قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: بلاغة العشق وهرمينوطيقا الرمز

قراءة نقدية تحليلية في قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة الجزائرية نادية نواصر

مقدمة: تمثّل قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة الجزائرية نادية نواصر نموذجاً شعرياً غنيّاً بالرموز والانزياحات الأسلوبية والحمولات النفسية العميقة. فهي نصّ ينهل من معين الغنائية العاطفية، لكنه يتجاوزها ليؤسس لمعمار تأويلي مفتوح، تتداخل فيه الذات بالآخر، والحب بالميتافيزيقا، والعاطفة بالعرفان الصوفي.

وانطلاقاً من طبيعة النص المركّبة، تبدو مقاربته ممكنة عبر جملة من المناهج؛ الرمزي لرصد شبكة العلامات والدلالات، والأسلوبي لتحليل البنية اللغوية والإيقاعية، والنفسي للكشف عن توترات اللاشعور، إضافة إلى المنهج الهيرمينوطيقي الذي يتيح قراءات متعدّدة تنفتح على آفاق المعنى.

أولًا: مدخل تأويلي:

قصيدة "بلاغة عينيك" لا تُقرأ بوصفها بوحاً عاطفياً فحسب، بل نصّاً رمزياً يتجاوز الغنائية المباشرة إلى بناء خطاب شعري مركّب، فيه تتداخل التجربة الذاتية بالرمزية الكونية، حيث تتحوّل العينان إلى مجاز جامع للكينونة، ولغة بديلة عن اللغة. هنا الشعر ليس قولاً عن الحب، بل إقامة وجودية في مدار العشق، حيث تتلاشى الحدود بين الذات والآخر، بين الأنا والكون.

ثانياً: المنهج الرمزي:

القصيدة محمّلة برموز كبرى يمكن تأويلها:

-العينان: ليستا عضواً بيولوجياً، بل أيقونة للمعنى، مرآة للروح، ولغة بديلة "لا لغة تجمع أبجدياته سوى لغة الوله… في بلاغة عينيك". هنا تتحول العين إلى نصّ رمزي يُقرأ كخطاب روحي.

- البحر: يرمز إلى الاتساع واللانهاية، وإلى عمق التجربة العاطفية التي تتجاوز المحدود.

- البلّور: رمز الهشاشة، في مقابل القوة الكامنة في العاطفة.

- المدار/الحبل/الورد: رموز للارتباط الوجودي بين الشاعرة والمخاطَب، حيث يتحول الآخر إلى وطن وهوية وتاريخ.

- الصمت/اللغة: جدلية بين الغياب والحضور؛ فالصمت يُكسر بالحب، واللغة الحقيقية ليست في الألفاظ بل في الوله والحرائق الداخلية.

هذه الرموز تشكّل شبكة دلالية يتجاوز فيها النص العاطفة البسيطة إلى ميتافيزيقا العشق، حيث الحبيب يصبح مطلقاً، سرمدياً، يحلّ محل الوجود بأكمله.

ثالثاً: المنهج الأسلوبي:

النص يتأسس على مجموعة من السمات الأسلوبية البارزة:

1. الخطاب الندائي المكثّف، تقول الشاعرة نادية نواصر : (يا روحي… يا أنت… يا يقيني… يا كوني)، وهذا يُشيع في النص نَفَساً صوفياً، يعكس الحضور الكثيف للمخاطَب حتى يصبح محور الكون.

2. التكرار: مثل "كُن لي…" و"أنت"، مما يرسّخ إيقاع الالتصاق الروحي. التكرار هنا ليس زخرفًا بل استراتيجية أسلوبية لتثبيت معنى الاتحاد.

3. الثنائيات الضدية: (الحضور/الغياب، الثبات/الزوال، البحر/البلّور، الصمت/العشق). هذه الثنائيات تمنح النص ديناميكية دلالية وتكشف صراع الذات بين الهشاشة والقوة.

4. المعجم الصوفي والروحي: ألفاظ مثل "الصلوات، الروح، اليقين، المقام الرفيع، ميثاق غليظ" تربط النص بتجربة عرفانية تجعل من الحب طريقًا للخلاص الوجودي.

5. إيقاع الجملة الشعرية: يعتمد على التوازي (أناجيك/أسراب الرياح، الحاضرة/الغياب، البارحة/الآن/الغد…) مما يمنح النص موسيقى داخلية ويؤكد البنية الدائرية للزمن الشعري.

رابعاً: المنهج النفسي:

من منظور التحليل النفسي، تكشف القصيدة عن:

- رغبة الاتحاد: يتبدّى الحبيب كجزء من الذات، بل ككلّها: "يا كوني وكينونتي". هنا تتلاشى الحدود بين الأنا والآخر فيما يُشبه التماهي النرجسي أو الاتحاد الصوفي.

- القلق الوجودي: يظهر في صور "حافة الخفق، أشواك الشك، الصمت، الغياب". هذا يكشف عن خوف داخلي من الفقد، ومن هشاشة العاطفة.

-التوتر بين الرغبة والخوف: النص يكشف عن صراع لاشعوري بين توقٍ إلى الذوبان الكلّي، وخوف من الانكسار والهشاشة (البلور رمز واضح لذلك).

-التسامي: يتحول الحب إلى صلاة وإلى مقام رفيع، أي إلى طاقة روحية، تتجاوز الرغبة الجسدية إلى معنى كوني.

خامساً: المقاربة الهرمينوطيقية (التأويلية).

القصيدة تفتح أفقاً متعدد التأويلات، فهي نص مفتوح بالمعنى الذي قصده "أمبرتو إيكو":

- يمكن تأويلها بوصفها خطاباً غزلياً تقليدياً.

ويمكن قراءتها كرحلة صوفية حيث الحبيب رمز للمطلق.

- ويمكن اعتبارها نصاً وجودياً، فيه يُستبدل القلق الكوني بلحظة حب تعطي للحياة معناها.

إذاً، النص ليس مغلقاً على معنى واحد، بل هو "مجال تأويلي"، فيه القارئ شريك في إنتاج الدلالة.

سادساً: الخاتمة

قصيدة "بلاغة عينيك" للشاعرة نادية نواصر نصّ غني بالرموز والأساليب، يتجاوز البنية الغنائية المباشرة إلى فضاء صوفي-نفسي تتقاطع فيه ثنائية الحب والوجود. من خلال العينين – باعتبارهما مجازاً كلياً – تبني الشاعرة عالماً رمزياً تلتقي فيه الذات بالآخر، والزمن بالخلود، والحب باليقين.

إنها كتابة تجعل من العاطفة ميتافيزيقا للحياة، وتُحوّل التجربة الفردية إلى خطاب إنساني شامل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

...........................

بلاغة عينيك

يا روحي...

ويا مسرى خفقي في فصول الوجد.

حين توغّلتُ فيك،

رأيتني أوسع من البحر،

وأكثر عمق من الفكرة،

وأكثر هشاشة من البلّور.

كُن لي مرافئَ السّلام،

إنّي على شفا حفرة من الخفق،

أناجيك في المقام الرّفيع بالصَّلوات.

أسراب الرّيّاح التي تحملني بعيداً عن كواكبك،

هيّ نفسها من تعيدني إليك،

مجلّلةً بوهج الشوق،

تنحت مستقرّي فيك بماء الرّوح.

كُن لي الحقيقةَ واليقين،

إنّ المدار الذي يربطني إلى حبل وريدك

هو وطني،

وجنّتي،

وهويّتي،

وتاريخي،

وفتوحاتي،

وملاذي.

كلّ متحرّك زائل،

إلاّك يا يقيني،

وثباتي.

أيّها اللابث في خفق الرّوح،

قلبي الرّاقص على إيقاع عشقك،

لا لغة تجمع أبجديّاته

سوى لغة الوله الضّارب في حمّى حرائقي،

في بلاغة عينيك،

وحديث كفيّك.

يا أنت...

اللحظة الحاضرة،

واللحظة الغيّاب،

البارحة أنت،

والآن أنت،

والغد المجهول أنت،

وما قبل عصور العشق أنت.

وحين يكسرني صمتك،

يعيد إليّ عشقك

ثباتي وترميمي.

كم أشتاق غرقي فيك

بعيداً عن قوارب النجاة !

يا إنّي…

اذبح شكّي من أشواكه الطّالعة.

إنّ المحبّة ميثاق غليظ.

يا كوني...

وكياني،

وكينونتي،

كُن لي كما كنت لك،

وكما سأكون.

***

نادية نواصر

 

في المثقف اليوم