نصوص أدبية
مروان ياسين الدليمي: مدينةٌ تتنفس بخبزٍ غائب

أرى الجوع كحيوانٍ شفاف،
ينام على وسادةٍ من عظامٍ لم تجد أسماءها بعد.
يستيقظُ ببطءٍ مع أول ضوء،
يُطلّ من نوافذ البيوت المطفأة،
يحرك أصابعه
كما لو كان يعزف على وترٍ خفي
يجعل القلوب ترتجف.
*
التجويع ...
كلمةٌ تمشي على أربعٍ في الظلام،
تلعقُ الأرصفةَ الباردة،
وتترك وراءها أثرًا يشبه العطش.
*
غزة،
مدينةٌ تتنفس بخبزٍ غائب،
وتعيش على رائحةِ ماءٍ يتبخر،
لكنها، رغم كل شيء،
تستيقظ في الصباح،
تضع الشمس في يدها،
وتعلّم الأطفال كيف يضحكون
على كذبة العالم.
*
السماء هنا ليست سماءً،
إنها عينٌ زرقاءُ مملوءةٌ بالحجارة،
تحدّق في الأرض
وتسألها:
كيف تصنعين الحب من لا شيء؟
*
وأنا
أجلس أمام هذا المشهد،
أشرب القلق كما لو كان قهوةً مُرّة،
وأقول لنفسي:
الجوع ليس قَدَرًا،
إنه وجه آخر للوحش،
وجهٌ يبتسم ببرودٍ
حين يظن أنه انتصر.
2
الجوع ليس صمتًا.
إنه صوتٌ أجوف،
يضرب الجدران بأظافره،
يترك ندوبًا على أبواب البيوت
كأنها خرائط من دمٍ ناشف.
*
أراه يمشي في الشوارع كمتسولٍ أعمى،
يمد يده إلى الروائح،
يبحث عن فتات الكلام
الذي نسيه البشر على موائدهم.
كل حجرٍ هنا يعرفه،
كل بابٍ يسمع أنينه،
حتى الريح حين تمرّ
تخفض صوتها احترامًا
أو سخرية.
*
غزة تصنع من رمادها خبزًا خياليًا،
تعجن صمتها بدموعٍ دافئة،
وتوزعه على الأمهات
ليظلّ في قلوبهن طعمٌ آخر للحياة.
*
يقال: التجويع أقوى من السلاح.
لكنني أرى في عيون الأطفال
ابتساماتٍ تلمع كالسكاكين،
تقطع الظلام نصفين،
وتعلن أن الجوع
يمكنه أن يحني الظهور،
لكن لا يستطيع أن يسرق الأغنية.
*
وأنا
أتذكر أن العالم كلّه
يضع يده في جيب الموت
ويبحث عن مفاتيح البقاء،
لكنه يجد صدى،
صدى فارغًا،
يضحك بصوتٍ عالٍ.
3
الجوع
يرقص في الأزقة،
يضع قناعًا من الهباء على وجهه،
ويصفق كأنه مهرجٌ في مسرحٍ مهجور.
لكن خلف ستار الظلام،
تلمع العيون، وتهمس:
"لن نكون وجبةً سهلة في المأدبة ."
*
الأرض هنا تنبض كقلبٍ قديم،
ترفع رأسها من تحت الركام،
وتضحك،
ضحكة متعبة،
لكنها تكفي لتفتح نافذة صغيرة للريح.
*
السماء
تبدو أحيانًا متواطئة،
ترى كل شيء،
لكنها تعود في لحظةٍ واحدة،
ترسل غيمة صغيرة
تسقي الوردة التي نبتت على طرف السور،
وكأنها تقول:
"انظروا، الحياة لم تنتهِ بعد."
*
وأنا
أكتب،
وأعرف أن الكلمات،
حتى وإن كانت جائعة،
تستطيع أن تشبع الروح،
أن تشعل نارًا صغيرة في عتمة هذا الليل البارد.
أضحك من الجوع نفسه،
لأنه، رغم كل قسوته،
لا يعرف كيف يهزم قلبًا يظل يردد الحكاية.
***
مروان ياسين الدليمي