قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: "خيرُ اليقين".. مديحٍ نبويّ لريما خضر

قراءةٌ هيرمينوطيقية، أسلوبية، رمزية، دينية، سيميائية

هذه القصيدة تكتبُ مديحها النبوي عبر لغةٍ تقوم على استدعاء السيرة والآية والأثر، وتعقدُ صُلحاً بين التاريخ المقدّس والوجدان الحاضر. إنّها نصّ تجربةٍ إيمانية بقدر ما هو بناءٌ جمالي؛ لذلك يلزم مقاربتُه بمنهجٍ مركّبٍ يجمع: الفهم التأويلي (الهيرمينوطيقي)، والوصف الأسلوبي، والتحليل الرمزي والسيميائي، والإضاءة الدينية، مع الغوص في البنى النفسية للخطاب.

أولًا: الأفق الهيرمينوطيقي - بين النصّ وسياق القداسة:

تنطلق القصيدة من تحصينٍ تأويلي مسبق: فالقارئ والمؤلفة يتشاركان «معرفةً سابقة» بسيرة الرسول ﷺ ومروياتها؛ وهذا ما تسمّيه الهرمنيوطيقا بـالتحام الأفقين (غادامر): أفق المتلقّي المعاصر وأفق الحدث المؤسِّس.

-صيغة المطلع: «خيرُ اليقين… يقينُ قلبٍ قد صدق» تُؤسّس تبادلية بين الإيمان والصدق؛ فاليقين ليس معطى معرفيّاُ فحسب، بل تقوٍّ للباطن يُترجَم قولًا وفعلاً («ولقد نطق»). إنّها دائرة تأويلية: القلب يصدّق فينطق، والنطق يزيد التصديق.

الحضور المكثّف لمفاصل السيرة (الغار/ اقرأ/ بدر/ أحد/ الإسراء/ عام الفيل) يجعل القراءة تتأرجح بين التاريخ بوصفه ذاكرةً والرمز بوصفه معنىً حاضراً، الواقعة تُقرأ باعتبارها «نصّاً مفتوحاً» يُنتج دلالاتٍ في كلّ زمن.

---ثانياً: البنية الأسلوبية - موسيقى الحروف وصياغة الخطاب:

1. الخطاب الندائي والابتهال:

يتردّد النداء الضمني والصريح: «روحي فداك»، «يا نور وجهك»، «اشفع لنا». إنّه أسلوب مخاطبة يُزيل المسافة بين «المديح» و«المتعبَّد»، فينتقل النصّ من الوصف إلى المناجاة.

2. التوازي والترصيع والإيقاع الحرفي:

-رويٌّ يغلب عليه القاف/الكاف/الحاء/القاف (… ق/ك/ق)، يمنح صرامةً إيقاعية مناسبةً لجدّ الخطاب الديني.

-تكراراتٌ محوريّة: «قد صدق/ قد وثق/ قد خلقنا/ قد علمت» تصنع إيقاعَ يقينٍ وتوكيد.

-طباقٌ وتضاد: «الظهيرة/الغسق»، «الجهارة/العلن» يوسّعان المدى الدلالي من فيض النور إلى سكون الظلّ.

3. جملة المشهد:

مقاطع سردية مكثّفة تُبنى بصيغة الفعل الماضي: «جاء، أشرق، خفق، شرَق، برق»؛ هذا يحوّل التاريخ إلى لوحات متتابعة و«مونتاج شعائري».

4. التشبيه والتمثيل:

«كنور بدرٍ ينفلق»، «عطوراً كالعبق»- تشبيهات حسّية تضفي محسوسيةً على المجرد القدسي.

ثالثاً: الرمزية والسيمياء - معجم الضوء والماءِ والعطر

وفق رومان ياكوبسون، تتكثّف الوظيفة الشعرية حين تصير اللغة موضوعاً لذاتها. هنا تتشكّل حقلٌ سيميائي بثلاثة محاور كبرى:

1. الضوء/النور:

«الضياء يشعّ، نورٌ يشعشع، أشرق، الشفق، ينفلق». العلامة السيميائية «نور» تُحيل إلى:

الدلالة القرآنية («قد جاءكم من الله نور»)،

- الدين الجمالي (الهداية/الكشف)،

- التجربة الباطنية (السكينة/الطمأنينة).

إنّها مَفْعَلة كشف: كلّ ذكرٍ للنور يوازي انتقالًا من الحجب إلى التجلي.

2. الماء/الغيث:

«وحْيٌ همى بالغيث»، «مرّ من بين الأصابع عذب ماء» - الماء هنا علامة حياة وتطهّر وبركة؛ سيميائيّاً، هو سند الحضور النبوي الذي ينعش الجماعة.

3. العطر/العبق:

«عطورًا كالعبق»، «مسك الختام» - رائحةٌ تُدرِكُها المخيّلة بوصفها دليل القرب؛ في الأنثروبولوجيا الدينية: العطر قرينةُ قداسة (حضورٌ لا يُرى ويُشَمّ).

العناصر الطبيعية (جبل أُحد/الجذع/البدر) تتحوّل إلى شهود: «واهتزّ أُحد»، «جذعٌ… يبكي»؛ هنا تأنسن الطبيعة وتتديّن، فيتّسع الفضاء الدلالي من الإنسان إلى الكَوْن.

رابعاً: الإضاءة الدينية - من السيرة إلى العقيدة:

- المقام النبوي: القصيدة تُجري خطابها على قواعد المديح مع التزام توحيد الوجهة لله عز وجل («سبحان من أسرى…»، «ربّك»). إنّها دين (لاهوت) مديحي يوازن بين التبجيل وسلامة الاعتقاد.

-النبوة والرسالة: «أتممت كلّ مكارم» استحضارٌ لمقصدٍ نبويّ جامع: تتميم مكارم الأخلاق؛ يتحوّل البيت إلى مبدأ قيمي يربط العقيدة بالسلوك.

-الشفاعة والرجاء الأخروي: يختم النص بـ«اشفع لنا يوم الحساب»؛ البنية الدرامية تتحوّل من رواية الماضي إلى رجاء المستقبل، فتكتمل الهندسة اللاهوتية: (تجلي/اتباع/رجاء).

خامساً: القراءة النفسية - من التماهي إلى السكينة:

بنية الخطاب تكشف حركةً وجدانية تُشبه ما تصفه التحليلات النفسية للدين (فروم/يونغ):

1. تماهٍ مع المثال الأعلى: «أنت أعظم من خُلق».

2. تحرّرٌ من القيود: «حلّت قيودي مثل عبدٍ قد عتق» - صورة العتق تُحيل إلى الفكاك من القلق الوجودي.

3. تأسّي واتباع: «وعلى خطاك مشت خطى قلبي» - انتقال من الإعجاب إلى اقتداءٍ مُطهِّر.

4. سكينة وإشباع وجداني: مركزها النور/العطر/الماء بوصفها مثيراتٍ حسّية/روحية تُهدّئ جهاز النفس وتوحّد شتاتها.

الجماعة متصوّرةٌ في أكثر من موضع («أحباء»، «المؤمنين»، «أمّة»)؛ فالحبّ النبوي يتحوّل جمعيّاً يمنح الهوية تماسكاً.

سادساً: المقارن النصّي- السيرة والقرآن والتاريخ:

عام الفيل/الإسراء/الغار/اقرأ/بدر/أحد- مفاصل مؤسسة يتناصّ معها النصّ على نحوٍ وظيفي لا تزويقي؛ كلّ مفصل محطة حجّة تُعيد تذكير المتلقي بأن المحبة مؤسَّسةٌ على شاهدٍ من التاريخ والوحي.

وقوله تعالى:

«اقرأ… وربّك… خلقنا من علَق»: إعادة صياغة بلاغية للآيات الأولى؛ تلجأ إلى التقديم والتأخير لتغليب لحن القصيدة دون إخلالٍ بالمقصد.

سابعًا: اقتصاد الصورة وبناء المشهد:

-مشاهد لامعة قصيرة:

«نورًا يشعشع في الأفق» (لقطة بانورامية/كشّاف).

«جذعٌ… يبكي» ( انفعالي).

«أُحدٌ يهتزّ» (لقطة حركة/كونية).

هذا «المونتاج» يُبدّل زوايا النظر ويمنح النص ديناميةً تصويرية تُبعده عن الرتابة.

-الزمن الشعائري: يتناوب الماضي المؤسِّس والحاضر المصلّي والمستقبل الرجائي؛ فيُصاغ زمنٌ قدسيٌّ حلوليّ تتجاور فيه الأزمنة.

ثامناً: تقويمٌ نقدي وإشارات تطوير:

-نِقاط قوّة:

معجمٌ دلاليٌّ مُنسجم (نور/ماء/عطر)،

-إحكامُ الرويّ والإيقاع التوكيدي،

-توظيفٌ واعٍ لوقائع السيرة بوصفها حججًا وجدانية وعقلية،

-انتقالٌ ناجح من المديح إلى المناجاة فالشفاعة (دراميةٌ روحيةٌ صاعدة).

رؤيتي كناقد للقصيدة من الناحية الأسلوبية:

1. أحياناً تتكاثر أدوات التوكيد («قد/لقد») في سطرٍ واحد؛ يمكن اقتصاد بعضها لاستدامة الليونة الإيقاعية.

2. بعض الشواهد التاريخية القويّة (بدر/أحد) تسمح بلمسة صورةٍ إضافية تزيد الخصوصية (مثلاً: تشخيصُ «الملائكة/الرجز/أثر الغبار» بأسلوبٍ مجازيّ واحد لا يُغرق السرد).

3. يمكن توسيع حقل الأخلاق العملية (عدالة/أمانة/رحمة) ببيتٍ أو سطرٍ يهبط من المجاز إلى سلوكٍ يوميّ يُجسّد «مكارم الأخلاق».

- خاتمة:

تؤلّف قصيدة ريما خضر معماراً مديحيّاً ينسج من النور والماء والعطر سيرةً موجزةً مفعمةً بالدلالة، وتُحكم صلتها بين التاريخ المؤسِّس والوجدان المعاصر. بمنطق الهرمنيوطيقا، النصّ لا يكرّر السيرة بقدر ما يؤوّلها؛ وبمنظور الأسلوبية، يشيّد إيقاع يقينٍ قوامه التوازي والتكرار؛ ووفق الرمزية والسيمياء، يفعّل شبكة علامات تُحوّل الوقائع إلى أيقونات هداية؛ ودينياً (لاهوتياُ)، يحفظ ميزان التوحيد ومقاصده؛ ونفسياً، يُحدث ترميماً وجدانياً عبر التماهي والسكينة والرجاء.

بهذا المعنى، ينجح النصّ في جعل المديح خبرةَ حضورٍ لا «حكايةَ غياب»، وفي تحويل الذكرى إلى وعدٍ ملتوٍ بالنور: «خيرُ اليقين… يقينُ قلبٍ قد صدق».

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

خَيْرُ اليقيـنِ... يَقيــــنُ قلبٍ..

قد صَدَقْ..

كـــرسول ِ عشْقٍ في الهوى

ولقد نَــطَقْ..

*

ماذا رأى؟!

ولقد رأى...وَحْـــياً همى

بالغَيثِ من ربٍّ كريمٍ

قد وَثقْ..

*

برسولِ حُبّ ٍ وانتصارٍ لِلأُلى..

شــاؤوا المحبـــَّة َ

في الظهيرة ِوالغَـسَقْ

*

عاهدتُ حُبـــَّكَ

في الجهارة ِ والعَلَنْ..

مثلَ المُتــيّم ِ

أنتَ أعظمُ مَنْ خُلِقْ.

*

وعلى خُطاكَ مَشَتْ خُطا قلبي التي

حَلَّتْ قيودي مِثلَ عبدٍ قدْ عُتِقْ..

*

سبحان من جَعلَ الضياءَ يشعُّ من ْ

وجهٍ يُضيءُ...كَــنُورِ بدْرٍ ينْفلِقْ..

*

روحي فداكَ وكلُّ روحٍ لا تفي

بوفاءِ حُبّـِكَ يا عَـطوراً كالعَــبَقْ..

*

ماذا أرى ياربِّ ...عفــوَكَ..

في المنـام..؟!

إنّي أرى نوراً يشعشعُ في الأُفُقْ

يا نورَ وجهِــكَ حين جئتَ

(بعام ِ فيلْ)..

والكونُ أشرقَ حيْنَها..

ولقد خَفَقْ..

*

عيسى وقد أنبأ بأنّــكَ بعدَه

تأتي نبــيّاً...أنتَ أفضلُ مَنْ لَحِقْ..

*

لكَ كلُّ اسمٍ قد حُمِدْ..

ولقد زَها..

في المُصْحَفِ المحفوظِ..

كنتَ كما الأَرقْ..

*

في المَدْحِ...هــل تكفي بيوتٌ من وَرَقْ

في حُسْنِ وجهــِكَ؟! كــلّ حُسْنٍ .لا أَلَقْ..

*

في غارِكَ المهجورِ ..كنتَ المصطفى

جبريل فيه قد تجلّى..

بل شَرَقْ.

في الأربعين أتـاكَ وحيٌ قائلاً:

اِقرأ...

: وكيف لي هذا النُّطُقْ؟!

*

بلسانكَ العربيّ قد كان َ الشَّفَقْ

اقرأْ.. وربّــِكَ قد خُلِقْنــا من عَلَقْ..

*

مَنْ غَيْرُ أَحْمَدَ قد سَمِعْ..

صوتَ الأُلى هم في القبورِ ..وفي العُمُقْ؟!

*

في (بدرَ)...كانت واقِعَةْ

الكــلُّ لاقى حَتْــفَهُ..

وكفــاكَ ربــُّكَ..قد عَلِمْتَ بِمَنْ سُحِقْ..

*

قد مــرَّ من بين الأصابع ِ..

عَذْب ُ ماءْ..

للّهِ عِــزّتُهُ ...وللحِبِّ النبيّ الحقّْ...

*

جذْع ٌ إذا في الناس كنت خطيبَهم..

يبكي..إلى أن تلْمسَ الكفُّ بِرِفقْ..

واهتزَّ (أُحْدٌ) إذا مَداسُك قد وَقَعْ

فوقَ الجَبَلْ..

سبحانـَه...طَرَقَ الطُّرقْ.

*

سبحان مَنْ أسرى بِخِلٍّ  ليلة ً

من أرضهِ نحوَ السما حتى بَرَقْ.

*

"من غَشَّنا.."..هذا كلامُ ساطِعٌ

يمحو ذنوباً

أو يعاقِبُ منْ فَسَقْ.

*

أللـه قد صلّى عليك ومُلكــهُ

خير َ الصلاة ِ ,أتمَّ تسليم ٍ بِحَقْ.

*

نورُ الهدى.. والكائناتُ ضياءُ

وبُعِثت نوراً..

أمْرَ خَيْرٍ ..قد صَدَقْ.

*

قلتَ: الرسالةُ  أُنْجزَتْ في وعْدِها

أتممت َ كلَّ مكارم ٍ وبكُلِّ خُلْقْ.

*

فُقراءُ من بعد ِ الفراق ِ وكم هَفَتْ..

أرواحُنـــا لِلقاكَ..

إذْ.. قدْ كان فَرقْ

*

مِسكُ الخِتامِ إليــك َ يا خير َ الورى

عَطّرْ ثًغورَ المؤمنين َ برَأي حَقّْ.

*

هي أُمــّةٌ منْ بعد ِ ما اجتمعت به ..

صارتْ أُممْ ..من خلْفِها سارت فِــرَقْ..

*

اِشفعْ لنا يومَ الحساب إذا صدى

صورٍ سمعناه وإنْ كُلٌّ حَدَقْ..

*يومٌ لنا ..إن شاءَ رَبُّكَ هادياً

يحمي أحباءً وإن ْ شاءَ رَزَقْ.

***

ريما خضر

 

في المثقف اليوم