعيَّاً في عملية التلقِّي القرائي المعرفي والتراسل الثقافي الذي يجعل منها وحداتٍ موضوعيةً وفكريةً تُسهم في بناء ثقافة القارئ بناء سليماً وفاعلاً موصلاً لضفاف الحقيقة الفكرية.

وتكشف عن مدى الظلم الذي تُعانيه (الجامعة الإنسانية) من تَعسُّفٍ كبيرٍ وجحودٍ وانكسارٍ وخيبةٍ ووجعٍ دائمٍ وخسرانٍ مُبينٍ طالها من يدِ الزمن وجَوره القاتل الذي هو بطبيعة الحال بؤرة هذا العمل الأدبي القَصصي المَكين ومركزه الذي لا يقف عند حدٍّ من حدود الإنسانية ومظاهرها العديدة التي زخرت بها طيَّات هذه المجموعة وامتلأت حركتها الفواعلية المتنامية بعديدٍ من وقائع الأحداث الفعلية المؤثِّرة على سلوك وتصرُّفات شخصيَّاتها الارتكاسية المأزومة زمكانيّاً وبيئيَّاً.

لقد عكفت القاصَّة التأصيلية ذكرى لعيبي على تجسيد أرقى معاني الإنسانية وأحسنها اتِّصالاً بشخصيِّة الإنسان من أجل تحقيق هدف تكاملها الذاتي في العثور على هُويَّتها الوجودية وانتسابها للمجتمع الإنساني الذي يعاني من آفةٍ ويلات الاغتراب الذاتي التي تُطيح بأخلاقه ومستقبله وتطلّعاته الشخصيَّة على المدى الذاتي البعيد دون هوادةٍ.

على وفق ذلك الهاجس الاغترابي المُلِحِ أنَّ أبرز موضوعات هذه المجموعة القصصيَّة تسريداً وتعضيداً بأهمية الإنسانية وشخصياتها، يأتي التهميش والظلم والهزيمة والبحث عن الحُريَّة الذاتية من أهمِّ موضوعات هذه المدوَّنة، ويُكملهُ الشعور بالوحدة والفراغ وعقابيل تجارب الفشل التي مرَّت به الكاتبة في حياتها السيرية، التي هي جزء مهمٌّ ورافدُ مغذٍّ لها في تماهيه لكينونة شخصيَّاتها الأنثوية. فضلاً عن مشاعر الحُبِّ وسيل رسائل الانتظار العاطفي بلغة النثر الخواطري الشفيف.

وقد وردت بعض من شخصيَّات هذه المدوُنة الفواعلية ذكوريةٌ كما هو الحال في سردية شخصيَّة الحارس اللَّيلي الذي اُتُّهمَ غرائبياً من قبل ملك أو سلطان المدينة بأنَّه قاتل له في أحلامه. وقد تجسَّد ذلك في أروع تسريد حكائي خيالي. ثمَّ التفتتِ الكاتبة إلى أُسلوب التماهي في الحديث عن ذاتها الشخصية والسيرية خلال التقارب في سردها الارتحالي بينها وبين إحدى شخصيَّاتها الأنثوية التي تتلقَّى العلاج الكيمياوي في إحدى مشافي ألمانيا، وباتَ التفريق بين الكاتبة وشخصيَّة بطلتها صعباً.

وقد أخذ موضوع الحديث عن مُخيَّم النسوة اللَّاجئات الأسيويات وأوضاعهُنَّ الحقيقية الخاصَّة مِساحةً مهمَّةً وكبيرةً من وقائع هذه المجموعة المؤثِّرة إنسانياً في آليات التلقِّي السردية بالقارئ. ويخيَّل إليك أنَّ الكاتبة تعيش مظاهر الشعور الاغترابي نفسه وتشارك شخصياتها الأمل في تحقيق الحُلم المراد المنتظر. ويأتي الحديث عن فشل العلاقات الزوجية من صميم هذه السرديَّات؛ نتيجة الإهمال الذاتي والانجذاب لهُوَّية المثير الآخر في المحيط الاجتماعي والبيئي الجمعي المشترك.

أمَّا موضوعة الانصياع والتمسُّك بالعادات والتقاليد والأعراف العشائرية العراقية المتوارثة التي كانت سبباً من أسباب تخلف المجتمع وانحرافه السلبي، فهي من الموضوعات الداخلية الأخرى التي وظَّفتها الكاتبة توظيفياً إنسانياً حقيقياً متمايزاً؛ بوصفها ابنة الواقع الريفي الجنوبي والعشائري العراقي؛وكونها ذاتياً امرأة شيخانية ذاتَ حسبٍ ونسبٍ عشائريٍ عريقٍ وابنةَ شُيوخ وأصل عريقٍ.

وقد أعقب ذلك التسريد الواقعي الحديث عن فعل جريمة مُدبَّر بقتل شيخ عشيرة جنوبي كبير صاحب بختٍ وحظٍّ ومعروف النسب لها في مضيف أخية الشيخ؛ وذلك من خلال حكايته الإشكالية التي روتها ابنته، والذي تعاطفت معه الكاتبة وانشغلت ذاتياً في حقيقة وصدق هذا العمل المروُّع للإنسانية. ومن إفرازات هذا التقاليد العشائرية وسُنَنِها العُرفية المكروهة فعلاً واقعياً ما أنتجته بما يُسمَّى بـ (الفُصْليَّة) أو زواج الدم الذي كان من سرديَّات هذه المجموعة الجريئة في الطرح والتعليل والتأويل والبناء القصصي الذي عالجته الكاتبة بصدقٍ للكشف عن قَباحة ظلم هذا الفعل المجتمعي.

أمَّا الحبُّ والمشاعر والعواطف والأحاسيس التي كانت ظلَّاً لرسائل التواصل الاجتماعي، فهي الأخرى من مظان هذا التراسل السردي الإنساني بين الكاتبة والقارئ النابه للوصول إلى ضفاف الواقعية.وتختم الكاتبة موضوعات رحلتها الوجودية الحقيقية في مواجهة راهن الانتظار الاغترابي بمجموعة حكائيَّة مُختارة بعناية فائقةٍ من بين قصص الشخصيَّات الاجتماعية الذكورية والأنثوية المُهمَّة الوقع في مآثر المجتمع العراقي والعربي الفاعلة. تلك الشخصيَّات التي كانت تعاني التعب والإرهاق والفشل والقنوط والإحباط الشخصي وأزمات التنكر المرير؛ بسبب إجبار أفرادها على القيام بفعل مكروه لا تُحمد عقباه الأخيرة ونتائجه البينية الخطيرة ؛ لذلك لا بُدَّ من الثورة عليه.

وفي ظلِّ هذه القراءة السريعة التي ألقينا عليها الضوء الكاشف عن وقع تمثَّلات البحث عن هُوية الانتماء المفقودة في قصص هذه المدونة السردية الثلاث عشرةَ؛ ونتيجة لأهميتها الإنسانية والفنيَّة والموضوعية لا بُدَّ من الوقوف على تحليل نصوص هذه القصص الإبداعية والكشف عن معاناة شخصياتها وتفكيك جماليات حفرياتها الأسلوبية، ومن ثمَّ التعرُّف بعمق على تحليل وقائعها الحدثية والنفسية التوترية الظاهرة والخفيَّة في منافي الاغتراب الذاتي، معتمدين في ذلك على مرجعياتها.

1- قصة (أكاتشي)

تعدُّ قصة الفتاة (أكاتشي) من أبرز تمثُّلات البحث عن هُوية الانتماء الإنساني المفقودة والاغتراب الوجودي والنفسي وأولها مع ثلاث فتياتٍ آسيويات مُسلماتٍ، ورابعة أخرى من الديانة المسيحية وهُنَّ: (تشينو وأديسا وفيمي أيبيل)، من اللَّواتي كُنَّ يعملن في خدمة البيوت الخليجية بإمارة دبي؛ بسبب ضيق الحال والضياع الوجودي والفقر والحاجة والعوز والقهر الاجتماعي والاقتصادي.

ونتيجةً لكثرة المضايقات والضغوط والابتزاز والتحرُّش الجنسي، وتشابك المشاكل مع هذه الأُسرِ في الإمارات اضطررْنَ للبحث عن هُوَّيةٍ جديدةٍ مفقودةً وذاتٍ مُغيَّبةٍ فَقَدِمْنَ إلى ألمانيا من أجل الحصول على لُجوءٍ إنساني. ولكلِّ فتاة من الفتيات قصَّةً خاصةً وعجيبة تُميِّز سيرتها الذاتية عن غيرها، ومن تلك التي ترويها الكاتبة وتوثُّقها بصدقٍ عن أيبيل الفتاة المسيحية التي تعمل خادمة في أحد البيوت وقصتها مع الشاب أحد أبناء العوائل الخليجيَّة في إمارة دُبي وما فعله من انتهاكٍ وابتزازٍ وتَحرُّشٍ جنسيٍ بهذه الفتاة المسالمة التي أخفت ديانتها عن والده للاحتفاظ بعملها الخدمي:

"فَبدأتْ رِحلةُ الاِبتزازِ القَذرِ، بَينَ إخبارِ وَالدهِ، فَينهِي عَملهَا، أوْ التَّغاضِي بَشرطِ تَلبيةِ مَطلبهِ، وَلَمْ تَقوَ عَلَى فِعلِ شَيءٍ غَيرَ الرُّضوخِ لَهُ، الصَّادمُ وُصولُ الأمرِ إلَى أنَّهُ بَدَأ َيَدعو أصدقاءَهُ، وَكأنَّها أَمَةٌ مُستباحةٌ، فَثارتْ، وتَمرَّدتْ، وَحَاولتْ أنْ تَنتَحرَ مَرَّةً، وَأنْ تَقتُلَ اِبنَهُم مَرَّةً أُخرَى، فَساعدَهَا شَابٌ مِنْ نَفسِ جِنسيتِهَا بِالهَربِ والسَّفرِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاغترابِ، ص 13).

تبدأ رحلة البحث عن الذات حين التقت الكاتبة الساردة بهذه الفتيات الخمس التي تعرَّفت عليهنَّ من خلال الخادمة (أكاتشي) التي كانت على معرفة سابقة بالكاتبة في دبي، والتي كانت لها حكاية سيريَّة خاصَّة بها تعني لها الكثير. فَدُبَي بالنسبة للكاتبة والقاصة تعدُّ مدينةَ لقاء الأحبة ومفصل مفارقتهم:

"دُبَي...آهٍ دُبَي...الإِمارةُ الَّتِي تُسابقُ الرِّيحَ والتَّطورَ والبِناءَ وَالنُّموَ والتَّعميرَ وَجذبَ السُّوَّاحِ. دُبَي الَّتي طَبطَبَتْ عَلَى كَتِفِي، وَمَدَّتْ يَدَهَا لِي قَبلَ أنْ تَطالَنِي أيادِي الجُبنَاءِ لأتركَهَا مُرغَمَةً..." (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 6).وفي الجملة الأخيرة نسق ثقافيٌ خفيٌّ حقيقيٌّ يخصُّ جانباً مُهمَّاً من حياة الكاتبة وسيرتها الشخصيَّة التي ذاقت فيها علقم الاغتراب الذاتي خلال مدَّة وصولها لهذه المدينة.

فَدُبي هي المدينة التي تشكِّل هاجساً أوليّاً؛ كونها نقطة البداية الأولى التي انطلقت منها في رحلة البحث عن ذاتها الحياتية الشخصَّية القلقة، وعن أمالها وآلامها التي أخذت تتَّسع وتخبو، وتظهر وتضمحل. ما أقسى الفراق والضياع والتِيه حين يبدأ بلقاء الأحبة وينتهي بالترحال عنهم غصباً واضطراراً! مشاعر حقيقية تنتاب الكاتبة الساردة ذكرى، فتقول عند لقائها الأخير بالفتاة أكاتشي:

" شَمَمتُ عِطرَ المَدينةِ الَّتي أعشقُهَا، وَرَأيتُ بِملامِحهَا وُجُوهَ الأحبابِ الَّذينَ تَركتَهُم هُناكَ، مَا أقسَى المَسافاتِ الَّتي تَحكمُهَا أوجاعُ النَّفسِ والأمسِ!" (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص7).

وبعد أن خاضت الكاتبة في حِلِّها وتِرحالها الداخلي بالأمارات أكثر من محطَّة سفر وإقامةٍ استقرَّ بها الحال في إمارة الشارقة والعمل بها كَمُديرةِ تحريرٍ في إدارة مجلة (الشُّرطيُ الصغيرُ) الصادرة عن القيادة العامة لشرطة الشارقة. فراحت الكاتبة تبحث عن وجودها الذاتي والمستقبلي الكينوني في اللُّجوء الإنساني إلى ألمانيا، إبَّانَ جائحة كورونا (كوفيد19). والتي جمعتها مع النسوة بالذات:

"عَلَى أحدِ أَطرَافِ مَدينةِ (بَامبيرغ)، الوَاقعةِ فِي شَمالِ وُلايةِ بَافاريَا الألمانيةِ، يَقعُ مَبنىً ضَخمٌ مُسوَّرٌ بِأسلاكٍ شَائكةٍ، ذُو بَوابتينِ يَحرسُهُمَا مَجموعةٌ مِنْ رِجالِ الأمنِ الخَاصِّ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 3).

ومن بين الأسباب الأخرى التي جعلت ذكرى لعيبي أنْ تبحث عن أماكن ومثابات أخرى للاستقرار الحياتي والنفسي، هذا الحوار الذي دار بينها وبين الخادمة أكاتشي، وكان حوَّاراً حقيقياً مؤلماً للنفس الأمَّارة بالوجع والألم والإحباط والهزيمة والشعور بالتراجع بيدَ أنَّ لا مناص من تحقيق الذات:

"أنَا يَا أكاتشِي مِثلَكِ، أَيضَاً هُناكَ عُمرٌ يَضيعُ مِنْ دُونَ مُستقبلٍ، نَحنُ مِنْ بِلادِ الحُرُوبِ، وَأنتُم مِنْ بِلادِ الفُقرِ والجُوعِ، وَجميعُنَا نَبحثُ عَنْ بِلادِ الأحلامِ والأمَانِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِغترابِ، ص 9).

ومن اعترافات الكاتبة السيريَّة المُهمَّة التي سطَّرتها عن وعيٍ وإدراكٍ وبعفويةٍ تلقائيةٍ إنسانيةٍ مؤثِّرةٍ أحد أسباب هروبها من العراق ومجيئها للإمارات ولجوئها لألمانيا لرحلة العلاج الشخصيَّة:

"هَذهِ اللَّيلةُ أصابني الأَرقُ، وَمَرَقَ أمامَ عَينَي شَريطُ صُورٍ وَأحداثِ سَنواتٍ طَويلةٍ، بَدَأ مِنْ هُروبِي عَنْ بَلدِي مِنْ قُربِ ضَفةِ أحدِ الفُراتينِ، حَتَّى اِستقرارِي فِي الأُماراتِ فَترةً مِنَ الزَّمنِ، وَأخيرَاً لُجوئِي إلَى ألمَانيَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 6).

وعن مشاهداتها لمناظرالطبيعة الألمانية وظروفها المُناخية الماطرة تُسطُّر الكاتبة لعيبي من خلال تراسلها التسريدي لقصةِ أكاتشي مَشاعرَها الذاتية وثقافتها الشخصية المعرفية التي اكتسبتها من ثراء قراءتها واطِّلاعها على شعر (بدر شاكر السيَّاب) خَالدُ الذِّكرِ، وعن (أنشودةُ المَطَرِ) في قصيدة (شَناشيلُ ابنةُ الجَلَبِي):

 (يَا مَطَراً يَا حَلَبِي / عَبِّرْ بَناتِ الجَلبِي/ مَطَرٌ مَطرْ .. يَا شَاشَا عِبّرْ بَناتَ البَاشَا. ونتيجةً لشعورها الإنساني الضافي أنَّها ابنة شيوخٍ وأصلٍ وفصلٍ وعِزٍّ، وقد أزرى بها الدهر إلى منافي الغُربة والقهر والمَرض والمُعاناة، فقد التفَتَتْ إلى تحويرِ قصيدة السيَّاب؛ لكونها تشعر بغربةً قاتلةً فقالت متماهيةً مع مشاعر السيَّاب وغربته وحنينه لأهله وبيته جيكور ووطنه الكبير العراق:

"مَطَرٌ ... مَطَرٌ شَاشَا، تَغرَّبَتْ بِنْتُ البَاشَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 14 ). ويَلوحُ لي كثيراً، أنَّ النسق الخفي المضمر لعبارة (بِنتَ البَاشَا) هوِ الكاتبة نفسِها، ابنة شيخ العشيرة العام الباشا المشهود له بالوجاهة الاجتماعية والعشائرية القبيلة والرأي السديد والحظ والبخت والفراضة والحكم بالصلح والتراضي بين العشائر المُتخاصمة حول أمر جللٍ أو حادث ما حدثَ لها مع نظائرها الأخرى..

2- قِصَّةُ (عَواصِمُ الرِّيحِ)

عنوانٌ لافتٌ المعنى لقصِّةٍ مؤلمةٍ، إنّهاَ مُدنُ وعواصم المنفى التي تُشبه الريح العابرة بالنسبة لطالب اللُّجوء إلى هذه المدن الساحرة بجمالها ونظامها، والموحشة بوحدتها وفراغها. إنَّ الشعور بالاغتراب النفسي الذي لم تعتَدْ أو تتعود الساردة العليمة عليه؛ بوصفها امرأةً شرقيةً لها مذاقها الخاص في العيش والحياة الجديدة التي وطأتها قدماها وأصبحت ركناً مهماً دائماً لا يُغادر نفسها أو يخرج منها إلَّا للضرورة التي تستدعي ذلك الإقدام عليها دون تباطؤ أو إحجام يمنعها عنها:

"لَمْ أعتَدْ هَذَه الحَياةَ بَعدَ، هُدوءٌ حَذرٌ يُغلِّفُ المَنافَي، وُجوهٌ بَاردةٌ تَمامَاً كَبرودةِ الطُّقسِ هُنَا، شَوارعٌ شِبهُ خَاويةٍ مِنَ المَارةِ، رُكوبِ المُواصلاتِ العَامَّةِ الّتي لَمْ أُجربهَا فِي حَياتِي قَطٌّ... اِمرأةٌ وَحيدةٌ تُقاومُ هَذا الزَّمنَ الصَّعبَ؛ زَمنٌ تَضيقُ فِيهِ مَعالِمُ الأمانِ، إنَّه اِغترابٌ بِامتيازٍ.. تَوجُّسٌ يُذكِّرُني بِوَيلاتِ الحَربِ وَسنواتِهَا، الَّتِي عَلَّمتنِي كَيفَ أنقرُ عَلَى الرُّوحِ وَترَ هَذا العُمرِ بِترّوٍ. جِئتُ أبحثُ عَنْ مَلامحِ وَجهِ السَّلامِ الَّتِي ضَيّعتهَا دُخانُ القَنابلِ، عَنْ الضَوءِ وَالعافيَةِ، عَنْ نَوافذَ جَليلةٍ مُشرِعَةٍ. اَستجدِي الدِفءَ أحيانَاً مَعَ بَعضَ الأهلِ وَالَّصديقَاتِ والأصدِقَاءِ، وَقَدْ تَمُرُّ أيامٌ لَا أكادُ أُسمعُ صَوتِي، فَألجَأ إلَى حخَانةِ الذَّكرياتِ". (عَواطفٌ عَلىَ لَائحةِ الاِغترابِ، ص15).

وعلى لسان حال بطلتها تمضي الكاتبة في سرد حكاياتها ووصف حال المنافي التي تبحث عنها علَّها تُحقِّق جزءاً مُهمَّاً يعوض عن قلقها الوجودي واستقرارها النفسي، فتصف الحياة الجديدة وكيف يمكن الحصول عليها بقوانين وأنظمة صارمة ومشقة وطول انتظار وترقُّبٍ وحذرٍ شديدين:

"الِإقامَةُ المُؤقتةُ الِّتي لَا نَحصلُ عَلَيهَا إلَّا بَعدَ فَترةٍ زَمنيةٍ طَويلَةٍ مِنَ القَلقِ وَالانتظارِ وَالتَّرقُّبِ! ..تَصدُّعِ مَا تَبَقَّى مِنَ الغِطاءِ الَذي يُغلِّفُ أمنياتَنَا! أوْ بَعدَ رَحيلِ أهلِ وَأحبَابِي لَمْ نُعانقُهُم! أو بَعدَ اِنهيارِ العَافيةِ وَعًهودِ مَاضيه جَرفُهَا تَيارُ العَبَثِ وَالفُرَاقِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغتراب، ص 16).

وعلى الرغم من ذلك الحُلم المنشود والذي تسعى في الحصول عليه فإنَّها تعتبر الوصول إليه ضوضاء لا تعوض ساعة واحدة من لياليها. فالحبُّ طريق لا بُدَّ منه لتخطّي عقبات الزمن الجائرة ومواجهة تحدياته الراهنة التي تأكل القلوب، إنه مشكاة النور للعبور إلى أرض الضفة الأخرى:

"لَستُ بِخَيرٍ، تَكادُ الغُربةُ تَبتَلَعنِي، أنَا حَزينةٌ. المُشكلةُ لَا تَكمِنُ فِي الغُربةِ يَا صَديقتِي، بَلْ فِي الوَحدةِ، لَا بُدَّ أنْ تَتخذِي رَفيقَاً. أنتِ مَجنونَةٌ؟ صَحيحٌ أعيشُ فِي بَلدٍ أَجنبِيٍّ، لَكنْ مَا زَلتُ مُتمسكةً بِأخلاقِي. يَا حَبيبتِي تَفكيرُكِ ذَهبَ بَعيدَاً، أقصدُ تَرتَبطينَ فِي عَلاقةِ حُبٍّ أوْ زَوَاجٍ. زَواجٌ... تَجربَةٌ أخرَى! يَا قَلبِي مَنْ يَنظرُ إلَيَّ وَأنَا فِي هَذَا العُمرِ؟" (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 17).

ومن المشاهد الذاتية التي تعبر عنها الكاتبة على لسان حال شخصيَّة بطلتها، تجربة الزواج والارتباط بعلاقة حبٍّ ثانيةٍ توصلها إلى ناصية وِبرِّ الأمانِ والاستقرار فَتُبدِّدُ عن نفسها الوحدة وعامل الاغتراب والقلق الوجودي الذي تشعر به باستمرار في حياتها وهي تخوض غمارالطريق:

"مُنذُ زَمَنٍ طَويلٍ حَجَرتُ يَمَامَاتِ العَواطفِ وَالشوقِ دَاخلِ قَلبِي، كَيْ لَا تَقتَرِفَ التَّحليقَ ثَانيةً. بِالعكسِ صَديقتِي، كُلَّما تَقدمنَا فِي العُمرِ، نَكونُ بِحاجةٍ أكثرَ إلَى شَريكٍ يُؤنسُنَا، يُشارِكُنَا تَفاصيلَ الحَياةِ، نَتَحدَّثُ إليهِ، يَتحدَّثُ إلينَا، نَشرَبُ فِنجانَ قَهوةٍ مَعَاً، نَتمَشَى مَعَاً، نَمرَحُ، نَقرَأُ، نُسافِرُ... هُناكَ أشياءُ كَثيرةٌ مُهمَّةٌ فِي الحَياةِ غَيرَ (الفِرَاشِ)". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 17).

تجربةُ الحبِّ اتي تعاني منها بطلة هذه القصَّة والتي هي جزء من سيرة الكاتبة تمثِّل تجربةَ صراعٍ مريرِ معَ الحبِّ والخوف من الخوض بالذي رُبَّما يؤدِّي إلى الفشل والنكوص؛ لكن إيمانها بنفسها وبمن تحبُّ دفعها إلى المَغامرة الجديدة التي أقبلت عليها ولا تعرف الإدبار عنها مطلقا:

"قَرَّرتُ أنْ أتركَ سَكرَاتِ الفَنَاءِ، وَأحبِسَ الصَّمتَ الهَزيلَ، لِيَحُلَّ مَحَلَّهُ غِناءٌ مُفعَّلٌ بِروحِ المُغامرةِ الجَميلةِ، نَعَمُ سَأفعلُ هَذَا فِيمَا لَو اِتَّصلَ مَعِي مِنْ جَديدٍ. كُنَّا نُتابعُ بَعضَنَا عَلَى صَفحَاتِ الفِيسِ بُوك، نَتبادلُ الآراءً والتعليقاتِ عَلَى بَعض (البُوستَاتِ) الَّتي نَنشرُها، وَنتواصُل أحيانَاً بِالهاتفِ". (عواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 18)0

يمضي قارب الحبِّ في نهره الجديد متهادياً ينشد الوصول إلى ضفاف السلام الدافئ، بيد أنَّ هذا السلام العاطفي الرُّوحي صدَمَها عنيفاً في نهاية المطاف. فهي لا ترتضي أنْ تكون زوجةً (احتياط) لِعَلاقة حُبٍّ مؤقتةٍ، بل تسعى إلى أنْ تكون الأولى والأخيرة في بطانة قارب الزوجية السائر لمرافئ الأمان الزوجي والحياة الإنسانية التي لا روغان فيها أو تحايل على سُننِ الحُبِّ:

"صَفعتنِي فِكرةُ السيِّدةِ البَديلةِ وَغَرقتُ أُفكِّرُ، لَا أُحِبُّ؛ وَلَنْ أقبلَ أنْ أكونَ عُنوانَاً فَرعيَّاً، اِمرأةٌ احتياطٌ! سَيِّدةُ عَلَى هَامشِ الاِنتظارِ، كَعنوانٍ فَرعيٍّ في حَاشيةٍ حَياةِ أحدِهُم، . لَمْ يَكُنْ فِي أُفقِ طُموحِي هِكذِا طَرحٌ...". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِنتظارِ، ص 25).

كلُّ هذه المشاعر الفياضة تسير وتمضي عبر وسائل الاتصال الاجتماعي المتاحة، وهي تعيش الفشل والنجاح في منفاها البعيد بألمانيا. وقد وصل بها الحال إلى تخيُّل حالة ذلك الحبيب والكائن الروحي المنشود وهو يحنو إليها ويمدُّ لها يدَهُ في خاتمة القصِّة التي هي جزء من سيرة ذاتية مُعبِّرةٍ عن حقيقة بطلتها:

"فَمُدَّتْ لِي يَدٌّ، تَحسَّستُها؛ يَدُ رَجٍل خَشنةٍ وَتَحملُ قُوةً أحتاجُهَا، تَشبثتُ بِتلكَ اليَدِ دُونَ أنْ أنظرَ لِوجهِ المُنقذَ؛ خَوفَاً مِنْ أنْ يكونَ رَجلاً آخرَ قَدْ يُسببُ لِي جِراحَاً أُخرى قَادمَةً". (عواطفٌ علَى لاَئحةِ الاغترابِ، ص 28).

3- قصَّةُ (رَسائلٌ قَيدُ الاِنتظارِ)

في مُفتتح هذه القصَّة ألمحتْ الكاتبة ذكرى لعيبي بأنَّ جُلَّ رسائلها العاطفية التي هيَ قيد الانتظار والأرسال تعدُّ رسائلَ الحبِّ والمشاعر والوجد والهجران من طرفٍ واحدٍ وهي كما تقول أشبه أو:

"مِثلُ كَاتبةٍ تَكتبُ نَصَّاً جَميلَاً مِنَ الغَزَلِ لِرجلٍ وَاحدٍ يَقرأهُ الجَميعُ مَا عَدَاهُ، هَكذَا بَدَتْ رَسائلِي إليكَ..." . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 29).

في هذه القصَّة تنزاحُ الكاتبة القاصَّة إلى أُسلوب الخيال الممزوج بالواقع الحياتي المعيش عبر هذا العالم الافتراضي الجديد الواسع، فتكتب بلغةٍ شفَّافةٍ أقرب إلى لغة الشعر وأسلوب الشاعرية. إنها حكايات افتراضية على شكل خواطر حبِّ نفسيةٍ عميقةٍ تتماهى فيها مع من تحبُّ في تراسلها:

"كِلَانَا غَريبانِ، وَكِلَانَا نَحتاجُ أنْ نَتدفَأَ بِبعضنَا مِنْ بَردِ المَنافِي وَغَدرِهَا، الحُبُّ الكَبيرُ وَالحقيقيُّ؛ هُوَ الَّذِي لَا تُترجمُهُ جَميعُ مُفرداتِ اللُّغةِ؛ مِثلُ حُبِّي لَكَ، هَذهِ الرِّسالةُ العَاشرةُ كَتبتُها خِلالَ هَذَا الأُسبوعِ. اليَومَ وَأنَا أجلسُ فِي المُقهَى التُّركيِّ، هَلْ تَذكرهُ؟ المُقهَى الَّذِي اِتَّقفنَا أنْ نَلتقيَ عِندَهُ مُنذُ عَامٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص31 ).

الرسائل العاطفية التي هي قيد لائحة الانتظار، هي رسائل البحث عن الفرح المغيَّب داخل نفسها المهتاجة وقلبها النابض. وهي جزء كبير من مشاعر المرأة وفعلها الذاتي في التعبير عن الرجل الذي تحبُّه ولم تجده بقربها في سلسلةٍ كبيرةٍ من مساوماتها لأحلامها وأوهامها ورغباتها الذاتية غير المُشبعة حينما تلجأ إلى الرجل ولم تجده حاضراً معها. مشاعر فرحٍ وحزنٍ محمومةٌ تنتابها حينما تستيقظ من غفلتها وغفوتها. هذا ما تكتبه على لسان واقع حال ومحال قصَّة بطلتها.

وقد دفعتها مشاعر الحبِّ والشعور بالفشل في خيط التواصل مع هُويَّة الأخر الذي تكنُّ له كلَّ الحبِّ والمشاعر الصادقة إلى أنْ تُوثِّقَ هذه العَلاقة الافتراضية الوهمية والمشاعر الحقيقية إلى اعترافٍ آخرَ من اعترافاتها بفشل هذه العَلاقة، عَلاقة التلاقي والاتِّصال الرُّوحي والجمعي؛ ولكنَّها أقرَّتْ إقراراً جميلاً بأنَّ عدم التواصل والتلاقِي وظهور إمارات التجافي قد يَحفظُ للحبِّ ديمومته الإنسانية الجميلة برغم الانقطاع. وفي خاتمتها التي تؤكِّد أنَّ هذه الرسائل برغم أنَّها قيدُ الإرسال، لكنَّها تُعدُّ تجربةً جديدةً في المشاعر والعواطف الوجدانية السَّاميَة وفيض الأحاسيس النابضة النقيَّة:

"بِصورةٍ أدقٍّ أعترِفُ أنَّ وُجودَ عَلاقةٍ-بِغضِ النَّظرِ عَنْ فُرصِ التَّواصلِ- أيَّةَ عَلاقةٍ سَتكونُ دَيدنَ يُبررُ اِستمرارَ النَبضِ فِي عُروقي...أرجو أنْ تَكونَ قَدْ وصلتْ أهمُّ الرَّسائلِ، بِغضِ النَّظرِ عَنْ إشكاليةِ الإرسالِ وَالتَّلقِي...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 39).

4- قصَّةُ (القاتلُ في الأَحلامِ)

تُعدُّ سَرديات قِصَّة (القَاتلُ في الأحلامِ) من قصص الخيال الأسطوري والغرائبي التي وقعت تحت لائحة الانتظار الوجودي النفسي. وقد نسجتها ذائقة الكاتبة ذكرى لعيبي عن شخصيَّة بطلها الحارس الليلي للحارة أو المنطقة (أمين الصالحي)، الرجل الذي أُتُهِمَ بجريمةٍ قتل من قِبَلِ المَلكِ أو السلطان الحاكم للمدينة، والذي يتراءى له أثناء منامه بأنَّ الحارس يروم قتله في كل ليلةٍ يحلمُ بهِ منذ أنْ قام السلطان بزيارةٍ ليليةٍ للحارس حينما كان يتفقَّد فيها أحوال مملتكه ليلاً للاطِّلاع عليها.

وكان من ضمن ما قام به الملك زيارته للحارس اللّيلي أمين الصالحي الذي كان منضبطاً وملتزماً بعمله وكأنَّه عسكري ينظر إلى السلطان نظرةً ثاقبةً دونَ أنْ يعلم بأنَّ الذي ماثل أمامَهُ هو الملك ذاته، وكان يظنُّ أنَّه الضابط الخفير أو المسؤول عن إدارة الحراسة في المدينة التي يعمل بها هو:

"حَارسٌ لَيليٌّ بَسيطٌ أُعلقُ بُندقيةً قَديمةً عَلَى كَتفِي، وَأتجَولُ فِي أَزقةِ الحَارةِ، أَحاولُ أنْ أتجنَبَ المَشاكلَ قَدِرِ اِستطاعتِي، فَإذَا مَا رَأيتُ أوْ اِكتشفتُ أحدَ اللُّصوصِ، أَطلقُ صُفَّارَتِي فَقَطْ، وِأتركُهُ يَهربُ، أتحاشَى الرَّصاصَ والقَتلَ لِمَا يُسبِّبُهُ مِنْ عَدَاءٍ وَثَأرٍ. ذَاتَ لَيلةٍ حَضرَ فِي أحدَ الشَّوارعِ ضَابطُ شُرطةٍ خَفيرٍ يَبدو مِنْ مُوكبِه رَجلاً مُهمَّاً وَلَهُ شَأنٌ كَبيرٌ، كَانتْ الدُّنيَا ظَلامَاً دَامساً والقَمرُ غائباً، هَواءٌ بَاردٌ والغُيومٌ تَنثُّ مُطُرُاً". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 40).

وعلى الرغم من كلِّ ذلك وما أبداه، فقد اُعتُقِلَ الحارس الليلي الصالحي وَسِيقَ إلى قصر السُّلطان مرتين متواليتين للتحقيق بخصوص جريمة قتل مصدرها رؤيا حُلُمية مُتخيِّلة ولم تكن حقيقةً واقعةً حصلت بعد، فَسجلُ الرجل نظيف ويشهد له مرؤوسوه بالنزاهة والأمان ودماثة الخلق الرفيع:

"لَا أوراقَ عِنِدي وَلَا سِجلَّاتٍ، لَا مَنشوراتٍ، أوْ كُتبٍ، هَذهِ الأشياءُ الَّتِي تُثيرُ الَمتاعبَ لَا أقتنيهَا، أنَا حَارسٌ بَسيطٌ مُنذُ خَمسةٍ وثَلاثينَ عَامَاً، أعملُ بِهمَّةٍ وَنَشاطٍ وَلَا شُغلَ لِي فِي السِّياسةِ، بَلْ لَا أعرفُ غَيرَ الحِراسةِ، وَسِجلِّي المِهنِي يَشهدُ بِنشاطِي وَنَظافتِي.- نَحنُ نَعرفُ أنَّك حَارسٌ؛ وَلديكَ أربعةُ أبناءٍ رَحلُوا لِلعملِ فِي الخَارجِ، وَابنتُكَ الصُّغرَى مُتزوجةٌ فِي الشَّمالِ، أمَّا زَوجتُكَ فَقدْ تَوفيتْ مُنذُ خَمسِ سَنواتٍ، أتَظُننَا لَا نَفهمُ؟ نَحنُ نَعرفُ كُلَّ الأسرارِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاغترَابِ، ص 41).

وفي قصر جلالة السُّلطان يؤكِّد لهم الصالحي بأنَّه نزيهٌ وبرئٌ وضعيفُ الحالِ يؤدِّي واجبه المَهني بصدقٍ وإخلاصٍ وإتقانٍ، ويَشهد له رؤساؤه المسؤولون عنه، وأنَّ أمرَ اعتقاله رُبَّما فيه خطأ أو التباس؛ لكنْ هذا الأمر يعود لجلالة السلطان الذي لا يُخطئ. فكان أمين الصالحي يظنُّ أنَّ السلطان يرغب بضمِّه لحرسه الخاصِّ؛ ولمكافأته على الواجب وتفانيه في الإخلاص بالعمل، لكن حقيقة استقدامه كانت خلاف ما كانَ يتوقّعه الحارس؛ كونه مُتَّهماً بقتل السُّلطان الذي يَحلمُ بأن الحارس اللَّيلي يروم قتله، فقال له السلطان مُحاوراً إياه بصوت رخيمٍ مستفزٍ لمشاعر الصالحي:

"هَلْ مَا زِلتَ تُفكِّرُ بِقتلِي؟ أصابتنِي قَشعريرةٌ، ذُهولٌ رُعبٌ، وَخَوفٌ. -مَعاذَ اللهِ يَا سَيِّدِي، مَا أنَا إلَّا حَارسٌ لَيليٌّ فِي مَحلَّةٍ قَديمةٍ بِمملكِة جَلالتِكُم، وَلَمْ يَخطرْ بِبالِي قَطٌّ مِثلَ هَذَا الفِعلِ الشِّنيعِ. قَالَ بِحِدَّةٍ: -مَا مِنْ أحدٍ فِي البِلادِ أنظرُ إليهِ فَيبقِي عَينيهِ فِي عَينيَّ إلَّا أنتَ. سَيِّدي وَهَلْ أجرؤُ، هَا هِيَ عَينايَ تَطِئانِ الأرضَ بَعدَ أنْ نَظرتَ إليَّ، صَفقَ بِيِديهِ فَخرجَ الحَاضرونَ مِنْ حَرسٍ ومَوظفينَ: لَكنَّكَ فَعلتَ ذَلكَ". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص 46). فعلت ذلك، أي أبقيت عينك ثابتةً بعيني تنظر لي.

وكانت المفارقة عندما أُودِعَ الحارسُ في غرفةٍ من غُرفِ القصر وليتنعَّمَ بنعمَ وخيرات القصر لم يكن السلطان يحلم بأنَّ الحارس يروم قتله، وعلى الرغم من تأكيد الصالحي بأنها كانت أضغاث أحلامٍ وتهيُّؤاتٍ غيرَ صحيحةٍ. وظنَّ الملك بأنَّ الحارس اللَّيلي الصالحي كان يعرف بتأويل الأحلام بيدَ أنَّ الصالحي اعتذر للسلطان عن فعله الذي اُتِّهمَ بهِ، لكونَ عينه كانت شاخصةً بعينيه، الأمر الذي استدعى الملك بقاءَ الحارس سبعة أيام أخرى في القصر ليرى رأيه فيه والبتَّ بأمره بعد ذلك:

"مُنذُ أنْ جِئتَ إلَى هُنَا بِأمرِنَا لَمْ أَعُدْ أحلمُ بِكَ تَقتلنِي، هَذهِ تَجربةٌ حَسنةٌ، سَأتركَكَ تَعودُ إلَى مَنزلِكَ فَإنْ أحلمُ بِكَ فَستظلُّ فِي دَارٍ تُمارسُ عَملكَ الَّذي شَغفتَ بِهِ، وَإنْ عَاودنِي الحُلمُ فَسأجلبُكَ إلَى هُنَا لِتعيشَ فِي المَكانِ نِفسِهِ إلَى الأبَدِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 48).

لقد اعتاد الحارس أمين الصالحي على ما حدث له من اتِّهامٍ خطيرٍ، فَسِيقَ مرَّةً أخرى لقصر جلالة السلطان؛ لكونه يحلم بأنه مازال يقتله، فاضطر الحارس الذهاب مع حرس السلطان إلى القصر على الرغم من أنَّه فكرَ بالهرب؛ لكنه تذكَّر رغيد العيش والسعة وبحبوحة النعمة من أكلٍ وشرابٍ وافر فقرَّر الذهاب معهم كما تُشير الخاتمة، والتي كانت خاتمةً موضوعيةً ومثيرةً للقارئ:

"هُناكَ صَوتٌ يَطرقُ رَأسِي، سَأنَامُ فِي قِصرٍ فَخمٍ، آكلُ أصنافَ الطَّعامَ، وَألبسُ أفخرُ لِباسٍ. لَكنِّنِي لَنْ أستطيعَ أنْ أعيشَ خَارجَ القَصرِ كِيلَا يَحلمُ جَلالةُ السُّلطانِ أنَّي أقتلُهُ. كَانَ الوَقتُ يُحاصرُنِي، وَالحُريةُ تَكادُ تَفلتُ مِنْ يدِي، وَلاَ بُدَّ أنْ أُقرِّرَ. فَلمْ أترَدِّدْ!". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 49). وبهذا الفعل الختامي تخبرنا الكاتبة القاصَّة بأنَّ شخصياتها البطولية على الرغم مما أصابها من حزنٍ أو فرحٍ فإنَّهم دائماً يعيشون لحظاتِ قيد من الانتظار والترقُّب الحَذر في مواجهة الاغتراب.

5- قِصَّةُ (الغُرفةُ رَقم 4)

هذا النموذج السردي عينةٌ من عَيِّناتِ طلب اللُّجوء الإنساني في ألمانيا عام 2021م، وقصَّة من قصص رحلة العلاج الكيمياوي من أجل الشفاء من آثار المرض الخبيث، والتي تعدُّ من القصص الحقيقية المَمزوجة بِشيءٍ مذهلٍ من الخيال الواقعي السِّحري الجميل. فبطلة قصَّة (الغرفة رقم 4) امرأة لم تضع الكاتبة اسماً لها، بل اكتفت بالحديث عنها بضمير تاء الفاعلية الدال على قول لسانها.

وعلى الرُّغم من أنَّ بطلة القصَّة هي المريضة بالداء اللَّعين فإنَّ القاصَّة ذكرى لعيبي هي الشخص المواسي لها والراعي لصحتها في المُستشفى. ويُخيَّل إليكَ جداً أنَّها هي التي تعاني ما تعانيه صديقتها من مرض تلبَّس حياتها في منافي الغربة ومشافي المرض القاتل اللعين. وأنَّ مثل هذا التقارب والتماهي بين شخصيتي القاصَّة والبطلة يخلق نوعاً من الازدواجية الحميمية والتقارب في مشاركة بعضهما الهمِّ ومواجهته تحت قيدِ الانتظار في مشاهد الاغتراب الحياتي بكلٍّ صدقٍ ومشاعر وإحساسٍ ذاتيٍ. وهذا التماثل يعني أنَّك تقرأ جوانبَ إنسانيةً من مسيرةٍ ذاتيةٍ مشتركةٍ:

"اِلتقطَتْ مِعطفِهَا البَصليَ المَنسوجَ مِنَ الصُّوفِ النَّاعمِ... وَوَضعتهُ عَلَى كَتفيهَا، الجوُّ هُنَا هَذَا الصَباحُ بَاردٌ جِدَّاً، نَاولتهَا (رُوينَا) المُمرضةُ المُرافقةُ كُوبَاً مِنَ الشَّايِ السَّاخنِ، أمسكتهُ بِيديهَا، وَجَلستْ قُربَ النَّافذةِ المُطلَّةِ عَلَى الحَديقةِ الخَلفيَّةِ لِلمستشفَى. مُستشفَى (شتُوتغارت)، الَّذي تَأخذُ فِيهِ جُرعاتِ العِلاجِ الكِيمياويِّ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 50).

وفي ظلِّ هذا المضمار السردي الماتع تميل الكاتبة إلى تسطير وتدوين جوانبَ مهمَّةً من القصَّة فتذكر مُصطلحاتٍ طبيَّةً في علم النفس، ومطالعتها لكتاب (الانتحار)، لأميل دور كايم صاحب الأسلوب المُميَّز في تحليل هذه الظاهرة.وتسردُ أيضاً الحالات التي تُصاحب صديقتها المريضة وما يرافقها من هَمٍّ وانكساراتٍ وهزائم وشعورٍبأنها ضئيلة أمام نفسها الأمرالذي يورثُها الحسرة والقلق وعدم التوازن .

فكيف إذا كان الإنسان ينمو في داخله ورم خبيث؟ وهذا الهمُّ هو ما تشعر به الكاتبة وتسرده لقارئها بالابتعاد عن التعب النفسي الذي هو نصف المرض. وعلى الرغم مما تمرُّ به من صراعٍ داخليٍّ مريرٍ فإنَّها تشعر ببصيصٍ من الأمل ينقلها إلى ضفاف الحياة الأخرى بدلاً من وجع الشقاء:

"أدركتُ ضُعفنَا وَهَشاشَتَنَا أمامَ جَبروتَ المَرضِ، واليَأسِ وفُقدانِ الهُويَّةِ! أدركتُ مَعنَى أنْ نَدلفَ إلَى وَحدتِنَا، عِندَمَا تُلاحقُنَا هُمومُ الحَياةِ وِمُنغصاتِهَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِنتظارِ، ص 53).

ومن بين سرديّاَت هذه القصَّة المؤلمة، ومن خلال تحاور الكاتبة مع صديقتها البطلة التي ذكَّرَتها بحبيب القلب، أقرَّت لها بما تشعر به من مشاعر نحوه، فباحت ما في قلبها من مشاعر جياشةٍ:

" الرَّجلُ الَّذيِ كُنتُ أظنُّ أنَّهُ عَظَّيمٌ، وَحَاربتُ مِنْ أجلهِ، بَقيتُ عَلَى قَيدِ الحُبِّ لِأجلِهِ، وَتَركتُ أهلِي وَنَاسِي وَبَلدِي، لِاتَّكِئَ عَليهِ، ظَنَّاً مِنِّي أنَّه صَلصالٌ صَلدٌ! لِمْ يَكنْ فِي الحَقيقةِ سِوَى مَحضِ فَضلاتٍ هَشَّةٍ وَسَامَةٍ، وَفِي نَهايةِ الأمرِ اِكتشفتُ أنَّهُ سَلَبَ وَقتِي وَعُمرِي، وَتَركنِي عَلَى دَكةِ رَصيفٍ إِسمنتيٍ لِمدينةٍ غَريبةٍ فِي طَقسٍ شَتويٍّ. -مَعقولٌ؟ -نَعمٌ.. كُلُّ شَيءٍ بَاتَ مَعقولاً فِي هَذَا الزَّمنِ الفَارغِ، حَتَّى الصَّلصالُ مُتواطِئٌ مَعَ الَّشيطانِ !". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 54).

كان الشعور بالهزيمة سبباً من أسباب فزع وتظلُّم الإنسان ورفضه لوقوع هذا الظلم والنَّصَبِ عليه، فيردِّدُ ما يشعر به من قساوة الأمر وصعوبته التي يعاني منها في أجندة حياته الانتظارية:

"إنّْ كَانَ الخَالُق يُعاقبُنَي بِهذَا المَرضِ عَلَى أخطَاءٍ فَعلتُهَا، فَمَهمَا اِرتكبتُ مِنْ أخطاءٍ فَأنَا عَلَى صَوابٍ، لِأنِّي اِرتكبتُهَا بِعفويَّةٍ وَدَاخلي نَظيفٌ وَرُبَّما فَعلتُهَا بِلحظةِ شَفقةٍ أو حُبٍّ أو وَهنٍ، لَمْ أقتلْ... لَمْ أسرقْ.. لَمْ أعقُّ وَالديَّ.. لَمْ أنكرِ الدِّياناتِ... لَمْ أكفرْ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 56).

الكاتبة العليمة من خلال بثِّ شكواها تشعر بأنَّ هناك من يحاول قطعَ خُيوط الأمل والرجاء والودِّ كفأرةٍ عابثةٍ تدعوها إلى تجديد خصوبة حياتها عبرَ ما تستشعره نفسياً وتؤمن به شخصيَّاً فتقول:

"هُناكَ فَأرةٌ عَابثةٌ تحُاولُ أنْ تَقضمَ خُيوطَ الأملِ فِي عَقلِكِ، اُقتليهَا وَأعيدِي تَرتيبَ وَبِناءَ أفكارِكَ، جَدِّدِي إرادتَكِ، اَحرثِي أرضَ الحَياةِ، أعيدِي لِأعمدتِهَا زَهوَ الرَّخاءِ، لَا تَأخذكِ وِشَاياتُ الهُدهُدِ... يَبدو أنَّني صِرتُ أتفلسَفُ بِحديثي!". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 56).

إنَّ خسارة الكاتبة كانت كبيرةً لفقدها صاحبتها وصديقتا المقرَّبة لنفسها، والتي غيَّبها المرض الخبيث، فما كان منها إلَّا أنْ تردِّدَ مواقف ذكراها ووشائج الصداقة ومشاعر المحبَّة الدائمة بينها:

"كَانَتْ صَديقتِي قَدْ غَادرتنَا بِسلامٍ وَهُدوءٍ، تَركتْ عاَلمنَا وَرَحلتْ لَمْ تَنتظرِ الحَلْويَاتِ! وَكأنَّها كَانتْ تَعرفُ أنَّ الوَهمَ مَعركةٌ خَاسرةٌ، دِثارٌ مَثقوبٌ، أجلْ لَنْ تُوقفهُ ألفُ شَمعةِ يَقينٍ، وَلَا ألفُ ألفُ دَمعَةٍ مَقهورةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 57).

فالقاصَّة كانت ترى صديقتها المحبَّبة وتعيش حالتها الصحيَّة المُتدهورة، وفي الوقت نفسه تعترف بعلانيةِ وصدقٍ بما حلَّ بها وأصابها من طائلة هذا الداء الخطير المُروُّع لإنسانية الوجود الحياتي:

"تَرَكتْ فُراغَاً عَميقَاً فِي رُوحِي، بَلْ فِي كُلِّ شَيءٍ مِنْ حَولِي، إلَّا غُرفتَهَا فِي المَشفَى، فَقدْ شَغلتُهَا أنَا، بَعدَ اِكتشافِ إصابتِي بِذَاتِ المَرضِ، إلَّا أنَّ الإصابةَ فِي عُضوٍ مُختلفٍ مِنَ الجَسدِ. كُنتُ أجلسُ عَلَى ذَاتِ الكُرسِي، وَأقفُ أمامَ ذاتَ النَافذةِ المُطلَّةِ عَلَى الحَديقةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 57). وكان أملها الوحيد مغادرة الغرفة رقم 1التي كانت مثابةَ هذه الحكاية الضاربة جذورها في سيرتها.

6- قِصَّةُ (شَيءٌ مِنَ اللَّوعَةِ)

من نماذج القِصص التسريدية المُهمَّة والرائعة التي تكتسب طابعاً إنسانياً خالصاً من اللَّوعة عن معاناة ووجع منافي مخيَّمات اللُّجوء في ألمانيا عام 2022م؛ كونها قصَّةً حقيقيةً بطلتها كاتبة المجموعة ذاتها التي كانت تبحث عن مثابة إقامةٍ لها في مهاجر اللُّجوء الإنساني. تلك هي قصَّة (شَيءٌ مِنَ اللَّوعةِ)، بل هي أشياء كثيرة من الألم والذُّل والمعاناة والمكابدة والجَلَدِ والصبر على الحُلَمِ وتحقيق الذات الذي تشعر به إنسانة لاجئةٍ من أي بلدٍ من بلدان المعمورة بحثاً عن مُستقرٍّلها:

" مِنْ عُتمةٍ تُشبهُ قَبرَ الأيامِ، أَخرجُ إلَى عَالمٍ فَسيحٍ.. أتلمَّسُ وَجَعِي، وَأحاولُ أنْ أفردَ عَلَى قَلبِي غَيمَةً مَاطرةً، أُمسِّدُ أجنحةَ أحلامِي وَشغفِي، وَأُحلِّقُ فِي فَضاءِ المَنافِي -رُبَّما-لِأنسَى العَناءَ الأوَّلَ. شَهرانِ ونِصفُ الشَّهرِ تَقريبَاً، كَانتْ فَترةُ بَقائِي فِي المُخَيَّم المُخصَّص لِمُقدِّمِي اللُّجوءِ" . (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِغتراب، ص 59).

لقد استوقفني في هذا النصِّ المنقول عن الكاتبة عبارتها النسقيَّة المُضمرة (لأنسى العناء الأول)، فالعناء الأول الذي توحي به الكاتبة في هذه الإشارة، هو ما حملته في خبايا نفسها وروحها المكافحة والمواجهة، هو الداء اللَّعين الذي سيطر على فكرها وحياتها ولم يمنحها فرصةَ الأمل إلَّا قليلاً، هذا هو السرُّ الذي جمعها وحدتها مع مجموعة كبيرة تفوق عشرَ نَسماتٍ من الأطفال والنسوة اللَّاجئات من بلدانٍ مختلفةٍ مثل، (العراق وسوريا واليمن وروسيا وباكستان وإيران والسودان وأرتيريا وأثيوبيا وجيبوتي)، يسكْنَ جميعاً بمبنى واحدٍ ممن طلبْنَ حقَّ اللُّجوء الإنساني في ألمانيا.

لقد عشْنَ تلك النسوة بغُرفٍ في شُققٍ مشتركةٍ بعضها لذوي العائلات، وبعضها للفتيات العازبات والعُزَّاب في أماكن خرسانية مُحكمة ومؤمَّنة تعلوهاأسيجة وأسلاك شائكة لا يمكن اختراق جُدُرِها:

"تَشاركتُ الغُرفةَ مَعَ اِمرأةٍ عِراقيةٍ مِنْ بَغدادَ تُدعَى بَلقيسٌ، أمَّا الغَرفتانِ البَاقيتانِ، فَواحدةٌ كَانتْ تَشغلًها سَيِّدةٌ إيرانيةٌ مَعَ اِبنتِهَا الصَّغيرةِ، وَالأُخرى فَتاتانِ: (جَالَا الإيرانيَّةُ)، و (رَشيِدةُ المَغربيةُ)". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 60).

وفي إلمَامَةٍ ذكيَّةٍ لبطلة هذه القصِّة، وأعني بها الكاتبة الرائية لـقصِّة (شَيءٌ مِنَ اللَّوعةِ) تُدوُّن القاصَّة بصدقٍ وعفويةٍ خالصةٍ مشاهدها للحياة اليومية لهؤلاء النسوة المُعذَّبات ولمُعاناتِهُنَّ التي تشعربِهَا هيَ ذاتها، بأنهُنَّ يعشْنَ الزمن على هامش الحياة في بلدانٍ فقيرةٍ لا تجد فيها وسيلةً للرزق والحياة، حتَّى تبدو الدنيا من وجهتهُنَّ أقربَ إلى الكابوس فيما ترى هي نفسها هذا الشعور الضافي:

"الجَميعُ هُنَا يَضحكونَ، لَكنَّنَا مَا زِلنَا نَتلمَّسُ خُطواتِنَا وَسَطَ دُروبِ الخَوفِ وَالقَلقِ وَالتَّرقُّبِ، لَمْ تَنتهِ الحُروبُ بِالنسبةِ إلينَا، لَمْ يُقتلْ الفُقرُ، لَمْ يُفنَى القَمعُ، لَمْ تَتوقفْ قَوافلُ التَّهجيرِ والمَوتِ. إذنْ أيامُ السَّلامِ والفَرح ِلَمْ تَبدأْ بَعدَ، غَيرَ أَنَّنَا نَنتظرُ! وَأنَّ أجنَّةَ الحَياةِ تَجمَّدتْ دَاخلَ الأرحامِ تَخشَى صَرخةَ الوِلادةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 62).

وخلال تنامي هذا الشعور باليأس والقنوط المَمزوج بالفرح والأمل المرتَقب، تمَّ تفريق اللاجئات وتوزيعهُنَّ على مناطق مختلفةٍ من ألمانيا. فتبدأ مرحلة جديدة من الابتعاد والتشظي والشَّتات في المنافي لهؤلاء الفتيات اللواتي اعتدْنَ حياة الأُلفة فِيما بينهُنَّ في مباني سكنِ اللُّجوء والانسجام والود والمحبَّة التي هي شعور كل إنسان غريب تُجاه غريب آخر يشاطره الحياة ذاتها:

" هُنَا فَي هَذَا المَبنَى وَالَّذِي يُطلقونُ عَليهِ مُسمَّى (الهَايم)، هُوَ بِمثابةِ سَكنِ الإقامةِ الدَّائمَ، أَتقاسمُ غُرفةً كَبيرةً بِملحقاتِها، وذَاتَ شُرفةٍ تَطلُّ عَلَى الفَناءِ الخَلفِيِ مَعَ فَتاةٍ أُخرَى مِنَ الطَّائفةِ الإيزيديَّةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 63).

وبعد أن توحَّدت بطلة هذه القصَّة مع فتاةٍ إيزيديةٍ من شمال العراق تُدعى (نَاريمان)، أو (نارو) كما تُحبُّ أنْ يُدلعوها، خضْنَ الحديثَ بفخرٍ عن الأصول والجذور والأقليَّات الدينيَّة والإثنيَّة للديانة الإيزيدية التي تتواجد في مدينتي (شِيخان وسِنجَار) شمال العراق. وتمَّ الحديث بإسهابٍ عنهما وتأكيدهما على ما فعله تنظيم الدواعش الإرهابي من القيام بأعمال تكفيريَّة وهمجيةٍ طالت الفتيات الإيزيديات اللَّواتي تمَّ سَبيهُنَّ في سوق النخاسة وبيعهُنَّ واغتصابهُنَّ على أيدي الظلمة الإرهابيين:

" ثُمَّ تَنهَّدتْ وَقَالتْ: آهٍ سِنجارُ...سِنجارِي....الِّتِي صَارتْ فِيهَا مَجازرٌ لِبناتِ طِائفتنَا. شَعرتُ بِحُزنٍ كَبيرٍ؛لَأننِي تَذكرتُ مَا فَعلتهُ مُنظمةُ (دَاعشِ)الإرهابيةُ بِتلكَ الفَتياتِ". (عَواطفٌ عَلَى لائحةِ الاِغترابِ، ص 65).

وبقدرِ ما كانت اللَّاجئات يحدوهُنَّ الأمل والسلام في إتمام إجراءات اللِّجوء والعيش بأمنٍ وسلامٍ واستقرار، أخذتْ (ميَّادة) الكاتبة السَّاردة التي تعيش أجواء اللُّجوء في توثيق التَّحدِّيات والمشاكل التي يعانيها الأزواج والعائلات بخصوص تربية الأطفال، ومسألة العَلاقات الزوجيَّة المتفاقمة التي وصلت حدِّ الانفصال عن الآخر والبحث عن حياة أخرى بدلاًمن المشقَّة والمعاناة وحياة الانفصال:

"فِي أثناءِ فَترةِ سَيطرةِ (دَاعشِ) عَلَى المَنطقةِ، اِستطاعتْ عَائلةُ نَارُو الفِرارَ إلَى ألمانيَا، تَاركةً إيَاهَا مَعَ اِثنينِ مِنْ إخوتِهَا فِي سِنجارَ، وَبَعدَ فَترةٍ مِنَ الزَّمنِ تَمكَّنتْ أُمُّ نَارُو وَأخواهَا الهَربَ وَالسَّفرَ إلَى إيطاليَا، فَألمانيَا. ثُمَّ لَحقهَا خَطيبُها. اِزدادتِ المَشاكلُ بَينَهُم وَلَمْ تَتحملْ تَصرفاتِهِ، فَتَمَّ الاِنفصالُ بِشكلٍ رَسميٍّ، وَمَعَ اِنتهاءِ العَلاقةِ؛ اِنتحرَ خَطيبُها، لِتبدَأَ مَرحلةُ عَداءٍ بَينَ العَائلتينِ". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 67).

ويبدو لي أنَّ الحديث عن العواطف الذاتية والمشاعر الوجدانية الصادقة التي تنوء تحت لائحة أو قيد الانتظار، غداً ستصبح المنافي وطناً مُستقرَّاً لها، وحياةً وعملاً يًنسيهًا كُلَّ الآلام والمواجع والتَّحديات التي شلَّت حياتها وغيَّرت مسار وجودها التكويني الخاص:

"الوَطنُ بِالنسبةِ لِيْ رَجلٌ صَادقٌ يَحتوينِي، حَبيبٌ أحتلُّ مَشاعرَهُ وَأَجوبُ جِهاتهِ الأربعَ دُونَ شَريكٍ، أطيرُ فِي سَماءِ حَياتهِ دُونَ خَوفٍ، رَفيقٌ يَقودنِي مَنْ يَدِ قَلبِي لِتعبرَ ممرَّاتِ الجَليدِ وَالنَّارِ مَعَاً، حَتَّى نَصلَ أقصَى الشَّوقِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 69).

بَيدَ أنَّها على وفق كُلِّ هذه الأحلام التي يمضي بها قطار العمر في التغريب والمنافي بالحصول على وطن آمن ينتابها الإحساس والشعور الذاتي القويّ بأَنَّ كُلَّ منافي أوربا تدعوها وتهمس في أُذنها إلى التَّمسُّك بالجذور القويَّة للوطن والأرض التي هي الحبيب الأولي الذي لن تغلقه رياح الهبوب الجارفة.

على الرغم من أنَّها كانت مرغمةً على ترك جذورها الأصلية والسير بركاب سفينة المَهاجِر والمَنافي وعواصفها المتقلبة التي جعلتها أنْ تترك كلِّ شيءٍ وراءها. والحقيقة ما تقول إنَّ كلَّ شيء ٍكان أمامها مُتاحاً. فما كان من (مَيَّادة) البطلة أو الكاتبة أن تركُنَ إلى طقوسها العبادية راجيةً من اللهِ تحقيق ما تصبو إليه من حُلمٍ وأمانٍ فتقول في خاتمة قصتها الملتاعة بالألم:

"اِتَّجهتُ لِلرُكنِ الَّذي اِعتدَتُ الصَّلاةَ فِيهِ، وَسَلَّمَتُ أمْرِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمواتِ وَالأرضَ، وَبَينَ السَّجدتينِ نَادتْ جُوارحِي أجمعُهَا: اللَّهُمَّ قُرَّ عَينِي بِلُقيَاهِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 70).

7- قِصَّةُ (اِنتهَى العَرْضُ)

من يقرأ عنوان عتبة هذه القصَّة (اِنتهى العرضُ) اللَّافت للنظر والتساؤل به، سيشعرُ بأنه إزاء عرض فنَّي مسرحيٍ، أو البحث عن حاجةٍ أو بضاعةٍ تجارية نفدَ عرضها المحدَّد، وانتهى وجودها في الحياة الاقتصادية؛ ولكنَّ الحقيقة المَّرة تشي بغير ذلكَ التفكير الدلالي الواهم. فما هِيَ إلَّا قصَّةٌ تتحدَّث بصدقٍ عن فشلِ العَلاقات العاطفية التي ترتبط نهايتها الحتمية بالزواج المُقدَّس بين الفتاة الجامعية الطالبة (مريم)، وذلك خلال دراستها الأولية الجامعية وعلاقتها بالأستاذ الجامعي الدكتور خضر، الأستاذ المُحاضر لمادة هندسة المباني في إحدى الكليَّات الجامعية المهمَّة في المدينة.

يبدأ فتيل المشاعر من الطرف الأَّول الأنثوي صادقةً على نياتها الحسنة ووفائها وإخلاصها لمن تُحبُّ، بيدّ أنَّ الطرف الآخر د. خضر كان لَعُوباً مُحترفاً بحرفِ المشاعر والأحاسيس، ويتَّخذ من حبِّها محطَّة إمتاعٍ ولهوٍ وأنسٍ لا غير ذلك من تجلِّيات الحبِّ الصادقة. ويبدو أنَّ الدافع الرئيس لهذا الحبِّ هو الشعور بالفراغ والوحدة والضياع والقلق الوجودي الذي تشعر به (مريم)الطالبة، فيتبدَّد هذ الوهم أو (الفراغ)إلى نورٍ وضياءٍ يَفتحُ الطريق لها على مصراعيه لحياةٍ جديدةٍ أخرى مختلفةٍ:

"بَدَأَ الفُراغُ يُحدِّدُ نَسَلَهُ، يَتلاشَى... وَيَحُلُّ مَحلهُ الضِّياءُ، هَكذَا شَعرتُ عِندَمَا اِلتقيتُهُ عِندَ بَوابةِ الجَامعةِ الِّتِي تَمَّ قُبولِي بِهَا لإكمالِ دِراستِي. فَسَحَ لِيَ مَكانَهُ لإكمالِ إجراءاتِ التَّسجيلِ، وَحَجَزَ لِيْ مَقعداً فَارغَاً فِي قَاعةِ الاِنتظارِ، وَأخرجَ قَلمَاً أنيقَاً، وَضعَهُ أمامِي عِندَمَا لَاحظنِي أُفتشُ عَنْ قَلمٍ لٍأملًأ بًياناتٍ الِاستمارةِ. لَكنَّ الَّذي أثارَ اِستغرابِي أكثرَ؛ هُوَ عِندَمَا جَاءَنِي بِكأسِ مَاءٍ مُثَلَّجٍ! تُرَى كَيفَ شَعرَ بِعطشِي؟ قَدْ تَكونُ أفعالٌ بَسيطةٌ فِي وَقتِهَا؛ لَكنَّهَا عَنَتَ لِيَ الكَثيرَ، مَلَأتْ كَهفَ الفُراغِ الَّذي قَارَبَ عَلَى اِبتلاعِي، جَعلنِي أُطيرُ مَع َالنَّوارسِ وَالأشرعةِ، وَلأوَّلِ مَرَّةٍ يَشغلُ تَفكيرِي رَجُلٌ! ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحِة الاِغترابِ، ص 72).

لقد خفقَ قلبُ الطالبةِ مريم لهذا الأُستاذ الجامعي الحبيب الشهم المُنتظر والمفاجئ في ظهوره لها وإعجابها به وبشخصيته الإنسانية اللطيفة أوَّل وهلةٍ. وكانت نتيجة هذه العَلاقة السريعة غير المتأنية التأكيد بالاتِّفاق على الزواج وبناء قاعدةٍ متينةٍ لنجاح هذا الزواج السريع المرتقب الحدوث:

"اتَّفَقنَا، كَلمةُ اتَّفقَنَا، كَانتْ عُربونَاً مَتينَاً جَعلَ سَلسبيلَ العَلاقةِ تَسيرُ بِمرونةٍ غَيرِ متوقعةٍ، فَقدْ لَبسنَا خَاتمَ الخُطُوبةِ دُونَ إبطاءٍ، وَاتَّفقنَا أنْ تَتمَّ مَراسيمُ العُرسِ بَعدَ التَّخرجِ فِي الجَامعةِ. كُنتُ فَرحةً بِهِ، أحببتُهُ، تَعلَّقتُ بِهِ، لَمْ أبصُرْ سِواهُ، وَلَمْ يُراودُنِي شَكٌّ بِشيءٍ طُولَ فَترةِ الخُطوبةِ، حَتَّى اِنتبهتُ لِحالةٍ مُعينةٍ! كًانً كًثيرً الخُروجِ مِنَ الحَرمِ الجَامعِي، إجازاتٌ غَيرُ مُنتظمةٍ، أحيانَاً سَاعاتُ غِيابهِ تَتوافقُ وَغَيابَ زَميلتِي... وَغَيرَهَا مِنَ الزَّميلاتِ، رُبَّما صُدفةً، قَلبِي يَقولُ هِيَ صُدفةً أوْ هَذَا مَا أَقنعتُ نَفسِي بِهِ. بَيدَ أنَّها لِلأسفِ لَيستْ صُدفةً، بَلْ حَقيقةَ مُرَّةً، أَمرُّ مِنْ سَنواتِ الحُرُوبِ، وأقسَى مِنْ شَظايَا تُقطِّعُ أَطرافَكَ الأربعةَ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص75، 76).

لقد كان كلُّ ما اتُّفِقَ عليه وعوداً كاذبةً ولَعِبَاً واستهتاراً بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية الصادقة وخداعاً واضحاً صادراً عن رجلٍ اعتاد على الضحك على الفتيات وعلى زوجته بالذات التي هي ابنة عمِّه. وكنات حجَّته معها بأنَّه لا يُريد أن يخسرها، وسيكون وفياً لها وصادقاً معها، وسيتخَّلى عن جميع علاقاته المُثيرة الأخرى ويبدأ صفحةً جديدةً؛ لكنْ هيهات أنْ تقبلَ بِعرضهِ غيرِ الصَادقِ:

"تَصفيقٌ... حُجَّةُ الضَّعيفِ، الجَبانِ، اللَّعوبِ، كُنتُ رُبَّما سَأصدقَكَ، لَوْ كَانَ الأمرُ يَتوقَّفُ عَلَى إخفاءِ زَواجِكَ الأوَّل فَقَطٌ، لَكنَّ العَشيقاتِ، الخَليلاتِ، الحَبيباتِ.. لَمْ تَعرفْ كَيفَ تُتقِنُ أكاذيبكَ".

 (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 76).

مريم الإنسانة الودودة المُرهفة المشاعر والأحاسيس وذات الأصل والعزِّ والنسبَ والجاهَ والفخرَ بكلِّ ذلك ترفض حياةً مثل هذه الفوضى التي يعيشها هذا الأستاذ الجامعي اللُّعوب. فما كان منها إلا الخروج من حياته المخادعة أبداً، خروجاً لا عودةَ له مُطلقاً، وستكون مريمَ أخرى لا عَلاقةَ لها لا من قريب أو بعيدٍ بمريم تلك التي عشقته ومنحته حبَّها أول مرَّةٍ وبنتْ جبلاً من ثلج على قِمَمِ آماله:

"أنْتِ قَاسيَةٌ، بِقساوةِ قَائدِ طِائرَةٍ حَربيَّةٍ، يَرمِي قَنابلَهَا عَلَى حُقولِ الزَّيتونِ وَالبُرتقالِ وَالنَّرجسِ، الَّتي لَا ذَنبَ لَهَا بِاستهتارِ قَادةِ الشُّعوبِ. -والخَديعةُ والكَذِبُ والتَّلاعبُ بِالمشاعرِ، ألَا تَعدُهَا مِنَ القَنابلِ؟ تُشبِّهُ نَفسَكَ بِحقلِ زَيتونٍ! وَمَا أنتَ إلَّا شَجرةُ عَاقولٍ أدمَتْ رُوحِي وَجَرحتْ مَشاعرِي، وَخيَبَتْ ظَنَّي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص77).

وإزاء هذا الرفض القاطع الذي أصرَّت عليه مريم تُجاهه، قابلها الأُستاذ والنموذج الإنساني المخادع المشبوه بتأكيد موقفه الوفي والقَسَمِ لها بأغلظ الَأيمانِ بأنَّه يحبُّها كثيراً، وسيخلص لها، فما كان منها إلَّا إنّْ ذكَّرته بحلاوة لسانه الذي اعتاد على النطق بكلمة الحبِّ الكاذبة، وتذكيره بأنَّ الحبَّ شُعور إنساني صادقٌ ومقدَّسٌ ونصيحة وصدق واهتمام بهُويَّة الآخر وليس عَلاقةً مشبوهةً.

8- قِصَّةُ (خَرساءُ الأساورِ)

إذا كانت القصَّة السابقة قصَّةُ العرض المسرحي الهزيل للزواج الذي انتهي بالفشل الذريع؛ نتيجة فعل الخداع والمراوغة والكذب، فإنَّ قصَّة (خَرساءُ الأساورِ) تتحدَّث عن فشل العلاقات العاطفية الزوجية بين رجلٍ وامرأةٍ؛ بسبب إهمال بالنفس وعدم العناية بها، والخيانة والكسل والتراخي والانجذاب إلى الطرف الآخر اللَّافت للمشاعر والأحاسيس وسط هذا العالم والزمن الرديء المملوء بالعفونة والتفسخ الخُلقي القذر:

" أخيرَاً قًبلتُ العَرضَ، بِتعويضِي مَبلغَاً مَاليَّاً كًبيراً، عَنِ الإحباطِ الَّذِي أصابنِي، وَالإهانةِ الِّتِي تَعرضتُ لَهَا، بَعدَ قِيامِ زَوجِي رَجُلِ الصَّناعةِ الشَّهيرِ بِاختيارِ صُورةِ الخَادمَةِ كَفتاةِ إعلانٍ تَظهرُ إلَى جَانبِ مَنتجاتهِ عَلَى كُلِّ أَغلفةِ المَجلَّاتِ، وشَاشاتِ التَّلفزةِ وَلَوحاتِ الشَّوارعِ، مِمَّا جَعلنِي مُوضعَ السُّخريةِ بَينَ أقاربِي، وَكُلِّ صديقاتِي اللَّاتِي كُنَّ يَعرفْنَ أنَّ الفَتاةَ مَعِ الإعلاناتِ، لَمْ تَكُنْ سِوَى خَادمةِ المَنزلِ، تِلكَ العَاملةُ الِّتي طَالمَا نَصحتنِي الصَّديقاتُ وَالقريباتُ بِعدَمِ الإبقاءِ عَليهَا؛ بِسببِ جَمالِهَا الأخاذِ وَسِحرِهَا الَّذي كَانَ بِوسعِ أَعيُنِ هَؤلاءِ النُّسوةِ التّسلَّلَ إليهِ خَلفَ ثِيابِ المَطبخِ" . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 79، 80).

وإزاء ما حدث لها من فشل زواجها الأول، حصل إثر ذلك الفراق والانفصال بين الزوجين، وكلُّ شيءٍ تمَّ بانتظام، بيدَ أنَّ شعورها بالمرارة والوجع كامرأة أُنثى لم ينتهِ. فضلَّ يراودها ويعيش معها مثل ظلِّها ونبضها يُذكرها بمحطَّات حياتها الزوجية السعيدة مع زوجها السابق الذي انفصلت عنه. فراحت تبحث عن فرصة عملِ تعوُّضها عما حصل لها من انتكاسةٍ وحزن ٍوألمٍ اجتماعي:

"كُنتُ فَتاةً فِي مُقتبلَ العمُرِ، مُمتلئةَ القِوَامِ- وَهَذَا بَالذِاتَ مَا شَدَّ ذَوقَ صَاحبِ الشَّركةَ - حَسبَ مَا عَرفتَهً تَالياً، إلَى جَانبِ لَباقتِي وَثَقافتِي وَثِقتِي بِنفسِي وَأناقتِي، فَوافقَ مِنْ دُونَ تَردُّدٍ. بَعدَ حُصولِي عَلَى الوِظيفةِ، بِشهورٍ قَليلةٍ، أصبحَ يَتودَّدُ لِيِ، ثُمَّ أصدرَ قَرارَاً بِترقيتِي لأكونَ مُديرةَ مَكتبِه، كَنتُ آنذاكَ مُرتبطةً بِعَلاقةٍ عَاطفيةٍ مًعً شًابٍ رًافقنِي سًنوات ِالدَراسةِ الجَامعيَّة". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الِاغترابَ، ص80).

وبعد أنْ اتَّفقا على مراسيم الزواج حصلت معارضة شديدة من والدة الزوج التي كانت لا تُريدها زوجةً لابنها، فَرَضَتْ سيطرةً على ابنها وخضع لاستسلامها ولم يخلف لها أمراً؛ بسبب مزاجيتها:

"لَيسَ بِيدِي شَيءٌ، خَيَرتَنِي بَينكِ وَبَينهَا، لَا تَظُنِّي الأمرَ هَينَاً عَلَيَّ، أنَا تَائهَةٌ، إنْ أغضبتَهَا سَأكونُ مِنَ العَاقِينَ، وَإنْ تَركتُكِ سَأكونُ مِنَ النَادمِينَ، سَاعدينِي. - كَيفَ أُساعدُكَ؟ هَلْ عِندَكِ أملٌ بِإقناعِهَا؟ - حَاولتُ كَثيراً إلَّا أنَّها لَمْ تَقنعْ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص 81).

وعلى الرغم من كل تلك المُنغصات والفشل الذريع الذي تشعر به كامرأةٍ مهزومةٍ، ثُمَّ زواجها من مدير شركتها التي تعمل فيها مديرةُ لمكتبه، وتمَّ لها ذلك الزواج في أفخم قاعات المناسبات، والسفر بعده إلى إيطاليا الساحرة للتَّمتُّع بشهرٍ عسلٍ جميلٍ يليق بهما. وبعد مرور عامٍ تقريباً على زواجها من رجل الصناعة الثري المُترف، وبدء الحياة الرغيدة التي عاشتها في البيت مع أولادها، والذي أنساها الاهتمام بزوجها الجديد وإهماله، وتمثيله بأداء دور الزوج العاشق البارع المحبَّ لها.

وتحذيره لها وتذكيرها بإهمال نفسها وظهور بدانتها التي أخذت تزداد كثيراً، ونُصحهُ لها القيام ببرنامجٍ رياضيٍ للتنحيف عسى أن يردَّ شيئاً من نضارتها وجمالها السابق الأخَّاذ قبل الزواج. نسيت الزوجة نفسها وراح الزوج العاشق ينظر بإعجاب وإثارة إلى خادمة البيت الأجنبية التي كانت فتاةً جميلةً وصاحبة جسمٍ ممشوقٍ وقوام جذابٍ لافت للنظر؛ الأمر المذهل الذي جعله يقع في حبائل عشقها، وهمَّت بحبَّهِ كثيراً والطمع بماله وتجارته، بعد أنْ همَّ بحبِّها أكثر منها شكلاً لا مَبنىً:

"كَيَفَ سَمَحَ لِنفسِهِ أنْ يُهينَنِي بِهذَا الشَّكلِ؟ إذنْ هَذَا السَّببُ الَّذي مَنعهُ أنْ يَبِيتَ لَيلةَ البَارحةِ هُنَا. كُونِي هَادئَةً عَزيزتِي، هِيَ إنْ جَاءتْ أوْ غَدتْ خَادمةُ. لَا يَا إلهامُ، هَذهِ عَشيقتهُ، وَالآنِ تَتَصدَّرُ إعلاناتِ الشَّركةِ، لَنْ أقبلَ عَلَى نَفسِي هَذَا الاِستحقارُ، وَالاستخفافُ بِي، هُناكَ نِساءٌ مُوظَّفاتٌ لِهَذَا الغَرض، لِماذَا لَمْ يَتَّفقْ مَعَ إحداهُنَّ؟ لِماذَا مَعَ خَادمةِ البَيتِ؟". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 85، 86).

حاولت الزوجة المُهملة الاهتمام بنفسها من جديدٍ لترضية الزوج وجذبه، وبذلت المستحيل من أجل ذلك؛ لكنَّ رياح التغيير الحاصلة العابرة أتتْ بما لا تشتهي سُفن الزواج الجارية المرور. ولم ينفعها التردُّد إلى مراكز التجميل والتنحيف والشكل الجديد الذي ظهرت عليه. وكانت النتيجة الأخيرة أنْ حدث الانفصال النهائي، وزواجه من الخادمة التي هربت، ووصولهما لنفقٍ ضيِّق واجهه الاثنانِ معاً أخيراً. وتوثيقاً للمكانية التي اهتمت بها الكاتبة في سردياتها التي تجمع بين الداخلي والخارجي حدثت كلُّ تلك التداعيات السرديَّة للقصة في بلاد المنافي بألمانيا عام 2022م:

"وَكُنتُ كَذلكَ أكملُ مَسيرتِي دُونَهُ هُوَ، عَلَى الرُّغمِ مِنَ الخَبرِ الَّذِي اِنتشرَ بِأنَّ مَنْ بَاعنِي لِأجلِهَا هَرَبَتْ خَارجَ البِلادِ وَهيَ مُتَّهمَةٌ بِسرقةِ رَأسِ مَالهِ كُلِّهِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 88).

9- قصَّةُ (غَرابيبُ الأيامِ)

من غير شكٍّ لا بُدَّ من التأكيد السِّيري الذاتي والاجتماعي من أنَّ ذكرى لعيبي الكاتبة والقاصَّة والمرأة (الشّيخَيانِيَّة) التي تنتمي إلى أُسرةٍ عراقيَّةٍ أصيلةٍ فذةٍ، ذات حسبٍ ونسبٍ عريقين، وجاهٍ عشائريٍ كبيرٍ في مجتمع العمارة القبائلي الجنوبي المَيساني والعشائري الريفي وفي عموم العراق كما ذكرنا سابقاً في سرديات هذه الدراسة. فأبوها شيخ عشيرةٍ عام كبير ومهمٌّ، وجدُّها الشيخ الحاج كاظم السَّدخان يُعدُّ من أكبر وأعرق فراضات الجنوب والوسط العشائرية وغيرها في العراق.

عُرِفَ الشيخ كاظم السَّدخان بصاحب الحظِّ والبخت والرأي الذي يجمع بين المشيخة القبلية العشائرية والدِّين باعتراف المرجعية الدينية وقتذاك. فهو شيخ عشيرة البهادل العام وكبيرها وصاحب الرأي التحكيمي السديد الذي تحتكم إليه العشائر العراقية وتقبل بحكمه الباتِّ وفراضته القطعية في زمانه ومكانه.سمعة الرجل الحكيم ومنزلته كبيرة سبقته بين الناس التي تُجلُّه وتحترمه.

فلا غرابة في أُسِ مثل هذه السيرة التاريخية المتأصِّلة أنْ تكون الحفيدة ذكرى لعيبي الكاتبة المُبدعة والبنت المُدلَّلة والشقيَّة معاً –التي لَوَتْ طوارق وتحدِّيات يَدِ زمانها ونخلت بشخصيتها الهُمامة صِعاب وأخطار مكانها- على علمٍ ويقينٍ ودِرايةٍ تامَّةٍ بالتقاليد والأعراف والسُّننِ العشائرية والقبلية المتوارثة اجتماعياً وزمكانياً. وخاصةً تقاليد أهلنا السومريين في الجنوب العراقي المعاصر التي ترتبط بجذورالمكان والزمان والأرض والشرف الاجتماعي البيئي الرفيع في المدينة والقرية.

الأمر الذي جعل القاصَّة على معرقةٍ كاملةٍ بتلك الأعراف والسُّنن العشائرية والنواميس الجاهلية البالية والمُتخلفة التي أخذت ردحاً قارَّاً طويلاً من الزمن تتحكَّم برقاب الناس، وتنوء وترزح تحتها طبقات المجتمع العراقي.وتحت خيمة الظلم والتعسف والاستبداد والتخلُّف وطغيان العبودية الفردية التي لا تحتكم إلى الدين والشريعة، بل تأخذ تعاليمها الموروثة من حكم العشيرة التي تنزح الكثير من قوانينها إلى الجاهلية التقليدية التي تستعبد الناس و تحدّ من حريتهم الإنسانية وتطلُّعهم الذاتي.

ومن خلال قصَّة (غَرابيبُ الأيامِ) يتحوَّل السرد القصصي عند الكاتبة من سكَّة الحياة الحضرية والعصرنة والمنافي الغريبة إلى شرعنة حاضرة الريف العراقي وقبضته التحكمية، وبالأخصِّ إلى ناصية التقاليد والأعراف العشائرية المُتحكِّمة بمصائر الناس والمُتسيِّدة بحياة وعبودية الإنسانية:

"لَمْ أُصدقْ أنَّ اِنتمائِي لِعشيرتِي وَتَفاخرِي بِها يَلزمُنِي التَّمسُّكَ بِتقاليدِهَا، أو الخُضوعَ إلَى عَاداتِها! حَتَّى وَإنْ كَانتْ مُنافيةً لِلحُريَّةِ وَالمَعقولِ. كُنتُ أحسبُ أنَّ مُستوَى تَعليمِي وَثَقافتِي دِرعَانِ قَادرانِ عَلَى صَدِّ بِعضِ العَاداتِ وَالتَّقاليدِ. مَررتُ بِمواقفَ عَديدةٍ صَنعتنِي مِنْ جَديدٍ. جَعلتنِي اَختارَ نَفسِي، وَأفلتُ اليَدَ الَّتِي لَا تَأخذْ بِيدِي لِملاذاتٍ آمنةٍ، مَواقفٌ أُجبرتُ أنْ لَا أعترِفَ بِالرابطةِ الَّتِي تَركتنِي أَغرقُ بِدمعِي وَحُزنِي وَحدِي...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 89).أي رابطة العشيرة وسُنَنِ قوانينها.

في هذه القصَّة المؤلمة تتماهى الكاتبة القاصَّة معَ بطلتها الشبيهة بالحياة والعادات والتقاليد والدراسة والثقافة المعرفية المكتسبة التي توارثتها من تقاليد المجتمع والبيئة والحياة العلمية الثرّة:

"كُنَّا نَعيشُ فِي مَدينةٍ بَعيدةٍ عَنْ مَسقطِ رَأسِي، كَذلِكَ بَعيدةٌ عَنه جَميعِ أقاربنَا. أكملتُ مَراحلَ دِراستِي، وَكَبرتُ هُناكَ...أحببتُ وَتزوجتُ بِمباركةِ وِالديَّ مِنْ دُون مُشكلاتٍ أو تَدخُلِ القَبيلةِ. غَيرَ أنَّ الأقدارَ لَمْ تَمهلنِي الكَثيرَ، فَقدْ بَكَّرَ قَدرٌ مَشؤومٌ بِموتِ أبِي، فِراقٌ تَركَ بَصمةَ حُزنٍ مَا فَتئتْ أنْ تَجدَّدَ مَعَ ألمِ خِيانةِ زَوجِي مَعَ أُخرَى، وَتَركَ فِي صَدرِي ثُقوبَاً لا تُحصَى، فَرجعتُ إلَى غُرفتِي فَي بِيت أهلِي مُنكسرةُ مُنطَفئَةً". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 89).

هذا الحدث قد أحدث شرخاً كبيراً في حياة وشخصية البطلة (غَيداء) وغيَّر مجرَاها التقليدي ونال من شخصيتها وكبريائها الذاتي تحت غطاء القرابة. وعلى إثر وفاة والدها تتصاعد الأحداث بشكلٍّ سريعٍ مقصودٍ، ويتدخَّل أبناء عمومتها الذين طلبوا من والدتها أنْ تترك مثابة بيتها في المدينة وتنظَّمَ إلى الريف أو القرية تحت غطاء المسمَّى العشائري الذي يرفض البقاء في المدينة دون وَالٍ يرعى حياتهم الأسرية. وهي حجَّةٌ اتَّخذوها للتقرَّب منهم وإذلالهم بفرض حكم جائر جُوبٍهَ بالرفض الشديد وعدم الرضا من قبل والدتها وأخيها الأكبر مشتاق، بيدَ أنَّهم لم يستمعوا لرأي الأسرة وأصرُّوا:

"مَرَّ أُسبوعٌ وَاحدٌ، وَعَادَ أولادُ أعمامِي وَمَعهُم عَمِّي الكَبيرُ، وَكَانتْ زِيارتُهم هَذه ِالمَرَّةِ بِإشارةٍ مِنْ شًيخِ القَبيلةِ: -الشَّيخُ يُبلغكُم السَّلامَ، وَيقولُ صَارَ لِزامِاً اِنتقالكُم إلَى مَدينتنَا. -قَالتْ وَالدتِي : رَاحتُنا هُنَا، وَمعيشتُنَا هُنَا كَمَا أَخبرتُكُم سَابقَاً. -سَنقومُ بِتوفيِر جَميعِ اِحتياجاتِكُم، لَا تَكسرُوا كَلمتَهُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 91).

وكان طلبهم مشروط بالتقاليد والعادات العشائرية المتوارثة؛ بحجَّة أنَّ بقاءهم في المدينة دون رجل يرعاهم، وهذا يعدُّ (عيباً)لا يتناسب مع قيم العشيرة ونسقها العرفي الحاكم.وكان ردُّالأبِّ الكبير لهذه الأسرة هو الفيصل في الأمر والرفض هو الجواب الأخير في بقائهم بالمدينة دون رجلٍ مُعيلٍ:

"بَعدَ إِذنكَ عَمِّي، أنَا رَجلُ البَيتِ، سَأفعلُ مَا كَانِ يَفعلهُ أبِي، أُمِّي وَأُختِي سَتعيشَانِ مُعزَّزَتينِ مُكَرَّمَتينِ، لَا أسمح ُلِأحدٍ أنْ يَفرضَ سَيطرَتَهُ عَليهُمَا". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 92).

وفي ظل هذا التوتر المشحون بالعداء وكسر الأنوف وتمريغها، والخضوع للاستسلام والقبول، رفضت غيداء طلب ابن عمها عبد الجبَّار في الزواج منه أو الاقتراب من رجلٍ غريبٍ غيره؛ كونها امرأةً مُطلقة ولا تودُّ تكرار التجربة أو الزواج مرةً أخرى من رجلٍ مُتمسكٍ بتقاليد العشيرة الظالمة وجهلها بالحياة العصرية؛ الأمر الذي أصابها بالفزع وجعلها ترفض الزواج غير المتكافئ:

"أَعرفُ أنَّي أَعيشُ فِي مُجتمعٍ قَبَلِيٍ، وَبَلدٍ تَحكمهُ الأعرافُ وَالتقاليدُ، حَتّى وَإنْ كَانَ الظَّاهرُ غَيرَ ذَلكَ، كَمَا أعرفُ أنَّ الكَلمةَ أصبحتْ عِبارةً عَنْ رَصاصةٍ حَيَّةٍ، وَقَدْ تَنطلقُ مِنْ أقربِ فُوِهَةٍ، أوْ مِنْ فُوِهَةِ قَريبِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 95). إذن غيداء أصبحت بين نار القبيلة ونار الحياة المدنية.

وإزاء ما يحدث لغيداء من أمرٍ جَللٍ وَرَدَ حياتها الخاصَّة، فقد افتضح أمرها بين زملائها في الدائرة والعمل، وكأنَّها تعرَّضت إلى صفعةٍ جديدةٍ لطمتها على خدِّها، أوجعتها آثار فاجعة الضربة بغتةً وحوَّلتها إلى طائرٍ صغيرٍ محكومٍ بقفصٍ مقفولٍ عليه من جميع الجوانب لا حريَّة له ينعم بها. الأمر الذي جعلها تُفكِّر أكثر من مرَّةٍ بالانتحار من أجل الخلاص من سيطرة هذا الزواج بالإكراه:

"هَلْ الاِنتحارُ أسهلُ الطُّرقِ لِلتخلُّصِ مِنْ ضِيقٍ يَصيبُنَا؟ هَلْ يَرضَى الخَالقُ لِلمخلوقِ هَذَا المُوتَ، وَفِي الحَياةِ مُتَّسعٌ لِلعيشِ والأملِ. -لَا يَا عَزيزتِي، لَمْ أصلْ إلَى مَرحلةِ اليَأسِ وَلَا الهَزيمَةِ، بَلْ أُفكِّرُ كَيفَ أسحقُ تِلكَ الفَكرةَ وتَدميرَ ذَلكَ الوَضعِ، وَأنَا وَاقفةٌ عَلَى أقدامِي وَبِكامِلِ قَيافتِي الذِّهنيةِ والَّنفسيَّةِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 96).

ومن القرارات العشائرية التي أُصدِرتْ بحقِّ زواج غيداء من رجلٍ آخر غير ابن عمِّها هو ما يُسمَّى في العُرف العشائري العراقي بقضية (النَّهوةُ العشائريّةُ)، أي عدم التقرُّب منها أو الارتباط أو خطبتها أو الزواج منا بتاتاً.وهو حكمٌ عُرفي عشائري جائر أخذ بالانحسار والتلاشي أيامنا هذه:

"نَعَم اُعتبرَتْ (النَّهوَةَ العَشائريَّةَ) جَريمةً، وَسُنَّ لَهَا قَانونٌ فِي بَلدِي، لَكنْ مَنْ يَعترفُ بِهِ إذَا كَانَ التَّعصبُ القَبَلِي سَيِّدَ المُوقفِ. مَنْ يَتقرَّبُ مِنْ فَتاةٍ وَهوَ يَعرفُ أنَّها (مَحجوزةٌ) تَحتَ هَذَا العُرفِ؟ وَمَنْ يَمنعُ فَتاةٍ تَتَجَرأُ وَتَسجنُ أقاربَهَا مِنْ أجلِ أنْ تَتزوجَ؟". (عَواطفٌ عَلَى لَائحِة الاِغترابِ، ص 97).

وكان قرار غيداء الأخير هو الهروب من المدينة، ومن أعراف وقرارات وسُنن تلك التقاليد الحاكمة والظالمة إلى مكانٍ بعيدٍ آخر يضمن لها حقَّ التمتُّع بحريتها الشخصية دون رادع أو مؤثِّر سلبي يمنعها من ذلك. فعلى الرُّغم من كلِّ تلك التحدِّيات والصعاب تركت غيداء وطنها وغادرت، مُعلِّلَةً سبب هروبها واتخاذها لمثل هذا القرار السريع؛ بأنَّها لا تُريد السير في طريق شاقٍّ لا تعرف نهايته، رُبَّما يؤدِّي إلى العُتمة والنفق الضيق الذي لا تُحمدُ عُقباه أو نهايته الختامية المؤثِّرة:

"فَغَادرتُ الدارَ، وَالنَّخلاتِ وَالوطنَ وَالذِّكرياتِ... إلَى بِلادٍ لَا تَعرفُنِي وَلَا أعرفُهَا، بَيدَ أنَّي أعرفُ بَأنِّي اُمرأةٌ وَاحدةٌ مِنْ بَينَ ألفِ ألفٍ... تَعرفُ مَا لَا يَعرفُهُ النَّهرُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاغترابِ، ص 97).

هكذا كان شعور غيداء النفسي التي تشاركها الكاتبة قلقها الوجودي وهجسها الذي كان تحت طائلة الانتظار الصعب المشوب بالتشاؤم، فتحوَّل إلى حُريَّة حمراء تخرق الزمن الشقي والتقاليد.

10- قصَّةُ (كونٌ رمَادٍئٌ)

هذا الكون الرمادي الدال على رمزية الحياة والموت والوجود والخسارة والإحباط والنكوص، والشعور بالحزن والاكتئاب والغموض والتعقيد واللَّا توازن النفسي الذي وضعته الكاتبة عنواناً بارزاً ومُميَّزاً لعتبتها القصصية اللَّافتة لم يأتِ تدوينه السردي من فراغٍ عابرٍ مجهولٍ أو من خيالٍ سرديّ رؤيوي مفتعل وافتراضيٍّ وهميٍ، بل كان فعلاً يقينياً حقيقياً قارَّاً خلف نقاب اللُّغة ورموزها البلاغية وموحياتها السيمائية. وكان جزءاً مهمَّاً من توثيق سيرة الكاتبة الذاتية والشخصيَّة الخاصَّة إنْ لم أكن مُغالياً ومجاهراً بالحقيقة المرَّة الصادمة، ويتعلَّق بأهمِّ حدثِ مرَّ في تاريخ حياة وجودها وسجل ذكرياتها الإنسانية والاجتماعية الضاجَّةعبرالزمكان بالمفارقات الحياتية الصادمة والمؤلمة.

ومُلخَّص القصَّة أو ثيمتها الرئيسة تتحدَّث باختصارٍ عن رمزية شيخ عشيرة عامٍ كبيرٍ ومهمٌّ من الجنوب يُقَتُل في مُضيف أخيه الذي هو (دَارةُ الضيوفِ) العشائري الرمزي العام للقبيلة. وتتداخل أحداث الجريمة وتتشابك خيوطها في ثلاثة أمور مهمَّةٍ تتراوح بين ثنائية (الشكِّ والإثبات)، أولها: بين لصوص مارقين يسرقون (الحَلَالَ)، أي قطيع الحيوانات من الماشية والأغنام، وثانياً: بين (القتلة) من طالبي الثأر منهم، وثالثاً: بين ابن العمِّ الذي تقدَّم للشيخ القتيل بطلب يد ابنته (رباب) البطلة للزواج منها، وكان الشيخ القتيل قد رفض تزويجه منها لأسبابٍ خاصَّةٍ يحتفظ بها لنفسه ولعائلته. رُبَّما هناك أمر رابعٌ أو نسقٌ مُضمرٌ خفيُّ محتملٌ يتعلَّق بمشكلاتٍ تخصُّ قطع الأراضي الزراعية.

رباب هو الاسم الافتراضي أو المُستعار لصاحبة هذا الكون الرمادي، والذي تعدُّ قصته واقعيةً حقيقيةً بحتةً لم يتغير من أصل بنيتها الحكائية السرديِّة سوى أسماء الشخصيَّات الفواعليَّة المهمة التي بُنيت عليها الحكاية وفكرتها في هذ الكون الناري المشتعل بالثأر الذي تحوَّل إلى بقايا رمادٍ لفعلِ نارٍ انطفأت وموتٍ بطيءٍ مغلٍ بالحزنِ والألمِ الشديدِ، والأمرِ الجَللِ الذي ما زالت قصته تفتق الجرح وتتكئ الألم:

"أيادٍ طًريَّةُ الَملمَسِ بَيدَ أنَّها تَحترفُ خُشونَةً مُستترةً، كِدموعِ تَماسيحٍ تُوهمُ الضَّحيةَ بِعطفٍ مُفترضٍ، بَينَمَا لَا تَبلعُ التَّماسيحً ضًحايًاهًا إلَّا مَعَ غُدَّةٍ تَفرزُ ذَلكَ اللُّعابَ المُرتَدِيَ ثَوبَ الدُّموعِ! كَمْ هِيَ مُخادعةٌ تَلكِ الأيادِي الغَادرةُ..." . (عَواطفٌ عَلَى لَائِحةِ الاِغترابِ، ص 98).

رواية مقتل هذا الشيخ الجليل تذكرها الكاتبة ذكرى لعيبي في صفحات هذا الكون الوجودي الأسود المُميت المنطفئ الذي من بقاياه الدلالية الرماد المُنبعث من جذوة الحدث الواقعية في مجموعتها القصصية هذه، فتقول مصرِّحةً ومعلنةً للقارئ على لسان بطلتها رباب أنَّ الرجل الضحية المقتول:

"كَانَ الَفقيدُ أبَي... مَاتَ مَغدوراً بِثلاثَ عَشرَةَ رَصاصةً فَي الصَّدرِ، قَبلَ يَومٍ وَاحدٍ قَصَدَ بَيتَ عَمِّي القَاطنَ فِي الرِّيفِ؛ لِمتابعةِ أُمورِ الفَلاحينَ وَالأراضِي الزِّراعيَّةِ هُناَكَ، وَدَفعَ أُجورَهُم المُستحقَةَ. وَعاَدةً كَانَ يَقضي اليَومَ وَاللَّيلةَ عِندَهُم، وَيَرقدُ فِي دَارةِ الضُيوفِ، لَكنْ شَاءَ القَدرُ أنْ يَفترشَ السَّريرَ المُوجودَ فِي فَناءِ الدَّارِ-كَمَا هِيَ التَّقاليدُ هُناكَ- غَيرَ أنَّ الحَدثَ الَفاصلَ جَاءَ -حَسَبَ الرِوايةِ- حِينَ دَاهمَ مَجموعةٌ مِنَ اللُّصوصِ أو طَالبيِ ثَأرِ، تَفاجَأوا بِوجودِ رَجلٍ يَنامُ هُناكَ فَأردوهُ قَتيلاً وَهوَ فِي إغفاءتِه؛ هَذَا مَا رَواهُ أحدُ أبناءِ العَمِّ! ولَمْ أُصدقهُم، وَلنْ نَصدقهُم جَميعاً... لَا أحدَ مِنَ الأحبابِ صَدَّق رِوايتَهُم، أصابعُ الاِتَّهامِ تَوجَّهتْ إلَى أحدِ أولادِ عَمِّي الَّذِي كَانَ مُتواجداً تِلكَ اللَّيلةِ فِي بَيتِ أبيهِ، لَكنَّ كَبيرَ العَشيرةِ أمرَ بِالتزامِ الصَمتِ حَتَّى تَنتهِي أيامُ العَزاءِ. أُمِّي طَالبَتهُم بِعدمِ إقامةِ أيِّ      عَزاءٍ... حَتَّى يُعرفُ القَاتِلُ!" . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 99).

لقد خيَّم الحزن على عائلة الشيخ المقتول أبي رباب، كما خيَّمَ الصمت المطبق على أهله، وركنت عقابيل الجريمة تحت طي الكتمان، وَربَّما على الأقل نٌسبتْ إلى فاعل أو قاتل غير معروفٍ برغم الشكوك المحيطة بالموضوع. وخاصةً في الأيام السبعة الأولى من العزاء الذي رَفضت أم رباب زوج الشيخ إقامة مراسيم العزاء قبل التعرَّف على هُوية الجاني أو القاتل الذي قام بواقعة الحدث.

وتنقل لنا القاصَّة مشاهد سرديةً ميلودراميَّةً وتراجيديةً مأساويةً أليمةً لحزن النساء (الشِّيخانيَّات) من أسرة ذوي الشيخ القتيل، و بنات أخيه ممن تربطهُنَّ به صلة نسبٍ وَرَحِمٍ وقرابةٍ وبأبنائه وبناته. مشاهد فاجعية مُثيرة غريبة في تأبين الشيخ وذكر مناقبه والقيام بضربٍ مُبرحٍ ولَّطم على الصدور:

"اِنشدهتُ... أجسادٌ بَضَّةٌ، نَاعمَةٌ، وَكَأنَّهَا قِطعٌ مِنْ بَلورٍ أبيضَ مُزيَّنَةٌ بِحبَّاتِ الكَرزِ اللَّامعةَ، وَأُخرَى مُطعَّمَةٌ بِحبتينِ مِنْ يَاقوتِ الرُّمانَ، وَكأنّهُنَّ لَمْ يَحبلْنَ أوْ يَرضعْنَ صِغارَهُنَّ! مِنْ أيِّ جَنَّةٍ هَبطتْ هَؤلاءِ النُّسوةُ؟ مَنظرٌ رًهيبٌ، اِختلاطُ الحُزنِ بِالجمالِ! كُنتُ أظنَّ أنَا فَقَط أتميَّزُ بِهذِهِ الصِفاتِ!". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 101).هذا هو جمال المرأة الشيخانية الذي اكتشفته الكاتبة بِهُنَّ.

ومن مفارقات العَجبُ العُجاب إنَّ هؤلاء النسوة المُعزيَات يَقمْنَ مجلس العزاء في وقت النهار بإجراء مظاهر اللَّطم المُدمِي والضرب المباشر القاسي على الصدور وبأصواتٍ يعلوها الفزع والغم والحزن والانكٍسار، أمَّا في وقت اللَّيل فيأخذنَ بحبوحة من الوضع المسترخي والطبيعي يأكلن بشكل عادي ويتندرْنَ بالمرح في بيت العزاء الذي يسمَّى (بالصَّيوان)، بالرغم مما عرف عن النساء الشيخانيات بأنهُنَّ مرحات عاشقاتٍ للحياة، ويبدو أنَّ لكلِّ وقتٍ حُزنهُ وفرحهُ الذي يظهر فيه.

وإثر هذا الجوِّ المشحون بالحزن والمعبَّأ بالافتراضات والشكوك بأحداث الجريمة النكراء، كَثُرتْ الأحاديث والأقاويل والشائعات من قبل النسوة اللَّواتي المُعزِّيات ولفيفٍ من الجيران حول مقتل الشيخ. فمنهم من رمى الكرة في ملعب رباب ابنة الشيخ الضحيَّة الذي رفض تزويجها لابن عمِّها الذي قُتِلَ الشيخ في بيتهم؛ لكي تُبّرَّأ ُساحتهم من الاتهام بمقتله الذي يدينهم بفعل الجريمة الغامض:

"وَانقسمَتِ العَشيرةُ إلَى أكثرِ مِنْ فُرقةٍ، وَكَأنَّ الاِنقسامَ قَدَرٌ مَحتومٌ يَبقَى مُستترَاً وَحِينَ يَنفجرُ بُركانُ الكَارثةِ يَظهرُ عَلَى المَلَأ كَغيمةِ غَازَ خَانقٍ، تَهبِطُ تِلكَ الغَمَامَةُ وتَغزو الرُّؤوسَ وَتَستقِرُّ رُؤى الاِنقسامِ فِي العُقولِ العَطشَى لِلكافِ واللَّام...أَهلُ البَيتِ قَالُوا: مَجموعةٌ مِنْ لُصوصٍ أطلقُوا النَّارَ وَهَربُوا. اِبنُ العَمِ المُتهمُ أنكرَ تَواجدَهُ فِي مَكانِ الحَادثِ تِلكَ اللَّيلةَ، وَالشُّهودُ أكَّدوا كَلامَهُ. السِّلاحُ الَّذي أُطلِقَ مِنهُ النَّارُ تَبخَرَ. لَا دَليلَ عَلَى الجَريمةِ، غَيرُ دِمٍ مُزَكَّى اِرتوتْ بِهِ أرضُ جَدباءُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 103). رُبَّما هناك حساباتٌ خفيَّة ومَا خَفِي من الاتِّهام كان أعظم.

لقد أحدث هذا المصاب الجلل أثراً نفسياً كبيراً على ابنة الشيخ القتيل الفتاة (رَباب) التي هي في الحقيقة شخصيَّة الكاتبة أو البطلة الساردة أو صاحبة القصَّة. لقد تعرَّضت للإغماء وفقدان الوعي، وتمَّ عرضها نتيجةَ ذلك على بعض العرَّافين أو المُهتمِّين بِالروحانيَّات الشعبية، فمنهم من قال إنها مَسحورة أو مُتلبسَة السِّحر أو مَسقيَّة به، ومنهم من نصحهم بالذهاب بها لزيارة السيَّد (أبو سِدرة) المعروف بالسيَّد ماجد الهاشمي. في حين كان أخوها يرفض كل هذه الادعاءات والافتراضات المقدَّمة، ويدعو إلى الذهاب بها إلى مستشفى الراهبات في بغداد لمعالجتها نفسياً وطبياً وإنسانياً:

"...غَيرَ أنَّ صَوتَ أخِي تَناهَى قَائلاً: لَا هَذَا وَلَا ذَاك لَا بُدّ مِنَ السَّفرِ إلَى بَغدادَ، مُستشفَى الرَّاهباتِ الخَاصِ هُنَا يُعالجُ حَالتهِا. إلَّا أنَّ الجَميعَ اِتَّفقوا عَلَى أنّْ يَأتُوا بِالعرّاف لِلبيتِ؛ لَأجلِي... وَقَدْ جَاءَ العَرَّافُ..." (عَواطفٌ عَلَى لَائحِة الاِغترابِ، ص 104، 105). حَدثَ كُلُّ ذلك الأمر لها لكنْ دون جدوى.

وتنطوي صفحة مقتل هذا الشيخ المغدور وقصَّة واقعته الحدثية المثيرة للجدل وما خلَّفته من آثارٍ سيِّئةِ على الأطراف المتشاكلة، وتُسجَّلُ جريمة قتله ضد فاعل مجهول الهُوية، ويجلُّ محلُّها بدْء مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل الحياة برغم مرارة المأساة التي خاضتها البطلة رباب أو الكاتبة العليمة بهذه القصة حينما وضعت الأمل والعلم عند الله عدلاً بدلاً من الاتِّهام الذي يٌمزِّق القلوب:

"وَمَعَ اِنبلاجِ فَجرٍ جَديدٍ وُلِدتْ نَجمةٌ مُشعةٌ فِي مَسارِ كَونٍ رَمادِي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاَغترابِ، ص 107).هذه الولادة الجديد التي وظَّفتها الكاتبة في خاتمتها التأملية تشي بحياةٍ جديدةً بعيدةٍ عن الثأر والدم المسفوك الذي ترك ليومنا نُدوباً عالقة في القلوب بين العائلتين وبين أفراد العشيرة المتشاكلة.

11- قصَّةُ (زواجُ الدَّمِ)

زواج الدم أو ما يُعرفُ عشائرياً بـ (المَرأة الفُصْلِيَّةِ) من المصطلحات والمفاهيم التراثية الشعبيَّة العراقية العشائرية التي خلَّفتها الأعراف والسُّنن القبيلة المتوارثة في المجتمع بحقِّ المرأة. ويعني زواج الدم، المرأةَ التي تُمنحُ هِبَةً دونَ مقابلٍ مع الديَّة إلى أهل القتيل أو ذويه من عشيرته بوسائل قسريةٍ كالغصب والإجبار والظلم والإكراه والعدوانية المقَّننة. وهذا المفهوم العشائري سائد في العشائر العراقية، وخاصَّةً بين العشائر الجنوبية الريفية الصرفة التي تلتزم بهذه السُّنة التقليدية.

وقد أخذ هذا الزواج بالانحسار والتلاشي بعد طغيان المدنية وانتشار مظاهر العصرنة، وتفتح الوعي بين كثير من أبناء الريف والقرى في العشائر. وفي ظلٍّ هذا المقام السردي تعكف القاصَّة ذكرى لعيبي على أرخنة وتدوين وتوثيق تاريخ هذا الفعل القميء اللإنساني المؤلم؛ لا لكونها المرأة الشيخانية التي تُنسب لأُسرةٍ عريقةٍ من الشيوخ المعروفين، وذات الحسب الرفيع والوجاهة والتحكيم في المجتمع العراقي الميساني فحسب، وإنَّما لأن ثقافتها وتعليمها ونفسيتها الذاتية كامرأة حُرَّةٍ تستهجن دونية هذا الفعل وترفضه كليَّاً برغم تمسكها بتقاليد العشيرة وسُننها التقليدية الباتَّة.

فضلاً عن معرفتها التامة بما يُسمَّى بزواج (الفُصليَّة)، أي المرأة التي تُعطى (فَصْلاً) مع دِيَّة القتيل لأهله كأحد شروطها التي ترى فيه العشيرة شرطاً وعقوبةً وتعويضاً وإذلالاً لأهل الجاني بالفعل الحدثي. ولتقرأ في هذا الجوَّ التراجيدي مشاهدَ وصورَ الحزن الطاغية على زفاف الفُصليَّة:

"زَغاريدٌ غَائبةٌ... خُطَىً ذًليلةٌ... ومَشاعرٌ مُنكسرةٌ...وعَواطفٌ مُرتبكةٌ... لَا وجُودَ لأيِّ مَظهرٍ مِنْ مَظاهرِ الفَرحِ... هَكذَا كَانتْ لَيلةُ عُرسِي! كُنتُ أحلمُ مِثلَ أيَّةِ فَتاةٍ في أنْ تَكونَ لَيلةُ العُمرِ، أجملَ لَيلةٍ فِي حَياتِي، وَأنْ ألبسَ فُستانَاً بِلونِ الثَّلجِ، تُزَيِّنهُ قَصَباتُ الكِريستالِ وَحَبَّاتٌ مِنْ اللُّؤلؤِ، وَأضعُ فَوقَ رَأسِي تَاجَاً، يَتَدلَى مِنهُ إكليلٌ مِنْ قِماشِ التُّورِ الخَفيفِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 108).

وتُعزَى أسباب زواج الدم (الفُصليَّة) إلى حدوث جريمة قتلٍ سواء أكانت مقصودةً عن عمدٍ أو غير عمدٍ تحدث نتيجة خطأٍ أو فعل طارئ أو حادثٍ يؤدِّي إلى مقتل الإنسان فيكون ديَّةَ تعويضٍ بهذا الزواج غير المتكافئ بين الطرفين المُتوحدينِ ظُلماً وعدواناً؛ فهو أشبه بزواج إكراه وسلب إرادة:

"أقسمُ بِاللهِ لَيسِ قَصدِي أنْ أقتُلهُ.[...] يُمَّه وَاللهِ لَمْ أعرفْ أنَّ البُندقيةَ مَحشوةٌ باِلرَّصاصِ. اِلتفتُّ نَاحيةَ (عَمو أبو رَبيعٍ)؛لأرَى وَجهَهُ وَقدْ تَغيَّرتْ كُلُّ مِلامحهِ، جَلسَ عَلَى الكُرسي:-عَمُو، عَبدُ الكَريمِ قَتلتَ مَنْ؟وَقَبلَ أنْ يردَّ؛هَجمَ عَلَى بَيتنَا لَفيفٌ مِنْ عَشيرةِ آلِ شَبحٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 110).

ومهما يكن من أمر هذا القتل أكان عمداً أم غيرَ عمدٍ فإنَّ عشيرة المجني عليه يطلبون الثأر أو أخذ أموال الدٍيةٍ -بعد التصالح- من أهل وعشيرة الجاني مهما كان شأن الفاعل وأهله وشخصه وحسبه ونسبه ومركزه الاجتماعي في القبيلة. على الرغم من الموقف الذي تسرده القاصَّة من أنَّ :

"قَبيلةُ آلِ شَبحٍ قَدَّرتْ أننَا نِساءٌ لَا حَولَ لَهُنَّ وَلَا قُوَّةَ، وَطَلبتْ أنْ تَجلسَ وتَتفاوضَ مَعَ أعمامِي، وبَعضِ رِجالِ قَبيلتِي. فَكانَ الثَّأرُ دَفعُ (الدِّيَّةِ)، مَبلغَاً كَبيراً مِنَ المَالِ، وَمَعَ اِمرأةٍ (فُصْلِيَّةٍ)![...] حَاولَ عَمِّي الكَبيرُ إرضاءَهُم بِعرضِ مَبلغٍ كَبيرٍ مَقابلَ التَنازلِ عَنَ طَلبِ زَوجةِ الفُصْليَّةِ، غَيرَ أنَّهُم أصرُّوا عَليهَا، بَلْ أحدُهمُ حَدَّدَ مَنْ تَكونُ المَرأةُ! فَكنتُ أنَا.. وُئِدَتْ أحلامِي أمامَ عَينيَّ وَدُفِنَتْ تَحتَ سَريرٍ هَرِمِ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 111).

واللَّافت للنظر في تداعيات هذه القصة أنَّ أخت الشاب القاتل كانت طالبةَ ثانويةٍ تدرس وترتبط بعَلاقةٍ عاطفيةٍ مع شخصٍ أو زميلٍ لها في الدراسة يُدعى وضَّاح الذي لم يستطع أنْ يفعل لها شيئاً، أو يقدَّم لها حَلاً ناجعاً يرضيها مثل الزواج بها بعد فوات الأوان، فما كان منها إلَّا وأن دعته للهرب معها، فأبى فعل مثل هذا السلوك؛ كونه غيرَ قادرٍ اجتماعيَّاً على تحمل مسؤوليته العرفية والقانونية:

"نَهربُ أينَ؟ -أيَّةُ مَحافظةٍ أُخرَى، أو خَارجَ الحُدودِ، أنَا لَا أخسَرُ شَيئاً؛ لَأنِّي لَا أملِكُ بَيتَاً لَي أوْ لِأهلِي، وَمَا زِلتُ طَالبَاً، مُوضوعُ هُجرتِي وَتَغرُّبِي لَا تُغيِّرُ مِنْ حِرمانِي وَعَوزِي...-هُجرتِي غَيرُ مُمكنةٍ وَأنتَ تعلمُ لَا أَمتلكُ جَوازَ سَفرٍ، ثُمَّ كَيفَ أهربُ وَأتركُ أَهلِي فِي مُصيبتينِ بَدلَ المُصيبَةِ الوَاحدةِ؟ وَرُحتُ فِي نَوبةِ بُكاءٍ مَريرٍ، وَنَدمٍ كَبيرٍ... نَدمتُ؛ لأنَّنِي لَمْ أوافقْ وَضاحًاً عَلَى الزّواجِ خِلالِ تِلكِ الفِترةِ، شَعرتُ أنَّ سَوطَ القَدَرِ فُقرُهُ عَذَّبنَا مَعَاً، كُنتُ- لَوْ وَافقتْ عَلَى الاِقترانِ بِهِ. لِرَسمتُ حَياةً غَيرَ مَا َرسمُهُ لِيَ القَدرُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغتراب، ص 112).

. فاستنفدت كُلَّ وسائل التفكير ولم يعد لديها سوى التفكير بالانتحار كحلٍ سليمٍ يُريحها من الظلم بعد أن خذلها حبيها وضاح في قضية الهروب معها؛ لعجزه وتسليمه للقضاء والقدرأو للأمر الواقع الذي لا بُدَّ منهُ.على الرغم من كونه فعلاً سلبياً مقصوداً وليس قضاءً، بل ضياعاً وخسارةً للعمر:

"وَكَانتْ كَفَّةُ البَقاءِ وَانتظاِر مَصيرِي، الأثقلَ وَزنَاً، والأقلَّ خسائرَ وَإيذاءً لِمَنْ حَولِي... وَلَا ضَيرَ مِنْ خٍسارةِ نَفسِي.. فَأنَا الضَّحيَّةُ شِئتُ أمْ أبيتُ... اتِّصلتْ بِوضاحٍ لِلمرِّةِ الأخيرةِ: -وَضَاحُ غَداً يَومَ مُوتِي. [...] غَداً رُوحِي تُعدَمُ وَكَيانِي يُهدَمُ. وَكَيانِي تَشَظَّى مُنذُ سَماعِي خَبرَ زِفافِكَ يَا رُوحَ رُوحِي... خَارتْ قِوايَ بِأكملِهَا، تَعَالَ لِنهرِبَ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 113).

لقد ساقها القدر العشائري المَحتوم إلى سفينة هذا الزواج الذي ستغرق في لُججه المُهلكة التي لا أمان في خضمها المتلاطمة ذات الرغبة الإجبارية والإكراه النفسي على شيء لا تحبُّه النفس أبداً:

"دَخلتُ بَيتَ زَوجِي مِنْ دُونَ ثُغاءٍ خَروفٍ يَئنُّ تَحتَ سِكينِ قَصَّابٍ، وَرُبَمَا هَذهِ النُّقطةُ الإيجابيةُ الوَحيدةُ.. إذْ لَمْ تُسفكْ قَطرةُ دَمهِ عَلَى قَدَمِي، إكرامَاً لِسفكِ أغلَى قَطرةِ دَمٍ عِندَ أيِّ اِمرأةَ! كَانَ رَجُلاً خَشناً بِكُلِّ مِا تِعنِي الكَلمةُ؛ مُتجهمَ المُحَيَا، غَليظَ الشَّاربِ، عَيناهُ كَعيني عِقابٍ مُتَسَمِّرَتانِ وَمُركَّزتَانِ عَلَى الجُزء الأسفلِ مِنْ جَسدِي، وَمَا هِيَ إلَّا دَقائِقٌ مُعدودةٌ حَتَّى اِنقضَّ عَلَى كُلِّ تَفاصيلِي... ثُمَّ نَهضَ، اِغتسلَ، وَأدارَ ظَهرَهُ وَغَرقَ فِي نَومٍ عَميقٍ، يُصاحبُهُ شَخيرٌ مُقزٍّزٌ. هَكَذَا مُتُّ، وَهَكذَا حُرِقَتْ أحلامِي، وَنُثِرَ رَمادُها صَباحُ اليَومِ التَّالِي فُوقَ حُقول] خَاويَةٍ، إلَّا مِنْ شَجرةِ عَاقولٍ خَاويةٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةٍ الاِغترابِ، ص 114).

وعلى الرغم من قيود هذا الزواج القسري وطبيعته المُذلة وإهانته للمرأة ولشخصيتها الإنسانية، تمكَّنت الزوجة الفُصْليِّة من كسر قيود مِعصمِ هذا الزواج في البحث عن حُريتها المفقودة التي وُضِعتْ تحت لائحة الانتظار الصعب، فتحدَّثت مع زوجها صارخةً بقوةٍ ما ذنبي أنْ أكون فُصْليَّةً:

"أنَا لَا أُريدُ شَيئاً سِوى أنْ تُعاملنِي بِالحُسنَى. لَمْ يَرِدُّ.-أنتَ رَجلٌ نَبيلٌ... وَشَهمٌّ، وَرُبَّما فَعلتَ هَذَا الأمرَ مَحاباةً لِأهلكَ وَعَشيرتِكَ، لَكنْ هَلْ سَيستمرُّ الوَضعُ هَكذَا؟ عَدَّلَ مِنْ جَلستهِ قَليلا، ثُمَّ تَنحنحَ... وَقَالَ: دِعِي الأمرَ لِلأيامِ. اِعتبرتُ جُملَتَهُ بَدايةً لِتغييرٍ إيجابيٍ سَيحصلُ فِي عَلاقتِنَا، رُبَّما سَيتكلَّمُ مَعَهُم وَيَمنعُهُم مُنادَاتي بِـ: يِا الفُصْليَّةُ!". (عَواطفُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 115).

ظنَّت الزوجة أنَّ العبارة الأخيرة لزوجها هي البداية لنهايةِ نفقٍ مُظلمٍ حالكٍ طويلٍ في رباط الزوجية؛ ولكن الحقيقة كانت غير ذلك. لقد مرَّت الأيام كسابقتها ولم يحدث لها أيُّ تغييٍر إيجابيٍّ يعتقها من هذا السجن البغيض، بل على العكس من ذلك فقد ظهرت مشاكل كثيرة بخصوص مسألة الحمل وخلفة الأولاد التي لا ترغب بها الزوجة خوفاً من آثار العار الذي يلحق بأولادها عند الكبر إثر تداعيات ما يسمَّى بزواج الفصلية القبلي حينما يعلموا بأنَّ أمهم فُصليَّةً فينكسروا مجتمعياً:

"إنَّني لَا أرغَبُ فِي الإنجابِ، وَاِستخدمِ أقراصِ مَنعِ الحَملِ، وَبَرَّرتُ السَّببَ وَضعِي المُهينُ فَلَا أُريدُ لِأطفالِي أنْ يَعيشُوا هَذَا الوَجعَ، أوْ يُشاهدُوا أُمَّهُم فِي هِذهِ الزَّاويةِ المُعقَّدةِ المُهملَةِ. اِشتاطَ غَيظَاً، فَلمْ أعرفْ مَا حَدَثَ إلَّا بَعدَ مُرورِ سَاعَاتٍ... كَانَ قَدْ لَطمَنِي عَلَى وَجهِي بِقبضةِ يَدِهِ حَتّى سَقطتُ مُغشيَاً عًلَيَّ. كُنتُ أسمعُ عُباراتِ السبِّ والشَّتمِ فِي كُلِّ وَاردةٍ وَشَاردةٍ؛ فَكيفَ لَا وَأنَا أُذَكّرُهُم بِمقتلِ وَلدِهُم عَلَى يَدِ أخِي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 115).

ومن الجمل والعبارات المُحرَّمة لفظياً وذات التابو الذي لا يتخطَّى حدود العلاقة الزوجية (الفراش) مع هذا الزوج غير المكافئ للحياة الزوجية الخاصة، فقد باحت به القاصَّة في تصوير مشاهد الحياة المشتركة بينهما، لتكشفَ عن أسرار وظلم الحياة التي تَدور تَحتَ سَقفِ واحدٍ ومن طرفه الآخر:

"بَعدَ هَذهِ الحَادثةِ أصبَحتْ مُضاجعتُهَ لِي أشبَهَ بِحالاتِ الاِغتصابِ، وَاتَّسعتْ مَسافاتُ النَّأيِ بَيننَا، خَاصةً عِندمَا عَرفَ أنَّني لَنْ أنجبَ مُستقبلاً؛ بِسببِ عَيبٍ خَلقِيٍ فِي الرَّحِمِ! فَيُصْبِحُ ويُمسِي وَهوَ مُنتفضٌ مِنِّي: -أَصلاً أنتِ اِمرأةٌ عَاطلةٌ عَنْ أنْ تَصبحِي أُمَّاً، كَانَ وَفَّرتِ المَالَ الِّذِي تَشترينَ بِهِ أقراصَ مَنعِ الحَملِ. أوجعتْ رُوحِي جُملتُهُ القَاسيةُ؛ كَمَا أوجعتنِي الدُّنيَا، وَهَذَا القَدَرُ الَّذِي يَتربَصُ بِي. -أَلَمْ تَكتَفِ مِنْ إهانتِي؟ أتَوسَّلُ إليكَ أنْ تَعتقنِي لِوجهِ اللهِ..." . (عَواطفٌ عَلىَ لَائحةِ الاِغترابِ، ص116).

وبَعدَ أنْ أعتقها زوجها من شِركِ هذا الزواج الغصب وطلَّقها، رجعت كسيرةً حسيرةً أسيرةً إلى بيت أهلها الذي صار ملاذاً لعوامل الشتات التشظي والخراب والاضمحلال والتلاشي، فأخوها قد هاجر للخارج؛ بسبب ما حصل له من نكبةٍ وضياعٍ وفعلٍ لم يكن مقصوداً، ووالدتها لَقتْ حتفها ولم يبقَ لها أحد تعيش معه ما تبقى من حياتها، فما كان منها إلَّا الإيواءُ عند أحد أقاربها، والرجوع لجامعتها، والالتفات لمستقبلها الشخصي بعد أنْ فقدت حبيبها وضَّاح الذي تزوَّج بامرأة ثريةٍ تكفَّلتهُ:

"لَمْ أجرَحْ حَبيبِي العَتيقَ بِحقيقةِ اِنهزامِ عَواطفِنَا أمامَ القَبيلةِ وَالعَوزِ، غَيرَ أنَّنِي قَرَّرتُ أنْ أخوضَ فِي الُمستحيلِ المُمكنِ، وَأنْ أبدأَ مِنْ بَعدَ النِّهايةِ؛ فِي البَحثِ عَن ْبِدايةٍ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 117). ومع هذه النهاية العدمية، كلُّ شيءٍ له عَلاقةٌ بماضيها قد انتهى برماد نهايةٍ لبدايةِ أملٍ جديدةٍ.

12- قِصَّةُ (مَعَاً إلَى الأبَدٍ)

 (مَعاً إلّى الأبدٍ)، هي القصَّة ما قبلَ الأخيرة التي وظَّفتها الكاتبة في متن هذه المجموعة السرديَّة ذات الوقائع والأحداث الحكائية المتراتبة، والتي تتحدَّث فيها الكاتبة عن تجلِّيات الحبِّ وجملةٍ من فيض المشاعر والأحاسيس العاطفية بين فئةٍ كبيرة من الناس؛ وذلك من خلال كمٍ كبيرٍ من الرسائل التي كتبتها القاصَّة بلغةِ ضمير تاء الفاعل الدالة على أنويتها الوجودية؛ لتكون جزءاً مهمَّاً ضافياً من كون شخصيَّات هذه المجموعة السِّيريِّة التوثيقية للحدث والفعل والمعنى والمبنى السردي.

ارتأتْ القاصَّة أنْ تكون رسائلها عبر أثير ومجسَّات التواصل الاجتماعي، قارَّةً من خلال شعورها النفسي والشخصي الفياض، بأنَّ كلَّ شيءٍ وجودي يُحيط بنا قد انتهت صلاحيته وتاريخه. وتقودها بذلك مشاعرها الحقيقية إلى الحبِّ الافتراضي في السوشل ميديا، حبُّ رَجُلٍ أجبني لم ترهُ أو تعرف عنه شيئاً سابقاً سوى أنَّ مشاعرها انقادت إليه تجرُّ أذيالها بهذا الحُبِّ الجديد الذي أعمى قلبها:

"لَيتَنِي لَمْ أقتربْ مِنهُ أكثرَ...وَبَقينَا غُربَاءَ نَتفقدُ بِعضنَا إنْ غَابَ أحدُنَا عَنْ صَفحتهِ فَترةُ وأصبحتْ صَفحاتُ السُّوشلُ مِيديَا بَوابةً وَحيدةً لِمتابعةِ تَدفُقِ هَذَا الشُّعورِ! نَقلقُ مِنْ دُونَ أنْ تُحاصرُنَا الشُّكوكُ والهَواجسُ، نَختلقُ الأعذارَ لِلتواصلِ. لَيتنِي لَمْ أُبادلهُ الحُبَّ عِندَمَا اِعترفَ لِيْ، وَبَقيتُ أتأمَّلُهُ فَقَطْ، كَصبيةٍ تَتأمَلُ صُورةَ الرَّجلِ الخَارقِ فِي المِيديَا، لَيتنِي لَمْ أفتحْ بَابَ القَلبِ؛ لأنَّ دُخولَهُ بِكُلٍّ زَهوٍ حِينهَا تَسبَّبَ بِوجعٍ دَائمٍ مَا بَرِحَ يَتجدَّدُ بِمناسبةٍ أو دُونَهَا. كُلُّ كَلمةٍ أكتبُهَا لَهُ، كُنتُ أشعرُ بِدفءِ حُروفهَا، وَكَأنَّي أرَى لَمعةَ المَحبَّةِ فِي عَينيهِ وَهوَ يَقرأُها، فَأُصفقُ لِنفسِي؛ وَأفترضُ أنَّني اِنتصرتُ عَلَى هَذا العَالمِ الاِفتراضِي". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 120).

لقد قادتها مشاعرها الإنسانية الظمأى التعرُّف إلى شخص أو طبيبٍ أجنبيٍ من ولاية كارولينا الشمالية بأمريكا، الذي كان يَحبُّ قراءة الأدب العربي، والتعرُّف إليه، ويتابع كتابات بطلة هذه القصَّة التي وشمتها بعنوان (معاً إلى الأبدِ) كما تشير بتسريدها الحكائي. فَيتمُّ التواصل بين شخصية وفاء البطلة وحبيبهاالمفترض العاشق الطبيب جون من خلال مجموعةٍ كبيرةٍ ثرةٍ من رسائل الحبِّ والودِّ والإعجاب والغرام الناعم الشفيف وفي فتراتٍ عديدةٍ من الجذب والشدِّ والشكِّ والإيهام:

"جَلستُ أُحدِّثُ نَفسِي..لا أنكرُ أبَداً كُنتُ أتمنَّى أنْ يَعشقَنِي رِجلٌ يُشبههُ فِي كُلِّ مَا عَرفتهُ حَتَّى هَذِه اللَّحظةُ، يُشبهُهَ إلَى دَرجةِ الشَّكِّ..إلَّا أنَّه هُوَ لَمْ يَتطرَّقْ إلَى الحُبِّ وَالعشقِ، رُبَّمَا هَكذَا ثَقافةُ الغَربِ وَمجَاملاتُهم..نَعَم..وَأيضَاً هُناكَ سَيِّدةٌ حَاضرةٌ مَعهُ فِي كُلِّ صُورةٍ!". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص121).

وتمضي عَلاقات هذا الحبِّ والمشاعر الإنسانية المتفاعلة بين وفاء وجون في سلسلة طويلةٍ من الرسائل الماسنجريَّة التواصلية بطريقةٍ شفَّافةٍومُحبَّبةٍ للنفس تُدشَن بأرق العبارات وأجمل التعبيرات الكانَّة عن هذه صدق هذه العَلاقة الجديدة التي تملأ صباحاتها اليومية بالنشاط والفرح في كلِّ يومٍ:

"عَزيزتِي الجَميلةِ؛ أنَا حَقَّاً أُحبُّكِ، أيَّتُهَا الصَّباحُ العَالمِي، الآنَ يُمكننِي تَقبيلَ العَالمِ لَأنَّكِ حَبيبتِي كَمَا أُحبُّكِ، لَكنَّنِي أقبلُ وَإنْ خُيِّرتُ بَينَ حُبِّكِ أو ْجَرةِ نَفَسٍ مِنَ الهَواءِ، فَسأختارُ النَفَسَ الأخيرَ لِأخبركِ أَنَّني أُحبُّك إلَى الأبدِ.[...] هَكذَا كَانتْ صَباحاتِي بِشكلٍ مُتواصلٍ لِمُدَّةِ عِشرينَ يَومَاً". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 126).

هذا النصُّ واحد من بين رسائل العشق الغرامية الكثيرة التي دارت بينهما منذ ابتداء الطين وصيرورة هذا الكون كما تعترف وفاء بسردها القصصي الذي تحوَّل إلى مجموعةِ أفكارٍ ثقافيةٍ ونسقيةٍ وإنسانيةٍ مُهمَّة جدَّاً، وكأنهما فيلسوفان عاشقان صغيران يعيشان ظلال الحبِّ ويَسمُوانِ به:

"كُنتُ صَادقةً جِدَّاً فِي مَشاعِرِي مُؤمنةً جِدَّاً بِوجودِهِ، اِخترقَ رُوحِي وَسَيطَرَ عَلى كَيانِي خِلال عِشرينَ يَومَاً لَا أكثرَ، كَأنَّها عُشرونَ عَامَاً، كَانَ يَعرفُ مَا أُفكِرُ بِهِ، مَا أتمنَاهُ، مَا أودُّ سَماعَهُ، أَغرقنِي بِفيضِ حُبٍّ لَمْ وَلَنْ أراهُ أوْ أحيَاهُ مِنٍ بَعدَ. عِشتُ لِياليَ رُعبٍ لَنْ أنسَاهَا فِي غِيابِهِ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص133).

وحثيثاً تسير البطلة وفاء بمشاعرها الجيَّاشة من خلال تُرجمان الكاتبة السَّاردة لهذا الحدث الإنساني الكبير في تبرير المسوغات التي دعتها إلى حبِّ هذا الرجل الأجنبي، وكيف تكون نهاية هذا الحبِّ الذي تعلَّقت به دون أن نعرف نتائجه الأخيرة؟ فهي تعترف بثقةٍ كبيرةٍ بالنفس بأنَّ بعضاً من القرَّاء الأصدقاء الذين تابعوا فعل إرهاصاتها الذاتية التي كانت مُعلقةً بقيدٍ على مشاعر لائحة الانتظار، فكان بعضهم يعتقد أنَّ نهاية هذا الحبِّ ستكون سعيدةً، وهم المُحبُّون المقرَّبون منها جدَّاً.

وبعض منهم توجَّس وخاف من هذه طبيعة هذه العَلاقة السريعة، مُعتقداً أنَّ الطبيب الأمريكي قد يكون شخصاً نصَّاباً يخفي وراءه أصل حقيقته الشخصيَّة، وبَعضٌ منهم اعتقدَ أني ساذجةٌ، وأنَّ مشاعر الغربة ومتاعبها جعلتها تتشبث بهذه القَشَّةِ وسط أحلامٍ وتحوُّلاتٍ كثيرةٍ؛ بسبب كوني سيَّدةً شرقيَّةً عراقيَّةً، وبعضهم الأخر تَصوَّر أنَّ خيالي كان جامحاً في البحث عن طبيبٍ أجنبيٍ غَربيٍّ أوربيٍ يُداوي جرح أمراضي الشخصية المتوارثة جيلاً بعد جيلٍ.

وذلك كوني كما يعتقدون صرتَ ضحيةً من ضحايا وراء الحداثة رغبةً مني في مواكبة العصرنة، وُربَّما هناكَ عند بعضهم الأخر الخفي طُروحات أخرى. والكثير منهم يتصوَّر من أنَّ البطلة أو (الكاتبة) تكون نهاية قصَّتها قريبةً إلى خطِّها الكتابي، والحقيقة أنَّها اختارت أنْ تكونَ لها نهاية مفتوحةً تُرضي أذواق جميع القُرَّاء والمتلقِّينَ ممن يُحبُّون قصصَ الحبِّ الذي يدوم إلى الأبد معاً:

"إنِّي سَيِّدةٌ عَاطفيَّةٌ صَادقةٌ مَعَ ذَاتِهَا، لَمْ يَنصفنِي القَدرُ، وَأحببتُ جُونَ بِصدقٍ بِغضِ النَّظرِ عَنْ التَّاريخِ والجُغرافيَا وَالوَطنيَّةِ وَالحِسابِ...عُذرَاً...كَانَ قَدَرِي دَائمَاً الانتظارَ، وَهَاهِيَ عَواطفِي تَنتظرُ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 135). وهذا اللُّون يُسمَّى حبَّ الجامعة الإنسانية.

فهذا من الاغتراب النفسي والوجودي للكاتبة، هو سبب رئيس من أسباب كتابة هذه القصَّة التي دارت في منافي الاغتراب واللُّجوء الغربي، وغيرها من القصص الأخرى التي تنفتح على الذات الواقعية الجمعيَّة المشتركة.

13- قصَّةُ (المُتعَبُونَ)

آخرُ مشاعر قيد الانتظار في مواجهة هذا الاغتراب النفسي والبحث الوجودي عن هُوية الانتماء الإنساني قصَّة (المُتعبُونَ) التي وردت في ذيل طيَّات وخاتمة هذه المجموعة القصصيَّة الماتعة الأفكار والرؤى والأحداث الإنسانية المتصارعة مع هُوية الواقع الإنساني المعيش. (والمُتعبونَ) تتحدَّث سردياتها التكوينية بصدقٍ عن مجموعةٍ قيمةٍ من الشخصيَّات المجتمعية الناهضة المتنوُّعة التي أصابها التعب والإجهاد النفسي والمعنوي والإحباط الفكري أكثر من التعب الجسدي المُباشر.

فتأتي حكاية المرأة المنتظرة ضحى على رأس هذه القصَّة، ويتبعها أيمن الطالب الجامعي الموجوع نفسياً وإنسانياً، ويتقفَّى ما في الأثر المرأة وهَاج الزوجة المرغمة على الزواج بالإكراه والمساوة دون رغبتها وحبها، وحبُّ الرجل عاطف لزواج الخدعة في التقرب من هالة.هذه جميعها صُلب هذه القصَّة وتُشكِّل مِساحةَ ميلودراما أحداثها السرديَّة، والتي أصبح الكثير منها تراجيديا إنسانيةً حالمةً وباكيةً من ويلات وجع هذا الزمان وتعقيداته وإشكاليات عصرنته الزمانية الخطيرة.

فشخصيَّات مثل، (ضُحى وأيمن ووهَاج وصَلاح وهَالة وهَاشم وَاطف)، هي من إفرازات شخوص هذه القصة الفواعلية وضحايا المجتمع الإنساني الذين سنقرأ بإمتاع وتفكُّر ما تخبرنا عنهم ذكرى لعيبي؛ كونها الرائية العليمة والساردة لقصص نماذج هؤلاء المُتعبين من أبناء الناس، والذين يواجهون اضطراباتٍ نفسيةً كثيرةً في حياتهم الخاصَّة التي تحتاج إلى مساعدةٍ نفسيَّةٍ وعمليةٍ وتوجيهٍ اجتماعي خاصٍ، وحلولٍ ناجعةٍ توصلهم إلى ضفاف الحقيقة وشطآن السلام الآمنة:

"عِندَمَا اِخترتُ تَخصُّصَ الطِّبَ النَفسِيَ، كُنتُ أُفكِّرُ بِأصعبِ مَرحلةٍ فِي حَياتِي، مِزاجٌ سَيِّءٌ، سُلوكٌ غَيرُ مُتوازنٍ، أَعصابٌ مَشدودةٌ عَلَى أبسطِ الأُمورِ إلَّا أنِّي- فِي الجِهةِ المقابلةِ- كُنتُ صَبورةً، مُتعاطفةً جِدَّاً مَعَ صِديقاتِي اللَّاتِي تَصيبَهُنَّ أزماتٌ مُختلفةٌ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، 137).

تخوض الكاتبة الحديث عن لسان واقع حال قصَّة بطلتها، فتشرع بالحديث عن سردية وموضوع صديقتها المُقرَّبة (ضُحى) التي كانت تَدرِسُ بمعيتها في المرحلة الثانوية، تلك الفتاة التي تعيش في كنفِ أُسرةٍ مثقفةٍ منفتحةٍ متفهمةٍ تفهم حياة الحرية ولغتها الخاصَّة بمعانيها الكثيرة المعروفة. لقد أكملت ضُحى دراستها الأوليَّة الجامعية، وتخرَّجت في كليَّة القانون محاميةً مثابرةً وجميلةً:

"تَعرَّفتُ إلَى (صَلاحِ)خِلالَ سَنواتِ الدِّراسةِ، أحبَا بَعضهَمَا، رُبَّمَا هِيَ فَقَطْ أحبتهُ بِصدقٍ...لَبِسَا خَاتمَ الخُطوبةِ، وَكانَ الزَّواجُ مُقرَّراً بَعدَ إِنهاءِ الدِّراسةِ الجَامعيَّةِ، لَمْ يَتفارَقَا حَتَّى فِي أيامِ العُطلاتِ، قَبلَ الّتَخرجِ بِشهرينِ؛ غَدَرَ بِهَا وَسَلبَهَا عُذريتَهَا، وَكانَ يُطمئِنُهَا ألَّا تَخافَ، سَيبقَى مَعَهَا وَيُحقَّقانِ الحُلُمَ مَعَاً. لَكنْ بَعدَ التَّخرُجِ تَخلَّى عَنهَا، وَقَدْ رَمَى فِي وَجههَا جُملتهُ الِّتي غَيَّرتْ مَجرَى حَياتِها وتَوقعاتِهَا وَأحلامِهَا: كَيفَ أثقُ بِفتاةٍ مَنحتنِي نَفسَهَا قَبلَ الزَّواجِ؟". (عواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 138).

تحوَّلت عقدة هذا الزواج عند ضُحى إلى حالةٍ نفسيةٍ مُعقَّدةٍ عندما تخلَّى عنا خطيبها صلاح، واستحالت تلك الحالة المؤثرة إلى جلساتٍ مرضيةٍ مكررة في عيادة الطبِّ النفسي للتخلُّص من هذه الأزمة المسيطرة التي ألمت بها وبحياتها الجديدة التي ستتحول إلى انتحار مفاجئ في نهاية قصتها.

فتروي ضُحى هذه الإشكاليات وتداعياتها النفسية لطبيبتها النفسية وصديقتها المقربة (الكاتبة)، وكانت آلامها وأوجاعها وجروحها وخيباتها ونكوصاتها الشخصيَّة تتحدَّث عنها بدلاً من شعورها القهري الدفين بالانكسار والاستلاب الروحي الوجودي. وفي مقابل ما جرى لضُحى تروي د. هالة (الكاتبة)على وقع لسان بطلة قصتها ما حدث لها في حياتها من مفارقاتٍ إنسانيةٍ عديدةٍ مذهلةٍ:

"بَعدَ عَلاقةِ زَواجٍ فَاشلةٍ لَمْ تَستمرَّ أكثرَ مِنْ عَامينِ، أكملتُ تَعليمِي، مُعدَّلِي العَالِي وَشَغفِي بِالطبِّ وَمَا مَررتُ بِهِ مِنْ اِضطراباتٍ نَفسيةٍ، كُلُّ تِلكَ العَواملِ أوْ المُسبِّبَاتِ جَعلتنِي أَدخُلَ كُليَةَ الطِّبِّ وأَتخصَّصُ فِي قِسمِ الطِّبِّ وَالعِلاجِ النَّفسِي. كُنتُ فِي رِهانٍ مَعَ نِفسِي وَالزَّمنِ عَلَى النَّجاحِ" . (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغتراِب، ص 139).

أمَّا الشخصيَّة الثانية بعد حكاية ضُحى، فهو أيمن الطالب الجامعي والشاب الخجول كما تصفه الكاتبة الطبيبة د. هالة، شعر بأقصى حالات اليأس في الحياة، فهو يرى أنَّ لا هدف وجودي له في العيش بكنفٍ هذه الحياة الكبيرة التي يحياها فرداً إنسانياً مسالماً باحثاً عن أصل ذاته المفقودة:

"أيمنُ وَصَلَ إلَى مَرحلةِ الشُّعورِ لَا مِساحةَ لَهُ فِي الحَياةِ الدُّنيَا، لَا مُستقبلَ، لَا شَيءَ يَستحقُّ أنْ يعيشَ مِنْ أجلهِ، حَتَّى اِتَّفقَ مَعَ نَفسهِ أنْ يَضعَ حَدَّاً لِهذهِ الفُوضَى بِإسكاتِهَا وَخنقِهَا إلَى الأبدِ، لَكنْ صَديقَهُ الَّذِي يُشاركهُ السّكنَ، اِنتبهَ لَهُ وَأنقذَهُ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترَابِ، ص 139).

عاش أيمن حالات الصراع والتِيهِ والضياع، وفارق التعامل العاطفي الإنساني؛ نتيجة انفصاله عن ووالدته، وقد وصل إلى حالةٍ متقدِّمةٍ من الكآبة المُدمِّرة والمرض الذي ألمَّ به إثر هذه الأحداث العائلية والاجتماعية المتأزمة. وفي خِضَمِّ حالات الصراع التي يعاني منها مُرضى د. هبة أو (الكاتبة) تعترف بثقةٍ كبيرةٍ لمتلقِّيها القارئ بأنَّهاعندما تختلي بنفسها مُتجلِّيةً تجدُ حالات مرضاها جميعاً فيها دون استثناء. وتتساءل من قام بعلاجي أنا؟ ومن كان يستمع إليَّ؟ وإلامَ كنتُ أتحدَّث؟

أسئلة كبيرة شكَّلت مفارقةً كبيرةً في حياتها التي تعرَّضت إلى فشل زواجها والعودة إلى جذورها الأولى والبحث عن ذاتها المُغيَّبة. والمهمُّ في ذلك أنَّها حصَّنت نفسها بنفسها لمواجهة أسقام الحياة وتحدياتها، وهذا هو المطلوب في عدم الانكسار والخسارات، ويحدوها في الوقت نفسه إيمانٌ بأنَّ هناك يداً خفيَّةً قد ساعدتها في تمضية حياتها، إنها أناها الذاتية حاضرة معها دائماً لم تخذلها أبداً.

بعد سماع حِكايَتَي ضُحى وأيمن يأتي الحديث عن قصَّة السيِّدة (وَهَاج) الشابة أو المرأة ذات الحسب والنسب والثراء الفاحش والحياة الوادعة الرغيدة، تعرَّضت شركة والدها للإفلاس وكل ما يملك من أموالٍ وممتلكاتٍ خاصَّةٍ. و بعد أشهرٍ قليلةٍ على ذلك فارق الحياة وتسبَّب موته أزمة كبيرة لها:

"عِندَمَا كَانَ وَالدِي عَلَى قَيدِ الحَياةِ لَمْ نُفكِرْ بِالزواجِ، أوْ بِالأحرَى لَا نَرَى فِي مِمَّنْ يَتقدمُونَ، أنَّهم سَيوفرونَ إلينَا مُستوى المَعيشَةِ، وَنَمطَ الحَياةِ الِّتي اِعتدنَا عَليهَا، لَكنْ بَعدَ وَفاتهِ؛ لَمْ يَطرقْ بَابَنَا أحدٌ، مَا عَدَا التَّاجرِ (ضَاري) الَّذي كَانَ لَهُ مَبلغٌ كَبيرُ فِي رَقبةِ أبِي. مَاذَا كَانَ يُريدُ التَّاجرُ ضَاريّ؟ التَنازلَ عَنِ البَيتِ الَّذي نَسكنُ فِيهِ أنَا وَأُختي، أوْ الزَّواجَ مِنْ أحدِنَا. عِندَمَا طَرحتُ المُوضوعَ عَلَى أُختِي، صَارحتنِي أنَّها اِرتبطتْ عَاطفيَّاً بِزميلٍ لَهَا فِي العَملِ، ويُخطَّطانِ إلَى لزَّواجِ قَريبَاً. شَعرتُ فِي وَقتِهَا أنَّنِي الضَّحيَّة لَا مَحالَ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 143).

وافقت وَهَاج على الزواج من التاجر ضاري بدلاً من التنازل عن البيت؛ بسبب ديون له بذمة والدها المُتوفي. وتبدأ مرحلة جديدة لوهاج من المعاناة مع زوجها الذي كان مرتبطاً بأكثر من زوجة له يشاركنهاالرجلَ الكبيرَ الذي لا يوازي رغباتها النفسيَّة ويُماهي بحميمية علاقتها الزوجية:

"أَفهمُ أنَّ ضَاريَاً لَمْ يُقصِّرْ بِشيءٍ مَعَكِ. إلَّا عَواطفَهُ، لَمْ يَمنحنِي الحُبَّ الَّذِي أتمنَاهُ، الشُّعورُ الِّذِي يُدَغدِغُ رُوحِي، لَمْ أَرغبْ فِي أنْ أطلبَ هَذَا مِنهُ، إذْ لا قِيمةَ لِمشاعرَ تَطلبُ، فَضَّلتُ أنْ أحتفظَ بِكرامةِ قَلبِي. تُوفيَ ضَاريٌّ مَعَ زَوجتهِ الثَّانيةِ فِي حَادثِ اِنقلابِ سَيَّارتهِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 144).

وإزاء كثرة هذا العمل النفسي وزحمته تشعر الكاتبة (البطلة) بضرورة تركه لمدَّةٍ قصيرةٍ من الزمن كي تراجع ذاتها، والابتعاد عن الأمراض الاجتماعية المتعدِّدة، فتعود إلى المقارنة بين حياتها قبل سنواتٍ، وبين ما بعدها للكشف عن ذاتها في مصارحةٍ علنية متأمِّلةً ذلك الفارق طويلاً، حتى شعرت بابتسامة رضا عن نفسها؛ لشعورها الضافي بأنها كشخصياتها تبحث عن التوازن .

وأثناء الكشف أو البحث عن ذاتها وتقييمها تلتقي الدكتورة هالة صدفةً بزميل دراستها الجامعية في كليَّة الطب العام الدكتور هاشم، الذي وصفها أثناء اللِّقاء بأنَّ شاغلها الوحيد في دراستها الأولية، هو خطف الأنظار منَّا؛وأنّ ذلك الهدف أو المسعى يحدث من خلال التفوُّق علينا جميعاً كطلبة أطباء.

ويبدأ الدكتور هاشم حثيثاً بإخبار الدكتورة هالة عن جوانبَ عديدةٍ من سيرة حياته الشخصيَّة، وزواجه الأول الفاشل من امرأة. وتُبادله الدكتورة هالة أطراف الحديث عن نفسها وما حصل لها من مفارقات اجتماعيةٍ عديدةٍ كان هاشم على علمٍ بها وكأنَّه يعرف بسجل حياتها الخاصَّة والعامَّة:

"هَذَا الرَّجُلُ يُحبُّنِي، يَعرفُ مَاضِيي، صَبَرَ وَاحترَمْ خُصوصيتِي طِوالَ فَترةِ الدِّراسةِ، هَلْ صُدفةً اَلتقِيهِ اليَومَ؟ أمْ حَانَ وَقتُ الحُّبِّ لِينتصرَ عَلَى مُخاتَلاتِ الدَّهرِ؟ نَعَم حَانَ وَقتُ الحُبِّ، وَفِي نَهايةِ المَطافِ سَنُدركُ أنَّهُ لَمْ يَعُدْ يَهِمُنَا مَنْ تَركنَا وَمَنْ تَركناهُ، وَمَنْ أحبنَا وَمَنْ أحببنَاهُ، مَنْ خَذَلَنَا؟ مَنْ سَرقَ زَهرةَ شَبابِنَا؟ بِقدرِ مَا يَهمُنَا مَنْ مَعَنَا إلَى الآنَ وِإلَى الأبدِ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص149).

أصبح الدكتور هاشم من وجهة نظر الدكتورة هالة (الساردة) رجلَ أحلامها الأول، بيدَ أنَّ الحقيقة الثاقبة تخبرها خلاف ذلك بأنه رجل غادر وكاذب وأفَّاك؛كونه متزوجاً وكانت تظنُّ أنَّه أخفى عنها هذه الحقيقة، ليتخذها متعةً رخيصةً ولهواً دائماً. والحقيقة لم يكن هو الدكتور هاشم الأصلي بلحمه وشحمه ودمه، وإنَّما كان البديل النسخة الثانية له والشبيه به، وادِّعاؤه بحبَّه لها زوراً وبهتانا:

"وَسَطَ صَدمتِي، عَرفتُ بِأنَّ الدُّكتورَ هَاشماً بَريءٌ مِنْ تُهمةِ خِداعِي، وَأنَّهُ تَعرَّضَ لِمواقفَ سَابقةٍ مِنْ شَخصٍ يُشبهُهُ تُمامُاً، وًينتحلُ صِفتَهُ؛ مِنْ أجلِ الإيقاعِ بِالنساءِ، فَاِعتذرتُ لَهُمَا دُونَ خَيارٍ ثَالثٍ، فِتِقبلَا الأمرَ بِروحٍ رِياضيةٍ، أمَّا الدُّكتورُ هَاشمٌ الحقيقِيُ فَقدْ طَلبَ مِنِّي أنْ أنسقَ مَعَهُ؛ لِلإيقاعِ بِالمُنتَحِلِ، وَتَفارقنَا عَلَى هَذَا الوَعدِ...". (عَواطفٌ عَلَى لَائحىةِ الاِغترابِ، ص 153).

وتحت طائلة هذا الادعاء، ومن خلال خبرة الدكتورة هالة في الطب النفسي مع الرجل المنتحل لشخصية هاشم كان رجلاً آخر يدعى (عَاطفٌ)، ووجدت الدكتورة نفسها مرغمةً على علاجه من مرضه النفسي الذي يعانيه، ذلك هو الفقر العاطفي الشديد للنساء الذي يدفعه إلى التعلّق بهُنَّ زُوراً:

"شَعَرتُ بِالغبطَةِ؛ لِنجَاحِي مَعَ مَرِيضِي هَذَا، إلَّا أنَّي بِحَيرِةٍ مِنْ أمرِي، وَكَأنَّي أحدُ المُتْعَبِينَ مِنْ مَرضايَ النَّفسيينَ، فَقدْ تَحوَّلَ عَطفيِ لِعاطفٍ إلَى شعورِ حٌبٍّ". (عَواطفٌ عَلَى لَائحةِ الاِغترابِ، ص 154).

كانت قصَّة (المُتعبونَ) بتمثُّلات شخصياتها الفواعلية السبع وحكاياتها التسريديَّة الأربع وأفكارها الاجتماعية والنفسية والإنسانية المُتشابكة من بين أجمل وأمتع قصص الاغتراب النفسي الحقيقي في مواجهة الذات والبحث عن قيمة الانتماء الإنساني والوجودي للهُوية الشخصيَّة التي هي جواز سَفرِ مُرور الإنسانية عبرَ تعاقب وقائع الحدث الزمكانية في راهن الحياة المُتوهِّجة بالعطاء الزاخر والمستقبل الواعد بالخير والرفاه.المُتعبونَ أُنموذجٌ سَرديٌ حكائيٌ حَيٌّ ومصغرٌ لواقع الحال اليومي.

إنَّ أهمَّ ما يُميَّز مجموعة (عٌواطفٌ عَلى لَائحةِ الاِغترابِ) للأديبة ذكرى لعيبي، هو جماليات أسلوبيتها اللُّغوية، وجرأتها الكتابية المقدامة التي تجمع بين مُدخلات السرد الحكائي ومُخرجاته الموضوعية وحمولاته الفكرية المتعدِّدة.فتارةً تراها حاضرةً بتؤدةٍ بخطابها تنتقل بكتاباتها السردية المُبدعة، والتقطاتها الصورية القارَّة المدهشة في منافي الاغتراب الخارجي وتحوُّلات مثابات لجوئه البعيدة، وتارةً أخرى تجدها تمضي في فتوحات حكاياتها الموضوعية والذاتية الأٍلمعيةً في مواجهة بؤر الاغتراب الواقعي في الوطن الداخلي بحثاُ عن جذورهويتها وانتمائها الذاتي الأصيل.

فضلاً عن شجاعتها الأدبيَّة الواثبة في تخطي مسارات وخطوط عقابيل راهن التابو الاجتماعي الجنسي والقبلي العشائري، وفي كسر وتحطيم جُدُرٍ القواعد الإسمنتية الصُلبة للعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية البالية التي تذلُ الإنسان وتقيِّد مفاهيم حُريته وتستعبد كرامته تحت مظلة القيم العشائرية التي لا تواكب تحوُّلات العصر أو تنسجم مع تطلعاته الإنسانية الكريمة المباشرة.

ولا أَدلُّ على ذلك الهاجس الفكري تلك الشواهد والنماذج القصصيَّة المُكتنزة بموضوعاتها الواقعية السحريَّة والإنسانية الجمعية الأخرى التي احتفت بها قصص هذه المدوَّنة على المستوى التعبيري الفكري الغرائبي والعجائبي والأسطوري التخَّيلي لجماليات الفنِّ التسريدي وعناصره الفنية الأخاذ.

فالكاتبة على الرغم من أنها تسير في أُسلوبيتها التعبيرية في مناطق اشتغلاتها الفكرية ومركزية سردياتها الحكائية في خطٍّ ضفاف شطآن الواقعية الآنية المعيشة، والميل نحو الواقعية السحرية والمخيالية التي تستمدها من أنهار الواقع وروافده الحياتية الجمَّة، فأنها تنزاح في لغتها السردية القصصية إلى عالم الافتراضية التواصلية الجديدة التي تجذب القارئ وتستميل أفكاره وتطلعاته.

وأعني بذلك انحراف ماهيتها الأُسلوبية القصصية إلى الثورة الإلكترونية وإلى عالم السوشل ميديا الإنسانية السريع الخطى.الذي هو عالم تكنلوجيا العصرنة الذي يجعل منه ليس قريةً واحدةً فحسب، وإنَّما عالماً يقترب بعضه الكوني من بعضٍ وفي غُضون دقائقَ مَعدوداتٍ أو أيامٍ متتاليةٍ من التواصل الصوتي والصوري المُذهل يصلك إلى بيتك أوغرفة نومك الشخصيَّة من حَيثُ لا تَدري.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

للشاعر الألماني غوته

عاش الشاعر الألماني يوهان فولفغانغ غوته أكثر من ثمانين عاماً بين منتصف القرن الثامن عشر. ونهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر، وهي سنوات حفلت بتحولات كبيرة في نواحي الحياة المختلفة، وشهدت حركات أدبية، وفنية، وفكرية نشيطة متتالية.

لم يكن غوته شاعراً وأديبا فحسب ؛ بل كان شديد الشغف بجوانب المعرفة كلها فله إسهامات في الفلسفة، والتاريخ، والعلوم التطبيقية، ونراه يتعلم طائفة من اللغات، ويترجم، وينشئ جسوراً بين بلدان العالم، ويتصور أدباً عالميا كالنهر الكبير تنساب فيه روافد من كل صوب، ويفتن بالشرق، وبالشرق الإسلامي خاصة، فيطالع ترجمات القرآن الكريم ومختارات وافية من الأدب العربي والفارسي ويؤلف بين الشرق والغرب في كثير من أعماله، لاسيما (الديوان الشرقي) الذي أكمله سنة ١٨١٩، ويظهر غوته إعجابه الصادق بالأدب الجاهلي وما تحويه المعلقات من قيم أخلاقية ويتكلم بإعجاب عن أبيات مختلفة لبعض الشعراء الذين وصفوا البيئة الحية وماحولها من سهل وجبل، وماء، وسماء، واهتم ايضاً بقصص الحب العربية، اذا يدور هذا الديوان حول موضوع الحب فذكر جميل بثينة وقال :-

فأنت تجعل منها أجمل المخلوقات، كما قرأنا مراراً عن جميل بثينة

ويحاول غوته أن يتخذ له اسم الشاعر العربي (حاتم الطائي) الذي اشتهر بكرمه. ومن الشعراء العرب الذين يتمنى أن يكون مثله هو (المتنبي) فقيول:- بل أود أن أكون الفردوسي أو المتنبي.

ومما انعكس في الديوان الشرقي: مجموعة من الأمثال العربية التي استقاها من المصادر الشرقية، ونجد أسماء المدن تردد صداها في ديوانه مثل (بغداد التي لا يراها بعيدة عن المحبين) فيقول:

وإذا جاءت ورقة بين الحين والحين تحمل تحية فلا تنزعج

لكن هل بغداد بعيدة كل هذا البعد؟ ألا تريد إذن أن تسمع إلي بعد؟

وذكر الخليج العربي وهامَ في أشعاره، فوقف على الفرات والبحر الأحمر ومر بدمشق.

ويندر أن نجد رجلا غريباً يتكلم بحماسة ومحبة عن النبي محمد صلى اللّٰه عليه وسلم. وأن القرآن يجب أن يعد قانونا إلهياً، لا كتاباً إنسانياً كُتب من أجل التعلم. والإسلام هو والتقوى شيء واحد، فيقول:

إذا كان الإسلام معناه التسليم للّه، فعلى الإسلام نحيا ونموت جميعاً. ويصور النبي عليه الصلاة والسلام بعد موقعة بدر وقد وقف تحت سماء صافية مرصعة بالنجوم يؤبن الشهداء فيقول :

ليبكِ الكفار موتاهم فقد ماتوا الى غير رجعة، أما انتم معشر المؤمنين فلا تبكوا إخواننا ؛لأنهم صعدوا إلى اعلى عليين في جنات النعيم. ويذكر ليلة القدر المقدسة وينبغي أن نحتفل فيها.

وتسحر فكرة الحور العين غوته، فيصوغ حواراً بينه وبين إحدى الحوريات التي سألته (أين جراحك التي تنبئ عن أفعالك المجيدة؟)

ويرى أن مجمل مضامين القرآن الكريم تلخصها الآيات السبع الأولى من سورة البقرة.

ثم يطلب من اللّه العون والهداية بقوله:- (...ولكنك تعرف أيها الرب كيف تهديني سواء السبيل) وهذا صدى لقوله تعالى:- (اهدنا الصراط المستقيم..)

ويتكلم عن النساء الصالحات اللواتي يدخلن الجنة فيذكر منهن (وزوجة محمد - صلى اللّه عليه وآله وسلم - التي هيأت له النجاح والمجد)

ثم فاطمة (عليها السلام) الابنة ذات الروح الطاهرة الملائكية. ويستخرج من القرآن الكريم كنوز التعاليم الاخلاقية فيذكرها قائلاً:

وأول التحية ذو قيمة سنية.- فبادل التحية من يبدأ التحية.

***

م.د. بتول احمد سليم

كلية اللغات/جامعة بغداد

حظيت أعمال ليو تولستوي وتجاربه الحياتية الشخصية باهتمام بالغ في العراق والدول العربية الأخرى في بداية القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين*. إن فهم وتقدير شخصية تولستوي وأعماله في العراق يعادل فهم وتقدير الأدب الروسي ككل. وغدت أعمال تولستوي بمثابة "موسوعة للحياة الروسية" ومصدرًا للإثراء الروحي والجمالي للنقاد والكتاب والقراء العراقيين.

تعرّف العراقيون على أعمال ليو تولستوي في أوائل القرن العشرين من خلال ترجمات قام بها مترجمون من لبنان وفلسطين ومصر، وكذلك من خلال قراءة أعماله المترجمة من لغات أخرى. وكان لإرث تولستوي الفكري والأدبي، إلى جانب آرائه في القضايا الاجتماعية والدينية، تأثير كبير على البيئة الفكرية والأدبية العراقية. فهذه الأعمال مشبعة بعمق بالمحتوى الإنساني، والدعوة إلى الخير وأولوية العلاقات الإنسانية، بالإضافة إلى نقد لاذع لما واجهه الإنسان من ظلم واستبداد وانحدار. وقد عانى المجتمع العراقي آنذاك من كل هذه الظواهر السلبية.

وتجلّى تأثير تولستوي على الأدب العراقي في جوانب عدة، ويظهر هذا بوضوح في أعمال بعض الروائيين العراقيين الذين تطرقوا إلى القضايا الاجتماعية والسياسية في أعمالهم، مركّزين على صور الإنسان في سياق واقعي، وكذلك في تصوير الحياة اليومية لمختلف الشرائح الاجتماعية. وفي بعض الروايات العراقية، يُلاحظ تشابهٌ مع أعمال تولستوي، إذ تُبرز قيم الحب والسلام والعدالة التي دعا إليها.

ويُؤكد ذلك بوضوح عمل محمود أحمد السيد، رائد الرواية والقصة القصيرة في الأدب العراقي. إذ أدى اطلاعه على الأدب الروسي، بما في ذلك أعمال ليف نيكولايفيتش، إلى تغييرٍ ملحوظ في رؤيته لمفهوم الرواية ومكوناتها وشروطها الفنية، وارتقاء مسيرته الإبداعية إلى مستوى نوعي جديد، مما جعله رائدًا في مجال أدب الرواية في العراق. ويُذكر أن السيد جعل أحد أبطال إحدى رواياته يحرص مثل تولستوي على تدوين يومياته. وقد ناقش السيد أسلوب تولستوي وطرائقه في كتابة الروايات في العديد من مقالاته.

وبدوره أكد الكاتب والمترجم العراقي الشهير غائب طعمة فرمان في استطلاع علمي في هذا السياق أنه كان من أكثر الكُتّاب تأثرًا بأدب تولستوي - تولستوي هو من علّمه التخطيط للرواية قبل كتابتها، وهو من الذين يصف أدبهم، وفقًا لفرمان، بالسحر الفاتن.

ونعى الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي (1863-1936)، الذي كتب عنه المستشرق الروسي الكبير كراتشكوفسكي أنه شاعر عربي معروف عاش في العراق، تولستوي في قصيدة وصفه فيها بأنه سند للفقراء، ونور علم ساطع في فكره، ومصلح حر في حياته. ويرى الزهاوي أن تولستوي كان يعظ الحكام، مذكرًا إياهم بفناء الحياة ونهاهم عن الظلم.

وكما يشير ممدوح أبو الوي في كتابه "تولستوي ودوستويفسكي في الأدب العربي": "نجد رأيًا آخر في العراق، مخالفًا للرأي السائد عن تولستوي، نُشر في عدد مارس 1912 من مجلة "لغة العرب" الصادرة في بغداد. ويرى مؤلف الدراسة أن تولستوي رجل غريب الأطوار ذو آراء غريبة، ويرى أن سلوك تولستوي يخالف مبادئه" ويبدو في الدراسة التناقض بين أفكار تولستوي وهيئة تحرير المجلة. وكتب هذه الدراسة محررو مجلة "لغة العرب" ومعظمهم من الرهبان الذين لم يقبلوا انتقادات تولستوي للكنيسة ردًا على كتاب محمد المشرفي "تولستوي: حياته ومختارات من قصصه"، الصادر في تونس عام 1911، والذي يُعد أهم عمل عن تولستوي ظهر في أوائل القرن العشرين.

وكرس الشاعر محمد مهدي الجواهري، الذي يُعتبر آخر أعظم شعراء العرب الكلاسيكيين، قصيدتيه "سيفاستوبول" و"ستالينغراد" للشعب السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية. في عدة أبيات، يذكر تولستوي كأحد رموز الحضارة الروسية. في قصيدته، يخاطب الجواهري تولستوي، مؤكدًا أن الثورة الفكرية التي بدأها لم تذهب سدىً، ويصف تجسيد ثمارها. ويؤكد أن شعب بلاده أصبح حرًا وغنيًا، وأن الفلاحين أصبحوا مالكين لأرضهم. ثم يستذكر الظواهر الأخلاقية السلبية والظلم والقمع والنفاق في العلاقات الاجتماعية في عصره، والتي ناضل ضدها. وأضاء بأعماله الأدبية والفكرية الطريق نحو عالم من الحرية والعدالة، مشيرًا إلى النظام السوفيتي الذي تعاطف معه.

مع افتتاح قسم اللغة الروسية عام ١٩٥٨ في جامعة بغداد، وعودة خريجي قسم اللغات، في منتصف ستينيات القرن الماضي، الذين أكملوا دراساتهم في كلية اللغة الروسية بجامعة موسكو الحكومية وجامعات الاتحاد السوفيتي الأخرى، شهدت دراسة ونشر الأدب الروسي، وخاصة أعمال تولستوي تطورا ملموسا. وتعمقت البحوث المتعلقة بأعمال الاديب الكبير في محتواها ومنهج المؤلف في قراءتها.

وفي هذا السياق اصبحت اعمال شخصيتين اكاديميتين نموذجا لدراسة الادب الروسي وتولستوي على وجه الخصوص من زاوية علمية جديدة تجلت فيها أيضا وجهات نظر فردانية في التحليل والتقويم. والكلام يدور عن الراحلة أ.د. حياة شرارة (1935 – 1997) والمرحوم أ.د. محمد يونس (1937 - 2009) وهما علمان من اعلام   قسم اللغة الروسية في كلية الآداب ثم في كلية اللغات بجامعة بغداد، وعلمان من أعلام الباحثين باللغة العربية والمترجمين عن الروسية في قضايا الادب الروسي  بالعراق بشكل خاص والعالم العربي بشكل عام، وهما ايضا شخصيتان معروفتان في الاوساط الروسية التي تتابع نشاطات الباحثين والمترجمين العرب في مجال الادب الروسي، وقد ورد اسميهما – مثلا – مع تحليل شامل لإسهاماتهما في مجال الادب الروسي في العالم العربي على صفحات عديدة في كتاب د. الميرا علي زاده الموسوم – (الادب الروسي والعالم العربي)، الصادر في موسكو عام 2014 عن معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وكذلك في مصادر روسيّة أخرى. وشاركت حياة شرارة ومحمد يونس في تأليف كتاب عن تاريخ الرواية الروسية.

وفي عام 1979، نشرت الراحلة حياة شرارة مؤلفها "تولستوي الفنان"، وهو الكتاب الذي لا يزال يعتبر من أهم المصادر العربية لدراسات تولستوي، وطبع عدة مرات، وكان بحق أول عمل باللغة العربية يتناول أعمال تولستوي من وجهة نظر أدبية. في كتاب «تولستوي كفنان» تتناول المؤلفة اثنتين من أهم رواياته - «الحرب والسلام» و«آنا كارنينا»، مستكشفًة تأثير كتابات العديد من الكتاب عليه، بالإضافة إلى كبار الفلاسفة والمؤرخين الروس والغربيين. وكان لهذا تأثيره الفكري والأدبي على تكوين تولستوي ووعيه. وبعد اكتشاف هذا التأثير، تشير المؤلفة إلى أن تولستوي كان ظهر مجددا لفن الرواية في أعماله مقارنة بأعظم كتاب عصره، مستخدماً التحليل النفسي لشخصياته بمهارة وإمكانات غير مسبوقة في تاريخ الرواية الواقعية. وبهذا المعنى تؤكد شرارة أن تنوع الألوان الأدبية والاجتماعية التي استكشفها تولستوي ووفرة أعماله أدى إلى فهم جانب واحد من تراثه الأدبي: أسلوب وأساليب الكشف الفكري والنفسي عن أعمق أفكار الشخصية.

وخصص الكاتب والإعلامي العراقي علي حسين في كتابه" 100 سؤال عن الحب من تولستوي الى انشتاين الصادر في بغداد عام2018 فصلا كاملا: " الحرب شبيهة بالحب فتنحوا أيها الكسالى" عرض فيه فلسفة تولستوي عن الحب ودوره في حياته الذي تجسد في غرامياته العديدة وبصورة عمليه حينما اختار صوفيا اندريفنا رفيقة لحياته وأمأ لأبنائه ال 13 وكذلك انعكاسه في إعماله الأدبية ودوره في سيرته الفكرية والعاطفية.

كما تناول المترجم والكاتب العراقي جودت هوشيار في العديد من المقالات بالدراسة مختلف مناحي إبداعات وفلسفة تولستوي وعرض ما كتب عنه. ونشر المترجم والكاتب مؤمن الوزان في مدونته دراسة مترجمة بعنوان "تولستوي ودور الرواية في الارتقاء الاجتماعي والأخلاقي" أجملت سيرة وتطور فن الرواية لدى تولستوي ورؤيته لهدف ومعنى الأدب والفن عموما. 

***

د. فالح الحمراني

...................

* عرض لمداخلة اعدت لندوة " مترجمو ليف تولستوي والكلاسيكيين الروس" التي تعقد سنويا في ضيعة/ متحف تولستوي في "ياسنايا بوليانا".

 

في وصف العيون، للشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم مستنداً إلى أربعة مسارات متكاملة: المنهج الأسلوبي، والرمزي، والنفسي، والهيرمينوطيقي (التأويلي).

سأبقي التحليل لصيقاً بالنصّ الماثل أمامنا دون الاتّكاء على سياقات خارجيّة لا يلزمها النص، مع إبراز ديناميّات الصورة والإيقاع واللغة.

1) مدخل: بؤرة الرؤية وتحوّل العالم:

يبدأ النصّ بإزاحة العالم لصالح مركز بصريّ واحد. يقول الشاعر صلاح أحمد إبراهيم:

«عيناك وأخضر المكان / وتسمّرت عيناي في عينيك / ما عاد المكان أو الزمان / عيناك بسْ».

يُعطِّل الشاعر مَقوليَّتي المكان والزمان ليُشيّد “كوناً بصرياً” مكتفياً بذاته. إنّها لحظة حوُّل من عالم مُمَوْضع إلى عالم مُشخَّص في “عيناك”. هكذا تتحوّل الرؤية من وسيلة إلى غاية، ومن قناة إدراك إلى كينونة مكتفية، فيرتفع “البصر” إلى منزلة “المصير الجمالي”.

2) المنهج الأسلوبي: بناء التوهّج بالمثنّى والتوازي والتكرار

أ- هيمنة المثنّى:

يتصدّر المثنّى النصَّ: «عيناك، روضتين، واحتين، بركتين». هذه الصيغة ليست نحويّة فحسب، بل استراتيجيّة تشكيل تخلق إيقاعَ ازدواجٍ متناغم يعمّق المعنى: حضورٌ مزدوج يحقّق التوازن (عينان/قطبان)، ووعدٌ بالاكتمال (روضتان/واحتان/بركتان).

ب- التكرار الاستهلالي:

تتوالى “عيناك” في مطالع الأسطر كنبضٍ سمعيّ يرسّخ البؤرة الدلاليّة. هذا الإلحاح البلاغي يخلق سُلَّم تصعيد، يقول :

«عيناك أصدق كلمتين / عيناك أسعد لحظتين … عيناك أنضر روضتين … أجمل واحتين … أطهر بركتين».

يتقدّم الحصر بالتدريج من “صدق/سعادة” إلى “نضارة/جمال” ثم “طهارة”؛ أي من خصائص شعوريّة ومفهوميّة إلى خصائص قيميّة وروحانيّة.

ج- التوازي والتضامّ الموسيقي:

الجُمل القصيرة المتوازية والتراكيب الثنائية تصنع إيقاعاً حدسياً مُقنعاً. كما ينهض الجناس الداخلي والسجع الخفيف (المفردات المتقاربة وزناً ونبراً: “ماستين/ كلمتين/ لحظتين/ روضتين/واحتين/ بركتين”) ببناء موسيقى داخلية ناعمة.

د- مفاصل ضبط التهويل (الاحتراز البلاغي):

عبارات مثل «هذا قليل / هذا أقل / ما قلت شيء» تعمل كصمّامات أسلوبيّة تضبط المبالغة، فتحوّل الإفراط إلى تواضع جمالي: كأنّ اللغة تعترف بعجزها أمام “المدرك الفائض” عن القول.

هـ- استعارات متسلسلة وصور متراكبة:

«عيناك جرَّتان من عسل المفاتن / آيتان من سور المحاسن / مثل صبيتين / أروع ماستين…».

تتلاحق الاستعارات على نسقٍ تكراريّ يُنتج تراكُمَ بهاء بدل تشبيهٍ واحدٍ حاسم. هذا التراكم استراتيجية تصويرية تُشبه “تلقيح الصورة بالصورة” لخلق توهّج مستمر.

3) المنهج الرمزي: ماءٌ ونورٌ ومقدّسٌ لذائذي

أ- الماء والبركة:

«عيناك أطهر بركتين من البراءة / نزل الضياء ليستحمّ بها / فألقى عند ضفّتها رداءه».

تستدعي “البركتان” حقلاً رمزياً مائياً: التطهّر، الولادة الجديدة، الاستشفاء. الماء هنا مجاز للتطهير الجمالي؛ الرائي يتطهّر بالنظر، والضياء نفسه — رمز الصفاء والعلو — “يستحمّ” بهما.

ب- النور والقداسة الخفيفة:

«آيتان من سور المحاسن»، و«نزل الضياء». حضور ألفاظ تُحاذي المعجم الديني (آية/ضياء) يرفَعُ “العينين” إلى عتبة مقدّسٍ لذائذي: قُربٌ من المعجم الروحي دون الوقوع في المباشرة الوعظيّة. إنّه تقديسٌ جماليّ يُصعِّد الغزلي إلى مقام الرؤيا.

ج- العسل والسمرة:

«الفتنة العسلية السمراء / والعسل المصفّى والهناء».

العسل رمز اللذّة الحلال والشفاء والصفاء، والسمرة إطار حسّيّ ثقافيّ يحمِّل الصورة هويةً محليّة دافئة. يتجاور “الحلال/الشفاء” مع “الفتنة/الهناء” لتوليد سيمفونية حسيّة أخلاقيّة: لذّةٌ مصفّاة لا ابتذال فيها.

د- قوس الكمان:

«ومسكت قوس كمانتي».

الموسيقى هنا ترجمة جسديّة للانفعال؛ فالقوس يحوّل الارتعاش الداخلي إلى نغم. حضور الكمان يُربط بالأنين والرهافة، فيحوِّل نظرة العشق إلى أداء فنّي: الرؤية تصير عزفًا.

4) المنهج النفسي: التثبيت على “موضوع النظر” وتعليق الزمن

أ- التثبيت وتجربة الانخطاف:

«تسمّرت عيناي في عينيك / ما عاد المكان أو الزمان».

تسمير النظرة يشير إلى حالة “انخطاف بصري” يتوقّف فيها الزمن النفساني. يتراجع العالم الموضوعي لصالح موضوعٍ مُطلَق (العينان) يمتصّ الطاقة النفسيّة للمتكلّم.

ب- من الرغبة إلى التطهير:

ينتقل النصُّ من لذائذ الحواس (العسل/الفتنة) إلى رموز التطهير (البركتان/الضياء)، بما يوحي بمسار نفسي من الإيروسي إلى الإيتيقي-الروحي. إنّه تعالٍ للهوى من حسيّته إلى معنى يطلب التزكية والسموّ.

ج- أنا/آخر: المرآة التي تُتمّم الذات:

تتَّخذ العينان وظيفة “مرآة” يعود إليها الشاعر ليجد اكتماله. تكرار، يقول: «عيناك فوق تخيّلي / فوق انطلاق يراعتي / فوق انفعال براعتي / فوق تأمّلي» يكشف عن اعتراف بالعجز: الموضوع (الآخر) يتفوّق دائماً على أدوات الذات (التخيّل/الكتابة/الانفعال/التأمّل). هنا يتشكّل تواضع معرفي يهب العشق صدقيّته.

5) المنهج الهيرمينوطيقي: الدائرة التأويلية وأفق التلقي.

أ- من الجزء إلى الكلّ وبالعكس:

كلّ صورة جزئيّة (عسل، آيتان، روضتان…) لا تفهم إلا داخل كلٍّ إنشائي تتحرّك فيه اللغة من الوصف إلى التقديس. وبالعودة من الكلّ إلى الجزء تُقرأ الصور على أنها درجات في سُلّم الرؤيا.

ب- تعدّد الطبقات الدلاليّة:

العبارة «آيتان من سور المحاسن» تسمح بتأويلين متجاورين: آيتان = علامتان باهرتان للجمال، وآيتان = إحالة ثقافيّة إلى لغة الوحي بوصفها أقصى معايير البلاغة. التعدّد مقصود، لأنّ وظيفة النص دفع القارئ إلى توسيع أفق التوقّع لا غلقه.

ج- اقتصاد النفي إثباتاً:

«هذا قليل / هذا أقل / ما قلت شيء» نفيٌ يتضمّن إثباتاً معاكساً: كلُّ ما قيل لا يفي، إذاً فالموصوف أسمى من القول. هذه حركة تأويليّة تُديم التلقّي: كلُّ قراءة “قليلة” وتحتاج إلى قراءة أخرى.

6) البنية الإيقاعيّة والصوتيّة: من النَفَس إلى النَّغَم.

النصّ يتنفّس عبر جُمَل قصيرة متتابعة، كنبضات. التكرار يخلُق لازمة سمعيّة (عيناك…) تتنامى فوق سُلمٍ دلاليّ. إنّ حضور الألف والمدود والنون والميم يشيع نعومةً في الختمات الصوتيّة، بينما صيغ التفضيل والجمع/المثنّى تصنع دفعاً إيقاعياً تصاعُدياً. وذكر “الكمان” يوفّر ميتالغوية موسيقيّة: القصيدة تعزف ذاتها بذاتها.

7) حقول الصورة: من الطبيعة إلى الطهارة

الطبيعة الخضراء: «أخضر المكان، روضتان، واحتان». يستعيد النصّ يوتوبيا خضراء تُقابِل قحْل العالم خارج العينين.

الماء والنور: «بركتان، ضفّة، نزل الضياء ليستحمّ». تماهٍ بين عنصرين لتكوين طقس اغتسال جمالي.

اللذّة المصقولة يقول الشاعر صلاح أحمد إبراهيم: «العسل المصفّى، الهناء». لذّةٌ مشروعة مؤطرة بالسعادة والصفاء.

الطفولة والبراءة: «مثل صبيّتين، البراءة». يُسند إلى الجمال أخلاقية النقاء لكبح شطحات الإيروسي وتهذيبها.

8) جماليّات “العجز الخصيب”: ما بعد اللغة

المنعطف المركزي هو الاعتراف بأنّ الموصوف يفيض عن القول:

«عجز الخيال / عيناك فوق تخيّلي … فوق انطلاق يراعتي … فوق انفعال براعتي … فوق تأمّلي».

هذا العجز ليس فقراً بل خصباً؛ لأنّه يحفظ للمحبوب هالته، ويمنح النصّ قابليّة لا نهائيّة للتأويل. هكذا تتحوّل البلاغة من إقناعٍ إلى إيقاظ.

9) خلاصة تركيبية:

-أسلوبياً: يقوم النصّ على تكرار استهلاليّ وهيمنة المثنّى وتوازي الجُمَل القصيرة، منتجاً تصعيداً دلالياً مضبوطاً بعلامات “تقليل” واعية تُكثّف الهالة.

- رمزياً: تتضافر حقول الماء/النور/العسل/البراءة لتصوغ مقدّساً لذائذياً يزاوج بين المتعة والتطهّر.

-نفسياً: نعاين تثبيت النظرة وتعليق الزمن، والانتقال من الإيروسي الحسّي إلى سُلَّم روحيّ يُقنّن الرغبة ويهذّبها.

-هيرمينوطيقياً: يُنتج النص وفرةً تأويليّة عبر تعدّد الإحالات وتكتيك “العجز الخصيب”، فيُبقي المعنى مفتوحاً على قارئٍ يضيف من خبرته ومخياله.

بهذه العناصر يتبدّى المقطعُ كتمرينٍ فنّيّ على تحويل “العيون” من محطّ وصفٍ غزليّ مألوف إلى كونٍ رمزيّ تتعوَّم فيه الدلالات بين الطبيعة والمقدّس، وبين اللذّة والتطهّر؛ لتصير الرؤيةُ نشيداً يَعزفُه الكمان من وتر اللغة، وتصدّقه النفسُ في لحظةٍ يذوب فيها الزمانُ والمكان.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين.

....................

عيناك وأخضر المكان

وتسمرت عيناي في عينيك

ماعاد المكان أو الزمان

عيناك بسْ

ومسكت قوس كمانتي

عيناك إذ تتألقان

عيناك من عسل المفاتن جرتان

عيناك من سور المحاسن آيتان

عيناك مثل صبيتين

عيناك أروع ماستين

هذا قليل

عيناك أصدق كلمتين

عيناك أسعد لحظتين

هذا أقل

عيناك أنضر روضتين

عيناك أجمل واحتين

ما قلت شئ

عيناك أطهر بركتين من البراءه

نزل الضياء ليستحم بها

فألقى عند ضفتها رداءه

الفتنة العسلية السمراء

والعسل المصفى والهناء

وهناك أغرق نفسه

عجز الخيال

عيناك فوق تخيلي

فوق إنطلاق يراعتي

فوق إنفعال براعتي

عيناك فوق تأملي

 

يعود اطلاعي على تجربة الأخ والأستاذ بولص آدم إلى بدايات الألفية الثالثة حينما كان يكتفي بقرض الشعر. وأستعير كلمة قرض من ذاكرتنا الكلاسيكية. فالشعر هو ديوان العرب. ولكن انتباهتي لتجربة بولص بالأساس كان لها مدخل غير عروبي.

أولا أنني وجدت في رؤيته للشعر نوعا من التطابق اللاهوتي والباطني مع تجربة الشاعر البولوني المستنير والمتمرد جيسلاف ميوش. فكلاهما يرهن تراكيبه لواقع غامض ونثري ويتطور على الحد الفاصل بين الظلام والنور. وقد بلغ ميوش أقصى إمكاناته في هذا السياق بمجموعته المتأخرة "الفضاء الثاني"، والتي صدرت ترجمتها الإنكليزية عام 2005. وهي إعادة تفسير وتركيب لخبراته مع الدولة والذات والكتاب المقدس. بمعنى أنها رؤية تدمج في مستوى واحد المادة والميتافيزيقا والواقع. ولبولص ما يشبه ذلك في كل مجموعاته وقصائده الأولى، فهو يتكلم عن نفسه من حيث أراد أن ينعي إلينا الواقع الشمولي والمتهافت لعالم أشرف على السقوط.

المدخل الثاني تشابه اسمه مع كاتب اسكوتلاندي مشهور وقليل الحظ وهو ألكسندر تراكي. فقد بدأ حياته برواية "آدم الصغير" (وكنية بولص هي آدم). وقد تناول تراكي في كتابه الجريء حكاية تنافس أخوين على قلب امرأة واحدة. وربما تجد فيها أصداء لرواية "صحراء الحب"، وهي للفرنسي ذائع الصيت فرانسوا مورياك. وتدور حكايتها حول تنافس أب وابن على قلب غانية.

يبقى بولص أقرب لميوش من ناحية الحياة الخاصة. لأن الاثنين مرا بتجربة مع النظام انتهت بالهرب والقطيعة والهجاء. في حين أنه احتفظ بمسافة عن تراكي الذي وجد نفسه مطلوبا للعدالة بتهمة البغاء والترويج للهروين. وتجد كل هذه التفاصيل في كتاب لويس عوض عن "الاشتراكية والأدب".

ولم يتوقف بولص عند الشعر. فقد فاجأنا بعدة أعمال روائية وقصصية عن السجون والهجرة ومشاكل الحداثة وما بعدها. وربما تجاوز نفسه وأبناء جيله بعملين صغيرين وهامين هما "باصات أبو غريب". و"روائي بلا نسخ". وبالرغم من الفارق بينهما من ناحية الأسلوب تستطيع أن تجد نفسك وسط زنازين أبو غريب وضمن مجتمع السجناء (وقد ترك هذا الكتاب في ذهني أكثر من لمحة تشابه وجدتها في "قافلة الإعدام" للإيراني بهروز قمري). كما أنه تجد نفسك داخل متاهة الروائي المجهول الذي ينشر أعماله قبل أن يكتبها. وهذه الفكرة تداهم حالة السبات العربي وتفضح الحفرة الوجودية التي نهبط فيها بالإكراه والإجبار.

ثم رفد بولص أعماله الصغيرة والمتألقة بكتابين ضخمين. الأول "نينا تغني بياف"، وهي كما أسميها روايته الأوروبية، فكل أحداثها أو معظم أحداثها تجري في بلدان الشمال. وتخيم عليها أجواء أرستقراطية ومخملية. وإن كان لا بد من المقارنة أضعها من ناحية السياق بجانب رواية "نهم" للدكتور شكيب الجابري. وقد أصدرها في الثلاثينات، واختار لها شخصيات ألمانية مائة بالمائة وأسندر دور البطولة لكوزاريف الإنسان المادي والعدمي والذي ينتهي نهاية مأساوية. وكانت غاية الجابري إدانة أخلاقه ومنهجه. وربما كان بولص يريد أيضا في رواية "نينا" أن يكتب بيانا ضد المعوقات التي تؤخر وتخنق تفتح المواهب. وهو أيضا ديدنه في روايته التالية "تسجيلات يوناذم". ويركب فيها المركب الصعب، ويتابع سيرة عراقي آشوري تدفعه الظروف للهرب إلى أمريكا، ثم العودة إلى العراق، وبنفس المخطط الذي تحكم برواية "أمريكا" لربيع جابر. غير أن جو بولص هو الجبال والبوادي، وشخصياته من الذكور الذين اعتادوا على المخاطر. ولا تخلو هذه النزعة من روح استشراقية واستشراق مضاد. وبالأخص أنه يلمس رسالة الحضارات النائمة في بلاد ما بين النهرين. بقصد الإحياء والنهوض أو العودة لمسرح الأحداث (ولكن بأجندا غير دموية تتبنى أدوات نصفها اقتصادي والآخر معرفي - بمعنى الثقافة الاجتماعية). بينما اختار جابر جو البيت والدكان - ووضع على رأس روايته امرأة أمسكت بيدها زمام الأمور. ولهذا السبب أجد أن رواية بولص برية ورواية جابر مائية. وتذكير الحضارة وتأنيثها يأتي بعد تذكير الهوية وتأنيثها. فقد بدأت الرواية العربية من طلب العلم في أوروبا، وتأنيث المعرفة والدخول بصراع سيميائي مع المرأة الأوروبية قبل قطع العلاقة بحجة الأخلاق - كما فعل العجيلي وسهيل إدريس والطيب صالح، لتنتهي بالهجرة أو اللجوء وتأنيث الحرية واقتصاد السوق.

***

د. صالح الرزوق

 

"تحليل لعلاقة المقطعين وتداخل البنى الرمزية، في النص المكتوب خلال كانون الثاني 2025، المنشور في صحيفة المثقف بتاريخ: 29 آذار 2025"

 شاعر الرؤيا المتوتّرة واللغة المتحوّلة

الدكتور عدنان الظاهر شاعر وأكاديمي عراقي ذو نبرة فريدة، يجمع بين العقلية التحليلية والعين الشعرية، بين دقة العالم وخيال الحالم. حصل على الدكتوراه في الكيمياء الفيزيائية، لكنه لم يحبس ذاته في المختبر، بل انطلق في فضاء القصيدة محمّلاً برؤية كونية تأملية، وبنَفَس شعري معقّد، ينزع إلى التفكيك والتشكيل، وإلى الغوص في طبقات المعنى والتأويل.

شعر الظاهر يمتاز بـلغة شعرية مركّبة وكثيفة، تميل إلى الرمز والتحوّل لا إلى البساطة أو المباشرة. نبرة وجودية قلقة، تتأرجح بين العاطفة المتفجرة والتأمل العقلي الحاد. بنية حلمية سريالية في كثير من قصائده، تُقدَّم الرؤى لا كحقائق، بل كطبقات شعورية واستعارات متراكبة. حضور لافت لصور من العلم والميتافيزيقا والأسطورة، مما يضفي على نصوصه طابعًا معرفيًا جماليًا فريدًا.في قصيدته "زورقها في الماء"، يصوغ الظاهر عالَمًا داخليًا موارًا بالقلق، مشبعًا بالتوق، مهوَّمًا بالرغبة في فك رموز لا تستجيب. تنقسم القصيدة إلى مقطعين يبدوان منفصلين، لكنّ بينهما تداخلاً عميقًا في الرؤية، تشدّهما خيوط من الرموز المتحوّلة والمجهول الذي لا يُطال.

أولًا: «الحانة والكف»، سؤال المصير في مرآة القلق

يفتتح الشاعر قصيدته من فضاء شبه كابوسي، يحكمه الليل والخوف والحمّى، حيث يبدو أن الذات مطاردة بما لا يمكنها فهمه أو تجاوزه. يبرز رمز "الكفّ" بوصفه مركزًا للتأويل، لكنه لا يفتح على أمل، بل على تأزم وتصدٍّ واحتراق:

"يسألُ ما قالَ القارئُ كفّاً / نادى فتصدّى محروقاً..."

الكفّ التي تُقرأ عادة لكشف المصير، تفشل في أداء وظيفتها، أو ترفض الكشف، بل تشتعل وتتصدى. كأنها تُمثّل صمت القدر أو عنف المجهول.

في الخلفية، تتشكّل سلطة طاغية، يحكمها "طاغٍ جبّار"، في إحالة رمزية إلى قدرٍ غاشم، أو سلطة وجودية/كونية لا تُقاوَم.

حتى الفجر، الذي يُنتظر كعلامة خلاص، لا يأتي مخلّصًا، بل "يفجّر آياتٍ في النور"، فتُصبح الرؤية أداة ألم لا انكشاف.

ثانيًا: «زورقها في الماء»، غواية الحلم واقتراب الاحتراق

في المقطع الثاني، تأخذ القصيدة منحى حلميًا وعاطفيًا أكثر شفافية، لكنها لا تخرج من دائرة التوتّر، بل تنقل القلق من سؤال المصير إلى انتظار الحضور.

يبرز هنا "الزورق" كرمز للحب أو للمرأة أو للحلم المؤجّل، لكنّه:

"…في دجلة من خلف الجسرِ صَدودُ…"

أي أن الحلم بعيد، غائب، يلوّح دون أن يقترب. والشاعر يظل يترقّب من خلف الشرفة، بين ريح تشدّ البرد وجسر يفصل بين الرائي والمرئي.

يتكرّر توتر الرؤيا في "العين"، التي لا تشبه أختها، لا في اللون ولا في اللحظة، وتفيض شررًا وغموضًا:

"عينٌ لا تُشبهُ أُخرى / لا في اللحظِ ولا في طورِ اللونِ المُغري"

وحين يحاول الشاعر الاقتراب من الضوء، ينكمش هذا الأخير ويذوي:

"قرّبتُ الضوءَ فصدَّ ومن ثمّ استرخى مشلولا"

كأن الرؤية ترفض أن تُقتنص، كأن الحلم إذا قُرّب أكثر مما ينبغي، يختفي أو يُصاب بالشلل.

تواصل المجهول وانكسار الرؤيا

رغم اختلاف أسلوبي المقطعين، إلا أن جوهرهما واحد: المجهول المتكرر، والرؤيا المنكسرة.

في المقطع الأول، يفشل الكفّ في التفسير. وفي المقطع الثاني، يفشل الزورق في الوصول. في الأول، المصير مغلق، وفي الثاني، الحب معطَّل.

وفي كلا الحالتين، الشاعر يسير داخل غلالة من رموز تُغري بالمعنى لكنها لا تمنحه، وتدعو للعبور لكنها لا تسمح به.

بين "الحانة والكفّ" و"الزورق والعين"، تنبثق حركة دائرية للرموز، تتحوّل من جسد إلى نَفَس، من حواس إلى مجازات، دون أن تمنح مخرجًا.

حتى الضوء، وهو ما كان يُرتجى عادة كخلاص، ينغلق ويتداعى. ليست قصيدة عن المعرفة أو الفقد، هي قصيدة عن التعلّق بالمجهول والارتماء في أحضانه دون أن يهب شيئًا بالمقابل. المجهول هنا لا يُفسَّر، يُطارَد عبثًا. والرؤيا لا تتفتح، تنكسر كلما اقتربت اليد منها.

خاتمة: لا خلاص في الرؤيا… بل تمرّدٌ وجودي

تبلغ القصيدة ذروتها في خاتمتها:

"أني لا أندمُ إنْ فَقَأتْ عينَ الدُنيا أظفاري"

 لا عتاب، ولا تردّد، بل انفجار وجودي كامل. الذات ترفض العالم الذي لا يُرى كما ينبغي، العالم الذي يخدع، ويتمنّع، ويتجمّل بما ليس فيه في لحظة كهذه، يُصبح الشعر فعل رفض للرؤية الزائفة، لا محاولة لتجميلها.

القصيدة إذن ليست مجرد رحلة في الرمز، بل احتجاج على طبيعة العالم، وتمرّدٌ على مجازاته الكاذبة. "زورقها في الماء" قصيدة مشبعة بالتوتّر الجمالي، والغموض الميتافيزيقي، والرغبة المحمومة في العبور نحو المجهول.

هي قصيدة الرموز المتحوّلة، والرؤى المنكسرة، والحواس التي تتشظّى. وفيها يؤكّد الظاهر أن الشعر ليس تفسيرًا للعالم، بل موقفٌ من عدم اكتماله.

***

بولص آدم

 

لحسن مطلك.. مقاربة نقدية

يعد العنوان  ذا اهمية قصوى للمتن ، لكونه مكثفاً له ومختزلاً للدلالة الأساسية التي تقوم عليها فالمتن يأخذ منه (شحنته التي تبقيه صالحاً للقراءة بكل أشكالها المواجهة والفاحصة) (1)؛ لذا لم يعد العنوان مجرد زائدة لغوية يأتي في أقصى أهميته لأجل التسمية فقط، بل تعداه إلى اختزال النص وتكثفيه، وبهذا عُدّ أخر عتبات المبدع التي يشتغل عليها وأولى عتبات القارئ التي يتمعن فيها، ويذكر (لوي هويك) الذي قدم تعريفاً أكثر شمولية جاعلاً إياه (مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعيينه، تشير لمحتواه الكلي، ولتجذب جمهوره المستهدف)(2)، وهو بهذا لخص المفهوم الحديث المتمركز حول العنوان، فهو علامة لغوية لسانية يعيين النص ويسميه ويشير إلى محتواه باختزاله، فضلاً عن الاهتمام بطريقة الصياغة اللغوية له بحيث يكون جاذباً لاهتمام الجمهور القارئ له.

ويعدّ العنوان مرتكزاً دلالياً يتكون من بنية لغوية لها مستواه السطحي الذي يعمل على (الحفاظ على اهتمام القارئ عن طريق تأمين كمية كافية من الإعلام) (3)، فيتخذ بذلك (دور المصيدة التي ينصبها الكاتب لاصطياد القارئ) (4) ومستواه العميق الذي (يولد النص باعتباره خطاباً سطحياً عبر عن مجموعة من عمليات التحويل كالتوسيع، والزيادة والاضافة والاستبدال، والحذف والتغيير والترتيب، وتمطيط الفكرة وقلبها إيجازاً، أو حذفاً) (5)، وبرز هذا المعنى للعنوان في النقد الحديث، وفي المناهج النقدية الحديثة بالتحديد كنظريات القراءة، وجماليات التلقي، وسيمائيات النص، و ظهرت علاقة العنوان في المنهجين الأخيرين بشكل أخص، فتوطدت علاقته بالسيميائية لكونه عد (نظاماً سيمائياً ذا أبعاد دلالية، وأخرى رمزية، تغري الباحث بتتبع دلالاته، ومحاولة كشف شيفراتها الرامزة) (6).

علاقة العنوان بالمتن.

يأتي العنوان بمثابة الرأس من الجسد الرأس الذي بواسطته يفقه الإنسان ما حوله، ويستدل على الموجودات؛ لذا فالعنوان هو مفتاح للدخول إلى عالم النص، فضلاً عن كونه علامة له، لكونه لا يخرج عن نظام اللغة المكون من العلامات، فهو علامة تدل على النص الذي تتقدمه، أو توحي به تحليلها واستكشاف بنيتها الدلالية، وقد تبدو العلاقة بين العنوان والمتن ترتيبية كأن يأتي الأول ثم الثاني وبالعكس، ولكنها في الحقيقة سببية أكثر من كونها ترتيبية لأن وجود العنوان يعني وجود المعنون، ووجود الأخير يفترض وجود العنوان(7).

وفي قضية علاقة العنوان بالمتن توصلنا إلى أن هناك ثلاثة أنماط من العلاقة بينهم(8):-

أولاً - العلاقة الامتدادية: توليد النص من العنوان: وفي هذه العلاقة ينطلق النص من خلال العنوان وبموجب ذلك يمكن تشبيهه بالبيضة الكونية المختزنة بقوة دلالية قصوى سرعان ما تنفجر بفعل عوامل مختلفة، فيتشكل النص من ذلك السدم، أو الغبار، أو مخلفات أخرى، وهكذا تبدو العلاقة بين العنوان والنص فهي أشبه بالانفجار الكوني الأعظم الذي تولد عنه العالم من نقطة مضغوطة بكثافة لانهائية من حيث إن الثاني على غرار الأول كان متكثفاً في ذرة دلالية توسعت وامتدت من خلال الانفجار الكتابي الكبير ليتولد النص ويتشكل من ثم مداره ومجاله الاستراتيجي في المنظومة الثقافية، ثم أن هذا التولد يكون ممتداً في الفراغ كما الكون إلى ما لانهاية، فهو لا يكف عن التضخم والتوسع عبر السيرورة التاريخية في الز - مكان، إذ لا تنفك الشروحات والتفسيرات والتأويلات تنهض حول النص الفعلي، نستنتج مما سبق أن العنوان في هذه العلاقة يسبق النص من خلال الوضع، والنص يأتي تبعاً لما تضمنه العنوان من أمور.

ثانياً - العلاقة الارتدادية: من النص إلى العنوان: - ويتسم العنوان هنا بتبعيته للنص أي يتأخر عن النص بنائياً وزمانياً ؛ لذلك تعكس هذه العلاقة سيناريو آخر لبرتوكولات النص والعنوان على الصعيد البنائي، فهي تؤسس في حركتها أتجاهاً معاكساً لعلاقة الأولى ومخالفاً لها، حيث اتجاه التحرك يشير من الامتداد إلى الارتداد، فيؤدي إلى تقلص مادة النص وانضغاطه في بنية تركيبية ذات دلالة قصوى، ومن الممكن من أجل الفهم أكثر تمثيل هذا النوع من العلاقة بين العنوان والمتن (بالانسحاق الكبير) الذي هو من ضمن الاحتمالات الممكنة لانبثاق العالم الكوني ؛ إذ يتقلص كل الفضاء والمادة ليشكلا مفردة الأمر الذي يؤدي إلى تكثف النص وانضغاطه داخل بنية أصغر بكثير منه، والحجة التي تنطلق منها هذه القراءة تتمثل في إن المؤلف الذي انتهى من إنتاج النص لابد له وتحت ضغوط التسمية أن يكثف النص في اسم / عنوان يُفترض به أن يُعبر عن دلالات النص بمجراته واتساعاته وخرائطه فيحاول من خلال المطابقة بين العنوان والنص أن يختزل نصه في لفظة أو تركيب، أو جملة و يدرس مدى التوافق الذي حصل بين الكم الواقع من المعاني واليسير من اللفظ.

ثالثاً- العلاقة التجاورية / المجال الجذبوي:- امتازت العلاقتان الامتدادية والارتدادية بتفسير جزء من الروابط البنيوية بين العنوان والنص، أو بين النص والعنوان على مستوى إنتاج العمل الأدبي 6 دون الإشارة الى الفصل بينهما بجزء معين، فأتت علاقة ثالثة سميت بالتجاورية لتنهض بعمليات فك الارتباط بين النص الصغير والكبير (العنوان والنص) ليستقل كل منهما عن الآخر مشيداً اختلافهما المعرفي والاحتفاظ في الوقت ذاته بعلاقات حسن الجوار بينهما، وبذلك تغدو التجاورية شكلاً الضيافة العنوان في ضيافة النص، والنص في ضيافة العنوان دون نسيان الاختلاف الذي يسكن بنية كل من أشكال منهما، فالعنوان إذا بموجب هذه العلاقة بتجاوره مع النص يهب استقلالية الوجود المعرفي، وهذا يعني بكل بساطة النظر إليه كونه كائناً لغوياً مكتملاً، له كينونته ذات الطابع التفاعلي الانفكاكي في علاقته بالنص، فهو كون نصي يجاور كوناً نصياً أكبر وأوسع، ومن ثم يمثل العنوان علامة كاملة كما يمثل العمل هو الآخر علامة كاملة أخرى، ويأتي التأثير الذي تمارسه العلامتان كعلامة حملية لتشكل المجال التفاعلي، فكل منها يولد مجالاً جذبوياً يمنع ابتلاع أحدهما الآخر، ويُبقي على استقلاليته، وفي الوقت نفسه تأثيرهما بالطاقة الدلالية أو الجاذبية التي يبثها أو يمارسها كل نص في الآخر دون فقدان التخوم والحدود الفاصلة.

فجاء عنوان المجموعة القصصية (أبجد حسن هوز) ليعمل بوظيفة تلخيصية مختزلة المضمون المتن الداخلي للمجموعة، فقد لخص تجارب الكاتب مع الحياة والكتابة التي ضمنت في أغلب قصص هذه المجموعة، وقد رأينا ضرورة اتباع أسلوب الدراسة ذاته لدلالة العنوان للقصة في دراسة علاقتها مع المتن الداخلي للقصص الأخرى في المجموعة ؛ لأن العنوان بكلماته الثلاثة لخص كل ما احتوته هذه القصص، فنرى كلمة (أبجد) التي تمثل الحروف الأولى لأبجديات الكتابة، أما مجيئها بهذه الصيغة فهو حتماً دال على تشوش واضح لدى الكاتب، لأنه حاول في هذه الكلمة أن يضعنا أمام الصورة التي وجد نفسه فيها والمتمثلة به وهو أمام مجموعة من الحروف التي لا يعلم ماذا يصنع بها والحالة التي اعترته وهو يشعر بالعجز، أمامها وعلاقة هذه الدلالة تتوضح مع متن قصة (الاكتظاظ) التي جسدت رحلة الشروع في أمر جديد بدايته مليء بالتشوش الذي ساد حياته في تلك المرحلة المتمثلة بالتخلي عن الحلم بتأثير من (عض على شفتيه مندهشاً وهو يعود إلى أبيه الذي القاه نحو القاع: لقد ضاع كل شيء كالدراسة والمستقبل) (9)، ثم سيطرة التشويش والاكتظاظ على صورة ذهنه إلى ماذا يتوجه وما السبيل الذي سيخوضه بعد فقدان الطموح والدافع في الاستمرار (ابتسم لأنه وجد نفسه حيال شيء يفعله بإرادته، أو هكذا خيل إليه، أخذ يتفحص المكان ببصر زائغ كمن فقد شيئاً، بحث في جيوبه فوجد الورقة والقلم الذي أعتاد أن يحملهما معه كتب بخط مرتجف ينم عن جرأة كاذبة في القرار: إنه ليس فراراً..لا أحد مسؤول.. ليعش أبي بهدوء) (10).

ثم تأتي كلمة (حسن) التي دلت في متنها إلى كونها تتحدث عنه، وهي في علاقتها مع المتن الداخلي للمجموعة تشير إلى الشيء ذاته ؛ فهي تدل على أن أبجدية الكاتب في الكتابة بدأت من داخل الذات الكاتبة (أنما أنا أصل ينطق عن نفسه) (11)، فهو يتحدث عن القضايا الموجودة في القصص من خلال وجهة نظره البحتة، ففي قصة) ولدان وبنت حلوة نراه يتحدث عن نظرته الذاتية إلى ما يجب أن تكون عليه المرأة التي يحب (متوحشة فعلاً، بشعر جاف منثور وعينين نسريتين، وقد رفض على شيء من الشك ما يعلمه المصيفون للمرأة: النعومة والرقة، ويلبسونها جلد الأنثى ويقنعونها بقناع الشهوة والتوسل) (12)، وهو هنا يشير الى ذاته المريدة لشكل خاص للمرأة التي تمثل ذاتها دون أن تتأطر داخل الصندوق الذي بناه لها المجتمع من الزام بصفات الرقة والنعومة المبالغ فيها، والذي يجلب لها الضعف والتشويش على ركائز القوة لديها، فضلاً عن هذا نرى الكاتب يسترسل في القصة بذكر نظرته الفلسفية عن الحب القائم بين الرجل والمرأة والسبب الداعي لانجذاب كلاً منهما للآخر، وهو التكاثر، أو الجنس لكنه هذبها في التعبير (ليس الحب - يا حلوتي، سوى استجابة للتخلص من قيح ما الأغاني والدبكات والدسائس وطريقة المشي والكلام إلا لأجل التكاثر) (13)، فعملية الدراسة العلمية لكيفية تيسير المجتمع للمرأة في طريق معين من السلوك من أجل إيقاع الرجل عن طريق إثارة شهوته قادته إلى استنتاج ماهية الحب بطريقة فكرية علمية بعيدة عن الأفكار المعتادة عليها، التي تتسم بانها مليئة بالعاطفة والمشاعر الجياشة، فالمرأة التي تعتمد على رقتها ونعومتها وجسدها كأسلوب لأنثى في إيقاع الرجل في شباك الحب ؛ فلابد إذاً لهذا الأخير أن يكون معناه نابعا من نظرة مختلفة يملأ الجسد، مجردة عن المفهوم المعروف عنه.

فضلاً عن ذلك رأينا الكاتب يُضّمن متونه نظرته لتجربة الكتابة الفنية، وكيف سببت لديه اكتظاظاً ذهنياً أكبر مما كان عليه في البداية بأن جعلته حائراً بين اتخاذ النظم طريقاً في الكتابة لكي يُعرف أو السرد الأمر الذي سبب لديه في مرحلة معينة صراعاً نفسياً فهو يبدو في قصة الاكتظاظ باحثاً عن الرؤية الواضحة له (تلفت حوله باحثاً عن مكان يكون واضحاً لأحد يجد فيه وصيته خطا ثلاث خطوات نحو الجرف الرملي، تحسس فيه أكثر الأماكن صلابة، الصق الورقة فإنهار شيء من لنفسه كتابة الشعر أولاً لأنه أحب هذا الفن، غير أن صعوبة الكتابة فيه، الرمل) (14)، وقد رجح جعلته يتخذ القرار بالتوقف عنه (إذ كلما التجأت إلى الكتابة تكون حالتي مؤسفة، أتقبل سطوة كلماتي بصدر ضيق وكأني أحمل طن رصاص حين تسمعين ما كتبته في جدول ألمي اليومي تحصدين خيبة فأغمضت 4 فضلاً عن، خيبة رجل تحبينه وتقضين النهارات والليالي مفكرة به، إنك تعيشين على ذكر ابتسامة، أو أطار قصيدة.. أما أنا الحقيقي فجعبة للتعب.. في قلب الليل برمت بآلامي، وصرخت فيها أن تتوقف عيني ونمت) (15)، من هنا تأتي دلالة كلمة (هوز) التي أشارت بمعناه المعجمي كونها ثاني الكلمات الأبجدية إلى الموت (هوز الرجلُ: مات) (16)، وهي بذلك أسست لحقل دلالي خاص لنظرة حسن لصعوبة الكتابة المقرونة بالموت عنده ؛ فرأينا بعضاً من المقتطفات في المتون متعلقة بالكتابة يزامنها ذكره للموت معها فمرحلة تركه الشعر والتجائه إلى الكتابة السردية، ثم اختياره الرواية كمشروعه الكبير لم يكن يظن فيها أنها ستكون من الصعوبة الكبرى وستعود صورة الموت التي دلت على الرغبة في الاستسلام لتكون واضحة وقريبة أكثر من ذي قبل، بل وعليه أن يتحمل تلك الرغبة المميتة ليكون كاتباً (من هنا بدأ فصل جديد، هو بدء ونهاية: حيث تنتهي أشياء تبدأ أشياء أخرى..  ظهرت للرجل الغاطس صورة للموت أدرك أنها صورة مشابهة لحياته كلها.. لقد عرف الرجل الذي صار الماء فوقه بارتفاع قامة أو أكثر، طعم الموت الحقيقي ولونه.. ورأى أنه سيكون كاتباً.. ولكن بعد أن يموت.. أني أموت الآن) (17).

***

م. م زينب احمد محمد البياتي

العراق / جامعة كركوك /كلية القانون والعلوم السياسية

...............................

(1) ينظر: علم العنونة (دراسة تطبيقية): عبد القادر رحيم، دار التكوين، ط۱، دمشق، ۲۰۱۰م: ۸۲.

(2) تخطيط النص الشعري: حمد محمود الدوخي:۳۹.

(3) مناورات شعرية: محمد عبد المطلب: دار الشروق، القاهرة، ط1، ۱۹۹6،: ۷۷.

(4) اللغائب (دراسة في مقامة الحريري): عبد الفتاح كليطو، دار توبقال، ط1، الدار البيضاء، ۱۹۹۷م: ۲۷.

(5) سيموطيقا العنوان: جميل حمداوي:

 /http://hamdaoui.ma/news.

(6) م.ن.

(7) سيمياء العنوان: خالد حسين حسين، مجلة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية، مج ۲۱ / العدد ٣/٤ سنة ۲۰۰٥.

(8) ينظر: في نظرية العنوان مخاسرة تأويلية في شؤون العلبة النصية: خالد حسين حسين، دار التكوين، ط 1، د.ت: 44 – 45.

(9)الأعمال القصصية: حسن مطلك: ٩٥.

(10) م. ن : ٩٠.

(11) م. ن: 82.

(12) م. ن: 133.

(13) م. ن: 135.

(14) الأعمال القصصية: ٩٢.

(15) م. ن: 82 – 87.

(16)المعجم الوسيط: مجمع اللغة العربية: ٩٩٩.

(17)الأعمال القصصية: ٢٦-9٢.

 

المتن الروائي باحداثه البارزة لا يؤخذ بأنه سرد تقليدي في الشأن الفن الروائي، بأنه يتحدث عن طفلين بينهما فرق شاسع، اولهما تقرضه الفاقة والفقر والبؤس والحرمان الكلي، بينما الاخر يسبح في بحر المال ثراء الفاحش يلعب بالمال والصرف الباذخ. الاول يحلم باشياء بسيطة جداً، قميص أو بنطال جديد،أو حذاء بدلاً من حذائه المطاطي وهو منحة من مدرسته، والآخر ينعم بالملابس الجديدة والهندام الراقي، رغم انهما اولاد عم من والدين شقيقين، احدهما فقير جداً، يكدح بعرق جبينه طوال النهار، ولم يوفر ابسط الاشياء الى عائلته، والى أمه المريضة، والآخر يلعب بدنيا المال ويسبح بنعيمها بالثراء الفاحش، دون جهد وعرق جبين، القطيعة الكاملة في الصلة بين الاخوين، كأنهما غريبان من رحم واحد، صياغة السرد وتتدفق احدثه تسرد بالضمير المتكلم أو ما يعرف الروائي العليم، يسرد الاحداث منذ كان طفلاً فقيراً، حتى شبابه طالب في المدرسة الاعدادية، عن مسلسل حياته وعائلته وصلته القوية بابن عمه (سمير) كأنه الملاذ من فاقته المزرية، وحاجته القوية أن يكمل حاجاته البسيطة من خلال وشائج هذه العلاقة، رغم تحذيرات الأب الصارمة، بأن يقطع الصلة تماماً وينسى بأن هناك عم وابن عم. الشخصية المحورية الطفل الصغير، ليس بأنه فقط يسرد حياته الفقيرة، بل يسرد حالة البلاد بعد الحصار الاقتصادي الدولي، الذي خنق العراق من الوريد الى الوريد، بعد حرب الخليج المدمرة عام 1991 وهلكت العراق بالفاقة الاقتصادية وشظف العيش الصعب والقاسي، ايام النظام الديكتاتوري. لذلك المتن الروائي وحبكته الفنية، تطرح ثلاثة محاور أساسية بأبعادها الفكرية والرؤية التعبيرية و بالدلالة الرمزية العميقة، بأن ترسم لوحات كاملة لهذه المحاور الثلاث وابعادها وتأثيرات على كل جوانب ميادين الحياة العامة والخاصة، ويمكن تلخيصها بالآتي:

1 - السيرة الحياتية:

يسرد حالة عائلته الفقيرة، وصراع الاب المضني في توفير ادنى شروط الحياة البائسة، حتى حرمان من الكهرباء في انقطاعها لساعات طويلة في عز قيظ الصيف الساخن الى درجة الغليان، ويحرم طفله في تلبية مطالبه البسيطة، مما يترك الحزن والدموع بالخيبة المحبطة، بينما ابن عمه (سمير) يلعب بالمال بتصرفاته الرعناء وسلوكه الأحمق، في السخرية والاستهزاء بأبن عمه الفقيرة، في إهانته بالسخرية والتهكم عليه أمام الأطفال، مرة اعطائه علبة حلوى فرح بها، ولكن حين فتحها وجد في داخلها قاذورات وأوساخ، تجرع الاهانة والسخرية، وظل متعلقاً به، كالغريق الذي يتعلق في قشة للانقاذ، يتحسر بحزن حين يجد (سمير) يغيير افخر الملابس الجديدة بين فترة واخرى، بينما هو محروم منها كلياً، مرة ذهب الى بيت عمه (عايد ) ابو (سمير) اندهش من براعة الفيلا وجمالها الخلاب، بمساحة كبيرة مسيجة بالحديد وبالحديقة الكبيرة كأنها بستان الاشجار والزهور، المرصعة بالحجر الملون، بينما هو يعيش في غرفة صغيرة واحدة، هي كل شيء، مطبخ وحمام وغرفة النوم، ينطرحون على أرضها، أبيه وأمه وجدته المريضة، فقد شعر بهالة بيت عمه الكبير (شعرت بأن هذا المكان، بدأ أنه مأخوذ من حلم، لاينتمي لعالمي،وأنني لن اكون يوماً جزءاً منه، منْ يدري؟ ربما أجمل ما رأيته على الإطلاق، ليس فقط في الواقع، بل حتى في احلامي التي احلق فيها، مع فراشات الاماني، صوب بيت جميل فيه ارجوحة طائرة، أو كبسولة ملونة بالازرق والاحمر، كتلك التي أراها في لعبة دكتور ماريو) ص15، عمه (عايد) لم يعره أية اهمية، كأنه غريب لا يعرفه، وزوجته استقبلته بنظرات الريبة والتوجس، تحسر على حياته البائسة بالحرمان، رغم أن أمه تلح على أبيه في محاولات إقناعه، أن يشكو حاله البائس الى شقيقه، لكنه يرد بصرامة قاطعة، وترد متذمرة (أي عمل هذا الذي يقضي فيه الرجل يومه كاملاً، ولا يجني منه إلا ما يكفي لشراء بضع قطع من البسكويت وقنية حليب؟ لماذا لا تخبر اخاك عايد ليساعدك على الأقل في مداواة أمكما؟

ساد الصمت لوهلة بدت طويلة، ثم اجابها بصوت حاسم:

- مستحيل أطلب ذلك...أنسيتي يا فاطمة؟) ص 23. وهذه أول مرة يسمع عن عمه (ابو سمير) يتردد على لسان أمه وأبيه، ولا يعرف سبب رفض أبوه القاطع لاقتراح أمه،لذلك يخلق في عقله جملة من التساؤلات المبهمة، لماذا هذه الهوة والقطيعة بين الأخوين؟ ولماذا احد الأخوان في فاقة الفقر والآخر في الثراء وحياة النعيم؟ وفي المدرسة الاعدادية تعرف على صديق آخر اسمه (علي) يعرف بالمشاكسة والشيطنة وروح المغامرات والمجازفات. وأصبحوا الثلاثة في سلوكهم الصبياني المراهق، تعلم التدخين والمغامرات المجنونة. وعرض عليه (علي) السفر الى مدينة النجف الأشرف، وهو يدرك ان ابيه يتحاشى ذكر مدينته النجف، التي عاش فيها في الثمانيات وتركها بالرحيل الى بغداد لسبب مجهول، حتى بموت جدته التي يحبها حباً عارماً لانها تواسيه بالحكايات الجميلة، لم يأخذه معه إلى مدينة النجف الاشرف، ذهب وحده ودفنها في مقبرة السلام، ورجع على عجل، ولكن بعد موت أمه كانت صدمة هزت كيانه، فكانت العمود والسند القوي، كانت تتستر على حماقاته بالغياب طوال اليوم حتى آخر الليل عن البيت، وحتى سرقاته مصروف البيت لم تصارح ابيه، لانها تدرك سيكون العقاب صارماً وقاسياً، بموت أمه شعر بالوحشة والعزلة والضياع والفراغ الكبير، لذلك استغل زيارته الى النجف مع صديقه (علي) فقد أخبره هذا بأن جده يملك أرشيف المدينة وتاريخ الأسر، وهذه فرصة سانحة لمعرفة تاريخ أسرته الغامض والمبهم. لا بد ان يعرف السر الحقيقي.

2 - كشف السر:

توجه الى مدينة النجف الاشرف، ليعرف لماذا ابيه يتحاشى ذكر اسمها، وحتى تاريخ عائلته، وكذلك ان يعرف الشيء الغربيب، بان ابيه وشقيقه من البشرة السمراء قصيري القامة، بينما (سمير) أبيض البشرة أشقر الشعر وذو عينين خضراوتين وطويل القامة، وحتى (أم سمير) من البشرة السمراء حنطية لكن بعد وصوله الى النجف لم يحالفه الحظ في رؤية جد (علي) لكن استقبله بكل ترحاب عم (علي) وبات ليلته في البيت، وفي الليل لفت نظره وجود صندوق خشبي، أثار فضوله، وعندما فتحه وجد في داخله مجموعة كبيرة من الأوراق والمذكرات والوثائق الرسمية من مديرية أمن النجف، عندما استولوا المنتفضين عام 1991 على المدينة وهروب رجال الامن، خوفاً من بطش الناس، قضى الليل يفتش في الأوراق والوثائق وخاصة مستندات مديرية امن النجف، جمعها ورجع الى بيته ليطلع عليها بهدوء وسكينة، وبالفعل اطلع عليه وإصابته الصدمة التي هزت كيانه، لم يستوعبها في وهلة الالاولى، لكن بدأ يفهمها بعد الاطلاع عليها باعصاب مضبوطة دون انفعال، عرف لماذا أبيه يتحاشى ذكر مدينته وتاريخ عائلته؟، ولماذا عمه (عايد) يرفل بالنعيم والمال الوفير، من خلال هذه المستندات الرسمية الصادرة من مديرية امن النجف، بأن عمه كان وكيل أمن في مديرية امن النجف، وعرف وزوجته عاقر لا تنجب اطفال، وإن عمه استغل عدم وجود احد في العائلة الثرية سوى امرأة مسنة، فقام عمه بقتل الجدة وسرق الذهب والمجوهرات، وقبل ايام قام في اعتقال والدين الطفل وتركوا الجدة وحدها، يعني عمه دبر مخطط سرقة البيت وقتل الجدة وخطف الطفل الرضيع، وجد بمواصفاته تنطبق كلياً على مواصفات (سمير) أنذاك كان رضيعاً عمره ثلاثة شهور، وضاعت اخبار اعتقال الام والاب، ربما اعدامهما بذريعة معارضة النظام، وتحدثت احدى الوثائق عن خطف طفلهم بعمر ثلاث شهور وذكر تفاصيل الموصفات تنطبق على (سمير) (شد انتابهي ذكر حادثة غريبة في احدى الوثاق، اختفاء طفل رضيع وسرقة صندوق من الحلي والمجوهرات، والعثورعلى جدته الوحيدة مقتولة برصاصة مستقرة في قلبها، بقيت الجثة مهملة ثلاثة ايام) ص105، ووثيقة اخرى تقول (أن الرضيع ابن لزوجين اعتقلتهما مديرية أمن النجف عام 1985 قبل ايام من مقتل العجوز التي هي أم الزوج، والاغرب من ذلك أن الطفل ذي الاشهر الثلاثة) ووثيقة اخرى تضع عمه في مرصاد الجريمة (اكتشف للتو أنه يخص عمي، اي هذا الرمز يخص زوجته..... ولكنها عاقر إذن هذا يعني أنه رمزها، وانها لا يمكنها الإنجاب) ص120، وأوضحت الصورة لديه (الآن فقط..اتضح سر ذلك النعيم الذي نٌعم به ! إنها مجوهرات وقلائد تلك العجوز المسكينة ! لقد استغل وحدتها، استفرد بها بعد اعتقال ابنها وزوجته، وارتكب جريمته النكراء، ثم أخذ الطفل هدية لزوجته العاقر) ص121. وأدرك ان هو وسمير مساكين، وإن الرفاه والبذخ على حساب قتل واعدام عائلته جميعاً، اما هو فقد تجرع مرارة الفقر والعوز. ولكنه تشرف بحب شديد بخصال ابيه رغم قسوته، لانه عاش بشرف عرق جبينه، ورفض جريمة شقيقه مما سبب بالقطيعة الكاملة بينهما، لذلك شعر بالحب والاعتزاز بابيه انه طيب برفض جريمة شقيقه (عايد)، وفي جلسة سكر مع (سمير) شب الخلاف والنزاع والشتائم بينهما. مما صرخ به بغضب: (- اخرس ! أنا اعرف حقيقتك،أنت لست ابن عمي، وما المال والعز الذي تتباهى به سوى اموال اهلك الحقيقين، الذي قتلهم عمي منذ زمن) ص147. مما اشتاط غضباً (سمير) ولم يضبط أعصابه المتوترة جداً، أخرج مسدسه ودوت رصاصة تخترق جسده. أصبح مريضاً بالكرسي المتحرك، لا يستطيع الوقوف، اما سمير دبر له عمه طريق الهروب بعيداً عن اذرع العدالة.

3 - الرؤية الفكرية والدلالات الرمزية:

السرد الروائي في أحداثه المختلفة تشير الى اصابع الاتهام الى ان اصحاب المال الحرام، مطعونين في سيرتهم ونزاهتهم الاخلاقية، بل منخورة بالف ثقب وثقب، بطريقة كسبهم المال جاءت بطرق شيطنية احتيالية، بل بطرق إجرامية بعض الأحيان، والفرق الشاسع بين الرجل الشريف، والرجل الحرامي الفاسد، وتذكر صورة أبيه تنهال على ذهنه (الذي لم انعم بحبه رغم وجوده، الذي ظننته جلاداً، لكنه لم يكن سوى ضحية لعمي عايد وأمثاله من الوصوليين، الذين لا مبدأ لهم سوى المال والسلطة أيا كان ثمنها) ص146. بكل تأكيد تاريخهم لا يخلو من التهم والجرائم والاحتيال، وإذا كان النظام الساقط اطلق العنان الى رجال الامن أو وكلاء الامن، ان يعبثوا في مصير البلاد والعباد، والتغيير الذي جاء الى العراق، لم يكن إلا فرحة مؤقتة (فرحتنا لم تدم طويلاً بتغيير نظام الحكم السياسي) ص30. بأن رجال الأمن غيروا جلودهم من جلد البعث الى الجلد الإسلامي كالافعى الحرباء، في اسلوب المخادعة والتضليل مصبوغة في حلو الكلام، ولكن (خلف تلك الوجوه وحوشاً، وإن حسن منطقهم لا يختلف عما يكمن وراء لعق العسل المسموم، أما تحت قصورهم الفارهة، وربما حتى تحت جوامعهم المهيبة، فتقبع أقبية وطوابير مظلمة لا يعرف فيها الليل من النهار، لهم جنود من شياطين الإنس يعملون كما عملت شياطين الجن لسليمان) ص32، ومثال عمه (عايد) من وكيل الأمن الى مسؤول سياسي كبير يجيد حبك الخيوط وقطعها متى شاء، إذ بعد التغيير ضعه الامريكان في منصب كبير في الدولة ليس مثالاً منفرداً بل اصبحت ظاهرة عامة، والتغيير الذي جاء بعد سقوط النظام جلب الخراب، فقد تدهورت حالة البلاد بالإرهاب والتفجيرات اليومية، في النهار والليل، حتى اصبحت الحياة ومخيفة ومرعبة. وأصبح بيت عمه (عايد) مزار لرجال الدولة والسياسيين، لكي يتنعمون ببركاته، ولا يمكن اتخاذ أي قرار رسمي للدولة، إلا بموافقته.

***

جمعة عبد الله

قرأت باهتمام رواية الكاتبة السيدة سعاد الراعي التي جاءت بعنوان (بين غربتين) والصادرة عن دار نشر أريس في ألمانيا. وقد أعادتني هذه الرواية لعالم النقد الذي كان لزاما عليّ أن أتجاهله  شأنه شأن مواضيع أخرى كاللغة والبحث الأكاديمي، لكنني هذه المرّة أجدني مدفوعا للكتابة عن  العمل الأوّل للسيدة  الراعي  لأنّ للمرأة الأديبة فضلا عليّ فأوّل عمل لي نشرته سيدة أديبة وأنا في بدايتي الأدبية هي السيدة عالية ممدوح، وهناك السيدة قمر كيلاني والسيدة غادة السمان والسيدة الدكتورة الجزائريّة فتيحة عاشوري التي خصصت جزءا واسعا من أطروحتها في الدكتوراه لروايتي آدم الجديد هذا فضلا عن رسالتيّ ماجستير في جامعتي البصرة وآل البيت في الأردن أدّتهما سيدتان. إذن الكتابة عن عمل سعاد الراعي الروائي هو من باب ردّ الجميل!. لكنني لن أنحاز وسأكون موضوعيا من دون مجاملة أو تجاوز على الحقّ النقديّ.

كيف أصنّف رواية بين غربتين؟

يمكن أن أقول إن العمل هو توافق وتوازٍ واندماج بين  السيرة والمذكّرات، والسرد، توافق ثلاثي أدخل العمل ضمن الرواية ولم يخرجها من فن المذكرات والسّرد، ويبدو أن الكاتبة لعبت لعبتها بذكاء فلم تروِ الأحداث بضمير الأنا بل لجأت إلى الضمير الغائب في الوقت نفسه لم تتحدّث عن كلّ سيرتها الذاتية بل روت لنا بعضا منها بضمير الغائب، ومعها بالموازاة والاندماج تحدّثت بحكم الضرورة عن مقتطفات من سيرة الحزب الشيوعي العراقيّ وسيرة آخرين وأخريات مثل الفتاة التي أحبت شابا متزوجا وحدث بسبب العلاقة بينهما حمل...أو بعض من سيرة والدها، وزوجها قبل اقترانه بها، ليكون مجموع السير الموجزة تلك عملا يتضافر جميعة ليتداخل في سيرة البطلة عندئذ يدخل بصفته الكليّة في العمل الروائي ليصبح سردا أكثر مما هو سيرة.

وإذا أردت أن أقارن عمل السيدة الراعي بعمل آخر فإنني لن أجد أفضل من رواية الاسبانيّة (دولورس إيباروري) التي حملت عنوان (لن يمروا) حيث تحدّثت فيها عن سيرتها خلال الحرب  الأهليّة الإسبانية وكانت تفضح فيها أو تنقد هفوات الشيوعيين الإسبان مع كون الكاتبة شيوعيّة كبيرة، غير أن الراعي لم تنتقد أو تبين أخطاء حزب بل كانت تشير بمرارة إلى أخطاء أفراد وقد تركت لنا نحن القراء فرصة النقد والتعجب فأيّ قارئ يطالع الرّواية يمكن أن يستنكر عمل الحزب الشيوعي إرسال زوج الكاتبة إلى كردستان ليقاتل وهو أب لطفل في الوقت نفسه يشكو من داء الشقيقة! نعم الكاتبة لم تستنكر أو تفضح بل وهبت مساحة واسعة للقرّاء أن يستنكروا ويستهجنوا!

أو يتعاطفوا معها...

هذا مثل واضح وما دمنا بصدد المقارنة بين (لن يمروا) و(بين غربتين) فالأجدر أن نشير إلى مسألة الدين : في بداية رواية (لن يمروا) هاجمت الكاتبة الإسبانية (دوروس إيباروري) الدين والراهبات  مثلما هاجمت الحزب الاشتراكي وكلّ من يختلف معها في الرأي، وقد لفت نظري أن السيدة الراعي تطرقت إلى موضوع الدين في روايتها بشكل واضح وصريح إذ نقلت الجانب الإيجابي في الدين حيث تحدثت عن  امرأة شيوعية تقسم بالله العلي العظيم، وعن أبيها الذي يأخذهم لزيارة الحسين واهتمامه بعاشوراء والتغني بمجد الحسين وكتابته الشعر الذي يخص ثورة الحسين ويهاجم السلطة. إذ لم تر الكاتبة في الدين معممين يسرقون الناس ويكذبون إنّما رأت فيه نقاء وسموا وتطهيرا للنفس، وهو الموروث الذي حملناه في نفوسنا من آبائنا الطيبين وأمّهاتنا الصابرات.

ولا أدري لماذا حين قرأت الرواية تذكّرت مذكّرات الرئيس المصري الراحل (محمد أنوار السادات) (وطني حياتي) التي قرأتها في الدنمارك قبل أكثر من ثلاثين عاما وأدهشني فيها الكذب الواضح السادات يقول إنّه تعلّم اللغة الألمانيّة في السجن وعندما زار ألمانيا كان يتحدّث الألمانية أفضل من بعض الألمان، وذكرت المؤلفة بكل تواضع أنّها دخلت بلغاريا وهي لا تعرف اللغة!!

ففي مسألة الصدق والكذب تتجلّى شخصيّة السادات الانتهازيّة حيث انضمّ إلى حركة الضباط الأحرار وهو لا يؤمن بالوحدة العربيّة ولا التأميم ولا تحرير فلسطين وعندما حكم ألغى كلّ منجزات الثورة المصريّة أمّا الذي أعجبني في رواية بين غربتين فهو إن الكاتبة كانت صريحة صادقة في تعاملها مع الأحداث لا تكذب ولا تغالط وتؤمن ومازالت تؤمن بفكرة اعتنقتها من دون أن ترسم حول نفسها هالة من المبالغة والتزوير.

بعيدا عن الوقفات السابقة التي يمكن أن تكون مدخلا لفهم الأفكار الرئيسية فإننا نستطيع عن أن نسلّط الضوء على محاور مهمّة مثل المكان والشّخصيّة.

قضيّة المكان:

تطالعنا أربعة أمكنة مهمّة في رواية بين غربتين هي النجف وبغداد وبلغاريا واليمن الجنوبيّ.

النجف:

هو المكان الأساس الذي ولدت فيه الروائيّة والنجف يمثل قيمة حضاريّة وروحية وثقافية عالية، له هيبة في نفس البطلة، وعلى الرغم من أنها تعتنق الفكر الشيوعي الذي يؤمن بأقدمية الوجود نرى الكاتبة تبرز مكانة النجف في كون الشيوعيين أنفسهم مثل أبيها الشاعر العامل ينطلقون من مأساة الحسين فيندفعون في المواكب والمناسبات الدينية ليحاربوا السلطة الظالمة. إنّ المكان الديني نفسه زرع قيمه الدينية والثقافية في روح الروائية فلم تنظر إليه نظرة سلبية قط.

بغداد:

يمكن أن نعدها مدينة العمل والدراسة ايضًا، فإذا كانت النجف مدينة العلم والثقافة والدراسة فاختيار بغداد للإقامة من قبل والديها جاء لعاملين أساسيين هما العمل والدراسة، استنادًا الى تطبيق الفكر الماركسي من لا يعمل لا يأكل، وإكمال الدراسة هو امتداد للنجف أي في بغداد تلاقح النظريّ بالعمليّ لكن مع ذلك قد تكون النجف مكانا غير آمن، كما في مشهد اعتقال الأب أو مطاردة القريب سلام عادل..

 حين بدأت تعمل وتدرس مساء، كادت تتعرض للاغتصاب أو الاعتداء حين عادت ذات ليلة من الجامعة فداهمتها في الشارع المظلم شلّة من الشباب العبثيين. في بغداد العاصمة انتُهِك الأمان المألوف والصفاء الروحي والدعة.

اليمن

قد تكون اليمن الجنوبي ملاذا آمنا في الظّاهر أمّا الواقع فيوحي بمعنى آخر. فبعد وصولهم تم توزيعهم لاعتبارات المحسوبية المتعلقة بمدى قربهم وتملقهم لمسؤولي المنظمة الحزبية.. فالبعض أبقي للعمل في العاصمة، والبعض الاخر، وكانت هي وزوجها منهم، تم ارسالهم الى مناطق بعيدة عن العاصمة. كما عملت المنظمة على تكليف زوج الكاتبة للانضمام لقوات الحزب الشيوعيّ في كردستان والذي قتل هناك. لقد صوّرت الكاتبة المشهد بأحاسيس صادقة وتركت للقارئ الحريّة في أن يلوم المتسبب في المأساة؟ (تذكرني اليمن الجنوبي بقصة قصيرة كتبها قاص عراقي ونشرها في مجلّة الاغتراب الأدبي التي أصدرها الدكتور صلاح نيازي في لندن) وهو عن عسكريّ عراقي يراقب يمنيًا يستدرج شابة عراقية لفخ. والجنرال العراقي اللاجئ يرسم الخطط ويأمر جنوده بالتقدم لإنقاذ الفتاة لكنّ الوقت لا يسعفه)

بلغاريا:

الكاتبة هي وزوجها وطفلها انتزعوا انتزاعا بقرار من منظمة الحزب الشيوعي العراقي من بلغاريا أرض الأمان الأولى التي على ما يبدو كانت تؤوي اللاجئين الشيوعيين في فنادق مثلما تفعل بريطانيا لم يكونوا منعزلين بل يسكن معهم بعض البلغار مع ذلك تشعر الكاتبة بصفتها لاجئة أن لا ديمومة في هذا المكان بعد أن تغامر وتترك بغداد هربا من البطش تجد كلّ شيء باردا وغريبا عنها لا تقصد البلغار بل العراقيين أنفسهم. الفندق أو القلعة التي تحميها تشعرها باليأس ثمّ تأتي رياح ناعمة تقتلعها منها، فتحدث مأساة مصرع زوجها لتعود ثانية إلى بلغاريا بنفسية أخرى ومسؤولية كبيرة هي تربية طفلها اليتيم.

البطلة والشخصيات الثانوية:

المتمعن في شخصية البطلة التي تحدثت عنها الساردة بضمير الغائب(هي) يجد أن كلّ الصفات تنطبق على كاتبة الرواية، فالمؤلفة  لم تختر الضمير هي من باب التواضع بل من باب التشويق  ورسم مساحة أوسع للشخصيات الأخرى، إنّ أولى صفات البطلة هي الثقافة وقد اكتسبتها من بيئة البيت والأقارب بيئة النجف الدينية الثقافية الواسعة فالمجتمع الذي يحيط بالبطلة منفتح ومنغلق في الوقت نفسه، ومن خلال ثقافة البطلة  نكتشف الصفة الثانية ألا وهي الصبر والقدرة على استيعاب الصّدمة، والتحمل ولنا أمثلة كثيرة في هذا الشّأن منها تحملها الصدمة حين تعبت وغامرت وخاطرت بنفسها  واكتشفت فيما بعد أنّ زوجها لم يكلف نفسه لاستقبالها في المطار، وتجاوزت عن إهانة المسؤول الحزبي لها حين دخلت عليهما هو وزوجها في المطبخ، وتمثلت قدرة التجاهل عندها أمام حماها شقيق زوجها الذي زارهما فتحدث بألغاز واضحة قبيحة عن الابن والأم وتفضيل عائلة أخيه على عائلة الزوجة! وتجلّت قدرة التحمّل عند البطلة يوم علمت باستشهاد زوجها في كردستان لتطلب من رفيقاتها أن يخرجن فتحتضن ابنها الصغير بإشارة إلى أنّها أصبحت المسؤولة الوحيدة عن المستقبل، ولا أظنّ بطلة الرواية ضعفت قطّ أمام أي تهديد أو استفزاز ولا تراجعت عن مواقفها حقّا إنّها كانت تشعر بغربة عن الرفاق المحيطين بها والرفيقات فهي في واد وهم في واد آخر ولا مجال أماها سوى أن تغضّ الطرف أو تتجاهل ما تراه غير مناسب وغير واقعي ولا تصطدم مباشرة ولا تنفعل.

ولعلنا نجد في الرواية نساء قوّيات النفوذ والشّخصيّة مثل الأم، أم البطلة، التي حالت دون مداهمة الشرطة لمنزلهم، مصرة على تفتيشهم قبل السماح لهم بالدخول إلى درجة أن الضابط المسؤول أبدى إعجابه بشجاعتها.. في حين نجد نساء سلبيات مثل صديقة البطلة التي تعشق عاملا متزوّجا وتمنحه نفسها باندفاع بعيد عن التخطيط.

البطل

البطل هو الزوج، شخصيّة سلبية إلى أبعد الحدود، مريض، بارد لا تحرِّكه  الأحداث يتغاضى عن أيّة إهانة تخص زوجته سواء من الرفاق أم من أهله، ومن يتتبع شخصيّته يجد أنّه لا يختلف عن الروبوت، يتحرك بأحاسيس باردة لا يعارض ولا يناقش ولا ينفعل وليس بحاجة إلى أن يتفاعل، يطلب من زوجته الرقص مع مدير المعهد وهو يعلم انها يجب ان ترعى طفلها دون ان يفكر هو في مراقصها، وعلى الرغم من مرضه -الشقيقة- إلا أنّه ينصاع  للأمر الحزبي فيذهب للقتال في كردستان، والظواهر السلبية التي رافقت البطل ليست جديدة عليه بسبب هجرته إلى بلغاريا إنّها عميقة الجذور أبرزها يوم طلبت منه زوجته أن يرافقها ليلا بعد أن تعود من الجامعة حتى يخفّ قلقها وخوفها من وحشة الطريق والمشاكسات التي تتعرض لها ومما يثير الدهشة أنّه رفض العرض حتى بعد حادث الاعتداء وتدخل سائق شاحنة لإنقاذ الزوجة، فهل أرادت الكاتبة أن تقول إنّه عديم الغيرة مع العلم أن قبوله القتال في كردستان ومصرعه يثبتان أنّه غير جبان على الأقل.

ونميل إلى الظنّ أنّ سلبية البطل زوج الكاتبة تختلف من حيث الجوهر مع سلبية بعض الشخصيات ومنها شخصية العم الذي يفرّق بين ابناء زوجته الأولى وأبناء أخيه المتوفى فيأمرهم بالعمل ليسدّوا رمقهم، وتختلف عن شخصيّة الشّاب الطائش شقيق الفتاة منتهكة العرض الذي يحمل سكينا يهدد بها وفي الأخير يحضر لاستلام الجنين المتوفّى بعد إجهاض أخته ليدفنه. هاتان الشّخصيتان لم تؤد بهما السلبيّة إلى أن يصبحا إنسانين آليين أما مشكلة البطل الحقيقية ففي كونه تحوّل من حيث يدري أو لا يدري إلى آلة _روبوت_ وكأنّه واقع تحت تأثير تنويم مغناطيسي لا يرغب في أن يصحوَ منه.

بالمقابل نجد هناك شخصيّات ثانوية تفاعلت بإيجاب مع مجتمعها، وأبرزها شخصيّة قريب البطلة سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي سلام عادل. لقد تحدثت عنه المؤلفة بوصف جميل وأوردت بعضا من سيرته المذهلة ونشاطه ومقدرته على التخفي، بشكل ينال إعجاب القاري، وكذلك شخصيّة الأب الذي ينظم الشعر الحسيني وينتقد السلطة ولا يتراجع عن موقفة.

هذا مجمل ما أردت أن أوضحه بشأن رواية بين غربتين، وهي رواية جمعت بين السيرة والمذكرات والسرد الروائي، في تركيبة جعلتها تندرج ضمن الرواية كتبتها المؤلفة السيدة سعاد الراعي بأسلوب رشيق رصين لم تسقط فيه بالمباشرة حيث نقلت بعضا من سيرتها ووازنتها ببعض من سيرة الحزب الشيوعي العراقي، وسيرة حياة سلام عادل ومجموعة من الرفاق ولم تغفل بعض المذكرات، فاندمجت تلك الألوان الخصبة المتحركة ببوتقة واحدة يمكن أن نطلق عليها وصف (رواية)، وهو وصف تستحقه بلا شكّ.

***

قصي الشيخ عسكر

قراءة تمزج بين الهيرمينوطيقيّة التأويليّة، والتحليل الأسلوبي، والرمزي

من الجدير بالذكر ان قصيدة (الحجازي) للشاعر السوداني محمد عبد الباري تفرض غلينا أن نلقي عليها إضاءة للبُنى النفسيّة (التحليل الأركيتيبيّ/اليونغيّ) التي تتحرّك تحت نصّ كتب بلغةِ باذخة “الحجازيّ” لمحمد عبد الباري.

- تمهيد: أطروحة القراءة:

تتمحور القصيدة حول “أنا” شعرية تتخلّق في فضاء كونيّ دينيّ ـ أسطوريّ، تُجرِّبُ الهبوطَ والصعود، الدورانَ والانشقاق، لتصوغ لنفسها مقامًا بين اللغة والوجود، وبين التاريخ والقداسة. “الحجازيّ” هنا ليس وصفاً جغرافياً بل اسماً لرحلة: من ماء البدء إلى نار القرابين، ومن “يثرب البدايات” إلى “غرناطة وبخارى”؛ أي من أصل النبوّة إلى أطراف الحضارة. الأطروحة: يبني الشاعر ذاتًا كونيةً بتقنية “التديّن الشعري” التي تُزاوج بين تناصٍّ كتابيّ (توراتي/إنجيلي/قرآني) ورؤيا يونغيّة للأركيتايب (البطل، الهادي، الجبل، الكأس، الدوران)، فيما تتولّى اللغة ـ بوصفها “وجوداً ” ـ القيام بوظيفة الخلق ثانياً.

أولًا: منهج القراءة:

1. هيرمينوطيقا المعنى المتولِّد: نفهم الأقسام الثلاثة للقصيدة بوصفها دوراتٍ في “دائرة الفهم”حول ماكتبه الفيلسوف الألماني (هانز جورج غادامير): سؤالٌ كونيّ، جوابٌ أسطوريّ/دينيّ، ثم ارتدادٌ وجوديّ على شروط المعنى والحرّية.

2. أسلوبيّات الأداء: رصد البنية الإيقاعيّة/القافية، الحقول المعجميّة (العناصر الأربعة، الزمن الكوني، أسماء القداسة)، والتوازي التركيبي.

3. الرمز والأركيتايب: تحليل عناصر الماء/التراب/النار/الهواء (باشلار)، ورموز الكأس والجبل والدوران و”حارس الفتوحات”، مع استراتيجيات “التشاكل” بين التجربة الفردية والذاكرة الجمعية.

4. نفس-رمزي (يونغ/ريكور): الأنا الأسطوريّة، الاستعارة الحيّة كمولّد للهوية.

ثانياً: المعمار العام للنص:

القصيدة مؤلَّفة من ثلاثة مقاطع تفصلها علامتا ***. لكلّ مقطع وظيفة:

- المقطع الأول: كوسموغونيا شعرية (سرد خلقٍ شخصيّ)، يقول:

 “كنتُ ماءً… قبل أن تصبح البحار بحارا”

تظهر الأنا قبل الكون المتعيّن: ماء/دوار/هبوط/جبل/برق/كأس. هذه جميعًا “سلالم للظهور”. يتقدّم المشهد عبر أفعال صيرورة (تجذّرتُ، قمتُ، جرّبتُ، دُرتُ)، وصولًا إلى:

“وتدرجتُ في المصابيح حتى رشحتني لكي أكون النهارا”

وهو إعلانُ اصطفاء عرفانيّ (تحوّل إلى ضياء).

- المقطع الثاني: كتابة القداسة في جسد التاريخ.يقول عبد الباري:

 “يومَ تاب (اللاويّ)… في (العشاء الأخيرِ)… ثم دوّيتُ في الحجاز”

التناصّ الكتابيّ (اللاوي/العشاء الأخير) يلتقي بالنبوّيّ الإسلاميّ (الحجاز/يثرب). تُعاد كتابة الجغرافيا الروحية بوصفها انتشارًا للروح:

“منكِ يا يثربَ البدايات حتى غربِ غرناطةٍ وشرقِ بخارى”

فتُصبح الأنا “قنطرة” بين أصولٍ وأطراف، بين وحيٍ وتاريخ حضاري.

المقطع الثالث: ميثاق الحرّية والكشف:

تتحوّل الأنا إلى مشرّعٍ لشروط الحبّ/المعرفة والحرّية عبر سلسلة نفي شرطية “لستَ… لستِ…”. إنّه “قانون الكشف” الذي يرفض الوصال الناقص، يقول:

 “لستِ حريّتي إذا لم تكوني ضدّ أن تألفَ النجومُ المدارا”

إنها حرّية تُقاوم الألفة الكسولة للمدار.

ثالثاً: تحليل هيرمينوطيقي مفصّل:

1) سؤال الأصل: الماء/الهبوط/الجبل

- الماء: بداية الوجود وعمق اللاوعي (“كنتُ ماءً”). عند باشلار، الماء أصلُ الأحلام ونبع المخيّلة؛ وهنا هو “دوّار” يسبق نظام البحار.

- الهبوط، يقول:

 “يوم أهبطتُ لم يلح لي طريقٌ فتجذّرتُ في مكاني انتظارا”

هبوطٌ بلا دليل يفضي إلى تجذّر: تأويلياً، يشتغل الانتظار بوصفه صورةً مُؤسِّسةٍ للمعنى (الانتظار شرطُ الوحي).

- الجبل، يقول:

 “للجبال أشارا… قلتُ فلأرتفع إليها غموضًا وصلاةً وحكمةً”

الجبل أركيتيب “العلوّ المعرفي”، والمفارقة أنّ الارتفاع يتمّ عبر “غموض وصلاة”؛ أي طريق باطنيّ لا برهانيّ.

- 2) الدوران وحارس الفتوحات: ابتلاء الشكل الكوني:

- الدوران، يقول:

 “كم على الطين أن يدور إذا ما شاء أن يمسك المياه جرارا؟”

سؤال حارس الفتوحات يعرّف قانون الوجود: على الطين أن يتقن شكلَه (الجرّة) ليحفظ الماء. مجازًا: على الإنسان أن يجد هيئةً رمزية تحفظ المعنى.

- الحارس: أركيتيب “الشيخ/المُرشد” الذي يقدّم لغزًا تربويًا؛ والحلّ يأتي بالفعل، يقول الشاعر محمد عبد الباري:

 “درتُ حتى لم يبق في الأرض شيءٌ يشتهي أن يكون إلا ودارا”

تتخلّق كونيّة الأنا بالدوران الشامل (سعيٌ صوفيّ لإحاطة الوجود).

- 3) التجلّي: من المصابيح إلى النهار

- الضوء يتدرّج (مصابيح ← نهار): تسلّق رمزي من المعرفة الجزئيّة إلى الكشف الكلّي. هنا يعملُ قانون “الاستعارة الحيّة” (ريكور): النور لا يُخبر فحسب، بل يُنجز وجودًا لغويًا جديدًا للذات.

- 4) كتابة القداسة عبر التناصّ:

(اللاويّ/العشاء الأخير): استدعاء التوراتي/الإنجيلي يُشيّد جسرًا مع الإسلاميّ (الحجاز/يثرب). هذا توحيدٌ سرديٌّ للأديان تحت لاهوت شعريّ تُديره “أنا” متضخّمة كونياً، يقول:

 “إنني الأوّل… السلالات كلّها فيّ… ولدتُ مرارًا”

الولادات المتكرّرة هنا تناسخٌ مجازيّ لا ميتافيزيقيّ: إعادةُ ميلاد المعنى في أزمنة متعددة.

- 5) الجغرافيا الروحية: من يثرب إلى بخارى/غرناطة:

- خطٌّ روحيّ يربط مهد الإسلام بعتبات التصوّف والفقه (بخارى)، وذاكرة الأندلس (غرناطة). إنها خرائط للروح تُوسّع الحجاز إلى كوسمولوجيا.

- 6) اللغة كوجود، يقول:

 “لغتي كانت الوجود تمامًا استدارت حيث الوجود استدارا”

اللغة لا تصف الوجود بل تلتفّ معه؛ لذلك تفيض الصورة: “لم أقل مرة هو الغيم إلّا فتحت نفسها السماء انهمارا”. الاستعارة هنا فاعلة: الكلمة تُحدث أثرًا كونياً.

- 7) الحجارة السود… جداراً:

 “ورأيتُ الحجارة السود وافى بعضُها البعضَ ثم قامت جدارا”

صورة تشي بالحرم/الحجر الأسود أو الكعبة بإيحاء شديد التحفّظ؛ التجمّع الحجريّ ينهض جدارًا من قداسةٍ مشتركة، أي إن المعنى جمعيةُ حجارة لا حجرٌ واحد.

- 8) ميثاق الحرية والنفي الشرطيّ:

- القسم الثالث سلسلةُ شر

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

أدَبُ الرُّعْبِ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ يَهْدِفُ بواسطة مَجموعة مِنَ الأحداثِ المُتشابِكةِ والمَواضيعِ المُثيرةِ وَالمُفَاجآتِ الصَّادمةِ، إلى إثارةِ مَشاعرِ الخَوْفِ والرَّهْبَةِ لَدَى القارئِ مِنْ خِلال قِصَص عَن الأشباحِ، أوْ مَصَّاصِي الدِّمَاءِ، أو الكائناتِ الغريبة، أو العناصر الخارقة للطبيعة، أو القُوى الشِّريرة، أو الأحداث العنيفة المُرَوِّعَة، أو الشَّخصيات الشَّاذَّة.

وأدبُ الرُّعْبِ مُرتبطٌ بالنَّوَاحي النَّفْسِيَّةِ في الإنسانِ، لذلك يَعْتمد على التَّشويقِ والغُموضِ، لجعلِ القارئِ في حالةِ قَلَقٍ دائمٍ، وَتَرَقُّبٍ لِمَا سَيَحْدُث. كما أنَّه يَستكشف الجوانبَ المُظْلِمَةَ في النَّفْسِ البشرية، مِثْل : الشَّر، والفَسَاد، والخَوْف مِنَ المَجهول، ويَتلاعب بِمَشاعرِ القارئِ وأحاسيسِه، حَيْثُ تَتِمُّ إثارتُه عاطفيًّا بتوظيفِ الأحداثِ المُشَوِّقَةِ والمُرْعِبَةِ في القِصَّة، ويُركِّز عَلى إثارةِ الخَوْفِ وَبَثِّ الرُّعْبِ عَنْ طَريقِ استكشافِ العُقَدِ والمُشكلاتِ النَّفْسِيَّةِ للشَّخصياتِ، مِثْل: الجُنون، والقَلَق، والاكتئاب، والوَسْوَاس، كما يُركِّز عَلى الخَوْفِ مِنَ الكائناتِ غَيْرِ البشرية والأمورِ الغامضةِ التي تتَجاوز فَهْمَ الإنسانِ ضِمْن أجواء مُظْلِمَة وأماكن مَهْجُورة.

إنَّ البُنية النَّفْسِيَّة في أدَبِ الرُّعْبِ تَقُومُ عَلى حقيقة مُفَادها أنَّ شُعورَ الخَوْفِ مِنَ المَجهولِ رَاسِخٌ في الإنسانِ فِطْرِيًّا، وَمُتَجَذِّرٌ فِيه غَريزيًّا، وثابتٌ في عَقْلِه وتَفْكيرِه وأعماقِه. وهَذا الخَوْفُ قَدْ يَدْفعه إلى التَّعَلُّقِ بالأوهامِ والخَيَالاتِ وَالحِرْصِ عَلى مَعرفةِ الغَيْبِ، وَالغَريقُ يَتَعَلَّقُ بِقَشَّةٍ.

وَأدَبُ الرُّعْبِ فَقَدَ هُوِيَّتَه معَ مُرورِ الزَّمَنِ، وَتَحَوَّلَ مِنْ إشاعةِ أجواءِ الخَوْفِ والتَّوَتُّرِ خِلال الأحداث التي يُواجهها أبطالُ أيِّ عَمَلٍ، إلى الاعتمادِ عَلى المَشاهدِ العنيفة، مِنْ قَتْلٍ، واختطافٍ، وَتعذيبٍ، وإراقةِ دِمَاء، واغتصابٍ بطريقة وَحْشِيَّة، وَتَنْكِيلٍ بالجُثَثِ، وغَيْر ذلك.

وَقَدْ عَزَّزَ هَذا التَّحَوُّلَ الناشرون الطامحون إلى تحقيق أعلى المَبيعات، وَجَنْيِ الأموالِ الطائلة، وَصُنَّاعُ السِّينما المُتَخَصِّصُون في أفلامِ الرُّعْبِ، والذينَ يَسْتَغِلُّونَ الإضاءةَ الغريبةَ، والمُؤثِّراتِ الصَّوتية غَيْر الطبيعية والمُبَالَغ فِيها، لإثارةِ الخَوْفِ والفَزَعِ عِندَ المُشَاهِدِين. والسِّينما تَجْعَلُ المُستحيلَ يَحْدُثُ أمامَ عُيونِنا، وَهِيَ قادرةٌ على تَحويلِ الكَلامِ والحِوَارِ إلى خَيَالاتٍ بَصَرِيَّة، وَتَقْدِيمِها بشكلٍ مُثير للاهتمام، لِتَحقيقِ المُتعةِ أوْ تَكريسِ الخَوْفِ.

يُعْتَبَر الكاتبُ الأمريكيُّ ستيفن كينغ (وُلِدَ 1947) أعظم رِوائي في مجالِ أدَبِ الرُّعْبِ في التاريخِ عَلى الإطلاقِ. يُلَقَّبُ بـِ " مَلِك الرُّعْب "، وَهُوَ الكاتبُ الذي مَلَأَ السِّينما رُعْبًا. وَقَدْ وُصِفَ بأنَّه " الأيقونة الأدبية الحَيَّة الأُولَى للرُّعْبِ، والكاتب الذي كانَ لَهُ دَوْرٌ في تَشكيلِ كَوابيسِنا ".

اشْتُهِرَ برواياتِه التي تَتَمَيَّزُ بإثارةِ الرُّعْبِ، والتَّشويقِ العميق.وأصبحَ عَلَامَةً فارقةً في هَذا النَّوْعِ الأدبيِّ، حَيْثُ جَذَبَ مَلايين القُرَّاء إلى عَوالمِه المُخِيفة.

أوَّل قصة قصيرة باعها كينغ لإحدى المجلات، كانت " الأرض الزُّجاجية " في عام 1967، لكنَّ أول رواية كتبها كانت " كاري "، والتي تَتَحَدَّث عَنْ فَتاة غريبة الأطوار تَمتلك قُدرةً عَلى تَحريك الأجسام عَنْ بُعْد. وكان يكتب هذه الرواية كوسيلة لقتل وقت الفراغ لَدَيْه، ولكنْ حِينَ عَرَضَها على إحدى دُور النشر في ربيع 1973 قامت الدار بنشرها على الفَوْر، وأمام آراء النُّقَّاد المُنبهرة بهذه الرواية، عَرَضَ عَلَيْه مُديرُ تحرير الدار تَرْكَ مِهنته في الجامعة كَمُدَرِّس، والتَّفَرُّغَ للكِتابة تمامًا.

بَدَأت الصُّعُوباتُ في مُطاردة كينغ، إذ اضْطُرَّ للانتقال بعائلته إلى جنوب " مين " (وِلاية تَقَع في أقصى شَمال مَنطقة نيوإنغلاند في شَمال شرق الولايات المُتَّحدة)، بَعْدَ أنْ أُصِيبتْ والدتُه بالسَّرَطَان، وظَلَّ يَرْاعاها طِيلة النهار، بَيْنَما كان يَقْضِي الليلَ في غُرفة صغيرة في جراج المَنزل، يكتب روايته الثانية التي أسْمَاها " العودة الثانية" قَبْل أنْ يُقَرِّر تغييرَ اسْمِها إلى" حشد سالم "، وفيها يَحْكي عَنْ قَرية مِنْ مَصَّاصي الدِّمَاءِ يَقُوم بزيارتها رَجُلٌ وَطِفْلُه الوحيد. وحين انتهت الرِّوايةُ تُوُفِّيَتْ والدتُه، فعاد كينغ ينتقل بعائلته، وعادَ لِتَفَرُّغِه التام للكتابة، لِينتهيَ في أوائل 1975 مِنْ رِوَايَتَي " الصُّمود "، و " مَنطقة المَوْت ". أخذتْ رِواياتُ كينغ تتلاحق بِغَزارة غَيْرِ مَسبوقة،  وَهِيَ رِوايات مِنَ القَطْعِ الكبير، ولا يَقِلُّ عَدَدُ صَفَحَاتِ الرِّواية عن 700 صفحة.

كتب كينغ رواية " البريق " (1980) والتي تَتَحَدَّث عن كاتب مجنون يَقْضِي الشِّتَاءَ مَعَ عائلته في فندق مهجور، ثُمَّ رِواية " كريستين " التي تتحدث عن سيارة مَسْكُونة، ثُمَّ بَدَأ في جَمْعِ قِصَصِه القصيرة لِيُنشرها في مجموعات قصصية مِنْ أشهرها " وردية الليل "، ثُمَّ " أربع دقائق بعد مُنتصَف الليل ". وَتَجَاوَزَتْ مَبيعاتُ كُتُبِه حَوْلَ العَالَمِ أكثرَ مِنْ 350 مَلْيُون نُسْخَة، وَتُرْجِمَتْ إلى جَمِيعِ اللغاتِ الحَيَّةِ.

وَقِصَصُ كينغ تَتَضَمَّن شخصيات غَيْر مُتَمَيِّزة، كعائلاتِ الطَّبَقَةِ الوُسطى، أوْ أطفال، أوْ في الكثير مِنَ الأحيان مُؤلِّفين. شَخصياتُ قِصَصِهِ مُنخرِطة في الحَياة اليومية، لَكِنَّ مُؤثِّرات وَتَدَخُّلات فَوْقَ طبيعية وظُروف غَيْر عاديَّة، تَقُوم بِتَحويلِ مَسَارِ حَيَاتِهِم، وَتَشْكِيلِ أحداثِ القِصَّةِ الدِّرَامِيَّة.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

يحيى السماوي

تُعدّ الومضة الشعرية فضاءً مكثّفًا تجمع بين الإيحاء والتكثيف، حيث تمتزج الأبعاد النفسية والوجدانية مع الأفقين الفلسفي والوطني، ضمن بنية نصية متماسكة وثراء سيميائي متقن. في نصوص الشاعر الكبير يحيى السماوي، يصبح الألم علامة وجودية تتخطى حدود الإحساس الفردي لتُظهر روحًا نابضة بالحياة، عميقة الالتصاق بالعالم المحيط بها. من رحم هذا الألم، يتولد العشق بوصفه قيمة أزلية مقاومة للفناء، تتجاوز حدود زوال الجسد وافتقاد العاشق والمعشوق.

أما من الناحية النصية، فتتجلى براعة السماوي في بناء نص تصاعدي يعتمد على آليات الانزياح الدلالي والرمزية الدقيقة، حيث تتداخل تأملات حول معنى الحياة والموت مع القيم الوطنية والانتماء والذاكرة الجماعية. من هنا، يتحول الوجدان الفردي إلى انعكاس لحالة جمعية مشتركة، بينما تصبح البنية السيميائية أداة فعالة لفك رموز النص واستيعاب أعماقه.

بهذه الطريقة يفتح النص الباب أمام قراءات متعددة وتأويلات متنوعة تنبثق من تكامل الأبعاد البنيوية والسيميائية والنفسية والفلسفية والوطنية فيه، مما يُضفي عليه طاقة دلالية قوية وقدرة على تجاوز زمنه الآني نحو أفق إنساني أوسع وأشمل.

نص الومضة

أنـا أتـألَّـم؟

إذنْ:

أنـا حـيٌّ أُرزق ..

*

مـسـاكـيـنُ الـمـوتـى

فـهـم لا يـتـألـمـون!

*

يموتُ العاشقُ والمعشوقُ

ويبقى العشق ..

تفسير الأبيات

1- أنا أتألّم؟ إذن: أنا حيٌّ أُرزق..

الألم هنا ليس مجرد تجربة جسدية، بل علامة على استمرار الحياة والقدرة على التفاعل. في البعد الوطني، يعني ذلك أن الإحساس بجراح الوطن دليل على الانتماء النابض، فالذي يتألم من أجل وطنه يثبت أنه ما زال حاضرًا في صفوف الأحياء الفاعلين.

2- مساكينُ الموتى فهم لا يتألمون!

تبدو كلمة مساكين للوهلة الأولى شفقة ظاهرية، لكنها تنطوي على مفارقة: الموتى حُرموا من الإحساس، وبالتالي من المشاركة في قضايا الوطن. ويمكن أن يُقصد بالموتى هنا من فقدوا الإحساس الوطني رغم بقائهم أحياء، أو الذين رحلوا بعد أن أدوا رسالتهم. في الحالتين، يتحوّل الألم إلى امتياز للأحياء، لأنه يثبت بقاء النبض والرسالة.

3- يموت العاشقُ والمعشوقُ ويبقى العشق

يصل النص إلى ذروته في تثبيت فكرة الخلود: العاشق (المناضل) قد يموت، والمعشوق (الوطن) قد يتعرض للتشويه أو الاحتلال، لكن العشق ذاته — أي الحب الوطني — يظل خالدًا، يتوارثه الناس جيلاً بعد جيل. هكذا يصبح العشق قيمة أبدية تتجاوز حدود الأجساد والزمن..

المقاربة الفلسفية بين الومضة وفلسفة سارتر

تلتقي ومضة يحيى السماوي مع الفلسفة الوجودية عند سارتر في عدد من المحاور الجوهرية، مع بقاء خصوصية الرؤية الشعرية واضحة:

1- الألم والحياة

- في النص كما في الفلسفة السارترية، يُعدّ الألم علامة على الوجود الواعي وقدرة الإنسان على التفاعل مع ذاته والعالم.

- الألم عند السماوي يتجاوز الإحساس الفردي ليصبح دليلاً على حياة الانتماء الوطني وفاعليته.

2- الموت وانقطاع المعنى

- كلاهما يرى أن الموت يمثل توقف الفاعلية الإنسانية وانطفاء القدرة على المشاركة في صياغة المعنى.

- في النص، يُطرح الموت كحالة فقدان الإحساس، سواء بيولوجيًا أو معنويًا (فقدان الحس الوطني).

3- الخلود والمعنى بعد الموت

- يمنح الشاعر للعشق الوطني بعدًا خالدًا، إذ يبقى الحب للوطن حيًا ما دام هناك أحياء يتألمون ويحملون الرسالة.

- عند سارتر، استمرار الإنسان بعد موته مشروط بالأثر والمشروع الذي يتركه في العالم أو في وعي الآخرين، من دون افتراض خلود مطلق.

الفرق الجوهري

- الخلود في النص قيمة وجدانية جمعية مرتبطة بالأحياء وبالهوية الوطنية.

- أما في فلسفة سارتر، فهو مفهوم فردي يرتبط بامتداد الأثر في الآخرين، وليس بخلود عاطفي أو قيمي خارج إطار الزمن.

الربط بين النص والمنهجية التكاملية

تكشف القراءة التحليلية أنّ النص الشعري لا يُقارب على مستوى واحد، بل تتداخل فيه الأبعاد البنيوية، السيميائية، والنفسية، والرمزية–الوطنية، مما يجعل المنهجية التكاملية الأداة الأكثر فاعلية لفهمه.

1- البنية التصاعدية للمعنى

- يبدأ من تثبيت قيمة الحياة عبر الألم.

- يمرّ بالمفارقة مع الموت.

- ينتهي إلى الخلود الرمزي للعشق.

تعزّز هذه البنية العلاقات البنيوية (السببية والاستنتاجية) والإيقاع الداخلي الموحّد.

2- التحليل السيميائي

- المؤشّرات: الألم/غياب الألم لتحديد موقع الذات من الوجود.

- الأيقونات: العاشق/المعشوق بتمثيل إنساني عام.

- الرموز: الألم، الموت، العشق كجسور نحو المعنى الفلسفي–الوطني.

3- المستوى النفسي

يتحوّل الألم إلى وعي وجودي، والموت إلى صورة للانقطاع، والعشق إلى طاقة وجدانية قادرة على تجاوز الفناء، مما يعكس دينامية بين الشعور الفردي والانتماء الجمعي.

4. البعد الرمزي–الوطني

يتحوّل العشق إلى حب الوطن الذي يستمر في الذاكرة الجمعية رغم رحيل الأفراد، فتظل الراية مرفوعة.

5. الخلاصة

تُبرز المنهجية التكاملية قدرتها على توحيد البنية الشكلية والدلالية الرمزية، والمعنى النفسي والبعد الفلسفي–الوطني، لتقدّم فهمًا أشمل وأعمق للنص.

الانزياحات الدلالية والاستعارات

يعتمد النص على انزياحات دلالية تُعيد تشكيل شبكة القيم، إذ يُستبدل المعنى الشائع للألم — بوصفه معاناة — بمعنى وجودي يؤكّد حيوية الذات. ويُعاد تعريف الموت، لا كفناء بيولوجي، بل كغياب للإحساس، فيما يغادر العشق دلالته الغزلية ليصبح قيمة رمزية ذات بعد وطني خالد. وتتكامل هذه الانزياحات مع استعارات بنيوية؛ فالعاشق والمعشوق يتحوّلان إلى أيقونات تمثّل كل مَن قدّم ذاته في سبيل قيمة كبرى، والعشق إلى استعارة كبرى للوطن في وعي جمعي يتجاوز الأفراد.

الخاتمة

بُنيت القراءة وفق المنهجية التكاملية على تحليل النص الشعري، موضوع الدراسة، بوصفه هيكلاً مركباً تتداخل فيه المستويات البنيوية، السيميائية، الدلالية، النفسية، والرمزية ذات الطابع الوطني. وقد أفضى هذا التداخل إلى إعادة صياغة التجربة الفردية للألم والعشق ضمن أفق فلسفي وإنساني شامل. تُظهر البنية النصية نظاماً منطقياً تصعيدياً يمزج بين تثبيت قيمة الحياة عبر الألم، ومقارنة جدلية مع الموت، وصولاً إلى تأطير العشق في سياق خلود قيمي.

كما أسفر التحليل السيميائي عن الكشف عن العلاقات المعقدة للعلامات التي تؤسس بنية المعنى في النص، فيما أوضح الانزياح الدلالي واستخدام الاستعارات آليات انتقال المفاهيم من مستوياتها التقليدية إلى أفق رمزي جديد يمنحها دلالات مستحدثة. على الصعيد النفسي، برز النص كوسيط لتحويل معاني الألم إلى رؤية وجودية تتسم بالتأمل، وتجلي الموت كانقطاع شعوري يحمل دلالات عميقة، بينما يتخذ العشق شكل طاقة وجدانية تتخطى حدود الذات الفردية لتشمل الجماعة ككل، مما يعزز البعد الوطني ويحجز له مكاناً ملموساً في المخيال الجمعي

***

سهيل الزهاوي

 

رواية الصائل للكاتب الأردني محمد سرسك صدرت العام 2024 عن دار الفينيق للنشر والتوزيع. يقدم لنا الكاتب من خلالها إطلالة على مرحلة تاريخية معينة بدءاً من أواخر القرن الثامن عشر(1880 تقريبًا) ولغاية العام 1921 بداية الانتداب –أو الإستعمار- البريطاني على فلسطين والذي شهد بدايات عمليات التغلغل الصهيوني اليهودي إليها.

بدهاء وحنكة يتغلغل اليهودي ابو اسحق متنكرا بهئية البائع المتجول إلى إحدى القرى الفلسطينية بعد أن استطاع إقناع أهلها بأن وجوده في خيمته لا ضرر منه، فأصبح اسمه مألوفًا في القرية، فالنّساء يجْذِبُهنَّ ما عنده من أقمشة وزينة وعطور، والرّجال وجدوا فيه مُتنَفسَّا لهم في المَساءاتِ القرويّة الطَّويلة خاصة بعد أن جذبتهم حكاياه التي كان يقصّها عليهم .لدرجة أصبح أهلُ القرية معتادينَ على وجوده في شوارعهم وبين بيوتهم.(10)

لاحقًـا تباينت أراء أهل القرية حول قدوم ابو إسحق إليها، وتوزعت وجهات نظرهم ما بين متوجس من قدومه ومطمئن له. هذا التوجس حمل رايته المدرس في القرية الأستاذ عماد الذي لمْ يكُنْ يروق له ما يسمعه حوْل أخبار أبي إسحاق أو حكاياته الكثيرة، ولمْ يكُنْ مرتاحًا لإقامته في الجِوار ولِسهْرات السَمَر التي يُقيمها.(15). وكيف استطاع أن يكسَب ثقة الرّجال دون تكبّدهم عَناء السُّؤال عنْه، مَن هو؟ وماذا يريد؟(17).

بالمقابل لم يكنْ المختارُ قلِقا، ولم تفلحْ تساؤلأت عماد في إثارة مخاوفه، فالمختار مقتنع تمامًا بأنّ الرجل لابدَّ أنّه راحل لكونه تاجر. فلا داعي للتفكيرِ كثيرًا في هذه الأمور، "نعم لقد طالت إقامتُه قليلاً، لكنْ سيأتي يومٌ ويكملُ طريقه، وترجِع الأمور إلى ما كانت عليه، فلا داعيَ للقلق".(18). وفي موضع آخر عندما حاول عطية تنبيه المختار إلى عمليات النقش والرسومات التي يقوم بها رجال ابو إسحق قلل المختار من هذه الهواجس وكانت ردة فعله "ما لنا وله، خلينا بحالنا أحسن".

تبين الرواية كيف أن اليهودي –الصهيوني ابو إسحق بعد ان كسب ثقة أهل القرية بدأ بتنفيذ مخططه وتدخله في شؤون القرية من نافذة الضيق الاقتصادي الذي بدأت علاماته تقض مضاجع المختار وأهل قريته، هذا التدخل ظاهره الإدعاء بمساعدة الفلاحين وتزويدهم بتراكتور زراعي أما باطنه فهو الإستيطان وامتلاك الاراضي بعد إغراق أصحابها بالديون وعجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم. نتيجة استدانتهم المال بفوائد مرتفعة فقد اضطر المختار لكي يسدد الضرائب للسلطنة العثمانية أن يلجأ لأبي إسحق ويستدين منه مبلغ مئتي ليرة عثمانية، لكن سند الدين كتب بثلاثمئة ليرة وبفترة سداد ثلاث سنوات(89).

كما تبرز الرواية السعيّ الدائم لليهود للتخلص من عقدتهم التاريخية وهي عدم وجود أرض لهم لذا نراهم لا يتورعون عن تزوير التاريخ لا بل محاولة خلق تاريخ وهمي لهم كما في محاولة أبا إسحق الإدعاء بأن الضريح الموجود في القرية قد يكون لأحد أنبيائهم منذ آلاف السنين، (95)، ويطلب أن يخصص له يومًا واحدًا فقط في السنة ليزور الضريح هو ورجاله وممارسة عبادتهم، كما تذكر الرواية كيف كان اليهود يستميتون في إختلاق أدلة وهمية تثبت أحقيتهم بهذه الأرض من خلال عمليات الحفر والتنقيب التي قاموا بها للعثور ولو على إشارة بسيطة تثبت دعواهم.ولم يتورع ابو إسحق عن الطلب من الأهالي: "أعطوني قطعة صغيرة من الأر ض، حتّى أقُيم لي بيتًا صغيرًا".

ايضا تشير الرواية إلى تصميم المستوطن الصهيوني على طمس كل ما يؤكد هوية هذه الأرض العربية واقتلاع كل الجذور التي تدل على عراقتها حتى لو اضطر إلى إقتلاع الشجرة المباركة في القرية، بطلبه من عطية ان يسكب محلول سام حول جذعها لإتلافها "سأعطيك سمادًا خاصا لها حتى تظل نضرة ويانعة لكن هذا السماد بالذات لا تستعمله إلا في الأيام الممطرة عندما تكون الأرض مبتلة" (149).

يبدو ان زرع العملاء والإستفادة من دناءتهم من دعائم السياسة الصهيونية وقد ظهرت في استمالة أبي إسحق للخادم عطيّة وهو مجهول النسب، وأوكل إليه مهمة التجسس واطلاعه على كل شاردة ووارد في القرية، وقد راق هذا الأمر لعطيّة الذي يقول: "لست صبيًّا عند المختار، لا أحد يمُنّ عليّ بعد اليوم، وسأجلس مع الرجال كواحد منهم وليس خادمًا لهم، وسأنفذ ما يطلبه مني ابو إسحق بسرية تامة وسأخبره بأسماء جميع عائلات القرية، وأفرادها ووجهائها، وأراضي كل عائلة فيها، ومواشيهم ومحاصيلهم، وكذلك مداخل القرية ومخارجها.

لأجل تنفيذ مخططاتهم تشير الرواية الى تلك المجامع اليهودية التي كان اليهود يعقدونها سواء في القدس الغربية او في المدن الأوروبية مثل فرنكفورت ولندن وغيرها، وتكشف عن بعض ما كان يدور في تلك المجالس التي كانت بإشراف

إثني عشر صهيونيا، "كانوا قد قدموا من مختلف أنحاء العالم.

وفي لمحة عن تلك المجالس والمواضيع التي تبحث أشارت الرواية إلى ذاك الإجتماع الذي عقد في القدس الغربية حيث اجتمع هناك اثنا عشر شخصًا: يهوذا، شمعون، روبين، لاوي، ساخر، زبولون، جوزيف، بنيامين (أبواسحق)، دان، نفتالي، كاذا، أشار.(47). وكان شعارهم التوراتي "(كل مكان تطؤه أخامص أرجلكم لكم أعطيته) هكذا قال الرب" (57). واللافت ان اليهود دائما ما يغلفون دعواهم بالرجوع للتوارة او التفاسير الدينية، وعن تعلقهم وتقديسهم للرقم 12 تورد الرواية بعض ما جاء من حوار بينهم:

لاوي: ها نحن اثنا عشر رجلاً.

نفتالي: أبراج السماء اثنا عشر برجًا، نحن أبناء السماء،

ساخر: عدد الشهور اثنا عشر شهرًا، نحن أسياد الزمن.

جوزيف: إنه رقمنا المقدس حتى البنك الفدرالي الأمريكي ولد باثني عشر فرعًا.(183). ليبدؤا بعدها باستعراض ما تم انجازه من إنشاء ما يقارب أربعين مستعمرة زراعية وسكنية في فلسطين حتى الآن، كان أولها (بتاح تكفا). أيضا برز لديهم الإصرار على جذب جميع اليهود وإغرائهم للقدوم سواء من المنطقة العربية أو اوروبا (61). بعد أن استعرض بنيامين (ابو إسحق) لخرائط المناطق المهجورة والأراضي البور والمناطق الساحلية والداخلية غير المشغولة. قائلاّ:"يجب شراء ما هو مملوك بقدر ما نستطيع، أما ما هو غير مملوك فسيكون لنا في نهاية المطاف".

لقد أبرزت الرواية كيف ان اليهود إستطاعوا التحكم بالحركة المالية والإقتصادية في اوروبا وغيرها من مدن العالم عن طريق ولوجهم عالم المال والصيرفة والبنوك والقروض والتمويل. لكون اوروبا كانت تحظر على اليهودي التملك فلجأ معظمهم إلى الوساطات المالية. وعن السيطرة المالية يقول يهوذا: نحن من يمسك المال دائمًا وهو ضروري في كل الأحوال في السلم والحرب، إنه عِجلنا الذهبي منذ الخروج وحتى الآن، ونحن ننتظر الحرب كي نعرف أين نطلقه.(67).كما تحدثت الرواية عن النظرة الأوروبية التي كانت سائدة تجاه اليهود فيصف اليهودي "دان" تلك النظرة بالقول: "لقد أطلقوا علينا الكثير من الصفات، مرة يهودي البورصة، ومرة هذه المدينة مليئة بالذباب واليهود، ويؤكد زميله يهوذا هذا بالقول: نعم بالنسبة إليهم نحن إما تجار أو مرابين".

لقد كشفت الرواية عن تقاطع مصالح ألأوروبيين واليهود وإن إختلفت اهدافهم بعد أن أصبح اليهود يشكلون عبئا على دول اوروبا وفي هذا يقول اليهودي ساخر: إ"نهم لا يريدون رؤيتنا بينهم، فلنرجع قليلاً بالتاريخ، كم مرة تم اتهامنا بالدم وتسميم الآبار، كم مرة سمعنا أن الخلاص هو تنصرنا، كم بلد فرض علينا الجيتوات".

هذه المصلحة الأوروبية والرغبة في التخلص من اليهود إلتقت مع رغبة اليهود أنفسهم للتخلص من عقدتهم التاريخية وهي البحث عن وطن قومي لهم، وفي هذا يقول يهوذا: سنطرق كل الأبواب، توجهنا أيضًا إلى روسيا القيصرية، وحصلنا عن طريق وزير داخليتها بأن تبذل جهودها ومساعيها لدى تركيا؛ لتسهيل دخول أبناء شعبنا إلى فلسطين وتوطينهم فيها. وفي هذا المجال تبرزالرواية محاولات اليهود ومكائدهم لإجبارالسلطنة العثمانية على منحهم التسهيلات اللازمة لدخول فلسطين :" «بناء على حديثي مع السلطان عبد الحميد، فإنه لا يمكن الإستفادة من تركيا إلا إذا تغيرت حالتها السياسية، أو عن طريق الزجّ بها في حروب تُهزم فيها أو مشكلات دولية أو بالطريقتين معًا وفي آن واحد.» هذا ما كتبه هرتزل بعد محاولاته مع الدولة العثمانية من أجل السماح لليهود بالقدوم إلى فلسطين أو منحهم أية صفة على أرضها.(62).

في محور من محاور الرواية فقد تطرقت إلى الأوضاع المتردية التي بدأت تعصف بالسلطنة العثمانية وبداية الصراعات الداخلية فيها حيث لم يعد السلطان هو السلطة الوحيدة، وبروز قوى داخلية أخرى، مثل حزب الاتحاد والترقي وانضمام عددًا لا بأس به من الجيش إلى هذا الحزب بشكل سرّي، واستطاع الوصول لسدة الحكم والتي كانت من أولى سياسته ان عمد إلى فرض اللغة التركية كلغة رسمية، في محاولة منه لتتريك البلاد العربية، وكردة فعل على تلك المحاولة بدأت تتشكل جماعات وأحزاب فظهرت كل من جمعية الإخاء العربي، والمنتدى العربي، والعربية الفتاة، وجمعية بيروت الإصلاحية وجمعية الجامعة العربية في القاهرة والجمعية القحطانية وارتفعت الأصوات التي تنادي بالمساواة بين القوميات.

انطلاقا من الوضع المتأرجح للسلطنة العثمانية أصبح الأوروبيون يسيطرون على التجارة الخارجية فيها، ويحظرونها على أبناء الدولة، بحجة سداد الديون، بعد أن فرضت الدولة الدائنة وجود بعثة مالية دائمة للإشراف على الأوضاع الاقتصادية وذلك ضمانًا لديونها، وحرمان التجار من القيام بالتجارة الخارجية.

وتُذكر الرواية بالممارسات القمعية والعنصرية التي مارسها الأتراك خاصة ما اعتمده جمال باشا من سياسة معادية للعرب، واعتقاله للكثير من دعاة اللامركزية والقومية العربية، واستحداث مجلس عسكري في مدينة عالية اللبنانية لتعذيب المنتمين للجمعيات العربية وقمعه للصحافة والصحفيين في حين سمح بإصدار صحيفة «صوت العثمانية» في فلسطين التي كانت تعبر عن لسان حال اليهود باللغة العربية .ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح الجنود يبطشون بالناس وينكلون بهم، ويصادرون المحاصيل، مما أدى إلى انتشار الجوع والفقر والذي كانت ذروته المجاعة التي حصلت في لبنان، وبشكل أقل عانى منها أهل فلسطين وسوريا والأردن.

على المقلب الفلسطيني تبرز الرواية تعلق الفلسطيني بأرضه وعدم التفريط بها أو التنازل عنها للغريب في إشارة شيخ القرية الذي قال : إن الأرض لا تذهب إلاّ لمن يرِث، ونحن نتوارثها من مئات السنين وكلنا يعرف الآخر، لم نسمح طيلة حياتنا بأن يدخل بيننا دخيل ويستملك أرضا من أراضينا، لو فتحنا هذا الباب يومًا فقد نصبح غرباء في قريتنا يومًا ما.(31). وبهدف الإستقصاء عن نوايا اليهود المبيتة كانت جولة عماد مع صديقه (حسن) في كل أنحاء فلسطين للتحري عن الهجرة اليهودية ووجدا أنّ اليهود ينتشرون في أنحاء فلسطين المختلفة، بل ويقيمون مستعمرات زراعية أو مستوطنات وكل واحدة منها كان فيها كنيس ومدرسة دينية، وإدارة مشتركة ونظام حراسة جماعي. . كانت كثيرة مثل ميكيفا إسرائيل، بتاح تيكفا، ريسون ليتسيون، زخرون يعقوب، روض يبنا.

وتختتم الرواية بالإشارة إلى وعد بلفور وتداعياته فقد استقبله اليهود في كل الأنحاء بالفرح والإحتفال، وأطلقوا عليه اسم الميثاق أو البراءة. وبدأت بذرة المقاومة والمواجهات تظهران للعلن بين العرب واليهود - والإنكليز من خلفهم- كما حصل عند اجتماع المحتفلين اليهود عند باب الخليل وقيام العديد من وجهاء المدينة العربية بإلقاء الخطب الحماسية المندّدة بالإحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني والانتداب، ومن ضمن المتحدثين كان أمين الحسيني وعارف العارف وآخرون، وأثناء ذلك قام مجموعة من الشباب اليهود بالتهجم على بعض الحاضرين، فردّ عليهم الفلسطينيون بقوة، وهاجموهم فأطلقت القوات البريطانية النار لحماية اليهود، وسدّت باب الخليل، وأنذرت الفلسطينيين لمغادرة المكان وإلا سوف يتعرضون لإطلاق النار. ومنذ ذلك الوقت والفلسطيني يحمل صليبه ويسير على درب الجلجلة.

ختامًا رواية الصائل تكمن أهميتها في كونها تؤرخ لفترة زمنية تكاد تكون مهملة لدى الكثير من الكُتاب ومنسيّة أيضا لدى العديد من القراء. لقد اعادتنا هذه الرواية الى بداية البدايات حيث التقت مصالح المستعمر مع أطماع المُحتّل وكانت الضحيّة ولا تزال فلسطين.

***

عفيف قاووق – لبنان

للشاعر منصور الفلاحي

تمهيد: السؤال المركزي الذي ينبغي أن نطرحه في كل مقاربة نقدية لعمل أدبي سواء أكان شعراً أم نثرا، وفي أيّ جنس أدبي إبداعي هو: هل قدّم هذا العمل الفني قيمة مضافة للساحة الثقافية المحلية والإقليمية والكونية أيضا؟

و في سياق هذا المبحث الخاص بديوان (ترانيم الصدى) نطرح السؤال نفسه في خصوصية نوعيّة ونقول: هل أضاف الشاعر في ديوانه جديداً للحساسية الشعرية المغربية المعاصرة؟ وهل أضاء بعض متاهاتها في أزمنة الحداثة الشعرية؟ وهل ساهم في الذائقة الفنية المرتبطة بالشعر عامة، وبقصيدة النثر خاصة؟

و الإجابة عن مثل هذه الأسئلة لا ينبغي أن نحشرها في دوائر المستحيل، أو في خانات اللاممكن، أو في سديم الطوباوات الحالمة بقدر ما هي أسئلة مشروعة تتمتع بكامل المصداقية المتأتية من الصدق الفني الذي أسس لمثل هذه الأعمال الإبداعية.

وخير الجواب أن نقول إن أثر أيّ ديوان، أو أي رواية، أو أي عمل فني مغموس في مداد الجودة والفرادة، هو شبيهٌ بأثر الفراشة الذي تُحْدِثه في محيطها الأكبر والّذي لا يدعو إلى الالتفات اعتباراً لحجمها المتقزم أمام جبروت هذا المحيط. والأمر مجرد استعارة لجسد الفراشة للتعبير عن التأثير المتأتي من أصغر وَحَدَةٍ متناهيةٍ في الصغر، تمارسه على وحدَة أخرى متناهية في الكبر.

و مثال ذلك قطعة الدومينو الأولى التي بسقوطها تتسبب في سقوط منظومة الدومينوهات الأخرى ولو كانت تشكل بناءً كليًّا ينهار بفعل حركةٍ بسيطة جدا وفي غاية البساطة.

و مثله مقتل ولي عهد النمسا الّذي أدى إلى اشتعال الحرب العالمية الأولى. والأمثلة لا حصر لها في هذا المساق. يكفينا أن نقول من خلاله أن ديوان (ترانيم الصدى) فراشة. أوهو حجرٌ صغير، نرمي به على صفحة النهر الراكد، فيتغير وجه النهر. والساحة الثقافية الفنية المغربية هي ذلكم النهر.

أولاً: مدخل منهجي

قرأت ديوان (ترانيم الصدى) فأسعفني بالمنهج، على اعتبار أن النص أحيانا كثيرة يفرض خطة تناوله وتداوله وطريقة السبر لأغواره. وهي خطة بسيطة تقوم على ثلاثية التفكيك للعلامة، وقراءة العلامة ثم تأويل العلامة. وحرصنا أن تدخل هذه الثلاثية ضمن مدخليْن:

- مدخل يدرس العلامة في بنائها المزدوج، ونقصد بذلك بناء المفردة المعجمية في ذاتِها، ثم بناء المفردة التناسلية التوالدية في تداعياتِها. مثال ذلك: مفردة البحر في الديوان هي علامة معجمية، تحيل على ذاتها كفضاء مائي وواسع ومالح و... وتحيل على تداعياتها مثل مفردات الموج، الشطآن، الزبد، الغوص ... وهكذا. إن التعامل المنهجي مع هذين البناءيْن يُثرِي القراءة والتأويل.

- مدخل اعتبار النسق المعرفي المشترك بين المبدع والناقد والمتلقي، في دائرة كبرى هي تقاطع المعارف الثلاثة. وهذا شقٌّ منهجي يتعامل مع النص لا في ثباته السكوني المغلق على ثقافة المبدع وحدها بقدر ما ينفتح على هيرمينوطيقا تأويلية لمعارف الشاعر داخل دائرة التراث الإنساني العام، والذي يحضر في المتون الشعرية شئنا أم أبينا.

نستفيد من هذا أن التداعيات المرتبطة بالعلامة خارج ماهيتها الذاتية هي في عمق التحليل تأسيسٌ لموجوداتٍ مجازيةٍ ممكنة تصنعها الذات المتكلمة وتؤوّلها الذات القارئة وتقدّمها في صيغة دلالة.

فإذا وضع الشاعر منصور مفردة البحر كعلامة ذاتية تدل على وجودها المعجمي، فإنه في توجّهٍ دلاليٍّ يلقي بظلال تداعياتها أيضاً. فالبحر في سياق معيّن هو معادل موضوعي للذات المترنّحة بين مدّ الأمل وجزر الألم. وهكذا، فهذا التخريج تأويلٌ يفضي إلى بناء دلالة معينة نؤطّرها في المعادل الموضوعي الذي يمكننا من قراءة العلاقة بين البحر والذات الشاعرة، في اجتهاد لا يدّعي امتلاكا لحقيقة البحر أو لحقيقة الذات المتكلمة.

ثانياً: قراءة في الديوان

(ترانيم الصدى)1، ديوان شعري يتألف من أربع وأربعين قصيدة. هي في الأصل أربع وأربعون ترنيمة. تحاور الصدى في أكثر من منبر.

منبر الغياب – منبر الرثاء – منبر الفضيلة – منبر الحرب والكرامة – منبر الغيث – منبر العشق – منبر الموعظة والاعتبار – منبر الطبيعة ومنابر أخى لا يستقيم المقام لعدّها وإحصائها احتراما لأفق القارئ في اجتناء ما تبقى من منابر من خلال اجتهاده الخاص.

و نقول هنا، إن الشاعر منصور لم يفلت في منابره الناقدة صغيرا ولا كبيرا، حتى منبر الطرافة الهادفة والنكتة الواخزة. في مثل قصيدته الموسومة بـ (هل أتاك حديث الشمقمق؟). ص 90

أطّر الشاعر هذا الزخم في خيط فني ناظم هو خيط عشق الجمال في فيزيائه وفي روحانيته. في معناه وفي فائض معناه. في أبعاده الواقعية وفي أبعاده الدلالية الرامية إلى فعل الترميز البنّاء...

1 – قراءة في الإيقاع

الإيقاع في منظور الشاعر منصور الفلاحي اجتهاد موسيقي لا يمتح مصداقيته من مرجعية خليلية ماضوية. فهو لا ينتج نصًّا شعريا موزونا ينتمي إلى التقليد الإيقاعي القديم. وإنما يبدع قصيدة في مجال إيقاعي حداثي يصنع لذاته قوالبه الموسيقية الخاصة والمعتمدة بالدرجة الأولى على:

* وحدة الروي والقافية: يمارس الشاعر منصور هذه الوحدة الايقاعية داخل اختيارين. الأول يتعلق بوحدة الروي في المقطع ( وقد حضر في 34 قصيدة). وهو السائد. والثاني يرتبط بوحدة روي القصيدة، وهو النادر (10 قصائد). ومثاله القصيدة رقم 1، (أأصبحنا ظلال أحلامهم؟)

و في التوظيفيْنِ معاً يتجلى اجتهاد الشاعر منصور في إخراج الشعر من مرتبة الخطاب اليومي إلى مراتب شعرية الخطاب عبر مجموعة من الآليات وأولها آلية الإيقاع.

ولم يعتمد في هذه المهمة الفنية على المرجعية الخليلية لا تنقيصا أو تبخيسا، وإنما اختياراً لمرجعية ذاتية تمتح مادّتها المعرفية من أذن الشاعر ومن تمثلاته الخاصة لفن الإيقاع. وكأنه في كل (الترانيم) يسعى إلى بناء القصيدة المموسقة والمشروطة بفعل الغناء والشدو.

* إيقاع التناغم الدلالي

ليس من الضرورة أن تكون حركة النص أو الديوان جارية على وتيرة واحدة. وإنما الجميل في هذه الترانيم أن الشاعر منصور عرض نصوصه الشعرية داخل منعطفات دلالية متنوعة. هي في عمق التأويل اهتزازات تنشأ عن خصوصيات مقطعية تدل على أن الشاعر اشتغل في تدبيج ترانيمه في أزمنة مختلفة وأمكنة متعددة.

زمن التأليف عدد القصائد

2015 2

2016 4

2017 5

2018 3

2019 2

2020 7

2021 7

2022 6

2023 8

مكان التأليف عدد القصائد

سوق الاربعاء 2

أكادير 31

مراكش 2

مولاي بوسلهام 2

الرباط 1

قصيدتان بدون تحديد زمن التأليف

و ست قصائد بدون تحديد للمكان

هذا الانتقال في زمن التأليف وأمكنته يسهم في تغيير حركية الديوان وينوّع في طبيعة الأثر في المتلقي. ويسلط بعض الضوء على طبيعة الاعتمال وظروفه وشروط إنتاج القصيدة فيه.

و بخصوص مفهوم التناغم الدلالي فقد عبرت عنه الناقدة (خالدة سعيد) بقولها: " هو جزء من الإيقاع. وهو عنصر يتعلق بتوالي الموضوعات على نسق معيّن بموجب حركة نفسية معينة" 2

نأخذ على سبيل المثال موضوعة الأهل والأسرة والموت والفراق في الديوان.

- القصيدة 2 --- بعضٌ منّي --- ص 16

- القصيدة 31 --- سلام عليكم --- ص 76

- القصيدة 32 --- أيّ طعم للعيد --- ص 77

و هي قصائد مشبعة بتقنية التناغم الدلالي، وإطلالة خفيفة على متونها تشرح المفهوم وتقرّبه دون عناء.

إن إدراك هذا الايقاع يكون في معظم الحالات فرديا لا جماعيا، ويكون خاضعا في معظم الحالات لشرط التأويل الأول الذي قلنا فيه بوجود الدلالة في وضعٍ تأجيليٍّ لا يدّعي الإطلاق والقطعية والتعميم. ذلك أن الأخيلة تختلف وهي دائما منفتحة على أكثر من تصوّر وأكثر من تمثّل ...

* إيقاع التقابل

تُعدّ التقابلات من عُرى المعنى وأواصره. لها أثرها ووقعها في النفس نظرا لما فيها من توازٍ تُنتجه المجاورة على نحو من التقابل بين مفهوم وآخر، بين حالة وضدّها. في إطار تباينٍ شعريٍّ يُغني إمكانيات الشاعر الإبداعية ويفتحها على مزيدٍ من البناء والخلق الشعري.

و في هذا المنحى ركز الشاعر منصور على العناصر الشعورية والنفسية ليعبر عن الصراع والاضطراب الذي يغزو المجتمع المعاصر، مستغلا بذلك مظاهر التناقض في الحياة والوجود والكون.

من هنا خصوصية الأداء الشعري المنصوري الخارج من ربقة التضاد اللغوي الجاهز قاموسيًا إلى أفق التحليق بالتضاد والتقابل في سديم الإبداع لاجتناء أكثر من دلالة تشرَح وتُشرّح المعنى وفائضه.

و الأمثلة هنا غزيرة، نذكر منها:

ص 15 – (غادروا – عادوا )

(قولوا لهم صبحاً كنّا فأمسيْنا)

ص 21 – (قد يأتي الذي انتظرناه

أو قد لا يأتي وكالعادة)

ص 24 – وهبتك الجسد والروح

و أفضت بالسر والبوح)

ص 25 – (أنا الظاهر المستتر بلا صوت)

ص 31 – ها هنا ظلم

و صفح ولوم)

ص 33 – (حمم وبركان

بردا وسلاما)

...

و يكاد الديوان في كله وجله ينطق بهذا الإيقاع التقابلي الذي لا نستطيع محاصرته إحصاءًا وإجمالا. وتفيدنا هذه التقابلات أمريْن:

هي تؤطر سمعنا داخل صيرورة موسيقية تقابلية لا تهتم بالبذخ السمعي المؤثّث للأذن العربية الملتقطة لعناصر الجمال بقدر ما تذهب بها مذاهب التغيير في الحساسية الموسيقية المغموسة في عمق الدلالات والأبعاد؟

هي تؤطر نفسياتنا في استقبال تناقضات الوجود والماحول والحياة، وتدفعنا بملمسٍ حريريٍّ إلى تبنّي موقف معيّن لا نحدّده ولكن نقدر على تصنيفه داخل إطار عشق الجمال.

هي تؤطر الدلالات البعيدة لرؤيا الشاعر ولرؤانا في توجّهٍ لا يستهلك بل يعيد إنتاج التقابلات داخل بحر التأويل الممكن.

* إيقاع التوازي

التوازي هو التشابه القائم على تماثل بنيوي في بيت شعري أو في مجموعة أبيات شعرية. وعادة ما يكون التشابه بين المتوازيينِ باعتبارهما طرفين متعادلين في الأهمية من حيث المضمون والدلالة، ومتماثلين من حيث الشكل في التسلسل والترتيب.

و منه:

أ – التوازي الصوتي: مثل ما جاء في الديوان (مفاخ، مباخر) – (قؤول، صؤول) ...

ب – التوازي التركيبي: وبتعلق بالتوازي بين وحدتين دلاليتين، ومثله في الديوان: (أنا المهاجرالسابح في الوقت – أنا المنتظر بين طوابير الموت)...

د – التوازي الدلالي: وهو التماثل بين وحدتين دلاليتين في محور واحد. ومثله في الديوان ( يا ريح أي زئير- يا ريح أي أنين)...

إن فعالية الإيقاع في ترانيم الصدى لا تقف عند حدود النص في تشكله وانسجامه الصوري. وإنما تتعداه إلى الإحالة على دلالات البنية الشعرية سواء تعلقت بتوصيف الواقع في تناقضاته أو تعلقت بالسباحة في المخيال الشعري بديلا عن تعفّنات هذا الواقع.

الإيقاع هنا ليس حليةً تلبسها الترانيم

الإيقاع هنا حتمية صوتية شعرية وجودية.

* تداعيات العتبة

و قد أحسن الشاعر منصور وهو يدمج هذا التراكم في عنوان جامع مانع ومعبر ومحاصر لأقانيم البوح حصارا حريريا ناعما وواخزا في نفس الآن.

و هو عنوان موسوم في وعي الشاعر بعبارة غير بريئة. ونقول ذلك لأن الشاعر هنا لا يتحدث من مساحة الإمتاع والمؤانسة الشعرية المدغدغة لعواطف المتلقي. إنه كائن ورّط ذاته في مفهوم الجمال السائل والمتسائل والواضع لكثيرٍ من البداهات موضع السؤال. من هنا نقول بلا براءة صوغ العنوان. لأن المسألة لا تتعلق بعرض الترانيم للاستمتاع وإنما بوضعها رهن إشارة المتلقي لمساءلتها في توجهاتها الكاشفة عن أسرار هذا الصدى الذي أُسندت إليه الترانيم. فكيف نستوعب الصدى وهو مجرد رجعٍ للصوت؟ وكيف يتحول الصدى من حالة فيزيائية إلى حالة كاشفة في عمق الدلالة الوجودية عن تجليات هذه الذات المتكلمة والمخاطَبة في نفس الآن؟

و الترانيم جمع ترنيمة، وترنم المغني يعني رجّع الصوت وتغنّى به في تطريب وتحنان. وأما الصدى فله معنيان الأول يرتبط بالعطش الشديد، والثاني وهو ما يرومه الشاعر ويتعلق برجع الصوت يرده جسمٌ عاكس كالجبل أو المغارة أو الفضاء الواسع. وحتى الصدى بمفهوم العطش قد يجد مصداقيته الدلالية في الديوان بحكم عطش الشاعر وقصائده وترانيمه لقيم الجمال والحق والخير في محيط تنكر لهذه القيم.

و هي القيم التي باتت منعدمة أو تكاد في سياق وجودٍ عار من القيم.

و أما الصدى بمفهوم رجع الصوت فأولى وأجدر، بحكم ارتباطه في التركيب بالترنيمة. ويكون التجانس التركيبي والدلالي في العتبة أجدر وأولى بالتبنّي من أي تخريج آخر. فكلاهما خارج من حقل الصوت.

فلمَ أسند الشاعر الترانيم إلأى الصدى ولم يسندها للواقع؟ لأن مساق طرح السؤال هو حقنا في الاستفهام كقراء نحمل همّ التأويل. والجواب (في نسبيته – أن الصدى ليس حقيقة بقدر ما هو وهم حقيقة، والدليل تبخّر الصوت في الفضاء. وهو تبخّرٌ لا يترك لنا إلا فسحة قصيرة من الاستمتاع برجعه وهو يسير في اتجاه قدر التلاشي، فنكون في وضع المستمتع بوهم الصوت لا بالصوت ذاته في وجوده الفيزيائي والحقيقي. ولا يكون الأمر حينها إلا لعبا يفسح أمامنا مزيدا من الرغبة في تركيم حالات الصراخ برجعه الجميل وهو يدغدغ فينا أسماعنا وبعض دواخلنا.

من هنا مكر الشاعر منصور على اعتبار أن عنوانه (ترانيم الصدى) ليس بريئا كما أسلفنا. إنه يدين الترانيم كما يشجب الأغنيات والقصائد التي لا يتجاوز أثرها حدود الرجع والترديد الجميل الحامل لدلالة الترف والترفيه والإمتاع فقط. وكأن الشاعر يدعونا إلى تجاوز القصائد التي تقف عند حدود الجمال القشوري إلى معانقة القصائد التي لا تتبخر في السديم الواهم بقدر ما تكون نداءاتٍ متجذرة في الواقع وملتصقة به والعاملة في دأَبٍ مستمر على تغييره أو التحسيس بضرورة تغييره في أضعف الإيمان.

هكذا فالعنوان فاضح في أول التجلي لغائية الديوان، ولرسالة الديوان، ولهدفيته البعيدة والمتجاوزة لفعل الشبه والتكرار في ساحات الإبداع.

من هنا يحق لنا طرح السؤال التالي:

لِمَ قال الشاعر (ترانيم الصدى) ولم يقل (صدى الترانيم)؟ قد يبدو الأمر جانبيا وهامشيا بغير قيمة مضافة، أو قد يبدو متشابها ولا حاجة لطرحه... إن جمالية العبارة في ترانيم الصدى هي أشد وقعا بلاغيا على المتلقي من تقديم ملفوظة (الصدى) في التعبير. لأن الإدانة في العبارة الثانية تكون كالتالي:

الإدانة --- الترانيم --- الإنسان

الإدانة --- الصدى --- الطبيعة

والطبيعة بريئة، وأما العامل الموضوع في قفص الاتهام فهو الإنسان الذي صنع الترانيم خارج الواقع. ولم يضعها في الموعد الثقافي كي تمارس أدوارها في عمليات التغيير. من هنا أثر الفراشة في الترانيم السابقة للصدى في التركيب.

* في اجتراح الدلالة

وهذا باب إذا فتحناه فلا مكنة لنا بإغلاقه أو إيصاده نظر لزخم الدسم الفني فيه. وسنختار منه ما يلي إيثارا للاختزال والإيجاز.

أ – دلالة تكسير التوقع: أو أفق انتظارات المتلقي. فمن الشعراء من تقرؤه من عنوان ديوانه، ومنهم من لا يسلمك مقاليد دلالاته إلا بعد لأيٍ وتقصٍّ وبحثٍ وتنقيب. والأجدر فيهم من يعطيك انطباعا بالسهل الشعري فإذا هو متمنّع وممتنع حتى يشحذ القارئ مباضعه لممارسة عمليات التشريح للخطاب الشعري في متونه.

قال الشاعر منصور في كثير مما قال:

مات بعض من بعضي

و بعضٌ من بعضِ بعضي ص 18

و فيه فائدتان: واحدة دلالية تنوع في الخطاب وتحترم المتلقي الذكي وتحشره في عمليات إنتاج المعنى... والثانية صوتية تلعب لعبة التكرار في فونيمات الضاد والعين والباء... وفي كلا الحالتين يكسر الشاعر أفق انتظار المتلقي ويحوّل مجرى التفاعل فيه إلى مجارٍ أجرى من مجريات نهر القول.

ب – مقولة التوتّر: بوعيٍ فني من الشاعر يصنع مسافة توتر على حد تعبير الناقد (كمال أبوديب) بين مقولة الأحلام وبين مقولة الطي.

قال الشاعر:

و تلك الأحلام طواها الزمن

مجهضة بلا سترٍ بلا كفن ... ص 25

فهذه الأخيرة تستدعي مفعولا متشيئاً قابلا لفعل الطي، فكيف تُطوى الأحلام؟ بل كيف يمارس الزمن هذا الفعل المادي والحسي على غير ممكن يتسم بالتجريد والزئبقية؟

فالأحلام مصنوعة من مادة التخيل، والطي فعل حسي، فكيف يلتقيان؟

من هنا عبقرية الشاعر وهو يفتح المجال أمام اللاممكنات لتتحول إلى ممكنات، في رحم الإبداع الشعري القائم على فعل التخييل المجنّح. ذاك أن سياق الورود والتداول يتغير. فقولنا بالطي الواقع على الأحلام مستحيل في سياق الحقيقة، ولكنه ممكن جدا في سياق الخيال. والشعر هو الباب الواسع لاستقبال العبارة في جنوحها المحلق كيفما كان تحليقها ومهما شطّت في هذا التحليق الهيولى.

* خاتمة:

الديوان كتلة من الهمس في أذن الوعي الذاتي والإنساني. خطاب جمالي لمعانقة فن القيمة قبل اندحارها وهزيمتها في مجال الإبداع، وقبل انسحاقها وتلاشيها في مجال الوجود.

و الشاعر منصور الفلاحي يتغيّى في هذا الديوان إدانةَ الآخر في تخليه عن عشق الجمال عبر تخليه عن القضايا الحاسمة في وجوده.

فهو لا يقدم لنا ديوانا مكتظا بالكلمات والمفردات المعزولة والمغرّبة بقدر ما يقم لنا صرخة حريرية تدعو إلى اعتناق مذهب التفاؤل بالآخر والإيمان به في عشق القيم.

و الشاعر يمارس العتاب واللوم في غير تجريح، وينتقد الماحول في تشريح راقٍ وواعٍ بحجم الخسارة والهزيمة الذاتية والغيرية، داخل رؤيا فنية ووجودية تقيم عالما جديدا على أنقاض واقع مرفوض.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

..................

إحالات:

1 – منصور الفلاحي، ترانيم الصدى، ديوان شعر، مطبعة وراقة بلال، فاس، المغرب، الطبعة الأولى 2024

2 – خالدة سعيد، حركية الإبداع، دار الفكر للطباعة والتوزيع، بيروت، 1986، ص 108

للشاعر الفراتي "علي عبد الجاسم"

الشاعر- علي عبد الجاسم – شاعر من سوريا - مواليد محافظة ديرالزور 1965- يحمل أهلية تعليم – مارس مهنة التعليم – كتب الشعر منذ 2001- وأول مجموعة شعرية صدرت له عام – 2007.شارك في العديد من المهرجانات الأدبيّة في سوريا – منها مهرجان نبض الفرات ومهرجان صمود الفرات. فاز في المركز الثالث في مسابقة الشاعر الفراتي – عام – 2010.

صدر للشاعر:

1- ديوان شعر: ألق العيون.

2- ديوان شعر – بين ظلال الحروف.

3- ديوان شعر – الآن يا بردى.

4- ديوان شعر – النداء الأخير.

5- ديوان شعر – ندى الحروف. صدر 2024. عن دار بعل – سورية. وقد اخترنا منه قصيدة (يا زمناً أعيانا)، وهي موضوع دراستنا النقديّة.

العتبة السيمائيّة لعنوان القصيدة (يا زمناً أعيانا):

يشير عنوان القصيدة إلى نداء يتضمن دلالات العتاب، يخاطب به الشاعر الزمن، وهو هنا زمن القهر والعذاب والجوع والاستلاب والتشيىء والغربة والظلم، الذي مر به الشاعر بشكل خاص، والكثير من الشعب السوري بشكل عام. حيث فاقمت الأزمة السورية معاناة الناس فالخوف والدم والدمار والتشرد والضياع، أصبحت مفردات الحياة في سورية منذ 2011.

البنية السرديّة أو الحكائيّة للقصيدة:

يقول الشاعر مخاطباً مأساته، قائلاً: إن قلبي أصبح مأسوراً للخوف، وهذا ما جعل خفقانه ودقاته المتسارعة تعيش حالة اللوعة والتساؤل المرير، ترى كيف سنخرج من هذا الألم الذي خيم في داخل كل منا، هذا الألم الذي بدأنا نشعر بطول مدته وقسوته، وكأنه امتداد لقهرنا التاريخي المشبع بالأحزان الذي عرفناه منذ آلاف السنين... لقد أصبحنا نحلم أن نتجاوز ذاك القهر والعذاب والحزن، لعلنا نصل أخيراً إلى مساحات من الفرح نشتاق لرونقها ونتلهف لعيشها.

موعودٌ قلبي بالخَفًقانِ

إلى حدِّ اللّوعةِ،

كيف سنخرجُ من ألمٍ عرشَ فينا؟

يمتدُ إلى ألفينِ من الأحزانْ...

سَفَراً نحو مساحاتٍ

نشتاقُ لرونقها،

يعود الشاعر "علي الجاسم" يتساءل عن عمق المأساة وبركانها الذي لم يخمد بعد من ثورته. ترى كيف سنهرب من عمق سجن أوهامنا؟، كيف نعرف معنى الفرح والسعادة والاستقرار؟، ونعرف سر تلك المعاناة التي دخلنا عالمها المظلم، وتسربت في نسيج أرواحنا المتعبة؟... ثم يعود ليتساءل وهاجس أمل الخلاص يدور في فلك مخيلته، ترى هل تمر بنا أمطار الفرح كي تغسل كل ما علق في قلوبنا من معاناة؟.

كيف سنهربُ من عمقِ الأوهامِ

لنعلمَ أسرارَ الفرحِ؟.

وتلك الألوانُ القاتمةُ

انسربت في أوتار الروح المتعبةِ

أتمطُرنا أنغامُ الألقِ

بأوجِ عروجِ القلبِ؟

إلا أن الشاعر المكلوم في قلبه وأحاسيسه، يعرف بأن ما يحلم به هي أحلام يقظة مشبعة بالأمنيات...هي عنده ليست أكثر من أمنيات تداعب مخيلته بما تحمل من رغبات الخلاص. حيث يقول:

خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا

في وقتٍ نظريَّ

لا ينفكُ يدغدغُ أوقاتَ الروعةِ،

يتفجرُ حساً في أسرارِ ليالينا،

ولكن أحلام اليقظة عند الشاعر، مشبعة بالأمل وكأنه يراها أمامه الآن، فيناجي روحه المتعبة: لقد حان (الآن) شروق الافصاح.. وها نحن ننتظر الفرح القادم لا محال، ننتظر الفرح الذي سيلهمنا معنى المحبة والألفة، بعد أن مزقتنا صراعاتنا بكل مرجعياتها التقليديّة.. لقد آن الأوان أن تزهر أرواحنا التي يبس الشوق فيها فتوقفت نبضاتها.. ها هي ساعة الخلاص من المأساة قد اقتربت، فتعالوا كي نرفد كلنا نهر أحلام مستقبلنا ومستقبل أولادنا والأجيال القادمة بمحبتنا لبعضنا، لعلنا نَخْلَصُ من خيباتنا وما حملته لنا من عذابات تلك السنين الطويلة .

حانَ الآن شروقُ الإفصاحِ،

وننتظرُ الفرحَ القادمِ

يلهمنا خيطَ تآلُفنا،

فيدورُ الماءُ في الأرواحِ

يبسَ الشوقُ بخافقها،

يا أملاً يقتربُ الآن،

تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،

فتنأى أفكارُ الخيبةْ.

البنية الفكريّة للقصيدة:

إن القصيدة تحمل هم شاعر تعرض وطنة لمأساة سياسيّة، فجرها نظام شمولي استبدادي، حارب شعبه وحال بينهم وبين حريتهم في مشاركتهم بأمور دنياهم، فكانت ردود الأفعال ضد هذا النظام قاسية، ولدت الكثير من المعاناة لأبناء الشعب على كافة المستويات، وخاصة تفجير المرجعيات التقليديّة وتعميم الفقر والجوع والظلم والتشرد، وتركت الشعب فريسة لسفلة المجتمع الذين أصبحوا سادة القوم وأصحاب القرار فيه.

البنية الفنيّة والجماليّة للقصيدة:

الصورة في القصيدة:

لقد شكلت الصورة عنصرًا بارزًا ومهمًّا في هذا النص الشعري، إذ لجأ الأديب إلى تغليف أفكار النص وتثبيتها في نفس وذهنيّة المتلقي بالصور إلى جانب المعنى، وهذا ما أيقظ العواطف، في لغتها التصويريّة. لقد كان الشاعر أكثر قدرة على التعبير في بوحه من التقرير. وبالتالي كلما كان الأدب تعبيريًّا كانت الصور هي التي تتشكل في ذهن القارئ. أما حين يكون الأدب تقريريًّا، فإن الأفكار والرؤى أو المواقف الذهنية تطغى على الصور.

لقد جاءت الصورة عند الشاعر "علي عبد الجاسم" جزئيّة ومباشرة ومشبعة بمفردات البلاغة من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز منها: (وتلك الألوانُ القاتمةُ انسربت في أوتار الروح المتعبةِ)...( أتمطُرنا أنغامُ الألقِ بأوجِ عروجِ القلبِ؟.).. (خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا.)..(وننتظرُ الفرحَ القادمِ يلهمنا خيطَ تآلُفنا، فيدورُ الماءُ في الأرواحِ.)......

إن الشاعر استطاع أن يجعل من تراسل صور قصيدته حكاية أو اقصوصة حزن وألم وترجي وأمل في الخلاص من معاناة لم يعد يعرف نهايتها.. لقد أَلَفَتْ هذه الصور الجزئيّة مع بعضها نسيجاً حيّاً من الدلالات المتكاملة والمترابطة ليس مع بعضها فحسب، بل ومع مكونات وخلجات الشاعر النفسيّة والحسيّة والفكريّة أيضاً لتصبح في الغالب صوراً جديدةً من نسج جديد، يتراءى فيها عالم الشاعر الداخلي وارتباطه بعالمه الخارجي الذي تدفقت عواطفه وأحاسيسه نحوه دون حساب من أجل الارتقاء بوطنه وشعبه المتعبين.

هذا وقد تماها الخيال في قصيدة الشاعر بالصورة والمجاز. فالخيال المعتمد على أساليب البيان من استعارة ومجاز وتشبيه، يفسِّر مدى ارتباط هذا الخيال بعواطف المتلقي والتأثير فيها من جهة، وبأسباب تجلي هذا الجمال وقدرته على إبراز المعاني في القصيدة وتوضيحها من جهة ثانية.. وبالتالي مدى قرب هذا الجمال ذاته وسرعة إدراكه من قبل المتلقي من جهة ثالثة.

الايقاع الموسيقي في القصيدة:

لقد اشتغل الشاعر "علي عبد الجاسم" في قصيدته على تفعيلة (فعلن)، وهي من مفردات البحر (المتدارك) وهو من بحور الشعر العربي الهامة، ويتميز بخفته وسرعته. حيث أتاح للشاعر إمكانيّة التعبير بأسلوب جديد ومختلف عما هو مألوف. فاختياره لتفعيلة (فعلن) جعل الرتم الموسيقي هنا مطابقاً في الواقع لمضمون بنية القصيدة رغم أن تعبير أو مفردات الحزن والألم قد غطت مساحة واسعة من متن القصيدة: (اللوعة.. الألم .. الأحزان.. نهرب .. الأوهام .. المتعبة). ولكن في المقابل نجد فسحة الأمل في الخلاص تدغدغ عواطف الشاعر لينتقل إلى مفردات مشبعة بالفرح مثل: (شروقُ الإفصاحِ.. الفرج.. أنغام الألق.. فيدورُ الماءُ في الأرواحِ.. يا أملاً يقتربُ الآن.. تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ.. فتنأى أفكارُ الخيبةْ.) إن حالة التقابل هذه بين الحزن والألم، أعطى القصيدة جماليّةً ورهافةً أثرت بالمتلقي. إلا أن الشاعر استطاع برأيي أن يعتمد بحرفيّة على الصوت في تحقيق الإيقاع، فالصوت جًسًدُ الشّعر، وبه يقوم المعنى. إن المادة الصوتيّة في السياق اللغوي هي عبارة عن الأصوات المتميّزة من تعاقب الرنات المختلفة للحركات والإيقاع والشدّة وطول الأصوات وتجانس الأصوات المتحرّكة والسّاكنة ونعومتها، وغير ذلك، ممّا يثري الإيقاع ويغنيه. كما اعتمد الشاعر أيضاً على الصورة كثيراً في قصيدته بوصفها مطلباً يُفضي إلى موسيقى جديدة نغمتها مشاعره وانفعالاته المرتبطة بالموقف (بالألم ورغبة الخلاص) الذي أدى إلى إعطاء قيمة أكبر للإيقاع النفسي وللنسق الكلامي من صورة الوزن العروضي للبيت الشعري.

إن الشاعر بالصوت والصورة والمحسنات البيانية، أمن في أبيات قصيدته موسيقى داخليّة جميلة جداً يتساوق بناؤها مع تجربته الشعريّة.

العاطفة في القصيدة:

العاطفة هي الانفعال النفسي والوجداني المصاحب للنص، وفي القصيدة نلمس بشكل واضح الانفعال الهادئً الايجابي المشبع بالإنسانيّة والأمل والتفاؤل. كما نلمس في القصيدة جانباً مضمرا يحمل هماً وطنياً إلى جانب الهم الإنساني العام.. أما دوافع عاطفة الشاعر فهي ما تعرض له وطنه وشعبه من ظلم وقهر ومعاناة خلال الأزمة التي استنزفت الكثير من مقومات الدولة والشعب منذ 2011 حتى اليوم. نعم.. هي عاطفة جياشة، تحمل هماً فرديّا في مضمونها إلا أنه هم عام، هم وطن في دلالاته.

لغة القصيدة:

لقد توشحت لغة القصيدة بالسماحة والسهولة والترابط والسبك والعذوبه والنعومة والرقة والشفافيّة. والأهم أنها كانت لفة فصيحة بسيطة في الظاهر، وهذا ما يجعل المتلقي يشعر بأنها لغته هو التي يحمل فيها آماله وطموحاته ومعاناته، بيد أنها ليست لغة تقريريّة. إن حسن اللفظ في القصيدة حقق إلى جانب كل سماتها التي أشرنا إليها، رنتها الموسيقية الهادئة في الأذن أيضاً، فكانت اللفظة الواحدة منسجمة مع بقية أجزاء الكلام، وهنا يكمن سر غرابة السبك وبراعة الصياغة وفن التعبير.

أخيراً نقول:

لقد كنا أمام قصيدة لشاعر، امتلك أدوات حرفته تماماً، واستطاع عبرها أن ينقلنا إلى مساحة كبيرة من الأمل والتفاؤل والمعرفة معاً.. ففي الأمل رحنا نجد أن هناك أصواتاً حرّةً في عالمنا الإنساني والوطني على وجه الخصوص، أخذت تقول بإمكانية هذا الأمل أن يزرع عندنا التفاؤل لخلق عالم أفضل. لا شك أن تمسكنا بالحب هو طريق لتجاوز معوقات هذا الواقع المرير المشبع بالقهر والظلم والفقر والجوع والغربة والدم. يقول الشاعر "علي عبد الجاسم" في الأمل القادم المشبع بالفرح:

وننتظرُ الفرحَ القادمِ

يلهمنا خيطَ تآلُفنا،

فيدورُ الماءُ في الأرواحِ

يبسَ الشوقُ بخافقها،

يا أملاً يقتربُ الآن،

تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،

فتنأى أفكارُ الخيبةْ.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث وناقد أدبي من سوريا.

.......................

يا زمناً أعيانا

للشاعر "علي عبد الجاسم"

موعودٌ قلبي بالخَفًقانِ

إلى حدِّ اللّوعةِ،

كيف سنخرجُ من ألمٍ عرشَ فينا؟

يمتدُ إلى ألفينِ من الأحزانْ...

سَفَراً نحو مساحاتٍ

نشتاقُ لرونقها،

كيف سنهربُ من عمقِ الأوهامِ

لنعلمَ أسرارَ الفرحِ؟.

وتلك الألوانُ القاتمةُ

انسربت في أوتار الروح المتعبةِ

أتمطُرنا أنغامُ الألقِ

بأوجِ عروجِ القلبِ؟

خيالٌ في الصحوِ يداعبنَا

في وقتٍ نظريَّ

لا ينفكُ يدغدغُ أوقاتَ الروعةِ،

يتفجرُ حساً في أسرارِ ليالينا،

حانَ الآن شروقُ الإفصاحِ،

وننتظرُ الفرحَ القادمِ

يلهمنا خيطَ تآلُفنا،

فيدورُ الماءُ في الأرواحِ

يبسَ الشوقُ بخافقها،

يا أملاً يقتربُ الآن،

تعال لترفدَ نهرَ الأحلامِ،

فتنأى أفكارُ الخيبةْ.

"وكر السلمان" لشلال عنوز

تُقدم رواية "وكر السلمان" للكاتب العراقي شلال عنوز (2020) نفسها كنموذج فائق الأهمية في أدب الحروب العربي الحديث. فهي لا تكتفي بتصوير ويلات المعارك، بل تغوص بجرأة نادرة في العواقب النفسية والوجودية التي تخلفها الحرب على الروح الإنسانية. عبر بناء سردي محكم وشخصيات مركبة، تتحول الرواية إلى مشرحة أدبية تكشف كيف يمكن للعنف المنظم (الحرب) أن يفكك هوية الإنسان ويحوله من ضحية إلى جلاد، في مسار تراجيدي يعكس عبثية الصراعات ودمويتها. هذه الدراسة تهدف إلى تحليل آليات أدب الحروب وتجلياتها في الرواية، بدءًا من عتباتها النصية وصولًا إلى خاتمتها العدمية، مع التركيز على الأسلوب الفني وسيكولوجية البنية السردية والرمزية العميقة.

عتبات النص: تحليل سيميائي لغلاف رواية "وكر السلمان": حين تتحدث الصورة عن الخراب الداخلي

يعتبر غلاف الكتاب عتبة النص الأولى، وبوابة القارئ إلى عالمه. وفي غلاف رواية "وكر السلمان"، نجد تكويناً بصرياً ونصيا متكاملاً، لا يكتفي بتقديم معلومات عن العمل، بل يغمر المتلقي في الجو النفسي المشحون والمأساوي للرواية قبل قراءة السطر الأول.

1. اللوحة الفنية: مرآة الروح المعطوبة

تهيمن على الغلاف لوحة فنية تنتمي إلى المدرسة التعبيرية أو التجريدية، حيث لا تهدف إلى محاكاة الواقع بقدر ما تهدف إلى تجسيد الشعور الداخلي والصراع النفسي.

* الشخصية المحورية (العنصر البؤري):

يتوسط اللوحة شخص يسير، مرسوم بلون أصفر فاقع يميل إلى الأخضر الليموني1. هذا اللون غير طبيعي ومزعج بصرياً، مما يحقق عدة دلالات رمزية:

- العزلة والاغتراب: اللون الصارخ يفصل الشخصية تمامًا عن محيطها اللوني القاتم، مما يرمز إلى عزلة البطل (نعمان) واغترابه عن مجتمعه وعن ذاته السابقة.

- المرض والفساد: اللون الأصفر الشاحب غالباً ما يرتبط بالمرض والعلل النفسية والجسدية. وهو ما يتطابق مع النص الخلفي للغلاف الذي يصف البلاء بأنه "ورم سرطاني"2. الشخصية هي تجسيد لهذا الورم الخبيث الذي خلفته الحرب.

- فقدان الهوية: ملامح الشخصية غير واضحة تمامًا، وهيئتها تبدو مضطربة ومموهة، كأنها في طور التلاشي أو الذوبان في محيطها3. هذا يعكس تفكك هوية البطل وفقدانه لذاته الإنسانية.

* البيئة المحيطة (الخلفية):

الخلفية عبارة عن تكوين من خطوط عمودية بألوان ترابية وخريفية (أخضر داكن، بني، رمادي)، مع بقع حمراء متناثرة. هذه الخلفية تبدو كغابة كثيفة ومشوشة أو حقل من القصب المتشابك.

- متاهة العقل: هذه الغابة الكثيفة ليست مكانًا جغرافيًا، بل هي رمز مباشر لعقل البطل المزدحم بالذكريات المؤلمة والصدمات. إنها متاهة نفسية ضل فيها طريقه ولا يستطيع الخروج منها.

- بيئة الوكر: تتناغم هذه البيئة الوحشية مع عنوان الرواية "الوكر". فالغابة مكان بدائي ومنعزل، وهو ما يتناسب مع طبيعة المكان الذي يمارس فيه البطل جرائمه.

- رمزية اللون الأحمر: البقع الحمراء المتناثرة بشكل خفي في الخلفية هي تلميح واضح ومباشر للدماء والعنف الذي يسود عالم الرواية.

2. العناصر النصية: تكريس للمأساة

تتكامل النصوص المكتوبة مع اللوحة الفنية لتعزيز الرسالة وتوجيه القارئ.

* العنوان ("وكر السلمان"):

كُتب العنوان بخط بارز ولون أحمر قانٍ. اختيار اللون الأحمر للعنوان هو اختيار رمزي بامتياز، فهو لون الدم والخطر والعنف، ويؤكد بشكل مباشر على الطبيعة الدموية للأحداث التي ستتكشف داخل هذا "الوكر".

* النص الخلفي (Blurb):

يقدم النص المكتوب على ظهر الغلاف مفتاحًا تأويليًا صريحًا للوحة وللرواية ككل. فهو يصف بطل الرواية (دون تسميته) بأنه ليس مجرمًا عاديًا، بل هو "البلاء المدمر الذي ورثته الحرب" و"الورم السرطاني الذي نما من ردمها المشؤوم". هذه الكلمات تؤكد أن الشخصية الصفراء في اللوحة ليست شريرة بالفطرة، بل هي ضحية تحولت إلى وحش، وأن الغابة المحيطة به هي "ردم" الحرب الذي نما فيه هذا الورم. النص يكمل الصورة في شرح دقيق لسيكولوجية البطل الذي "يقتص ممن لم تطلها نارها".

3. التكوين العام والخلاصة

ينجح غلاف رواية "وكر السلمان" في خلق تكوين متكامل ومؤثر. هناك انسجام تام بين الصورة والنص، حيث تشرح الكلمات ما ترمز إليه اللوحة، وتجسد اللوحة ما تصفه الكلمات. الغلاف يوحي بالضياع، الألم، العزلة، والجنون، وهو يقدم وعدًا للقارئ بأنه مقبل على رحلة نفسية عميقة ومظلمة في خراب الروح الذي تخلفه الحروب. إنه غلاف لا يبيع قصة بقدر ما يبيع حالة شعورية، وينجح في إثارة فضول القارئ المهتم بالأدب الجاد والعميق.

بوصلة العنوان والإهداء

* العنوان - "وكر السلمان": العنوان مركب إضافي مكثف بالدلالات. فكلمة

"الوكر" تُحيل مباشرة إلى عالم حيواني بدائي، مكان منعزل ومظلم للافتراس، وهو ما يعكس بدقة حالة البطل النفسية وتحوله إلى كائن تحركه غرائز التدمير. أما

"السلمان"، فهي لا تشير فقط إلى قضاء صحراوي معزول، بل تستدعي في الذاكرة العراقية سجن "نقرة السلمان" الشهير، مكان النفي والعقاب. بهذا الربط، يكتسب "الوكر" بعدًا رمزيًا مزدوجًا: فهو سجن نعمان النفسي، ومكان منفاه عن عالم الإنسانية.

* الإهداء - ميثاق مع الضحايا: يأتي الإهداء كبيان صريح يضع الرواية في صف المناهضين للحرب، حيث يهديها الكاتب "إلى ضحايا الحرب، رجالاً، نساء وأطفالاً... إلى الذين تناثرت أشلاؤهم وأحلامهم معاً" ، ويؤكد أنها "شاهدة على دموية الحرب وآثارها". هذا الميثاق يطلب من القارئ ألا يقرأ الأحداث كقصة جريمة، بل كأثر مباشر وكارثي لـ "حماقات مشعليها".

تحليل الشخصيات: نماذج إنسانية تحت مطرقة الصدمة

* نعمان (البطل التراجيدي): هو محور الرواية وتجسيد لأطروحتها. شخصيته مبنية على انشطار حاد بين ماضيه كطالب قانون وشاعر ومحب، وحاضره كقاتل دموي6. المحرك الأساسي لهذا التحول هو

الجرح الرمزي الذي أصابه في الحرب، والذي لم يكن مجرد إعاقة جسدية، بل اغتيال لرجولته وهويته. جرائمه تتبع طقسًا مرضيًا؛ حيث يستدرج ضحاياه إلى وكره ليروي لهم مأساته ويكشف عن جرحه قبل قتلهم8.

* سناء (الفردوس المفقود): خطيبة نعمان، ورغم غيابها في حاضر الرواية، إلا أنها تُمثل كل ما هو نقي وجميل من عالم ما قبل الحرب: الحب، الأمل، والمستقبل. كانت طالبة قانون ذكية وشاعرة. قتل نعمان لها، والذي نكتشفه لاحقًا، كان جريمته التأسيسية التي قتل بها آخر بقايا الخير في نفسه.

* الضحايا (ناظم ومهند): هم مرايا الماضي التي يحطمها نعمان.

ناظم يمثل الصداقة والوفاء، وقتله هو ذروة الخيانة.

مهند يمثل الطموح والحياة الأسرية، وقتله هو تدمير لصورة المستقبل الذي حُرم منه نعمان.

* رحمة (صوت العدالة): صديقة سناء التي أصبحت قاضية تحقيق، تُمثل النظام والقانون والعالم السوي الذي انفصل عنه نعمان. هي الخطر الخارجي الذي يهدد بكشفه، والمواجهة الخاطفة بينهما في الأسواق المركزية من أكثر مشاهد الرواية توترًا.

الحبكة وبنية الأحداث: مسار السقوط الحتمي

تعتمد الرواية على حبكة نفسية دائرية، حيث يكون الصراع الأهم داخليًا والنمط الإجرامي متكررًا.

* البنية المتشظية: عبر الاستخدام المكثف للاسترجاع الفني (الفلاش باك)، تتشظى بنية السرد بين الماضي والحاضر. هذا التناوب الحاد بين ذكريات بغداد المشرقة وجرائم الوكر المظلمة يعكس بدقة عقل نعمان المكسور.

* تصاعد الأحداث: يتصاعد التوتر مع كل جريمة، ومع كل كشف جديد عن الماضي. الذروة ليست حدثًا واحدًا، بل هي لحظة مزدوجة:

داخلية عند الكشف الكامل عن جريمة قتل سناء، وخارجية عند وصول الشرطة ومحاصرة الوكر.

الرمزية في الرواية: تجليات اللاوعي في عالم محطم

تتجاوز الرواية السرد الواقعي لتنسج شبكة من الرموز العميقة التي تمنح النص أبعادًا دلالية ونفسية إضافية.

* الوكر (النفق): هو الرمز المركزي المهيمن. إنه ليس مجرد مكان، بل هو تجسيد مادي لعقل نعمان الباطن، ومقبرة لماضيه، ومسرح لتفريغ عدوانيته. وصفه الدائم بـ "الروائح النتنة" و"القذارة" و"الظلام" يجعله انعكاسًا مباشرًا للتعفن الأخلاقي والنفسي الذي أصاب البطل. وتحوله لوحش نهم للانتقام والدم ،كما إنه يمثل تراجع الإنسان إلى حالة بدائية وحيوانية، حيث تُمارس الجريمة في عزلة تامة عن أعين المجتمع والقانون.

* الجرح الجسدي: إصابة نعمان في الحرب هي أكثر من مجرد عاهة جسدية؛ إنها رمز للإخصاء النفسي والوجودي. عندما يكشف عن "سوأته المشوهة" لضحاياه قبل قتلهم، فهو لا يكشف عن جرح في الجسد، بل عن جرح أعمق في هويته ورجولته وكرامته. هذا الجرح هو المُبرر المريض الذي يسوقه لنفسه ولضحاياه، وهو المحرك الذي حول ضعفه إلى وحشية لا يمكن السيطرة عليها.

* القط الأسود: يظهر هذا الكائن كرمز معقد وغامض. هو ليس مجرد حيوان أليف، بل هو شاهد صامت يمتلك وعيًا فطريًا بالشر. في كل مرة، يحاول تحذير الضحايا ومنعهم من دخول الوكر. يمكن تأويله كـ:

- بقايا ضمير نعمان: جزء من روحه لم يمت بالكامل، انفصل عنه وتجسد في هذا الكائن الذي يحاول التكفير عن جرائمه عبثًا.

- رمز للطبيعة النقية: يمثل الفطرة السليمة التي لم تلوثها وحشية الحرب، على عكس نعمان الذي تم "شيطنة فطرته".

- نذير شؤم: لونه الأسود وسلوكه الغريب يضفي على السرد جوًا من الغيبية، وكأنه رسول من عالم آخر يشهد على المأساة.

* فعل القتل كطقس لتدمير الذات: كل جريمة يرتكبها نعمان هي فعل رمزي لتدمير جزء من ماضيه. ضحاياه ليسوا أعداء، بل هم أصدقاؤه وخطيبته، أي أنهم يمثلون أجمل ما في حياته قبل الحرب: الصداقة، الطموح، والحب. بقتلهم، هو لا يمحوهم من الحاضر فحسب، بل يقتل ذكراهم الجميلة في داخله، في محاولة يائسة لمحو ألمه عبر محو مصدر الذكرى.

الأسلوب واللغة الشعرية: جماليات السرد في مواجهة الوحشية

* لغة الواقعية القاسية: عند وصف أحداث الحاضر – مشاهد القتل وأجواء الوكر – يستخدم الكاتب لغة مباشرة وحادة، تركز على التفاصيل المقززة.

* اللغة الشعرية والمونولوج الداخلي: على النقيض، عندما يغوص السرد في ذكريات نعمان أو مونولوجاته الداخلية، ترتقي اللغة إلى مستوى شعري. هذا الأسلوب يكشف عن الصراع الداخلي، كما في تساؤله: "ما هذه البراكين التي تتفجر في أعماقي، غلاً وحقداً وحريقاً؟".

* الشعر كرمز للبراءة المفقودة: توظيف قصائد كاملة داخل النسيج السردي، كتبها نعمان وسناء، يصبح شاهدًا على ما كان يمكن أن يكون، ويجعل من جريمة قتل نعمان لسناء، الشاعرة والحبيبة، اغتيالًا للجمال ذاته.

سيكولوجية البنية السردية: حين يصبح السرد مرآةً للعقل المحطم

* الزمن المتشظي كعرض من أعراض الصدمة: لا تتبع الرواية تسلسلاً زمنيًا خطيًا، بل تنتقل بشكل فجائي ومضطرب بين الحاضر والماضي. هذا التشظي الزمني هو محاكاة دقيقة لاضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، حيث لا يعود الماضي ذكرى مستقرة، بل يصبح حاضرًا اقتحاميًا ومؤلمًا.

* هيمنة المونولوج الداخلي: جزء كبير من السرد يُروى عبر صوت نعمان الداخلي، مما يضع القارئ مباشرة داخل عقله المريض، ويجعله شريكًا في معاناته وصراعه.

* "الوكر" كفضاء نفسي: البنية السردية تربط بشكل وثيق بين المكان الخارجي والحالة الداخلية. "الوكر" ليس مجرد مسرح للجريمة، بل هو امتداد مادي لنفسية نعمان المتعفنة

النهاية: الانفجار كفعل عدمي ونهاية منطق الحرب

* تسلسل الأحداث النهائية: بعد تجميع الأدلة، تكتشف السلطات "الوكر" بمساعدة رمزية من القطة السوداء. عند اقتحام المكان، يعثرون على اعترافات نعمان الكاملة 32، وقبل أن يتمكنوا من القبض عليه، ينفجر المكان بعبوة ناسفة كان قد أعدها مسبقًا، مما يؤدي إلى مقتل اثنين من رجال الشرطة وتدمير الوكر بالكامل.

* الدلالات العميقة للخاتمة:

- رفض العدالة المجتمعية: يرفض نعمان أن يخضع لمنظومة العدالة، وينفذ حكمه الخاص بنفسه.

- الخاتمة كفعل حربي أخير: الانفجار ليس مجرد انتحار، بل هو آخر عملية عسكرية يقوم بها، مؤكدًا أن العنف الذي تعلمه هو لغته الوحيدة.

- انتصار الفوضى والعدمية: لا تنتهي الرواية باستعادة النظام، بل بانتصار الفوضى التي ابتلعت القاتل ومطارديه.

- محو الأثر وإفناء الذاكرة: بتدمير الوكر، يسعى نعمان رمزيًا إلى محو جريمته من الوجود، مختارًا "الإفناء" بدلاً من الموت.

ومجمل القول: إنَّ "وكر السلمان" رواية عميقة ومرعبة في آن واحد. إنها عمل أدبي محكم يذهب أبعد من إدانة الحرب ليصل إلى تشريح دقيق للآثار النفسية التي تتركها في النفوس. من خلال لغة فنية متقنة، وبنية سردية تعكس سيكولوجية العقل المحطم، يثبت شلال عنوز أن الجحيم الحقيقي ليس في ساحات القتال، بل في "الوكر" المظلم الذي تبنيه الحرب داخل روح الإنسان.

***

د. نجلاء نصير

دكتوراه الفلسفة في الآداب تخصص الدراسات الأدبية والنقدية من كلية الآداب جامعة الإسكندرية

نص الشاعر يونس توفيق، حضور السيدة البابلية، ينتمي إلى الشعر المعاصر بطابعه الحلمي والمتخيل، حيث ينسج الشاعر رؤيته لمملكة العاطفة والجسد والذاكرة في فضاء شعري غني بالصور والرموز، متماهياً مع التجربة الإنسانية في الحب والفقد والحنين إلى الذكريات المتوارثة. يمثل النص رحلة شعورية متواصلة تبدأ من واحة الذاكرة، لتصل إلى أعماق العشق والمواجهة الذاتية مع الألم والغربة، مروراً بالخيال والأسطورة.

في افتتاح النص، يقدم الشاعر الذاكرة المهجورة كفضاء انطلاق لحضور المرأة، موحياً بأن الخيال والعاطفة يولدان من هذا الفضاء:

من واحةِ ذاكرتي المهجورةِ

تولدُ سيدة الأقمارِ الخضر

وتُشرقُ مُزهرةً في أحلامي.

تتسم الصورة الشعرية بالتركيب الحلمي، حيث تتخذ المرأة، أو السيدة البابلية، هيئة رمزية: هي القمر، هي الزهرة، هي القوة التي تهب الحياة إلى أحلام الشاعر. هذه البداية تكشف عن اهتمام الشاعر بالمقدس في الحب والجمال، إذ تتحول المرأة إلى رمز يتخطى حدود الزمن والمكان.

يتواصل النص مع جسدية المرأة وحضورها القوي، حيث يمتزج الحب بالرغبة والطقوس، فتتضح قوة التأثير الشعوري والوجداني:

تتماسكُ كالغيم المتأججِ،

تبرقُ في جسدي

تمتدُّ سريعا

حتى آخرَ رعشةَ حُبٍّ:

تقطرُ في غاباتِ وجودي

ثمّ تُعاودني كالحمّى.

يُلاحظ أن التركيب الشعوري يعتمد على الحركة المتسلسلة: امتداد، تقطر، تعاود. هذا الأسلوب يعكس التفاعل النفسي والجسدي للشاعر مع حضور الآخر، ويحوّل النص إلى فضاء طقسي تتداخل فيه الرغبة بالمعرفة الذاتية.

تستمر المرأة في النص ككائن حي، له تأثير مباشر على إدراك الشاعر وحواسه، ما يجعل النص يحمل جماليات صوتية ومرئية متزامنة:

أنصتُ مشـدوها:

أتَحسَّسُها تتَحرّك،

تجرحُ جلدي بالعطرِ المتصاعدِ

من لهَبِ العينين

وتخرقُ رأسي بالنغمِ الشرقيِّ،

وبالشِّعرِ المهووس بإيقاعِ الحركات

وأنفاس الكلمات.

ينسج النغم والإيقاع تجربة حسية متكاملة، حيث تتداخل العين، الجلد، الرأس، الشعر والحركة لتوليد شعور شعوري عميق. يحول الشاعر الحب والرغبة إلى طقس شعري شامل يجمع بين الجسد والروح واللغة.

النص لا يغفل البعد الأسطوري والتاريخي، حيث يذكر البخور والمعابد البابلية، في مشهد يعكس امتزاج العشق بالذاكرة الجماعية:

في المدخلِ

صارت نَحتاً محفوراً

بأنين عذاباتِ الزّمنِ الممزّقِ،

صارت قُرباناً يَتحوّرُ

تحتَ بخورِ معابدَ بابلَ

والصّلَوات...

هنا تتحول التجربة الفردية إلى تجربة تاريخية-أسطورية، إذ تمتزج العاطفة بالبعد الحضاري والثقافي، لتصبح المرأة حضوراً روحياً يعكس تلاحم الزمن الشخصي مع التاريخ الكبير.

الشاعر يواصل بناء طقوس العشق، مستخدماً استعارات الجسد والمسك والعناق المحموم، لتضفي بعداً شعورياً وطقسياً كثيفاً:

كالمِسكِ يموعُ الخَصرِ

ويلتَهِبُ الجسدُ العاري

في طَلسمِ كلِّ عناقٍ محمومٍ.

ألقاني أسكنها،

أتملّكُ لونَ صِباها

مُنتحلا شكل المعشوقِ

وسيف العاشق.

يتجلّى هنا التناوب بين التملك والانصهار، حيث يتماهى العاشق مع المحبوب، ويرتقي النص إلى طقس شعوري مكثف، تصنعه لغة غنية بالصور الجسدية والرمزية، تعكس الاحتراق الداخلي والولادة المتجددة في الحب.

المرأة في النص تتحرك بحرية وتخرج عن نطاق السيطرة، ما يعكس الخيبة والفقد، كما يظهر في المشاهد التالية:

من عالمِ غيبتِها تأتي:

تتمطّى كالطيرِ المعتوقِ؛

تغنّي،

ترقُصُ حولَ النّارِ:

كأسرابٍ من مَرجانٍ ورديّ

تلمعُ

ثمّ تعاودُ رحلتها.

تكرار الحركة بين الهروب والعودة يضفي ديناميكية مستمرة على النص، ويخلق توتراً شعورياً بين الرغبة في التملك والاستسلام للغياب.

في المقاطع الأخيرة، يتحول النص إلى تجربة العزلة والغربة، حيث يمتزج الحب باللوعة والحنين، ليبرز البعد المأساوي للشاعر:

مجنونا أبحثُ عنها في آلامِ العشّاقِ

وأركضُ بينَ غياهِبِ أوجاعي،

أتحرّقُ تحتَ صقيعِ الغربةِ

في طرقِ الليلِ المهجورةِ،

أصرخُ ثورة حبّي في قلبِ الفجرِ الغافي،

أبكي سـنوات الوحدةِ،

والتّرحال.

يتجلّى التناقض بين الاقتراب والهروب، بين التعلق والانصراف، ويبرز حضور الحب كقوة تمزّق الروح والجسد. الغزالة الرمزية تمثل شغفاً لا يمكن الإمساك به، فيما يظل الشاعر في مواجهة الوحدة والصمت، جامعاً بين الألم والجمال في تجربة شعورية مكثفة تعكس قدرة النص على تحريك العاطفة والمخيلة:

حبّي كالريحِ يمزّق صدري

مثل البحرِ ينازعُ فيَّ

وينخرُ روحي حتى العَظمَ...

أضيعُ وحيداً في غاباتِ الخوف،

وأسرحُ خلفَ غزالَةَ عشقي

أمنحها أسرار وجودي

والدمعَ المتفتّح في أحشائي...

أتقرّبُ منها مرتعشا،

أتلمّسُ وجنتها،

شفتَيها...

تضحكُ،

تهرُبُ،

ثمَّ تغيبُ وراءَ سهول الصمت...

بهذه الطريقة، يظهر يونس توفيق في حضور السيدة البابلية مهارة فائقة في تحويل تجربة الحب والشوق إلى لوحة شعرية متكاملة، تجمع بين الإحساس الحسي والعاطفي، وبين رمزية العشق والألم، لتقدم نصاً حياً، نابضاً بالوجد، ومفتوحاً على قراءات متعددة الأبعاد بين الحب والفقد والوجود.

يمكن القول إن النص متماسك من حيث البنية والرمزية، إذ تبدأ الرحلة من الذاكرة الفردية، تتوسع عبر الحب والرغبة والجسد، وتمتد إلى المقدس والأسطورة التاريخية، ثم تنتهي بتجربة الوحدة والغربة، في تركيب شعري يشبه طقساً شعورياً متكاملاً. حضور السيدة البابلية نص مؤثر للغاية، غني بالصور السيميائية والرمزية، مبدع في استخدام اللغة لتحويل الحب والمعاناة إلى تجربة شعورية وجمالية، ويعكس حساسية الشاعر العالية تجاه الزمن والذاكرة والوجود الفردي، مؤكداً مكانة المرأة كحاضرة أسطورية في عالمه الشعري.

السيرة المختصرة للشاعر

يونس توفيق (يونس صديق الحمداني) شاعر وروائي وناقد وأكاديمي عراقي، وُلد في الموصل عام 1957 ويقيم في إيطاليا. تخرج من جامعة تورينو عام 1986 وحصل على الماجستير في الآداب.

أصدر عدة روايات مهمة منها "الغريبة"، "مدينة إرم"، و"اللاجئ"، بالإضافة إلى أعمال شعرية مثل "حضور السيدة البابلية" و"القمر بين اليدين"، ودراسات لغوية وتاريخية مثل "السلام عليكم" و"إسلام".

نال جوائز أدبية مرموقة في العراق وإيطاليا، ويكتب في صحف إيطالية كبرى. يرأس المركز الثقافي العربي-الإيطالي "دار الحكمة"، ويُدرّس الأدب العربي في جامعة جنوة منذ 1999. كما ساهم بترجمة ونشر التراث العربي الكلاسيكي إلى الإيطالية، مقدمًا أعمال الجاحظ والغزالي وابن عربي وجبران خليل جبران.

***

بولص آدم

رواية "خَوَاء" للأديب الشاعر راضي علوش صدرت سنة 2023 عن دار ناريمان للنشر، رواية تنتمي بحق إلى الأدب الواقعي، لما تناولته من قضايا واقعنا الخلافية وإشكاليات لا تزال مثارة في مجتمعنا اللبناني. تميزت باسلوب سردي رشيق لا يخلو من ومضات شعريّة، فضلاً عن حوارات مقتضبة بين شخوصها لتبيان الرؤى والتباينات التي لا تخفى على أحد في مجتمعنا.

لقد وفق الكاتب باختيار كلمة "خَوَاء" عنوانا لروايته، كوننا في الحقيقة نعيش ونلمس هذا الخواء في أكثر من مفصل ومحطة من محطات حياتنا السياسيّة والاجتماعيّة.

إنه الخواء بعينه لافتقادنا لحراك سياسي مجتمعي فاعل ومؤثر للتخلص من حالة الركود التي تحاصرنا.

إنه الخواء، لا بل الإحباط بكل ما للكمة من معنى، من خلال حواجز المحسوبيات والمحاصصة التي تقطع الطريق على أصحاب الكفاءة والضمائر الحيّة لتفسح المجال أمام الأزلام وكتبة التقارير.

إنه الخواء الثقافي الذي بموجبه، وخوفًا من الملاحقة او تلفيق التُهم، اعتكف الكثيرمن المثقفين عن ممارسة دورهم في بث حركة الوعي لدى الجمهور، ومن لم يعتكف منهم تحول إلى بوق من أبواق القوى النافذة.

إنّه الخواء الناتج عن غياب القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة .

بالعودة إلى الرواية فإنها تطرقت إلى عدة قضايا منها: الفساد الإداري المستشري، الخلل في النظام التربوي، نظام الأحوال الشخصية، وصولا إلى النظام السياسي والخلل الذي يعتريه.

بإشارات ذات دلالة أظهرت الرواية كيف أنّ الفساد واللجوء إلى تقديم الرشاوى أصبحا بمثابة ثقافة يعتنقها أصحاب المصالح لتمرير صفقاتهم، والتغطية على ارتكاباتهم. وهذا ما لجأ إليه المتمول عاطف في زيارته المفاجئة للموظف ماجد ومبادرته بالقول: "عربون صداقتي ستجده في هذا المغلف، ولا تعتبر ذلك رشوة بل إكرامية مقابل أن تغض النظر عن بعض المخالفات التي أوردتها في تقريرك الرقابي".

كذلك تلفت الرواية إلى تلك الفوضى الإدارية التي تعصف بالإدارة العامة، والخلل في الموازين وتقدم المحسوبيات على الكفاءة بعد أن "أصبح الفيصل الأساس في ذلك ما يحظى به الموظف من قربةٍ لدى هذا الزعيم السياسيّ أو ذاك. لقد استحالت الإدارة إلى مجموعة مزارع على رأس كل منها وزير يرعاها، ويحميها من التابعين لخصومه السياسييّن" (9).

يعيد الكاتب التذكير بالخلل البنيوي للنظام السياسيّ اللبناني وللمكاسب التي حققها أمراء الحرب على حساب الوطن واستثمارهم النفعي لاتفاق الطائف الذي حوّلهم من أمراء حرب إلى أمراء طوائف، "إن البنية السياسية التي أرساها اتّفاق الطائف لا تعدو كونها شركة أسسها فرقاء الحرب الأهليّة الذين اتفقوا على تقاسم الحصص والمغانم (116).

هي شركة بكل ما للكلمة من معنى امتدت أذرعها لتطال القطاع التربوي الرسمي وتعمل على تهميشه وتهشيمه لصالح مؤسساتها التربوية الخاصة. ومن أبرز ضحايا هذه السياسة ما لحق بالجامعة اللبنانية التي يفترض ان تكون جامعة لكل أبناء الوطن وموحدة لهم، لكن الشره الذي سيطر على السياسيين المتنفذين أدى إلى أن "وضعت اليد على كليّة الحقوق بالتلازم مع المحاصصة في السيطرة على كليّات الجامعة اللبنانيّة من قبل الأطراف السياسيّة. فتحولت هذه الكلّيات إلى محميّات حزبيّة طائفية ومذهبيّة" (124).

تشير الرواية إلى تراجع دور المدرسة الرسميّة لحساب المدارس الخاصة ذات الطابع الطائفي والمذهبي، والتي تمارس استغلال المواطن وابتزازه بأبشع الطرق عن طريق الزيادات المتكررة في الأقساط المدرسية غير عابئة بأحوال الأهلين وأوضاعهم المعيشية (44). وهنا نسأل مع الكاتب، "لماذا تمسك المدرسة الخاصّة بزمام التعليم في الوقت الذي تُهمَّش فيه المدرسة الرسمية التي ينبغي أن تكون لها الصدارة باعتبارها المدرسة الوطنية الجامعة لكل أبناء الوطن".(45).

يعيد الكاتب التذكير باختلاف النظرة إلى القضايا الكبرى، والتي بدأت منذ تواجد المقاومة الفلسطينية على ارضنا وانقسام اللبنانيين في ما بينهم، وهذا ما قالته "جنان" في حوارها مع ماجد: "أنتم فتحتم الأبواب لإسرائيل، وأوجدتم لها الذرائع والمبرّرات لتقوم بإعتداءاتها. لقد ساندتم الفلسطينيين في التسلّيح وفي القيام بعمليات عسكريّة". وعلى الرغم من تأييدنا للحق الفلسطيني فإنّ هذا لا يسوغ لنا التنكّر لحقّنا في الحفاظ على أرضنا ومقدراتنا. فالسلاح الفلسطيني لا يجدي نفعا خارج فلسطين، كما انه هو السبب في حدوث إشكالية كبرى ذات طابع أمني وسياسيّ ووطنيّ عام، إذ يشكل عامل انقسام بين اللبنانيين بين مؤيد ومُعارض" (27). دون ان تنسى جنان التذكير بالمقولة الرائجة لدى قسم كبير من اللبنانيين وهي "ما أسرعنا في مناصرة قضايا الآخرين دون المرور بالوطن اللبناني والاهتمام بمشكلاته وقضاياه" (28).

فيما يشبه النقد للحياة السياسيّة في لبنان يُلخص ماجد قراءته لها بالقول: "لا أظن أنّ اللبنانيين قادرون على بناء دولة فعليّة في ظل خلل في بنانا السياسية والاجتماعيّة، فلكل فريق من الأفرقاء معاييره الخاصة (52). أيضا هناك فرق شاسع بين التسوية والميثاق. التسوية لا ترقى إلى مستوى الميثاق إلّا إذا وحّدت بين أبناء الوطن في إطار جامع يلغي الفوارق القائمة بينهم (68).

كان للحملات الانتخابية والخطابات التحريضية المعتمدة فيها مساحة لا بأس بها، حيث إن خطاب كل مرشح من المرشحين يتوجه إلى طائفة بعينها أو إلى منطقة بعينها، وهذا يدل على غياب الخطاب الوطني الجامع.(60). وبدلا من ان تكون الانتخابات من أهم وسائل العمل الديمقراطي، إلّا انها للأسف تحولت إلى لعبة يمارسها الكبار في سبيل السيطرة والتحكّم والاستغلال. ولم يفت الكاتب الإشارة إلى ضرورة العمل على تعديل قانون سن الإنتخاب فليس من باب العدل أن من يبلغ الثامنة عشرة من العمر ويتمتع بالأهلية القانونية ألا يمنح حق الانتخاب (140).

في موضع آخر تتطرق الرواية إلى مسالة قوانين الأحوال الشخصية والزواج المختلط. فبعد ان نشأت علاقة حب بين ماجد المسلم وصديقته المسيحية جنان وتصميمهما على الزواج الذي قوبل برفض تام من أهلها وإجبارها على من آخر السفر معه إلى بلاد الاغتراب، في حين كان الرفض من قبل أهله اقل وطأة، وإن أحتمل في طياته تحذيراً من فشل مثل تلك العلاقة. تقول ام ماجد لابنها: "اللي بياخذ من غير ملتو بموت بعلتو" (31). وتقدم الرواية حلاًّ لهذه المعضلة يكمن في اعتماد العلمنة التي تفصل بين الدين والدولة، وهي البوّابة العريضة التي يدخل منها المواطنون جميعهم إلى رحاب الدولة المدنيّة الجامعة"(89). فليس من سبيل سوى التمرد على القوانين الظالمة البالية التي تتعارض مع قوانين الإنسان الطبيعية. فالفكر الحر الذي ينبغي أن نحظى به يدفعنا في اتجاه مغاير للاتّجاه الذي يحرص الأهل على سلوكه (38).

وفي ما يشبه الدعوة من قبل الكاتب للمنتديات الثقافية المنتشرة بكثرة في وطننا إلى أن تقوم بدورها الحقيقي والمنتج في سبيل الوصول إلى التغيير المبتغى في الوطن، يؤكّد الكاتب الدور الذي يؤدّيه الفكر والأدب، والذي لا يمكن إغفاله، في التمهيد لأي تغيير مُرتجى شريطة معرفة كيفية توظيفه، وهذا ما حصل في الثورة الفرنسيّة وغيرها من الثورات.

ولكون الكاتب جنوبيّ الهوى والانتماء، فإنّه لا يزال يؤمن بانّ في الخيارات الصعبة لا بد من تغليب خيار المقاومة الذي يشكل وجه الحريّة المتوهّج (119). ولهذا كانت نصيحته لصديقته جنان بأن تستثمر في الجنوب وتساهم في تنميته، وفاءً لأرض تستحق النماء واستشرافّا للمستقبل. منتقدا في الوقت عينه ما نلحظه من مظاهر البناء والعمران في المناطق المختلفة، لأنها لا تملأ ذاك الخواء، ولأنها لا تستند إلى رؤية سليمة وأسس متينة (75).

ختاما لقد قدّم لنا الأستاذ راضي علوش رواية تحفز القارئ على التمعن في ما هو قائم، وفي ما يجب أن يكون، كي لا ينتهي بنا الأمر مثلما انتهى بماجد الذي لم يحظَ بالترقية التي يستحقها بعد ان حرمها منه المتسلقون والمتزلفون، ليكون قراره الاستقالة والهجرة، وليعمل في خدمة جنان، راعياً لمصلحتها في بلاد الاغتراب.

***

عفيف قاووق – لبنان

 

تعد رواية "الهدية الأخيرة" ثامن روايات الزنجباري "عبد الرزاق قرنح" صاحب نوبل لسنة 2021، وهي تتخذ هجرة عباس الزنجباري إلى بريطانيا موضوعا لها، وهو شخصية تمتلئ حياته السابقة بأسرار حاولت التملص منها، لكنا تطفو على السطح مرة أخرى بسبب إصابته بسكتة دماغية مفاجئة. حاول عباس في آخر أيامه التصالح مع ماضيه من خلال روايته لتلك النقط السوداء فيه لزوجته مريم مجهولة الأصل. فهل سيستطيع عباس التصالح مع ماضيه الذي طارده لعقود من الزمن؟ وهل ستعرف مريم جواب السؤال "من أنا؟"  الذي رافقها مدة طويلة؟

إضافة إلى هذا تناقش الرواية اهتمامات الجيل الثاني من المهاجرين واللاجئين من خلال شخصيتي "هناء" "وجمال"، اللذان يحاولان الانصهار في مجتمع ليس بمجتمعهما لكنهما وجدا فيه أنفسهما قسرا، فهل سيتقبلهما هذا المجتمع رغم اختلافهما؟ أم أن نظرة الاستعلاء والدونية سترافقهما رغم نهاية الاستعمار الأوروبي لإفريقيا؟

تضعنا الرواية أمام سؤال جوهري تكرره الشخصيات ضمنا هو: من أنا؟ هل أنا إفريقي؟ هل أنا هارب؟ هل أنا بريطاني؟ وإذا لم أكن كل ما سبق فمن أنا؟ سنحاول من خلال هذه المراجعة الغوص أكثر بين ثنايا الرواية، من خلال تسليط الضوء على أهم المواضيع التي ناقشتها الرواية ضمنا وتصريحا، ومنها الذاكرة والهوية، والانتماء والمنفى، والعلاقات العائلية المتوترة، والصمت والصراعات النفسية.

1- تجليات الهوية والذاكرة في الرواية.

يؤدي الموت الوشيك بعباس إلى مكاشفة ذاته بالأسرار التي كان يخفيها تحت طبقات من التجاهل والصرامة، لكن تأتي لحظة انقشاع الغشاوة في محاولة أخيرة منه لإصلاح الشرخ الذي حدث بينه وبين عائلته، خاصة ابنته هناء. إنه يحاول، في لحظاته الأخيرة، التصالح مع ماضيه الذي هجر فيه زوجة وابنا ظنا منه أنه ليس من صلبه فقط لأنه أتى قبل موعده بأشهر، وظنا منه أنه وقع ضحية مؤامرة من طرف أخته وأنسابه، غير أن الشك ظل يراوده لمدة تناهز أربعين عاما، لذا يبدأ في تذكر طفولته وأسباب هجرته، وأحداث مؤلمة من الماضي، ما يضطره لمواجهة ذاته القديمة ليفرضها على جهل عائلته بهذه الأحداث.

إن هذا القرار الحتمي في النهاية، هو كالهدية الأخيرة التي يقدمها لذاته وعائلته، وهو بمثابة الإرث الروحي الذي يتركه لهم، وكأنه يصالح ذاته على ما ارتكبه من هجر في حق زوجة وابن لم يعرف مصيرهما بعد الهروب، وكأنه يصالح عائلته على كتمانه هذا السر وغيره من الذكريات عن أصوله وأصولهم. إن عباس يحاول ترميم تيهه بمكاشفة عائلته بما أخفاه عنهم فهو يقول: "عندما تركت ذلك المكان لم أدرِ هَوْلَ ما تركت ورائي. أينما هِمْتُ على وجهي أو عشت بعد ذلك لم يتوقع مني شيء. كنت رجلًا بلا مسؤولية، بلا هدف. لا شيء مطلوب مني. كنت أرغب في شرح ذلك لكما، وكيف فقدت ذلك المكان وفي الوقت نفسه فقدت مكاني في العالم. ذلك ما يعنيه هذا التيه. ذلك ما يعنيه أن يكون المرء غريباً في أرض أناس آخرين. كنت أرغب في التحدث إليكما عن ذلك، أما الآن فقد مضى وقت طويل جدا من دون أن أجد طريقة للحديث عن هذه الأشياء. كنتما سترغبان في معرفة أكثر من ذلك، ولم أعرف كيف يمكنني إخباركما بما هو أكثر من ذلك" (ص 151).

أما ذاكرة مريم فإنها تنبع فقط من العائلات التي تبنتها وعاشت معها (خاصة عائلة فيجي وفيروز)، وذلك بعد أن تخلت عنها أمها أمام باب المستشفى، إلا أنها في النهاية تقرر تتبع خيط واهٍ من أجل الحصول على أجوبة حول أصلها، لكن هذه الأجوبة تفتح أبوابا شاسعة على أسئلة أخرى وتنتهي الرواية دون أن تقد لنا ولا لمريم ما يشفي الغليل حول أصلها وانتمائها وهويتها، وكأنها تجسد تلك الهوية المفقودة الناتجة عن فقدان الأهل، في خضم نزوحات قسرية إثر القلاقل السياسية والحروب التي لا تنتهي ولن تنتهي إلا بفناء البشرية.

يمثل عباس ومريم التناقض الداخلي الذي يحدثه فقدان الهوية في نفسية المهاجرين؛ فعباس لا يريد الانتماء لا إلى زنجبار موطنه الأصلي، ولا إلى بريطانيا بلده المضيف، ويجد ذاته ممزقة ومتشظية بين هذا وذاك، بين ماض يهرب منه ومستقبل يأبى القبول به. أما مريم فتجهل أصولها، وتفتقد لهوية تستند عليها في مواجهة آلة البطش الثقافي فهي "هكذا كانت طوال حياتها دائما ما يرضيها القليل، دائما ما تفعل الأنسب، وقد فات الأوان الآن على ارتكاب الحماقة والمجازفة. لم تكن تملك ذلك الضرب من القوة" (ص 15)، لذلك لم تملك الجرأة لتسأل فيروز عن أصلها ولا لتبدل حياتها، الجرأة الوحيدة التي واتتها هي هروبها مع عباس حينما تعرضت لمحاولة اغتصاب من طرف ابن أخت فيجي. ومع هذه الأسرار التي يحاولان كتمانها معا، يعيشان زواجا "غريبا" يكتنفه الكثير من الصمت والغموض مما يؤثر على علاقتهما، إذ إن الهوية الفردية المنغلقة لكل منهما أترث على الهوية الأسرية وأثرت أكثر على الانسجام داخل الأسرة، وهو الأمر الذي تولد عنه ضعف الروابط العاطفية بين أفراد الأسرة، فهناء "التي تحولت إلى آنا على نحو كامل، لا تكاد تتكلم عن اختلافها بالطريقة نفسها بدلًا ذلك، أصبح اختلافها تزويقا لبريطانيتها" (ص 50)، وجمال يشعران أنهما لا يعرفان والدهما معرفة جيدة، مما يخلق هوة عاطفية بينهما -رغم وجود التواصل الجسدي- لا تمتلئ إلا بالسرد والتواصل بعد فوات الأوان وموت عباس.

2- المنفى الوجودي والانتماء الهوياتي

تتناول الرواية ثنائية الانتماء والمنفى بوصفها إحدى القضايا المحورية في أدب الهجرة وما بعد الاستعمار. ومن خلال شخصية عباس، يكشف قرنح عن الأثر النفسي والوجداني للمنفى القسري، وكيف يعيد تشكيل مفهوم الانتماء، لا سيما حين ينقطع الإنسان عن تاريخه وهويته الأصلية. يشكّل الانتماء والمنفى في هذه الرواية خلفية سردية وعنصرًا وجوديًا يتفاعل مع الشخصيات ويحكم خياراتها، مما يجعل الرواية نموذجًا فنيًا لتحليل تمزقات الهوية العائلية والفردية في المنفى.

إن المنفى الذي اختاره عباس هو منفى طوعي، إذ لم يفرض عليه بسبب حرب أو صراع سياسي، ولكن كان هروبا من مؤامرة حيكت ضده، أو هو هروب من مسؤولية لم يستطع تقلدها كما يجب. ولهذا لم يكن يستقر في مكان معين، خاصة وأنه كان يشتغل بحارا. غير أن هذا الوضع تغير مع تعرفه على مريم الفتاة المتبناة التي لا تعرف أصلها، وكأن عباس وجد شبيهه وما كان يتوف إليه من هروبه. إن مريم تعمل كالمرساة في حياة عباس الفوضوية التائهة، فهي من كبلت تنقلاته وأسفاره، وجعلته يجد المأوى الذي طالما تاق إليه، ومع ولادة هناء وجمال، زادت من تشبته بهذا الانتماء الجديد، إلا أنه ظل انتماءً هشا لأنه يقتات على الأسرار المكتومة والصفحات البيضاء في حياة عباس ومريم، كما سبق وذكرنا.

أما بالنسبة لأبناء الجيل الثاني من المهاجرين، الذين وجدوا أنفسهم في وطن ليس لهم، ومع ذلك فهم يحاولون الانتماء إليه قسرا، فإن المنفى يشكل لهم حالة من الانفصام الهوياتي؛ ذلك أن جمال وهناء لا ينتميان إلى وطن أبيهم عباس ولا ينتميان إلى الوطن الذي ولدا فيه. تمثل هناء تيار التمرد؛ إذ تغير اسمها إلى آنا لكي تنصهر في الثقافة البريطانية بشكل كلي، وقد نبع هذا التمرد من عدم امتلاكها مرجعية واضحة عن الأب الذي كان دائما يتهرب من الجواب عن أصوله، رغم محاصرتها له مرارا وتكرارا. أما جمال فهو يمثل الحياد الموضوعي خاصة أنه يحاول فهم المنفى والانتماء الهوياتي من خلال أطروحة الدكتوراة التي اشتغل عليها، لذلك نجد أن الحيز المخصص له في الرواية ضعيف نوعا ما مقارنة مع باقي الشخصيات الرئيسية، وهذا يدل على أن الحياد لا يخدم قضية المنفى التي يعاني منها المهاجرون الأفارقة في الديار الأوروبية.

لكن يعود الانتماء والتصالح مع الأصول إلى مجراه، حين يبدأ عباس ومريم بسرد قصصهما، حيث تبدأ عملية تفكيك الصمت ومواجهة الأخطاء، ومحاولة لإعادة وصل ما انقطع بين الماضي والحاضر. إن "الهدية الأخيرة" التي يمنحانها لابنيهما، هي الذاكرة، الحقيقة، والهوية التي حجباها عنهما طويلاً. وهكذا يتحوّل الاعتراف إلى فعل لاستعادة الانتماء، ليس فقط للذات، بل للعائلة أيضًا.

3-  العلاقات العائلية المتوترة بين الصمت والاعتراف

يعد الصمت المحور الأساسي الذي تتفرع منه أزمة العلاقات بين أفراد العائلة، لا يروي عباس لزوجته مريم ولا لأبنائه آنا وجمال شيئًا عن ماضيه في زنجبار، لا عن طفولته، ولا عن هجرته، ولا عن أسرته الأولى. يتخذ الصمت طابعًا دفاعيًا في البداية، لكنه سرعان ما يتحوّل إلى عبء جماعي؛ فغياب السرد المشترك بين أفراد العائلة يحول الحياة العائلية إلى سلسلة من الافتراضات والظنون والشكوك، ويخلق مسافة عاطفية بين الأفراد. هنا يتجلى الصمت لا باعتباره خيارا فرديا، بل باعتباره فعلا مؤذٍيا يفتّت بنية التواصل الأسري. إن الهوية العائلية تبنى عبر الذاكرة المشتركة والسرد المتداول، لكن في الهدية الأخيرة، لا يوجد سرد مؤسس يجمع العائلة حول تاريخ أو أصل أو قصة، فعباس يخفي أصله وهويته، ومريم تجهل أصولها ولا تريد تذكر محاولة اغتصابها. وهو ما أثر عليهما وجعلهما يشعران أن كل واحد منهما مرتبط بشخص غريب. أما آنا وجمال فهما يعيشان حالة من الضياع الهوياتي، لأنهما لا يعرفان شيئًا عن بلدهما الأصلي، ولا يشعران بانتماء كامل إلى بريطانيا، والنتيجة أزمة وجودية مزدوجة: أزمة هوية شخصية، وأزمة انتماء داخل الأسرة.

يؤدي ما سبق إلى مواجهات مباشرة في بعض الأحيان، خاصة بين عباس وآنا التي سئمت العيش وسط الأسرار والانتماء إلى الهوية الدخيلة، وهذا ما دفعها إلى مغادرة بيت العائلة مبكرا، وتغيير اسمها من هناء إلى آنا، وتجربة علاقات غرامية متعددة. كل هذه الأفعال التي قامت بها تشير إلى توثر العلاقة بينها وبين أسرتها، وكرهها لكونها من اللاجئين الأفارقة.

رغم نهاية الرواية بالتصالح مع الهوية والماضي، إلا أنها لا تقدم أجوبة تشفي الغليل، فقد ظل مصير الزوجة والابن المتخلى عنهما في زنجبار مجهولا، كما أن أصل مريم لم يتضح كثيرا، فرغم اقترابها من معرفة هوية عائلتها البيولوجية إلا أن أسماءهم ومصيرهم ظل مجهولا أيضا. وهو ما يفضي في النهاية إلى فتح المصراع على تأويلات عدة حول مصير الشخصيات الرئيسية والعلاقات بينها بعد موت عباس خاصة.

4- الإرث الثقافي والاستعمار

تندرج رواية "الهدية الأخيرة" ضمن مشروع عبد الرزاق قرنح الروائي الذي يعاين آثار الاستعمار والهجرة والمنفى على الفرد والمجتمع. وتطرح الرواية، بشكل غير مباشر، سؤال الإرث الثقافي في ظل ما بعد التجربة الاستعمارية، مركزةً على الصراع بين الهوية الأصلية ومقتضيات الاندماج في مجتمع غربي. فالبطل لا يعيش فقط اغترابًا مكانيًا، بل يعيش اغترابًا ثقافيًا ناجمًا عن قطيعة مزدوجة؛ قطيعة مع ماضيه الشخصي، وقطيعة مع التاريخ الثقافي الجماعي الذي ينتمي إليه.

تُبرز الرواية كيف أن الهويات الثقافية الأصلية تُقمع في سياق الهجرة إلى المجتمعات الغربية. ينتمي عباس إلى زنجبار، ذات الإرث الثقافي المتعدد والمنفتح على الهند والساحل الشرقي لإفريقيا والعالم العربي، لكنه حين يصل إلى بريطانيا يختار الصمت وعدم الحديث عن ماضيه. وهنا نلمح "التهجين الثقافي" (Cultural Hybridity) الذي لا يتحقق إلا عبر اعتراف الذات بتاريخها وسرديتها. لكن عباس، تحت ضغط التجربة الاستعمارية ووصمة الانتماء إلى العالم الثالث، يختار الكتمان، ما يؤدي إلى شرخ في علاقته مع زوجته وأبنائه. أما العائلة ككل فإنها تتعرض لتجربة "المواطنة المنقوصة"، ويُنظر إلى أفرادها باعتبارهم مهاجرين لا مواطنين، وهو ما يتوافق مع مفهوم "التمثيل الاستعماري" (Colonial Representation) الذي يُقصي الآخر ويضعه في موقع التابع، هذا الانقسام ينعكس على الأبناء الذين ينشؤون في مجتمع لا يمنحهم اعترافًا كاملاً، ويمنعهم في الوقت نفسه من العودة إلى أصل لا يعرفونه.

يعاني كل من آنا وجمال من ضياع الهوية لأن الأب لم ينقل إليهما ثقافته، بل تركهما في فراغ بيني، أو في "الموقع الثالث" (Third Space)، أي ذلك الحيز بين الثقافتين، حيث يُنتج الفرد ذاتًا هجينة، لكنها غير مستقرة وبدون جذور واضحة. يعاني جمال من القلق الوجودي، ويشعر بالانفصال عن ذاته ويمارس سياسة الحياد فيما يخص اغترابه داخل مجتمع لن يتقبله، أما آنا فتبدو حائرة بين تصورها لذاتها باعتبارها امرأة بريطانية من جهة، وشعورها بالخسارة العاطفية نتيجة لغياب الوالد عن سردية حياتها من جهة أخرى. إن غياب الإرث الثقافي المحكي يجعل الأبناء يعانون من انفصام في الهوية، لا يمكن تجاوزه إلا عبر استرجاع ذلك الموروث من خلال الحكي والاعتراف المتأخر؛ حيث يبدأ عباس في نهاية الرواية بسرد ماضيه، ويمثل هذا السرد استعادة رمزية للإرث الثقافي، ومواجهة متأخرة مع تاريخ الاستعمار. فالسرد يصبح وسيلة لتحرير الذات، وإعادة نسج الروابط مع العائلة، وكأن الرواية تقول إن المقاومة الثقافية لا تتطلب عنفًا بل صدقًا واعترافًا بالهوية والتاريخ.

وهكذا تكشف رواية "الهدية الأخيرة" كيف أن الاستعمار لا ينتهي بانسحاب القوة المحتلة، بل يستمر في أشياء أخرى؛ في النفوس، وفي اللغة، وفي العلاقات العائلية، وحتى في الإرث الثقافي حين يُهمَل أو يُكبت، ويتحول إلى عبء وصمت يعوق تشكل الهوية. تقترح الرواية أن الاعتراف بالتاريخ الشخصي والجماعي هو السبيل الوحيد لمقاومة آثار الاستعمار، ولتحقيق توازن نفسي وعائلي داخل العالم ما بعد الكولونيالي. ففي هذه الرواية يقيم قرنح سردًا هادئًا وعميقًا عن ألم المنفى، وصراع الهوية، وشظايا الذاكرة والهوية، وهي في الآن ذاته دعوة إلى الاعتراف بالماضي، والتصالح مع الذات والجذور، معتبرا إياه شرطًا ضروريًا لتجاوز التفكك العائلي والضياع الثقافي في زمن ما بعد الاستعمار. إن ما تهديه إلينا الرواية ليس فقط قصة شخصية، بل مرآة لعالم مليء بالمهاجرين الذين يكتشفون أنهم بحاجة إلى ما هو أكثر من وطن بديل: بحاجة إلى قصةٍ تُروى، وهويةٍ يُعترف بها. إنها الهدية الأخيرة في نعش الهروب من الماضي، إنها دعوة صريحة لتقبل المصير.

***

محمد واحي - كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الخامس، الرباط.

....................

* عبد الرزاق قرنح، الهدية الأخيرة، دار أثر، 2024.

في نصه الشعري "مدينة تتنفس بخبز غائب"، نُشر في صحيفة المثقف بتاريخ 17 آب/أغسطس 2025، يقدم الشاعر مروان ياسين الدليمي رؤية حية ومعبرة عن الجوع والتجويع، ليس كحاجة جسدية فحسب، بل كقوة مؤثرة على الروح والوعي، وصراع مستمر بين الوحشية والصمود. يكتب الدليمي من تجربة مباشرة عاشها في مدينة الموصل، حيث شهد سنوات الحصار والمعاناة، ما يمنحه مصداقية فريدة في نقل الألم الإنساني ومعايشة الكوارث، قبل أن يحولها إلى شعر يحمل أبعادًا سياسية، رمزية، وإنسانية في آن واحد.

الجوع في الأدب؟ غالبًا ما صُوّر كقوة مدمرة، كحالة تجرد الإنسان من كرامته وحرية إرادته. تجارب تاريخية مثل المجاعات التي فرضها النظام الستاليني في أوكرانيا (الهولودومور) أو حصار ستالينغراد على يد النازيين، أو حتى المجاعات التي عاشت فيها القرى والمُدن المعترضة في العالم. خلال صراعات مختلفة، توضح كيف يمكن للتجويع أن يصبح أداة لإخضاع الشعوب وكسر مقاومتها. وهنا يتقاطع الشاعر مع رؤية المفكرة هانا أرندت، التي ترى أن التجويع ليس فقط لإضعاف الجسد، بل لإذلال الروح وكسر إرادة البشر: "التجويع هو أداة لإخضاع البشر، ليس فقط لإضعاف أجسادهم، بل لإخضاع أرواحهم".

لكن مروان يذهب أبعد من البعد السياسي للتجويع، ليمنح الجوع بعدًا إنسانيًا وشاعريًا، حيث يصبح حيًا، يتنقل في الشوارع مثل حيوان شفاف، يعزف على وتر خفي، ويترك أثره على الأرصفة والأحياء المُدمرة. في هذه الصورة، يتحول الجوع من مجرد أداة لإخضاع الناس إلى كائن حيّ يراقب المدينة وسكانها، وهو تصوير أدبي يعكس إدراك الشاعر العميق لمعاناة البشر من الداخل، كما لو أن المدينة نفسها تعيش هذا الغياب وتتنفسه، فتتحول غزة إلى كائن حي قادر على الصمود رغم الظلام والجوع، وهو ما يتجلى في عبارة "غزة، مدينة تتنفس بخبز غائب".

الرمزية في النص واضحة: السماء التي تتحول إلى "عين زرقاء مملوءة بالحجارة" لا تراقب المدينة فحسب، بل تشهد على ألمها وصمودها، صامتة لكنها حاضرة. هذه الصور، واللغة الغنية بالحواس، مثل "تلعق الأرصفة الباردة" أو "تضع الشمس في يدها"، تمنح القارئ إحساسًا حيًا بالجوع والمعاناة، وتجعل المدينة والإنسان جزءًا من شبكة متكاملة من الرموز والشعرية. المفارقات التي يخلقها النص بين الحياة والموت، بين الضحك والخراب، بين الغيمة التي تسقي الوردة والأرض التي ترفع رأسها وسط الركام، تضيف بعدًا فلسفيًا عميقًا، يطرح سؤالًا وجوديًا عن قدرة الإنسان على صنع الأمل وسط الفقدان والحرمان.

الأسلوب الشعري عند الدليمي يعتمد على الإيقاع المتقطع والفواصل القصيرة، مع تكرار الكلمات والمقاطع، مما يخلق إحساسًا بالمراقبة والتأمل الشخصي. كما يبرز النص قدرة الإنسان على الصمود، فقد يصف الجوع بأنه أقوى من السلاح، لكنه لا يستطيع أن يسرق الأغنية أو الابتسامة أو الإرادة. هنا يتحول الجوع من مجرد أداة للقهر إلى رمز مزدوج: قوة مدمرة، ومرآة لصمود الإنسان وإبداعه.

تجربة الشاعر الشخصية تضيف قوة إضافية للنص؛ فالدليمي لم يكتب عن الجوع من مسافة آمنة، بل عاش سنوات الحصار في الموصل والعراق، وكان شاهداً على صدمات الحرب والتجويع اليومي. هذا الواقع المباشر أعطى نصه عمقًا وجدانيًا لمجرد أن يحكي عن غزة، مدينة تتعرض للحصار والمعاناة، حيث يصبح الكتابة فعلًا إنسانيًا يتجاوز الإبلاغ ليصبح شهادة على الصمود والحياة وسط القسوة.

في الختام، ينجح نص "مدينة تتنفس بخبز غائب" في تقديم الجوع والتجويع ككائن حي يمتد أثره على الروح والمدينة، ويجمع بين الشعرية، والرمزية، والبعد السياسي، والإنساني. النص يجعل من تجربة الفرد والمجتمع نافذة لفهم أعمق لمعنى الصمود وسط الوحشية، ويجعل من الكلمات مساحة للحياة والابتسامة والأمل، رغم الغياب الدائم للخبز، وكأن المدينة نفسها تصرخ في وجدان القارئ عن حقوق الإنسان وكرامته، وتعلن أن الحياة، مهما اشتدت الوحشية، قادرة على أن تستمر.

***

بولص آدم

..................

للاطلاع على قصيدة: مروان ياسين الدليمي: مدينةٌ تتنفس بخبزٍ غائب

https://almothaqaf.org/nesos/982907

فيديريكو غارسيا لوركا شاعر إسباني متميز قتله الحرس الأسود الفاشي عام 1936 وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في غرناطة آوائل الحرب الأهلية (1936 – 1939) التي قاد الثورة المضادة فيها الجنرال فرانكو إذ نجح في عبور مضيق جبل طارق من جهة المغرب يقود أربع فرق عسكرية وكان يقول لديَّ هناك داخل إسبانيا طابور خامس. من فرانكو جاء هذا المصطلح الذي أصبح شهيراً في عالمي السياسة والحرب. كان لوركا محسوباً على اليسار السياسي وكان معادياً للدكتاتورية. أشهر أعماله مسرحية " عُرُس الدم ". تميّز بطريقة جديدة في كتابة الشعر تمتزج فيها رمزية وسوريالية شعراء عشرينيات القرن الماضي الفرنسيين المعروفين مع أسلوب كتابة الحكايات التراثية الشعبية الأندلسية. كما كان له هوى خاصاً بتراث وأغاني غجر الأندلس.

كتب عن لوركا ثلاثة من الشعراء العرب المعاصرين وهم حسب أقدمية تواريخ كتابتهم لقصائدهم الشاعر العراقي المرحوم بدر شاكر السياب والمرحوم عبد الوهاب البياتي (عراقي) وأخيراً الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ينتمي هؤلاء الشعراء الثلاثة من حيث الشكل (الظاهر) إلى مدرسة كتابة الشعر بأسلوب التفعيلة أو ما يسمى بالشعر الحر حاملين طبائع ما يحمل هذا الشكل من حسنات وعورات قسمةً مشتركة فيما بينهم جميعاً. لكنهم يمثلون ثلاث مدارس متباينة في أساليب التعبير عن المضمون (الباطن). إذ لكل منهم عالمه الخاص وروحه المتميز وثقافته الشخصية وعمق (غاطس) شاعريته ثم قوة المحفز والدافع للكتابة حول هذا الموضوع.

لم يكتب الشاعر السوري أدونيس عن لوركا أبداً، أولم أجد في ما لديَّ من مجموعاته الشعرية شيئاً من ذلك. كذلك لم يكتب نزار قباني رغم أنه كتب شعراً كثيراً حول نساء الأندلس وغرناطة والحمراء ومدريد وآخر أمير حكم غرناطة.

ما الذي أغرى هؤلاء الشعراء في أنْ يكتبوا مراثيَ أو سواها في أو عن هذا الشاعر الإسباني؟ ما الذي يجمعه بهم أو يجمعهم به؟ ما هي أوجه الشبه أو القواسم المشتركة فيما بينهم سواء من حيث السيرة الذاتية أو المنهج السياسي أو أساليب وتقنيات كتابة أشعارهم؟ أسئلة كثيرة مُعقدة سأحاول أن أجد لها حلولاً او أجوبةً مناسبة بدراسة ثم تحليل وإستقراء أشعار هؤلاء الشعراء الثلاثة لعلني أُوّفقُ في بلوغ ما أصبو ويصبو القاريء إليه.

بدر شاكر السياب

(ديوان بدر شاكر السياب/ دار العودة، بيروت 1971)

غارسيا لوركا

كتب السياب قصيدة " غارسيا لوركا " ونشرها ربما لأول مرة في ديوانه " أُنشودة المطر " فجاءت كأنها مرآة تعكس أجواء عالم المطر السيابي الرمزي. نقرأ فيها المطر وما يرافق المطر من طوفان ثم الأشرعة وزوارق الأنهار والمغامر المكتشف كولومبس يمخر العباب. ثم نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام تشنجات وتوتر أعصاب السياب الشديد حين يلتحم مع ظواهر الطبيعة القاسية إلتحاماً كما يلتحم المعدن بالمعدن في كل سطر من أسطر القصيدة العشرين. لكأنما يجبر الطبيعة أن تشاركه عالمه الشعري ستاراً مباشراً مرةً يفهمه القاريء بيسرٍ، أو رمزاً أو صورةً معقدة تضطر القاريء أن يعمل فكره وأن يقلّب الأمر وأن يجد التأويلات المناسبة التي قد لا تُرضي الشاعر. القاريء شيء والشاعر شيء آخر. لماذا يلتجيء السياب إلى ظواهر الطبيعة الكونية الشرسة والعنيفة؟ هل يجد فيها متنفساً وتعويضاً عما يعاني في داخله من ضعف وخوف ومرض ووهن؟ لقد وظّفَ التنور والنار والجحيم والفوران والطوفان والشرر واللظى والقدح والمُدية (مُدى) والحجر والفعل مزّق واللون الأحمر ثم الدم (النجيع). ثلاث عشرة مفردة تدل على العنف والقسوة والتحدي إستخدمها السياب في هذه القصيدة القصيرة.

خلافاً للبياتي ودرويش،لم يذكر السياب في قصيدته إسم لوركا. كما أنه لم يذكر غرناطة ولا مدريد ولا إسبانيا. بلى، ذكر إسم العَلَم كولومبس فقط في معرض مقارنة شراع سفينته مع شراع زورق طفل في نهر. لنقرأ مع السياب:

في قلبه تنورْ

النارُ فيه تُطعمُ الجياعْ

والماءُ من جحيمهِ يفورْ:

طوفانهُ يُطهّرُ الأرضَ من الشرورْ

ومقلتاهُ تنسجانِ من لظىً شراعْ

تجمعان من مغازل المطرْ

خيوطه، ومن عيونٍ تقدحُ الشررْ

ومن ثُديِّ الأمهاتِ ساعةَ الرضاعْ

ومن مُدىً تسيلُ منها لذّةُ الثمرْ

ومن مُدىً للقابلاتِ تقطعُ السُرَرْ

ومن مُدى الغُزاةِ وهي تمضغُ الشعاعْ

شراعهَ النديَّ كالقمرْ

شراعهَ القويَّ كالحجرْ

شراعهَ السريعَ مثلَ لمحةِ البصرْ

شراعهَ الأخضرَ كالربيعْ

الأحمرَ الخضيبَ من نجيعْ

كأنه زورقُ طفلٍ مزّقَ الكتابْ

يملأُ مما فيهِ بالزوارق النهَرْ

كأنه شراعُ كولمبسَ في العُبابْ

كأنه القدرْ.

لوركا إذن وحسب رؤية السياب كالمسيح يطعم من جسده الجياع خبزاً (والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم. من يأكل جسدي ويشربُ دمي فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم الآخر. إنجيل يوحنا/ 51- 54). قلبه تنور أو فرن عصري لشواء الخبز. في قلب الشاعر القتيل نارٌ وفيه جحيم كجحيم الشاعر الإيطالي دانتي يفور منه الماء طوفاناً كطوفان نوح. جمع السياب الضدين في لوركا: النار والماء. النار تطعم جياع البشر خبزاً والطوفان يطهر نفوسهم من الشرور. حتى الآن كلام الشاعر واضح ليس فيه أي تعقيد. بعد ذلك مباشرةً يأتي التعقيد وإدغام الأفكار والمعاني والتقديم والتأخير فيسرح الشاعر مع شتى الخواطر والفكر. عيون لوركا تنسج شراعاً من لظى. وتجمع خيوط هذا الشراع من قطرات المطر المتساقط ومن … ومن… بحيث أنَّ السياب يتيه ويجعلنا معه نتيه في سياحة غير منضبطة ويسرح في تجوال يجمع فيه أحوالاً لا رابط بينها يربطها. كيف يجمع الشاعر خيوط شراع من أثداء الأمهات الرواضع ومن سكاكين قطع الفاكهة ومشارط القابلات لقطع الحبل السري ومن مُدى الغزاة التي تمضغ الشعاع؟

بعد هذا التطواف الذي يشبه كثيراً سياحة الماشي في نومه ينتبه الشاعر فيصحو متذكراً عيون لوركا التي تنسج شراعاً. وحين يؤوب إلى موضوع الشراع يسوح كرّةً أخرى فيسرف قليلاً في وصف هذا الشراع العجيب، فهو ندي كالقمر وقوي كالحجر وسريع مثل لمح البصر، مرة أخضر كالربيع وأخرى أحمرَ من نجيع. وحين يحس الشاعر بالضنى بعد كل ما بذل من طاقة ومن جهد وبعد أن تتقطع أنفاسه اللاهثة في صدره العليل المُتعب يغير الجو ويبدّل ذبذبة فيضه الروحي فينتقل إلى عالم الطفولة واللهو مع زوارق الورق تطفو على سطوح الماء الذي لا يفارق أشعاره. ثم يجرّه ماءُ النهر بوعي أو بدونه إلى عالم الماء الأكبر: عُباب البحار ومخاطر الخوض في هذا العالم.

هل جمع لوركا فيه كل هذه المتناقضات؟ لا أحد يعرف الجواب. كان يحب المسرح والغجر وكان طبعُ غريزته الجنسية منحرفاً وكان ثوريا لكنه لم يحمل السلاح دفاعاً عن الجمهورية الديمقراطية ضد كتائب فرانكو. كيف جمع السيّابُ النارَ والطوفانَ والشررَ وسكاكين الغزاة مع حليب رضاعة الأطفال ولذة الفاكهة ونداوة القمر وخضرة الربيع وزوارق الطفولة البريئة؟ جمع كل هذه الأضداد في عشرين سطراً. هذا هو السياب الشاعر – الإنسان كما هو بعالميه الباطن والظاهر، القبيح والجميل، المتدني والنبيل السامي، العنيف والهاديء المسالم. لم تترك هذه القصيدة في نفسي إنطباعاً يقول إنَّ السياب (يتشبّهُ) بلوركا أو يسقطه على نفسه أو إنه يتمنى أن يموت يوماً كما مات لوركا شهيداً يسارياً مناضلاً من أجل الحرية. كان لوركا إنساناً عادياً وشاعراً مرموقاً وما كان مسيحاً ولا كان إلهاً يُطعمُ البشرَ خبزاً ويطهرهم من آثامهم وأن عيونه تجبلُ من حليب الأمهات خيوطاً تنسجها شراعاً ندياً قوياً سريعاً أخضرَ لزوارق الأطفال الورقية ثم لشراع سفينة كولومبوس. قد نفهم فكرة الشراع رمزاً وعلماً لقيادة جماهير الناس نحو هدف محدد، أو رمزاً لحرية نشر قلوع السفن والإبحار في عرض المياه المجهولة تحدياً للأقدار وسعياً لإكتشاف المجهول. هو مرة هكذا، لكنه سرعان ما ينكص ويرتد مُغيّراً طبيعته فيتحول إلى مجرد شراع لسفائن الطفولة الورقية حيث لا مغامرة في مجهول ولا محاولات إكتشاف قارات جديدة.

ما الذي حمل السياب على أن يكتب هذه القصيدة؟ ربما لأنه وجد قبله من بين الشعراء الإنجليز على وجه الخصوص من كتب في هذا الموضوع. الإبداع وعشق الحرية ثم الشهادة، تلكم أمور تغري الشعراء في أن يخوضوا في لججها.

القصيدة، في نظري، مبالغات كاريكاتورية وتراكيب وبُنى فكرية هندسها الشاعر تجريداً وفذلكات لفظية طنّانة محكمة الرصف والصف وصور تم تحميضها وطبعها في رأس السياب لا في أعماق روحه. لم أجد فيها شيئاً من (روح) السياب التي خصّها به الناقد فوزي كريم وتكلّم عنها مطوّلاً وبإسهاب وطول نفس يُحسد عليه. (ثياب الإمبراطور/ دار المدى للثقافة والنشر. دمشق 2000)

عبد الوهاب البياتي

(ديوان عبد الوهاب البياتي/ المجلد الثاني، دار العودة، بيروت الطبعة الرابعة 1990)

مراثي لوركا

هذا هو عنوان قصيدة البياتي في لوركا، وهي تتألف من ستة مقاطع شغلت ست صفحات من الديوان. كالسياب، يتخذ البياتي في نظمه إيقاع التفعيلة ويُسكّن آواخر السطور ويُضطرُ أحياناً إلى إسقاط بعض الحروف حتى يحافظ على نغمة الإيقاع. جرى البياتي هنا مجرى عادته الطاغية على أغلب شعره حيث درجَ على أن يمزج فيه الحقيقة بخيال الخرافات والأساطير وحكايا جداتنا وهن يسامرن الأطفال قبل ساعة النوم. وهو في شعره لا يسرف ولا يغالي في الإتكاء على ظواهر الطبيعة أو التورط في إستغلال تداعيات ومدلولات هذه الظواهر. لكنه من الجانب الآخر يُفرِط في ذكر أسماء الأعلام والمدن والبلدان التي زارها أو قرأ عنها. كما أنه لا يجد حرجاً في تكرير بعض مفردات الشتيمة والسباب المُقذع مثل العوران والخصيان والمخانيث وما إلى ذلك. إنه كالمتنبي هجّاء ممتاز.

كالسيّاب، لم يذكر البياتي في قصيدته إسم لوركا لكنه ذكر إسبانيا مرةً واحدةً وذكر غرناطة ثلاث مرات، علماً أنه كتب قصيدتين أُخريين الأولى بإسم " الموت في غرناطة " في حين حملت الثانية عنوان " النور يأتي من غرناطة ". ذكر في الأولى أسماء عائشة وشهيد كربلاء الحسين بن علي والعذراء ثم لوركا الذي قال عنه (وصاح في غرناطةٍ معلّمُ الصبيان… لوركا يموتُ، ماتْ… أعدمه الفاشستُ في الليلِ على الفراتْ)... الأمر الذي لم يقله عنه في مراثيه. في هذه القصيدة رسم البياتي وهيأَ المناخ المناسب لنهر الفرات أن يكون مناسبةً ومكاناً للجمع بين الحسين ولوركا. سقطا شهيدين على ضفاف هذا النهر !! أما في القصيدة الثانية فقد ذكر غار حِراء ودار وحيداً حول الله ثم ذكر غرناطة وقصر الحمراء دون أن يذكر إسم لوركا.

إذالم يتطرق السياب في قصيدته إلى ذكر الحيوان وعالم الحيوان فإنَّ البياتي ذكر أسماء عشرة من الحيوانات هي الثور والأيّل والخنزير والنسر والدود والجواد والخيول والعنقاء والفيران والببغاء والزواحف. كما أنه قارب عالم المرأة فذكرها بأجمل النعوت من قبيل:

المليكة والأم والغادة والأميرة وعشيقة السلطان ثم الإسم الأثير لديه " عائشة "، عائشة عمر الخيام.

أستطيع أن أُسمّي المقطع الأول الذي شغل أقل من صفحة " مقطع الموت "… فقد ذكر البياتي الموتَ أربع مرات، علماً أنه يتكون من ثلاثة عشر سطراً فقط. وإنه لرقمٌ مشؤوم!

وبالمناسبة… تتردد كلمات الموت والنور والنار بكثرة في أشعار البياتي، وتلك ظاهرة تستحق المتابعة والدراسة. ماذا عسانا واجدين في مقطع الموت إنْ قمنا بسياحةٍ خلال سطوره؟

(يبقرُ بطنَ الأيّل الخنزيرْ

يموتُ " أنكيدو " على السريرْ

مبتئساً حزينْ

كما تموتُ دودةٌ في الطينْ)

*

(لن تجدَ الضوءَ ولا الحياةْ

فهذه الطبيعةُ الحسناءْ

قدّرت الموتَ على البشرْ

وإستأثرت بالشعلة الحيّةِ في تعاقب الفصولْ

ماذا لموتي آهِ يا مليكتي أقولْ؟)

الخنزير يقتل حيواناً مسالماً جميلاً (إعتداء)، ويموت أنكيدو، صديقُ ونِدُّ جلجامش في الملحمة السومرية الشهيرة، موتاً سريرياً كما يقول الأطباء. البياتي يضعنا في أجواء هذه الملحمة الأسطورية مستعيراً جملة كاملة منها (قدّرت الموت على البشر) كما جاءت محفورةً في ألواح الطين أو في الصخر في مدينة أُوروك (الوركاء) جنوب العراق. قالت صاحبة الحانة " سيدوري " الساكنة عند ساحل البحر لجلجامش:

(إلى أين تسعى يا جلجامش

إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد

حينما خلقت الآلهةُ العظامُ البشرَ

قدّرت الموتَ على البشرية

وإستأثرت هي بالحياة).

(طه باقر/ ملحمة جلجامش، الصفحة 142. دار المدى للثقافة والنشر. بيروت 2001).

أنكيدو هذا قتل قبل موته مع صديقه جلجامش الثور السماوي الذي طلبته عشتار من أبيها " آنو " كي يقتل جلجامش ويهلكه لأنه أهانها وثلم شرفها.

إلتفاتة بارعة إذ سيعود البياتي لنوع آخر من الثيران، ثيران المصارعة الإسبانية ما دام الكلام عن شاعر إسباني قتيل، ومصير ثيران المصارعة ليس إلاّ القتل كما هو معروف، إمّا قاتلٌ أو مقتولٌ. الثور السماوي قتله ملك جبّار غاشم. كذلك لوركا قتله جنرال دكتاتور فاشي قاد إنقلاباً أسودَ أغرق إسبانيا بالدماء. أنكيدو وجلجامش قتلا حيواناً مرسلاً من السماء وفرانكو قتل إنساناً شاعراً قريباً من السماء. أليس الشعراء أنبياءً؟

نعمْ، إنها كذلك لإلتفاتة شديدة البراعة. أراد البياتي أن يقول – كما قد أحسب – أن مصارعة الثيران عادة أو هواية أو رياضة أو جبلّة قديمة مارسها الإنسان في سومر جنوبي العراق قبل خمسة آلاف عام. إذا لم يقتل الإنسانُ أخاه الإنسانَ (قابيلُ قتل أخاه هابيل) فلا بأس أو لا مندوحة من قتل حيوان بريء. المهم هو سفح الدم والغرام العنيف برؤية منظر هذا الدم المسفوح. كان الكنعانيون وبعض الشعوب الأخرى في فلسطين يذبحون أطفالهم البكور تقدمةً لآلهتم فتعلّم إبراهيم الخليل منهم وحذا حذوهم حين أقام بجوارهم فعزم على ذبح ولده (إسماعيل أو إسحق) غير أن الرب قدّم له كبشاً بديلاً عن إبنه… كما تقول التوراة وحسبما ورد في القرآن الكريم (فلمّا بلغَ معه السعيَ قال يا بُنيَّ إني أرى في المنامِ أني أذبحُكَ فأنظرْ ماذا ترى قال يا أبتِ اْفعلْ ما تؤمرُ بهِ ستجدُني إنْ شاءَ اللهُ من الصابرينْ. فلمّا أسلما وتلّهُ للجبينْ. ونادينا أنْ يا إبراهيمُ. قد صدّقتَ الرؤيا إنّا كذلكَ نَجزي المُحسنينْ. إنَّ هذا لهوَ البلاءُ المُبينْ. وفدّيناهُ بذِبحٍ عظيمْ. سورة الصافّات / الآيات 102 – 107).

يخصص البياتي المقطع الثاني للكلام عن مدينة غرناطة، مسقط رأس لوركا. يُشير إليها دون أن يسميها:

(مدينةٌ مسحورةْ

قامت على نهرٍ من الفضةِ والليمونْ

لا يولدُ الإنسانُ في أبوابها الألف ولا يموتْ

يحيطها سورٌ من الذهبْ

تحرسها من الرياحِ غابةُ الزيتونْ

*

صحتُ على أبوابها الألف ولكنَّ النُعاسْ عَقَدَ الأجفانْ

وأغرقَ المدينةَ المسحورةْ

بالدمِ والدخانْ).

في هذا المقطع تختلط المدائن في لوحات البياتي (وهذا دأبه أبداً) فقرطبة لوركا تغدو أُوروك، المدينة التي قضى أنكيدو فيها نحبه. وما دمنا في أُوروك فما المانع من أن يستعير الشاعر شيئاً من أجواء ملحمة جلجامش إياها؟ قال البياتي عن المدينة المسحورة:

(رأيتها والدودْ

يأكلُ وجهي وضريحي عَفِنٌ مسدودْ

قلتُ لأمّي الأرض: هل أعودْ؟

فضحكتْ ونفّضتْ عني رداء الدودْ)

هذا الدود الذي ذكره البياتي مرتين هو الدود الذي تجمّد على وجه أنكيدو بعد أن قضى نحبه. نقرأ على الصفحة 141 من الملحمة خطاب جلجامش عن أنكيدو:

(إنه أنكيدو صاحبي وخلّي الذي أحببته حبّاً جمّاً

لقد إنتهى إلى ما يصيرُ إليه البشرُ جميعاً

فبكيتهُ في المساءِ وفي النهارِ

ندبتهُ ستةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ

مُعللاً نفسي بأنه سيقومُ من كَثرةِ بكائي ونواحي

وإمتنعتُ عن تسليمهِ إلى القبرِ

أبقيتهُ ستةَ أيامٍ وسبعَ ليالٍ حتى تجمّدَ الدودُ على وجههِ).

ظلّ البياتي يحلم بعودة الأندلس إلى العرب فعاد أو أعاد في عالم الأحلام نفسه إلى المدينة المسحورة قرطبة (عُدتُ إليها يافعاً مبهورْ ، أعدو على ظهرِ جوادي الأخضرِ الخشب). لكنه حين أشرف على أبوابها وجدها غارقةً بالدم ودخان الحرائق.

لا أعرف متى كتب البياتي هذه القصيدة (وهي جزء من ديوان " الموت في الحياة ")، فالمدن والأسماء والشخصيات التأريخية تختلط في عوالمه ورؤاه الشعرية، أعني أنه ربما قصد بالجملة الشعرية الأخيرة (وأغرق المدينة المسحورة بالدم والدخان) مدينة عربية أخرى: بغداد الإنقلابات والتقلّبات أو بيروت الحروب الأهلية أو القاهرة أثناء حرب الأيام الستة في عام 1967 أو ربما سواها من المدن العربية. أفضل مثَلٍ على هذا التخليط الناجح أجده في إسراف البياتي في خلط إسم وشخصية عائشة وجعله يتنقل بين الحِقب والتواريخ والعصور والأزمنة ثم النساء. فمرّةً هي عشتار البابلية أو السومرية ومرة هي سمير أميس الآشورية أو ليلى ومرّةً أخرى هي واحدة من النساء اللواتي إلتقاهن في موسكو أو سواها من العواصم (في موسكو يفضّل إسم لارا وقد ورد مِراراً في أشعاره)، وقد تكون إحدى زوجات الفرعون خوفو، لكنها أولاً وآخراً ليست إلاّ عائشة عمرالخيام، زوجته أو حبيبته. في فكر البياتي فلسفة مؤداها أنّ المرأة هي حواء ثم هي إبنة حواء. والمرأة هي هي وإنْ بدّلت إسمها وتبدلت أدوارها في الحياة سواء أكانت كليوباترا المصرية أو الإمبراطورة

الروسية كاترينا أو الملكة البريطانية فيكتوريا أو إمرأة عاملة بسيطة…مهمتها الأساسية إعادة دورة الحياة بالإنجاب. إبنة الطبيعة تعيد الطبيعة البشرية بإستمرار، تلعب وتعيد دور الأم. ثم إذا كانت الأرض أمّاً فلِمَ لا تكون المدينة (أوروك أو قرطبة) أُمّاً؟ وقد قالها البياتي صريحةً (قلتُ لأمي الأرض: هل أعود؟). لقد فسّر مفسرو القرآن الكريم لفظة الأم التي وردت في الآية (ومن خفّت موازينه فأمهُ هاوية) بأنها تعني الأرض.

في المقطع الثالث تتحول غرناطة المدينة المسحورة إلى (غادة مضواع)، إلى سيدة فاتنة جميلة تلبس أقراط الأذنين وتتجمل وتتعطر (بماء ورد النار وقطرات مطر الأسحار). مدينة خيالية أو خرافية أو أُسطورية فهي مجازاً طيّارة ورقية يلهو بها الأطفال ترتفع في الفضاء مشدودة بخيط من نور، أي أنَّ الرب حاميها من ضعف آخر أُمرائها الشاب أبي عبد الله الصغير. غرناطة البراءة هذه كانت تتوقع أن تأتيها كتائب الحرس الأسود لتغرقها بدماء لوركا وغير لوركا من بقية أبنائها المدافعين عنها:

(تُشيرُ في خوفٍ إلى كثبانها السوداءْ

فمن هناك الأخوةُ الأعداءْ

جاؤوا على ظهرِ خيولِ الموتْ

وأغرقوا بالدمِ هذا البيتْ).

في المقطع الرابع ينسى البياتي غرناطة المدينة المسحورة فينصرف مأخوذاً إلى وصف واحدٍ من مشاهد مصارعة الثيران المعروفة في إسبانيا. لقد سبق وأن مهّد الشاعر لذلك في المقطع الأول، فلقد ذكر أنكيدو قاتل الثور السماوي. في هذا المقطع نرى أنكيدو لا جسداً بارداً طريح فراش الموت بل إنساناً معدّاً إعداداً جيداً لمصارعة الثيران. لكن مع فارق جدَّ كبير: يطعن الفارسُ غريمَه البهيمة طعنةً غير قتّالة، لكنه هو، الفارس أنكيدو، من يخسر المبارزة في نهاية المطاف إذ يسقط قتيلاً مضرجاً بدمائه الساخنة. الثور يخور جريحاً في الساحة وسط تهريج جمهور المتفرجين. هل سقط الثور كالفارس المصارع قتيلاً؟ السطر الأخير في هذا المقطع لا يفصح عن ذلك صراحةً (والثورُ في الساحةِ مطعوناً بأعلى صوتهِ

يخور). فالفعل يخور قد يعني الخوَر (تخورقواه فيسقط على الأرض حيّاً لكنْ منهوك القوى أو أن يسقط ميتاً) وقد يعني الخُوار (خوار الثور، مثل عواء الكلب ومواء القطط…). في وسط هذا المقطع نقرأ (فمانِ أحمرانِ فاغرانْ) وهي إشارة واضحة تدل على سقوط كلٍّ من الفارس والثور الخصم قتلى.

هل يجوز لي أن أُطلق على هذا المقطع إسم (مشهد مصارعة الثيران)؟ وهل يجوز لي أنْ أقترح حذف هذا المقطع من مجمل القصيدة المكرّسة أصلاً للشاعر الفذ لوركا؟ أُرجّحُ بقاء المقطع كما هو، فلوركا إبن إسبانيا وإسبانيا أرض مصارعة الثيران العنيفة التي تسيل فيها دماء الثيران أو الفرسان أو كليهما أحياناً. أراد البياتي أن يقولَ إن بلداً كهذا وإن أرضاً كهذه وإنَّ شعباً كهذا مُهيأةٌ بطبيعتها لوقوع كارثة إنقلاب الردة الدموية التي وقعت عام 1936 وكان من أبرز ضحاياها الشاعر فيديريكو غارسيا لوركا. اللوحة تمثّلُ خلفيةً ممتازة وتمهيداً لما وقع وكان البياتي بحق بارعاً في رسم صور مشهد مصارعة الثيران. يُخيل لي أن البياتي أفاد كثيراً من رسوم لوحة الرسّام الإسباني بيكاسو الشهيرة (غيورنيكا) التي خلّد فيها بالأسود والأبيض مأساة مدينة غيورنيكا التي دمرتها الطائرات الألمانية خلال الحرب الأهلية إياها التي أشعل فرانكو فتيل حرائقها. لقد أعان بذلك هتلر قرينه الجنرال فرانكو. في هذه اللوحة يقف ببرود ثور كبير مثل ثيران المصارعة كأنه خرج لتوّهِ منتصراً

وسط وضعٍ متوتر مشحون بأجواء الموت والخراب والدمار. سيف مكسور وأصابع مقطوعة ورؤوس مشوّهة وأم تحمل طفلاً تبحث عن الأمل والخلاص في بصيص من ضوءِ مصباحٍ معلّق فوق الرؤوس. هل هذا الثور البارد الأعصاب هو الجنرال الدموي فرانكو بعينه؟ الثور الذي فاز بمعركة الصراع وخرج منتصراً على شعب بأكمله بعد أن أغرقه بالدماء والموت والحرائق. أين مكان الشاعر لوركا في هذه اللوحة؟ أين لوركا صاحب مسرحية (عُرُس الدم)؟

نقرأ بعضاً مما جاء في مقطع مصارعة الثيران:

(ثورٌ من الحريرِ والقطيفة السوداءْ

يخورُ في الساحةِ والفارسُ لا يراهْ

قرناهُ في الهواءْ

يطاردانِ نجمةَ المساءْ

ويطعنان الفارسَ المسحورْ

ها هو ذا بسيفهِ المكسورْ

مُضرّجٌ بدمهِ في النورْ

فمانِ أحمرانِ فاغرانْ

شقائقُ النعمانْ

على سفوحِ جبلِ الخرافةْ

دمٌ على صفصافةْ

-    أيتها النافورةُ الحمراءْ

أسواقُ مدريدَ بلا حنّاءْ

فضمّخي يدَ التي أُحبها بهذه الدماءْ

يا صيحةَ المهرّجِ، الجمهورْ

ها هو ذا يموتْ

والثورُ في الساحةِ مطعوناً بأعلى صوتهِ يخورْ).

وبعد، ماذا عسانا واجدين في المقطعين الأخيرين الخامس والسادس؟ لا شيءَ يستحق الذكر… تقريباً. في الخامس إعادة لبعض ما جاء في المقطع الثالث: غرناطة الطفولة السعيدة أو الخضراء ثم الطيارة وخيط النور الذي يهتزُّ في السماء. خلاف ذلك فقد أقحم البياتي أموراً إقحاماً مصطنعاً لا لشيء إلاّ لتغيير الأجواء وتمتين نص المقطع (الخامس) وتحسين طعمه بإضافة بعض التوابل وتجميل صورته بالأصباغ والألوان إذ حوّلَ المدينة المسحورة غرناطة، الطيّارة التي سقطت في خنادق الأعداء، إلى جارية تباع في أسواق النخاسة لكنها الآن تحمل الأسم الأثير لديه: عائشة، ثم طائر العنقاء الذي يقوم حيّاً من رماده. ثم ينتقل إلى وطنه العراق (بابل) فيذكر أميرةً أسيرة فيه لعلها عشتار أو سمير أميس، الأميرة التي جاءوا بها من المدن الجبلية في الشمال وإبتنوا لها جنائن بابل المُعلّقة.

لقد خالف مطلع هذا المقطع منطق سياق القص في المقاطع السابقة حيث رأينا لوركا ميتاً كما أنكيدو، ورأيناه فارساً يصارع ثوراً فيسقط أمامه قتيلاً فكيف يعود إلى الحياة مقاتلاً حتى الموت من شارع لشارع ليزرع الأوغادُ الخناجرَ في جسمه لتسقط غرناطة بعيد ذلك مباشرةً؟ أهي أُسطورة طائر العنقاء الذي ذكره في هذا المقطع؟ يبقى الشاعر في لوركا ويبقى لوركا الشاعر حيّاً متجدداً أبداً والشهداء لا يموتون بل يبقون أحياءً يُرزقون؟

إذا كرر البياتي في المقطع الخامس بعض ما جاء في المقطع الثالث من هذه القصيدة فلماذ أعاد في قصيدة (ديك الجن) ثلاثة أبيات سبق وأن قالها في المقطع الأول من مراثي

لوركا؟ أعني قوله حرفياً:

(فهذه الطبيعةُ الحسناءْ

قدّرت الموتَ على البشرْ

واستأثرتْ بالشعلةِ الحيةِ في تعاقب الفصولْ).

إذا قتل الشاعر ديك الجن حبيبته وأحرق جثتها في ساعة سكرٍ وجبل من رمادها كأساً لشرابه فإن لوركا ما كان حبيباً ولا كان أثيراً لدى قاتله فرانكو كما هو معلوم. لم يُحرقْ جثمانُه ولا أحدَ يعرف أين تمَّ دفن جسده وتحت أية تربةٍ في غرناطة. إذن لا سبيلَ للمقارنة أو المقابلة بين الواقعتين. قصيدة (ديك الجن) جاءت في الديوان بعد مراثي لوركا مباشرةً.

مرّةً أخرى، نواجه فلسفة البياتي وإيمانه القوي الراسخ أنَّ بعض مظاهر الطبيعة ووقائع الحياة تتكرر بهذا الشكل أو بذاك. النتيجة واحدة وإنْ تعددت وتنوّعت الوسائل والتفصيلات. فكما أنَّ عائشة تبقى عائشة، المرأة حواء وإبنة حواء بصرف النظر عمّا تقوم به من أدوار. كذلك الموت، يبقى موتاً مهما تعددت سبل تنفيذه، سواء جاء نتيجة طعنة سيف أو خنجر أو جاء نتيجةً لطعنةٍ بقرن خنزيرٍ أو ثور أو بإطلاقة حرسٍ فاشيٍّ أسود أو بشظية قنبلة مدفع أو برصاصة عدو في إحدى جبهات القتال أو أن يموتَ الإنسانُ حتف أنفه في بيته على سرير نومه أو على سرير أحد المستشفيات. وعليه فإنّ الموت هو سرير واحد يضطجع عليه مناصفةً كلٌّ من لوركا القتيل وعشيقة ديك الجن القتيلة.

أفلم يقل شاعر مجهول:

ومن لم يمتْ بالسيفِ مات بغيرهِ

تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ

وقال أبو الطيب المتنبي:

فطعمُ الموتِ في أمرٍ حقيرٍ

كطعمِ الموتِ في أمرٍ عظيمِ

يتكلم البياتي في المقطع الأخير وهو السادس عن المدن التي أخلفت المدينة المسحورة غرناطة. إنه يضع المدن الأكثر سوءاً في مقابل المدن الأكثر نقاءً وجمالاً. فمدريد أضحت عاصمة الديكتاتور فرانكو بعد أن سقطت مدينة النور غرناطة. مدريد التي إنبطحت أمام جحافل الفاشيست أصبحت مدينة (الضرورة) التي تقرض الفئرانُ فيها الرجال الذين يتشوهون ويتلوثون لا محالةَ في أوساخ مثل هذه المدن وبما أتى به الطوفان من أعراف

وتقاليد لا تمتُّ بصلةٍ لأعراف وتقاليد مدينة النور المسحورة. لقد قابل المدينة الرأسمالية الجديدة مدريد برمزٍ لمدينة وحضارةٍ كانت تسير في الطريق لبناء الإشتراكية، وكان لوركا محسوباً على اليسار الإشتراكي.

في هذا المقطع يتلمس المرء خيوطاً ضعيفة متأثرة بما كتب الشاعر الإنجليزي توماس إليوت في قصيدته الشهيرة (الأرض الخراب) The Waste Land.

محمود درويش

(ديوان محمود درويش/ دار العودة، بيروت، الطبعة الثالثة 1971)

لوركا

لوركا هو عنوان قصيدة محمود درويش، كلمة واحدة فقط، كلمة بسيطة. القصيدة تنتشرُ على أربع صفحات صغيرة (نفس قياس صفحات ديوان السياب) جعل الشعر فيها على شكل رباعيات ذكر فيها مدريد مرتين ولوركا ثلاث مرات وكذا ذكر إسبانيا ثلاث مرّاتٍ. وكسابقيه الشاعرين إلتزم درويش إيقاع التفعيلة ودرج مثلهما على الوقوف على القوافي وآواخر الأبيات أو السطور إلاّ فيما ندر من الحالات.

هل ظلمتُ الرجل إذ وضعته في صف واحدٍ وعلى منصّة واحدة من حيث الإرتفاع عن مستوى الأرض مع السياب والبياتي لأقارن بين ما قال هو وما قال الشاعران الآخران حول موضوع واحد؟ الجواب كلاّ. الغريب – وما أكثر الغرائب في الحياة – إني كنت قبل أن أدرس قصيدتي السياب والبياتي شديدَ الإعجاب بقصيدة محمود درويش. نعم، وبقيتُ كذلك بعد أن فرغت من دراسة هاتين القصيدتين. وجدته يتخذ لنفسه في هذه القصيدة مكاناً لائقاً في ذات الحافلة التي يستقلها مع السياب والبياتي. ولكي نتفهم قصيدته جيداً علينا أن نفهم أنَّ ظروفه وتكوينه وثقافته تختلف بشكل جوهري عن ظروف وتكوين وثقافة الشاعرين الآخرين. ما كان عليلاً ومنبوذاً ومحُارباً في رزقه ولقمة أطفاله وقبيح الصورة كالسياب الذي كان أشدهم معاناة وأكثرهم بؤساً في حياته القصيرة. ولا كان فقيراً مُدقِعاً شديد التلوّن السياسي كالبياتي الذي ذاق الحالين في حياته الطويلة: المُرَّ في موسكو والحلو في القاهرة ومدريد وعمّان ثم دمشق حيث يرقد جثمانه تحت ثراها.

لقد رأى كلٌ منهم شيئاً من لوركا في نفسه أو رأى شيئاً من نفسه في لوركا. ثلاثتهم شعراء إنخرطوا بهذا الشكل أو ذاك في العمل السياسي وتحمّلوا جرّاء ذلك ما تحمّلوا من فصل من الوظائف وتشرّدٍ وحرمان ومنافٍ. لكن يظلُ درويش متميزاً بأمور كثيرة أخرى تباعد ما بينه وبينهما. فهو ربيب حيفا المُترف وشاعر فلسطين المبرِّز ومدلل الشعراء العرب والنخبة العربية المثقفة، وهوالمناضل الثابت من أجل فلسطين سياسةً وعقيدةً. لم ينقلبْ ولم يتلون ولم يتغير كما فعل صاحباه. عانى ما عانى في بيروت بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان. ثم أصبح بعد ذلك أحد الوجوه البارزة في منظمة التحرير الفلسطينية وسفيراً لفلسطين في باريس. كل هذه العوامل مجتمعةً تجعله مختلفاً عن صاحبيه في أسلوب التعامل مع موضوع تراجيدي معقد كموضوع مصرع لوركا. لا يقل عن ذلك أهميةً موضوع المرأة في أشعاره. فبيئته المنفتحة في حيفا وصداقاته المنوعة مع الجنس الناعم ثم إقامته الطويلة في بيروت ثم سفارته في باريس عاصمة الثورات والعطور والجمال والمتاحف والزهور والأناقة والترف الحضاري … كل هذه العوامل جعلت الشاعر دونما أدنى ريب مخلوقاً آخر يختلف جذرياً عن السياب الذي كان يشكو أبداً من الحرمان الجنسي وحين تزوج قرينته أم غيلان لم يعرف إمرأة أخرى سواها. وكذلك كان الأمر مع عبد الوهاب البياتي، فقد قضّى أعوام شبابه الباكر وأعوام الدراسة في دار المعلمين العالية دون أن يعرف طعم الحب أو الصداقة مع الجنس الآخر. في شعره نجد إشاراتٍ كثيرة عن الحب لكنها مجرد نظم وتلفيق (وشطحات صوفية) وبقايا أماني سنيِّ المراهقة. وحين إقترن بإبنة عمه أم علي لم يعرف إمرأةً سواها على الإطلاق. أردتُ أن أقول إنَّ روح وتربة وطينة محمود درويش ونشأته وبيئاته الرقيقة والناعمة والأرستقراطية أحياناً أعدّته لأن يكون شاعر رومانس وفتنة وجمال وغزل متميزاً ومتفوقاً على صاحبيه. هل من عجب حين نجد الشاعر يمزج هذه الأجواء المخملية بألفاظ العنف والخروج عن (الأتيكيت) الدبلوماسي الذي تعلّمه فيما بعد فأتقنه في باريس سفيراً لبلده فلسطين؟ نقرأ في قصيدته ألفاظاً مثل الدم والزلزال والإعصار والرياح والزئير وتطاير أحجار الشوارع والنظر الشزْر والأسياف والجرح والإعدام. عاش وعايش درويش كارثة إحتلال فلسطين ومحنة شعبه تحت الإحتلال والتفرقة والتعسف. ترك أو أُجبرَ على ترك وطنه ليجد نفسه بعد ذلك في بيروت محاطاً بالدماء والخراب والقصف العشوائي والموت اليومي أثناء الإجتياح الإسرائيلي عام 1982. هل كان الشاعر يتنبأ بما سيقع في لبنان ساعات كتابته لهذه القصيدة فأفرغ فيها تفاصيل نبؤته وإختلط فيها الماضي الجميل العريق بالمستقبل المظلم الأسود حيناً والأحمر دماً أحيانا؟ هذا ما حصل. نقرأ أغلبَ ما جاء في قصيدة " لوركا " لمحمود درويش:

(عفوَ زهرِ الدم يا لوركا وشمسٌ في يديكْ

وصليبٌ يرتدي نارَ قصيدةْ

أجملُ الفرسانِ في الليلِ يحجّون إليكْ

بشهيدٍ وشهيدةْ.

هكذا الشاعرُ زلزالٌ وإعصارُ مياهْ

ورياحٌ إنْ زأرْ

يهمسُ الشارع للشارعِ قد مرّت خطاهْ

فتطايرْ يا حجرْ.

هكذا الشاعرُ موسيقى وترتيلُ صلاهْ

ونسيمٌ إنْ هَمَسْ

يأخذُ الحسناءَ في لينِ إلهْ

وله الأقمارُ عُشٌّ إنْ جلسْ.

لم تزلْ إسبانيا أتعسَ أمِّ

أرخت الشعرَ على أكتافها

وعلى أغصانِ زيتونِ المساءِ المدلهمِّ

علّقتْ أسيافها.

عازفُ الجيتارِ في الليلِ يطوفُ الطُرُقاتْ

ويغني في الخفاءْ

وبإشعاركَ يا لوركا يلمُّ الصَدَقاتْ

من عيون البؤساءْ.

العيون السودُ في إسبانيا تنظرُ شَزّراً

وحديث الحبِ أبكمْ

يحفرُ الشاعرُ في كفيهِ قبراً

إنْ تكلّمْ.

نسيَ النسيانُ أنْ يمشي على ضوءِ دمكْ

فاكتستْ بالدمِّ بسماتُ القمرْ

أنبلُ الأسيافِ… حرفٌ من فمكْ

عن أناشيد الغجرْ

أجملُ البلدانِ إسبانيا، ولوركا يا صبايا

أجملُ الفتيانِ فيها

يا مغني النار وزّعْ للملايين شظايا

إننا من عابديها.

القصيدة واضحة تفصح بتواضع جمٍّ عن مضامينها. إنها خالية من بُنى السياب الفكرية المعقدة والتجريد والتضمين والتقديم والتأخير وشراع كولومبس. ولا نجد فيها إستطرادات البياتي وخلطه الأوراق المحكم وتهويماته الصوفية وإفراطه في الرمز والرجوع إلىالتأريخ القديم سائحاً وبحاراً ممتازاً. ليس فيها أنكيدو وعشتار وعائشة وأميرات بابل وصور مصارعة الثيران وقائمة الحيوانات الطويلة. لا شيءَ من ذلك فيها. إنها أُغنية تصدح بالنغم والإيقاعات التي تدخل النفس بسهولة وعفوية. يتكلم عن شاعر قتيل من خلال أجواء دينية مسيحية " الصليب " والتراتيل ثم يذكر الإله والموسيقى والحج والشهادة والصلاة والأقمار. أجواء وطقوس كنسية معروفة في البلدان المسيحية وكان لوركا مسيحياً في إسبانيا الكاثوليكية. لقد قاد فرانكو إنقلاب الردة الأسود بدعوى إنقاذ المسيحية الكاثوليكية من الإلحاد. ثم لا ينسى درويش وقد ذكر الموسيقى والتراتيل أن يذكر آلة العزف الإسبانية المشهورة " الجيتار" والغجر الذين يستخدمون هذه الآلة في غنائهم المرافق لرقصة " الفلامنكو " الأندلسية ذائعة الصيت. ثم تعود عروق محمود بالضرب على أوتار روحه وطبيعته الرومانسية فيذكر أجمل الفرسان والقمر – العُش والحسناء وحديث الحب وأجمل الفتيان وعطر زهر البرتقال. لم نجد هذه الأجواء الفارهة في قصيدة السياب لكن قد نجد القليل القليل جداً جداً منها في قصيدة البياتي.

أحسبُ أنَّ المحاكمة الأكثر عدلاً هي في مقارنة هذه القصيدة بالذات مع أشعار نزار قباني التي قالها عن إسبانيا والأندلس وغرناطة وقصر الحمراء وهي كثيرة في دواوين نزار. ليس لدي شك في أنَّ درويش قد درس جيداً وإستوعب أشعار نزار هذه وتمثلها وهضمها فتأثر بها عميقاً قبل أن يجلس ليكتب قصيدة " لوركا ". الرجل لا ينكر تأثره بباقي الشعراء، وتلكم فضيلة يُحمد عليها.

***

د. عدنان الظاهر

شباط (فبراير) 2004

يفتح نوافذ الوعي الجمعي للمصريين

لا تزال الأيام تمضي، متسارعة كالريح، تذرو الذكريات خلفها كأوراق الخريف اليابسة، حتى ليخيل إليك أن الحياة الرقمية قد طمست معالم الماضي، وألغت ذلك الصوت الهادئ الذي كان يخترق الأعماق، فيوقظ فيها ما غفا من المشاعر والأحاسيس. ولكن ها هي بعض الروايات تأتي كالنسيم العليل، رقيقة السبك، متينة البناء، لتذكرنا بأن للإصغاء لذة لا يعرفها إلا من توقف ذات مساء ليسمع صوتًا قديمًا يتردد في أذنيه، فيملأ عليه وجدانه حنينًا وشجى.

ومن بين هذه الروايات، تطل علينا "مجانين أم كلثوم" للكاتب شريف صالح، كأنها نغمة عذبة تنساب من الماضي لتستقر في الحاضر، فتجعل من صوت أم كلثوم كيانًا وجوديًا يحمل في طياته وجدان أمة بأسرها. إنها سرد لأحداث أو سيرة لفنانة تغوص في تلك الطبقات الخفية من الوعي الجمعي، حيث تصبح الأغنية زمانًا لا ينضب، ومساحة يتأمل فيها الإنسان حبه وهويته وانكساراته، وكأن كل استماع جديد هو ولادة أخرى للأغنية ذاتها.

تنتقل بنا الرواية بين الماضي والحاضر، بين صالات الأمس الذهبية وشاشات اليوم الباردة، فترسم بخيوط من نور خريطة عاطفية تمتد عبر الأجيال، وتؤكد أن الفن الأصيل لا يشيخ، بل يتحول إلى لغة يفهمها الكبير قبل الصغير، ويحفظها الجديد كما حفظها القديم. وهكذا، تصبح "مجانين أم كلثوم" أكثر من عمل روائي؛ إنها مرآة تعكس جزءًا من الفن جسر بين زمنين

ما أن تمسك بالرواية بين يديك، حتى يخيل إليك أن الصفحات تنبض بالحياة، وكأن بين السطور صوتًا خافتًا يهمس في أذنك، صوتًا تعرفه قبل أن تعرفه، تحمله في أعماقك كأنه نداء قديم يبحث عنك منذ زمن. إنه صوت أم كلثوم كما يتردد في أعماقك، حين تكون وحدك مع نفسك، فتتحول الأغنيات إلى طقوس، والكلمات إلى أسرار وجودية.

في هذه الرواية، تتحول الست إلى ماء يروي ظمأ العطشى إلى زمن مضى، زمن كان فيه الفن نقاء والكلام عذوبة. ينسج شريف صالح حكايته بخيوط من نور، فيجعل من الأسطورة مرآة يرى فيها القارئ وجهه الخفي، وكأن الكاتب يقول لنا: "ما أسهل الحديث عن أم كلثوم، ولكن ما أصعب أن ترى نفسك في صوتها!"

وهكذا، تصبح أم كلثوم جسرًا بين زمنين: بين صالات الخمسينيات الفاخرة، حيث كان الجمهور يصفق بحرارة كأنه يودع روحه بين يديها، وبين شقة صغيرة في العصر الرقمي، حيث يجلس شاب وحيد يبحث عن معنى في أغنية قديمة تلمع على شاشة هاتفه.

التفاصيل استعارات للوجود

يحول صالح التفاصيل إلى استعارات وجودية، فيجعل من كل أغنية عالَمًا قائمًا بذاته. فبطء "سلوا قلبي" يصبح درسًا في الصبر على جراح الحب، وارتجال العود في "أنت عمري" يشبه تموج بحيرة تلامس شواطئ الروح. حتى همسات الجمهور بين الإعجاب والحنين تصبح حوارًا داخليًا: "أتراك تذكر؟ أتراك تنسى؟

وهكذا، تتحول النوستالجيا في الرواية إلى جرعات متدفقة من الذكريات، تختلف من قارئ إلى آخر، بحسب ما يحمله كل منا في قلبه من حنين إلى زمن مضى.

الواقع والأسطورة

يرسم الكاتب بالكلمات لوحات تخلط الواقع بالأسطورة، فيجعل من لحظة استماع البطل إلى "غريب على باب الرجاء" مشهدًا لرجل يقف على حافة شارع مظلم، بينما تتساقط النوتات الموسيقية على جبينه كندى الصباح. أما الجمهور في هذه الرواية فإنه شريك في الخلق. فوجوه الماضي في قاعات الحفلات، بأناقتها التي تتحدى الزمن، تواجه شابًا معاصرًا يكتب تعليقًا على اليوتيوب بلغة لا يتقنها، لكن دموعه تترجم كل اللغات.

الصوفية والتجليات

ثمة لمحة صوفية في الرواية، تستحضر روح ابن عربي والرومي، حيث يبحث العاشق عن حبيبه في صدى الصوت، عابرًا الأزمنة والغرف. فالفناء هنا ذوبان في اللحظة الفنية التي تعيد تشكيل العالم. مع "ليلي ونهاري"، يتبدد الزمن الخطي، ويصبح حلقة تدور فيها الأفراح والأتراح.

وتسير الرواية على إيقاع التداعي الحر، فكل مقطع غنائي يفتتح فصلًا جديدًا، ويحدد نبض السرد. ففي "أوقات الليل" مع "سهران لوحدي"، تروى حكاية السهر، حيث تتشابك ليالي البطل في القاهرة المعاصرة مع ليالي الملحنين القدامى في شارع محمد علي.

الحنين قوة للبقاء

الحنين هنا محاولة لاستعارة قوة الماضي لمواجهة حاضر هش. فحين يستعيد البطل ذكرياته مع "هذه ليلتي"، فإنه يبحث عن ذاته المسروقة. بينما الجمهور الذي يتابع الحفلات عبر الشاشات، وسط ضجيج العصر الرقمي، يعيد صياغة أم كلثوم كحصن ضد انهيار الزمن.

أتدري ما الذي يفعله الحنين الحقيقي؟ لا يكتفي بأن يجعلك تبكي على زمن مضى، بل يمنحك عينين جديدتين لترى الحاضر. هكذا تأخذك رواية "مجانين أم كلثوم" بين يديها بلطف، فتسير بك في دهاليز الزمن كما تسير بك أم كلثوم في "ألف ليلة وليلة"، خطوة خطوة، حتى تصل بك إلى تلك اللحظة التي تكتشف فيها أنك لست مجرد مستمع، بل جزء من الأغنية ذاتها.

تكتب الرواية عنا نحن من خلال أم كلثوم . كأن شريف صالح أمسك بمرآة مكسورة، كل قطعة منها تعكس وجهاً مختلفاً: هنا رجل في الخمسينيات يسمع "الأطلال" فتشبك أصابعه بقوة كأنه يمسك بذكرياته من التطاير، وهناك فتاة في العشرين تبحث عن معنى في "أنت عمري" بين زحام المترو الحديث.

الحب.. أغنية

أجمل ما في الرواية أنها لا تتعامل مع الأغاني كتحف في متحف، بل كأشجار حية تنمو فينا. حين يسمع العاشق "حيرت قلبي معاك"، لا يقول "يا جميلة هذه الأغنية"، بل يقول "كيف عرفت ما بداخلي؟". وفي مشهد يقطع القلب، تقف زوجة أمام سرير زوجها المريض، تهمس بكلمات "دليلي احتار" وكأنها تمسك بيديه لتعبر بهما آخر الجسر. هنا تصبح الكلمات دواءً، والصوت حناناً لم يعد موجوداً إلا في الأغاني القديمة.

تختم الرواية بمشهد يلخص كل شيء: رجل عجوز يجلس وحيداً في غرفة مظلمة، يشغل "ليلة حب" على جراموفون قديم، فتنفتح النوافذ فجأة بدخان السجائر وضحكات الأصدقاء الذين رحلوا منذ عقود.

الرواية تحكي عن ذلك الجزء فينا الذي يرفض أن يموت. وكما تقول الست في "أغار عليك": "اللي راح مش راح.. واللي جاي لسه جاي". الذات العربية، حيث تلتقي الذاكرة بالموسيقى، فيصير الحنين شكلًا من أشكال البقاء.

في النهاية، تتركنا الرواية أمام سؤال أبدي: "هل انتهت أم كلثوم؟" المشهد الأخير، في مقهى قديم، حيث تتسرب أغنية "حيرت قلبي معاك" من مذياع صدئ، يعيدنا إلى البداية، لكن بحكمة أعمق. فالحب، كأغاني الست، دائرة لا تنتهي؛ كلما اكتشفنا سرًا، ولد آخر.

وهكذا، تبقى أم كلثوم، كما رسمها شريف صالح، كائنًا سائلاً يسري في شرايين الذاكرة، كأنين دائم يربط الماضي بالمستقبل.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم